تحريف أقوال يسوع ... من حرَّف الكتاب المقدس ولماذا ؟" للدكتور بارت إيرمان
تحريف أقوال يسوع ... من حرَّف الكتاب المقدس ولماذا ؟" ولعل أهمية الكتاب تنبع من أمرين : أحدهما أن في هذا الكتاب إجابة على السؤال المسيحي الشهير : "إذا كان الكتاب المقدس محرف ...فمن الذي حرفه ؟ ولماذا حرفه ؟" و الثاني أن الشهادة في حالة إيرمان هي من شاهدٍ من أهلها ،فالرجل ليس مسلما بل مسيحيًّا (أو على الأقل كان كذلك قبل أن يوصله الكتاب المقدس و دراسة مخطوطاته وحقائق تاريخ الكنيسة إلى الإلحاد ) ... وهذا الرجل توصل إلى ما توصّل إليه و هو لم يقرأ من قبل قوله تعالى " فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ..." ورغم ذلك بعد ألف وأربعمائة عام على هذه الآية الإلهية يأتي أحد علمائهم ليضع بخطوط حمراء صدق وتأكيد هذه الآية القرآنية ... فيتهم هو أيضًا النساخ بتحريف الكتاب المقدس... بل وبضياع نصوصه للأبد ..! هذا وسنقوم بمشيئة الله بنشر الكتاب في هذا المنتدى المبارك فصلا بعد آخر على حلقات . معلومات عن الكتاب: اسم الكتاب في لغته الأصلية هو: Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why والكتاب كان أفضل الكتب مبيعا في أمريكا في عام نشره حسب صحيفة النيويورك تايمز . تعريف بالمؤلف: بارت إيرمان أحد علماء العهد الجديد و متخصص في تاريخ القرون الأولى أي الفترة المبكرة للديانة المسيحية . وقد حصل على درجتي الدكتوراه في الفلسفة و الأستاذية في اللاهوت من معهد برينستون اللاهوتي التعليمي حيث درس على يد العلّامة "بروس ميتزجر" . وهو حاليا يعمل كعميد لقسم الدراسات الدينية بجامعة نورث كارولينا في تشابيل هيل. وقد كان عميدا للمنطقة الجنوبية الشرقية لجمعية أدب الكتاب المقدس، و عمل كمحرر لعدد من نشرات الجمعية . وهو الآن مؤلف مشارك لسلسلة من أدوات ودراسات العهد الجديد. كثير من مؤلفات إيرمان كانت تتمركز حول الأوجه المتعددة لفرضية "والتر باور" التي تفترض أن الديانة المسيحية كانت على الدوام منقسمة على نفسها . وقد اعتبر إيرمان دوما رائدًا في علاقة تاريخ الكنيسة المبكرة بالقراءات المتباينة الموجودة في ثنايا مخطوطات الكتاب المقدس و في صياغة مصطلح "مسيحية عصر ما قبل الأرثوذكسية". فقد كان إيرمان يدندن ، في كتاباته، حول النقد النصِّي . فمنذ عصر آباء الكنيسة ، ظل الهراطقة (مرقيون على سبيل المثال) يواجهون اتهامات حول العبث بمخطوطات الكتاب المقدس. يطرح إيرمان في مؤلفاته نظريته حول أن المسيحيون الأرثوذكس هم في أغلب الأحوال من " أفسدوا " المخطوطات ،عبر تحريفهم النص ، تدعيما لوجهات نظر معينة. وقد قام بتأليف و المساهمة في إصدار تسعة عشر كتابا. وإيرمان لديه طفلين ، بنتٌ تسمى كيلي ، و ولد اسمه ديريك . وهو متزوج من سارة بيكويث (دكتوراه في الفلسفة من الكلية الملكية في لندن) ، وأستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة دوك. أصبح إيرمان في سن المراهقة مسيحيا إنجيليا. و التحق بمعهد مودي لدراسة الكتاب المقدس و كلية ويتون (حصل على البكالوريوس عام 1978 ). رغبته في التعرف على كلمات الكتاب المقدس الأصلية قادته إلى علم النقد النصي ،الذي بدوره ضعضع إيمانه بالكتاب المقدس ككلمة الله المنزَّهة عن الخطأ . إيرمان في الوقت الحاضر يعتبر نفسه "لا أدريًّا". مؤلفات بارت إيرمان: • Ehrman, Bart (2006). The Lost Gospel of Judas Iscariot: A New Look at Betrayer and Betrayed. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (2006). Peter, Paul, and Mary Magdalene: The Followers of Jesus in History and Legend. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (2005). Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why. HarperSanFrancisco. • Metzger, Bruce M.; Ehrman, Bart (2005). The Text of the New Testament: Its Transmission, Corruption, and Restoration. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (2004). Truth and Fiction in The Da Vinci Code: A Historian Reveals What We Really Know about Jesus, Mary Magdalene, and Constantine. Oxford University Press, USA . • Ehrman, Bart (2004). A Brief Introduction to the New Testament. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (2003). The Lost Christianities: The Battles for ******ure and the Faiths We Never Knew. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (2003). The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart; Jacobs, Andrew S. (2003). Christianity in Late Antiquity, 300-450 C.E.: A Reader. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume II. Epistle of Barnabas. Papias and Quadratus. Epistle to Diognetus. The Shepherd of Hermas. Harvard University Press. • Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume I. I Clement. II Clement. Ignatius. Polycarp. Didache. Harvard University Press. • Ehrman, Bart (2003). The New Testament and Other Early Christian Writings: A Reader. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (2003). Lost ******ures: Books that Did Not Make It into the New Testament. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (1999). Jesus: Apocalyptic Prophet of the New Millennium. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (1998). After the New Testament: A Reader in Early Christianity. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (1996). The Orthodox Corruption of ******ure: The Effect of Early Christological Controversies on the Text of the New Testament. Oxford University Press, USA. • Ehrman, Bart (1987). Didymus the Blind and the Text of the Gospels (The New Testament in the Greek Fathers; No. 1). Society of Biblical Literature. يتبع |
إهداء إلى بروس ميتزجر تمهــــــيد كان موضوع هذا الكتاب يدور في عقلي ، ربما أكثر من أي شئ كتبت عنه ، خلال الثلاثين عامًا الماضية ، وذلك منذ أن كنت في أواخر سني مراهقتي ومنذ أن كنت أخطو خطواتي الأولى في دراسة العهد الجديد.ولأن هذا الموضوع كان جزءًا منِّي لفترة طويلة، فلقد رأيت أنه من الضروري أن أبدأ بإعطاء بيان شخصي للأسباب التي جعلت هذه المادة ،وما تزال،شديدة الأهمية بالنسبة إلي. هذا الكتاب يدور حول مخطوطات الكتاب المقدس و الاختلافات الموجودة فيها،وحول النساخ الذين نسخوا الأسفار وحرفوها أحيانًا. ربما لا يبدو ذلك أمرًا متوقعًا كمدخل إلى السيرة الذاتية لشخص ما،لكنه كذلك في حالتي تلك. لا يملك الإنسان السيطرة التامةعلى مثل هذه الأمور.لكن قبل توضيح كيف ولماذا كانت مخطوطات العهد الجديد تمثل شيئا مختلفًا تمامًا عاطفيًًّا وفكريًّا بالنسبة إلي ،وإلى إدراكي لذاتي،وللعالم الذي أحيا فيه،ولأفكاري حول الإله،وحول الكتاب المقدس،ينبغي أن أحكي بعض الخلفيات عن شخصيتى. وُلدتُ وترعرعت في مكانٍ وزمانٍ محافظين ـــــ في قلب البلاد، وبداية منتصف الخمسينات.نشأتي لم تشهد شيئا غير عادي.كنا أسرة رائعة تقليدية مكونة من خمس أفراد،من المترددين على الكنيسة لكن من ذوي التدين العادي.بدءًا من العام الذي كنت فيه في الصف الدراسي الخامس انضممت إلى الكنيسة الأسقفية في لورنس،بولاية كينساس،التي كان يرأسها قسيس طيب وحكيم، تصادف أنه أيضًا كان جارًا لي ووالدًا لأحد أصدقائي(الذي تورطت فيما بعد معه في متاعب أثناء المدرسة العليا المتخصصة ـــ شئ متعلق بتدخين السجائر). مثل كثير من الكنائس الأسقفية،هذه الكنيسة كانت حسنة السمعة وموثوقًًا بها في نظر المجتمع .كانت تتعامل مع طقوس الكنيسة بشكل جاد ،وكان الكتاب المقدس جزءا من هذه الطقوس.لكن الكتاب المقدس لم يكن محط الاهتمام الكامل:لقد كان الكتاب المقدس آنذاك واحدًا من الطرق إلى الإيمان والعمل ،إلى جانب التقليد الكنسي و الفطرة السليمة .لم نكن نتكلم في الواقع عن الكتاب المقدس كثيرًا،ولم نكن نقرأه كثيرًا،حتى في فصول مدارس الأحد،التي كان تركيزها الأكبر على القضايا العملية والاجتماعية ،وعن الكيفية التي ينبغي أن نعيش بها في العالم.لكن الكتاب المقدس استحوذ على مكانة عظيمة في بيتنا،خاصة بالنسبة لأمي،التي كانت تقرأ لنا منه أحيانًا وتعمل على أن تتأكد من أننا نفهم قصصه وتعاليمه الأخلاقية(و"عقائده"بدرجة أقل) . حتى قبل سنوات دراستي في المدرسة الثانوية،أفترضُ أنني كنت أرى في الكتاب المقدس كتابًا غامضًا له بعض الأهمية بالنسبة للدين؛لكنه بالتأكيد لم يكن شيئا مستحقًا لأن يتم تعلمُه ومدارسته.لقد كان الكتاب المقدس يمثل للدين إحساسًا بالأصالة والقِدَم وكان بصورة أو بأخرى مرتبطًا بشكل لا يقبل الانفصام بالإله والكنيسة والعبادة . إلى الآن،لم أر أي مبرر يدفعني لقراءته من تلقاء نفسي أو لإتقانه.لكن الأمور تغيرت بصورة حادة بالنسبة إلي حينما كنت في السنة الثانية في المدرسة الثانوية.لقد حدث بعدها أن مررت بتجربة "الميلاد مرة ثانية" في محيطٍ شديدِ الاختلافِ عن محيط الكنيسة في مدينتي . لقد كنت نموذجًا للولد "المتزمت"ـــ فأنا طالب صالح،مهتم ومشارك في الرياضات المدرسية لكن ليس لدرجة النبوغ في واحدة منها ،مهتم ومشارك في الحياة الاجتماعية ولكني لست منتميًا إلى الطبقة العليا من النخبة ذات الشعبية في المدرسة. أتذكر شعورًا بنوع من الفراغ الداخلي بلغ درجةً لم يستطع أي شئ ملأه ـــ لا التسكع مع الأصدقاء (كنا بالفعل قد أدمنا جلسات جماعية للشراب في الحفلات)،ولا أخذ المواعيد الغرامية(بدأنا في دخول عالم الجنس شديدالغموض )، ولاالدراسة (كنت أذاكر بجد و أبليت بلاءا حسنًا لكن لم أكن نجمًا فوق العادة)، ولا العمل(كنت مندوبًا للمبيعات لحساب شركة تبيع المنتجات لفاقدي البصر)،ولا الكنيسة(كنت مساعدًا للكاهن وتقيًا وسيمًا ــــ أي كنت ذلك الشخص الذي يجب أن يكون في صباح كل أحد معترفًا بكل شئ حدث في ليلة كل سبت).كنت أشعر بنوع من الوحدة تزامن مع كوني شاب في مرحلة المراهقة ؛لكنني، بالطبع،لم أدرك أن الشعور بالوحدة جزء من كوني مراهق ــ ظننت أن شيئًا لابد وأنه ينقصني.حدث هذا عندما بدأت حضور لقاءات شبيبة الحياة الجامعية التابعة لنادي المسيح ؛ التي كانت تجري في بيوت الشباب ــــ أول لقاء حضرته كان حفلة في حديقة منزل (yard Party) لأحد الشباب وكان وسيمًا ومحبوبًا ،وهذا ما جعلني أظن أن المجموعة ستكون رائعة.قائد المجموعة كان في العشرينات من عمره يسمى "بروس" و كان يقيم هذا النوع من الحفلات لسبب حيوي – فقد حاولت أندية شباب من أجل المسيح التي يتم تنظيمها على النطاق المحلي أن تحول شباب المدارس الثانوية إلى "مولودين مرة أخرى" ثم بعد ذلك إشراكهم في دراسات جادة للكتاب المقدس،واجتماعات للصلاة،وما إلى ذلك . كان لبروس شخصية ساحرة – لقد كان أصغر سنًّا من آبائنا و أكثر خبرة منا ـــ ولديه رسالة قوية،وهي أن الفراغ الذي نحسه داخلنا (كنا مراهقين! كلنا نشعر بالفراغ) هو من عدم وجود "يسوع" في قلوبنا .ولو طلبنا فقط من "يسوع" أن يدخل،فسيدخل ويملأ حياتنا بالبهجة والسعادة التي يعرفها فقط "الحاصلون على الخلاص" . كان باستطاعة "بروس" أن يستحضر ما شاء من الاقتباسات من الكتاب المقدس في أي وقت،وكان يفعل ذلك بصورة مذهلة .ولشعوري بالتوقير تجاه الكتاب المقدس ،مع جهلي به، كان الأمر يبدو مقنعًا بكل ما في الكلمة من معنى.ولقد كان الأمر هنا مختلفًا عما كنت أشعر به تجاه الكنيسة التي كانت تستخدم طقوسًا قديمة ولذلك بدت ملائمة أكثر لبالغين عجائز وليس لشباب صغار يبحثون عن المتعة وروح المغامرة،وأيضًا يشعرون في ذواتهم بالفراغ.بالمختصر المفيد،تعرفت في النهاية ب"بروس"،و قبلت رسالته الخلاصية ،وطلبت من المسيح أن يدخل إلى قلبي، ومررت عن طيب خاطر بتجربة الميلاد مرة أخرى.لقد ولدت في الواقع قبل ذلك بخمسة عشر عامًا،لكن تلك التجربة كانت جديدة وممتعة في نظري. وجعلتني أبدأ رحلة إيمان مستمرة شهدت تحولات ومنعطفات كثيرة ،انتهت بنهاية مميتة برهَنَتَْ على أنها،في الواقع،طريق جديدة سلكتها في ذلك الوقت، تجاوزت الآن ما يزيد عن ثلاثين سنة.هؤلاء اللذين مروا بتجربة الولادة من جديد من بيننا يظنون أنفسهم المسيحيين"الوحيدين"ــــ عكس هؤلاء اللذين يذهبون إلى الكنيسة بشكل روتيني ،اللذين ليس لديهم المسيح حقًيقةً في قلوبهم ولذلك يذهبون إلى الكنيسة بشكل خالٍ من أي روح.إحدى الطرق التي تجعلنا مختلفين عن هؤلاء الآخرين هي التزامنا بدراسة الكتاب المقدس والصلاة . وخاصة دراسة الكتاب المقدس. بروس نفسه كان دارسًا للكتاب المقدس.فقد كان يدرس في معهد "مودي" للكتاب المقدس في شيكاغو وكان باستطاعته أن يقتبس جوابًا من الإنجيل لأي سؤال نفكر فيه(بل ولكثير من الأسئلة التي لم نكن لنفكر فيها على الإطلاق).أحسست سريعًا بالغيرة تجاه هذه القدرة على الاقتباس من الكتاب المقدس وانخرطت أنا أيضًا في حلقات لدراسة الكتاب المقدس ،درست بعض النصوص،فهمت مناسباتهم،وحتى حفظت الآيات الرئيسية .أقنعني بروس أنني يجب أن أهتم بأن أكون مسيحيًا "جادًا" وأن أكرس نفسي بالكامل للإيمان المسيحي.هذا كان يعني أن أدرس الكتاب المقدس بالكامل في معهد "مودي" للكتاب المقدس،الذي كان،من بين أمور أخرى عديدة،يمثل تغييرًا جذريًا لنمط حياتي.في معهد "مودي" هناك "قانون" أخلاقي يجب على الطلاب أن يمتثلوه:لا خمر،لا تدخين،لا رقص،لا قمار،لا أفلام.بل كثير بما فيه الكفاية من الكتاب المقدس . كنا معتادين على ترديد:"معهد مودي للكتاب المقدس ،حيث الكتاب المقدس هو ما يميزنا."