المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في رحاب سورة يس


نور الإسلام
05-06-2014, 07:38 AM
سورة يس

"مكية، عدد آياتها: 83"

وهي تتضمن تسعة مجالس


تقديم



أما سورة "يس" فهي مدرسة أخرى تماما!

إنها سورة الدعوة والداعية! الداعية الذي عرف ربه فأحبه! عرفه بما تجلى عليه من أنوار الجلال والجمال، فانطلق يسعى حثيثا يحمل وهج الدعوة إليه، وتعريف الناس بما أنعم الله عليه من جمال المعرفة به جل جلاله! وليس كاسم الله الأعظم أدل على الله، ولا أبلغ في الكشف عن أنوار عظمته سبحانه جل علاه؛ ولذلك كانت هذه السورة تفيض بما لا ينحصر من تجليات الجلال والجمال، الصادرة عن الاسم الأعظم؛ لتزويد الداعية المخلص بما يملؤه يقينا في الله، ويعمره محبة في مولاه! ويجعله - قبل ذلك وبعده - يتحقق بمقام التوحيد الخالص، مشاهدة حسنى لا يضام فيها أبدا!

فالسورة تمد العارف الداعية إلى الله بمدد من الحكمة والمعرفة لا قِـبَلَ للسالكين به! إنها تفيض بمعاني الحياة بكل طبقاتها، وبكثير من أسرار الخلق والإحياء على اختلاف ألوانها وأشكالها، وإنها لتنبض بجلال القيومية، وبعظمة التقدير والتدبير؛ ما يجلي للعبد - من شؤون الربوبية - حقائق اليقين على منـزلة الشهود الكامل! فيسترخص دمه في طاعة الله ويهرق أنفاسه رجاء نيل رضاه!

تلك هي سورة يس، فمن أوتيها فقد أوتي خيرا عظيما وفتحا مبينا!

إنها سورة تمنح المتلقي لحقائقها منـزلةً خاصة من المعرفة بالله! وتجعله يعتلي مقاما من المشاهدات النورانية لا مثيل له! فمكابدتها تورث السائر إلى الله - جل جلاله - حقيقة المحبة! بل تورثه الفناء في بحارها، والغرق في أنوارها! فعبر مسالكها ارتقى شهيد المحبة إلى عين اليقين!

كانت رياح الشوق تحمله بأجنحتها إلى وطيس الصراع الدائر بين الحق والباطل، فجاء من أقصى المدينة يسعى ليدلي بشهادته النازفة! (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى!) فكان ثمنها إهراق دمه الْمَشُوقِ بحب الله! فنادى المرسَلين وهو يجود بدمائه الحرى: (إِنِّيَ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) وجاء الجواب من ملائكة الرحمن سريعا، جاءه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، مودعا عالم التراب الفاني: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ!) فلما رأى ما رأى ووجد ما وجد (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) قالها بعد استشهاده مباشرة، وهو ينطلق محلقا بأجنحته الخضراء في فضاءات الجنة العريضة! مشرفا من أعاليها على مَنْ خَلَّفَهُمْ تحت أدران التراب، من جموع الطغاة الجهلة بالله!

ثم ترتقي السورة بالسالك المحب عبر معارج المشاهدات والكرامات، ومباهج السياحات، لِيَتَمَلَّى بما أُذِنَ له من ملكوت الله العظيم، ويتغذى بالنظر في آيات الله الممتدة من دقائق الأنفس إلى عجائب الآفاق، وحركة النجوم السيارة والأفلاك الدوارة، المتفانية في عبادتها لله تسبيحا وتفريدا؛ بما يرسخ يقين المحب في محبوبه، ويذكي شوقه إلى لقائه! حتى إذا اكتملت له النعمة، وغمرته السكينة والرحمة، وشاهد من آيات الجمال والجلال ما بهر فؤادَه؛ خَرَّ قَلْبُهُ مسبحا بين يدي مولاه، فتجلى له نور الطابع الرباني، الخاتم لشهادة تخرجه من مدرسة المحبين، تلاوة تهدهد آلام أشواقه بوعد جميل: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)

تلك كانت إشراقات من حقائق الإيمان، النابضة في سماء هذه السورة العظيمة([1] (http://alfetria.com/forum/#_ftn1)).

فما بقي الآن إلا أن نحاول تلقي إشاراتها وأنوارها. وذلك من خلال تسعة مجالس هي كما يلي:



[1] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref1)قد وردت أحاديث كثيرة في فضل سورة "يس"، وما لها من خصائص وبركات، لكن أغلبها ضعفه أهل الصناعة من علماء الحديث. إلا أن القرآن يشهد بنفسه على نفسه بفضله وعظمته. ونحن لا نستبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى شيء من ذلك - فيما يخص هذه السورة بالذات – فحض عليها حضا! خاصة وأن الكلام عنها قد ورد عن عدد من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، كما تداولته كتب الحديث والتفسير. وإن في هذا لدلالة كافية على تفردها وعظمتها!

نور الإسلام
05-06-2014, 07:38 AM
المجلس الأول

في مقام التلقي لأصول العمل الدعوي:

تعريف الداعية بمقامه، وبطبيعة رسالته، وأصناف مخاطَبيه




1- كلمات الابتلاء:

يَسِ(1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(4) تَنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ(8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ(9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12).


2- البيان العام:

"ياء" و"سين"، من ههنا يكون البدء في تلقي أنوار الحكمة! حرفان كريمان من حروف القرآن الكريم، يفيضان أنسا وجمالا! ويربطان قلب المؤمن بالعمق الغيـبي لهذا الكتاب العظيم! ولقد تضاربت أقوال المفسرين في معنى الأحرف المقطعة الواردة بفواتح بعض السور، وذهبت آراؤهم فيها مذاهب شتى، إلا أنه لم يصح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، فليس لنا أن نقرر في شأنها إلا ما يليق بخطاب العرب وبمقام القرآن العظيم.
أما الشيء الذي لا خلاف فيه، فهو أن هذه الأحرف قد بقيت لغزا من ألغاز القرآن الكريم! ولا أحد استطاع أن يأتي فيها بقول يكشف سرها، ثم يستقيم ومقاييسَ العلم روايةً أو درايةً! فكل ما قيل حولها تخمينات وظنون لا تغني عن الحق شيئا! وبعض المفسرين مال إلى ربطها بحساب الجمل، وهو أمر لم تعرفه العرب، ولم تفسر به خطابها قط. وكل ما ورد في ذلك من الروايات ينتهي أغلبه إلى الإسرائيليات! وفي بعضها من الباطل ما كشفه التاريخ! كتحديدهم عمر هذه الأمة بناء على جمعٍ لأعداد بعض تلك الحروف على حساب الجمل! ثم امتدت الأمة في الزمان أكثر بكثير مما عدوا لها!

الشيء الوحيد الذي بقي مقبولا في تفسير هذه الأحرف هو أنها - كما ذكرنا - من متشابه القرآن الذي لا يعلمه إلا الله! وهذا مُعْطَى علمي مهم جدا، نبني عليه بياننا - بحول الله - ههنا، وذلك بتسجيل الملحوظات التالية:

- أولا: أن هذه الأحرف لها في مواضعها من كتاب الله دلالتها الخاصة! وهي دلالات مختلفة؛ لاختلافها هي في نفسها، فـ "اَلَمِ" مثلا ليست هي "اَلَرَ"، ولا هي "اَلَمِرَ"، ولا هي "اَلَمِصَ"، ولا هي "كَهَيَعِصَ"، ولا هي "يَسِ" أو "صَ" أو "قَ" ...إلخ. فكل زيادة أو اختلاف في المبنى، يدل على زيادة أو اختلاف في المعنى.

- ثانيا: أن لها معاني خاصة عند الله تعالى، مرتبطة قطعا بسورها المذكورة في أوائلها من جهة، ومرتبطة – من جهة ثانية - بطبيعة هذا القرآن، الذي هو كلام الله جل جلاله. فالله تعالى لا يتكلم عبثا، بل لا يتكلم إلا بالحق، سبحانه جل جلاله!

- ثالثا: أن الله تعالى استأثر بحقائق تلك الأحرف في علم الغيب عنده، كما استأثر بكثير من أسمائه الحسنى وصفاته العلى عنده أيضا! وفي هذا دلالة عظيمة على ثمرة إيمانية كريمة، وهي كما يلي:

- رابعا: أن حقيقة هذا القرآن كله – ما علمنا منه وما لم نعلم - مرتبطة بعالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله! وأنه تعالى إنما بين لنا منه ما تقوم به حياتنا التعبدية، وتتوجه به التكاليف الشرعية العقدية والعملية، ويصلح به العمران البشري، وتقوم به الحجة على الناس! وذلك هو ما يُسِّر منه تيسيراً! كما قال جل جلاله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟)(القمر: 17). وإلا فمن ذا قدير على أن يتلقى كلام رب العالمين – المحيط بكل شيء في هذا الوجود العظيم - وأن يرتله ترتيلا!؟ ولقد صدق سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، إذ قال في هذا قولته الشهيرة: (لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل!)([1] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn1))

ومن هنا وردت هذه الحروف في كتاب الله من الغوامض التعبيرية؛ وفي ذلك إشارة إلى هذا الأصل الإعجازي العظيم! كأنها تقول للإنسان: انتبه! إن هذا الكتاب الذي يُسِّرَ لك أن تقرأه اليوم كتاب غير عاد تماما! إنه كتاب غريب عجيب! إنه بحار غير متناهية من الحقائق الغيبية والكونية مما لا يحيط بحقيقته إلا الله رب العالمين! فتأدب يا عبد! تأدب بأدب العبودية بين يدي الملك العظيم، وأنت تستفيد – فيما أُذِنَ لك - من نعمة تيسير القرآن المجيد تلاوةً وتدبراً!

ويكفيك دلالة على هذا التأصيل الأصيل، قول الله تعالى عن كلامه جل جلاله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ!)(لقمان: 27) ولقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تفرد كل حرف من حروف القرآن العظيم بقيمة ذاتية، لكن ليس بما هو حرف عربي؛ ولكن بما هو جزء من كلام الله جل جلاله! ولذلك رتب الأجر للقارئ على عدد ما قرأ من حروف! رغم أن الحرف في اللغة البشرية وحدة صوتية لا معنى لها! لكنه ههنا شيء آخر، إنه حرف مختلف عن أي حرف في أي لغة، إنه حرف قرآني! ويكفيه ذلك ليضرب بجذوره في عمق الغيب! ذلك هو مقتضى الحديث النبوي المشهور، من قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)([2] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn2)).

ومن هنا أيضا وردت أغلب الأحرف المقطعة في أوائل السور مرتبطة بالإشارة إلى عظمة القرآن، أو مصدريته، أو في سياق قَسَمِ الله جل جلاله به! كما في قوله تعالى من فاتحة البقرة: (اَلَمِ. ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ!) وقوله سبحانه في الأعراف: (اَلَمِصَ، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ). وفي يونس: (اَلَرَ. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) وفي هود: (الَرَ. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وفي الرعد: (اَلَمِرَ. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ!) وفي إبراهيم: (اَلَرَ. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ!) وقال هنا في "يس" مُقْسِماً: (يَسِ. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ!) كما قال بعدُ في "ق": (قَ. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ!) وغير هذا وذاك في القرآن كثير.

وعليه؛ فقوله تعالى: "يس" بمفتتح هذه السورة العظيمة إشارة منه - جل جلاله - إلى عمقها الرباني الممتد في بحار الغيب! وإلى أنها تزخر بنفائس الأسرار وكرائم الأنوار! فهي محملة بنور خاص من قوله تعالى العام في القرآن كله: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً!)(الفرقان:6) فلها أسرارها التي تخصها من ذلك، كما أن لكل سورة في كتاب الله أسرارها التي تخصها.

لكن الافتتاح بهذين الحرفين ههنا على الخصوص "ياء" و"سين"، بما لهما - على المستوى الصوتي - من لطف وجمال، ثم القَسَم بعدهما مباشرة بالقرآن موصوفا بالحكمة؛ يجعل من ذلك كله إشارة إلى أن هذه السورة مكتنـزةٌ بالحِكَم الربانية، ذات اللطف الخفي والجمال البهي! وهي حِكَمٌ لها من الخصوص ما يربط القلب بكرامات الغيب مباشرة، ويجعله محفوظا بالله، لا يرى إلا بنور الله! على ما سنبينه بحول الله عند تلقي رسالات الهدى الواردة بالآيات.

فنأخذ ههنا في هذا البيان العام أن المقسَم عليه، المقصود بالخطاب أصالةً، هو أن هذا النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم - رسولٌ من رب العالمين حقيق، رسول ماض على سَنَنِ المرسلين، يتلقى الوحي كما تلقوه من رب العالمين. (يَسِ. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ! عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. تَنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ!) وقد يتساءل المرء بادئ النظر: لماذا هذا التوكيد الشديد من الله - جل جلاله – في خطابه الموجه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم – قصد إثبات قضية هي من أولى المسلَّمات بينهما ابتداءً؟!

إنها توكيدات متتالية متضافرة! بدءاً بالقَسَمِ ثم جعلِ جوابه مسلحا بالحرف الناسخ: "إنَّ"، وبلام التوكيد، ثم جعل السياق كله متعاضدا بجمل اسمية متتابعة! كل ذلك من أجل القول: إنك - أيها الرسول - لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده، على طريق مستقيم، وهو الإسلام الذي هو مسلك كل الأنبياء والرسل قبلك. تنـزيل العزيز في انتقامه من أهل الكفر والمعاصي، الرحيم بمن تاب من عباده وعمل صالحا. إن التوكيد المتضافر ههنا هو مدد من الله لرسوله! صحيح أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه رسول الله، ولكنه الآن في خضم معركة! معركة الدعوة إلى الله ومواجهة طغاة الكفار الذين يكذبون الرسول ويحمون الباطل بقوتهم وجبروتهم! فيثيرون ضده - عليه الصلاة والسلام - وضد دعوته الشبه والتلبيسات، مما يفتن الناس ويحزن الرسول! على غرار ما جاء في قوله تعالى من سورة الأنعام: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ!)(الأنعام: 33) ومثل هذا في القرآن كثير. ومن ثَمَّ كان الرسول في حاجة إلى دعم إلهي ومدد رباني، وهو يخوض معركة الحق ضد الباطل. فتتنـزل عليه هذه الآيات مسلحة بهذه التوكيدات؛ لتمده بقوة جديدة، وتزيده ثباتا وصبراً في مواجهة الباطل! فَتُذَكِّرُهُ بأنه بشر غير عاد، بل هو بشر مرسل من رب العالمين إلى كل العالمين! بشر نعم، ولكنه من نوع آخر، إنه من نوع المرسلين الموصولين بالله أبداً، الممدودين منه تعالى بروح القدس، يحمل راية الإسلام ويجدد دعوته! حجته هذا القرآن العظيم، الذي هو كلام الله رب العالمين! هكذا تتنـزل عليه هذه الحقائق القرآنية مدداً عظيما في ساعة الشدة! وفي لحظة الضيق والحرج؛ فتضاعف قوته وعزيمته؛ بما يجعله من أولي العزم من الرسل، بل يجعله سيدهم وسيد المرسلين أجمعين! عليهم وعلى نبينا أفضل الصلوات والتسليم. فأي تسلية هذه وأي تثبيت!؟ وأي مدد هذا وأي عطاء!؟

ثم يحدد القرآن للرسول الوظيفة الأساس التي هي مناط رسالته: (لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ!) وأفرد النذارة بالذكر – في هذا السياق - دون البشارة؛ لضخامة حجم الضلال، وشدة قتامة التيه الذي كانت تتخبط فيه البشرية زمن الرسالة، عربا وعجما! ثم لخطورة النبأ العظيم الذي نزل به هذا القرآن نذيراً للناس! والناس يومئذ قد تعاقبت عليهم الأجيال دون ورود خبر من السماء نبوةً أو رسالة، إلا ما كان من بقايا صحف أهل الكتاب التي اختلط حقها بباطلها، فلم تعد تغني من الحق شيئا! فاشتدت وطأة الجاهلية في الأرض واشتد ليلها وضلالها! إنها غفلة شديدة مديدة، طالت حتى استحكمت الأهواء في الأنفس وأُشْرِبَتْ طغيانَها! فعُبِدت الطواغيتُ الحجرية والبشرية من دون الله الواحد القهار! وسيطرت شريعة الغاب على العالمين! وصار للظلم والظلمات سَدَنَةٌ غلاظ شداد يحمونهما! فلا رغبة لديهم لسماع كلمة الحق والاستجابة لنداء الهدى! (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ!) فقد صار ما أُشْرِبُوا من حب الكفر والضلال، أغلالاً تربط أيديهم إلى أعناقهم؛ فهم بذلك مُقْمَحُونَ أي مُشَكَّلو الرؤوس والوجوه إلى أعلى، لا يستطيعون عن هذا الوضع تحولا! فلا قدرة لهم على إبصار مواضع أقدامهم، ولا على إبصار علامات الهدى المنصوبة على الطريق من الآيات البينات! ولذلك لا يصدقون مما يقال لهم عنها شيئا! ولقد صوَّرهم الحقُّ تعالى – بهذا الانقماح العجيب – تماما على صورة ما يكونون عليه فعلا من هيأة، عندما يغشون النوادي برؤوس مرفوعة إلى السماء تكبرا وغطرسة وطغيانا! ولذلك فقد أحاط بهم كبرياؤهم الجاهلي، وانتصب سدودا منيعة من بين أيديهم ومن خلفهم، فوقعت بذلك الغشاوة على أبصارهم؛ فأنى يهتدون؟

ثم يلتفت الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – من بعدما بيَّن له حجمَ الضلال الذي تعاني منه البشرية في زمانه، منبها إياه إلى أن هذا الضرب من الكفار، ممن انتصب كبرياؤه طاغوتا في الأرض، لن يهتدي أبدا ولن يصدق من خبر السماء شيئا، سواء بلغته نذارتك أم لم تبلغه؛ إذ كشف الحقُّ - جل جلاله - ارتباطهم الشديد بكفرهم وكبريائهم! فلا استعداد لديهم للخير ولا للهدى أبدا!

وإنما سيستجيب لدعوتك - أيها الرسول – من أنصت لهذا القرآن بتواضع، صادق الرغبة في معرفة الحق! والقرآن هو كلام الله المعرف بالله؛ ولذلك ما قرأه أحد بهذا المنهج إلا انفتحت بصيرته على الحق، فتجلت له عظمة الله جل جلاله! وامتلأ قلبه خشية وتعظيما وكان من المؤمنين. أما هذا فبشره بمغفرة لما كان عليه من كفر وضلال، وبشره بأجر كريم على ما استأنف من حياة إيمانية مباركة!

ثم يقرر القرآن بعد ذلك حقيقة النبأ العظيم، وهو البعث بعد الموت! تلك الحقيقة التي رفضها مَرَدَةُ الكفار قديما وحديثا؛ سخرية منهم بالحق واستكباراً! فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍَ) فلا شيء من عمل ابن آدم يضيع أو ينسى، خيرا كان أم شرا، سواء في ذلك ما عمله في دنياه فانقطع بموته أو ما خلفه متوارثا بعده! كل شيء يثبته الحق تعالى في أُمِّ الكتاب! وسماه ههنا "إماما" لأنه ما أمَّهُ أحد – بمعنى قصده - لمعرفة شيء إلا وجده فيه! فهو إمام مبين في كل شيء! ولذلك قال تعالى في سورة الكهف: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا!)(سورة الكهف:49)

تلك إذن قصة هذه النذارة، وذلك هو مناط هذه الرسالة، وإنه لِمَنْ مَلَكَ البصيرةَ لنبأٌ عظيم! إليه يصير الوجود البشري كله!


[1] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref1) تفسير ابن كثير: 4/337.

[2] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref2)رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح. انظر سنن الترمذي، (كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر). كما رواه الحاكم أيضا في المستدرك.

نور الإسلام
05-06-2014, 07:39 AM
3- الهدى المنهاجي:


وهو ينقسم إلى ست رسالات، هي كالتالي:


- الرسالة الأولى:

في بيان العمق الغيبي للقرآن الكريم، وما فيه من حكمة ظاهرة، وأخرى خفية لا تظهر للناس، بل إنها لا تتجلى للعبد إلا بعد الشروع في العمل أو بعد الانتهاء منه، وربما تراخت عن ذلك زمانا! على سبيل الابتلاء؛ حتى يدخل العبد في العمل دخول المؤمن بالغيب، المسلم لله رب العالمين! ثم إن هذا القرآن - بما هو منـزل من لدن العزيز الرحيم، عالم الغيب والشهادة – يتضمن خريطة الحياة البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها بدقة متناهية، لكنها خريطة في أغلب معالمها خفية! فهي تشرف على عالم الشهادة من عالم الغيب. وواجب على العبد المؤمن أن يستشرفها باتباعه الدقيق لتعاليم القرآن!


- الرسالة الثانية:

في ضرورة اقتناع الداعية برسالته قصدا ومنهجا إلى درجة اليقين. وذلك بتحقيق الاستيقان الشهودي بمصدرها الرباني؛ بما يجعله على إيمان راسخ متين بدعوته! وإلا فأي تذبذب يقع له في الإيمان برسالته؛ فإنه يكون قطعا من الفاشلين! وليس معنى هذا التذبذب في مطلق الإيمان، كلا، فقد يكون من المؤمنين الصالحين، وإنما المقصود التذبذب في حمل أمانته، وأداء وظيفته، والغفلة عن حقيقة نصرة الله لجنده، وعدم مشاهدة معيته! فتلك أمور متى غابت عن الداعية فشل في دعوته!


- الرسالة الثالثة:

في أن استبطان حقيقة النذارة لدى الداعية وتحمل أمانتها، أنشط له في العمل المتواصل الدؤوب، وفي إشعال جذوة الحماس في قلبه! وتلك هي حقيقة النبأ العظيم الذي جاءت به كل الرسالات! قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ!)(سورة فاطر: 24) ولنا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصوير دقيق لحاله وهو يدعو الناس، تصوير فيه من الشفقة البالغة والرحمة الشديدة؛ ما يبين الوضع النفسي والإيماني الذي وجب أن يتحلى به المؤمن الداعية إلى الله إزاء مخاطبيه! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال: (مَثَلِي كمَثلِ رَجُلٍ استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفَرَاشُ وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها! وجعل يَحْجُزُهُنَّ، ويَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فيها! فذلك مَثَلِي ومَثَلُكُمْ، أنا آخذُ بِحُجَزِكُمْ عن النار: هَلُمَّ عن النارِ! هَلُمَّ عن النارِ! فتغلبوني فتقتحمون فيها!)([1] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn1)). وفي رواية جابر: (وأنا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عن النارِ، وأنتم تُفْلِتُونَ من يدي!)([2] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn2)) ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (وإني أنا النذير العريان! فالنَّجَاءَ النَّجَاءَ!)([3] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn3))


- الرسالة الرابعة:

في أن انقطاع النذارة في بيئة ما، وتوارث أجيالها للجهل بالدين، يجعلها تدخل في غفلة شديدة، وتضرب في ظلمات من التيه، يصعب جدا التخلص منها، حيث تصير إلى التطبع العميق مع المنكر واستغراب المعروف! وتنتهي إلى حال انقلاب المفاهيم! مما يثقل مسؤولية الدعاة ويعقدها! ولذلك وجب مداومة النظر في معالم الآيات الدعوية من كتاب الله عز وجل؛ لمعرفة خصائص النفس البشرية: مَنْ له قابلية للخير ومن أغلق قلبه دونه، ثم ختم عليه بالضلال المبين، فلكل من هذين الصنفين علامات في كتاب الله. ثم إن على الداعية أن يستفيد من مناهج النذارة النبوية، خاصة في المراحل الأولى من دعوته عليه الصلاة والسلام؛ لتشابه أحوال التجديد بأحوال البدء والتأسيس. أعني في مثل هذه الظروف المذكورة، من انقطاع النذارة وتوارث الأجيال للجهل والضلال.


