المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وسائل الدَّعوة بين الأصالة والمُعاصَرَة


نور الإسلام
18-05-2013, 11:15 AM
د.علاء الدين الزاكي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فإن الدعوة إلى الله من أعظم وأشرف المهام والوظائف ؛ وذلك لأن الله تعالى جعلها في هذا المقام فقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33)،ولأنها من وظائف الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل: 36)، ولأن النبي  رتب عليها الأجر العظيم فقال : (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) ، فأكرم وأنعم بها من وظيفة، ولكنها تحتاج إلى الموفق الذي يتخير أفضل الوسائل وأحسنها لإيصال الدعوة للناس، فثمرة الدعوة تتوقف على قوة تأثير الوسيلة فكلما كانت الوسيلة أقوي كلما كانت الثمرة أعظم. يقول الدكتور الثويني: (والداعية إلى الله مطالب عقلا وشرعاً باستخدام الوسيلة الشرعية المناسبة التي يوصل دعوته إلى المدعوين عن طريقها) .
والذي دفعني لكتابة هذا البحث الانفتاح الذي سلكه كثير من الدعاة في باب الوسائل حتى أنهم أباحوا ما حرم الله من الوسائل، وبالمقابل تعصب أناس وتقوقع آخرون حتى سدوا أبواباً عظيمة من الوسائل رغم عدم وجود ما يحرمها محتجّين بعدم ورود النص بإباحتها، فاستعنت بالله وتوكلت عليه وكتبت هذا البحث تحت عنوان وسائل الدعوة بين الأصالة والمعاصرة دون تفريط في هذا الدين ودون إغلاق لأبواب الخير.
وقد قمت بتقسيم البحث إلى أربعة مباحث: ـ
المبحث الأول يتناول مفهوم الدعوة، ومفهوم الأصالة، والمعاصرة، ومفهوم الوسائل.
المبحث الثاني تناولت فيه دواعي الأصالة والمعاصرة.
المبحث الثالث تناولت فيه وجوه الأصالة في وسائل الدعوة.
المبحث الرابع تناولت فيه وجوه المعاصرة في وسائل الدعوة.
ثم ختمت البحث بذكر النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا لبحث.
فأسأل الله تعالى أن يكتب له القبول وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلي اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المبحث الأول: مفهوم مصطلحات البحث
المطلب الأول: مفهوم الدعوة
أولاً: الدعوة في اللغة:
المرة الواحدة من الدعاء، وتداعى القوم دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا. والدعاة قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، وأحدهم داع، ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين أدخلت الهاء فيه للمبالغة) .
وفي المصباح المنير: (دعوتُ الله دعاء ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله. والجمع دعاة وداعون مثل قضاة وقاضون، والنبي  داعي الخلق إلى التوحيد) .
وفي المعجم الوسيط: "دعاه إلى الشيء حثه على قصده، يقال: دعاه إلى القتال، ودعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الدين، وإلى المذهب، حثه على اعتقاده) .
ومن هذا يتبين أن الدعوة في اللغة تدور حول الطلب والسؤال والنداء والحث على الشيء ونحو ذلك.
ثانياً: الدعوة في الاصطلاح:
لقد عرفت الدعوة بتعريفات كثيرة أذكر منها مايلي: ـ
قال ابن تيمية رحمه الله: (الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبُد ربه كأنه يراه) .
ولكن يؤخذ علي تعريفه رحمه الله أنه لم يعرّف الدعوة إنما ذكر هدفها.
وعرّفها الدكتور أبو بكر زكري فقال: (الدعوة هي: قيام من له أهلية النصح والتوجيه السديد من المسلمين في كلّ زمان ومكان بترغيب النّاس في الإسلام اعتقادًا ومنهجًا، وتحذيرهم من غيره بطرق مخصوصة) .
وقال الدكتور ناصر العقل: (هي السعي لنشر دين الله- عقيدة وشريعة وأخلاقا، وبذل الوسع في ذلك) .
وقال محمَّد الغزالي: (هي برنامج كامل يضمّ في أطوائه جميع المعارف الَتي يحتاج إليها النّاس ليُبصروا الغاية من محياهم، وليستكشفوا معالم الطريق الَتي يجمعهم راشدين ) .