أظن أنني نظرت إليه كمعسكر مسيحي تدريبي ذي نظامٍ قاسٍ.في كل مناسبة،قررت أن أتعامل مع إيماني بجدية كاملة؛تقدمت بطلب التحاق لمعهد "مودي"،التحقت به،وذهبت إلى هناك في خريف 1973.لقد كانت تجربة معهد "مودي" تجربة قوية.قررت أن أتخصص في اللاهوت الكتابي،وهو ما كان يعني الحصول على الكثير من دروس الكتاب المقدس ودورات اللاهوت النظامي.وجهة نظر واحدة كنا نتعلمها في هذه الدورات،صدق عليها كل الأساتذة(وكان عليهم أن يوقعوا إفادة بذلك)وكل الطلاب (وقد فعلنا الشئ ذاته):الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة.ليس به أية أخطاء.أوحاه الله وكل كلمة من كلماته ــــ "وحيًا شفويًا،كاملاً." كل الدورات العلمية التي حصلت عليها تفترض مسبقًا وتُعَلِّم وجهة النظر هذه؛وأيُّ وجهة نظر أخرى ماهي إلا وجهة نظر مضلِّلَة أو حتى هرطوقية.البعض،فيما أظن،سيسمي ذلك عملية غسيل مخ.بالنسبة إليَّ،كان ذلك"ارتقاءا" هائلاً عن وجهة النظر الخجولة تجاه الكتاب المقدس التي كنت أعتنقها باعتباري عضوًا تقليديٍّا في الكنيسة الأسقفية في ريعان شبابي. هذه هي المسيحية الواضحة ،التي تناسب الملتزمين التزامًا كاملاً. إلا أنه كان هناك إشكالية واضحةٌ تواجه هذا الزعم بأن الكتاب المقدس موحى به حرفيًا ــــ وفقا لكلماته نفسها . فكما تعلمنا في معهد "مودي" في واحدةٍ من الدورات الأولى للمنهج الدراسي،ليس لدينا بالفعل النصوص الأصلية للعهد الجديد.ما بحوذتنا هو نسخ من هذه الكتابات،كتبت بعد ذلك بسنين ـــ بل بعد ذلك بمئات السنين ،في الغالب الأعم. فوق ذلك،ليس بين هذه النسخ نسخة صحيحة بالكامل ،حيث قام النساخ اللذين أنتجوها بطريق السهو و/أو عن قصد بتغييرها عن مواضعها. كل النساخ فعلوا ذلك.ولذلك بدلا من امتلاك كلمات المخطوطات الموحى بها فعليًا(أي الأصول)،ما لدينا هو نسخ مليئة بالأخطاء (errorridden) من تلك الأصول. لذلك، كان التحقق مما قالته أصول الكتاب المقدس إحدى أكثر المهام إلحاحًا ، مع وضع الظروف التالية في الاعتبار (1) أنها موحى بها (2)أننا لا نمتلكها . يجب أن أذكر أن كثيرًا من أصدقائي في "مودي" لم يروا أن هذه المهمة تستحق كل هذه الاهتمام أو العناء.كانوا سعيدين بالركون إلى الزعم بأن الأصول كانت من الوحي،وبتجاهل أن الأصول ،إن بشكل أكبر أو أقل، لم يعُد لها وجود. بالنسبة إليَّ،على الرغم من ذلك،كانت هذه مشكلة قهرية .لقد كانت هذه هي كلمات الكتاب المقدس ذاتها التي كان الرب قد أوحاها.وبالتأكيد كان من الواجب أن نعرف ماهية هذه الكلمات لو كنا نريد أن نعرف كيف كان الله يريد أن يتواصل معنا،مادامت الكلمات ذاتها هي كلماته،ووجود بعض الكلمات التي كتبها الآخرون(أي التي أحدثها النساخ إن عرضيًا أو بشكل متعمد)لن تساعدنا كثيرًا لو أردنا أن نعرف كلماته . هذا ما جعلني مهتمًا بمخطوطات العهد الجديد في ذلك الوقت حينما كنت في الثامنة عشر من عمري. في معهد "مودي"،تعلمت الأساسيات في ميدان "النقد النصي" ـــ وهو مصطلح علمي يقصد به علم استعادة الكلمات "الأصلية" لنص ما من مخطوطاته التي تم العبث بها. إلا أنني حتى ذلك الوقت لم أكن مؤهلاً بعد للتعامل مع هذا العلم .أولاً كان عليَّ أن أتعلم اللغة اليونانية ،لغة العهد الجديد الأصلية،وربما لغات قديمة أخرى مثل العبرية(لغة العهد القديم حسب المصطلح المسيحي) واللاتينية، بالإضافة إلى اللغات الأوروبية الحديثة مثل الألمانية والفرنسية ،من أجل لاطلاع على ما قاله العلماء الآخرون بخصوص هذه القضايا . لقد كان الطريق أمامي طويلا . في نهاية الثلاث سنوات التي قضيتها في معهد "مودي"( كانت الدبلومة مدتها ثلاث سنوات)،كنت قد أبليت بلاءًا حسنًا في مقرراتي الدراسية وأصبحت أكثر جدية عن ذي قبل فيما يتعلق برغبتي أن أصبح عالمًا مسيحيًا.كان تصوري في ذلك الحين أنَّ ثمة وفرة في العلماء الحاصلين على تعليم عال بين المسيحيين الإنجليين،لذلك أردت أن أصبح "صوتًا" للإنجيليين داخل الدوائر العلمانية،عبر الحصول على درجات علمية تسمح لي أن أقوم بالتدريس في المحيطات العلمانية في الوقت الذي أحافظ فيه على التزاماتي الدينية الإنجيلية. أولاً ،كان يلزمني الحصول على درجة البكالوريوس،ولكي أفعل هذا فقد قررت أن التحق بكلية من الكليات الإنجيلية الأعلى مقامًا.وقع اختياري على "ويتون كوليدج"، الواقعة في إحدى ضواحي شيكاغو. في "مودي" تلقيت تحذيرات بخصوص أنه من الصعب العثور على مسيحيين حقيقيين في "ويتون" ــ وهو ما يكشف حجم التطرف في "مودي": فـ"ويتون" كانت مفتوحة فقط أمام المسيحيين الإنجيليين وقد تخرج منها بيلي جراهام ،على سبيل المثال . في البداية وجدتها أكثر تحررًا ولو قليلا بالمقارنة مع ما أؤمن به .كان الطلاب يتحدثون عن الأدب، والتاريخ،والفلسفة أكثر من الحديث عن الوحي الشفوي للكتاب المقدس. كانوا يفعلون ذلك من منظور مسيحي،ولكن بغض النظر عن ذلك:ألم يلاحظوا بالفعل أهمية هذا الأمر (أي الوحي الشفوي)؟ قررت أن أتخصص في الأدب الإنجليزي في جامعة "ويتون"،حيث كانت القراءة إحدى هواياتي وخاصة منذ أن علمت أنه لكي أشق طريقي إلى الدوائر العلمية ، فسيكون عليَّ أن أصبح واسع الاطلاع في مجالٍ من مجالات العلم بخلاف الكتاب المقدس. قررت أيضًا أن ألزم نفسي بتعلم اليونانية. في ذلك الوقت ، وخلال فصلي الدراسي الأول في "ويتون" ،التقيت الدكتور "جيرالد هاوثورن" ،أستاذي في اللغة اليونانية و الذي أصبح أكثر الأشخاص تأثيرًا في حياتي كعالم ،وكأستاذ،و،أخيرًا ،كصديق . كان "هاوثورن" ،تماما مثل معظم أساتذتي في "ويتون"، مسيحيًا إنجيليًا ملتزمًا.لكنه كان لا يخشى من أن يُخْضِع إيمانه للأسئلة . في حينه، وجدت في ذلك علامة على الضعف (في الحقيقة،كنت أعتقد أنني تقريبًا أمتلك جميع الأجوبة عن أسئلته)؛في النهاية رأيت فيه التزامًا حقيقيًا بمقتضيات الحقيقة و رأيت فيه استعدادًا للانفتاح على إمكانية أن تكون أراء الإنسان في حاجة للمراجعة في ضوء اتساع المعرفة وخبرات الحياة. كان تعلم اليونانية تجربة مثيرة بالنسبة لي. وحينما انتهت دراستي ،كنت جيدًا للغاية في أساسيات اللغة وكنت على الدوام طامحًا إلى المزيد.وفي مرحلة أكثر عمقًا، أصبحت تجربة تعلم اللغة اليونانية إلى حدٍ ما مجهدة لي ولنظرتي للكتاب المقدس.ثم صرت أرى في مرحلة مبكرة أن المعنى الكامل للنص اليوناني للعهد الجديد لا يمكن التعرف عليه إلا عندما نقرأه وندرسه في لغته الأصلية (الأمر نفسه ينطبق على العهد القديم،كما عرفت فيما بعد عندما تعلمت العبرية).وكل هذا كان يدعم ، حسب ما كنت أعتقد ، اتجاهي لتعلم اللغة على نحوٍ أعمق . في الوقت ذاته،جعلني ذلك أشك في مفهومي عن الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المنزلة حرفيًّا. وإذا كان المعنى الكامل لكلمات الكتاب المقدس لا يمكن الحصول عليه إلا عبر دراسة الكتاب المقدس باللغة اليونانية(والعبرية)،ألا يعني ذلك أن معظم المسيحيين ،اللذين لا يعرفون اللغات القديمة،لن يصلوا أبدًا للطريق الصحيح إلى معرفة ما أراد الله منهم أن يعرفوه؟ ألا يجعل هذا من عقيدة الوحي مجرد عقيدة ملائمة فقط للنخبة واسعة الإطلاع ، ممن يمتلكون المهارات الفكرية و الفراغ اللازمين لتعلم اللغات ودراسة النصوص عبر قراءتها بلغتها الأصلية؟ما الفائدة التي نتحصل عليها من قولنا إن هذه الكلمات موحى بها من الله ما دام غالبية الناس لا يعرفون سبيلا إلى هذه الكلمات على الإطلاق ،وإنما بإمكانهم الاطلاع فحسب على ترجمات أكثر أو أقل إتقانًا لهذه الكلمات إلى لغة ليس لها أيُّ علاقة بالكلمات الأصلية،مثل الإنجليزية ؟ (1) كانت أسئلتى تتعقد أكثر وأكثر كلما بدأت التفكير على نحوٍ متزايد في المخطوطات التي تحوي الكلمات.كلما تعمقت في دراسة اليونانية،كلما صرت أكثر اهتمامًا بالمخطوطات التي تحتفظ لنا بالعهد الجديد،وبعلم النقد النصي،والذي من المحتمل أن يكون قادرًا على مساعدتنا في استعادة الكلمات الأصلية للعهد الجديد على صورتها التي كانت عليها . وكنت دئاما أعود إلى سؤالي الأساسي:كيف يمكن للقول إن إن الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة أن يساعدنا لو كنا في الواقع لا نمتلك تلك الكلمات المعصومة التي أوحاها الله ،وإنما الكلمات التي نسخها النساخ ــــ بطريقة صحيحة أحيانًا وبطريقة غير صحيحة أحيانًا أخرى(كثيرة)؟ ما الفائدة المرجوة من القول إن الأصول كانت موحى بها؟ نحن لا نمتلك الأصول! ما نمتلكه هو نسخ محرفة ،والأغلبية العظمى منها تفصلها مئات السنين عن الأصول وهي تختلف عنها،بوضوح،في آلاف المواضع . اجتاحتني هذه الشكوك ودفعتني إلى التنقيب بتعمق أكبر،بغية الوصول إلى فهم أوضح للحقيقة التي كان عليها الكتاب المقدس . أنهيت دراستي في "ويتون"في عامين وقررت،بتوجيهاتٍ من الأستاذ هاوثورن،أن أتخصص في النقد النصي للعهد الجديد بالاتجاه إلى الدراسة تحت إشراف الخبير ذي الشهرة العالمية في هذا الميدان ،العالم بروس .م. ميتزجر ، الذي كان يقوم بالتدريس في معهد "برينستون" اللاهوتي. مرة أخرى حذرني أصدقائي من الإنجيليين من الالتحاق بـمعهد "برينستون"،لأنه،كما قيل لي،سيكون من الصعب علي أن أجد مسيحيين "حقيقيين"هناك. لقد كان معهدبرينستون ،رغم هذا ،معهدًا مشيخيًا ،لكنه لم يكن بالتأكيد تربةً خصبةً لظهور المسيحيين المولودين مرة أخرى. كانت دراستي للأدب الإنجليزي،والفلسفة،والتاريخ ــــ ناهيك عن اليونانية ـــ قد وسعت آفاقي بشكل كبير ،وأصبحت أجد متعتي الآن في المعرفة ،المعرفة بكافة أشكالها،الدينية والدنيوية . ولو أن معرفة "الحقيقة"تعني أن لا أكون بعدُ من المسيحيين المولودين مرة أخرى مثل الذين عرفتهم في الثانوية ،فليكن ما يكون . كنت أنوي أن أواصل بحثي عن الحقيقة مهما كان الطريق الذي ستقودني إليه، وأنا على ثقة من أنَّ أيَّ حقيقة سأتعلَّمها لا يقلل من قيمتها كونها غير متوقعة أو كونها تتلائم بصعوبة مع التصنيفات التي تضعها خلفيتي الإنجيلية . عند وصولي إلى معهد "برينستون" اللاهوتي ،التحقت سريعًا بفصول السنة الأولى للتفسير باليونانية والعبرية،وشغلت جدولي بقدر ما أستطيع بمثل هذه الدروس.وجدت في هذه الفصول تحديًا ،على المستويين العلمي والشخصي . أما التحدي على المستوى العلمي فقد كنت مرحِّبًا به بشكل كامل،لكنَّ التحديات الشخصية التي واجهتها كانت على عكس ذلك مزعجة من الناحية العاطفية. فكما أشرت،كنت بالفعل قد بدأت في "ويتون" في الشك في بعض المظاهر الأساسية في التزامي نحو الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة من الخطأ.هذا الالتزام كان عرضة لتهديدات جدية خلال دراستي التفصيلية في "برينستون" . لقد قاومت كل محاولة لتغيير وجهات نظري،ووجدت عددًا من الأصدقاء،القادمين،مثلي، من مدارس إنجيلية محافظة وكانوا يحاولون أن "يحافظوا على الإيمان "(وهي طريقة مثيرة للضحك لوضع الإيمان في برنامج مسيحي لاهوتي ،أي التمسك بالماضي حيث كنا ، على الرغم من كل ما يتناقض مع ذلك من مؤشرات ). لكنَّني بدأت أنشغل بدراساتي . وجاءت نقطة التحول في الفصل الدراسي الثاني ،خلال دورة كنت أحضرها تحت إشراف أكثر الأساتذة تقديرا وتدينا وكان اسمه "كولين ستوري".وقد كانت الدورة حول تفسير إنجيل مرقس، وكان إنجيلي المفضل حينها (وما يزال). وقد كان يُشْتَرَطُ فينا لحضور هذه الدورة أن نكون قادرين على قراءة إنجيل مرقس كاملا باللغة اليونانية(حفظت كلمات الإنجيل اليونانية كاملةً قبل أسبوع واحدٍ من بداية الفصل الدراسي):كان علينا أن نحتفظ بدفتر ملاحظات تفسيرية نسجل فيها انطباعتنا حول تفسير الفقرات الرئيسية؛ وقد كنا نناقش المشكلات المتعلقة بتفسيرات النصوص،وكان ينبغي علينا أن نكتب مقالا في نهاية الفصل الدراسي حول إشكال تفسيري نختاره نحن . وقد اخترت الفقرة في مرقس 2 ،حيث يتصدى الفريسيون ليسوع لأن تلامذته كانوا يمشون عبر أحد الحقول،وكانوا يأكلون من السنابل في يوم السبت.كان يسوع يريد أن يبيِّن للفريسيين أن"السبت جعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت"ولذلك ذكَّرهم بما كان الملك داوود العظيم قد فعله عندما شعَرَ ورجاله بالجوع،و كيف أنهم قد دخلوا إلى الهيكل "حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر"وأكلوا من خبز التقدمة،الذي كان مخصصًا للكهنة فقط . إحدى الإشكاليات الشهيرة في الفقرة هي عندما ينظر الإنسان إلى الفقرة التي استشهد بها يسوع من العهد القديم (1 صمويل 21 : 6 )، يتضح أن داوود لم يفعل ذلك عندما كان أبيثار هو الكاهن الأعظم ،وإنما عندما كان أخيمالك والد أبيثار هو الكاهن . بطريقة أخرى ،هذه الفقرة هي واحدة من تلك الفقرات التي يشار إليها لبيان أن الكتاب المقدس ليس معصومًا من الخطأ على الإطلاق ، بل يحوي أخطاءًا. في ورقتي التي قدمتها إلى الأستاذ "ستوري"،طورت فكرة جدلية طويلة ومعقدة مفادها أنه حتى لو كان مرقس يشير إلى حدوث ذلك "حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر،" فإن هذا لا يعني في الحقيقة أن أبيثار كان هو الكاهن الأعظم ،وإنما المعنى هو أن هذا الحدث وقع في هذا الجزء من النص الكتابي الذي يعتبر فيه أبيثار واحدًا من الشخصيات الرئيسية .كانت فكرتي تتمركز حول أن معنى الكلمات اليونانية المشار إليها هو معنى معقد إلى حد ما. كنت على يقين لا يتزعزع أن الأستاذ"ستوري" سيثني على هذه الرؤية الجدلية ،حيث إنني أعلم أنه عالمٌ مسيحيٌّ صالحٌ وهو بالتأكيد (مثلي) لا يمكن أن يفكر مطلقًا في أنَّ شيئًا ما خطأ بالفعل داخل الكتاب المقدس. لكنه كتب في نهاية بحثي تعليقًأ بسيطًا من سطر واحدٍ أثر فيّ كثيرًا لأسباب عدة. فقد كتب يقول:"ربما مرقس وقع في خطأ." بدأت أفكر في هذا التعليق،وفي كل العمل الذي قدمته في البحث،وفهمت أنني كان من المفترض أن أقوم ببعض المناورات التفسيرية الوهمية للالتفاف حول المشكلة ،وأن الحلَّ الذي اقترحته في الحقيقة كان ممطوطًا إلى حدٍ ما . في النهاية وصلت لنتيجة:"...