- الرسالة الخامسة:

في التنبيه على عدم الانشغال الكثير بمجادلة الطواغيت المستكبرين، من سَدَنَةِ الضلال وصُنَّاعِ الفجور وحماة المنكر، إلا على سبيل إقامة الحجة. وإنما يجب الاهتمام الأكبر بأهل التواضع من المستضعفين، وجموع الحيارى الغافلين، الباحثين عن الحقيقة، ممن إذا عَرَّفْتَهُ بالله وقعتْ في قلبه خشيته! وانقاد للحق؛ فكان من المهتدين بإذن الله.


- الرسالة السادسة:

في أن قضية البعث والحساب وما تضمنه اليوم الآخر من حقائق إيمانية، هي أهم قضية - بعد الإيمان بالله - وجب على الداعية أن يجعلها أساس خطابه ومناط نذارته! فالمصير الأخروي هو قضية القرآن الكبرى، فهو الأصل وأما ما سواه من الوعود الدنيوية – من صلاح المعاش ورغد العيش - فإنما هو تَبَعٌ، وليس مقصودا للقرآن دعويا إلا على سبيل الابتلاء! وعدم التزام الخطاب الدعوي بهذه المراتب قَلْبٌ لموازين القرآن! ففي غزوة الخندق كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يَرْجُزُ بصوت عال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة!)([4] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn4)) وكان أول بيانه لقريش - وهو واقف على الصفا خطيبا - قوله صلى الله عليه وسلم: (إني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذاب شديد!)([5] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn5))


4- مسلك التخلق:

لتحقيق الداعية اليقينَ بدعوته وجب عليه الاستمداد الدائم من حقائق الغيب، مما أحكمه الله في كتابه، وقراءة كل ما يقع من حوادث هذا العالم من خلال منظاره. والتزود من مراتب العلم بالله ما يملأ قلب العبد خشية، ويجعله مهموما ببلاغ النذارة! وإنما تحصل مراتب العلم بالله تدرجا؛ وذلك بالتدبر الدائم لكتاب الله، والدخول في صالح الأعمال من خالص العبادات! مع الاقتداء في كل ذلك بأسوة الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل أحواله في سنته وسيرته نصب العين أبداً.


وأما النذارة الواقعة من خطاب الداعية، فلا يمكن أن تكون ذات تأثير، إلا إذا صدرت عن قلب تَمَلَّكَهُ الخوفُ حقيقةً من الله جل جلاله! أما تَصَنُّعُ ذلك وتَكَلُُّفُهُ فلا تُرجى منه فائدة دعوية! ومن هنا فالمسلك العملي للتحقق من ذلك خُلُقاً خالصا، هو التعرف على مقام الله العظيم، ومشاهدةُ الآيات المعرفة بِقَدْرِهِ تعالى وعظمةِ سلطانه! قال جل جلاله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ!)(سورة إبراهيم: 14) وقال سبحانه: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاْلأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(سورة الزمر: 67)


كما يتم ذلك بالمطالعة الدائمة لحقوقه - جل جلاله – المترتبة على عباده؛ بما نالهم منه تعالى من النعم التي لا تحصى! ثم ما وقعوا فيه – بدل الشكر - من العصيان لأمره ونهيه! والشرود بعيدا عن صراطه المستقيم! ثم على العبد تطبيق ذلك كله على نفسه، وإخضاعها لمقاييسه؛ ليرى حجم تقصيره في حق ربه، وعظمة ذنبه وكثرة خطيئاته، وما بَاءَ به من هذا وذاك؛ فذلك كله أدعى لتحقيق الخوف من مقام الله العظيم! وأرجى للداعية في التحقق بخطاب النذارة من دعوته، خُلُقاً مخلصا لله الواحد القهار! فما يصدر عنه آنئذٍ إلا نذير خالص تتخلله الزفرات الصادقة والآهات المكابدة! قال تعالى في حق خليله إبراهيم عليه السلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ!)(سورة التوبة :114)


[1] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref1) متفق عليه.

[2] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref2) رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع.

[3] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref3) متفق عليه.

[4] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref4) متفق عليه.

[5] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref5) متفق عليه.

نور الإسلام
05-06-2014, 07:40 AM
المجلس الثاني



في مقام التلقي لوظيفة البلاغ المبين




1- كلمات الابتلاء:

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ(14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ(17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ(19)


2- البيان العام:

هذا يوم من أيام الله! وقصة من قصص القرآن البليغة! كان ذلك في مدينة أنطاكية الواقعة اليوم في شرق تركيا، وكان يحكمها آنئذ ملك طاغية يعبد الأصنام ويفرضها على قومه! كان ذلك زمان أنبياء بني إسرائل، وقيل زمن المسيح عليه السلام، والرسل الثلاثة المذكورون في القصة قيل: هم رسله – من الحواريين - إلى أهل أنطاكية بأمر الله. وقيل: بل هم رسل مباشرون من رسل بني إسرائيل، وهو الذي عليه جمهور المفسرين([1] (http://alfetria.com/forum/#_ftn1)) وهو الذي يؤيده سياق الآيات. وكل ذلك ههنا سواء، لا تعارض فيه من حيث الحكمة والمقصد الدعوي.
ونظرا لما تكتنـز به هذه القصة من حِكَمٍ بليغة، وسنن ربانية عظيمة، فقد ضربها الله مثلا لقوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبقيت - بعد ذلك - عبرة للبشرية، شاهدة على صراع الحق والباطل إلى يوم القيامة! بقيت - من حيث مقاصدها الدعوية والتربوية - قصة جديدة لا تبلى أبداً!

فقد أرسل الله - جل جلاله - إلى طاغوت أنطاكية وقومه رسولين اثنين، يعزز أحدهما الآخر ويؤيده. كانا يحملان رسالة واحدة، مدارها على الدعوة إلى توحيد الله رب العالمين، ونبذ عبادة الأصنام، وما دأب عليه أهل المدينة من الشرك! لكن الملأ من سدنة الكفر والضلال كذبوا الرسولين، فعززهما الله برسول ثالث! كل واحد منهم كان يتحدث بما آتاه الله من بلاغة وبيان، ويخاطب القوم بحجج تقوي حجج صاحبه وتبينها، فهذا يفصل مجمل ذاك، وذاك يفسر مبهم هذا؛ بما يجعل كل ردود الكفرة باطلة وحججهم داحضة، وينير طريق الإيمان أمام جموع المستضعفين؛ مما أفزع طغاة القوم، فعدلوا - عند الهزيمة - إلى إلغاء الحوار، والتجؤوا إلى لغة العنف والتنكيل بالرسل والتهديد بتعذيبهم وقتلهم؛ قصد إخراس كلمة الحق، وحرمان المستضعفين من تلقي رسالات الهدى! شأنَ سائر الطغاة في كل زمان ومكان!

كانت حجة الكفرة قائمة على رفض أن يرسل الله - جل جلاله - رسولا إلى الناس من جنسهم! وهي حجة راجعة إلى الرغبة في التعجيز، وإلى ما تنطوي عليه النفس المريضة من الكبرياء، لا إلى الجدل المثمر البناء الرامي إلى التحقق من صحة الرسالة وصدق حاملها. وتلك كانت نفس حجة كثير من الأمم الذين كذبوا رسلهم، كما كانت حجة قريش في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. حجة واحدة تحقق بطلانها مئات المرات عبر التاريخ! ومع ذلك لم يزل الكفار يلجؤون إليها؛ إذ لا محيص لهم عنها، فما من حجة لهم إلا وهي أَوْهَى وأوهن منها! (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ!)

وقد أجمل الحق - جل جلاله - خطاب الأنبياء الثلاثة في هذه القصة، وعرضه بأدوات التوكيد التي وردت في السياق، من مثل قولهم: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ!) بما يفيد أنهم أقاموا الحجج القوية الدامغة على أهل القرية؛ حتى لم يبق معها مجال للشك أو التردد في صدق الرسالة التي جاؤوا بها، وفي بطلان ما عليه القوم من الشرك وعبادة الأوثان. كما أن الخطاب اللاحق في السياق للرجل المؤمن، المتدخل في اللحظة الحاسمة، بما فيه من بيان قوي وتفصيل محكم، دالٌّ على مضمون خطاب الرسل الثلاثة وما أقاموه من حجج على قومهم. فلواحق السياق تبين سوابقَه. وهذا من جمال بلاغة القرآن العظيم!

وقولهم: (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ!) مفيد أنهم قد أدوه على أتم ما يكون الأداء، وأن القضية بعد ذلك إنما هي قضية هداية! وهذا أمر لا يملكونه ولا هم مكلفون به. فالهداية إنما هي بيد الله وحده. وذلك على غرار ما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ! وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ!)(سورة القَصص: 56)

وذكرت كتب التفسير أن الله - جل ثناؤه - قد ابتلى القرية بشتى ضروب البلاء، من حبس الغيث وضنك العيش والأوبئة؛ لعلهم يرجعون! لكن ذلك ما زادهم إلا طغيانا! بل اتهموا الرسل بأنهم هم سبب ما أصابهم من بلاء؛ بما سفَّهوا من عبادتهم لأصنامهم وأوثانهم! فكأنما تلك الأصنام قد غضبت فانتقمت من أهل القرية جميعا! وقد حكى القرآن مقالة الطغاة ههنا: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ!) وبهذا الجهل من اعتبار الرسل شؤما على القرية كلها، ثم تهديدهم بالرجم والتعذيب؛ قطع الطغاة كل أسباب الحوار! ومنعوا المستضعفين - ظلما وعدوانا - من سماع كلمة الحق!

لكن الرسل مكلفون بالاستمرار في أداء الرسالة، والثبات على بلاغها للناس أبداً، وعدم الرضوخ لتهديد الطغاة، مهما كلفهم ذلك من ثمن! فردوا عليهم ردا قويا حاسما! لا مجاملة فيه ولا رَهَب! (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ! أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ!) أي: إن كفركم وضلالكم من الإصرار على الشرك، وتكذيب رسل الله هو الشؤم عينه! ثم رموا الكفارَ بسؤال إنكاري شديد! مفاده: أبسبب أننا ذكَّرناكم بالله ربكم ورب العالمين، وبيَّنا لكم بطلان ما أنتم عليه من الشرك؛ حرصا على هداكم، وبلاغا من الله ربنا وربكم، أبسبب ذلكم قابلتمونا بالتهديد والوعيد؟ ألا إن هذا لهو الظلم والطغيان المبين!

فما كان من الطغاة آنئذ إلا أن أحاطوا بالرسل واقتادوهم للتعذيب والقتل!

وهنا ينتقل السياق القرآني إلى مفاجأة كبرى في إبراز مأساة هذه القصة العجيبة! وهي تَدَخُّلُ الرجل المؤمن - المسمى حبيب النجار - في اللحظة الحاسمة، تَدَخَّلَ بخطاب عجيب لخص فيه بيان الرسل الثلاثة، وأقام الحجة بطريقة أخرى، على شناعة ما أقدم عليه الطغاة من الهم بقتل رسلهم! فكان في قصته من العبر البليغة، ما نجعله مدار حديث المجلس الثالث إن شاء الله.


3- الهدى المنهاجي:

وهو ينقسم إلى الرسالات الثلاث التالية:

- الرسالة الأولى:

في أن تعاون الدعاة وتنسيقهم فيما بينهم، من أهم أسباب نجاحهم، وأقرب إلى مرضاة ربهم. فالتعاون على الخير والاجتماع عليه قوة له ونصرة. أما اختلافهم بَلْهَ تشاحنهم وتباغضهم فهو الخسران المبين! ولا يجوز اختلاف فيما الأصل فيه عدم الخلاف؛ إلا بسبب تدخل الأهواء! ولذلك كان الإخلاص أول عمل ذاتي، وجب تحقيقه لدى الداعية في نفسه قبل الانطلاق في دعوته. وما اختلف قوم مخلصون لربهم قط في أصول دعوة لا اجتهاد فيها. وإنما هي بلاغ لحقائق إيمانية معلومة من الدين بالضرورة.

- الرسالة الثانية:

في أن الحق قوي بذاته، فإذا بلَّغه الداعية الحكيم بما يليق به من بيان، كان منتصرا بمجرد الكلمة! وذلك كان هو أساس دعوة جميع الأنبياء والرسل، قال تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ!)(سورة النحل: 35) فلا يستهينن أحد بقوة الكلمة وخطورتها في الخير والشر! فأما كلمة الحق والهدى في الدعوة إلى الله فهي الغالبة بإذن الله أبداً! فما ينبغي أن تقدم عليها وسيلة من الوسائل مهما كانت براقة! بل يجب أن توظف وسائل العصر الإعلامية، والتقنيات الجديدة كلها؛ لإعلاء كلمة الحق ونشر الهدى؛ بيانا للناس وبلاغا. ولو تيسر هذا الأمر بغير موانعَ ولا مَقَامِعَ، لكانت الأمة اليوم في نهضة دينية جديدة! وإنَّ صُبْحَهَا بإذن الله لقريب!

- الرسالة الثالثة:

في أن أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان، إزاء كلمة الحق إنما هو القمع الهمجي والمنع التعسفي لحرية الكلام! ثم التنكيل بالدعاة وتقتيلهم! ولذلك وجب على الدعاة إلى الله تجنب أسباب الفتنة، والحرص على عدم استفزاز الطغاة ما أمكن؛ لأن الحق هو المستفيد الأول من أجواء الحرية والأمن العام، وهو المنتصر في النهاية على كل خطاب، وعلى كل إعلام، مهما بلغت قدرته المهنية ودهاؤه التضليلي! فالحق يعلو ولا يعلى عليه! وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحصول على هدنة من قريش في صلح الحديبية، بعَقد فيه ما فيه من شروط مجحفة بالمؤمنين ظالمة! لأن الحصول على فترة من حرية الكلام والأمان للمسلمين، كانت كفيلة بإسلام أغلب الناس بمكة! ولذلك كان بعدها الفتح المبين!


4- مسلك التخلق:

أما مسلك التخلق في هذا الابتلاء ههنا فقضيته - كل قضيته - في التحقق بحكمة البلاغ المبين! كيف يتمكن الداعية من خُلُقِ الْحِلْمِ، ومن امتلاك البيان الرباني الكريم؟! حتى إذا تكلم وجد الناسُ صدقَه الخالصَ في كل سيماه! وتدفق نور الخشية من وجهه وعلى لسانه، هُدًى يفتح أبواب القلوب على مصاريعها! فكيف السبيل إلى ذلك وكيف الطريق؟

لابد للداعية أن يديم النظر في شمائل سيد الخلق محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة والتسليم، فلا أحد أبلغ منه في الحلم! ومطالعة مواقفه - صلى الله عليه وسلم - في اللحظات الحرجة! كيف كان أقوى على ضبط نفسه عليه الصلاة والسلام، وكيف كان أعظم في الحلم على جهل الجاهلين! بما يُعجز حكماء الزمان وفلاسفة الأخلاق! انظر إليه هنالك وتعلم! فهو القائل عليه الصلاة والسلام: (إنما العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإنما الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ! ومَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ.)([2] (http://alfetria.com/forum/#_ftn2))

وأما المسلك العملي للتمكن من بيان دعوي بليغ، فإنما هو المدارسة المتواصلة للقرآن الكريم، خاصة في مساقات البيانات الربانية التي حكاها الله - جل ثناؤه - عن أنبيائه، في مواطن البلاغ المبين لأقوامهم، ففي تلك المواطن من قوة البيان الدعوي المقصود ههنا ما كان في مقام الإعجاز. وإن كثيرا من الدعاة الناجحين قديما وحديثا، إنما امتلكوا جمال تعبيرهم، وقوة حجتهم، ونصاعة بيانهم، من الإدمان على كتاب الله، تلاوةً ومدارسةً. وخُطبة حبيب النجار الآتية في المجلس الثالث نموذج لذلك البلاغ المبين. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خُلُقُهُ القرآن في خطابه وبيانه، كما كان خُلُقَهُ في كل شيء([3] (http://alfetria.com/forum/#_ftn3)).



[1] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref1) ن. تفصيل ذلك في تفسيري الطبري وابن كثير.

[2] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref2) رواه الدارقطني في الأفراد، و الخطيب في التاريخ عن أبي هريرة. كما رواه الخطيب في التاريخ عن أبي الدرداء أيضا. وقد حسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. حديث رقم : 2328.

[3] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref3)مشهور حديث عائشة - رضي الله عنها - في حقه صلى الله عليه وسلم أنه: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم.

نور الإسلام
05-06-2014, 07:41 AM
المجلس الثالث



في مقام التلقي لعزيمة البلاغ المبين شهادةً واستشهاداً




1- كلمات الابتلاء:

وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ(21) وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ(23) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ(24) إِنِّيَ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزِلِينَ(28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!(30)


2- البيان العام:

ههنا يبلغ القص القرآني لهذه الواقعة أوجه! ههنا تتدفق المحبة الخالصة دماءً تروي مقام المعرفة بالله توحيداً وإخلاصاً! ههنا تخرس كلمات الشراح والمفسرين، وتنجذب القلوب واجفة إلى مقام المشاهدة! حبيب النجار رجل من أهل أنطاكية، رجل من عامة الناس، لكنه رجل ليس كأي رجل، إنه فحل من فحول الإيمان! بلغته دعوة الرسل الثلاثة، فعرف الحق وآمن، ثم لبث يتلقى أنوار الهدى. كان يسكن بعيدا في أطراف المدينة. اشتغل بعبادة الله والتعرف إليه تعالى؛ حتى تجلت عليه أنوار الحكمة الربانية؛ فتدفقت على جنانه ولسانه. عرف ربَّه فأحبه! فسلك إليه عبر العبودية الخالصة، يَحْدُوهُ الخوفُ ويَشُوقُهُ الرجاء، وتؤرقه مواجيدُ المحبة!

بلغه خبر الجريمة الكبرى؛ من عزم طغاة أنطاكية على قتل رسل الله! فانتفض فزعا! وانطلق من هنالك، من أقصى المدينة، انطلق إلى مَلَئِهِمْ يُسرع الخطى بشجاعة نادرة، متوجها كالسهم إلى حيث اقتيد الرسل للقتل! ما كان أحد يتصور أن يتدخل امرؤ للدفاع عنهم، ولإعلان كلمة الحق! كيف وها السيف الفاجر مصلت؟ كيف وها الطغاة جبابرةٌ عتاة! ولكن جذوة الإيمان في قلب حبيب أشد التهابا! وحر المحبة في قلبه أشد من حر السيف ونار التعذيب! فلا صبر على المنكر إذا نادى منادي الشهادة! وما هي إلا لحظات حتى توسط الرجل ناديهم الظالم، وكانت المفاجأة الكبرى!.. ها هو ذا يكشف عن وجهه المتوهج بالنور، ناظرا مرة إلى ملأ الطغاة، وناظرا أخرى إلى الرسل الثلاثة، ثم إخرى إلى جموع المستضعفين! فما أعظمها من مناسبة أن يتركها كلمة خالدة في أذن الزمان، تمتد أنوارها إلى يوم القيامة! وما أعظمها من مناسبة أن يلقيها ذكرى في قلوب المستضعفين، يبلغها الشاهد للغائب؛ عسى أن تستيقظ القلوب الواجفة من غفلتها، وتخرج من خوفها الوهمي! وليكن دمُه - بعد ذلك - ثمنا لظهور الحق وانتصاره، ولانتشار الهدى بين الناس، وليهنأ هو بعدها بالمصير الكريم، شهادةً يَحْيَى بها ولا يموت أبداً!

وانطلق الشهيد يلقي خطبته الرفيعة ويعلن بلاغَه المبين، ويؤدي شهادتَه الملتهبة:

(قَالَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ! اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ! وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ! إِنِّيَ إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ! إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!)

كانت الكلمات من القوة بحيث تربك الطغاة إرباكا، وتفتح بصائر المستضعفين على الحقيقة بَيِّنَةً ناصعة! فهؤلاء الطغاة الذين يهمون الآن بقتل الرسل، يسمعون نداءً شديداً وأمراً قويا باتباع الهدى الذي جاء به المرسلون! بدل البوء بجريمة قتلهم، وهم رسل الله رب العالمين! فهؤلاء هم المهتدون وهم الذين على الحق! يبلغون رسالات الله ولا يتقاضون على ذلك أجراً إلا أجر الآخرة! ويلتفت حبيب النجار إلى نفسه ليجعلها مَثَلاً – وقد كان من أول المؤمنين – ويوجه إليها سؤالا إنكاريا شديداً، القصد به أن يقرع قلوب الطغاة الكفرة، ويكسر أغلال المستضعفين: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟) وإنه لحجاج قوي مبين! كيف لا أعبد الذي خلقني أول مرة؟ وعلى غير مثال سابق! أي أنه - جل جلاله - أبدع خلقي إبداعاً! وذلك معنى الفطر. وحجة الخالقية هي أعظم حجة رحمانية على الخليقة كلها! ولذلك فقد توجه الداعية حبيب إلى الملأ مناديا: فمن منكم له مثل هذه الخاصية المعجزة؟ وأَيٌّ من هذه الأحجار الصماء البكماء يصنع مثل ذلك؟ ثم إنكم أيها الملأ جميعا لميتون! فمن لم يمت اليوم مات غدا! وإلى الله وحده المرجع والمصير الذي لا محيد عنه أبداً! فتلك حقيقة يوم الحساب الذي ينتظركم أيها الكفرة الظلمة! ثم كيف لي أن أتخذ من دون هذا الخالق العظيم آلهة زور وبهتان؟ أي جهل هذا وأي سفه؟! كيف؟ ولو قضى الله عليَّ بضر فإن أصنامكم لا تستطيع كشف شيء منه عني أبداً! لا بذاتها ولا بشفاعتها عند الله! لأنما هي أحجار صماء، غدا ستكون هي نفسها حطبا لجهنم! فالفاعل في هذا الكون إنما هو الله رب العالمين وحده! هو الخالق له، وهو المدبر له، وهو الراعي له، هو الحي القيوم، القائم على كل نفس وعلى كل مخلوق في السماوات والأرض! لا يغيب عنه شيء ولا يعجزه شيء سبحانه جل جلاله! ولو أنني اتخذت آلهة من دون رب العالمين، فمعنى ذلك إذن أنني في ضلال مبين! وأي ضلال أبين من العدول عن توحيد خالق كل شيء إلى ظلمات الشرك ومتاهاته، واتخاذ الأوثان والأصنام - الحجرية أو البشرية - أربابا من دون الله الواحد القهار!؟ ألا ذلك هو الضلال المبين حقا! كلا! كلا! بل أنا مؤمن بالله مصدِّق بما جاء به رُسُلُ الله! ثم التفت الرجل بقوة إلى الرسل الثلاثة وهو يعلن بصوت عال في الملأ كلهم: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) كلمة أَشْهَدَ الرسلَ عليها؛ توثيقا لإيمانه – وهو يرى خناجر الغدر تمتد إليه بسرعة - فأعلنها كلمة حق في العالمين!