و التعريفات الثلاثة الأخيرة أقرب إلى الصواب.
فالدعوة هي حركة علمية بطريقة منهجية الغرض منها إيصال الخير الذي هو الإسلام إلى الناس اعتقاداً وعبادة وسلوكاً وأخلاقاً ومعاملة.
المطلب الثاني: مفهوم الأصالة:
والأصالة - كما يقول علماء اللغة - تتضمن معاني القوة والثبات والاستحكام، وأصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه ومنشؤه الذي ينبت منه .
ومن مدلولات الأصالة: القاعدة وأصل كل شيء أسفله، وأيضاً: الدوام والاستمرار، يقال: إن النخل بأرضنا لأصيل أي هو بها لا يزال ولا يفنى) .
يقول د.عبد التواب: (إن الأصالة هي ما تنزل به الوحي الإلهي المعصوم على خاتم النبيين والمرسلين، والمنهج الأصيل هو ما تضمنه الدين الحنيف بمراتبه الثلاث: الإسلام والإيمان، والإحسان، وهو ما يعبر عنه بالعقيدة والشريعة والأخلاق) .
المطلب الثالث: مفهوم المعاصرة:
المعاصرة لغة: على وزن مفاعلة من العصر، وللعصر عدة معان أهمها وقت وجوب صلاة العصر وهو الوقت في آخر النهار إلى احمرار الشمس. وعاصر فلانا لجأ إليه ولاذ به وعاش معه في عصر واحد) .
يقول د.الشاهد: (والمعاصرة هي المعايشة بالوجدان والسلوك للحاضر والإفادة من كل منجزاته العلمية والفكرية وتسخيرها لخدمة الإنسان ورقيه.) ، ويقول: ( وتستخدم المعاصرة في مقابل الأصالة، فيقال مثلا: "الإسلام بين الأصالة والمعاصرة" بمعنى كيفية تمكن الإسلام من مسايرة العصر والوفاء بمتطلباته والتعامل مع مقتضياته المتغيرة بثوابته الأصلية.) .
ولا تعني المعاصرة تجاوز الشرع بأي حال من الأحوال بقدر ماهي مواكبة للتطور في الوسائل دون المساس بالشرع.
المطلب الرابع: تعريف الوسائل:
الوسائل لغة: جمع (وسيلة ) قال ابن منظور: ( الوَسِيلةُ المَنْزِلة عند المَلِك، والوَسِيلة الدَّرَجة، والوَسِيلة القُرْبة ووَسَّل فلانٌ إِلى الله وسِيلةً إِذا عَمِل عملاً تقرَّب به إِليه والواسِل: الراغِبُ إِلى الله،وهي في الأَصل ما يُتَوَصَّل به إِلى الشيء ويُتَقَرَّب به) .فكل مايتوصل به إلى شيء ما، فهو وسيلة.
أما في الاصطلاح:
فمن العلماء من عرفها بمعناها العام ومن العلماء من عرفها بمعناها الخاص.
أما التعريف العام:
فقد قال القرافي: (وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل، وهي: الطرق المفضية إليها) .
ولاشك أن الدعوة من أعظم المقاصد الضرورية وفي أعلى مراتب الضروريات وهي حفظ الدين. والطرق المفضية إليها هي الوسائل.
ولكن يؤخذ علي هذا التعريف العام دخول الذرائع والتي هي وسائل إلى مفاسد، ولا يمكن أن تكون من وسائل الدعوة.
وأما الوسائل بالمعني الخاص، فقد عرفها بعضهم بالطرق المفضية إلى تحقيق مصلحة شرعية فقط) . ولا شك أن تعريف الوسائل بهذا هو الصحيح لخروج الذريعة التي لا يمكن أن تتخذ كوسيلة من وسائل الدعوة إلاّ في حالات خاصة، فيكون هذا التعريف بذلك جامعاً مانعاً.