ربما مرقس بالفعل قد ارتكب خطئًا." وما أن كتبت هذا الاعتراف،حتى زالت السدود.لأنه لو كان ثمة خطأٌ واحدٌ صغيرٌ وتافهٌ في مرقس 2 ،فربما يوجد أخطاءأخرى في أماكن أخرى أيضًا. فعندما سيقول يسوع بعد ذلك في مرقس 4 إن بذرة الحنطة هي"أصغر كل بذور الأرض،"فربما ليس بي حاجة أن أوافق على تفسيرٍ وهميٍّ حول كيف أن حبة الحنطة هي الأصغر بين كل البذور ، في الوقت الذي أعلم تمامًا أنَّ هذا ليس صحيحًا .وربما ينطبق أمر هذه الأخطاء على قضايا أكثر أهمية. فمن المحتمل أنه حينما يقول مرقس إن يسوع صلب في اليوم التالي لتناوله عشاء الفصح(مرقس 14 : 12 ،15:25) وحينما يقول يوحنا إنه مات في اليوم السابق لتناوله إياه(يوحنا 19 :14)ــــ ربما كان ذلك تناقضًا حقيقيًّا . أو عندما يشير لوقا في حكايته لقصة ميلاد يسوع أن يوسف ومريم عادا إلى الناصرة بعد مايزيد عن شهر بالتمام من مقدمهم إلى بيت لحم (وتأديتهم لطقوس التطهير ؛لوقا 2 :39 )،في الوقت الذي يشير متى إلى أنهم هربوا بدلا من ذلك إلى مصر (متى 2: 19-22) ـــ ربما يكون هذا تناقضًا آخر . و حينما يقول بولس إنه بعد أن آمن على الطريق إلى دمشق لم يذهب إلى أورشاليم لكي يرى هؤلاء اللذين كانوا رسلاً من قبله(غلاطية 1 :16-17)،في الوقت الذي يقول سفر الأعمال أن ذلك كان عمله الأول بعد مغادرته دمشق (الأعمال 9 :26) ـــ فربما يكون هذا تناقضًا آخر.هذا النوع من الفهم تواكب مع المشكلات التي كنت أواجهها كلما درست بعناية أكبر مخطوطات العهد الجديد الموجودة.ليس أمامنا سوى أن نقول إن الأصول كانت منزلة من قبل الله ،لكنَّ الحقيقة هي أننا لا نملك هذه الأصول ـــــ ولذلك، القول إنها كانت موحى بها لا يساعدنا كثيرًا،إلا إذا استطعت إعادة بناء الأصول. زد على ذلك أن الغالبية الساحقة من المسيحيين لم يسمح لهم بالوصول إلى الأصول طوال تاريخ الكنيسة كاملا ولم يسمح لهم بوضع مسألة المصدر الإلهي لهذه الأصول موضع نقاش .بل إن الأمر لا يقتصر على فقدان الأصول، بل نحن لا نملك أيضًا النسخ الأولى من الأصول. بل نحن لا نملك أي نسخٍ حتى الجيل الثالث منها .ما نملكه هو نسخ كتبت في وقت متأخرـــ متأخر للغاية.على أحسن تقدير،كانت نسخًا كتبت بعد ذلك بقرون كثيرة . وهذه النسخ تختلف جميعها من واحدة لأخرى،في مواضع كثيرة تُعَدُّ بالآلاف. وهذه النسخ ، كما سنرى فيما بعد في هذا الكتاب، تختلف بعضها عن بعض في مواضع كثيرة للغاية إلى درجة أننا حتى لا نعرف عدد الاختلافات الموجودة . وللتسهيل يمكننا أن نضعها على هيئة مقارنات: عدد الاختلافات بين مخطوطاتنا كبيرٌ على نحوٍ يفوق عدد كلمات العهد الجديد . معظم هذه الاختلافات لاقيمة لها وغير ذات أهمية . وقسم كبير منها يبين لنا ببساطة أن النسَّاخ في القديم كانت مقدرتهم على الاستهجاء ليست بأفضل حالا من مقدرة الناس في أيامنا هذه (بل لم يكن لديهم حتى معاجم،ناهيك عن مصحِّحٍ إملائي). رغم ذلك،ما هو سبب كل هذه الاختلافات؟ لو أن شخصًا ما يزال يصرُّ على أن الرب بالفعل أوحى كلمات الكتاب المقدس ،فما الفائدة من ذلك إذا كنا لا نمتلك بالفعل كلمات الكتاب المقدس الأصلية ؟ في بعض المواضع ،كما سنرى، لا يمكننا أن نصل إلى درجة من اليقين تخولنا أن نقول إننا أعدنا بناء النص الأصلي على نحوٍ دقيق. إن معرفة ما تعنيه كلمات الكتاب المقدس لهو أمر عسير إذا كنا لا نعرف حتى ماهية هذه الكلمات ! تحول هذا الأمر إلى مشكلة في وجه ما كنت أتبناه من وجهات نظر فيما يتعلق بالوحي،لأنني وصلت إلى الاقتناع بأن حفظ كلمات الكتاب المقدس هو أسهل على الله من قدرته على الإيحاء بها بدايةً .ولو كان الله يريد أن تصل كلماته إلى شعبه ،فبالتأكيد سيعطيهم إياها(وربما سيعطيهم إياها في لغة يمكنهم فهمها،وليس في اللغة العبرية أو اليونانية). حقيقةُ أننا لا نمتلك هذه الكلمات يجب أن تؤكد لنا ،حسب ما كنت أعتقد ،أنه لم يحفظ هذه الكلمات من أجلنا. وإذا لم يكن قد صنع هذه المعجزة (أي حفظ الكتاب)،فيبدو أنه ليس هناك مبررٌ يجعلنا نعتقد أنه صنع المعجزة الأولى التي هي إنزال هذه الكلمات كوحي. باختصار،تعلُّمي للغة اليونانية ودراستي للمخطوطات اليونانية،أدت بي إلى إعادة النظر بصورة جذرية في مفهومي لماهية الكتاب المقدس.كان ذلك تغييرًا مزلزلا بالنسبة إلي . قبل ذلك ـــ منذ بداية تجربة الميلاد مرة ثانية التي مررت بها في المدرسة العليا،مرورًا بأيام تزمتي الديني في معهد "مودي"،و الذي استمرَّ وصولا إلى أيامي التي عشتها كإنجيليٍّ في معهد "ويتون"ـــ كان إيماني مبنيًا بالكامل على نظرة يقينية إلى الكتاب المقدس باعتباره كلمة الرب الموحى بها والمعصومة تماما من الخطأ . الآن ما عدتُ أرى الكتاب المقدس على هذا النحو . بدأ الكتاب المقدس يبدو لي ككتاب بشري تماما .فكما دوَّن النساخون المنتمون إلى بني البشر نصوص الكتاب المقدس و حرَّفوها ،فكذلك وبالطريقة ذاتها دونت نصوص الكتاب المقدس منذ البداية بمعرفة مؤلفين من بني البشر. لقد كان كتابًا بشريًا من البداية وإلى النهاية.كتبه مؤلفون متنوعون من البشر في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة تلبيةً لحاجات مختلفة. كثيرٌ من هؤلاء المؤلفين بلا شك كانوا يشعرون أنهم يوحى إليهم من قبل الله لقول ما حدث ،لكنهم كان لهم آراؤهم ،ومعتقداتهم ،ورؤاهم ،وحاجاتهم ،و رغباتهم و،مفاهيمهم ،وعقائدهم اللاهوتية الخاصة. وهذه الآراء،والعقائد،ووجهات النظر،والحاجات،والرغبات،والمفاهيم ،والعقائد اللاهوتية أملت عليهم كلَّ شئ قالوه. لقد كانوا مختلفين في كل هذه الأمور.ومن بين أمور أخرى، كان هذا يعني أن مرقس لم يقل الشئ ذاته الذي قاله لوقا ، وذلك لأنه لم يكن يقصد الشئ ذاته الذي يقصده لوقا. يوحنا يختلف عن متى ــــ ليسوا سواءًا . بولس في رسائله يختلف عن بولس الموجود في الأعمال.ويعقوب يختلف عن بولس. كلُّ مؤلفٍ هو كائنٌ بشريٌّ ، وهو بحاجة إلى أن يقرأ الناس ما يكتبه (على فرض أنهم جميعًا من البشر)من أجل ما يجب عليه أن يقوله ،وليس عبر الافتراض أن ما يكتبه هو الشئ ذاته،أو متطابق مع،ملائم لما يجب أن يكتبه كلُّ مؤلف آخر. الكتاب المقدس ،في النهاية، هو كتابٌ بشريٌّ. كانت هذه الرؤية جديدة عليّ ،ومن الواضح أنها لم تكن الرؤية ذاتها التي كنت أعتنقها أبَّان كوني مسيحيًا إنجيليًا ـــ ولا هي الرؤية التي يعتنقها الغالبية من المسيحيين الإنجيليين اليوم. اسمحوا لي أن أقدم مثالا للتباين الذي اتسمت به رؤيتي المغايرة للكتاب المقدس. عندما كنت في معهد "مودي"،كان كتاب ،كوكب الأرض العظيم الراحل،لهال ليندسيي Hal Lindsey عن التخطيط الرؤوي apocalyptic لمستقبلنا واحدًا من أكثر الكتب رواجًا في الجامعة. كان كتاب ليندسي هو الأكثر رواجًا ليس فقط في "مودي"،بل إنه كان ،في الحقيقة،العمل الأكثر مبيعًا بين الأعمال المنبنية على حقائقwork of nonfiction (بالإضافة إلى الكتاب المقدس؛واستخدام مصطلح "المنبني على حقائق" هو استخدام فضفاض بعض الشئ) المكتوبة باللغة الإنجليزية في السبعينات.كان ليندسي يؤمن ،مثلنا حينما كنا في مودي، بأن الكتاب المقدس معصومٌ بشكل مطلق من الخطأ في كل كلمة من كلماته،إلى درجة أنك تستطيع أن تقرأ العهد الجديد وأن تعرف الكيفية التي يريدك الرب أن تعيش من خلالها ،و ليس ذلك فحسب ،بل ما يريدك أن تؤمن به،بل و أن تعرف أيضًا ما كان الله ذاته يخطط لأن يفعله في المستقبل وكيف كان سيفعله. كان العالم متجهًا نحو أزمة رؤوية ذات أبعاد كارثية ،وكانت كلمات الكتاب المقدس المنزهة عن الخطأ يمكن قراءتها لإظهار ماهية ،وكيفية و توقيت حدوث كل ذلك. لقد كنت متيمًا بشكل خاص بال"توقيت". أشار ليندسي إلى مثل شجرة التين الذي ضربه يسوع كعلامة على التوقيت الذي يمكننا أن ننتظر عنده حدوث معركة هرمجدون المستقبلية . كان تلاميذ يسوع يريدون أن يعرفوا متى ستحين لحظة "النهاية" ويسوع يجيبهم: فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ.(متى 24 :32-34). ماذا يعني هذا المثل؟ يحلل ليندسي رسالتها،معتقدًا أنها كلمة الرب ذاته المعصومة من الخطأ، عبر الإشارة إلى أن "شجرة التين" في الكتاب المقدس كثيرًا ما استخدمت كرمز لشعب إسرائيل. ماذا يعني أن تخرج أغصانها؟ هذا سيعني أن الشعب بعد أن يدخل في بيات فَصْلِيّ (شِتوي) ،سيعود مرة أخرى للحياة.ومتى ستعود إسرائيل مرة أخرى إلى الحياة؟ في 1948، حينما أصبحت إسرائيل أمة ذات سيادة مرة أخرى،يشير يسوع إلى أن النهاية ستأتي في خلال الجيل ذاته الذي سيقع له ذلك .وما هو عمر الجيل وفقًا للكتاب المقدس؟ أربعون سنة.من هنا فإنه حسب التعليم الإلهي الموحى به مباشرة من بين شفاه يسوع: ستحل نهاية العالم في وقت ما قبل عام 1988،أي بعد أربعين سنة من ظهور إسرائيل مرة أخرى.كانت هذه الرسالة آنذاك مقنعة لنا تمامًا .ربما يبدو الأمر غريبًا الآن ــــ مع الأخذ في الاعتبار أن العام 1988 قد جاء وذهب من دون أن تقع هرمجدون ـــ لكن،من ناحية أخرى،هناك ملايين المسيحيين اللذين لا يزالون يعتقدون أنَّ الكتاب المقدس يمكن قراءته حرفيًا ككتاب موحى به في تنبؤاته عمَّا هو مزمع أن يقع وصولا إلى نهاية التاريخ كما نعرفه . انظر إلى آخر صيحة في هذه الأيام وهي سلسلة (Left Behind) للكاتبين "تيم لاهاي" و"جيري جينكينز"،التي هي رؤية رؤوية أخرى لمستقبلنا مبنية على القراءة الحَرْفِية للكتاب المقدس،وهي سلسلة بيع منها ما يزيد عن ستة ملايين نسخة في يومنا الحاضر.إنها لتحول عظيم من قراءة الكتاب المقدس كتخطيط معصوم لإيماننا ،وحياتنا،و مستقبلنا إلى رؤيته ككتاب بشري إلى حد بعيد،يحمل وجهات نظر بشرية ،كثيرٌ منها تختلف الواحدة عن الأخرى ، ولا تمثل واحدة منها دليلاً معصومًا من الخطأ يرشدنا إلى الكيفية التي ينبغي أن نحيا على هديها . هذا هو التغيير الذي انتهيت ،حسب وجهة نظري ، من صياغته،والذي أؤمن به الآن بصورة مطلقة. كثيرٌ من المسيحيين ،بالطبع،لم يؤمنوا أبدًا من البداية بالكتاب المقدس وفقًا لتلك الرؤية الحَرفِيَّة،وبالنسبة لهم مثل هذه الرؤية ربما بدت متحيزة وغير دقيقة(ناهيك عن غرابتها و عدم ارتباطها بقضايا الإيمان) . وهناك ،على الرغم من ذلك، عددٌ كبير من الناس هنا وهناك ما يزالون ينظرون إلى الكتاب المقدس على هذا النحو.أحيانًا،أرى ملصقًا على سيارة يقول:"الرب قاله،أنا أؤمن به،وهو حل مشاكلنا ." ودائما ما يكون جوابي ،ماذا لو كان الرب لم يقله؟ ماذا لو كان الكتاب الذي تعتبره يقدم لك كلمة الرب، يحتوي بدلا من ذلك على كلمات بشرية؟ ماذا لو كان الكتاب المقدس لا يقدم لك جوابًا أكيدًا للأسئلة المعاصرة ــــ الإجهاض،حقوق المرأة،حقوق الشواذ،التفوق الديني،الديموقراطية الغربية،وما أشبه؟ ماذا إن كان من المتحتم علينا أن نستكشف بأنفسنا كيف نعيش وبماذا نؤمن،بدون تنصيب الكتاب المقدس كوثن زائف ــ أو كوسيط يهدينا إلى الطريق المباشر للاتصال بالخالق؟ هناك أسباب واضحة تدفعنا للاعتقاد أن الكتاب المقدس،في الواقع،ليس من ذلك النوع من الهداة المنزهين عن الخطأ لحياتنا :فبين أمور أخرى ، كما كنت أوضح ، في مواضع كثيرة لا نعرف حتى(كعلماء،أو كقراء منتظمين فحسب)كيف كانت أصول كتاب المقدس . لقد تغيرت معتقداتي الشخصية بشكل عنيف من خلال إدراكي لهذا، لتسوقني إلى طرق مختلفة تمامًا عن تلك التي مررت بها في أواخر سني مراهقتي وبواكير العشرينات من عمري. واصلت تقديري للكتاب المقدس وللرسائل الكثيرة والمتنوعة التي يحتويها ــ بقدر ما أصبحت أقدر كتابات المسيحيين الأوائل الأخرى التي كتبت قريبا من الفترة ذاتها وبعد ذلك بقليل ، كتابات الشخصيات الأقل شهرة مثل إجناتيوس الأنطاكي ،كليمنت الروماني (نسبة إلى روما)،وبرنابا السكندري،وأصبحت حتى أقدِّر كتابات الشخصيات الذين ينطلقون من معتقدات أخرى ، في الوقت نفسه تقريبًا،مثل كتابات يوسيفوس ،ولوسيان السمساطي،وبلوتارخ . كلُّ هؤلاء المؤلفين كانوا يحاولون أن يتصوروا العالم وموقعهم فيه، وفي كل عمل من أعمالهم يوجد أشياء قيِّمة يمكننا تعلمها. من المهم أن نعرف كلمات هؤلاء المؤلفين، حتى نستطيع أن نرى ما كان ينبغي أن تكون عليه أقوالهم أو أحكامهم ،ثم،بالنسبة لنا ماذا نعتقد وكيف نعيش في ضوء هذه الكلمات . إن هذا يعود بي إلى اهتمامي بمخطوطات العهد الجديد ودراسة هذه المخطوطات من خلال الميدان العلمي الذي يعرف بالنقد النصي . ما أعتقده حول النقد النصي هو أن هذا هو ميدانُ دراسةٍ ضروريٌّ وجذابٌ ، وهو ذو أهمية ليس فقط بالنسبة إلى العلماء ولكن بالنسبة إلى المهتمين بالكتاب المقدس كلِّهم (سواء أكانوا ممن لا يزالون من أنصار التفسير الحرفي،أو ممن كانوا أنصارا للتفسير الحرفي سابقًا ،أو حتى ممن لم يكونوا يومًا من أنصار التفسير الحرفي، ولأيِّ شخص له اهتمام ولو من بعيد بالكتاب المقدس كظاهرة تاريخية وثقافية). الأمر المثير للصدمة،بالرغم من ذلك،هو أن غالبية القراء ـ حتى هؤلاء اللذين يهتمون بالمسيحية ،وبالكتاب المقدس،وبالدراسات الكتابية،و هؤلاء اللذين يؤمنون بالكتاب المقدس ككتاب معصوم من الخطأ والآخرون اللذين لا يؤمنون بذلك ــ لا يعرفون تقريبًا أي شئ عن النقد النصي.وليس من الصعب معرفة أسباب هذا .وعلى الرغم من حقيقة أن النقد النصي كان موضوعًا لعلم عمره الآن ما يزيد عن ثلاثمائة عام،فإن هناك بالكاد كتابًا واحدًا يدور حول هذا العلم يخاطب الجمهور العلماني ـــأي للذين لا يعلمون شيئا عنه، أي للجمهور الذي لا يعرف اليونانية ولا اللغات الأخرى اللازمة لدراساته الأكثر تعمقًا ،وللذين لا يعلمون حتى أن هناك "مشكلة" في النصوص،ولكنهم في الوقت ذاته لديهم الفضول لمعرفة جواب السؤالين التاليين كليهما: ما هي هذه المشاكل و كيف باشر العلماء التعامل معها؟(2) . هذا الكتاب الذي نحن بصدده هو من هذه النوعية ــ و حسب علمي ، هو الأول من نوعه . كتبته لمن لا يعرفون شيئا من الناس عن النقد النصي ولكنهم ربما يحبون أن يتعلموا شيئا عن الكيفية التي كان النساخ يغيرون من خلالها الكتاب المقدس والكيفية التي نعرف بها مواضع هذا التغيير. كتبتها معتمدًا على تفكير دام ثلاثين عامًا حول هذا الموضوع، وصدورًا عن الرؤية التي أعتنقها الآن،مرورًا بهذه التحولات العنيفة لرؤيتي حول الكتاب المقدس. كتبته من أجل كل من يجد في نفسه اهتمامًا بمعرفة الكيفية التي وصل إلينا بها العهد الجديد،وبمعرفة كيف أننا في بعض المواقف لا نعرف حتى الصورة التي كانت عليها الكلمات الأصلية التي خطتها يدُ المؤلف،وبمعرفة الطريقة الطريفة التي تم تغيير هذه الكلمات أحيانًا من خلالها ،ومعرفة كيف أننا ربما ،عبر تطبيق بعض مناهج التحليل الأكثر صرامة، أعدنا بناء هذه الكلمات الأصلية كما كانت . لأسباب كثيرة،من هنا ، يعتبر لهذا الكتاب وضع خاص بالنسبة إلي،وهو ومحصلة نهائية لرحلة طويلة. وقد يكون ،بالنسبة للآخرين،جزءا من رحلتهم الشخصية. يتبع......................... |