كانت الكلمات أقوى مما تطيقه آذان الطغاة الكفرة! وكانت أشد مما يتحمله كبرياؤهم العنيد! فما استطاعوا سماع المزيد! أما حبيب فقد كفى وشفى! وبَلَّغَ على أتم ما يكون البلاغ، وألقى في الجموع ما يكون ذِكْرَى: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(سورة ق: 37) ولذلك ما أن وصل الرجل قمة بيانه وأوج استدلاله، فتبين الحق أبلج لذي عينين؛ حتى انقض عليه الطغاة طعنا فأردوه على التو قتيلا! كلا! بل شهيداً يحلق من لحظته تلك في فضاءات الرضى الرباني الكريم! وكانت البشرى عظيمة! وكان المقام رفيعا! فالله أكبر ولله الحمد!

وما أن فاضت روحه الطاهرة حتى سَمِعَ الإذن الإلهي الكريم، تبشره به الملائكة أن: "اُدْخُلِ الجنَّة!" فدخلها مباشرة! ولا رأى بعدها من كرب أو ضنك، ولا حتى ذاق عنت لحظة انتظار! بل طار على التو بين أشجار الجنان وأنهارها، يسرح حيث يشاء، حيا كريما، يرزق بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!([1] (http://alfetria.com/forum/#_ftn1))


فلله دره من رجل! كان كريما في حياته الأولى، وكان كريما في حياته الآخرة! فلم ينس قومَه وهو في الجنة، ولا ترك الشفقة عليهم، حتى ولو أنهم قتلوه ظلما وعدوانا! فبدل أن ينتقم منهم بالدعاء عليهم تَأَوَّهَ متحسرا عليهم! وتَمَنَّى: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ!) وكأن في نفسه شيئا من تتمة خطابه الذي ألقاه فيهم قبل لحظات، يريد إتمامه الآن..! الله أكبر! أي رجل هذا؟ بل أي مؤمن صِدِّيق هو؟ وأي مخلص لله على أتم ما يكون الإخلاص!؟ يا ليت! يا ليت! نداء تمن وحسرة! يا ليت قومي يعلمون بما صرتُ إليه من رحمة الله، غفرانا شاملا لما تقدم من ذنبي وما تأخر، وكرما فياضا من لدن رب غفور رحيم! آه لو علموا لتبرؤوا من شركهم ولصاروا مؤمنين! عسى أن يغفر لهم الله كما غفر لي، وعسى أن يكرمهم كما أكرمني! فنلتقي ههنا أجمعون! فيا ليتهم يعلمون!

وتنتهي قصة حبيب النجار ببيان سُنَّةٍ ربانية ثابة! هي عبرة للمؤمن وحسرة وندامة للكافر! وذلك قوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزِلِينَ. إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ! يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!)

لكنَّ الأسف الكبير أن الإنسان قلما يتعظ بسنن الله في التاريخ! ويظن أن ما مضى لم يكن ليتكرر أبدا! بينما الحياة اليومية تشهد أن سنن الله في الاجتماع البشري ثابتة لا تتبدل ولا تتحول! والإنسان الضال أعمى لا يبصر منها شيئا! فيا لخسارة البشرية! ها هي ذي تضرب في تيه الظلمات، ومنادي الرحمن على رأسها ينادي أنْ: هذا نور الله فوق رأسكِ على مد ذراع؛ فَاقْدَحِي زِنَادَ الإيمان تَسْتَنِرْ لك الطريقُ، محجةً بيضاء ليلها كنهارها! ولكنْ وَا أسفاه! أين من يمد يده!؟ فالمؤمنون هم القليل أبداً! (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ!)( سبأ: 13)

فما من رسول أرسله الله إلا كذَّبه قومُه، ولقي منهم عنتا! وما من قوم غلب كفارهم على مؤمنيهم إلا أهلكهم الله وقطع دابرهم! سنة الله التي لا تتبدل أبداً! (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا!)(الفرقان: 39)

والتتبير هو الإبادة الشاملة التي تقطع دابر القوم ونسلهم إلى الأبد! وتلك كانت عاقبة أهل القرية الذين قتلوا حبيب النجار الصديق الشهيد! فكان ذلك يوما من أيام الله! قال جل جلاله: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ. إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ!) أي: وما أنزلنا ملائكة القتال من السماء لتعذيب هؤلاء الطغاة، وما كنا منـزلين لها على الأمم التي قضينا عليها بالهلاك العام، بل نبعث عليهم عذابًا شاملا يدمرهم ويقطع دابرهم! فما كان هلاك هؤلاء إلا بصيحة واحدة، فإذا هم موتى هالكون! والخمود: انقطاعُ النفَس وانعدام الحركة!

وهذا من عجيب أمر الله وحكمته البالغة. فهو - جل جلاله - قد أنزل ملائكة القتال نصرةً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ تخويفا لكفار قريش وتثبيتا للمؤمنين! وقد عَلِم سبحانه أن بعضا ممن قاتل رسولَه في بدر من الكفار، سيسلم قريبا ويقاتل معه يوم أحد! وأن كثيرا ممن قاتله في أُحُدٍ سوف يسلم في نهاية المطاف – بعد الفتح أو قبله - وينصر الله به الدين في مواطن عديدة، في عهد النبوة وبعدها! فكانت الملائكة لذلك لا تقتل إلا من قَدَّر الله ألا يسلم أبدا! وربما لم تقتل أحدا وإنما أفزعت القوم إفزاعا؛ فيكون النصر بذلك للمؤمنين. فهي لا تنـزل إذن للإبادة الجماعية. بل إذا أراد الله أن يقطع دابر قوم فإنه - جل جلاله - إنما يرسل عليهم عذابا سريعا – وربما امتد أياما - يفنيهم عن آخرهم! كما وقع لقوم نوح، ولعاد، وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وغيرهم كثير، نعوذ بالله من عذابه وعقابه! قال جل جلاله: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا! وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ!)(العنكبوت: 40).

والصيحة نزلت بهؤلاء القوم كما نزلت بمدين قوم شعيب، وبثمود قوم صالح، ونزلت أيضا بقوم لوط مع الخسف والرجم بالحجارة! والعياذ بالله!
والصيحة صوت عظيم يقع على القوم الظَّلَمة من السماء كالصاعقة، فيزلزل الأسماع بما لا تطيقه الأعصاب؛ حتى يهلكوا عن آخرهم! قال ابن كثير رحمه الله: (قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم! لم يبق فيهم روح تتردد في جسد!)([2] (http://alfetria.com/forum/#_ftn2))

سُنَّةَ الله في الذين طغوا في الأرض وسخِروا من أمر الله العظيم! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!) وإنه لتعبير قرآني عجيب! إنه يحكي شعور المؤمن العالم بالله وبأمره؛ إذ يرى إصرار البشرية على الضلال والتيه! ويرى المآل المأساوي الرهيب الذي ينتظرها؛ فلا يملك إلا أن يتأسف ويتحسر! كما يجوز أن يكون المعنى أنه يحكي حسرة الكفار على أنفسهم وندمهم على ما سخروا من الرسل وكذبَّوا؛ لَمَّا عاينوا عذاب الله يوم القيامة!([3] (http://alfetria.com/forum/#_ftn3)) والأول أنسب للسياق، فهو تعبير دال على الأسف على هلاك القوم وخسرانهم، تتميما لقول حبيب النجار: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) فهو أسف وحسرة محكية عن المؤمن المتدبر لحالهم، الناظر في مصيرهم! كما في قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ! إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ!)(فاطر: 8) فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأسف ويتحسر على إصرار الكفار على كفرهم؛ لِمَا جعل الله في قلبه – عليه الصلاة والسلام - من الرحمة والشفقة الشديدة. فأرشده الله تعالى إلى أن أمثال هؤلاء لا يستحقون ذلك! وكذلك قال تعالى - من قبل - في حق إبراهيم عليه السلام: (فَلَمَّاذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ! إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ!)(هود: 74-75)

تلك كانت قصة حبيب النجار ومآلاتها الجليلة، وما حكم الله به بينه وبين قومه! إنها قصة رجل أدمن الإيمان حتى تعلق قلبه بالله، ثم تدفقت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه! فكان مثلا ربانيا لِخُلَّصِ الدعاة المؤمنين، وصارت قصته قرآنا يتلى إلى يوم القيامة! وإنها لقصة تنبض بما لا ينحصر من رسالات الهدى، ما يضيء ظلمات هذا العالم كله لو أشعلت البشرية منها قنديلا واحدا!


3-الهدى المنهاجي:

وهو ينقسم إلى إحدى عشرة رسالة هي كالتالي:


- الرسالة الأولى:


في أن البلاغ المبين ليس في زخرف القول، ولا في ترصيف الجمل وتنميق العبارات، وإنما هو في إصدار الكلام الصادق الذي ينبض بالحياة، الكلام الذي ينبع من أعماق القلب، فلا تفارقه حرارة الوجدان ومواجيد المحبة والإخلاص، حتى يقع في قلوب السامعين غضا طريا! فالبلاغ المبين هو تعبير عن حرارة الإيمان ومكابدة القرآن، في زمن التيه والضلال! حرصا صادقا، وإشفاقا خالصا، على جموع التائهين، وقوافل الضالين، وقياما بحق رب العالمين!


- الرسالة الثانية:


في أن البلاغ المبين – بهذا المعنى - هبة من الله تعالى، هبة يتلقاها الداعية على قدر إخلاصه وعلى درجة إيمانه! وليس صناعة كسبية يستدعيها متى شاء! فإن كان فيها شيء من هذا فبالتبع لا بالأصالة! وقد حدث ذات يوم أن قُدِّمَ رجلٌ صالح لوعظ الناس في مجمع، لكنه لم يكن قد تعلم من بلاغة الخطاب شيئا، حتى إذا استجاب بعد إلحاح شديد عليه من بعضهم؛ نظر في الجمع لحظة، ثم بكى حتى بلغ الناسَ نشيجُه، ولم ينبس بكلمة! فبكى الجمع كله ببكائه! وكان ذلك أبلغ خطاب وأنصع بيان! وبالمقابل قد نرى آخرين يتصدرون المجالس، ويعتلون الكراسي، يرصفون الكلام ترصيفا، وينمقون التعبير تنميقا، لكنهم لا يَلقون قبولا ولا ترحيبا؛ لأن مفاتيح القلوب بيد الله وحده، لا يفتحها إلا للصادقين!


فالبلاغ المبين قبل أن يكون خطابا هو شعور! والشعور لا يُكْتَسَبُ، ولكنه يُتَلّقَّى من الله، على قدر تفاني العبد في محبته تعالى وطلب رضاه! وذلك هو أساس الطريق إلى القلوب.


- الرسالة الثالثة:


في أن المحبة الخالصة من أهم أسباب القوة والشجاعة، فعلى قدرها تكون عزيمة المرء في خوض غمار البلاء! وقديما قالوا:"من عرف ما قصد هان عليه ما وجد!" وقال آخر مناجيا ربَّه عز وجل:


لقد وَضَحَ الطريقُ إليكَ قَصْداً *** فما أحدٌ أرادكَ يَسْتَدِلُّ

فإنْ وَرَدَ الشتاءُ ففيكَ صَيْفٌ *** وإنْ وَرَدَ الْمَصِيفُ فَفِيكَ ظِلُّ!


فمن عرف ربَّه حق المعرفة، تعلق به قلبُه رَغَباً وَرَهَباً، وسعى إليه محبةً وإجلالا! فالله جل جلاله رب كريم! له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، تجمَّلَ سبحانه بخصال الكمال، وتنَـزَّهَ عن النقص والمثال! وأفاض على عباده بالنعم خَلْقاً ورزقاً ورعايةً، ثم أرسل رُسُلَهُ الكرام بالهدى والنور؛ لبيان الطريق إلى تفريد جماله وجلاله! (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ!)(الأنعام: 102)


فمن نظر إلى ذلك ببوارق الصدق، وسعى إليه عبر منازل الإخلاص؛ امتلأ قلبه محبة ويقينا، فباع نفسه لله، وصار له عبدا حقا! ثم أكرمه الله تعالى بعزيمة الصِّدِّيقِينَ!


ولقد أكرم الله عددا من الصحابة الكرام بهذا المقام العظيم، منهم الصحابي الجليل خُبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من أصحابه إلى قريش، فغدروا بهم وقتلوهم من بعد ما أعطوهم الأمان! فلما رأى خبيب أنهم قاتلوه أنشد:


وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ([4] (http://alfetria.com/forum/#_ftn4))



ومنهم أيضا: حَبيب بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه، الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسيلمة الكذاب، فغدر به وقتله! فقد روى الإمام الطبري بسنده أنَّ كعب الأحبار - رضي الله عنه - لما (ذُكِرَ له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار، الذي كان مسيلمةُ الكذابُ قَطَّعَهُ باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم! ثم يقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع! فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول: نعم! فجعل يُقَطِّعُهُ عُضْواً عُضْواً، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه! فقال كعب: - حين قيل له: اسمه حَبيب – "وكان والله صاحبُ يس اسمه حَبيب!")([5] (http://alfetria.com/forum/#_ftn5))


ما كان لهؤلاء جميعا أن يهرقوا أرواحهم بهذه الطرق الشجاعة، ولا أن يشهدوا تعذيبهم وتقتيلهم البطيء على ثبات عجيب، ولا أن يتفانوا في نثر أشلائهم شلوا شلوا على بساط استشهادهم الطاهر، لولا ما سكن قلوبَهم من وهج الإيمان التحقيقي، ونور المحبة الكاشف لهم عن جلال المقام الإلهي العظيم وجماله! فأولئك هم الأولياء صدقا، وأولئك هم السادة حقا! (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ!)(البقرة: 165)


- الرسالة الرابعة:


في أن الدعوة إلى الخير، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، تقتضي المسارعة والمبادرة. وذلك هو مقتضى الإيمان الصادق، فالمحب السائر إلى محبوبه لا يعرف التثاقل في طريقه ولا التراخي، بل يقطع المسافات سعيا! وكيف لا؟ والقلب قد التهبت مواجيده بأشواق الوصول، وتعلقت آماله بنيل الرضى والقبول..! وقد جاء حبيب النجار من أقصى المدينة يسعى! والسعي: سير سريع أقرب إلى العَدْوِ! جاء يسعى غيرةً على محبوبه، ودفاعا عن حماه حتى نال ما نال من كرم الشهادة!


ومن ثَمَّ فالداعية الصادق لا يتأخر في طريق دعوته، ولا يتوانى عن إجابة داعي الخير كلما دعا، بل يبادر إليه ويسارع، ويجعل تلبية ندائه أول همه ومسعاه. فتلك صفة الصالحين حقا التيبها نالوا مقام القبول عند الملك الكريم: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ!)(آل عمران: 114).


- الرسالة الخامسة:


في أن من تمام الحكمة أن تدخر الكلمة المناسبة للموقف المناسب زمانا ومكانا! وأن مواجهة الباطل بالقوة قد تكون جهادا واستشهادا وقد تكون فتنة وتهورا! والضابط في ذلك أمران اثنان هما:


- أولا: التحقق من إخلاص العمل لله نيةً وقصدا، فكثير من التهورات المدمرة المسماة اليوم (جهادا) إنما تكون مدخولةً بهوى خفي وعُجْبٍ شقي؛ فتنقلب فتنةً على صاحبها وعلى الناس!


- ثانيا: تحري الحكم الشرعي الصحيح في العمل! ولا يكون ذلك إلا بمراجعة أهل العلم، ممن اشتهر بتخصصه الشرعي، وورعه الديني وفضله الخُلقي، من العلماء الأتقياء الناصحين الفضلاء، فهم أهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور. ولا يُرَاعَى في ذلك صاحب الرأي الشاذ، ولا قول من لم يتمرس بفقه النصوص واستنباط أحكامها، ولو كان من حفاظ المتون! فإنما العلم فَهْمٌ عن الله ورسوله. وهذا أمر يلتبس على كثير من الناس! وهو واضح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ! وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً!)(النساء: 83).


- الرسالة السادسة:


في أن التعريف بالله من أهم عوامل نجاح الخطاب الدعوي. وإنما الغفلة تقع للناس بسبب نسيانهم ربَّهم الذي خلقهم، فبدل أن يعبدوه يعبدون أهواءهم! (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ!)(سورة الحشر: 19) فالتعريف بالله - جل جلاله - وبحقوقه على العباد، وما له عليهم من حق الإخلاص والتوحيد؛ بما خَلَقَ ورَزَقَ ورَعَى وهَدَى، هو أساس خطاب الأنبياء جميعهم. وأن له سبحانه يوما – هو اليوم الآخِر بمآلاته - لعرض ذلك كله جميعا. فمن عَرَفَ اللهَ خاف مقامَه! وذلك هو مضمون خطبة حبيب النجار.


- الرسالة السابعة:


في أن نصرة المؤمنين المستضعفين - متى ما تبين صدقهم وإخلاصهم - واجبة على المسلمين عامة، وعلى الدعاة منهم خاصة! فلربما تعرض المسلمون أو الدعاة، إلى الأذى في الله، بهذا البلد أو ذاك، فإذا تبين أنهم أهل صدق في سيرهم وعملهم، وتحققت مظلمتهم، بمعنى أنهم ليسوا أهل فتنة وأهواء؛ فقد وجبت نصرتهم! ولو كلفت ما كلفت من المشقة! هذا هو الأصل الجاري في الدين، والأمر العام المستمر فيه. اللهم إلا إذا تبين لأهل العلم أمر آخر؛ لفقهٍ خاص بنازلة معينة، فيتصرفون على غير الأصل؛ مراعاةً للمآل والمصلحة الشرعية الراجحة في تلك المسألة. لكنهم لا يخرجون عن إحدى المراتب الثلاث من مراتب النصرة: النصرة باليد أو باللسان أو بالقلب. سواء كان ذلك سرا أو علنا، على حسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية، التي يحددها العلماء الحكماء.


- الرسالة الثامنة:


في أن إعلان الإيمان والالتزام بالدين - حيث يكون الإعلان دعوةً إلى الله وتترجح حكمته - من أهم أسباب التقرب إلى الله، ولو أدى ذلك إلى ما أدى إليه من المشقة؛ لما فيه من مصلحة انتشار الهدى وانتصار الحق. وقد سنَّها حبيب النجار كلمةً باقية في عقبه إلى يوم القيامة، عندما صاح في الملأ: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) فإعلان الدين هو الأصل.


وقد شرع الإسلام بعض الشعائر على هذا الأساس مثل الأذان، وصلاة الجماعة بالمساجد، والحج، وغيرها من الشعائر الإعلانية، فالأمر المعلن أقرب إلى الحفظ والاستمرار. ولذلك كان إعلان المرء إسلامه والاعتزاز به أصلا بذاته؛ لما فيه من نصرة الدين وتكثير سواد المسلمين. خاصة في الظروف الحرجة حيث يكون الاضطهاد والظلم لاحقا بالمسلمين عامة، وبالمؤمنين المتدينين منهم خاصة! كما هو واقع بعض البلدان اليوم.


وقد كان الصحابي الجليل بلال رضي الله عنه – كما هو مشهور في السيرة – يُعَذَّبُ بالحجر الصلد في الرمضاء بمكة؛ رجاء أن يتراجع عن دينه، لكنه يعلنها أمام جلاديه بقوة: "أحَدٌ أحَدٌ!" تلك هي العزيمة. وللرخصة محالها المعروفة في مثل قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(النحل: 106). ولا خلاف في أن الأجر على قدر المشقة! اللهم إلا أن تدعو المصلحة الشرعية إلى خلافه استثناء من الأصل. فتلك مقادير يقدرها أهل العلم. وإنما العبرة ههنا بالأصول التربوية الكلية الجارية على العموم.


والمشكلة أنه ربما أخفى بعضُهم دينَه أو صلاتَه؛ خوفا من مجرد السخرية – فقط - اللاحقة بالمتدينين في بعض البيئات المغتربة والأوساط العلمانية الفاجرة! وهو قطعا خلاف الأَوْلَى. بل وجب أن يعلنها بقوله وسلوكه، كما أعلنها حبيب: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) وإلا فلو تَخَفَّى كل ذي دين بدينه لاندثر الهدى والصلاح في المجتمع! وتلك أسوء مفسدة قد تلحق بالأمة! ولذلك قال الله جل جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ!)(فصلت:30). فقوله تعالى: (قَالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي: صرحوا بتوحيده والتبرء مما سواه، كما هو في أغلب كتب التفسير. والأصل في القول الإعلان. ويشهد لذلك أحوال الصحابة الذين أوذوا في الله في المرحلة المكية وبعدها. فقد كانوا يعلنونها وسط نوادي قريش إعلانا! فهم إذن قد أعلنوا إيمانهم بالله وتوحيدهم له جل علاه وأظهروه إظهارا! وهو من مقتضيات قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنتُ بالله ثم استقم!)([6] (http://alfetria.com/forum/#_ftn6)).


- الرسالة التاسعة:


في أن على الداعية أن يتخذ الشفقة على الناس، والرحمة بهم، والحرص على نجاتهم، مسلكا لخطابه ومعاملته لهم. فقد كان أول خطاب حبيب النجار في ملأ الطغاة قوله: (يَا قَومِ!) بما في هذا النداء من الاحتضان العاطفي، واللطف والعطف والإيناس. وقد بقي ذلك هو شعوره حتى بعد قتلهم إياه كما تبين من قبل! فكان نداؤه المتأسف المتمني: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا آذاه قومه قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ!) ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ!)([7] (http://alfetria.com/forum/#_ftn7)) وهو مقتضى قول الله تعالى في محكم كتابه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة: 128). وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران: 159).


- الرسالة العاشرة:


في أن على الداعية أن يحرص على التبرؤ من شهوات الحياة الدنيا والتقلل من متاعها، وألا يجعل لنفسه حظا دنيويا يجنيه من دعوته! فالدعوة الصادقة إنما هي الخالصة لله! لا مطمع فيها ولا مغنم، ولا غاية إلا ابتغاء وجه الله ورضاه، والاجتهاد في أداء حقه العظيم، دعوةً وبلاغاً. وقد كانت أول حجة حبيب النجار على قومه قوله: (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ!) كما أن الله - جل ثناؤه – قال لرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً!)(الفرقان: 57) فمعنى ذلك أن هذا يجب أن يكون واضحا في ذهن الداعية والمدعويين على السواء! فهي سبيل واحدة ترتقي مدارجها عبر منازل الزهد والإخلاص، سيرا إلى الله وحده دون سواه. وأن أي انحراف عنها فمعناه خسران الداعية حالا ومآلا؛ إلا أن يتغمده الله برحمته!