المبحث الثاني: دواعي الأصالة والمعاصرة في وسائل الدعوة:
إن الحديث عن الأصالة والمعاصرة أصبح من الأهمية بمكان بقدر أهمية الدعوة وتظهر الدواعي فيما يلي: ـ
أولاً: التفريق بين المعاصرة التي لا تتناقض من وجهة النظر الإسلامية مع الأصالة وبين العصرانية (العلمانية) التي تعتبر العصر وحده مصدرا للتشريع في الحياة الاجتماعية العامة، وهذا الاتجاه الفكري يحاول إبعاد الدين عن الحياة العامة واعتباره مجرد مسألة خاصة بكل إنسان، ويعتبره - في أحسن الأحوال - مصدرا للمبادئ الخلقية والمعاملات الشخصية.
يقول د.خلف: (وتبلورت على الساحة الفكرية في مجتمعنا المسلم تيارات ثلاثة هي: ـ
1. تيار التغريب الذي انبهر أنصاره بالغرب، وتبنوا الدعوة إلى ضرورة أن نصبح غربيين في كل شيء، وراحوا يدافعون عن قيمة الثقافة الغربية بل والتغني بصلاحيتها، وفي الوقت نفسه ينظرون إلى الثقافة الأصيلة على أنها "موضة" قديمة لم يعد لها قيمة جمالية، على الرغم من أنه كثيراً ما تعود "الموضة" القديمة لتصبح "موضة" جديدة في حقبة تالية.
2. تيار الرفض لكل جديد أياً كان، تحت تأثير العصبية للموروث، وذلك من خلال العمل على إحياء التراث والتمسك به لضمان الوجود المتميز والمستقل.
3. أما التيار الثالث، فهو تيار الوسط، الذي يرفض أنصاره التقليد الأعمى والنقل الحرفي عن الحضارة الغربية، وفي الوقت نفسه يرفضون الجمود والانغلاق) .
ثانياً: الاستفادة من الوسائل المعاصرة في الدعوة إلى الله تعالي دون المساس بالشريعة الإسلامية ومخالفتها وتعدي حدودها؛ لأن المواكبة تكسب الإنسان مساحات واسعة في الدعوة وتعينه في الوصول إلى قلوب وآذان الناس بسهولة ويسر مع المحافظة علي شخصية المسلم الاعتبارية.
ثالثاً: كثرة الهوى الذي ركبه كثير من الناس في هذا الزمان الأمر الذي يحتم على الناس تناول موضوع المعاصرة بشيء من الصحة بعيداً عن السير في طريق العلمانيين ومن وافقهم.قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: 26).
رابعاً: كثرة الغُلاة في هذا الزمان حتى إنهم سدوا أبواباً من الخير مشرعة وحملوا الناس على الشدة الأمر الذي يحتم دراسة موضوع الأصالة بشيء من الوسطية دون إفراط ولا تفريط.
خامساً: قوة شوكة الباطل واستخدامه للوسائل الفعاّلة التي هدمت مجتمعات المسلمين ودخلت بيوتهم بغير استئذان الأمر الذي يدفعنا لمساجلتهم ومقابلتهم بمثل سلاحهم دون التفريط في صبغتنا الشرعية.
المبحث الثالث: وجوه الأصالة في وسائل الدعوة
تتنامى الحاجة في عصرنا وجيلنا إلى توطيد وترسيخ مفهوم المعاصرة في مختلف جوانب الحياة، وتطرد الحاجة قبل ذلك ومع ذلك إلى إبراز الأصالة كمرتكز أساس في الحياة الإسلامية المعاصرة وإلى الأهمية القصوى للدولة الإسلامية المعاصرة، لا سيما بعد بروز الأنماط غير المكترثة بالدين، والتي تحد من أثره الحيوي في الحياة (كالعلمانية واللادينية) وهي أنماط نشأت في البلاد الغربية ولا تصلح إلا لبيئاتها الأصيلة، ولا تناسب إلا الرواسب الثقافية والتاريخية لتلك البيئات، فلذا تبرز أهمية التمسك بالأصل وعدم التفريط فيه باعتبار ارتباط الناس به قبل كل شيء.