الفصـــــــل الأول جذور الكتاب المقدس المسيحي http://img404.imageshack.us/img404/8707/image001ll0.jpg لكي ندرس نسخ العهد الجديد التي بحوذتنا ، نحتاج أولا إلى البدء بدراسة أحد الخصائص غير المألوفة التي تتميز بها المسيحية في محيط العالم اليوناني الروماني:ألا وهي طابعها الكتابيّ (Bookish). في الواقع ،لكي نفهم هذه الخصيصة التي تتميز بها المسيحية ،نحن بحاجة ،قبل الحديث عن المسيحية،إلى البدء بالحديث عن الديانة اليهودية،وهي الديانة التي انبثقت منها المسيحية . حيث إن اليهودية ،التي كانت "ديانة الكتاب" الأولى في الحضارة الغربية،كانت قد سبقت كتابيّة المسيحية إلى حد ما وتنبأت بها. اليهودية باعتبارها ديانة الكتاب كانت اليهودية ، التي هي أساس المسيحية، ديانة غير مألوفة في العالم الروماني،على الرغم من أنها لم تكن منقطعة النظير. فمثل أتباع أيَّة ديانة أخرى من (المئات ) من الديانات التي كانت موجودة في منطقة حوض المتوسط،كان اليهود يؤمنون بوجود مملكة إلهية تسكنها الكائنات العلوية(ملائكة،رؤساء ملائكة،طغمات الملائكة،القوى)؛كما اتفقوا على عبادة إله عبر تقديم الأضحيات التي هي عبارة عن حيوانات وأطعمة أخرى؛ وكانوا يؤمنون بأن هناك مكانًا مقدسًا له خصوصية بحيث يسكن فيه هذا الكائن الإلهي هنا على الأرض ( الذي هو الهيكل في أورشليم)، حيث تسفك دماء هذه الأضاحي . وقد كانوا يصلُّون إلى هذا الإله طلبا لقضاء حوائج جماعية وشخصية. وحكوا قصصًا عن الكيفية التي تعامل بها هذا الإله مع البشر في الزمن الماضي ، وانتظروا عونه للبشر في الزمن الحاضر . في كل هذه النواحي ، لم تكن اليهودية "مختلفة" في أعين كل المؤمنين بالآلهة الأخرى داخل الإمبراطورية.لكنَّ اليهودية في بعض النواحي ،على الرغم من ذلك ، كانت متميزة عن غيرها. فكلُّ الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية كانت ديانات شركية ـ أي تعترف بالعديد من الآلهة من كل الأنواع وبمختلف الوظائف وتتوجه إليها بالعبادات :مثل الآلهة العظيمة للدولة ، والآلهة الأقل شأنًا في الأقاليم المختلفة ، آلهة تراقب المناحي المختلفة لميلاد الإنسان ،وحياته ، وموته . ومن ناحية أخرى ، كانت اليهودية ديانة توحيديَّة ؛ فاليهود أصرُّوا على عبادة الإله الواحد الذي عبده أجدادهم فحسب ، الإله الذي ،حسب زعمهم ، كان قد خلق هذا العالم ، وحكمه،وهو وحدُه الذي كان في حاجةِ شعبِه . وفقًا للتقليد اليهودي ،هذا الإله الواحد القادر على كل شئ دعى إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ووعده بالحماية والدفاع عنه في مقابل إخلاصه المطلق له، وله وحده . كان بين الشعب اليهودي ،كما كان يُعتَقد، وبين الله "عهد"،أي اتفاق بموجبه يكونون وحدهم شعبه كما يكون هو ربهم وحدهم . هذا الإله الواحد هو المستحق وحده للعبادة وللطاعة ؛ وهكذا ،للسبب ذاته ،كان ثمة هيكل واحد فقط ،على عكس الديانات الشركيّة في ذلك العصر التي ،على سبيل المثال ،تسمح أن يوجد أي عدد من المعابد لإله مثل "زيوس". بلا شك ،كان بإمكان اليهود أن يعبدوا الله في أي مكان يعيشون فيه ،لكنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة واجباتهم الدينية مثل تقديم الذبائح لله إلا في الهيكل في أورشليم .أما في الأماكن الأخرى ،مع ذلك ،فيمكنهم أن يجتمعوا معًا في "الكنيسات" للصلاة ولمناقشة التقاليد الآبائية التي تتعلق بشئون دينهم . هذه التقاليد تشتمل على قصص تدور حول علاقة الله بآباء شعب إسرائيل – أو آباء و أمهات الإيمان ـ إذا جاز التعبير : إبراهيم ،سارة ، إسحاق ، راشيل ،يعقوب ، رُفقى ،يوسف ،موسى ،داوود ،وهلم جرا ــ وأيضًا تعاليم مفصَّلة بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يسيِّرَ بها هذا الشعب عبادته وحياته. أحد الأشياء التي تجعل اليهودية ديانة فريدة وسط ديانات الإمبراطورية الرومانية أن هذه التعاليم ، إلى جانب التقاليد الآبائية الأخرى، كانت مكتوبة في ثنايا كتبٍ مقدسة. إلا أن المعرفة الوثيقة للإنسان المعاصر بالديانات الغربية الرئيسية المعاصرة (اليهودية ،المسيحية ، الإسلام)،ربما ستجعل من العسير أن يتصور المرء غرابة هذا الأمر ، لكنَّ الكتب لم تلعب فعليًا أيَّ دورٍ في الديانات الوثنية التي كانت موجودة في العالم الغربي القديم. هذه الديانات كانت تقريبا وبشكل خاص معنية بتمجيد الآلهة عبر طقوس الذبح. لم يكن ثمّةَ عقائدٌ يمكن تعلُّمها ،ومن ثمَّ تفسيرُها في ثنايا الكتب ، وتقريبا لم يكن ثمَّة مبادئ أخلاقية تحتذى ، فيتم تضمينها في الكتب. وهذا لا يعني أننا نقول إن أتباع الديانات الوثنية المتنوعة لم يكن لديهم أي عقائد حول آلهتهم أو أنهم لم يكن لديهم أي مبادئ أخلاقية ،بل ما نقصده هو أن العقائد والأخلاق ـ وهو ما يبدو غريبًا على الأسماع في العصر الحديث ـ لم تلعب تقريبا أيَّ دور في الدين تحديدًا. فتلك العقائد والأخلاق كانت بدلا من ذلك من قضايا الفلسفة الشخصية، والفلسفات ، بالطبع ،يمكن أن تكتب في الكتب. وحيث إن الديانات القديمة ذاتها لم تتطلب أي مجموعة خاصة من "العقائد السليمة" أو ، في الغالب ، من" القوانين الأخلاقية،" فالكتب لم تلعب تقريبًا أي دور فيها. كانت اليهودية فريدة في أنها أكدّت على تقاليدها ،وعاداتها، وقوانينها الآبائية ، وأصرت على أن يتمَّ تسجيلُها في ثنايا الكتب المقدسة، التي كانت لها ،من أجل هذا، منزلة "الكتاب المقدس" في أعين الشعب اليهودي. في أثناء الفترة موضع دراستنا ـ القرن الأول من الميلاد (1)، عندما كانت الكتب المتضمَّنة في العهد الجديد في مرحلة الكتابة ـ كان اليهود الذين تشتتوا في كل مكان من الإمبراطورية الرومانية يعتقدون أن التعاليم التي أعطاها الرب بشكل خاص للشعب موجودة في ثنايا كتب موسى ،المشار إليها مجموعةً بالتوراة ،التي تعني حرفيًا شيئا مثل "قانون" أو "هداية." تتكون التوراة من خمسة كتب ،يطلق عليها أحيانا (Pentateuch) أي (أسفار موسى الخمسة)،التي هي بداية الكتاب المقدس اليهودي (الذي يقابل مصطلح العهد القديم عند المسيحيين): التكوين ، الخروج ،اللاويين، العدد ، التثنية. ها هنا يجد المرء روايات عن خلق العالم ،دعوة شعب إسرائيل ليصيروا شعب الله ،قصص الآباء والأمهات وعلاقة الله بهم ،والأهم (والأطول مساحةً )،القوانين التي أعطاها الله لموسى لتعرِّفَهم كيف ينبغي أن يعبد الشعبُ ربَّهم وكيف ينبغي أن يتعاملوا بعضهم مع بعض داخل المجتمع . لقد كانت قوانينًا مقدسة ، ينبغي تعلُّمها ،ومناقشتها ، واتِّباعِها ـ و كانت مكتوبة في ثنايا مجموعة من الكتب. كان لليهود كتبًا أخرى كانت تمثل شيئًا مهمَّا لحياتهم الدينية الجماعية أيضًا،على سبيل المثال ،أسفار الأنبياء (مثل إشعياء ،إرميا ، عاموس)، الأشعار (أو المزامير)، والأسفار التاريخية( مثل يشوع وصموئيل). في المحصلة ، بعد فترة من ظهور المسيحية ، حدث وأن أصبحت مجموعة من هذه الكتب العبرية ـ اثنان وعشرين منهم تحديدًا ـ ينْظَرُ إليها على أنها القائمة القانونية للكتاب المقدَّس ،أي الكتاب المقدس اليهودي في الوقت الحاضر ،الذي قبله المسيحيون باعتباره الجزء الأول من القائمة القانونية المسيحية ، أو ما يعرف بـ"العهد القديم ." (2) هذه الحقائق المختصرة حول اليهود ونصوصهم المكتوبة هي من الأهمية بمكان لأنها تمثل الخلفية بالنسبة للمسيحية ،التي كانت أيضًا ، منذ لحظاتاها الأولى ،ديانة "كتابية". لقد بدأت المسيحية ،بالطبع ، من خلال يسوع ، الذي كان نفسه حبرًا يهوديًا (Rabbi ) (أي معلمًا) قَبِل سلطان التوراة ، وربما الكتب اليهودية المقدسة الأخرى ،و لقن تلاميذه تفسيره الخاص لهذه الكتب (3) . ومثل معلمي عصره الآخرين ،أكد يسوع أن النصوص المقدسة،قانون موسى على وجه الخصوص، تمثل إرادة الله . لقد قرأ من هذه الكتب المقدسة ،وتعلَّمها،وقام بتفسيرها ،والتزم بها،وعلَّمها. لقد كان تلامذته ،منذ البداية ، يهودًا وكانوا ينظرون إلى الكتب التي تحوي تقاليد قومهم على أنها ذات قيمة خاصة. وهكذا ، بالفعل ،في بداية المسيحية ،كان أتباع هذه الديانة الجديدة ،أي تلاميذ يسوع ،فريدين في الإمبراطورية الرومانية :فهم كانوا مثل اليهود من قبلهم ،لكنهم لم يكونوا مثلَ أيِّ شخص آخر تقريبًا ،فقد أوجدوا سلطة مقدسة في ثنايا كتب مقدسة . لقد كانت المسيحية في بدايتها ديانة الكتاب . المسيحية باعتبارها ديانة الكتاب كما سنرى قريبا ، لم تكن الأهمية التي احتلتها الكتب لدى المسيحية الأولى تعني أنَّ كلَّ المسيحيين كان بإمكانهم قراءة الكتب ؛ بل على العكس من ذلك تماما ، معظم المسيحيين الأوائل ،مثلهم مثل غالبية الشعب في أنحاء الإمبراطورية (بمن فيهم اليهود ! ) ، كانوا أمِّيين . لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الكتب لعبت دورًا ثانويًا بالنسبة إلى الدين . في الحقيقة ، كانت الكتب ذات أهمية رئيسية، بشكل مطلق ، لحياة المسيحيين في مجتمعاتهم .الرسائل المسيحية المبكرة أول ما يجب ملاحظته هو أن أنواعًا كثيرة ومتباينة من الكتابة كانت تحمل أهمية للمجتمعات المسيحية النامية في القرن الأول بعد وفاة يسوع . فأقدم البراهين التي بين أيدينا عن المجتمعات المسيحية تأتي من الرسائل التي كتبها القادة المسيحيون . بولس الرسول هو أقدم وأفضل مثال لدينا . أقام بولس الكنائس في أنحاء غرب المتوسط ، بشكل أساسي في المراكز الحضرية ،وبصورة جلية عبر إقناع الوثنيين (أي أتباع الديانات الشركية داخل الإمبراطورية) بأن إله اليهود هو الإله الوحيد المستحق للعبادة ،وأن يسوع كان ابنه،الذي مات من أجل خطايا العالم وأنه سيعود قريبًا للدينوية على الأرض (انظر 1تسالونيكي 1 : 9-10 ) . ليس من الواضح إلى أيِّ حدٍ استخدم بولس الكتاب المقدس ( أي نصوص الكتاب المقدس اليهودي) في محاولته لإقناع مُتنَصِّريه المُحْتَمَلين بأن رسالته هي رسالة الحق ؛ لكنه يشير في واحدة من ملخصاته الهامة لرحلاته الوعظية إلى أن ما يعظ به هو أن "المسيح مات ، حسب الكتب " (1 كورنثوس 15 : 3-4). من الواضح أن بولس ربط بين أحداث موت المسيح و قيامته، بتفسيره لإحدى الفقرات الرئيسية في الكتاب المقدس اليهودي ،التي كان باستطاعته بشكل واضح ،باعتباره يهوديًّا واسع الثقافة ، أن يقرأها لنفسه ،وأن يفسرها لمستمعيه في محاولة لتنصيرهم كثيرا ما تكللت بالنجاح. وبعد أن يقوم بتحويل عددٍ من الناس إلى المسيحية في مكان معين ، كان بولس ينتقل إلى مكان آخر ويحاول ، وعادة ما يكون ذلك مصحوبا ببعض النجاح ، أن يحوّل الناس فيه أيضًا إلى المسيحية. لكنه في بعض الأحيان ( وربما كثيرا ؟)كانت تتناهى إلى مسامعه أخبارًا من إحدى مجتمعات المؤمنين الأخرى التي أقامها من قبل :و أحيانًا (أم هل نقول كثيرا ؟) لم تكن هذه الأخبار جيدة : فأفراد المجتمع بدءوا يسلكون سلوكا رديئا ، وظهرت مشكلات الفجور الأخلاقي (Immorality) ،و"المعلمون الكذبة" (false teachers) أصبحوا ينشرون تعاليم مضادة لتعاليمه ،بعض أفراد المجتمع بدءوا في اعتناق العقائد الباطلة ، وهكذا . عند سماعه هذه الأخبار ،كتب بولس ردًا في رسالة إلى المجتمع ،تتناول هذه المشكلات . كانت هذه الرسائل شديدة الأهمية لحياة المجتمع ،وفي النهاية أصبح عددٌ من هذه المجتمعات ينظر إلى هذه الرسائل باعتبارها كتابًا مقدسًا .حوالي ثلاث عشرة رسالة كتبت باسم بولس أصبحت جزءا من العهد الجديد. يمكننا تصوُّر الأهمية التي كانت تحتلها هذه الرسائل في مراحل الحركة المسيحية الأولى من أول الكتابات المسيحية التي لدينا ، أي رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي ،التي عادة ما تؤرخ بعام 49 ميلاديًا تقريبًا (4) ، أي بعد عشرين عامًا تقريبا من موت يسوع ، و قبل عشرين عامًا تقريبًا من كتابة أيٍ من روايات الأناجيل عن حياته .ينهي بولس رسالته بقوله، " سَلِّمُوا عَلَى الإِخْوَةِ جَمِيعاً بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ ؛ أُنَاشِدُكُمْ بِالرَّبِّ أَنْ تُقْرَأَ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ"( 1 تسالونيكي 5 :26 – 27 ). لم يكن هذا الخطاب خطابا تقليديًا يقرأه ببساطة شخصٌ ما معنيٌّ به ؛ إن الرسول يُصِرُّ على أن يُقرأ هذا الخطاب ، وأن يتمَّ قبولُه باعتباره بيانًا رسميًا منه ،كمؤسسٍ للمجتمع . كانت الخطابات من أجل ذلك يتم نشرها في كل مكان تتواجد به الجماعات المسيحية منذ أقدم العصور . كانت الرسائل حلقة الاتصال بين المجتمعات التي كانت تعيش في أماكن مختلفة ، فقد وحَّدت إيمان و طقوس المسيحيين ؛وذكرت ما كان يفترض أن يؤمن به المسيحيون وكيف يفترض أن يكون سلوكهم . كانت تقرأ بصوت عالٍ على أفراد المجتمع في اجتماعاتهم ـ حيث لم يكن معظم المسيحيين ،كما أوضحت ،مثلهم في ذلك مثل الغالبية العظمى من الآخرين ، باستطاعتهم قراءة الرسائل بأنفسهم. أصبح عددٌ من هذه الرسائل جزءًا من العهد الجديد . العهد الجديد ، في الواقع ، يتشكل بشكل كبير من رسائل بولس و القادة المسيحيين الآخرين للمجتمعات المسيحية (الكرونثيون و الغلاطيون على سبيل المثال ) والأفراد المسيحيين (فيليمون كمثال).