- الرسالة الحادية عشر:


في أن الله - جل جلاله - مطلع على عباده كلهم، يشكر لمحسنهم، ويمهل مسيئهم حتى تقوم عليه الحجة، فإذا تمادى في طغيانه أخذه أخذ عزيز مقتدر! فَمُدَبِّرُ أمرِ الهدى والضلال إنما هو الله تعالى، وأما الدعاة إليه سبحانه فإنما يقومون بوظيفة البلاغ. فلا يظنن أحد أنه هو الصانع لصلاح الناس والمانع لفسادهم! وإنما أسند الله الدعوة والبلاغ للمؤمنين ليبتلي الناسَ بعضهم ببعض. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً!)(الفرقان: 20).


وعليه؛ فمن أخلص العمل لله في الدعوة إليه تعالى، ليكن على يقين من أن الله - جل ثناؤه – يقربه وينصره! فهو تعالى رب شكور، لا يخذل عبده أبدا! فوجب على الداعية المخلص السَّعْيُ لتحصيل اليقين في معية الله تعالى له، فلا يفقد المشاهدة في أن الله إنما يسوقه للتي هي أحسن؛ ما دام قد صدق اللهَ، واجتهد وُسْعَهُ، واتخذ جميع الأسباب الشرعية في عمله. فليوقن أن كل ما يحدث له ولدعوته - بعد ذلك – من عسر أو يسر، إنما هو مراد الله، وأن الخير - كل الخير - هو في مراد الله. فلا يسيئن الظنَّ بالله أبداً!


4- مسلك التخلق:


البلاغ المبين إنما هو عزيمة! وأما مسلك الدخول في ابتلاءاته فهو راجع إلى تدشين سير تعبدي عميق، يفضي بصاحبه إلى مقام المشاهدة، الذي عنه تتولد منـزلةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وهي أعلى منـزلة إيمانية بعد النبوة. كذلك جاءت رتبتها – ذِكْراً - في قول الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)(النساء: 69)


وقد كان حبيب النجار صِدِّيقاً شهيداً. فالشهادةُ كانت مآلَه، والصدِّيقيةُ كانت حالَه ومقالَه. وكثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كذلك. وفيهم نزل قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(الأَحزاب: 23)


والصِّدِّيقِيَّةُ في ذاتها منازل ومراتب. وأبو بكر الصديق – رضي الله عنه – كان إمامَ الصِّدِّيقِينَ في هذه الأمة! وعلى الداعية أن يجعل هؤلاء الفحول نماذج يقتدي بها في دعوته؛ عسى أن ينال من صفاتهم ما يجعله على طريقهم، وإن لم يصعد إلى قممهم العالية([8] (http://alfetria.com/forum/#_ftn8)). فجبال الإيمان مدارج، كلما اجتهد العبد في مكابدتها ازداد رفعة وعلوا؛ حتى يكون من أهل العزائم بإذن الله؛ فَيُجْرِيَ الله على لسانه عزيمةَ البلاغ المبين!


وإن الطريق العملي لذلك إنما هو الصدق مع الله في القول والعمل، فلا يصدر المؤمن في شيء من ذلك إلا عن خالص الصدق، يتحراه تحريا في كل شيء. فلو صلى أو صام أو تصدق أو جاهد، لم يخط خطوة واحدة في فعله حتى يُخَلِّصَها تخليصا لله! فلا يتصرف في شيء من أمره إلا لله وبه! وذلك هو الصِّديق. فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ! فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً! وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ! فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا!)([9] (http://alfetria.com/forum/#_ftn9))



[1] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref1) عن أبن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة تحت العرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل! فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ فيفعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لم يُتْرَكُوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نرجع إلى الدنيا؛ فنُقْتَلَ في سبيلك مرة أخرى! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكُوا!) رواه مسلم.

[2] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref2)تفسير ابن كثير: 6/573.

[3] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref3) وهو الذي رجحه جمهور المفسرين. وقال القرطبي: (قال ابن عباس: " يا حسرة على العباد " أي يا ويلا على العباد! وعنه أيضا: حل هؤلاء محلَّ مَنْ يتحسر عليهم! وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد ههنا الرسل، وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: " يا حسرة على العباد!" فتحسروا على قتلهم وترك الإيمان بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان. وقال مجاهد وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل! وقيل: " يا حسرة على العباد " من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم لقتله. وقيل: إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قَتل القومُ ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحل بالقوم العذاب: يا حسرة على هؤلاء...) تفسير القرطبي: 15/23.

[4] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref4) رواه البخاري

[5] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref5) تفسير الطبري بتحقيق أحمد شاكر: 20/505. والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: 1/ 95.

[6] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref6) رواه مسلم.

[7] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref7) متفق عليه.

[8] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref8)عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ! لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ! فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ! يَعْنِي أَصْحَابَهُ. وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ! يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ! الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ! إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ! قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ! وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ! فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ! قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: "مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه"، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَالَ: إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا! فَرَضُوا بِالْأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ!") متفق عليه، واللفظ للبخاري.

[9] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref9) متفق عليه.


http://alfetria.com/forum/islamic-5/buttons/quote.gif (http://alfetria.com/forum/newreply.php?do=newreply&p=2904)

نور الإسلام
05-06-2014, 07:41 AM
المجلس الرابع


في مقام التلقي لمشاهَدات اليقين، سياحةً في عالم الملك والملكوت!




1- كلمات الابتلاء:

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ(31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32).وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ(34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ(36) وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ(37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ(42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ(43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ(44)


2- البيان العام:

هذه طبقة أعلى من البيان! طبقة لا يبلغها رسولٌ ولا صِدِّيقٌ ولا أي داعية! لأن هؤلاء جميعا يصدر بيانهم من موقع العبدية الخاضعة لله رب العالمين، ولو تفاوتت طبقاتهم في ذاتهم وبيانهم. أما البيان ههنا فهو صادر عن الذات العلية! والمتكلم ههنا – بلا حكاية – هو الله رب العالمين خالق الأكوان والناس أجمعين! يتكلم جل جلاله من عَلُ، عارضا لهيمنته على مُلْكِهِ ورعايته لخلقه؛ ولذلك فقد جاء الحجاج صادرا عن شؤون الربوبية مباشرة! بيانا لا يستطيعه مَلَكٌ ولا بشر، مهما بلغت منـزلته عند ربه! فكانت الآيات هي بيان حقائق القدرة الإلهية والعظمة الربانية، من مشاهد الْمُلْك والملكوت!

أجل، ههنا استأنف الحق تعالى تسفيه إصرار الكفار على تكذيب الرسل، وإنكار حقيقة البعث، وبدأ سبحانه بعرض الآيات البينات على بطلان أوهامهم! قال جل جلاله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟! وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ!) ألا ينظر هؤلاء المستهزئون إلى من قبلهم من الأجيال التي أهلكناها، أنهم لا يرجعون إلى هذه الدنيا؟ لكنهم جميعا سيحشرون مع البشرية كلها - أولها وآخرها - ليوم البعث، حيث سيتم إحضار كل نفس للمثول يوم الحساب بين يدي رب العالمين!

قال المفسرون: وفي الآية رد على الدهريين القائلين بالتناسخ والدَّوْرِ، الزاعمين أن الموتى سوف يبعثون في هذه الدنيا مرة أخرى ولا وجود للآخرة!([1] (http://alfetria.com/forum/#_ftn1)) فبين الحق أن البعث إنما هو بعث واحد لا موت بعده، وهو يوم الجزاء! الذي تتفرق فيه البشرية – بعد قضاء الحق بين العباد - إلى مصيرين اثنين لا ثالث لهما: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير!)(الشورى: 7). جعلنا الله من أهل النجاة برحمته!

ثم شرع سبحانه في عرض مشاهد عظيمة من شؤون ربوبيته، تدل بقوة على قدرته تعالى على البعث والإحياء؛ بما يقطع شك المترددين ويخرس ألسنة الجاحدين! قال جل جلاله: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟)

وآيةٌ لهم! والآية: هي العلامة الواضحة الدالة على أمر بقوة. وكما أن القرآن علامات، فإن الكون كله علامات على طريق البشرية.. فمن ذا يفتح بصيرته على مَشَاهِدِهِ ويقرأ؟

والإحياء آية من أعظم آيات الله في هذا الوجود! وهو سر من أدق أسرار الخلق، وله تجليات شتى لا تكاد تنحصر. والإنسان عاجز عن إدراك كنه الحياة وجوهرها، رغم أنه يتنفسها صباح مساء! وإنما الذي نعرفه هو بعض تجلياتها فقط، كالحركة والنمو وما شابه هذا وذاك؛ لأن الحياة سر من أسرار الحي الذي لا يموت! يهبه لمن يشاء وينـزعه ممن يشاء. ومن ثَم يفتح القرآن عيوننا على هذه الحقيقة العجيبة، التي ينكرها الكافر بجهله وطغيانه، فينكر البعث والنشور! ويضرب لنا إحياء الأرض الموات مثلاً.

والأرض تموت نعم، يغور ماؤها ويُحْتَطَبُ شجرها، وينقرض نباتها فتذروه الرياح، فلا يبقى بها أثر لخضرة، ثم تتصحر ويهجرها أهلها! وترحل عنها الحيوانات البرية والطيور! فلا يبقى بها أثر لحياة! لقد ماتت! وقد تبقى كذلك عدة أجيال! وربما مر بها عابر سبيل فيقول: أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها!؟ حتى إذا أراد الله إحياءها أنزل عليها ماءها غيثا متواترا، لا يدعها حتى يبعث فيها الحياة من جديد غضة طرية! فتنهض كأجمل وأقوى ما يكون ريعان الشباب حيوية وجمالا! ثم يعود إليها أهلها بعد هجرة طويلة، يُجْرُونَ عيونها المتدفقة، وأنهارها المترقرقة، ثم يزرعون ويغرسون، فإذا بالحقول ممتلئة حَبا وبركة، وإذا بالجنات والبساتين تتدلى أغصانها بمختلف الفواكه والثمار، وإذا بالطيور تملأ الفضاء هديلا وتغريدا! وإذا بالروابي تستعيد صيدَها ومرعاها.. ويمر عابر السبيل مرة أخرى فيقول: كأن الموت ما مر من هنا قط!

كل ذلك؛ إنما هو تسخير للعباد من الرحمن، ورزقٌ لهم من فيض رحمته جل جلاله، لا حول لهم فيه ولا قوة! عساهم يشكرون ويعتبرون، ويشهدون أن الله الذي أحيى هذه الأرض، قدير على إحياء كل موات متى شاء. بما في ذلك الإنسان وسائر الحيوان! ولذلك فالمؤمن العالم بالله، المتدبر لأحوال الأرض واختلاف تجلياتها بين موتها وحياتها، لا يملك إلا أن يسبح بحمد ربه! ومن ثَم جاءت تتمة السياق - تعليقا على هذا المشهد العجيب - قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ!)

والتسبيح تنـزيه، فهو تعالى تنـزه عن العجز الذي يصفه به الكفرة، حيث يقولون باستحالة البعث! بل هو تعالى الذي خلق الأزواج كلها، من النبات والإنسان وسائر الحيوان، ومما لا يعلم وجوده أو طبيعته إلا الله! فهو سبحانه الذي جعل الحياة في كل تلك الخلائق والأنواع، وأودع فيها سر استمرارها بالتزاوج والتناسل. وقد انفرد سبحانه بالخلق؛ فأنَّى يوصف بالعجز، وأنَّى يكون له شريك؟ ألاَ سبحانه وتعالى عما يصفون!

ثم يلفت الحق تعالى نظر الإنسان إلى الفَلك الدائر به وفيه، وما حوله من كواكب ونجوم، سخرها له تسخيرا. لولا وجودها لاستحالت حياته في الأرض! قال جل جلاله: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!)

والتعبير بالسلخ هنا تعبير عجيب، فهو نزع غشاء أو غطاء، كما يُسلخ جلد الدابة عن جسدها! مما يدل على أن الليل هو الأصل، وأن هذا الكون وجود مظلم! وإنما يشرق ما يشرق منه؛ بما جعل الله فيه من أجرام نارية وسُرُجٍ مشتعلة، قال تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا!)(نوح: 16) وقال: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا!)(النبأ: 13) ولولا ذلك لظلت الأرض في ظلام دامس رهيب! قال سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ؟)(القصص: 71) وما من نور أو ضياء إلا وهو مستمد من نور الله العظيم، إذ هو: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ!)(النور: 35)

وكما أن النهار نعمة لا تقدر بثمن، فكذلك الليل نعمة لا تقدر بثمن! ولا يمكن للمؤمن المتدبر لتعاقبهما إلا أن يستجيب لله بديع السماوات والأرض بالتوحيد والتفريد؛ حمداً لآلائه وشكراً لنعمائه!

وكل ذلك - أجراما وأفلاكا وحركات - مخلوق إلى أجل معلوم بِقَدْرٍ معلوم! مُحْكَمٌ بعلم الله ومحكوم بقدرته، لا يعزب عنه تعالى شيء، ولا يخرج عن قبضة سلطانه وجلال عزته شيء! فالشمس، هذا النجم الكبير الضخم المتفجر الملتهب، الذي يفوق حجم الأرض أضعافا مضاعفة، هي أيضا تجري في فلكها العظيم، سابحة في فضاء الله الفسيح، إلى قَدَرِها الذي قدره الله لها، وميقاتها الذي جعله الله لها! والقمر هذا الكوكب المنير، الذي يستمد نوره من الشمس، يتنقل في دورته عبر منازل مُقَدَّرَةٍ بعلم الله ودقة صنعه البديع! بدراً كاملا ثم أهِلَّةً تختلف أشكالها وأحجامها منازل، ما بين لحظة الولادة ولحظة الأفول، حيث ينتهي إلى ما يشبه شكل عرجون النخلة القديم؛ يما يبدو عليه من شحوب وذبول!

وكما يتعاقب الليل والنهار في تداولهما على حياة الأرض؛ تتعاقب الشمس والقمر في إنارتهما للأرض أيضا، تعاقبا يجعل لكل منهما دوره الخاص به، نورا أو ضياء، فلا أحد منهما يُفسد دور الآخر أو يبطله، بل لكل منهما منـزله أو فلكه الخاص به. وهما يجريان في أفلاك متباعدة مستقلة ولذلك قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!) فالشمس المشتعلة تمد القمر، وتجعله كالمرآة يعكس ضوءَها نورا هادئا جميلا، ثم يرسله إلى الأرض ليلاً عبر منازل معلومة، في دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. فالشمس تخدمه ولا تزاحمه، بل إنه يؤدي وظيفته كاملة بالمقادير والمنازل التي جعلها الله له. وكما أن للقمر وظيفته المكفولة بتقدير الله العزيز العليم، فإن للشمس أيضا وظيفتها المكفولة بتقديره تعالى؛ حتى إذا استدارت الأرض نحو الشمس، انفجر ضوؤها على صفحتها الأخرى، فَجْراً يسوق بين يديه النهار قهراً بإذن الله! أي أن ظلام الليل ينقشع بين يدي ضوء الشمس انقشاعا حتميا، ولا حيلة له في التخلص منه والانفلات! بل إنه يندثر قَسْراً! وذلك لما جعل الله من سلطة عجيبة للضياء على الظلام! وهو معنى قوله تعالى: (وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ!) فالسبق هنا بمعنى: الغلبة والتخلص والانفلات. وهو من معانيه في العربية، على غرار قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ!)(الأنفال: 59)، وكذا قوله سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا؟ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ!)(العنكبوت: 4)([2] (http://alfetria.com/forum/#_ftn2)).

وكل ذلك حقائق كونية عجيبة، لم يبلغ العلم البشري الحديث منها - رغم تطوره الهائل بالنسبة إلى ماضيه - إلاَّ بعض الظواهر وبعض النِّسَبِ ليس إلا! ولم تزل حقائقها الكونية تضرب في عمق المجهول من عالم الغيب، الخاضع لعلم الله المحيط بكل شيء؛ ما يجعل المؤمن المتدبر لذلك كله لا يملك إلا أن يسبح خالقَ هذا النظام الفَلكي الجميل الجليل؛ تسخيراً للإنسان ساكن هذه الأرض، وابتلاءً له في الوقت نفسه!

ثم ينتقل التعبير القرآني - بعد ذلك - لعرض آية أخرى من معجزات الله جل جلاله، وعظمة قدرته وسلطانه، وحكمة تدبيره لشؤون العالمين، وهي هذه المراكب الصناعية والحيوانية، المسخرة للإنسان في البحر والبر والجو، التي كان ابتداؤها الصناعي سفينةَ نوح عليه السلام، والتي كانت معجزة ربانية عجيبة، وحقيقة تاريخية غريبة، لا يملك معها الإنسان إلا الحمد لله رب العالمين. فلولاها لما كان للوجود البشري اليوم في الأرض من أثر! ولكن الله قدر أن يستمر النسل الإنساني إلى ما شاء الله. فالمفسرون يجمعون على أن المقصود في هذا السياق "بالفْلُكِ المشحون" إنما هو سفينة نوح عليه السلام. ولذلك قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ.) فكل الروايات عن ابن عباس وكثير من التابعين مجمعة على ذلك([3] (http://alfetria.com/forum/#_ftn3)) والسياق يؤيده. ومعنى المشحون: المملوءُ الْمُثَقَّلُ! وذلك بما حمل فيها نوح – عليه السلام - من أزواج الحيوانات والطيور، إضافة إلى الطائفة المؤمنة من قومه وما معها من متاع. ثم سارت مع ذلك آمنة محفوظة بأمر الله في محيط الأمواج الهائلة الضخمة!

وأما حمل الذرية ههنا فهو بمعنى حمل النسل، وهو الذي وقع في سفينة نوح، فقد أمر الله نوحا أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، من الإنسان والحيوان. وكان المؤمنون من قومه فقط، هم وحدهم من سُمح لهم بركوبها رجالاً ونساء، وأغرق الله الباقين! وهو عهد قديم من عهود البشرية، حيث لم يكن في الأرض يومئذ من الإنس غير قوم نوح! فلم يستمر النسل البشري بعد ذلك على وجه الأرض إلا بمن نجا من أهل السفينة! وكل من وُجِدَ بعد ذلك في التاريخ إلى يومنا هذا، من ملايير البشر، إنما كانوا من أصلاب تلك الثلة القليلة من أصحاب السفينة! فالذرية ههنا بمعنى النسل الذي لم يزل في عالم الذر. وهو تعبير استعمله القرآن، كما في قول الله تعالى عن آدم عليه السلام: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى!)(الأعراف: 172). فالذرية ههنا هي النسمات البشرية التي جعلها الله في ظهر آدم([4] (http://alfetria.com/forum/#_ftn4)). ولذلك لقب المؤرخون نوحا عليه السلام بآدم الثاني! وهي قصة لمن تأملها غريبة رهيبة! تدل على رعاية الله البالغة للإنسان ونعمته عليه وفضله!
فهذه السفينة الأولى في تاريخ البشرية، رغم ما يتصور من بدائيتها من حيث الصنع، فإنها لم تغرق بإذن الله، رغم أن كل أسباب الغرق كانت متوفرة فيها! فقد كانت مشحونة مثقلة بكل أنواع الكائنات الحية مما كان على وجه الأرض يومئذ ومما قدر الله استمرار نسله فيها، إضافة إلى الطائفة المؤمنة من الرجال والنساء والأطفال، ثم ظروف الطوفان الرهيب، وما كان عليه من هيجان شديد! مما وصفه القرآن أبدع تصوير في قوله تعالى من سورة هود: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ!)(هود: 42). بينما ها هي ذي السفن اليوم تتمتع بأحدث الأجهزة الميكانيكية والإلكترونية لضمان سلامتها، ولكن عندما يقدر الله إغراقها يجعلها وأهلها من الهالكين! مما يُعْلَمُ معه ألا عاصم من أمر الله إلا هو! وذلك قوله تعالى في تتمة السياق: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ! إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ!) والصريخ: المنقذ الذي يستنجد به! فلا شيء من تقنيات العصر، ولا من تطورات التكنولوجيا تنفع الإنسان إذا حضر أجله! إلا إذا تجلت عليه رحمة الله، ورحمة الله وحده! والإنسان الأعمى اليوم يثق في تقنيات الحفظ والسلامة المعاصرة، ثقة تحجبه عن الله، فيعبد العلم البشري ومنتجاته منها ومن غيرها! وينسى أنما هي تسخير من رحمة الله، إذا قضى أمره عطلها تعطيلا! وحوادث العصر دالة على هذا أوضح دلالة! وما استمرار الحياة البشرية على الأرض إلا متاع قريب، له أجل معلوم وينتهى، ثم يُبعث الناس لرب العالمين! تلك هي خلاصة القصة البشرية (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(ق: 37)


3- الهدى المنهاجي:

وهو يتضمن الرسالات السبع التالية:

- الرسالة الأولى:

في أن الموت والحياة سر من أسرار الله في الملك والملكوت! وألا شيء من الخلق إلا وهو مبتلى بهما! والموت حقيقة يقينية لا يستطيع أحد إنكارها، ولا أن يتحداها. ولكن ماهيته لغز مغلق لا يدرك الإنسان منه إلا ظواهره، وأما حقيقته فلا يعرفها إلا بعد أن يذوقه! وكذلك الحياة، بما في ذلك هذه التي بها نحيا ونعيش في الأرض، فإننا لا نعرف منها إلا أعراضها، أما حقيقتها فهي مرتبطة بالروح، والروح من أمر الله المحجوب عن الخلق إلى يوم القيامة! الموت والحياة ابتلاءان يحكمان عمر الإنسان وأجله، فلا محيص له من الرضوخ لقدرهما! والمؤمن الكيِّس الفطِن هو من يتزود من هذه الحقيقة حياتَه كلَّها، فلا يخطو خطوة إلا على هداها، عابدا ربه حتى يأتيه اليقين!


- الرسالة الثانية:

في أن البعث حشرٌ شامل للبشرية جميعها، أولها وآخرها، بين يدي الله رب العالمين؛ لتنال جزاءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر! فهذه حقيقة تملأ القلب رهبا! وهي دواء للغفلة الملمة بالقلوب؛ إذ تجعلها تراجع نفسها وتنظر في سوابق أعمالها ولواحقها. وإنَّ اتخاذها وِردا للقلب يتغذى به يوميا؛ لكفيل بترقية العبد إلى منـزلة المحاسبة، صفةً كريمةً لا تزول بإذن الله.


- الرسالة الثالثة:

في أن زخرف الحياة الدنيا جناتها وبساتينها وعمرانها، كل ذلك إلى فناء! وأن التعلق الكامل بها غرور وجهل فظيع بطبيعتها الابتلائية! ثم إن إدمان النظر إليها معزولة عن عمقها الأخروي يورث القلب العمى! فيتعلق بها تعلقا يحجبه عن الله. فلا تزال تخدره بشهواتها حتى تقوده إلى الخسران المبين! والمؤمن البصير يبني صرح العمران الدنيوي - استخلافا في الأرض وإصلاحا - على أساس أخروي، فلا يزال على هدى من ربه حتى يلقاه رَضِيّاً!