ووجوه الأصالة في وسائل الدعوة كثيرة ومتنوعة أذكر منها مايلي: ـ
أولاً: أن تكون الوسيلة ممنوعة،أي جاء في الشرع ما يمنعها،فالأصالة هنا بالوقوف عند حدود الشرع وعدم تجاوزه، ولو كانت هناك فائدة ومصلحة للناس ما دعت الشريعة إلى منعها، وتكون الوسيلة ممنوعة في عدة حالات منها: ـ
1. إذا ورد النص بتحريمها،كالمولاة المحرمة تتخذ وسيلة للدعوة لقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51)، وكالخمر تجعل وسيلة لا ستقطاب الناس لأن الخمر لا خلاف في حرمتها.
2. أن تكون الوسيلة في ذاتها مفسدة وإن لم يرد فيها نص شرعي بحرمتها، ولكن عرف من واقع الحال أنها مفسدة.كالرقص مثلاً. وكشرب الدخان للتخفي من العدو لما فيه من ضرر واقع بفاعله.
3. أن تكون الوسيلة صحيحة ولكنها مفضية إلى مفسدة علي وجه القطع أو الظن الغالب، وبهذا قد أصبحت ذريعة.كدعوة النساء باللسان إذا تيقن أو غلب على ظنّ الداعية الفتنة.
وقد سلك بعض الناس مسلك(الغاية تبرر الوسيلة) سالكين طريق المعاصرة المفتوحة غير المنضبطة، فأباحوا كل وسيلة وسلكوا كل طريق، والمعلوم أن هذه الفكرة فكرة إباحية الغرض منها تعدي حدود الله وإلغاء الشرع وإبعاده.وقد قررها ونادي بها من قبل (نيكولا ميكافلي) المولود في فرنسا عام 1469 م في كتابه المسمى ( الأمير).
وقد رد علي هذه الفكرة الإباحية حتي الغربيين, فقال هكسلي عن دعاتها: (إنهم يعبّدون الطريق إلى جهنم, وقال: إن الأغراض الطيبة لا يمكن تحقيقها إلا بالوسائل الطيبة وحدها ولا يمكن تحقيقها بالوسائل الخبيثة ’إن الغاية لا تبرر الوسيلة) .
وقد بيَّن علماء الشريعة ذلك من قبل، فقال العز بن عبد السَّلام: (وَالشَّرُّ لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا وَسِيلَةً ؛ إذْ لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْخُيُورِ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ، بِخِلَافِ ظَلَمَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِالشُّرُورِ، كَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَظُلْمِهِمْ الْعِبَادَ، وَإِفْشَاءِ الْفَسَادِ وَإِظْهَارِ الْعِنَادِ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ) ،وقال العنزي: (ذهب فريق إلى استنفار جميع ما يمكن من وسائل وأساليب في سبيل الوصول إلى الغاية، بغض النظر عن حِل الوسيلة أو عدم جوازها، وهم يسيرون على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، سواء قالوها بألسنتهم أو ترجمتها أفعالهم، ولذلك تجد هذا الصنف، كثير التخبط والتقلب والترحل في أمور الدنيا والدين، ويغلب على من سلك هذا السبيل الطيش، والعجلة، والتهور، والمغامرة) .
ثانياً: ورود الترغيب في الوسيلة بالنص عليها في كتاب الله أو على لسان رسول الله ؛ وذلك لأن الشريعة بنصوصها صالحة لكل زمان فورد الترغيب في استخدام وسيلة ما يدل على وجود المصلحة في استخدامها خاصة إذا ورد التأكيد عليها.
فمثلاً الجهاد كوسيلة من وسائل الدعوة قد وردت فيها نصوص كثيرة مثل قوله تعالي: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 142) وقوله تعالي: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) وقوله : (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ) وقوله: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . فلا يجوز لأي إنسان أن يدعو لإلغاء وسيلة الجهاد بمفهومها الشامل بدعوى المعاصرة لأن ذلك يدعو إلى هدم نصوص صريحة في الشريعة.
يقول د. جميل زينو: (الجهاد في سبيل نقل الدعوة الإسلامية إلى سائر البلاد، حتى يحكمها الإسلام، فمن استسلم من أهلها فيها، ومن وقف في طريقها قوتل حتى تكون كلمةُ الله هي العليا، فهذا الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة فضلا عن الأول.
وحين ترك المسلمون الجهاد وغرتهم الدنيا والزراعة والتجارة أصابهم الذل، وصدق فيهم قوله : (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) .
قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: "وقد استدل جماعة من العلماء بأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة تحت راية كلِّ برٍّ وفاجر من الأئمة بحديث(الْخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، وذلك أن رسول اللّه  قال فيه: «إلى يوم القيامة» والمجاهدون تحت راياتهم يغزون) ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وفيه بشرى ببقاء الإِسلام وأهله إلى يوم القيامة ؛ لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون، ولهذا قال النبي : « لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر اللّه وهم ظاهرون ) .
ثالثاً: استخدام الوسيلة في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين، فهذا يدفعنا إلى استخدامها تمسكاً بالأصل؛ لأن استخدام النبي صلي الله عليه وسلم لأي وسيلة يدل على أهميتها فاعليتها.فمثلاً لا تزال القدوة الحسنة من أعظم وأكبر وسائل الدعوة وأكثرها فاعلية، ومثلها خطبة الجمعة التى ما ادعى أحد عدم تأثيرها.
رابعاً: الأصالة تعني جعل الشرع قاعدة لكل شيء، فلا بد عند البحث عن الوسائل من الانطلاق من قاعدة الشرع الحكيم فهو لنا القائد والدليل الذي نهتدي به في الظلمات.

المبحث الرابع: وجوه المعاصرة في وسائل الدعوة:
المعروف الذي لا يخفى على أحد أن الشريعة الإسلامية دعت إلى المعاصرة ومواكبة التطور في وسائل الدعوة وذلك باستخدام الوسائل المؤثرة والفعّالة، ومن أهم وجوه المعاصرة في الوسائل ما يلي: ـ
أولاً: إن الشريعة المباركة قد جعلت الأصل في وسائل الدعوة الإباحة إلاّ إذا ورد نص بمنعها، وذلك دعماً لمسيرة الدعوة وتأكيداً على أهميتها.يقول الدكتور مخدوم: (إن مقصود الدعوة الإسلامية هداية الناس وتحقيق المصالح لهم، فكل وسيلة عادية تؤدي إلى هذا المقصود، وتحققه دون أن يعارضها نهي شرعي فإنها تكون في دائرة المشروعية والاعتبار) . ومن أقوي الأدلة في هذا الباب قاعدة(الأصل في الأشياء الإباحة) والمقصود بالأشياء المعاملات لا مطلق الأشياء، والوسائل من المعاملات, قال ابن تيمية: (باستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه و الأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه و تعالى و ذلك لأن الأمر و النهي هما شرع الله) . ومعناه أن الوسائل ليست من العبادات بالمعنى الاصطلاحي ليكون الأصل فيها التوقف حتي يرد النص بحلها،بل الأصل فيها الإباحة.
قال العلماء: (إن انتفاعنا بها ـ أي المباحات ـ لا يعود علينا بالضرر ولا على غيرنا, وبأن الله عز وجل إنما خلق هذه الأشياء لحكمة لا محالة ولا يجوز أن يكون ذلك لنفع يعود إليه سبحانه , فثبت أنها لنفعنا فيكون مباحاً لنا ) .وقال البيانوني: (والمختار هو أن الشيء إذا خلا عن الضرر للنفس وللغير فالأصل فيه الإباحة لما جاء في تأييده من الآيات والأحاديث) .والوسائل من جملة ذلك.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، فمن ذلك:ـ
(أ): قوله تعالي: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 29) قال الحموي: (أَخْبَرَ بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لَنَا عَلَى وَجْهِ الْمِنَّةِ عَلَيْنَا، وَأَبْلَغُ وُجُوهِ الْمِنَّةِ إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ) .
(ب): قوله : (ما أحل الله في كتابه فهو حلال و ما حرم فهو حرام و ما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية فإن الله لم يكن نسيا ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (مريم: 64) .
(ج): لم يتوقف السلف في الوسائل إلا إذا ورد الدليل بمنعها فالناس قد انتقلوا من الدعوة باللسان إلى التأليف والتدوين ثم التسجيل ولم ينقل عن أحد أنه أنكر ذلك.