أضف إلى هذا أن الرسائل التي بقيت حية ــ منها إحدى وعشرين متضمنة في العهد الجديد ـ هي فقط جزء صغير من هذه الكتابات . بالنسبة لبولس وحده ، يمكننا أن نفترض أنه كتب رسائل كثيرة أخرى أكبر من من تلك المنسوبة إليه في العهد الجديد. فقد كان ،أحيانًا ، يذكر رسائل أخرى لم يعد لها وجود ؛ ففي 1 كورنثوس 5 : 9 ، على سبيل المثال ، ذكر رسالة كان قد كتبها قبل أن يكتب الرسالة إلى الكورنثيين (في وقت ما قبل الرسالة الأولى إلى الكورنثيين ). وذكر رسالة أخرى أرسلها إليه بعض الكورنثيين (1 كور 3 : 1) . لكنَّ أثرًا لم يبق لأيٍّ من هذه الرسائل. ارتاب العلماء لفترة طويلة في أن بعضًا من هذه الرسائل الموجودة في العهد الجديد منسوبةً لبولس هي في الحقيقة من كتابات أتباعه المتأخرين ونسبت إليه بالباطل (5) . و لو صحَّت هذه الشكوك ،فستعطي دليلًا لا شك فيه على أهمية الرسائل عند الحركة المسيحية الأولى : فلكي يجذب الإنسان الأسماع إلى وجهات نظره ، كان عليه أن يكتب رسالة ممهورة بتوقيع الرسول مفترضًا أن ذلك سيمنحها حجمًا من الموثوقية جديرًا بالاعتبار . إحدى هذه الرسائل التي يزعمون أنها منسوبة إليه هي الرسالة إلى أهل كولوسي ، التي تؤكد بحد ذاتها أهمية الرسائل و هي تذكر رسالة أخرى لم يعُد لها الآن وجود: " وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ ايْضاً فِي كَنِيسَةِ اللاَّوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَاأنْتُمْ أيْضاً. "(1كولوسي 4 : 16 ). من الواضح أن بولس – إما هو نفسه ، أو شخص آخر يكتب باسمه ـ كتب رسالة إلى مدينة اللاودكية المجاورة. هذه الرسالة أيضًا مفقودة (6) . النقطة التي أدندن حولها هي أن الرسائل كانت تحمل أهمية لحياة المجتمعات المسيحية الأولى. هذه الرسائل كانت هي الوثائق المكتوبة التي كتبت لترشدهم في إيمانهم و عباداتهم . فقد وحَّدت تلك الكنائس برباط واحد .وساعدت على جعل المسيحية ديانة شديدة الاختلاف عن غيرها من الأديان الأخرى المنتشرة في أنحاء الامبراطورية ،وذلك في أن المجتمعات المسيحية المتعددة ،التي تتوحد من خلال هذا الأدب المشترك الذي تشاركوه هنا وهنالك (قارن مع كولوسي 4 :16) ، كانت ملتزمة بالتعاليم الموجودة في الوثائق المكتوبة أو "الكتُب". ولم تكن الرسائل هي الوحيدة التي حملت أهمية بالنسبة لهذه المجتمعات . فلقد كان هناك أدبٌ ،في الحقيقة ، يتم انتاجه ، ونشره ،وقراءته و الالتزام به على نطاق شديد الاتساع من خلال المسيحيين الأُوَل ،وهو أدب شديد الاختلاف عن أيِّ شئ آخر شهده العالم الروماني الوثني على الإطلاق . وبدلا من وصف كل هذا الأدب بتفصيل مملّ ، يمكنني الآن ببساطة أن أذكر بعض الأمثلة من تلك الأنواع من الكتب التي كانت تُكتَب وتُوَزَّع. يتبـع بإذن الله |
|
الأناجيل المبكرة كان المسيحيون بالطبع معنيِّين بمعرفة معلومات أكثر عن حياة ،وتعاليم ، وموت الرب و قيامته ؛ ولذلك كُتِبَتْ العديد من الأناجيل ،التي قامت بتسجيل التقاليد المتصلة بحياة يسوع . أربعة من هذه الأناجيل أصبحت هي الأوسع استخدامًا ـ وهي تلك التي كتبها متَّى ،ومرقس ،ولوقا ، ويوحنا في ثنايا العهد الجديد ـ لكنَّ أناجيلا أخرى كثيرة كُتِبت: منها على سبيل المثال ،الأناجيل المنسوبة إلى فيليبُّس تلميذ يسوع ، ويهوذا توما أخيه ، ورفيقته مريم المجدلية. كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من الأناجيل الأكثر قِدمًا . نعلم ذلك ،على سبيل المثال ،من إنجيل لوقا ،الذي يشير مؤلفه أنه يسترشد في كتابة روايته ب"كثيرٍ" من المؤلَّفات السابقة (لوقا 1 : 1)،التي من الواضح جدا أنها لم يعد لها وجود . إحدى هذه الروايات الأكثر قِدَمًا ربما كانت هي المصدر الذي حدده العلماء تحت اسم المصدر "Q" ،والذي يحتمل أنه كان رواية مكتوبة تشتمل على أقوال يسوع بشكل أساسيّ ، واستخدمها كل من لوقا ومتَّى كمصدرٍ لكثير من تعاليم يسوع التي انفردا بها (على سبيل المثال صلاة الرب والتطويبات ) (7) . فسَّر بولس وآخرون حياة يسوع ،كما رأينا ، على ضوء الكتابات المقدسة اليهودية. هذه الكتب أيضًا ـ أي كلا من الأسفار الخمسة و الكتابات اليهودية الأخرى ، مثل أسفار الأنبياء و المزامير ـ كانت تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ بين المسيحيين ،الذين سبروا أغوارها ليروا ما يمكنها كشفه بخصوص إرادة الله كما تحققت في شخص المسيح خاصةً. كانت نسخ من هذا الكتاب المقدس اليهودي ،مترجمة في العادة باليونانية (تسمى السبعينية ) ، منتشرة على نطاق واسع ،إذن، في المجتمعات المسيحية الأولى كمصادر للدراسة والتأمل. الأعمال المبكرة للرسل ليست حياة يسوع فحسب ،بل أيضًا حياة الأتباع الأوائل كانت محطًّا لاهتمام المجتمعات المسيحية المتنامية في القرنين الأول والثاني . ليست مفاجأة ،إذن ،أن نرى أن قصص الرسل ـ مغامراتهم و أعمالهم التبشيرية ،خاصة بعد موت وقيامة يسوع ـ أصبحت تشغل مكانة هامة عند المسيحيين المهتمين بمعرفة المزيد من المعلومات عن دينهم . إحدى هذه القصص ، أي سفر أعمال الرسل ، نجحت في النهاية في أن تصبح جزءًا من العهد الجديد . لكنَّ قصصًا أخرى كثيرة كُتِبَتْ عن الرسل كلٌّ على حدى ،مثل تلك الموجودة في أعمال بولس ، وأعمال بطرس ،وأعمال توما . أعمال أخرى نجى بعضها من الضياع ولكن في صورة مقاطع صغيرة فحسب ، بينما فُقِدَ البعض الآخر تمامًا . الرؤى المسيحية كما أشرت ،نشر بولس (مع الرسل الآخرين) تعليمًا يقول إن يسوع كان مُزمعًا أن يعود من السماء للحكم على الأرض . النهاية الوشيكة لكل الأشياء كانت أمرًا سَحَرَ باستمرار لُبَّ المسيحيين الأوائل ،الذين في العموم كانوا يتوقعون أن الله سيتدخل قريبًا في شئون العالم ليقهر قوى الشر وليقيم هنا على الأرض مملكته الخيِّرة ،وعلى رأسها يسوع. بعض المؤلفين المسيحيين كتبوا قصصًا تنبُّؤيَّة(prophetic accounts) عمّا سيحدث في هذه النهاية الكارثية للعالم كما نعرفه. لقد كان عند اليهود أعمال حاذت قصبة السبق في هذا النوع من الأدب "الرؤَوِيّ" (apocalyptic) ، في كتاب دانيال ،على سبيل، في الكتاب المقدس اليهودي ، أو كتاب أخنوخ1 (book of 1 Enoch) في الأبوكريفا اليهودية . ومن بين الرؤى المسيحية ،دخلت واحدة في النهاية إلى العهد الجديد: رؤيا يوحنا . بينما كانت رؤى أخرى ،من بينها رؤيا بطرس و الراعي لهرماس ، شائعة القراءة في عددٍ من المجتمعات المسيحية في القرون الأولى للكنيسة. نُظُم الكنيسة تضاعفت المجتمعات المسيحية ونمت ،بدءًا من عصر بولس ولتتواصل خلال الأجيال التي جاءت من بعده. كانت الكنائس المسيحية في الأصل ،أو على الأقل تلك التي أقامها بولس نفسه ،من المجتمعات التي يمكننا أن نطلق عليها مجتمعاتٍ ذات مواهب قيادية(charismatic) . فقد كانوا يؤمنون بأن كل فرد من المجتمع قد أُوتِيَ "موهبةً" ( كاريزما باليونانية) من الروح القدس لمساعدة المجتمع في تسيير حياته الحاضرة: على سبيل المثال ،هناك مواهب التعليم ، موهبة الإدارة ، موهبة إعطاء الصدقات ،موهبة الشفاء ،وموهبة التنبوء . إلا أنه في نهاية المطاف ، حينما بدأت التنبؤات الخاصة بالنهاية الوشيكة للعالم في الاضمحلال ، بدى واضحًا أن هناك حاجة لإيجاد بنية كنسية أكثر صرامة ،خاصة إذا كانت الكنيسة ستظل قائمة لفترة طويلة (قارن 1 كرونثوس 11 ؛ مع متّى 16 ،18). بدأت الكنائس الواقعة على جانبي البحر المتوسط ، ومن بينها تلك التي أسسها بولس ، في تعيين قادة سيتولُّون المسئولية واتخاذ القرارات (بدلا من النظر إلى كل فرد من أفراد الكنيسة باعتباره "متساويًا" في الموهبة من الروح )؛ فبدأت القواعد الخاصة بكيفية عيش المجتمع المسيحي معًا ، وبكيفية ممارسته لشعائره المقدسة (العماد والقربان المقدس على سبيل المثال ) ، وتعليم الأعضاء الجدد ..إلخ ،يتمُّ صياغتها. وسرعان ما بدأ تدوين الوثائق التي تذكر الكيفية المثلى لتنظيم وهيكلة الكنيسة. لقد أصبح ما يعرف ب"النظم الكنسية" أمرًا ذا أهمية متزايدة في القرنين المسيحيين الثاني والثالث،لكن في العام 100 بعد الميلاد تقريبًا كان الكتاب المعروف باسم "ديداخي (تعليم ) الرسل الاثنى عشر" هو أول (حسب ما نعلمه ) ما كتب بالفعل. وخلال زمن قصير تبعه العديد من الكتب. كتب اللاهوت الدفاعي المسيحي عندما كانت المجتمعات المسيحية في مرحلة النشوء ،كانت تجابه أحيانًا بمعارضة من اليهود و الوثنيين الذين رأوا في هذا الإيمان الجديد تهديدًا وارتابوا في انخراط أتباعه في طقوس لا أخلاقية ومدمرة للمجتمع (كما ينظر اليوم إلى الحركات الدينية الجديدة في أحيان كثيرة بالريبة ذاتها تماما). هذه المعارضة أدت في أحيان كثيرة إلى وقوع اضطهادات للمسيحيين في مجتمعهم المحلي؛ وفي النهاية أصبحت الاضطهادات ذات طابع "رسميّ"، حيث تدخلت السلطات الرومانية للقبض على المسيحيين وفي محاولة لإجبارهم على الرجوع إلى معتقداتهم الوثنية القديمة . وعندما كانت المسيحية تنمو ،نجحت في النهاية في استمالة المثقفين إلى الإيمان ،وهم الذين كانوا مؤهلين جيدًا لمناقشة الاتهامات التي رُفِعَت في وجوه المسيحيين ودحضها. كتابات هؤلاء المثقفين يطلق عليها أحيانًا الدفاعيات ،من الكلمة اليونانية (أبولوجيا) المقابلة لكلمة "دفاع". المدافعون كتبوا أعمالا فكرية دفاعًا عن الإيمان الجديد ، محاولين إظهار أن المسيحية هي ديانة تبشر بالقيم الأخلاقية ،وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تهديدًا للبناء الإجتماعي للإمبراطورية الرومانية ، وأن المسيحية تمثل الحقيقة المطلقة في توجهها نحو عبادة الإله الحق وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تلك الديانة الخطرة المبنية على الخرافات. هذه الكتابات الدفاعية كانت ذات أهمية للقراء المسيحيين الأوائل ،لأنها أمدتهم بالحجج التي يحتاجونها عند تعرضهم للاضطهاد. هذا النوع من الدفاع نشأ بالفعل في العصر الذي كُتِبَ فيه العهد الجديد ،على سبيل المثال ، في 1بطرس 3 : 15 نقرأ " مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ " وفي سفر الأعمال ،حيث يدافع بولس والرسل الآخرون عن أنفسهم ردًا على الاتهامات التي وجهت إليهم . قريبًا من النصف الثاني من القرن الثاني ،كانت الكتابات الدفاعية قد أصبحت شكلا معروفًا من الكتابة المسيحية سِيَر الشهداء المسيحيين قريبا من الفترة الزمنية ذاتها التي بدأ فيها تدوين الكتابات الدفاعية ،بدأ المسيحيون في تدوين روايات عن اضطهاداتهم و الاستشهادات التي وقعت نتيجة لهذه الاضطهادات. هناك بعض الوصف للأمرين كليهما في سفر الأعمال الموجود في العهد الجديد،حيث كانت المعارضة للحركة المسيحية،وإلقاء القبض على الزعماء المسيحيين، وإعدام أحدهم (ستيفانوس) على الأقل تشكل جزءا هاما من الحكي داخل السفر (انظر أعمال 7) . بعد ذلك ، في القرن الثاني الميلادي ، بدأت سير الشهداء في الظهور . أول ما ظهر منها كان استشهاد بوليكاربوس ، الذي كان قائدا مسيحيًّا مرموقًا وكان أسقفًا لكنيسة "سميرنا"، في آسيا الصغرى، تقريبا طوال النصف الأول من القرن الثاني كاملا. قصة موت بوليكاربوس موجودة في رسالة كتبها أفراد كنيسته ،حيث كتبوها لمجتمع مسيحي آخر . بعد ذلك مباشرة ، بدأت قصص الشهداء الآخرين في الظهور.هذه القصص أيضا كانت واسعة الانتشار بين المسيحيين ،لأنها منحت هؤلاء الذين كانوا محلا للاضطهاد من أجل الإيمان تشجيعا ،ومنحتهم البوصلة التي بها يعرفون طريقهم في مواجهة أقصى التهديدات مثل الوقوع في الأسر ،والتعذيب و الموت. المقالات ضد الهراطقة لم تقتصر المشكلات التي واجهت المسيحيين على التهديدات الخارجية المتمثلة في الاضطهاد. فقد كان المسيحيون ،منذ أقدم العصور ، يعون أن ثمة تنوُّعًا في تفسير "الحقيقة" الدينية كان موجودا بين صفوفهم. فها هو الرسول بولس يشتكي من "المعلمين الكذبة" ــ على سبيل المثال،في رسالته إلى الغلاطيين . فإذا قرأنا الروايات الموجودة ، يمكننا أن نرى بوضوح أن هؤلاء الخصوم لم يكونوا من الغرباء . فقد كانوا مسيحيين فهموا الدين بطرق مختلفة على نحوٍ مطلق . وللتعامل مع هذه المشكلة ،بدأ القادة المسيحيون في كتابة المقالات التي تتصدى "للهراطقة"(أي الذين اختاروا الطريق الخطأ لفهم الإيمان)؛ تمثل بعض رسائل بولس ، إلى حدٍ ما ، أقدم النماذج لهذا النوع من المقال . في النهاية أصبح المسيحيون من كل الاتجاهات معنيين بمحاولة تحديد "التعليم الحق" (وهو المعنى الحرفي لكلمة "الأرثوذكسية") وبالتصدي لهؤلاء الذين يدافعون عن التعاليم الباطلة . هذه المقالات المضادة للهرطقات أصبحت مَيزة مهمة من ميزات المشهد الأدبي المسيحي المبكر. الأمر الطريف هو أنَّ مجموعات" المعلمين الكذبة" كتبوا هم أيضًا مقالات ضد "المعلمين الكذبة"،حتى إن المجموعة التي أقامت ذات مرة وللأبد ما أصبح المسيحيون يؤمنون به ( هؤلاء مسئولون ،على سبيل المثال، عن العقائد التي وصلت إلينا اليوم) أصبحت تتعرض أحيانا لانتقادات المسيحيين الذين اعتنقوا عقائدا اعتبرت في النهاية تعاليم باطلة. علمنا ذلك من خلال بعض الاكتشافات الحديثة نسبيًا للآداب "الهرطوقية"، التي يصر فيها من يُعْرَفُون بالهراطقة على أن رؤاهم هي الرؤى الصحيحة و أن تلك التعاليم التي يعتنقها قادة الكنيسة " الأرثوذوكسية" هي تعاليم باطلة (8). التفاسير المسيحية المبكرة مساحة واسعة من الجدل حول العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة تم الزج بها في تفسير النصوص المسيحية، ومن ضمنها "العهد القديم"،الذي ادعى المسيحيون أنه جزء من كتابهم المقدس . هذا يبين مرة أخرى كيف احتلت النصوص موقعا مركزيًّا بالنسبة للمجتمعات المسيحية المبكرة. في النهاية ،بدأ المؤلفون المسيحيون في كتابة تفاسير هذه النصوص ،ليس بالضرورة بغرض دحض التفاسير الباطلة على نحوٍ مباشرٍ ( على الرغم من أن ذلك كثيرا ما كان في الحسبان أيضًا)،لكن أحيانا ببساطة لتفسير معنى النصوص و لإظهار علاقاتها بالحياة و الممارسة المسيحيتين .