- الرسالة الرابعة:

في أن الرزق تقدير إلهي محض، وما من عبد إلا وينال منه ما قُدِّر له، وإنما جعل الله تعالى أسباب الكسب ابتلاء للعباد؛ إذ بها تتعلق أحكام الشريعة من حلال وحرام. وأهل البصائر يرون في الأسباب حكمة الله العزيز الحكيم، فيعبدون الله بها، بينما أهل الغفلة يفتتنون بها؛ فتكون لهم حجبا عن الله، ثم يعبدونها من دون الله! ومن فهم عن الله حقيقة الرزق، وتلقَّى تجليات اسمه تعالى: "الرزاق" نجا من الهلع، وحلت بقلبه القناعة والسكينة. وإن من جهل ذلك من أرباب الدنيا لفي شقاء شديد!


- الرسالة الخامسة:

في أن الشكر حق الله على العباد؛ بما خلق ورزق وهدى! وأن التمرد عن عبادته كفران شنيع لأنعمه! فلا عجب أن كانت أول كلمة نطق بها آدم عليه السلام حمداً([5] (http://alfetria.com/forum/#_ftn5))، وكانت أول آية افتتح بها القرآن الكريم: "الحمد لله رب العالمين"! ولقد امتن الله بنعمه - التي لا تحصى - على عباده وفصل ذلك في القرآن تفصيلا. وها هو الإنسان غارق في بحارها الكوثرية لا يستطيع منها فكاكا! أفلا يكون من الشاكرين؟ من هنا وجب على العبد أن يتخذ شكر الله - جل جلاله - وردا دائما يعبد الله به ذِكْراً وعملاً، فيستجيب لنداء ربه كلما دعاه، ويلزم حدوده ويتقي محارمه.


- الرسالة السادسة:

في أن التسخير نعمة من نعم الله الكبرى، وجب ملاحظتها بالتفكر في حركة الكواكب والنجوم والأفلاك، وما يستفيده الإنسان منها – تسخيرا من الرحمن - من ليل ونهار، ونور وضياء، وفصول وأمطار...إلخ. فمتى داوم العبد على هذا الضرب من التفكر التعبدي ازداد معرفة بالله وعلما به تعالى، فيرتقي إلى درجة خشيته على قدر مقامه تعالى؛ فلا يخاف بعد ذلك زيغا ولا ضلالا بإذن الله!


- الرسالة السابعة:

في أن الرعاية نعمة أخرى من نعم الله الكبرى، فلا نجاة للإنسان ولا حفظ له ولا أمان إلا برعاية الله له. فهو تعالى الذي يرعى وجوده وشؤونه كلها، رزقا وحفظا وسلامة وشفاء. وإن مطالعة هذا المعنى العظيم تورث القلب التعلق بحب الله، وتكسبة الشوق إلى لقائه. فينشط في سيره إليه، ويصير محمولا بعبادته لا حاملا لها، بمعنى أنه لا يجد فيها مشقة ولا عنتا، بل يجدها لذة وجمالاً! كما أن هذا الضرب من التفكر يمنح القلب أيضا الشعور بالسكينة والطمأنينة والأمان.


4- مسلك التخلق:

لقد كان القرآن واضحا في الدلالة على مسلك التخلق بحقائق هذه الرسالات الإيمانية، وهو إحياء عبادة التفكر في الآيات الكونية! هذه العبادة التي تركها كثير من الناس في هذا الزمان! ولم يزل القرآن يردد: "وآيَةٌ لهم.. وآيَةٌ لهم"! وهو يلفت نظر الإنسان إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض.

ومن ثَمَّ كان على المؤمن أن يجتهد في فتح بصيرة التفكر في كل شيء حوله، حتى يصبح لا يرى شيئا إلا بعين التفكر! وأما المسلك العملي لذلك فهو أن يبدأ بتدريب نفسه على اتخاذ ساعات معلومة لممارسة التفكر، فردا أو مع صاحب له. ويستعين بآيات التفكر في القرآن، فهي ترشد إلى الصورة العملية الناجعة في اكتساب مقام التفكر، والوصول إلى حقيقته ونتيجته. ذلك أن الله - جل جلاله – أرشد الناس إلى أن التفكر الناجع هو ما كان فرديا أو ثنائيا، فإذا تعدى ذلك صار تدارسا. لأن التفكر عملية وجدانية بالأساس، العقل عينها نعم، ولكن القلب هو لسانها المتذوق لها والمتمتع بلذتها! قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)(سبأ: 46). وقال سبحانه في صفة أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران: 191). وهذه الآية قد يظن المرء – بادئ النظر - أن التفكر واقع فيها بفعل الجماعة، لكن السياق يدل على أنه عمل فردي، ففعل الجماعة ههنا إنما يصف مجتمع المؤمنين في أحوالهم الخاصة، قياما وقعودا وعلى جنوبهم. والتفكر على كل حال تأمل قلبي صامت، لا يتصور فيه الاشتراك الجماعي. ومعنى هذا أن تطبيقه يحتاج إلى لحظات من الخلوة الهادئة، بعيدا عن المؤثرات الخارجية والعلاقات الاجتماعية، التي تقطع الواردات وتتلف المشاهدات!



[1] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref1)قال ابن كثير رحمه الله: (ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفَجَرتهم من قولهم: "إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا" "المؤمنون: 37"، وهم القائلون بالدور من الدهرية، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، فرد الله تعالى عليهم باطلهم، فقال: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ". تفسير ابن كثير: 6/574.

[2] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref2) ن. تفسير الآية في "التحرير والتنوير" لابن عاشور.

[3] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref3)ن. تفسير الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والسيوطي وغيرهم، ومن المعاصرين: ابن عاشور وسيد قطب.

[4] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref4)قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ؛ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ! الحديث...) رواه الترمذي والحاكم،قَالَ أَبُو عِيسَى: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". كما صححه الألباني في صحيح الجامع. وفي رواية الحاكم: (فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِثْلَ الذَّرِّ!) والذَّرُّ: دقيق الغبار المتناثر في الفضاء.

[5] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref5)عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروحَ عَطِسَ فقال: "الحمد لله!" فَحَمِدَ اللهَ بإذنه؛ فقال لهربه: "يرحمك الله يا آدم!"... الحديث) رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع. رقم: 5209.

نور الإسلام
05-06-2014, 07:42 AM
المجلس الخامس



في مقام التلقي لبيان غِلَظِ جحود الكفار وتعنتهم، وما تنطوي عليه

نفسياتهم من استعلاء واستكبار، وبيان سنة الله فيهم




1- كلمات الابتلاء:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ(49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ(50)


2- البيان العام:
كانت الآيات التكوينية من أمر الملك والملكوت، مما عرضه الله - جل جلاله - في الآيات السابقة، على أعلى مقامات البيان قوةً ووضوحا؛ بحيث تخضع لها أعناق العباد خشية من ربهم العظيم! فأي جريمة نكراء يرتكبها الطغاة الكفرة إذ يُعرضون عن هذا كله فيجحدون نعمة خالقهم! ولذلك نعى عليهم الحقُّ تعالى ضلالهم المبين في تتمة السياق، فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ!) فرغم ما بُيِّن لهم من قواطع البراهين وآيات الأنفس والآفاق؛ فإنهم مع ذلك إذا قيل لهم: احذروا المصير الأخروي، واتقوا أهوال القيامة والبعث والنشور، مما هو بين أيديكم واقع قريبا لا محالة! واحذروا تقلبات الدنيا التي هي خلفكم فأنتم مودعوها يقينا! واتقوا ما ينـزله الله فيها على الظَّلَمَةِ من عذاب وعقاب؛ فلعل الله عز وجل يتدارككم برحمته؛ كلما قيل لهم ذلك أعرضوا، وأصروا على كفرهم وضلالهم!

وفي الآية الأولى حذف بليغ لجواب "إذا"، وهو الجحود والإعراض؛ وذلك لدلالة الآية الثانية عليه، فاستُغني عنه ليكر اللاحق على السابق بالبيان. والقرآن العظيم إنما يخاطب بمثل هذا أولي الألباب.

ومن هنا فإن هؤلاء الكفار اتخذوا مواعظ المؤمنين هزءا وسخرية! فكلما نصحوهم بالإيمان والإنفاق مما رزقهم الله من فضله أجابوهم بعبارة ظاهرها الإيمان بالله، وباطنها الكفر المبين، والاستهزاء بآياته والسخرية من المؤمنين! (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ!) هكذا بهذا العنت البغيض يجيبون المؤمنين، فيقلبون عليهم الحقائق ويصفونهم بما هو من محض كفرهم هم: الضلال المبين! ثم يظهرون أنفسهم أنهم أكثر معرفة بالله؛ إذ هو الذي يوزع مقادير الأرزاق، فلو شاء لأطعم هؤلاء الفقراء والمساكين، فلماذا نخالف إرادة الله بإطعامهم؟ حجاج شيطاني مبين! إنه يستبطن السخرية بالمؤمنين حيث إنهم هم الذين يقولون بأن الرزق مقادير مقدرة من الله؛ فينكر الكفار عليهم: لماذا إذن تأمروننا بالإنفاق على الفقراء والمساكين؟!

ثم يبلغ جحودهم مداه فينكرون حقيقة البعث، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ؟) تساؤل خبيث عن ميقاته، على سبيل الاستبعاد والإنكار لوجوده! ولذلك جاءهم الجواب من الحق جل جلاله قويا قاطعا لكل جدل عقيم! (مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ! فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ!) فالجواب هو ما سترون لا ما تسمعون! صيحة عذاب وهلاك! كصيحة مدين وثمود!([1] (http://alfetria.com/forum/#_ftn1)) يصعقهم بها ملَك من ملائكة الرحمن، تأخذهم على غرة، وهم لاهون في متاهات حياتهم، منهمكون في شؤون معاشهم، غارقون في فتن أسواقهم، مما يتشاحون فيه ويتنازعون ويختصمون. فتبهتهم الصيحة وهم على تلك الحال، فلا يجدون فرصة لوصية تحفظ أموالهم، ولا مهلة للرجوع إلى بيوتهم وأهليهم! بل يصعقون في مواطن فتنتهم، ونوادي شهواتهم، فبئس المصير!


3- الهدى المنهاجي:

وهو منقسم إلى ثلاث رسالات:

- الرسالة الأولى:
في أن قلب الكافر مغلق بأقفال صدئة، ترسبت عليها أوساخ الهوى والكبرياء! فلا يسمع نذارة ولا بشارة، ولا موعظة ولا نصيحة، إلا إذا حلت به صيحة العذاب أو صيحة الفزع الأكبر؛ فيكون آنئذ من السامعين! وهيهات هيهات أن ينفعه إيمان بعد فوات الأوان!

- الرسالة الثانية:
في أن المال ومتاعه هو المعبود الأول للكفار، يتكالبون على جمعه بهلع شديد! ولذلك فهم لا يستطيعون إنفاق شيء منه مهما قل! إلا إذا وجدوا لهم منفعة مادية في ذلك، من جاه دنيوي، أو ربح مادي، ولو على أمد بعيد! ومن هنا فإنه لا يتحقق إيمان المؤمن بالله إلا بالإنفاق في سبيله، وإهلاك المال في وجوه البر. فبذلك يتطهر قلبه من الشرك الخفي، الذي يورثه حب الشهوات من الأموال والتعلق الأعمى بمتاعها.

- الرسالة الثالثة:
في أن الله منتقم من الكفار حتما، فإما أن يسلط عليهم عذابا في الدنيا قبل الآخرة، وإما أن يمهلهم إلى يوم الحساب. وهما أمران أحلاهما مر! وفي هذه العقيدة راحة للمؤمن المتغيظ من ضروب الظلم وأشكال الطغيان. فكلما استحضر العبد هذا المعنى استراح قلبه من الغم، الذي قد يصيبه في فترات الضعف والإعياء من مشاق الطريق.


4- مسلك التخلق:

الثمرة العملية لهذه الآيات هي في وجوب تحقيق اليقين بأن الله - جل جلاله - هو مالك لأمر مملكته كله، قاهر لعباده أجمعين. فمهما أبدى الكفار من التمرد على الله، فإنهم لا يُعجزون رب العالمين. وإنما هو ابتلاء لهم، هم خاسرون فيه لا محالة! وبهذا يُنتزع الخوف المرَضي من قلوب المؤمنين، والفزع من جبروت الطغاة مهما استكبروا في الأرض واستعلوا، ولا يبقى بأفئدتهم إلا خوف الله العظيم.

ويتحقق ذلك للعبد بمداومة النظر في الآيات المعرفة بالله وأيامه، مما انتقم به من الأمم الظالمة عبر التاريخ! ومشاهدة حوادث العصر وكوارثه، مما يقع هنا وهناك، على ذلك الوزان، وكذا بالمطالعة التفكرية في عوالم الْمُلْكِ والملكوت. كل ذلك مورث لهذا اليقين. فمن عرف الله به لم يخش أحدا سواه!


[1] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref1) قد تكون الصيحة بمعنى نفخة الفزع الأكبر ليوم القيامة، كما ذهب إليه ابن كثير وغيره المفسرين، لكن السياق أقوى في الدلالة على ما رجحنا والله أعلم.

نور الإسلام
05-06-2014, 07:43 AM
المجلس السادس



في مقام التلقي لمشهد فريد من مشاهد البعث،
وأحوال الفريقين من الكفار والمؤمنين




1- كلمات الابتلاء:


وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ(53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ(55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ(56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ(57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ(58)


2 - البيان العام:

كانت صيحة العذاب وعيدا من الله الواحد القهار لمردة الكفار، فمنهم من سلطها عليه، ومنهم من أهلكه بما شاء وكما شاء. حتى إذا كانت الصيحة الأخيرة التي يصعق لها من في السماوات والأرض، والتي هي الإعلان الإلهي لنهاية الحياة في كل العالمين، فلم يَبْقَ من حي في الوجود إلا وجهه العظيم جل جلاله؛ كانت بعد ذلك صيحة البعث العظمى! وقد ورد التعبير عنها بفعل ماض مبني للمجهول؛ للدلالة على انحتام وقوعها وعلى شدة قربها، وأن الكفرة بمجرد ما يصعقون في الحياة الدنيا أو يهلكون، لا يكادون يشعرون بزمن إلا وقد فاجأتهم صيحة ثانية! لكنها صيحة أدهى وأمر! إنها باب العذاب الشديد!

ولقد صور القرآن الكريم مشهد البعث تصويرا عجيبا، فبمجرد انطلاق النفخة من الصور - وهو البوق الذي ينفخ فيه الملاك إسرافيل- تنفتق القبور عن أصحابها كما تنفتق الأرض عن النبتة النامية، فتخرج من تحت ظلمات الثرى، وتنشر أوراقها فوق الأرض! فالله جل جلاله يعيد خلق البشرية الهالكة خلقا جديدا، وينبتهم من تربتهم التي دفنوا فيها أنى كانت في البر أو في البحر، فلا يعجزه تعالى أن تكون أجسامهم قد صارت رميما وفنيت في التراب، فهو تعالى عليم بخلقه، قدير على كل شيء، فلكل إنسان يموت بذرة دقيقة، لا يهم في أي تربة وقعت، لكنها إذا نوديت من لدن الرحمن نبتت من جديد إنسانا سويا! (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)
وكل ذلك يقع في أقل من لحظة! ولذلك عبَّر بـ"إذا" الفجائية للدلالة على سرعة الاستجابة للنفخة! فقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ!) هكذا: "ينسلون" أي يمضون بسرعة نحو مكان الحشر، فترى البشرية كلها من آدم إلى آخر من يكون، تتقاطر خارجة من مقابرها في كل مكان على وجه الأرض، ماضية لا تلوي على شيء نحو مكان واحد، حيث الله رب العالمين يفصل بين العباد. هنالك يلتهب الفزع الشديد بقلوب الكفار! فهم إلى عهد قريب يقولون سخريةً بالمؤمنين واستهزاءً: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ؟) فَتَفْجَؤُهُمْ صعقة الموت ثم تفجؤهم صيحة البعث! فلا يملكون في رهبة الموقف إلا أن يدعوا على أنفسهم بالويل والثبور! (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟) فيأتيهم الجواب سريعا من ملائكة الرحمن: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ!) هذا هو الوعد الإلهي الذي جاءتكم به الرسل فكذبتموهم واتخذتموهم سخريا! ها هو ذا تشهدونه بأنفسكم في أنفسكم!

نعم، هذا هو يوم البعث الذي يقع بنفخة واحدة يوقعها الملاك في الصُّور، فتنتفض البشرية كلها في لحظة واحدة، وتحشرها الملائكة حشرا من كل مكان، فلا تشعر إلا وهي جاثية بين يدي ربها فَرَقاً، في مشهد يوم عظيم!ٍ هنالك يقضي الله بين العباد، (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والعدل الإلهي هو العدل! فلا تُظْلم نفس شيئًا بنقص حسناتها أو بزيادة سيئاتها، ولا يُجزى الإنسان إلا بما كان يعمله في الدنيا. فكل شيء مكتوب في صحيفته!

هذه المواقف الرهيبة من أحوال الفزع وترقب المصير المشؤوم، يكون المؤمنون آمنين منها يومئذ، وذلك فضلٌ من الله عظيم. ولذلك اختصر الرحمن مسيرتهم من البعث إلى الحشر؛ إذا لا يجدون في ذلك فزعا ولا عذابا، فيعرض مشهدهم في الجنة مباشرة! مشهد ينبض بهاءً وجمالا؛ لما فيه من نعم الخيرات والسلام! قال تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ!) إنهم مشغولون عن حال أهل العذاب بنعيمهم المقيم، مما يتفكهون به ويتلذذون، جالسون مع زوجاتهم وأهليهم على أرائك الجنة بما لها من بهاء وضياء، يتنفسون أنسام الظلال الممتدة عن الأشجار الوارفة والثمار البهية، ويتخيرون من فاكهة الجنة ما يشتهون، وينالون من كل ما يطلبون ويحبون! مشرفون على مشاهد خارقة الجمال، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، بعيدا بعيدا عن فحيح الجحيم ولهيبها!

ذلك، ولكنَّ تمام النعمة وكمال الرضى، يشرق عليهم بعد ذلك؛ إذ يتجلى لهم ربهم الرحيم فيلقي عليهم السلام! فينعمون آنئذ بالأمان التام والسلام الكامل، بشرى خلود في الجنة أبداً، يتلقونها من ربهم الكريم مباشرة! الله أكبر! أي إحسان هذا وأي عطاء!؟ ذلك مشهد لا تستوعبه العبارات، وتقف اللغة البشرية عاجزة عن بيان حقيقته الرحمانية! فلا إمكان أبدا لتفسير هذه الكلمات القرآنية الجليلة، وإنما جهدنا أن ندعو الله أن يجعلنا من أهل ذلك المقام!


3- الهدى المنهاجي:

وهو يتجلى في أربع رسالات، هي كما يلي:


- الرسالة الأولى:

في أن الأجل غيب لا يعلمه إلا الله، وأن من الجهل بالله أن يغتر الإنسان بقوته وسلامة صحته؛ فيطول به الأمل؛ بما يبطئه عن المسارعة إلى التوبة، والمبادرة إلى العمل الصالح. فاستبطان هذه الحقيقة في القلب، كفيل بتنشيط السير إلى الله والتزام مسالك التقوى، وانكفاف الجوارح عن اقتراف الخطايا، والاقتراب من مواطن السوء. وهي أمان حافظ للداعية من أن تزيغ به الأهواء إلى ابتغاء ما سوى الله والدار الآخرة.


- الرسالة الثانية:

في أن العدل الإلهي الفاصل بين العباد بمحكمة الآخرة، دواء للقلوب الجريحة في الدنيا، وبلسم لها، يزودها بالصبر الجميل، والاحتساب الخالص. وإنما على المؤمن أن يَكِلَ المظالم إلى ذلك اليوم؛ فيرتاح من القلق والأسى. فمهما طغى الظالم في الأرض وتجبر؛ فإنه في يوم قريب سيموت! وسيقف قطعا يوم الجزاء، هو وخصومه من المستضعفين، بين يدي الله الواحد القهار!


- الرسالة الثالثة:

في أن العمل هو رأسمال العبد في الآخرة، وهو باب النجاة من العذاب. وأن الفوز لا يُنال إلا بكد ومجاهدة. فالطريق شاقة، ولا وصول لمن لا زاد له! قال جل جلاله: (وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)(البقرة: 197). وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ خَافَ أدْلَجَ، ومَنْ أدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْـزِلَ، ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ! ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ!)([1] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftn1))


- الرسالة الرابعة:

في أن التعرف على الجنة ونعيمها واجب شرعي؛ ولذلك تضافرت الآيات في كتاب الله على بيان خيراتها وملذاتها. فمن تعرف عليها زَهِدَ في متاع الحياة الدنيا، ونجا من فتنة الشهوات المهلكات بإذن الله. وعلى المؤمن أن يتدبر معارض نعمها في القرآن؛ حتى تصبح حقيقتها أملا حيا في قلبه، وشوقا يحدوه بقوة إلى الرقي بمعارج الروح.



3-مسلك التخلق:

قضية هذا المجلس في مسلك التخلق هي: العمل! كيف السبيل إلى التزام جادته، ومحبة مكابدته؟ إن الحامل الأكبر على الدخول تحت ربقة العمل، والارتقاء إلى مقامه صفةً لازمةً، خاصة في بداية الطريق، إنما هو الخوف! خوف مقام الله العظيم. كما سبق في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَافَ أدْلَجَ!) والخوف متبوع بالرجاء تلقائيا. لكن الأول هو السائق الحادي. وإنما يتحقق ذلك للمؤمن بمداومة التدبر للآيات المعرفة بالله في القرآن الكريم، والتفكر في أحوال الآخرة، ثم الدخول في خلوات للنظر في النفس وفي الزمن، ومشاهدة تعاقب الليل والنهار وما يصرمانه من العمر الفاني!
فإذا تم ذلك للعبد تعلق قلبه بما ينتج عن الأعمال من أحوال! وارتقى إلى مقام المحبة، فلا يجد راحته الكاملة ولا لذته التامة إلا بالدخول في حرم العبادات والأعمال الصالحات. وإذن لا يخشى على نفسه - بعد ذلك - انقطاعا أبداً إن شاء الله!