ثانياً: التفريق بين الحرمة الذاتية العينية والحرمة الغيرية، أي الحرام لعينه والحرام لغيره في الوسائل، (وَالْحَرَامُ يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ, وَهُوَ إمَّا حَرَامٌ لِعَيْنِهِ أَيْ مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ عَيْنُ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِمَا.وَإِمَّا حَرَامٌ لِغَيْرِهِ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ وَالْحُرْمَةُ هُنَا مُلَاقِيَةٌ لِنَفْسِ الْفِعْلِ لَكِنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لَهُ) ، ومعنى هذا أن الحرام لعينه ما حرم لمفسدة فيه كالزنا والخمر والغناء فإنها لا تكون وسيلة من وسائل الدعوة، وأما الحرام لغيره فهو ما كان في أصله مباح ولكن دخل فيه ما حرمه فإذا زال رجع الأمر إلى أصله الإباحة، كالبيع وقت النداء يوم الجمعة، وكالتلفاز و الفيديو، وغير ذلك.
فالمعاصرة تقتضي النظر في هذه الوسائل التي حرمت لا لذاتها بل لغيرها واستغلالها في الدعوة إلى الله تعالى، فيستخدم التلفاز و(الإنترنت) لتسخيرها لتبليغ الدين رغم استخدام غيرنا لها للهدم والدمار.
ثالثاً: ومن وجوه المعاصرة في الوسائل فتح الشريعة باب الاجتهاد بشروطه لمن ملك آلته للبحث عن أنجع الوسائل وأقواها تأثيراً حسب المعطيات في الساحة.
قال الشيخ الشنقيطي: (لا يجوز خلو الزمان من مجتهد قائم للّه بحجته يبين للناس ما نزل إليهم خلافاً لمن قال بإغلاق باب الاجتهاد، ويدل للقول الحق قوله فيها: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) فإنه أخبر في هذا الحديث باستمرار وجود القائمين بالحق إلى انتهاء الدنيا) .وقال الشاطبي: ( إن الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد،وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي وهو أيضا اتباع للهوى وذلك كله فساد فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية وهو معنى تعطيل التكليف لزوما وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق فإذاً لا بد من الاجتهاد في كل زمان لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان) .
رابعاً: وكذلك جواز القياس في الوسائل بإلحاق غير المنصوص بالمنصوص إذا وجدت العلة وهذه مساحة واسعة يمكن من خلالها ابتكار عدد كبير من الوسائل لمقابلة المستجدات.كقياس الإنشاد الديني على الحدو. لكي يستخدم في الدعوة إلى الله تعالى.
فكل ذلك يؤكد دعوت الشريعة لمواكبة التطور والاستفادة من الوسائل المعاصرة التى تخدم الدعوة.
فنسأل الله أن يمكن لدينه،وأن يعلي رايته ويعين الدعاة إلى الله تعالى ويوفقهم لاختيار أنجع الوسائل وأطيبها حتى يفتح الله على أيديهم.

الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
فإن الدعوة كحركة علمية تحتاج إلى وسائل فعّالة ومؤثرة تجمع بين المشروعية والمواكبة لتطور الواقع فكان هذا البحث المتواضع الذي تحدثت فيه عن الأصالة والمعاصرة في الوسائل وبعد تناولي لمباحث هذا البحث أخلص لتدوين بعض النتائج التي توصلت إليها فمن ذلك ما يلي: ـ
أولاً: لا يجوز استخدام وسيلة للدعوة مهما كانت الظروف إذا منعتها الشريعة المباركة تأكيداً لمبدأ الأصالة ولا يمكن تجاوز الشرع فيها بدعوي المعاصرة.
ثانياً: وإذا لم يرد نص بحرمة وسيلة معينة جاز استخدامها الأمر الذي يؤكد قدرة الشريعة على استيعاب المستجدات ويؤكد ذلك على ضرورة المعاصرة والمواكبة.
ثالثاً: إن الأصالة لا تعني رفض الجديد والحديث من الوسائل مادام أن النص الشرعي لا يمنعها.
رابعاً: إن المعاصرة لا تعني بأي حال تجاوز الشرع في اختيار الوسائل كما يفعل العلمانيون.
فأسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحب ويرضي إنه ولي ذلك والقادر عليه.