من الطريف أن أول التفاسير المسيحيَّة التي نعرفها لأيِّ نص من نصوص الكتاب المقدس كان كاتبه هو واحد ممن يسمَّوْن هراطقة ، وهو الغنوصي المسمى هيراكليون الذي عاش في القرن الثاني ،والذي كتب تفسيرًا لإنجيل يوحنا (9) .في النهاية أصبح وجود التفاسير ،والحواشي التفسيرية ،والتفاسير التطبيقية، ،والعظات الدينية حول النصوص أمرًا شائعًا داخل المجتمعات المسيحية في القرنين الثالث والرابع. لقد كنت أقوم بتلخيص الأنواع المختلفة من الكتابات التي كانت ذات أهمية لحياة الكنائس المسيحية الأولى . كما أتمنى أن يكون واضحًا للعيان أنَّ الكتابة كانت هي الظاهرة الأكثر أهمية بالنسبة للكنائس والمسيحيين المنضويين تحتها . لقد احتلت الكتب مكان القلب من الديانة المسيحية ـ على عكس الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية ـ منذ البداية .فالكتب قصَّت علينا الروايات التي حكاها المسيحيون مرارًا وتكرارًا عن يسوع وتلامذته؛ وزودت الكتبُ المسيحيين بالتعاليم التي ينبغي ان يؤمنوا بها وبالطريقة التي يعيشون حياتهم من خلالها ؛ كما وحَّدَت الكتب بين المجتمعات المنفصلة جغرافيًا لتنشأ كنيسة واحدة عالمية ؛و دعَّمت الكتبُ المسيحيين في أيام الاضطهاد وأعطتهم نماذج من التضحية بالذات ليتمثلوها في مواجهة التعذيب والموت ؛ لم تعطِهم الكتب فحسب نصيحة نافعة بل صحَّحت العقيدة ،وحذرت من تعاليم الآخرين الباطلة و عجَّلت من قبول المعتقدات الصحيحة (الأرثوذكسية)؛ و سمحت الكتب للمسيحيين أن يعرفوا المعنى الصحيح للكتابات الأخرى ، معطية إياهم إرشاداتٍ عما ينبغي أن يفكروا فيه ،وكيف يتعبدُّون ،وكيف ينبغي أن يكون سلوكهم . لقد كانت منزلة الكتب في القلب تمامًا من حياة المسيحيين الأوائل. تشكل قائمة الكتب الرسمية المسيحية(القانون) في النهاية ،بعض هذه الكتب المسيحية بدأ المسيحيون ينظرون إليها ليس فقط باعتبارها كتبًا تستحق القراءة وإنما أيضًا باعتبارها كتبًا موثوقًا بها تمامًا كمصدر تستقى منه المعتقدات والممارسات الخاصة بالمسيحيين. لقد صارت هي الكتاب المقدس. بدايات القانون المسيحي لقد كانت عملية تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي (Christian canon of ******ure) عملية طويلة ومعقدة ، ولست بحاجة إلى أن أدخل في كل التفصيلات هنا (10) . بدأ ، كما أشرت بالفعل من قبل ، المسيحيون بقانون مبنيٍّ على أن منشئ ديانتهم هو نفسه معلمٌ يهوديٌّ اعترف بالتوراة ككتاب مقدسٍ موثوقٍ به موحى به من الله ، وعلَّم تلاميذه تفسيره الشخصيّ له . كان المسيحيون الأوائل أتباعًا ليسوع الذي قبِِلَ الكتب التي يتكون منها الكتاب المقدس اليهودي (الذي لم يكن قد نُصِّبَ حتى هذه اللحظة و إلى الأبد ك"قانون") باعتباره كتابهم المقدس الخاص. في اصطلاح مؤلفي العهد الجديد ،بما فيهم بولس ، أقدم مؤلفينا ، يشير مصطلح "الكتابات المقدسة (******ures) " إلى الكتاب المقدس اليهودي ،وهو مجموعة الكتب التي كان الرب قد أعطاها لشعبه والتي تنبأت بالمسيح الآتي ،يسوع . مع ذلك ، لم يدم الأمر طويلا حتى بدأ المسيحيون في قبول الكتابات الأخرى باعتبارها مساوية للكتب المقدسة اليهودية. هذا القبول ربما كان له جذوره في التعاليم الأصلية ليسوع نفسه ،حيث أخذ تلاميذه تفسيره للكتاب المقدس باعتباره على قدم المساواة في الموثوقية مع كلمات الكتاب المقدس نفسه . من المحتمل أن يكون يسوع قد شجع هذا الفهم عبر الطريقة التي عبر بها عن بعض تعاليمه . ففي أثناء موعظة الجبل ،على سبيل المثال ،تم تصوير المسيح وكأنه يذكر القوانين التي أعطاها الرب لموسى ، ثم يعطي تفسيره الخاص الأكثر تشددا لها ،مشيرا إلى أن تفسيره هو الجدير بالاعتماد والقبول. هذا يوجد فيما يعرف في إنجيل متى ، في الفصل 5 ب"المقابلات" . يقول يسوع ،" «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ(وهي واحدة من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ « ما يقوله يسوع ، في سياق تفسيره للشريعة ،يبدو مماثلا في الموثوقية للشريعة نفسها . أو يقول يسوع ،" قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ.(وهي وصية أخرى من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ." في بعض المناسبات تبدو هذه التفسيرات الموثوقة للكتاب المقدس ،في الواقع ،ناسخةً لشرائع الكتاب المقدس(أي اليهودي) ذاتها. على سبيل المثال ،يقول يسوع ،" وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ،(وهو أمرٌ موجودٌ في التثنية 24 :1) أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي." من العسير أن نفهم كيف يستطيع شخصٌ أن يتبَِّع أمر موسى بإعطاء كتاب طلاق ، لو لم يكن الطلاق في حقيقة الأمر خيارًا متاحًا . على أية حال ،أصبحت تعاليم يسوع ينظر إليها باعتبارها تعاليم في الرتبة ذاتها التي تحتلها شرائع موسى ـ التي هي شرائع التوراة ذاتها. هذا الأمر أصبح أكثر وضوحًا فيما بعد في زمن العهد الجديد ، ففي الرسالة الأولى إلى تيموثي ، التي من المفترض أن بولس هو كاتبها وإن كان العلماء كثيرا ما يعدُّونها مكتوبة بمعرفة أتباعٍ متأخرين نسبوها إليه . في 1 تيموثاوس 5 : 18 يستحث المؤلف قراءه إلى أن يدفعوا مالا إلى من يعظون بينهم ، ويدعم هذا الحث باقتباسٍ من "الكتاب المقدس". الأمر الطريف أنه حينئذ اقتبس فقرتين ، اقتبس واحدة من التوراه ("لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِسًا ،" تثنية 25 : 4) والأخرى جاءت من كلمات يسوع ("وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ")؛ انظر لوقا 10 : 7). يبدو أنَّ أقوال يسوع ، حسب وجهة نظر هذا المؤلف ، كانت على قدم المساواة بالفعل مع الكتاب المقدس . و لم تكن تعاليم يسوع فحسب هي التي كان الجيلان المسيحيان الثاني والثالث يعتبرانها جزءا من الكتاب المقدس . بل اعتبرت كتابات رسله أيضا كذلك. الدليل على ذلك يأتي من آخر أسفار العهد الجديد كتابةً، أي رسالة بطرس الثانية ، وهو السفر الذي يعتقد معظم علماء النقد أنه لم يكتب في الحقيقة بقلم بطرس وإنما بقلم واحدٍ من أتباعه ، الذي كتبه تحت اسم مستعار . ففي 2 بطرس3 يشير المؤلف إلى أن المعلمين الكذبة يحرِّفون معنى رسائل بولس ليجعلوها تقول ما يريدونها أن تقوله،" يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضا" (2 بط 3 : 16 ). يبدو أن رسائل بولس ً قد فهمت ها هنا على أنها كتاب مقدس. بعد عصر العهد الجديد بقليل ، كانت بعض الكتابات المسيحية يتمُّ اقتباسها كنصوص رسمية نافعة لحياة ومعتقدات الكنيسة. الرسالة التي كتبها في بداية القرن الثاني بوليكاربوس، أسقف سميرنا المذكور سابقا ، تعتبر مثالا بارزًا . لقد طلبت كنيسة فيليبي النصيحة من بوليكاربوس فيما يتعلق تحديدًا بقضية تمَسُّ واحدًا من القادة الذي كان من الواضح أنه تورط في بعض أشكال سوء الإدارة المالية داخل الكنيسة ( ربما اختلاس أموال تخص الكنيسة ). رسالة بوليكاربوس إلى أهل فيليبي ،التي بقيت إلى الآن ، هي رسالة مثيرة لعددٍ من الأسباب ، ليس أقلها نزوعها إلى الاقتباس من كتابات أقدم تخص المسيحيين. ففي أربعة عشر فصلا فقط ، يقتبس بوليكاربوس أكثر من مائة فقرة معروفة من تلك الكتابات الأقدم، مصرحًا بسلطانها على الوضع الذي كان أهل فيليبي يواجهونه ( على العكس من اثني عشر اقتباسا فقط من الكتابات المقدسة اليهودية )؛ وفي أحد المواضع يبدو وكأنه يطلق على رسالة بولس إلى أهل أفسوس كتابا مقدسا . كان من المعتاد كثيرا أن يقتبس ببساطة من كتابات أقدم أو يشير إليها ، مصوِّرًا للمجتمع كونها كتاباتٍ موثوقًا بها (11). يتبع ....................... |
|
قبل البدء ...http://www.hurras.org/vb/clear.gif |
لم يكن مرقيون هو المتهم الوحيد . فتقريبا في الفترة ذاتها التي كان إيريناوس يعيش فيها ،عاش أسقف كورينثيا الأرثوذكسي المسمى "ديونيسيوس" الذي كثيرا ما جأر بالشكوى من أن المؤمنين الكاذبين قد حرَّفوا كتاباته من غير وازع من ضمير ، مثلما قد فعلوا مع كثير من النصوص المقدسة . |
إعادة بناء نصوص العهد الجديد هناك مشكلات مماثلة ، بطبيعة الحال ، تنطبق على كتاباتنا المسيحية المبكرة ، سواء أكانت تلك الموجودة في العهد الجديد أو الموجودة خارجه ، وسواء أكانت أناجيل ، وأعمالا ، رسائلا ،رؤىً ، أو أيًّا من أنواع الكتابة المسيحية الأخرى .مهمة الناقد النصي هي "تحديد" ما يمثله الشكل الأقدم لكل هذه الكتابات . كما سنرى ، هناك مبادئ مستقرة للقيام بهذا ال"تحديد" ، وهناك طرق لتقرير أي من الاختلافات الموجودة في مخطوطاتنا هي التي تمثل الأخطاء(غير المقصودة) ، وأيها يمثل تغييرات مقصودة ، وأيها يبدو أنه يعود إلى المؤلف الأصلي . لكنها ليست مهمة يسيرة . فالنتائج ، من ناحية أخرى ،يمكن أن تكون كاشفة ،وممتعة و حتى مثيرة . لقد كان النقاد النصيون قادرين على تحديد عدد من المواضع التي لا تمثل فيها المخطوطات التي بين أيدينا نص العهد الجديد الأصليّ وذلك بيقين نسبيّ. بالنسبة لهؤلاء الذين ليس لديهم إطلاقا أيُّ معرفة مناسبة بهذا المجال ، ولكنهم يعرفون العهد الجديد جيدا ( فلنقل ، من خلال الترجمة الإنجليزية)، يمكن أن تكون بعض النتائج مفاجئة . في ختام هذا الفصل ، سأناقش فقرتين مشابهتين ـ فقرتان من الأناجيل ،في حالتنا هذه،نحن الآن على يقين تام من أنهما لم تكونا منتميتين في الأصل إلى العهد الجديد، على الرغم من أنهما أصبحتا أجزاءا مشهورة من الكتاب المقدس بالنسبة للمسيحيين عبر القرون وظلا هكذا حتى اليوم . المرأة الزانية قصة يسوع والمرأة الزانية ربما هي واحدة من أشهر قصص يسوع في الكتاب المقدس ؛ ولقد ظلت دائما إحدى القصص المفضلة لدى جميع أفلام هوليوود التي تناولت حياته . بل إنها حتى نجحت في أن تكون جزءا من فيلم آلام المسيح لمخرجه مل جيبسون ،رغم أن الفيلم يركز فقط على الساعات الأخيرة من حياة يسوع ( القصة تمت معالجتها في إحدى الارتجاعات الفنية (flashbacks) ). هذه القصة ،رغم شهرتها ، موجودة في فقرة واحدة فقط من العهد الجديد ،تحديدا في يوحنا 7 : 53 ـ 8 : 12 ، وهي لا تبدو أصليةً حتى في هذا الموضع .حبكة القصة عادية . فيسوع يعلِّم في الهيكل ، ومجموعة من الكتبة والفريسيين ،أعداءه اللدودين ،يقتربون منه ، محضرين معهم امرأة " أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ" .لقد أحضروها أمام يسوع لأنهم يريدون أن يضعوه أمام اختبار. فالشريعة الموسوية ،كما يخبرونه ،تطالب بأن ترجم مثل هذه المرأة حتى الموت ؛ لكنهم يريدون أن يعرفوا ما سيقوله هو حول هذا الأمر. هل ينبغي أن يرجموها أم يظهروا تجاهها الرحمة ؟ إنه شَرَكٌ ،بطبيعة الحال. فلو أخبرهم يسوع أن يتركوها لحال سبيلها ، سيتهم بأنه قد انتهك شريعة الله ؛ ولو قال لهم أن يرجموها سيتهم بمخالفة تعاليمه الخاصة عن المحبة والرحمة و الغفران . لم يتعجل يسوع الرد ؛ بدلا من ذلك انحنى ليتمكن من الكتابة على الأرض . ولما استمروا في سؤاله ، إذا به يقول لهم ،" مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ! ". ثم يعود إلى كتابته على الأرض ،في حين يبدأ هؤلاء في المغادرة - وهم يشعرون كما هو واضح بالخزي من فعلتهم الشريرة - حتى إن أحدًا بخلاف المرأة لم يبق في المكان. فنظر يسوع إلى أعلى ، وهو يقول:" يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟ " فردت عليه " لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ " فأجابها حينئذ " ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً" . إنها قصة رائعة ، مفعمة بالمشاعر و بالمدارة الماكرة التي استخدم فيها يسوع ذكاءه لينجو بنفسه- ناهيك عن المرأة المسكينة- من هذا الشَرَك . بطبيعة الحال ، بالنسبة لقارئٍ يقظٍ ، تثير القصة أسئلة عديدة . لو كانت هذه المرأة مقبوض عليها بتهمة الزنا ، على سبيل المثال ،فأين الرجل الذي ضبطت معه ؟ كلاهما مستوجبٌ الرجم ، وفقا لشريعة موسى (انظر لاويين 20 : 10 ). فوق ذلك ، عندما كتب يسوع على الأرض ، ماذا كان يكتب بالضبط ؟ (وفقا لتقليد قديم ، كان يسوع يكتب خطايا المشتكين ،الذين لما رأوا أن جرائمهم كانت معروفة ،غادروا يجللهم العار!) وحتى لو كان يسوع بالفعل يعلِّم رسالة المحبة ،فهل كان يعتقد فعلا أن شريعة الله التي أعطاها لموسى لم تعد سارية المفعول و ينبغي أن لا تطاع ؟ وهل كان يعتقد على وجه الإطلاق أن الخطايا لا يعاقب المرء عليها ؟ على الرغم من رونق القصة ،وجودتها الأخاذة ، وحبكتها الفطرية ، فهناك مشكلة أخرى عويصة تواجهها . كما سيتضح ، فهذه القصة لم تكن أصلية في إنجيل يوحنا. بل لم تكن ،في الواقع ، جزءا أصيلا من أيِّ إنجيل . فلقد أضيفت بمعرفة ناسخ آخر في زمن متأخِّر . كيف نعرف ذلك ؟ في الواقع ، العلماء الذين اشتغلوا بالتقليد المخطوط ليس لديهم أي شكوك بشأن هذه الحالة على وجه الخصوص . في هذا الكتاب في وقت لاحق سنقوم بفحص أكثر عمقًا أنواع الدليل الذي يورده العلماء للحكم على هذا النوع من التغيير. سأشرح الآن قليلا من الحقائق الأساسية التي ثبت أنها مقنعة للعلماء كلهم تقريبا من مختلف الاتجاهات : القصة غير موجودة في أقدم وأفضل مخطوطاتنا لإنجيل يوحنا (18) ؛ أسلوب الكتابة المستخدم فيها أصعب كثيرًا من ذلك الذي نجده في بقية إنجيل يوحنا (بما في ذلك القصص التي قبلها والتي بعدها مباشرة)؛كما تتضمن عددا كبيرا من الكلمات والجمل التي هي بطريقة أخرى غريبة عن الإنجيل . والنتيجة التي لا مفر منها : هذه الفقرة لم تكن جزءًا أصيلا من الإنجيل . فكيف حدث أن أضيفت هذه القصة إذن ؟ هناك العديد من النظريات حول هذا الأمر . معظم العلماء يعتقدون أنه من المحتمل أنها كانت قصة معروفة ومتداولة في التقليد الشفوي حول يسوع ،وأنها أضيفت في لحظة ما إلى هامش إحدى المخطوطات . ومن هناك اعتقد بعض النساخ أو غيرهم أن الملاحظة الموجودة في الهامش يقصد منها أن تكون جزءا من النص ولذلك أدخلوها مباشرة بعد القصة التي تنتهي عند يوحنا 7 : 52 . من الجدير بالملاحظة أن نساخا آخرين أدخلوا القصة في مواضع مختلفة في العهد الجديد ـ بعضهم بعد يوحنا 21 : 25 ،على سبيل المثال،والآخرون ،وهو أمر في غاية الطرافة ،بعد لوقا 21 : 38 . على أية حال ، أيّا كان كاتب القصة ، إلا أنه لم يكن يوحنا بالتأكيد. لو لم تكن هذه القصة جزءا من يوحنا في الأصل،فهل كان من المفترض أن تكون جزءا الكتاب المقدس؟ لن يجيب كل إنسان على هذا السؤال بالطريقة ذاتها ،لكن بالنسبة لغالبية النقاد النصيين ، الإجابة هي لا . الاثنا عشرة عددًا الأخيرة من مرقس المثال الثاني الذي سنناقشه ربما لا يكون مألوفا لدى القارئ المتقطع للكتاب المقدس، لكنه كان ذا أثر عظيم الشأن في تاريخ التفسير الكتابي (biblical) ويفرض مشكلات على الدرجة نفسها على علماء التقليد النصي للعهد الجديد. إن هذا المثال مأخوذ من إنجيل مرقس و يتعلق بخاتمته. في الرواية المرقسية ، يقال لنا إن يسوع يصلب و يدفن بمعرفة يوسف الأريماتي في اليوم السابق للسبت (15 : 42 – 47 ). في اليوم التالي للسبت ،عادت مريم المجدلية و نساء أخريات إلى القبر ربما لكي يدهنَّ الجسد (16 : 1- 2 ). عندما يصلن ، يجدن أن الحجر قد تم تحريكه بعيدا . ولدى دخولهن إلى القبر ، يرين شابا في ثوب أبيض ، يخبرهن أن،" لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. " ثم يأمر النساء أن يخبرن التلاميذ أن يسوع قد سبقهم إلى الجليل و أنهم سيرونه هناك ،" هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ " لكن النساء يهربن من القبر ولا يقلن أي شئ لأي شخص ،" لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ "(16 : 4-8 ). ثم تأتي الأعداد الاثنا عشر الأخيرة في مرقس الموجودة في كثير من الترجمات الإنجليزية المعاصرة ، وهي الأعداد التي تواصل الحكاية. يسوع نفسه يقال عنه إنه ظهر لمريم المجدلية ، التي ذهبت و أخبرت التلاميذ ؛ لكنهم لم يصدقوها( ألعداد 9 – 11). فيظهر بعد ذلك إلى اثنين آخرين (الأعداد 12-14 )، وفي النهاية للأحد عشر تلميذا (الاثنا عشر باستثناء يهوذا الإسخريوطي) الذين اجتمعوا معا على المائدة . يوبخهم يسوع على عدم إيمانهم ،ثم يكلفهم بالخروج و أن يكرزوا بإنجيله " لكل الخليقة". من يؤمن ويعتمد " يخلُص"، ومن لا يؤمن "يُدن". ثم يأتي اثنان من أكثر الأعداد إثارة للجدل في الفقرة : وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ.يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ. (الأعداد 17 – 18 ) يُرْفَع يسوع إلى السماء ، ويجلس على يمين الله . وأما التلاميذ فيخرجون إلى العالم مكرزين بالإنجيل ،و كلامهم يشهد على صحته ما يرافقه من آيات (الأعداد 19 – 20 ). إنها فقرة رهيبة ،غامضة ،مثيرة للمشاعر ،و قوية . إنها واحدة من الفقرات التي يستخدمها المسيحيون الخمسينيون لإظهار أن أتباع يسوع سيكونون قادرين على التكلم ب"ألسنة" غير معروفة لهم ، كما يحدث ذلك في أثناء طقوس العبادة عندهم ؛ وهي الفقرة الرئيسية التي تستخدمها مجموعات "مدربي الثعابين الأبالاتشيين " (Appalachian snake-handlers) الذين حتى اليوم يمسكون بالثعابين السامة في أيديهم لكي يظهروا إيمانهم بكلمات يسوع بأنهم عندما يفعلون ذلك لن يصيبهم أي أذى. لكن ثمة مشكلة واحدة . مرة أخرى ، هذه الفقرة ليست جزءا أصيلا في إنجيل مرقس . فلقد أضافها أحد النساخ المتأخرون . هذه المشكلة النصية بطريقة ما هي أكثر إثارة للجدل من الفقرة التي تتحدث عن المرأة الزانية ، لأن مرقس بدون هذه الأعداد الختامية سيكون له خاتمة شديدة التناقض و يصعب فهمها . هذا لا يعني ،كما سنرى بعد لحظات، أن العلماء يميلون لقبول هذه الأعداد . أسباب اعتبارها إضافة هي أسباب قوية ، وتقريبا لا يمكن الجدال بشأنها . لكنَّ العلماء يتجادلون حول ما كانت عليه بالفعل النهاية الأصلية لإنجيل مرقس ، مع التسليم بأن هذه الخاتمة ،الموجودة في كثير من الترجمات الإنجليزية (على الرغم من أنها توسم عادة بأنها غير موثوقة )و في بعض المخطوطات اليونانية الأحدث ،غير أصلية . الدليل على أن هذه الأعداد لم تكن أصلية في إنجيل مرقس مشابه نوعيًا لذلك الخاص بالفقرة التي تتحدث عن المرأة الزانية ،ومرة أخرى لست بحاجة إلى الدخول في التفاصيل هنا .هذه الأعداد مفقودة في أقدم وأفضل مخطوطاتنا التي تخص إنجيل مرقس ، إلى جانب شواهد أخرى هامة ؛ فمثلا أسلوب الكتابة فيها يختلف عن ما نجده في أي مكان آخر في مرقس ؛ التحول أو النقلة بين هذه الفقرة و الأخرى التي تسبقها يصعب فهمه( مريم المجدلية ، مثلا ، يتم التعريف بها في العدد 9 كما لو كانت لم تذكر من قبل ، على الرغم من أنها تم التحدث عنها في الأعداد السابقة ؛ هناك مشكلة أخرى مع اللغة اليونانية يجعل حتى هذا التحول أكثر صعوبة )؛ وهناك عدد كبير من الكلمات والجمل في الفقرة ليس لها وجود في أي مكان آخر في مرقس. باختصار ، الدليل كاف لإقناع كل علماء النص تقريبا أن هذه الأعداد تمثل إضافة إلى إنجيل مرقس. في غياب هذه الأعداد ،مع ذلك ،تنتهي القصة بشكل مفاجئ للغاية . انتبه لما سيحدث عندما تحذف هذه الأعداد .يقال للمرأة أن تخبر التلاميذ أن يسوع سيسبقهم إلى الجليل و سيلتقيهم هناك ؛ لكنهن ،أي النساء ، يهربن من القبر و لا يقلن أي شئ لأي شخص " لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ ". وهنا ينتهي الإنجيل . من الواضح أن النساخ اعتقدوا أن الخاتمة كانت مفاجئة للغاية . هل النساء لم يخبرن أحدًا ؟ إذن ،هل التلاميذ لم يعرفوا على الإطلاق بحدوث القيامة ؟ وهل يسوع نفسه لم يظهر لهم أبدا ؟ يالها من خاتمة! لحل هذه المشكلة ، أضاف النساخ خاتمة من عندهم (19) . "بعض العلماء يتفقون مع النساخ حول الاعتقاد بأن العدد 16 : 8 هو نهاية تم بترها بشكل مفاجئ جدا يتجاوز الحد المعقول بالنسبة لخاتمة إنجيل. و لا يعني هذا ،كما أشرت من قبل ، أن هؤلاء العلماء يؤمنون بأن الأعداد الاثنا عشر الأخيرة الموجودة في مخطوطاتنا الحديثة نسبيا تمثل النهاية الأصلية ـ هم يعلمون أن هذا ليس صحيحا ـ لكنهم يعتقدون أن الصفحة الأخيرة من مرقس ، التي يلتقي فيها يسوع فعليا تلاميذه في الجليل ، من المحتمل ، أن تكون قد فُقِدَت بطريقة ما، ويعتقدون أن كل نسخنا من الإنجيل تعود لتلك المخطوطة المبتورة بدون صفحتها الأخيرة . هذا التفسير جائز تماما .ومن الجائز أيضًا ،في رأي علماء آخرين ،أن مرقس لم يكن يقصد حقا أن ينهي إنجيله بالعدد 16 : 8 (20) . فهي بالتأكيد نهاية مروعة . فالتلاميذ لم يعلموا أبدا حقيقة قيامة يسوع لأن النساء لم يخبرنهم بذلك على الإطلاق . بقي سبب وحيد فقط يدفعنا للتفكير بأن هذه ربما تكون الطريقة التي اختارها مرقس لينهي بها إنجيله :ألا وهو أن مثل هذه النهاية تتوافق جيدا مع دوافع أخرى في كل مكان من إنجيله .فكما لاحظ دارسوا إنجيل مرقس طويلا ، لم يبدُ التلاميذ أبدا " أذكياء" في هذا الإنجيل (بخلاف بعض الأناجيل الأخرى). فالإنجيل يقول عنهم مرارا وتكرارا أنهم لم يفهموا يسوع (6 : 51 – 52 ؛ 8 : 21 )، وعندما يقول لهم يسوع في مناسبات عديدة أنه ينبغي أن يتألم ويموت ، يفشلون بوضوح في فهم كلماته (8: 31 – 33 ؛9 : 30 – 32 ؛10 : 33- 40 ). ربما ،في واقع الأمر ، لم يكن بإمكانهم على الإطلاق أن يفهموا( بخلاف قرّاء إنجيل مرقس ، الذين يستطيعون أن يفهموا من هو المسيح في الواقع من أول الأمر ). أيضًا ، من الطريف أن نلاحظ أنه في كل موضع من إنجيل مرقس ، عندما يتمكن شخص ما من فهم شئ ما عن المسيح ،يأمر يسوع هذا الشخص بالسكوت ـ إلا أن الشخص كثيرا ما يتجاهل الأمر ويذيع الخبر ( انظر مثلا 1 : 43 – 45 ). فياله من أمر مثير للسخرية أنه عندما يقال للنساء عند القبر أن لا يصمتن بل يتكلمن ، فإذ بهن يتجاهلن الأمر أيضًا ـ ويصمتن ! باختصار ، ربما كان مرقس قد تعمد أن يوقف قارئه مندهشا أمام هذه النهاية المبتورة ـ وهي طريقة ذكية لجعل القارئ يتوقف ، ويأخذ نفسا متقطعا و يسأل : ما هذا ؟ الخاتمة الفقرات التي ناقشناها فيما سبق تغطي موضعين فقط من بين آلاف المواضع التي تعرضت فيها مخطوطات العهد الجديد للتغيير على يد النساخ . في المثالين كليهما ، نحن نتعامل مع إضافات أحدثها النساخ في النص ، أضافات ضخمة العدد . ومع أن معظم التغييرات لم تكن بهذه الجسامة ، إلا أنه ثمة كثير من التغييرات الهامة (وكثير جدا من التغييرات غير الهامة ) في مخطوطات العهد الجديد الموجودة لدينا . في الفصول التالية سنرغب في رؤية كيف بدأ العلماء في اكتشاف هذه التغييرات وكيف طوروا مناهج لفهم ما كان عليه الشكل الأقدم من النص ( أو النص " الأصلي ") ؛ سنكون حريصين بشكل خاص على رؤية المزيد من الأمثلة عن المكان الذي تعرضت فيه هذه النصوص للتغيير ـ وكيف أثرت هذه التغييرات على ترجماتنا الإنجليزية للكتاب المقدس . أودّ أن أنهي هذا الفصل بملاحظة بسيطة عن أمر مثير للسخرية الشديدة يبدو أننا اكتشفناه . كما رأينا في الفصل 1 ، كانت المسيحية منذ البداية ديانة كتابية أكدت على بعض النصوص باعتبارها الكتاب المقدس الرسمي . وكما رأينا في هذا الفصل ، رغم ذلك ، نحن لا نملك في الواقع هذه النصوص الرسمية . إن الديانة المسيحية هي ديانة توجهها النصوص وهذه النصوص قد تعرضت للتحريف ، وما بقي فقط ،في شكل نسخ، يختلف من واحدة لأخرى ، وفي كثير من الأحيان يكون الاختلاف في أمور شديدة الأهمية . إن مهمة الناقد النصي هي محاولة استعادة الشكل الأقدم من هذه النصوص . هذه المهمة واضح أنها شديدة الأهمية ، حيث إننا لا يمكن أن نفسر الكلمات الواردة في العهد الجديد لو لم نكن نعرف الشكل الذي كانت عليه الكلمات . فوق ذلك ، كما آمل أن يكون واضحا الآن ، معرفة هذه الكلمات هي أمر مهم ليس فقط من أجل هؤلاء الذين يعتقدون أن هذه الكلمات موحاة من الله . بل هي مهمة من أجل أي شخص يعتقد أن العهد الجديد كتاب هام . وبالتأكيد كل شخص مهتم بالتاريخ ، والمجتمع و بثقافة الحضارة الغربية يعتقد ذلك ، لأن العهد الجديد ،إن لم يكن أكثر من ذلك ، هو منتج ثقافي ضخم ، وكتاب يوقِّره الملايين ويمثل الأساس لأكبر الديانات في عالم اليوم ." يتبع .. |
هوامـــش الفصل الثاني
(1) لمزيد من النقاش ، انظر كتاب هاري واي. جامبل " كتب وقراء في الكنيسة المبكرة: تاريخ النصوص المسيحية (نيو هافن : مطبعة جامعة يال ،1995 )، الفصل 3. (2) " مقالات أخلاقية "(Moral essays ) لسينيكا ،تحرير وترجمة جون و. باسور (John .w Basore ) (مكتبة لويب الكلاسيكية ؛ لندن :هاينمان ،1925 )، ص 221 . (3) مارشال : الإبيجرامات ، تحرير وترجمة والتر .سي . إيه. كر (مكتبة لويب الكلاسيكية ؛ كمبريدج : مطبعة جامعة هارفارد ،1968 )،1 :115 . (4) للاطلاع على نقاش واسع انظر كتاب "حراس الحروف " لهاينز أيتزن". (5) استعرت هذا المثال من بروس .م .ميتزجر . انظر كتاب "نص العهد الجديد: نقله و ضياعه و استعادته " لبروس ميتزجر وبارت إرمان ، الطبعة ال4 (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد ،2005 )، 22 – 23 . (6) هذا ما صرح به في القائمة الموراتورية الشهيرة ، أقدم قائمة من الكتب المقبولة باعتبارها "قانونية" بمعرفة مؤلفها المجهول . انظر "الديانات المسيحية المفقودة " لبارت إرمان ،240 – 243 . (7) هذه واحدة من استنتاجات كيم هاينز الهامة في كتابه "حراس الحروف ". (8) أقصد بقولي "ناسخ محترف" هؤلاء النساخ الذين كانوا مدربين بشكل خاص و/أو يحصلون على مقابل مادي نظير قيامهم بنسخ النصوص كجزء من وظيفتهم . في فترة متأخرة ، كان الرهبان في الأديرة بصورة نمطية مدربين ، لكنهم لم يكونوا يحصلون على مقابل مادي؛ وربما يشملهم تعريفي بين طبقات النساخ المحترفين . (9) تفسير متى 15 .14 ، كما يقتبسه بروس ميتزجر في كتابه " إشارات واضحة في أعمال أوريجانوس إلى القراءات المتباينة في مخطوطات العهد الجديد" في الدراسات الكتابية والآبائية في ذكرى روبرت بيرس كاسي ، بتحرير ج. نيفيل بيردسال و روبرت .و.تومسون (فرايبرج :هيردر،1968 )،78 – 79 . (10) ضد سيلزس 2 . 27 . © نوع من النبات يرمز به إلى الأتباع الزائفين كما في متى 13 : 25 – 30 . (11) انظر كتاب بارت .د إرمان " التخريب الأرثوذكسي للكتاب المقدس : آثار النزاعات المبكرة حول طبيعة المسيح على نص العهد الجديد (نيو يورك : مطبعة جامعة أكسفورد ،1993 ) (12) أوريجانوس "حول المبادئ الأولى "(On Frist principles ) مقدمة روفينوس ؛كما اقتبسها جامبل في كتابه " كتب وقراء" ص 124 . (13) انظر هامش رقم 8 في الأعلى . (14) لملاحظات أخرى أضيفت إلى المخطوطات بمعرفة نساخ منهكين أو شاعرين بالملل ، انظر الأمثلة التي ساقها ميتزجر وإرمان في " نص العهد الجديد" الفصل 1 ، القسم الثالث . (15) في مناسبة واحدة فحسب عرف واحد من أميني سر النسخ لدى بولس نفسه ؛ كان شخص يسمى تيرتيوس ، أملى عليه بولس رسالته إلى أهل رومية ، انظر رومية 16 : 22 . (16) انظر ،على وجه الخصوص ، كتاب "السكرتاريا في رسائل بولس (the Secretary in the Letters of Paul) " لـ إي.راندولف ريتشاردز (توبنجن :مور/سيبيك ، 1991 ). (17) حتى العهد الجديد يشير غإلى أن كتبة الإنجيل طان لديهم "مصادر " لقصصهم . في لوقا 1 : 1- 4 ،على سبيل المثال ،يصرح المؤلف أن "كثيرين" من السابقين كانوا قد كتبوا قصة حول الأمور التي قالها يسوع وفعلها ،وأنه ، بعد قراءته لكتاباتهم ومشاورته "لشهود وخدام الكلمة "، قرر أن يكتب قصته الخاصة ، وهي القصة التي كما يقول هو ،خلافا للآخرين ،"أكثر دقة ". أو بكلمات أخرى ، كان لدى لوقا مصدرا الأحداث التي حكاها كلاهما المكتوب منهما والشفوي ـ فهو نفسه لم يكن شاهدا على حياة يسوع الأرضية . والأمر نفسه يبدو متطابقا مع كُتَّاب الأناجيل الآخرين كذلك . بخصوص مصادر إنجيل يوحنا ،انظر كتاب إرمان "العهد الجديد " 164 – 167. (18) سنرى فيما بعد كيف أن بعض المخطوطات يمكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من الآخرين . (18) سنرى فيما بعد كيف أن بعض المخطوطات يمكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من الآخرين . (19) في الواقع ، كان هناك نهايات مختلفة أضيفت بمعرفة نساخ مختلفين ـ ليس فقط الاثنا عشر عددا المألوفة لقراء الكتاب المقدس الإنجليزي . للاطلاع على كل النهايات ، انظر كتاب بروس ميتزجر " تفسير نصي حول العهد الجديد اليوناني " الطبعة الثانية . (نيويورك : جمعية الكتاب المقدس الموحد ،1994 )، 102 ـ 106 . (20) انظر كتاب إرمان " العهد الجديد " الفصل 5 ،خصوصا الصفحات 79 – 80 . |