[1] (http://www.alfetria.com/forum/#_ftnref1) رواه الترمذي والحاكم. وصححه الألباني في صحيح الجامع.










http://alfetria.com/forum/islamic-5/statusicon/user_offline.gif http://alfetria.com/forum/islamic-5/buttons/quote.gif (http://alfetria.com/forum/newreply.php?do=newreply&p=4433)

نور الإسلام
05-06-2014, 07:44 AM
المجلس السابع


في مقام التلقي لواجب بغض الشيطان واتخاذه عدوا


1- كلمات الابتلاء:


وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ(66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ(67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ(68)

2- البيان العام:

ههنا مشاهد رهيبة من أحوال الكفار في موقفهم بين يدي الله يوم القيامة. أحوال فيها من الفزع ما يناقض سكينة المؤمنين في جنات النعيم، بفروق ومباعدت لا تطويها مقاييس الأزمنة والمسافات! وقد كانت لنا في المجلس السابق مع المؤمنين مشاهدات. أما هؤلاء فيقال لهم على سبيل الزجر والانتهار: امتازوا أيها المجرمون! بمعنى تميزوا وانعزلوا! وهو امتياز حصار وإذلال؛ ليقفوا بعيدا بعيدا عن زُمَرِ المؤمنين، مُمَيَّزِينَ مفصولين، مبعدين كما يُبْعَدُ الجمل الأجرب عن الإبل! ويصفهم الرب - جل جلاله - بشر أوصافهم: "المجرمون"!

هذا يوم البطشة الكبرى! حيث يشتد غضب الله على الكفرة! فيوبخهم بهذا السؤال الإنكاري الشديد: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ؟ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ!؟) فذلك عهد الله للإنسان مذ كان في عالم الذر، وهو عهده الذي تواتر به البلاغ عبر كل الرسالات! إفراد الله تعالى بالعبودية، ومعاداة الشيطان بدل اتخاذه إلها من دون الله الواحد القهار! فالله جل جلاله لا يقبل من الدين إلا الخالص، الصافي من الشرك والشركاء، ولذلك قال تعالى بعدُ: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فلا عبادة لله إلا بتوحيد الله ومعاداة إبليس، ولا مهادنة للشيطان إلا بتمرد على الله! ولذلك أمر سبحانه العباد باتخاذ الشيطان عدوا؛ بما هو لهم عدو مبين! كما جاء في سورة فاطر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا!)(فاطر: 6) وجاء الأمر بفعل "اتخذوا"! والاتخاذ في العربية دال على الإرادة الواعية والقصد المصمم. وهذا من أهم مقاصد الدين في هذا السياق، ذلك أن الإنسان قد يغفل عن استحضار حقيقة الشيطان في ذهنه، وهو ماض في أعماله وأشغاله؛ ومن ثَمَّ تكون الغفلة ويضرب الشيطان ضربته! فالشيطان قد أعلن العداوة للإنسان منذ عهد آدم! (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ! ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ!)(الأعراف: 16-17) ولم يزل كذلك ولن يزال حتى تقوم الساعة! ولقد أضل من البشرية الْجِبِلَّ الكثير! بمعنى الجموع الغفيرة! لكن الكفار لا يعتبرون ولا يتعظون؛ لأن الله طبع على قلوبهم بذنوبهم فهم لا يعقلون! ومن هنا كان واجبا على المسلم أن يتخذ الشيطانَ عدوا، يحاربه في كل خطوة وخَطْرَةٍ! ويعقد لذلك عزمه وإرادته!

ثم يزيد الرب جل جلاله الكفار توبيخا وتقريعا، بما كذبوا باليوم الآخر والجنة والنار، فيقول: هذه هي جهنم الآن أمامكم! ويأمرهم بدخولها خاسئين! لِيَصْلَوْا حرها ويذوقوا عذابها، خالدين فيها والعياذ بالله!

ومن أبشع صور الإهانة والإذلال أن الله تعالى يختم على أفواههم، ويُلجمها بالْخَرَسِ، فلا تستطيع نطقا! ويأمر تعالى جوارحهم فتتكلم كاشفة عما اقترفته من آثام، وما بطشته من جرائم!

ثم يبين - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - أن قوته وعظمته أكبر مما يتوهمون! فلو شاء تعالى لعجل لهم عقوبة دنيوية، فختم على أبصارهم وطمس عليها طمسا! كلما سارعوا إلى التعرف على الطريق ضلوا! ثم لو شاء سبحانه لمسخ خلقتهم إلى أسوأ خلقة! كما فعل بكفرة بني إسرائيل من قبل. فيمسخ هؤلاء الكفرة الآن في أماكنهم التي هم واقفون بها، أو بناديهم الذي هم فيه جالسون، يجادلون في الحق ويستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام! ويجعلهم الجبار تعالى على هيئة مُقْعَدَةٍ غير قابلة للمشي، لا إلى أمام ولا إلى وراء!

لكن الدنيا إلى زوال، فأخر الله عذابهم إلى الآخرة. وذلك أشد لو كانوا يعلمون! وفناء الدنيا حقيقة تشهد بها كل الكائنات، بدءا بجسد الإنسان نفسه، لو أنهم يتفكرون! فكلما كبر وطعن في السن ضعفت قواه العقلية والجسمانية، حتى يصير – إن عُمِّرَ - إلى أرذل العمر والعياذ بالله! فمن لاحظ ذلك أيقن بفناء الحياة، ولم يغتر بقوة ولا جاه، ولكن الكافرين لا يعقلون تنبيها ولا إرشادا.





3- الهدى المنهاجي:

وهو في أربع رسالات هي كالتالي:

- الرسالة الأولى:

في أنه ما مِنْ أحد لم يكن عابدا لله إلا وهو عابد للشيطان لا محالة! وإنما قد تختلف مظاهر عبادة الشيطان، وقد تتجلى في صور شتى. فما من كُفْرٍ أو ضلال أو فسق أو فجور إلا وهو عبادة للشيطان. وما من تَرْكٍ لعبادة من العبادات المفروضة - بغير عذر شرعي - إلا وهو عبادة للشيطان! والناس كثيرا ما يَزِلُّونَ في فهم هذه الحقيقة، فربما مدحوا المرء وأثنوا عليه بشتى أنواع المدح والثناء، ثم يقولون: "وإن كان لا يصلي!" فأي جريمة في الدين – بعد الكفر - أدهى من ترك الصلاة؟!

- الرسالة الثانية:

في أن الله عز وجل مسيطر على ملكه، قاهر لخلقه، لا شيء يكون في السماوات والأرض إلا بإذنه! فهو تعالى يملك رقاب الكفرة والطغاة، ويملك أسرار خِلْقَتِهِمْ مما لا يعلمه أحد إلا هو، فهو سبحانه وحده الخالق، فلو شاء لأهلك الظالمين بما شاء وكما شاء ومتى شاء! لكنه تعالى يمهلهم لإتمام مدة الابتلاء التي قدرها لهم في الدنيا. وإنه لا يأمن نقمة الله وغضبه إلا جاهل بالله مبين! والمؤمن التقي يتزود من هذا خشيةً ورهبةً تزيده عند الله تعالى رفعة وأمانا.

- الرسالة الثالثة:

في أن عقاب الله غير محصور في زمان ولا مكان، وأن خطابه - جل جلاله - بهذا الوعيد من الطمس والمسخ، والعياذ بالله، هو خطاب للكفرة والزنادقة في كل عصر ومَصْرٍ، إلى يوم القيامة! ومن الجهل بالله أن يعتقد المرء أن القذف كان عقوبة لقوم لوط ولن يتكرر أبدا، أو أن المسخ كان غضبا على زنادقة بني إسرائيل لن تحدث بعدهم أبدا! كلا! كلا! فعذاب الله معلق على رؤوس الظلمة والطغاة، فمتى أذن سبحانه وقع بهم! ولا قدرة لأحد ولا حَقَّ له في تحديد عقابه جل جلاله كيف يكون! وما حوادث عصرنا هذا عنا ببعيدة! فقد رأينا منها من القذف والخسف والأعاصير عجبا! مما يتجلى فيه غضب الرب تعالى ونقمته، تجليا واضحا لا يَعْمَى عنه إلا غَوِيٌّ مبين! فنعوذ برحمته تعالى من نقمته وغضبه! ولقد أنبأ النبي المعصوم – عليه الصلاة والسلام – من هذا بما ينذر القلوب! قال صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعةِ مَسْخٌ وخَسْفٌ وقَذْفٌ!)([1] (http://alfetria.com/forum/#_ftn1))

- الرسالة الرابعة:

في أن ملاحظة حركة الزمن في الإنسان وفي الأشياء، توقظ إحساس القلب بتصرم أيام العمر، وتوقفه على مشاهدة تساقطها تباعا، كما تتساقط أوراق الشجرة في آخر الخريف! الورقة تلو الورقة، حتى تَعْرَى أغصانها تماما، فلا غنى لها إلا بالله! فلكل جيل من الناس وقت محدود يقضيه على وجه الأرض، فما هي إلا سنوات حتى يشيخ فيهرم، ثم يلقى تحت غيابات الثرى! فكل جيل ينسخ ما قبله نسخا، ثم ينتظر هو بدوره أبناءَه ليكونوا له ناسخين! فلا بقاء لأحد على وجه الأرض! ألاَ ما أجهل الإنسان بنفسه وقَدْرِه! يتشبث بالوهم ويتترس بالضباب! فلا يزداد إلا عَمًى وجهالة!

فيا نفسي المغرورة! إلى متى وأنت خاملة الخطو؟ تُرْجِئِينَ عزائمَ الأعمال إلى غد ليس لك من ضمانه ولا شعرة! هذه حقائبك خاوية، وهذا جرابك فارغ من أي زاد، وبين يديك سفر طويل أنت لابد كادحة فيه كدحا! فإلى متى تلهوين عن المصير وإلى متى؟ ألا تكفيك سنوات ضاعت منك في تيه الشهوات والظلمات؟ ألاَ بُعْداً لقلب دَقَّ بابَه نذيرُ الزمن ثم لا يَرْعَوِي! ألاَ بُعداً وسحقا! فيا إلهي الرؤوف الرحيم! هذه نفسي الضعيفة تجأر إليك مستغيثة برحمتك! فما لي من شيء أستطيع عرضه بين يديك، سوى فقري وذلي وانكساري بين يديك، أنا عبدك المذنب العاصي عدت إليك تائبا فاغفر لي! فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت!

3-مسلك التخلق:

أما تحقيق عداوة العبد للشيطان وبغضه، هو وجنده من الإنس والجن، وإخلاص المحبة لله رب العالمين توحيدا وتفريدا، فإنما يتحقق بأمرين: أولهما معرفة العدو وطبيعته المجبولة على الشر! فمن لم يعرف عدوه حق المعرفة لم يأمن شره، ولم يستعد لكيده الاستعداد الذي يليق بخبثه، فتكون تلك ثغرة هزيمته! ومعرفة إبليس – نعوذ بالله منه - قد فصلها القرآن الكريم والسنة النبوية، فما على العبد إلا أن يتدبر نصوصهما المتعلقة به؛ ليعرف حجم الكيد الذي يكيده الملعون للإنسان، ويتأمل وجوه الشر التي ينفثها في الصدور، وصور الخراب والظلم والظلمات التي يثيرها في الأرض، وشتى أنواع الفجور التي يمليها على بني آدم إملاء! فكل الدمار الحاصل في الأرض وكل الشر المستطير هو من الشيطان يلقيه على شياطين الإنس فينفذونه تنفيذا!

ومن رأى الشر وقبحه أبغضه، ومن عرف خطره وتهديده الدائم للخير والجمال اتخذه عدوا!

أما الأمر الثاني: فهو التعرف على الله ذي الجلال والإكرام، وعلى فضله العظيم، وما أسبغه على عباده من نعم، ومشاهدة حِلمه الكبير على حماقاتهم، عندما يغفلون وينحرفون، مما يبثه إبليس في نفوسهم. وكذا ما شرعه لهم سبحانه من جمال التوبة، التوبة النصوح التي تمحو الخطايا وتمسح الذنوب! حيث يَمُنُّ سبحانه على عبده المذنب – أنى كانت ذنوبه – بالعفو والغفران! وترى كيف أنه تعالى يمد حبل المحبة إلى عباده، وكيف يتلبس الشيطان بالإنسان ليغريه بقطعه؛ حتى يلتحق بحزبه وجنده، ويكون من المفسدين! فأي شر بعد هذا وأي فساد؟!

فلابد لمن شاهد هذه الحقائق بقلب حي أن يبغض الشيطان، وأن يتخذه عدوا، وأن يحب الله جل ثناؤه وحده؛ فيكون له من العابدين المخلصين. ذلك وإنما الموفق من وفقه الله.

__________________________________________________ ___



[1] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref1)رواه ابن ماجه عنابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير. رقم: 2856، وكذا في السلسلة الصحيحة.

نور الإسلام
05-06-2014, 07:44 AM
المجلس الثامن



في مقام التلقي لواجب بغض الشيطان واتخاذه عدوا



1 – كلمات الابتلاء:


وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ(69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ(74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ(75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(76)


2- البيان العام:


أما هذا المجلس فله شأن خاص! إنه يستضيء بآيات تحمل أسرارا ربانية عجيبة، وحقائق إيمانية رفيعة!

كانت دعوة محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام – شروقا قويا في بيئة ألِفَ أهلُها العيش في الظلام؛ فلم تطق أعينهم مشاهدة النور فحاربوه! حتى كانت منهم فئة طمس الله على قلوبها وأعماها، وألجمها إلجاما على هيئة لا تطيق بها إبصار الطريق! كما قال في بداية السورة "فَهُمْ مُقْمَحُونَ!" لكن الكفار مهما كادوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا يشعرون بالهزيمة الداخلية فيزدادون حنقا وتغيظا! والسر في ذلك أنهم احتاروا احتيارا شديدا، واضطربوا أمام قوة القرآن وطبيعته! فهو خطاب لا كأي خطاب! خطاب يزلزل القلوب ويسلب الألباب، ويوقظ الفطرة الغافلة، والبصيرة الغافية؛ فيسلم له الناس تَتْرَى سِرّاً وجهراً!

ويرى الكفار زمام المجتمع ينفلت من بين أيديهم انفلاتا! ويرون سيادتهم تنهار، وكبرياءهم العاتي مهددا بالزوال! فهؤلاء أبناؤهم يسلمون، وهؤلاء عبيدهم يسلمون! ثم تنبعث في قلوبهم جرأة غير معهودة، وشجاعة غير مألوفة، وقوة غريبة في مواجهة طغيان الأسياد وتحدي الظلم والجبروت! والكفار يعلمون جيدا أن سر هذا التحول كله إنما هو هذا القرآن! فكيف السبيل إلى محاربته وحصاره!؟ تلك هي الأزمة التي أرقتهم وأطارت صوابهم؛ فرموه بشتى أنواع التهم ولكن بلا جدوى! كان القرآن - ولا يزال - يعلو ولا يعلى عليه!

قالوا هو ساحر، وقالوا هو شاعر، وقالوا مجنون، حاشاه صلى الله عليه وسلم! وكانت الشاعرية من أكثر التهم التي استعملوها لمحاولة صد دعوته عليه الصلاة والسلام؛ نظرا لأن العرب كانت تعتقد أن الشاعر إنما يكون كذلك بتنـزل الشياطين عليه! فهي التي توحي إليه بالمعاني وموازين القصيد! ولأنهم وجدوا أنفسهم مضطرين لتصنيف القرآن ضمن صنف من الكلام، يسلب عنه قوته البرهانية وطبيعته الربانية، فقد قالوا: إنما هو شعر! قالوها وهو يعلمون أنهم كاذبون! فرد الله تعالى افتراءهم بهذه الكلمات العميقة: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ! إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) فالله جل جلاله هو الذي صنع محمدا على عينه، وأعده للنبوة والرسالة إعدادا! ورعاه لذلك الشأن العظيم مذ كان في بطن أمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تنـزلت عليه أول كلمات الوحي! فما أتاح له تعالى فرصةَ تعلم الشعر ولا ألهمه قريحته، فصار طبعُه يأباه. كما صرفه - قبل الرسالة - عن كثير من مفاسد القوم وضلالهم.

فهي نبوة وليست شاعرية! وفرق بين الحقيقتين كبير..! فالشعر تجربة نفسية بشرية تفيض عن النفس الإنسانية عند جيشانها العاطفي! وتضرب بأجنحة الخيال في التعبير والتحبير.. والشاعر مملوك لهواه أبدا، سواء كان خيرا أو شرا! بينما النبوةُ تَلَقٍّ لخطاب الوحي الإلهي، وتجرد مطلق عن الهوى، ونطق بحقائق الإيمان الكاملة! وتعبير عن مراد الله رب العالمين، بكلام الله رب العالمين! فأين الثرى من الثريا؟ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم: 3-4) ألا ما كان أسفه عقول أولائك الكفار وهم يتهمون محمدا بأنه مجرد شاعر!

ومن هنا بين الحق - جل جلاله - طبيعة هذا الرجل، لكن بأسلوب رباني راق! فبدل أن يصف شخصه - عليه الصلاة والسلام - وَصَفَ طبيعة ما يصدر عنه من كلام، وفي ذلك ما فيه من قمة التعبير الجمالي وعمق المعنى الدلالي! فقال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) بيان حصري عميق لحقيقة هذا الكلام الذي ينطق به محمد صلى الله عليه وسلم: "ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!" نعم هو هكذا: ذِكْرٌ! والذِّكر طَرْقُ يَدِ الغَيْبِ لِبَابِ القلب الغافل! وإيقاظ للروح الراقدة في كهف الطين المسنون! مخدرة بأدخنة الشهوات والأهواء! وإخراج للوجدان الناسي حقيقتَه من قارورة نسيانه! وتذكير له بالعهد الأول، والميثاق الذي وقَّعه شاهدا على نفسه في عالم الروح، مجيبا بين يدي الرب العظيم: "بلى!"([1] (http://alfetria.com/forum/#_ftn1)) مُقِرّاً بالتوحيد والإخلاص! وهو إحياء للفطرة التي ضاعت تحت ركام المعاصي والذنوب، وتجديد لها؛ عساها تحس بالحياة من جديد! ذلك كله هو "الذِّكر" الذي يقابل معاني الغفلة والنسيان بمعناهما الروحي العميق! ولا أذْكَرَ للروح من الروح! والقرآن العظيم روح نزل به روح! قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ)(الشورى: 52) وقال سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ)(الشعراء: 193)

فمن هنا كان هذا الكلام الذي ينطق به محمد - صلى الله عليه وسلم – "ذِكْراً" بهذا المعنى الكوني العميق! وللقرآن أسماء أخرى ذكرها الله تعالى في كتابه، كالتنـزيل والكتاب وغيرهما، لكنَّ "الذِّكْرَ" هو الاسم الدال على وظيفته الكبرى!

وهو في الوقت نفسه "قُرْآنٌ مُبِينٌ". أي قرآن واضح الدلالة على رسالته، قوي الحجة على حقيقته ودعوته! لا ينكر ربانيتَه إلا غَوِيٌّ مبين! ولفظ "القرآن" هو الاسم العَلَمُ الجامع المانع لمعنى كلام الله - جل جلاله – المنـزل على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. وهو اسم دال على معنى القراءة، فعبارة قرآن مصدر من مصادر فعل "قَرَأَ"، دال على المبالغة والامتلاء، كغضبان بمعنى الممتلئ غضبا! ورحمن لمن وسعت رحمته كل شيء! سبحانه وتعالى. فالقرآن هو الكتاب المجعول للقراءة الكثيرة المستفيضة! ولذلك فهو قد قرئ ولم يزل يقرأ في السماء وفي الأرض إلى يوم القيامة! لكن السر الرفيع لهذه السيماء، والمقصد اللطيف لهذا الاسم الكريم، أن كتاب الله - جل ثناؤه - لا ينقدح نورُه لعبدٍ إلا بإشعال فتيل قراءته بقلبه! فلا تدبر ولا تذكر إلا بقراءة! وليس عبثا أن يكون أول ما خاطب الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: "اِقْرَأْ! فمن قرأ الكتاب حق القراءة تَذَكَّرَ، ومَنْ تَذَكَّرَ فقد أدرك الغاية، وخرج من الظلمات إلى النور بإذن الله؛ وهو مقتضى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) ولذلك قال بعدُ مباشرة: (لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ!) أي لتقوم - حسب رواية ورش - أيها الرسول بنذارة البشرية، وإبلاغها النبأ العظيم! أو – حسب رواية حفص - ليقوم هذا الكتاب نفسه – بما هو ذِكْرٌ يُتَلَقَّى بالقراءة الحقة المتدبرة – بإنذار من قرأه أو قرئ عليه. وخَصَّ النذارة دون البشارة بالذكر ههنا؛ لأن من تذكر فَزِعَ! وغلب عليه الخوف أكثر من الرجاء؛ لِمَا يكون من حال الغافل بعد يقظته، وإدراكه حجم الخطر الذي هو عليه!

ولكن ذلك كله - من أوله إلى آخره - لا يكون إلا لمن كان قلبه حيا! أي أن فطرته لم تنطمس تماما، ولم يزل بوجدانه حب للخير، ولو على جهل بطبيعته! ولم يزل بضميره توق إلى معرفة الحق، ولو على ضلال عن سبيله! وإنما حاجته فقط إلى بيان! وأما الكافر الذي مَرَدَ على الكفر وتمرَّد على الله رب العالمين، وأُشْرِبَ التكبر والطغيان، فذلك قد انطمست فطرته، ومات شعوره بكل معاني الخير والجمال! فلا رجاء في يقظته، ولا إمكان لتذكيره، ولا فائدة من طرق باب قلبه الهالك! إلا أن على الرسول تبليغه الدعوة وجوبا؛ لتقوم عليه الحجة، ويحق عليه حكم الله العادل، وقضاؤه عليه بالخسران المبين!

ويلفت الرحمن تبارك وتعالى - بعد ذلك - نظر هؤلاء الكفرة إلى آيات أخرى من طبيعة أخرى؛ وقد عَمُوا وصَمُّوا عن آيات القرآن، فيوبخهم - جل جلاله - بسؤال إنكاري شديد؛ أنْ عَمُوا أيضا عن النعم التي أغدقها عليهم من بهيمة الأنعام، إبِلاً وأبقاراً وأغناماً، وما ينتج عنها من الخيرات! فقال سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ؟ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ؟ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) فهو تعالى الذي خلق تلك الأنعام بيده جل جلاله ثم ملَّكها للإنسان وجعلها له بكل منافعها! ركوبا، وأكلا، وشربا، ولباسا، ومالا، وزينة، وجمالا! وكان من الممكن أن يجعلها الله تعالى متوحشة لا تقبل تأليفا ولا تدجينا! ولكنه تعالى ذلَّلها تذليلا، وأخضعها للإنسان بسنن التسخير فخضعت وانقادت! ثم جعل الطفل الصغير من بني آدم يقود الجمل الفحل الكبير، والثور الضخم العظيم! ويسوق بين يديه القطعان الكبيرة من الإبل والأغنام والأبقار فتنقاد له انقيادا! نعمةً من الله وفضلا!

ولكن الكفار محجوبون بكبريائهم عن رؤية تجليات أسماء الله الحسنى في ذلك كله، محرومون من قراءة آياته فيما فاض عنها من البركات والخيرات؛ فهم لا يشكرون! بل جحدوا النعمة وكفروها! واتخذوا من دونه تعالى أربابا من الأحجار والأهواء والأموال والشهوات، لعلهم بذلك أن يُنصروا ويسيطروا في الأرض! فعُباد الأصنام والأوثان - قديما وحديثا - يعتقدون بجهلهم وضلالهم المبين أن لهذه "الآلهة" وعيا وإرادة وسلطانا! وأنهم بعبادتهم إياها يدخلون تحت حماها ونصرتها! وهي لا تستطيع دفع الأذى حتى عن نفسها! كما أن عُباد الأصنام المعنوية والبشرية في العصر الحديث من مال وجاه وسلطان، يمرغون وجوههم في التراب من أجلها، قصد نيل الجاه والحصول على أسباب السيطرة، والاحتماء بها من عوادي الزمن والنوائب! ولكنها أوهام واهية! فلا شيء يستطيع منع أمر الله إذا جاء ولا رفع قضائه إذا نزل! فترى هؤلاء الجهلة بالله – من الأقدمين والْمُحْدَثِين – جندا مجنَّدين لأصنامهم الحجرية، عبيدا أذلاء لأسيادهم البشرية، ممن تألَّه وتجبر من الطغاة، يدافعون عنهم ويقاتلون من أجلهم. فهم حاضرون متى استُحضروا، ونافرون متى استُنفروا! والمعركة كلها من أجل باطل وضلال مبين! معرضين بذلك عن نصرة الله رب العالمين! متمردين على جلاله وسلطانه العظيم!

ثم يلتفت الرحمن إلى رسوله الكريم بخطاب لطيف، محمل بأجمل عبارات المواساة والإيناس، أن لا تحزن يا محمد! لا تحزن من جبروتهم وتكذيبهم إياك! ولا من سخريتهم من رسالتك ودعوتك! فإنَّ عِلْمَنَا قد سبق ما يسرون في قلوبهم من الكيد والبغضاء للدين ولأهله، وما يعلنونه من القول، توعدا وتهديدا وسخرية وتكذيبا! كل ذلك نحن له بالمرصاد، وكفى بربك نصيرا؛ فلا تحزن! كل ذلك جاء في كلمات تنبض بالجمال والجلال من قوله تعالى: (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ!) فأي داعية إلى الله بعد هذا تربكه فتنةُ الإعلام الشيطاني، أو يستفزه الطغيان العالمي!؟ اللهم إلا إذا كان غير موصول القلب بالله، ولا مستمدا وارداته من رحمته ورضاه!


3- الهدى المنهاجي:


وهو في خمس رسالات هي كما يلي:


- الرسالة الأولى:


في أن حياة الروح هي الحياة! وأن الحي حقا من بني آدم إنما هو المؤمن، وأما مَنْ سِوَاه مِنَ البشر فَهَلْكَى! (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ!)(النحل: 21) وهذه الحقيقة جارية بالمعنى الدنيوي وبالمعنى الأخروي معاً. فأما المعنى الأخروي فظاهر؛ ذلك أن الله تعالى وعد المؤمن جنة الخلد، ومتعه بلذة الإيمان به جل جلاله، وباليوم الآخر، وما ينتظره فيه من نعيم مقيم. فالحي الحقيقي إنما هو من ارتبط بالحياة الباقية، وزهد في الحياة الفانية.

وأما حياة الروح بالمعنى الدنيوي فهي متعلقة بطبيعة التمتع بجمال الحياة فوق الأرض، والتذوق لنعم الله المتجلية عليها، فأما هذا فإنما المتمتع به حقا إنما هو المؤمن أيضا! وأما الكافر فمهما نال من ترفها وغناها فليس له من متعتها الحقيقية شيء، بل يأكل ويشرب كما تأكل الأنعام! وبيان ذلك أن المؤمن يرى جمال أسماء الله الحسنى متجلية على كل شيء، فما من نعمة مهما صغرت - ولا صغيرَ في نعم الله - إلا وهي آخذة بحظ من نورها الوهاج! الرجل الصالح الفقير الذي يقتات بكسرة خبز وبضع حبات من زيتون، يجد من جمال النعمة وكمال اللذة وذُرَى المتعة؛ ما لا يجده ملتهم أطباق اللحوم وشتى أصناف الشهوات، من الجهلة بالله واليوم الآخر!

ذلك أن المؤمن الفقير يرى أن حبة زيتونة واحدة، تختزل نعمة الله التي أسبغها على الوجود كله! فيرى فيها قدرة الله على الخلق، وجمال الإبداع والتصوير، وما بثه الرحمن فيها من أنوار وأسرار، مما لا يحصيه عَدٌّ، ولا يحصره حَدٌّ! ثم يرى فيها جمال الرعاية مذ كانت بذرة إلى أن صارت شجرة، حتى أزهرت بإذن الله وأثمرت! ثم يرى فيها رحمة الله وكرمه وجوده، إذ جعلها رزقا مقدرا له ولأولاده! كما يرى فيها أيضا هيمنته تعالى على ملكه، وقدرته على تنفيذ قضائه وقدره! إذ ساق إليه هذه الحبة من الزيتون من بين آلاف الموانع، وسائر القوى المتصارعة على الثمار والأرزاق! فجعلها رغم أنوفهم جميعا من رزقه! وربما سخر بعض أعدائه – وهم لا يشعرون – لخدمته، والإسهام في إيصال رزقه إلى باب بيته!

وهكذا فتجليات الأسماء الحسنى على حبة الزيتون تلك لا تنتهى! فيأكل الفقير طعامه القليل هنيئا مريئا، وهو يشعر بالغنى العالي بالله! فأي حياة هذه وأي هناء!؟ ألا تلك هي الحياة وإلا فلا! ولقد تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكمة بالغة، قال سيدي: (مَنْ أصبحَ منكم آمناً في سِرْبِه، مُعَافًى في جسده،عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها!)([2] (http://alfetria.com/forum/#_ftn2)) والقوت من الطعام: هو ما يسد الرمق ولا يزيد!

ثم انظر إلى تعاسة المترفين كيف شَقُوا بمالهم! فكانوا له عبيدا، وهم يظنون أنهم به أسياد! وانظر إلى القلق كيف يقض مضاجهم، وهم لا يدرون لشقائهم سببا! الخوف يطاردهم! والجشع ينهكم! والطمع يعذبهم! هم يجمعون وأبناؤهم يبددون! وهم يتعبون وخدمهم يتمتعون! فأي حياة هذه بل أي هلاك!؟ ألاَ فذلك هو قول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا!)(طه: 124). فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرين!


- الرسالة الثانية:


في أن القرآن هوحياة القلب وروحه، وهو موقظه ومُذَكِّرُهُ! ترتيله المخلص يصل القلب بالملأ الأعلى، ويجعله يرى الكون من أعلى أبراجه، فتنكشف له حقيقة الحياة الدنيا، ثم ينـزاح عنه حجاب الغفلة والغرور! فبمجرد شروع العبد في تلاوته أو سماعه، بافتقار تعبدي صادق، تبدأ كلمات الله تدر عليه من نور الحكمة والتزكية ما يُرَقِّي قلبه إلى مقامات الحضور والمشاهدة! فتنكشف له مرآة نفسه، ويرى ما بها من علل وقروح، ثم يشاهد الآيات تتنـزل عليها بالدواء الرحماني الشافي! حتى إذا برئت جوانحه من جروحها حلَّق في سماء الروح، وارتقى على قدر قراءته وترتيله، حتى يكون مع الله، لا يسمع ولا يبصر إلا به! فلحياة القلب آنئذ أوقات موصولة بالزمن الخالد، أوقات لا تفنى أبداً! فإنما قارئ القرآن عبد مُصْغٍ إلى ربه يتكلم! وتلك حقيقة إيمانية عظمى لا تستوعبها الأخيلة والعقول، ولا تُدرك إلا أن تذاق!


- الرسالة الثالثة:


في أنه لا يجوز للداعية أن يشغله شيء عن القرآن! قراءةً وتدبرا واستمدادا. متخذا من سوره قناديل ينير بها ليله، قياما بين يدي ربه يرتل القرآن ترتيلا! فهو سميره بالليل وأنيسه بالنهار! لا يشغله عنه شعر ولا رجز. وليس معنى هذا ألا ينفتح على أنواع الفنون والشعر والأدب، كلا! وإنما القصد أن يكون القرآن هو إمامه، وهو محور اهتمامه ومدار فلكه، وأن تكون كل تلك النوافذ التي يفتحها على الثقافات والفنون الأخرى، خادمة لتدبر القرآن وتبليغ رسالته، غير حاجبة للمؤمن عن نوره، ولا فاتنة له عن السير إلى الله بهداه!


- الرسالة الرابعة:


في أن المؤمن ملزم بقراءة الكتابين معا! أعني كتاب الله المسطور، وكتابه المنظور، بمعنى التدبر لآيات القرآن الكريم، والتفكر في آيات الكون وما خلق الله للإنسان من النِّعم، وما سخر له من تجليات الرحمة والكرم. وشُكْرُ ذلك كله متعلق بذمته حتى يؤديه توحيدا لله وإخلاصا!

والجمع بين القراءتين هو الكمال في مسلك السير إلى الله والتعرف إليه. والقراءة الحقة للقرآن مفضية بالعبد حتما إلى القراءة لكتاب الكون؛ إذ الآيات القرآنية لم تزل تنبه القلب للتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي ما جعل الرحمن - جل جلاله - من الآيات في الأنفس والآفاق! وإن ذلك لمما يفتح البصيرة ويوسع فضاء الروح. وإنها لعبادة واجبة تركها الناس إلا قليلا؛ وبذلك عمت الغفلة وتبلد الحس! وما ينبغي للمؤمن - بله الداعية – أن يعيش مغبونا فيما نُصِبَ له من جلائل الآيات الكونية، التي تهدي خطواته في طريق التعرف إلى الله والتعريف به؛ وتنير قلبَه وبصيرتَه بما أفاض - جل ثناؤه - على جميع مملكته من جمال أسمائه الحسنى وجلالها!


- الرسالة الخامسة:


في أن المؤمن آمِن! وأنه لا آمِنَ إلا من أمَّنَهُ الله! وإنما ذلك هو المؤمن الحق، المؤمن الواثق بالله، الموقن به جل جلاله وعلاه، بما تحقق لديه من معرفة به تعالى، من خلال ما هداه إليه سبحانه، من قراءة الكتابين: القرآن الكريم، وسُنَنِ الله الجارية في الكون العظيم. فلا يزال الجهلة بالله من عُبَّاد الأوثان الحجرية والبشرية، يلهثون وراء طلب لحظة لراحة الأعصاب، والتخلص من كابوس الخوف من الفقر، وانقلاب الدهر، وذهاب الجاه والسلطان، فلا يجدونها ولو في الأحلام! بينما المؤمن يعيش – بفضل التوحيد والإخلاص - مطمئن البال، آمِنَ الروح، منشرح الوجدان، راضيا بقضاء الله فيما قسم له من الأقدار والأرزاق، ثروته القناعة، وجاهه الغنى بالله، وسكينته خشية الله. غير آبه بكيد الأعداء، لا تحزنه دعاياتهم المغرضة، ولا إشاعاتهم الكاذبة، ولا دجلهم الإعلامي الخبيث! فهو يستمد أمنه العميق من ثقته بالله؛ لأنه تعالى أمان الخائفين، ونصير المستضعفين، وكفى به - جل جلاله - حافظا ونصيرا! وكل الذي فوق التراب تراب!


4- مسلك التخلق:


قضية هذا المجلس هي حياة الروح. والمسلك العملي المطلوب الدخول فيه هو كيفية الاستفادة من الروح القرآني؛ بما يحيي القلب ويفتح بصيرته، ويسلكه بعد ذلك بصورة تلقائية في مدارج الشكر والإخلاص.

وقد بينا في أكثر من مجلس أن جلسة التدارس لكتاب الله والتدبر لآياته، هي المفتاح الأساس الذي به تنفتح البصيرة وتستيقظ الروح، فتدب الحياة في القلب من جديد، بما يصيبه من وابل التزكية ونور الحكمة، وبما يناله من فيض العلم بالله.

بيد أن بعض الناس قد يشكو قساوة قلبه حتى عند تلاوة القرآن! فلا يستطيع تدارسا ولا تدبرا! بل بمجرد ما يفتتح التلاوة يغيب في متاهات الشرود! فلا يجد سبيلا ليقظة قلبه ولا لحياة روحه! وعلاج ذلك بحول الله يكون بثلاثة أمور:

- أولها: الاجتماع على الخير، وذلك بطلب أهل الفضل والصلاح، ممن يعقدون مجالس القرآن، والدخول معهم في فضاء التدارس الجماعي، إذ أن للاجتماع من الأثر على القلب ما ليس للانفراد، إذا كان الأمر يتعلق بتدارس الكتاب؛ لأن الشيطان من الجماعة أبعد! ومن ثَمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة! فإن الشيطان مع الواحد، وهو منالاثنين أبعد!)([3] (http://alfetria.com/forum/#_ftn3)) ولذلك كان الاجتماع حصنا للفرد من الشرود والتيه، وأدعى لحضور عقله وقلبه مع الجماعة. وهذا مقتضى من مقتضيات الحديث القدسي: (فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!)([4] (http://alfetria.com/forum/#_ftn4)) ومع أنه ورد في سياق آخر؛ إلا أنه دال على مشاركة الفرد لمن يجالسهم فيما يتلقونه من نور وحكمة وواردات، وذلك هو المراد. ومَنْ حلَّق مع السرب استطاع بعد ذلك أن يحلق فردا! وليس عبثا أن قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه!)([5] (http://alfetria.com/forum/#_ftn5))‌

- الثاني: مصاحبة أصحاب الأحوال الصالحة. فبالإضافة إلى ضرورة الاجتماع على الخير، يحسن جدا صحبة من يتوسم فيهم سيماء الورع والتقوى، والاجتهاد في الترقي بمنازل الإيمان، ممن بدت عليهم أحوال الخوف والرجاء والشوق والمحبة، وهجروا حياة اللهو والدعة والخمول، وشمروا عن ساعد الجد في طلب المنازل العالية! فألقت عليهم شجرة الإخلاص ثمار الفقر والتواضع! ثم أُشْرِبَتْ قلوبُهم محبةَ القرآن الكريم، فأسهروا به ليلهم، وعمروا به نهارهم! فكانوا من أهل الله وخاصته حقا! ذلك أن مصاحبة أمثال هؤلاء تورث القلب خصالهم، وتوقد فيه أشواقهم، وذلك هو المبتغى! وقد عُلِمَ أن الأحوال في الشر والخير عدوى.

- الثالث: ملازمة الاستغفار، والإكثار من الصدقة والصوم! عسى أن يتهيأ القلب لاستقبال الخير؛ ذلك أن غالب أحوال القساوة إنما هو ناتج عن كثرة الذنوب! وإهمال التوبة والاستغفار! فالذنوب إذا تواترت على القلب نسجت عليه غلافا سميكا كالحصير يُفقده الإحساس بالخير وتذوق الإيمان! وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ! وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ؛ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ! وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَراً! إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ!)([6] (http://alfetria.com/forum/#_ftn6)). ومن هنا أُمِرْنَا بإِتْبَاعِ السيئات الحسنات؛ حتى لا تتراكم الآثام على القلب فيقسو! بل وجب أن نخضعه - بفعل الحسنات - للتطهير الدائم؛ حتى لا يفقد حياته بإذن الله! ولا شك أن الاستغفار والصدقة والصيام، من أقوى أعمال البر على كنس القلب من سيئاته وخطاياه، كما تواترت بذلك النصوص الوفيرة الكثيرة، من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ذلك، والله الموفق للخير والمعين عليه.

_______________________________


[1] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref1) إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ!)(الأعراف: 172).

[2] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref2) رواه الترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن محصن مرفوعا. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، رقم : 6042.

[3] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref3) رواه الترمذي والحاكمعن عمر رضي الله عنه مرفوعا. وصححهالحاكمووافقهالذهبي، ثم صححهالألبانيفي "صحيحالترمذي".

[4] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref4) جزء حديث متفق عليه.

[5] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref5) ‌ ‌رواه مسلم.

[6] (http://alfetria.com/forum/#_ftnref6) رواه مسلم. وقوله: "أَسْوَدُ مُرْبَادًّا": يعني فيه لمعَانٌ من شدة السَّوَادٍ! والْكُوزُ: الإناء كالإبريق. وكونه مُجَخِّياً: يعني مَنْكُوساً، بحيث لا يمسك ما فيه.

نور الإسلام
05-06-2014, 07:46 AM
المجلس التاسع و الأخير

في مقام التلقي لسر الخالقية: حق الله على عباده، وحجة الرسل والدعاة!

1- كلمات الابتلاء:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ(77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ(80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ(81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(83).
2- البيان العام:
أما هذا فمقام العظمة والجلال!.. المشاهدات فيه ترتجف خوفا مما رَاعَهَا من بارق النور العظيم! فلختام السورة تَجَلٍّ لحق الله العظيم وحجته البالغة، على مقامٍ لاهبٍ، يحرق وجدان العبد المتلقي لآياته! فلم يزل يرى – إن كان من المبصرين – بهذه الخواتم، من أسرار العظمة، وخوارق الربوبية؛ ما يزلزل كيانه، ويهد بنيانه؛ حتى يخر بين يدي ربه صَعِقاً!
ههنا يخاطب الرحمن مرة أخرى الكافر العنيد، يخاطبه بما هو جنس إنساني، خلقه من ماء مهين! فيلتفت إليه بسؤال إنكاري شديد، يحمل من التهديد والوعيد، وعمق الحجة وقوة البيان؛ ما يجعل قلب المؤمن - القارئ أو المستمع- يرتجف خوفا ورَهَباً! إذ ينكشف له من أسرار الملك والملكوت، ما يجعله صريع النظر إلى عظمة الله الواحد القهار!
الإنسان! هذا المخلوق الضعيف، الذي أسكنه الله هذا الكوكب الصغير السابح في كون لا يحد بخيال! والأرض ذرة لا تكاد ترى في بحر الملكوت، الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة! هنا يقبع الإنسان الذي يجادل الرحمن رب العالمين! والإنسان في القرآن لفظ غير مريح ولا مستريح! فهو الذي حمل الأمانة فكان ظلوما جهولا! وهو الخصيم المبين! وهو المخلوق في كَبَد! وهو الذي كان أكثر شيء جدلا! وهو الذي قُتِلَ ما أكْفَرَه! وهو الذي أقسم عليه رب العزة إنه لفي خُسْرٍ! ثم استثنى المؤمنين، والمستثنى دائما هو القليل!
الإنسان! هذا المخلوق الضعيف، المحكوم قهراً بضروراته وطينه، ينتصب فوق تربته السفلى ليجادل الله رب العالمين! عجبا! لكن الرحمن يرد على عبده المتعدي حدوده، معرفا إياه بِقَدْرِهِ الصغير وبهوان شأنه! وبحجم جهله بنفسه وبربه! فقال جل جلاله: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ!) وإنه لخطاب قوي مبين! تكلم فيه الرب - جل جلاله - بضمير المتكلم؛ إمعانا في التصدي الرباني المباشر لمردة الكفار، مما يجعل السياق أكثر رهبة وجلالا! وخاطب الإنسان بضمير الغائب؛ إمعانا في التقليل من شأنه والتحطيم لكبريائه الأحمق! ويُذَكِّرُهُ الرب عز وجل بحقيقته، لكن من خلال سؤال إنكاري؛ تبكيتا له وتعجيبا منه؛ أنْ نسي أصل خلقته فطغى وتجبر! وما هو إلا عبد حقير، خلقه الله تعالى بقدرته من نطفة ماء مهين! ثم ها هو ذا بعدما كبر وابتلاه الله بالمال والجاه؛ يصير خصما شديد الجدال لرب العالمين! الذي خلقه من قبل ولم يكن شيئا مذكورا! فأي جهل هذا وأي ضلال!؟
وتذكر كتب التفسير في سبب نزول هذه الآيات قصة طريفة، نوردها مختصرة لأهميتها في بياننا هذا، وذلك أن أحد الكفار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عظما قد أَرَمَّ، أي صار رميما، والرميم هو العظم الذي بلي حتى صار يتفتت! فحتَّه في يده حتى صار غبارا، ثم نفخ فيه فطارت ذراته في الهواء، فقال: يا محمد أتزعم أن الله يحيي هذا بعدما أَرَمَّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم، يميتك الله ثم يحيك ثم يدخلك جهنم!)([1]) فأنزل الله تعالى خواتم سورة يس، مشيرا إلى الحادثة المذكورة في سبب النـزول: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) وفي الآية من التعجيب والسخرية من هزال عقل هذا الكافر ما يجعل حجته ضعيفة البناء، بل بليدة التفكير والتدبير! فهذا الضارب لاستحالة إعادة الخلق - في حق رب العالمين- ذلك المثل المادي الجزئي العَيِيَ، الذي غاب عنه النظر إلى عمق الوجود، والتفكر في أسرار الحياة والموت، وعَمِيَ عن النظر إلى عظمة الله الواحد القهار، قد جاء بما يُخجل لو كان من أولي الألباب! إذ هو يحتج على الله ورسوله بأنه - سبحانه وتعالى - لن يستطيع خلق هذا الرميم المتآكل، ولا إعادته بشرا سويا إلى الحياة من جديد! زعَم ذلك ونسي الأحمقُ ذاتَه نفسها! نسي خِلقته عينها! وكيانه الوجودي كله! متى كان وكيف؟ وأين كان قبل أن يكون؟ فهذه الهيأة الإنسانية التي بها يتنفس الآن الحياة، والتي بها يخاصم ويجادل، ويبطش ويتجبر، أوَليس الله - جل جلاله - الذي خلقها من قبل ولم تكن شيئا مذكوراً؟ فالخالق بشرا من طين، أو من قطرة ماء مهين، والخالق كل شيء من لاشيء؛ لهو تعالى أقدر على إعادة خلق الإنسان من تراب مرة أخرى، وعلى إعادة جمع ذراته أنى طارت، وأيان كان مرساها! فإنما خلقه للشيء - متى أراده - "أن يقول له: كن فيكون!" ولكن الجهلة بالله لا يعلمون!
وقد ثبت في الحديث أن الله تعالى يعيد خلق الإنسان يوم البعث مِنْ عَجْبِ ذَنَبِهِ!([2]) وعَجْبُ الذَّنَبِ: هو العظم الصغير الذي به ينتهي العمود الفقري البشري. سمي بذلك لأنه موضع الذنَب من الحيوانات ذوات الذيول والأذناب. والمقصود أنه تعالى يخلقه من ذرة صغيرة تكون داخل هذا العظم الصغير، ذرة قد لا ترى بالعين، فكل شيء يفنى من الإنسان إلا هذه الذرة، فهي بمثابة بذرة شجرته! فلتطر حيث شاءت، ولو تدفن حيث قدر لها، ولتكن قد صارت طعاما لوحش أو لحوت، أو ضلت في طوفان أو حريق، فنواتها الدقيقة لن تزال تحتفظ بسرها أبدا! حتى إذا فني من في الأرض جميعا، وحان يوم البعث أمَرَ الله الأرضَ فتخمرت واهتزت وربت ثم أنبتت ملايير البشر، من آدم – عليه السلام - إلى آخر من يكون! ينبتون منتشرين على صعيدها كالبقل! ثم يُنفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون! وإن ذلك لأهون على الله جلت قدرته وعظمته! ولكن الكافرين بربهم يجحدون! فسبحانه وتعالى عما يصفون ويقولون!
ولذلك فقد جاء الرد على ضارب المثل السفيه، ردا قويا حاسما؛ إذ شكك الجاحد في أخص خصائص الربوبية: الخالقية! فقال تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ!) وهو رد متين مبين، فيه من دقة البلاغة، وقوة الحجة، وشدة الإفحام الملجم للجاحد؛ ما يليق بجلال الله الكبير المتعال! فقد أمر تعالى نبيه أن يقول لهذا الجاحد الضال الذي أعرض عنه ربه غضبا: قل له يا محمد إن تلك العظام التي طار رميمها من يده يحييها الذي أنشأها أول مرة! ولم يذكر تعالى اسم الجلاله: الله! لأن هذا الكافر جاهل به تعالى؛ فلا يستحق أن يخاطب باسمه سبحانه! ثم لأن عقله السفيه ضل عن النشأة الآخرة فنبهه الله تعالى للتفكر في النشأة الأولى دون أن يذكر له الفاعل لها؛ لأن العرب يومئذ كانت تؤمن بأن الخالق لكل شيء إنما هو الله، ولكنها كانت تنكر البعث والنشور، وتستبعده - بجهلها - وتستعظمه في حق الله! فكما خلق تعالى الخلق الأول يخلق سبحانه الخلق الثاني، والمتعجب من الخلق الثاني - لو كان من العقلاء – لكان أجدر به أن يتعجب من الخلق الأول! والمحيل للخلق الثاني ملزم بالضرورة أن ينكر الخلق الأول! وهذا هو عين الضلال وركوب المحال!
ألا ما كان أحرى بالإنسان الذي لا يجحد وجود الله تعالى - على الأقل - أن يتأدب مع ربه الذي خلقه! حتى ولو كان كافرا بعد ذلك بكل شيء من أصول الإيمان! فلا يتجرأ على فاطر السماوت والأرض بنقصه سبحانه شيئا من صفاته، بَلْهَ أن يسلبه أخص خصائص شؤون ربوبيته: صفة الخالقية! ولو كان أتى من باب السؤال الصادق في طلب المعرفة بالله، متواضعا بين يدي ربه لهداه الله إلى كل حقائق الإيمان! فكان من المهتدين بإذن الله! ولكن الله لا يهدي المتكبرين!
فمن أخطر أنواع الكفر والجحود - إلى جانب الشرك الغليظ بالله - إنكار صفة الخالقية في حق رب العالمين والانتقاص من كمالها! وتلك هي الجريمة الكبرى التي وقع فيها ضارب المثل في سياقنا هذا! ومن هنا أردف الله تعالى على رده عليه جملة قوية البيان، معرفة بكمال قدرته على الخلق، بما لا طاقة للعقل البشري على استيعابه، إلا أن يكون من المؤمنين! فقال جل جلاله: (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ!) هكذا على الاستغراق الشامل العام الذي لا يستوعبه عَدٌّ ولا يحيط به خيال! الخلق الأول والخلق الثاني، والخلق من شيء والخلق من لاشيء! وخلق الذرات وخلق المجرات، وخلق الأرضين وخلق السماوات، وما في جميع الملك والملكوت! ومن ذا قدير على إحصاء خلق الله إلا الخالق العظيم! ألا ما أجهل الإنسان بربه الكريم!
ثم يُقَرِّبُ القرآنُ الأدلةَ إلى عقل الإنسان الضعيف؛ بالاقتراب من حياته اليومية ومنافعه المادية، فيقول تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ!) وقد تحدث المفسرون قديما عن منافع الشجر، وكيف يكون غضا نديا لا يكاد يصلح لإيقاد النار، ثم يجف بعد ذلك فيحصل به الانتفاع، في الاصطلاء والطبخ وفي سائر المنافع التي لا تنحصر من إيقاد النار. كما تحدثوا عن أنواع خاصة من الشجر، لها خاصية اشتعالية، كانت العرب تقدح النار بحك أغصانها الخضراء بعضها ببعض .
لكن العلم الحديث زاد الإنسان معرفة بخصائص الغابات الخضراء التي كانت تكسو الأرض في العصور القديمة، فابتلعتها الأرض جراء الزلازل والانجرافات، وغيرها من العوامل، فتخمرت تحت الطبقات السفلى لعدة عصور، ثم تحولت بعامل الحرارة إلى حقول النفط والغاز، ومعادن أخرى كالفحم الحجري وغيره، مما صار وقود كل شيء في هذا العصر. حتى إنك لا تكاد تجد – في الغالب - نارا ولا شررا، إلا وهو يوقد إلا من النفط أو الغاز ومشتقاتهما! وتكاد كل الآلات والمحركات في العالم اليوم لا تشتغل إلا بوقود النفط؛ نعمةً من الله وفضلاً! فكيف يجحد الإنسان حق هذا الرب العظيم؟ الرب الذي أخرج له الأشياء من أضدادها؛ لتكون له منفعة في معاشه، وطريقا واضح المعالم، يسلك به إلى معرفة ربه الخالق الكريم!
ثم يرتفع القرآن بالاستدلال إلى المستوى الكوني الشمولي مرة أخرى، مبينا قدرته تعالى على إعادة خلق الكون - بعد هدمه الكامل وإفنائه الشامل - ليقوم الناس ليوم الحساب! فقال جل جلاله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ!) فهذا منطق بسيط واستدلال واضح بيِّن، لكنه قوي وعميق! عميقٌ عُمْقَ ما بين السماوات والأرض! عميقٌ عمقَ لفظ "الخلق" بمعناه المصدري، الدال على فعل الله تعالى، وعمقَ دلالة اسم "الخالق" في صفات الرب الجليل وأسمائه الحسنى! ولذلك فإنه لا يسع الإنسان السوي العقل، إلا أن يخضع لقوة هذا البرهان وربانية هذا بيان!
ومن ثَمَّ أجاب القرآن بقوة عن السؤال الذي ضرب به نواصي الكفار، فقال جل جلاله بعده مباشرة: (بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ!) مثبتا هذا الذي أنكره الجهلة في حق الله سبحانه، واصفا نفسه تعالى باسميه: "الخلاق" و"العليم" في جملة اسمية قصيرة، ثابتة البناء، متينة التعبير! و"الخلاق" بما هو اسم من أسماء الله الحسنى، وصفة له تعالى، معنى عميق يكشف عن وجه آخر لخاصية من أعظم خصائص الربوبية! فـ"الخلاق" صيغة مبالغة من فعل الخلق، وهو فعل خاص بالله تعالى. فكان من أسمائه الحسنى "الخالق" و"الخلاق"!
فهو تعالى خالقٌ بما يقوم به سبحانه من فعل الخلق، وهذا معنى غيبـي من أعمق المعاني! تجلياته تحيط بهذا الوجود بأكمله! ويمتد نوره الإلهي من عالم الغيب بكل ملكوته، إلى عالم الشهادة بكل عناصره وأنواعه! فهوحجة الله البالغة، (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر: 62)، وبه تحدى الربُّ - جل جلاله - الكفرةَ والمشركين في كل عصر ومصر، فقال تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ! بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ!)(لقمان: 11) وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ! إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ!)(الحج: 73)
ثم هو - جَلَّ ذِكْرُهُ وثناؤه – "خَلاَّقٌ"؛ بما لخالقيته تعالى من الثبات والاستمرار، ومن تعدد المخلوقات؛ بما لا قدرة لأحد على عده وإحصائه! هذا من جهة. ومن جهة أخرى هو تعالى "خَلاَّقٌ"؛ بما لقدرته على الخلق والإبداع من المعنى الإعجازي؛ ما يحير الألباب ويذهل العقول! فأما مخلوقات الله فكل الناس يشاهد منها ما هومشاهَد، وأما فعله تعالى من معنى الخلق؛ فلا أحد يستطيع الاقتراب من حقيقته أو معناه! فالله جل جلاله إما أن يخلق الشيء من عدم، وهذا ما يعجز العقل عن استيعابه، ويحرق خلايا الدماغ إن اقترب من جلاله! وإما أن يخلق تعالى شيئا من شيء، كخلق آدم - عليه السلام – من طين، أو خلق ذريته من ماء مهين! فهذا أيضا مما يقف العقل إزاءه حائراً! عاجزا عن إدراك كيف يتحول الطين المسنون إلى جسم إنساني جميل؟ ووجه مشرق الطلعة، صافي العينين، أسيل الخدين، لطيف الشفتين! ناطق اللسان، جياش الوجدان! وقد كان قبل ذلك كومة طين من حَمَأٍ مسنون! أو صورة من صلصال كالفخار! فارغة الجوف كالخابية القديمة! فكيف تحولت كرة الطين في رأسها إلى جمجمة دقيقة الصنع، بما تحمل من دماغ لطيف وشعيرات دموية دقيقة؟ وكيف تحول النقش المرسوم على وجهها إلى عينين تدمعان وتشعان بنور الإبصار؟ وإلى رموش ترتعشان بما تشعران به من نسيم الحياة؟ ثم كيف؟ وكيف؟ وكيف؟ والأسئلة التي لا أجوبة لها لا تنتهي أبدا! ومن ذا يحيط بحقيقة اسمه تعالى إلا هو تعالى! ذلك هو "الخلاق العليم" جل جلاله، فسبحانه وتعالى عما يصفون! فعلمه الواسع شاملٌ لكل شيء، محيطٌ بكل شيء، فكيف يغيب عنه علم الخلق وفعله مرات ومرات؟ كيف وهو صفة ثابتة من صفاته سبحانه!؟
وقبل أن يدخل العقل البشري في هذه المتاهات، بيَّن الباري تعالى أن الخالقية سر من أسرار ربوبيته، تستحيل معرفتها على عبيده، الذين هم محض خلقه وصنعه! فما كان للمخلوق أن يحيط بمعنى الخالق! لأن المفعول به في هذا الشأن لا يكون فاعلا أبداً! ومن ثَمَّ سد الحقُّ تبارك وتعالى الباب على هذا الجهل البشري العابث! فقال جل جلاله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ!) هكذا ابتدأ الآية بعبارة "إنما" المفيدة للحصر والتوكيد وصلابة الخطاب؛ لحسم الحكم وحصر الحقيقة؛ بما يقطع جدل العابثين، ويلجم أفواه الجاهلين، ويخبت قلوب المؤمنين المتدبرين! و"الأمر" ههنا - كما هو في كثير من المواطن من كتاب الله – دال على شأن ربوبيته تعالى، وليس هو بالمعنى المصدري لفعل "أَمَرَ". فشأنه تعالى أنه بمجرد ما تتعلق إرادته بخلق شيء فإنه ينصاع، فيكون! وعبر عن ذلك بأقصر جملة، وأقوى عبارة، وأعمق دلالة، وهي كلمة: "كن فيكون!" الدالة على الانصياع الكامل والمطاوعة التامة، بما يجعل المخلوق يكون كما أراد الخالق جل جلاله، بلا زيادة أو نقصان، ولا تأخر عن موعد الكينونة، ولو بطرفةٍ خاطفة من عين الزمان! كما قال تعالى في وصف تعلق أمره بقيام الساعة: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ! إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ!)(النحل: 77) فأنى لرب عظيم هكذا شأنه وهكذا خَلْقُهُ وأَمْرُهُ؛ أن يعجزه شيء من أمر البعث والنشور؟ ألاَ ما أضل الجهلة بالله!
وإن المؤمن لا يملك إذ يمضي مع هذه الحقائق الإيمانية الجليلة، مرتلا أو منصتا لكتاب الله، إلا أن تشتاق روحه الخاشعة، إلى التسبيح تنـزيها لله الواحد القهار مما وصفه به الجاهلون! ولذلك بادر الحق تبارك وتعالى إلى تنـزيه ذاته العظيمة، وتقديسها من مقولات الكفار والمشركين، وأوهامهم الباطلة! فختم بذلك سورة "يس" ختمةً يبقى صداها يضخ بقلب العبد الأمواج الضخمة، المتدفقة من محيط عالم الغيب العظيم! فلم يزل القلب يخفق خوفا ورَهَباً، مما شاهد من تجليات شؤون الربوبية وجلالها! قال تعالى: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)
"فسُبْحَانَ" عبارة تنـزيه وتقديس، بمعنى أن الله - جل جلاله - متعال بربوبيته عن صفات النقص والعجز، مما يتوهمه الجاهلون! بل هو تعالى رفيع الدرجات، علي القَدْرِ، كامل الصفات! وقياس شأنه تعالى بالشأن البشري من أجهل الجهالات، وأبعد الضلالات! وتلك هي آفة الكفرة والمشركين! ولذلك عبَّر تعالى بصفات القدرة، والهيمنة، والتملك، والإحاطة بجميع مملكته، والقهر لكل خلقه - في سياق إضافة التسبيح لنفسه - واصفا ذاته تعالى بكل ذلك جميعا، من خلال جملة موصولة، لكن دون ذكر لفظ الجلال "الله"، فاحتجب سبحانه باسمه وتجلى بصفاته؛ وذلك لبيان تنـزهه، وعلو شأنه، وعظمة قَدْرِهِ، وترفعه عن جهل المرَدَةِ من عباده!
وعبارة الملكوت في اللغة مبالغة من لفظ الْمُلْكِ. فهي أعمق في الدلالة على عظمة مُلْكِهِ تعالى، وأوسع في التعبير عن دقة صنعه وكمال خلقه، وامتداد مملكته من عالم الأرواح إلى عالم الأشباح، ومن عالم الغيب إلى عالم الشهادة! فهو تعالى مهيمن على مملكته، بيده تعالى مقاليد كل شيء من جميع خلقه! لا شيء يكون إلا بإذنه، ولا شيء يحدث إلا بعلمه! قادر على فعل كل ما يريد في حينه! وذلك كله هو معنى كونه تعالى رب العالمين! فمن كان هذا شأنه فأنى يعسر عليه أو يستحيل في حقه أمر البعث والنشور؟ ولذلك كانت الجملة الخاتمة الحاسمة للسورة بأكملها: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!) أي إلى هذا الرب العظيم الذي تنكرون قدرته على البعث، إليه - جل جلاله - تساقون يوم القيامة، خاسئين! وبين يديه يومئذ تُحْضَرُونَ مذمومين مدحورين! والخليقة كلها آنئذ جاثية في ساحة الحشر، تنتظر عَرْضَهَا وحسابها في مشهد رهيب!
تلك هي الكلمة الخاتمة الحاسمة! وَلْيَبْقَ بعد ذلك هؤلاء الكفرةُ المستكبرون، مصرين على طغيانهم واستعلائهم! فلا ضير! إن أقدام الموت متواترةُ الخطوِ نحوهم ونحو كل مخلوق، ولسوف يرون - يوم ينفخ في الصور - من صار إلى خسران مبين!
3- الهدى المنهاجي:
وهو في الرسالات الأربع التالية:
- الرسالة الأولى:
في أن الإنسان لا ينجو حتى يخرج من " أَنَا " الإنسانية إلى مدار العبدية! ذلك أن صفة الإنسانية إذا لم تترق إلى مقام التعرف إلى الله، ولم تصطبغ بالانتساب التعبدي إليه تعالى، ألَّهَتْ ذاتَها! وعَبَدَتْ أنَاهَا! فكانت دَرَكاً مظلما! وتِيهاً من الجهالة والضلال! وعلى ذلك أقسم الحق سبحانه في سورة العصر، فقال جل جلاله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ! إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ!) ونحوه قوله تعالى في سورة التين: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ!)(التين: 4-5) ولذلك كان قوله تعالى فيما نحن فيه من سورة يس: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ!) دالا على الطبيعة الجدلية للإنسان المغروسة في جِبِلَّتِهِ بما هو إنسان! كما في قوله تعالى: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً!)(الكهف: 54) فإما أن يسلم لله رب العالمين؛ فيخرج من ظلمات إنسانيته إلى نور عبديته لخالقه، وإما أن تقوده إنسانيته إلى الخسران المبين!
- الرسالة الثانية:
في أن بدء السير إلى الله تعالى ينطلق من معرفة النفس أولا، والتفكر في خلقها، والنظر في حقيقتها، ومراقبة أحوالها. فمن وضعها على طاولة التشريح، كأنها شيء مستقل عنه، اكتشف عجزها واضطرارها إلى خالقها! فشخَّص آنئذ أدواءَها ووَصَفَ دواءَها! ثم استأصل أهواءَها وكبرياءَها! ودخل مقامَ الإرادة بعد يقظة قلبه، وانتعاش روحه، وكان من السائرين.
لكن معرفة النفس على التمام لا تكون إلا بالبحث عن كمالها، والسعي إلى غناها! وبما أن تشريحها أظهر عجزَها وكَشَفَ فقرَها؛ فلا سبيل لها إذن إلا الاعتصام بخالقها العظيم! ذلك أن البحث في الذات مفض إلى التعرف على رب هذه الذات؛ لأن خاتم صنعته تعالى مطبوع على كل خلجة من خلجاتها، مرسوم على كل خلية من خلاياها! فإذا توجهت أغصانها المنفوضة الأوراق، ممتدة نحو السماء، تستدر ألطاف الرحمن؛ وجدت غناها في فقرها، وقوتها في عجزها، وكمالها في نقصها! كل ذلك باستنادها إلى ربها الخالق العظيم، وانتسابها إليه تعالى بإسلام وجهها كلية لله!
- الرسالة الثالثة:
في أن صفة الخالقية - في ذات الله تعالى - هي الباب الأعظم لمشاهدة جلال الربوبية، والتعرف على مقام الله العظيم، وقَدْرِهِ حَقَّ قَدْرِهِ! وتلك معرفة رفيعة تشرح القلب وتهيئه لتلقي النور من سائر الأسماء الحسنى! والداعية إلى الله إذا أخطأ هذه الطريق فإنه يعجز عن تحقيق المعرفة بالله، بَلْهَ أن يكون قادرا على التعريف به – جل جلاله - لغيره من الناس!
والذي أكرمه الله تعالى بتجلي نور اسمه "الخالق" أو "الخلاق"، تدفقت جداول المعرفة بأسماء الله الحسنى كلها على قلبه! فجعل يترقى بمنازلها الإيمانية، اسما بعد اسم، وصفةً بعد صفة، حتى يكون بإذن الله من كُمَّلِ العلماء بالله!
وليس عبثا أن استفاض ذكر فعل الخلق ومشتقاته في القرآن الكريم، وتوارد في كل السياقات، العَقَدِيَّةِ والدعوية والتربوية والجهادية والتشريعية! حتى لا تكاد تجد سورة إلا وهذا المعنى حاضر فيها بقوة، لفظا أو مفهوما. وما ذلك إلا لما لهذا المفهوم صفةً أو اسماً، من مركزية نورية في شجرة الأسماء الحسنى، ولما له من عظيم الفتح على القلب المتعرف إلى الله! ثم لما له من قوة الحجة على الكفار، والطرْق الشديد على أبواب الجاهلين، والإيقاظ القوي لقلوب الغافلين!
- الرسالة الرابعة:
في أن التسبيح بحمد الله وعظمته هو زاد المؤمن المتفكر في خلق السماوات والأرض، وهو كلمة السر المودعة بقلب العارف بالله الداعية إليه تعالى، السالك إليه - سبحانه - عبر معارج الروح، المنصوبة في فضاءات الملكوت! فبالتسبيح تنفتح له أبواب المنازل والمشاهدات! فما يزال يترقى حتى يتلقَّى من أنوار الجمال والجلال ما يفنيه في حب الله، ويُخْلِصُهُ تمام الإخلاص للتفرغ الكامل لعبادة ربه رَغَباً ورَهَباً! فيصير بذلك عبداً حَقَّ عَبْدٍ لمولاه، واقفا أبدا بباب طاعته! قائما بحق ربوبيته، لا ينشغل بشيء عن خدمة دينه، والتعريف بربه وبمقامه العظيم! فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
4- مسلك التخلق:
للِرُّقِيِّ من درك الإنسانية إلى منـزل العبدية الكاملة؛ لابد للمؤمن من العروج بمعراج التفكر التعبدي، الذي يسلك به طبقات الملكوت صعودا؛ حتى يتعرف على مقام الربوبية الأعظم! ويتلقى أنوارَه شيئا فشيئا، إلى أن ينصقل قلبه تماما، وتصفو مرآته، فلا ينبض بغير النور! ومن ثَمَّ تجري جداول لسانه بالتسبيح والتقديس يقظةً ومناماً!
إن السياحة التعبدية بين معارض المخلوقات، تفتح بصيرة العبد وتكسبه القوة الروحية على إبصار النور العُلْوِيِّ! فيشاهد من تجليات أسماء الله الحسنى؛ ما يجذب قلبه إلى فلك السير الأبدي الراحل إلى الله! وإن الإنسان الذي لم يزل أسير إنسانيته الطينية، قابعا داخل خابية الفخار، مخدرا برائحة الحمأ المسنون؛ لا يستطيع إدراك تجليات الجمال والجلال، الساطعة على لآلئ الملك والملكوت! فمن ذا قدير على تكسير خابيته، والتحليق بعيدا بأشواق الروح نحو المنازل العليا؟ إذن يكون من الأوابين! وإذن يتلقى شعاع النور من مثل قوله تعالى: (نِعْمَ العَبْدُ! إِنَّهُ أَوَّابٌ!)(ص:30) فهنيئا لك يا عبد بمقامات الرضى والسلام!


خاتـمة

هذه هي قضية الدعوة إلى الله: تعريف الخلق بالله! وتلك كانت هي قضية سورة يس من أولها إلى آخرها. حقائق إيمانية ومشاهدات، بلاغات وبيانات، جهاد ومجاهدات، جدالات وخصومات، مواقف لاهبة وشهادات، كشف مصائر ومآلات، معارض كونية وسياحات. كل ذلك من أجل حقيقة واحدة: التعريف بالله ربا واحدا لا شريك له!
ولذلك فقد تضمنت من فقه الدعوة إلى الله، وبيان منهاج السير إليه تعالى، قواعدَ رحمانية، ومعالم ربانية، لا حَقَّ لداعية إلى الله أن يكون جاهلا بها!
وإنها لجديرة بأن تكون سورة مركزية في التداول التربوي العام والخاص، ومقررا دراسيا بأقسام الدعوة الإسلامية بكل أصنافها ومستوياتها. فكلٌّ يأخذ منها على قدر ما أهله الله له. والمؤمن عموما في مسيس الحاجة إلى التفقه فيها وتَلَقِّي حقائقها الإيمانية؛ قصد التترس بحصونها الربانية العالية، خاصة في هذا الزمن الصعب. ذلك، وإنما الموفق من وفقه الله!
تلك كانت مجالس من سورة "يس"، عِبَراً وعَبَرَات، وهُدَى وبركات! مما يسر الله تقييده بهذه الصفحات. فسبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك!

__________________________
[1]ن. تفسير الطبري للآية.

[2]عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل ابن آدم يأكله الترابُ إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ، منه خُلِقَ ومنه يُرَكَّبُ!) رواه مسلم.