|
|
|
|
|
|
الأصول هي الأهم في هذا الفصل سنقوم بإلقاء الضوء على المناهج التي أنتجها العلماء لكي يصلوا إلى الشكل " الأصليّ" من النص (أو على الأقل "أقدم ما يمكن الحصول عليه" من هذا الشكل ) و ليصلوا إلى شكل النص الذي يجسد التحريف الذي أحدثه النسَّاخ في العصور التالية. بعد توضيح هذه المناهج ،سأشرح ،عبر التركيز على ثلاث قراءات نصيَّة متباينة موجودة في التقليد المخطوط لعهدنا الجديد ، كيف يمكننا استخدام هذه المناهج. لقد اخترت هذه الأمثلة الثلاثة لأنَّ كل واحدٍ منها له أهميته البالغة في تفسير السفر الذي يحتويه؛ فوق ذلك ، ليس هناك وجود لأيٍّ من هذه القراءات في الغالبية الساحقة من ترجماتنا الإنجليزية المعاصرة للعهد الجديد. أي أنَّ هذه الترجمات التي يستخدمها غالبية القارئين بالإنجليزية بمعنى آخر ،وحسب وجهة نظري، هي تعتمد على النص الخطأ ،واعتمادها على النص الخطأ يشكل فارقًا كبيرًا عند تفسير الأسفار . في البداية ينبغي أنَّ نتعرض للمناهج التي طوَّرها العلماء لتساعدهم على تحديد أيِّ القراءات النصيَّة تمثِّل القراءة الأصلية وأيُّها يمثل التغييرات التي أحدثها النسَّاخ في عصور متأخرة. كما سنرى ، ليس بناء شكل أقدم من النص بالأمر اليسير دائمًا ؛ بل قد يكون ممارسة مرهقة . المناهج المعاصرة للنقد النصيّ أكثرية علماء النقد النصيّ اليوم عندما يصلون إلى مرحلة اتخاذ القرارات بخصوص الشكل الأقدم من النص سيطلقون على أنفسهم اسم الانتقائيين العقلانيين(rational eclecticists) . هذا يعني أنهم "ينتقون" ( وهو معنى كلمة " eclectic ") القراءة النصيَّة التي تعبر أفضل تعبير عن الشكل الأقدم من النص وذلك من بين العديد من القراءات النصيَّة مستخدمين لفعل ذلك مجموعة من الحجج النصيَّة (العقلانية). هذه الحجج تعتمد على دليل يتم تقسيمه عادةً إما إلى دليل خارجيّ أو داخليّ حسب طبيعته . الدليل الخارجيّ البراهين المبنية على أدلة خارجية تعني تأييد إحدى المخطوطات الموجودة لهذه القراءة أو لتلك .ما هي المخطوطات التي يمكنها أنَّ تشهد على صحة قراءة ؟هل هذه المخطوطات يمكن الاعتماد عليها؟ وعلى أيِّ أساسٍ بُني هذا التقسيم..أي إلى مخطوطة يمكن الاعتماد عليها وأخرى لا يمكن الاعتماد عليها ؟ عند التفكير في المخطوطات التي تدعم قراءة ما على حساب القراءة الأخرى ، ربما دُفِع المرء منا ببساطة إلى أنَّ يبذل جهدًا خارقًا لكي يرى أيَّ القراءة المتباينة لها وجود في غالبية الشواهد (أي المخطوطات)الموجودة . معظم العلماء اليوم ،رغم ذلك ، ليسوا مقتنعين تمامًا بأن غالبية المخطوطات هي بالضرورة ما يمنحنا أفضل نصِّ متاح . من اليسير تفسير السبب وراء ذلك من خلال بعض التوضيحات . فلنفترض أنه بعد أنَّ كُتِبَت المخطوطة الأصلية التي تحوي نصًا ما، نسخت منها نسختان ،ربما نطلق عليهما الاسمين ( أ) و (ب). هاتان النسختان ،بطبيعة الحال ،سيكون بينهما اختلافات بطريقة أو بأخرى – ربما هي اختلافات هامة و على الأرجح هي اختلافات يسيرة . الآن لنفترض أنَّ النسخة (أ) قد نسخت من خلال ناسخ واحد آخر فقط ، لكنّ النسخة (ب) نسخت من خلال خمسين ناسخ .ثم حدث أنَّ فقدت المخطوطة الأصلية ،وكذلك النسختان (أ) و (ب)،ليصبح ما تبقى لدينا في شكل تقليد نصيّ هما الواحد والخمسون نسخة التي تمثل الجيل الثاني ،واحدة منهم نسخت من النسخة (أ) و الخمسون الباقية تم نسخهم من النسخة (ب). لو أنَّ إحدى القراءات موجودة في المخطوطات الخمسين تختلف عن قراءة موجودة في المخطوطة الوحيدة (المنسوخة من (أ))، فهل القراءة الأولى منهما (أي الموجودة في الخمسين نسخة) بالضرورة هي الأكثر احتمالا أنَّ تكون القراءة الأصلية ؟لا ، على الإطلاق – حتى لو ثبت أنها متكررة في الشواهد الخمسين خمسين مرة . في الواقع ، الفارق النهائي الذي يدعم تلك القراءة ليس نسبة خمسين إلى واحد . بل الفارق هو بنسبة واحد إلى واحد (أ في مقابل ب ). قضية عدد المخطوطات التي تدعم قراءة على أخرى في حد ذاتها ،لهذه الأسباب، ليست وثيقة الصلة تحديدًا بمسألة تحديد أيِّ القراءات الموجودة في مخطوطاتنا المحفوظة هي التي تمثِّل الشكل الأصلي (أو الأقدم) من النص . العلماء على وجه العموم مقتنعون ،لهذه الأسباب، أنَّ اعتباراتٍ أخرى هي الأكثر أهمية عند تحديد أيِّ القراءات هي الأَوْلَى بأن تعتبر الشكل الأقدم من النص . إحدى هذه الاعتبارت الأخرى هي عُمْرُ المخطوطة التي تدعم قراءة ما . أنَّ العثور على الشكل الأقدم من النص في المخطوطات الأقدم هو أمر كبير الاحتمال- بالوضع في الاعتبار أنه من المألوف جدا أنَّ يزيد مرور الزمن حجم التغييرات التي تتعرض لها المخطوطة . هذا بطبيعة الحال لا يعني أننا نقول أنَّ المخطوطات الأقدم يجب اتباعها بلا أي نقاش في كل الحالات . وهذا لسببين اثنين ، أولهما سبب منطقي والثاني سبب تاريخيّ. أمَّا عن السبب المنطقي ،فلنفترض أنَّ مخطوطة من القرن الخامس تشتمل على قراءة واحدة ،بينما تحتوي مخطوطة من القرن الثامن على قراءة مختلفة . فهل يلزم أنَّ تكون القراءة الموجودة في مخطوطة القرن الخامس هي التي تمثِّل الشكل الأقدم من النص ؟ لا ، ذلك غير لازم . ماذا لو أنَّ مخطوطة القرن الخامس قد تمَّ نسخُها من نسخة أخرى يرجع تاريخها إلى القرن الخامس ، بينما الأخرى التي تنتمي إلى القرن الثامن قد نسخت من نسخة ترجع إلى القرن الثالث ؟ في تلك الحالة ، مخطوطة القرن الثامن هي التي ستحتوي على القراءة الأقدم . السبب الثاني ،أي ذو البعد التاريخي ، في أنَّ المرء لا يمكن ببساطة أنَّ ينظر إلى ما تقوله المخطوطة الأقدم، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، هو أنَّ المرحلة المبكرة من مراحل نسخ النصوص ،كما رأينا من قبل ، كانت أيضًا أقل المراحل انضباطًا . ففي تلك المرحلة كان النسَّاخ غير المحترفين في أغلب الأحيان هم من تولّوا أمر نسخ نصوصنا – وضمَّنوها الكثير من الأخطاء . لذلك ، فعمر المخطوطة له أهميته ،لكنه ليس المعيار المطلق . هذا ما يجعل غالبية نقاد النصوص "انتقائيين عقلانيين". فهم يعتقدون أنَّ سوق عدد كبير من الحجج تدعيمًا لهذه القراءة أو تلك هو شئٌ ضروريّ ، وليس الاعتماد ببساطة على عدد المخطوطات أو أقدمها فحسب . مع ذلك ،وبعد أخذ كل هذه الأمور في الاعتبار،لو أنَّ غالبية مخطوطاتنا الأقدم تدعم قراءة ما ضد الأخرى فمن المؤكد أنَّ هذه العوامل مجتمعة ينبغي أنَّ ينظر إليها باعتبارها تمثل أهمية في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالنص . ملمح آخر يتميز به الدليل الخارجي وهو النطاق الجغرافي للمخطوطات الذي يدعم قراءة ما أكثر من القراءة الأخرى . فلنفترض أنَّ قراءة ما وجدت في عددٍ من المخطوطات ، لكنَّ هذه المخطوطات كلها من الواضح أنَّ مكان نسخها يرجع ،فلنقل ،إلى روما ، بينما عددٌ كبيرٌ من المخطوطات الأخرى يرجع أصلها إلى مصر وفلسطين و آسيا الصغرى وبلاد الغال يعطي قراءة أخرى . ففي هذه الحالة ،لابد أنَّ يرتاب الناقد في أنَّ القراءة الأولى هي اختلاف يعود إلى أسباب " محلِّيَّة" (أي أنَّ النسخ التي أنتجت في روما كلها تحمل الخطأ ذاته ) وأنَّ القراءة الأخرى هي القراءة الأقدم ومن المحتمل أكثر أنها تتضمن النصَّ الأصليّ. من الراجح أنَّ المعيار الخارجي الأكثر أهميَّة الذي يتبعه العلماء هو التالي : لكي يُنْظَر إلى قراءة ما باعتبارها القراءة "الأصلية"، فلابد أنَّ يعثر عليها في أفضل المخطوطات وفي أفضل مجموعات المخطوطات . لكنه أيضًا معيارٌ خادعٌ آخرُ ، لكنه يستخدم على النحو التالي : بعض المخطوطات يمكن ،لأسباب عديدة،إثبات أنها أعلى قيمةً من المخطوطات الأخرى . فعلى سبيل المثال ،متى يكون الدليل الداخلي (سنناقشه فيما بعد) حاسمًا في تدعيمه لقراءة ما، فإن هذه المخطوطات(أي الأعلى قيمة)غالبًا ودائمًا ما تحتوي هذه القراءة ، بينما المخطوطات الأخرى ،والتي عادةً ما تكون ،كما سنوضِّح، مخطوطات أحدث عمرًا، تتضمن القراءة المغايرة . المبدأ الذي يهمنا هنا هو أنه لو عُرِفَ عن بعض المخطوطات أنها الأعلى قيمة من ناحية ما تحويه من قراءات عندما يكون الشكل الأقدم واضحًا ، فمن المحتمل أكثر أنَّ تكون هذه المخطوطات هي الأعلى مقامًا أيضًا في القراءات التي يكون دعم الدليل الداخلي لها ليس بالقدر ذاته من الوضوح . هذا يشبه ،إلى حدٍ ما ،أن يكون لديك شهودٌ في محكمة أو أنَّ يكون لديك أصحاب تثق في وعودهم . عندما تعرف أنَّ شخصًا ما يميل إلى الكذب ، فلن تتمكن أبدًا من التأكد أنه يمكن أنَّ يوثق به ؛ لكنك لو علمت أنَّ شخصًا ما موثوق به تمامًا ، فإنك حينئذ تستطيع أنَّ تثق بصدقه حتى عندما يخبرك بشئ ما لا يمكنك التأكُّد منه بطريقة أخرى . هذا الأمر ذاته ينطبق على مجموعات الشواهد. فقد رأينا في الفصل الرابع أنَّ "ويستكوت" و "هورت" طوَّرا الفكرة التي توصل إليها "بنجيل" حول أنَّ المخطوطات يمكن تقسيمها إلى مجموعات من العائلات النصيَّة . بعض هذه المجموعات النصيَّة ، كما سيتضح ، يمكن الوثوق بكونها تحتفظ بأفضل و أقدم شواهدنا المحفوظة أكثر مما تفعله بعض المجموعات الأخرى ،و أنَّ الدليل قد قام ، عند اختبارها ،على أنها تقدم القراءات الأفضل قيمة . غالبية الانتقائيين العقلانيين،على وجه الخصوص ،يعتقدون أنَّ النص السكندري المزعوم (يشمل ما سمَّاه "هورت" النص " المحايد")،الذي كان في الأساس مقترنًا بالممارسات النسخيَّة المنضبطة التي مارسها النساخ المسيحيون في الإسكندرية في مصر ، هو الشكل الأعلى مقامًا بين النصوص المتاحة لنا ، وهو في أغلب الحالات يزوِّدُنا بالنص الأقدم أو "الأصلي" في أي موضع يوجد فيه قراءات متباينة . النصان "البيزنطي" و "الغربي" ، من ناحية أخرى ، من المحتمل بصورة أقل أنَّ يحتفظا بأفضل القراءات عندما لا يكونان مدعومين بالمخطوطات السكندرية . الدليل الداخلي يعتبر علماء النقد النصي أنفسهم انتقائيين عقلانيين وذلك لأنهم يقومون بالاختيار من بين عدد كبير من القراءات التي تعتمد على عددٍ من أجزاء الدليل(a number of pieces of evidence).فبالإضافة إلى الدليل الخارجي الذي تقدمه لنا المخطوطات ،هناك نوعان من الأدلة الداخلية يستخدمان بصورة نمطية . النوع الأول يتعلق بما يعرف باسم الاحتمالات الداخلية (intrinsic probabilities)- أي الاحتمالات المبنية على ما تأكد لدينا تقريبًا أنه مما كتبه المؤلف نفسه . بالطبع يمكننا أنَّ ندرس أسلوب الكتابة ومفردات اللغة و العقيدة اللاهوتية التي يستخدمها مؤلف ما . وعندما تحتفظ المخطوطات لنا بقراءة أو بقراءتين متباينتين وإحداها تستخدم الكلمات و الخواص الأسلوبية التي لا توجد في عمل ذلك المؤلف ،أو لو أنها تمثل وجهة نظر تختلف تماما مع تلك التي يعتنقها هذا المؤلف ، فمن غير المحتمل في هذه الحالة أنَّ تكون هذه القراءة هي مما كتبه المؤلف – خاصة لو أنَّ قراءة أخرى ثبتت موثوقيتها تطابقت تمامًا مع كتابات المؤلف في مكان آخر. النوع الآخر من أنواع الدليل الداخلي يسمى الاحتمال النسخي (transcriptional probability) . هذا الدليل لا يبحث عن القراءة التي ربما كتبها المؤلف فحسب، بل أيضًا عن تحديد القراءة التي من المحتمل أنَّ يكون الناسخ قد أدخلها. أخيرًا ، هذا النوع من الدليل أصله فكرة جاء بها بينجيل كانت تنصُّ على أنَّ القراءة "الأكثر صعوبة" هي على الأرجح القراءة الأصلية. هذه النظرية مبنية على فكرة أنَّ النسَّاخ على الأرجح يحاولون تصحيح ما يرون أنه يمثل أخطاءً ويحاولون التوفيق بين الفقرات التي يرونها متناقضة ، وليِّ عنق العقيدة اللاهوتية التي يحتويها النص لتتوافق مع العقائد اللاهوتيَّة التي يؤمنون بها . أما القراءات التي ربما بدت ظاهريًّا وكأنها تحتوي على "خطأ " أو يعوزها الانسجام أو كانت تشتمل على عقيدة لاهوتية غريبة ،فإنها أكثر عرضة لأن يغيرها أحد النسّاخ من تلك القراءات " الأسهل". هذا المعيار ربما يتمُّ التعبير في بعض الأحيان كالتالي: القراءة التي تفسر وجود القراءات الأخرى بأفضل ما يكون هي الأولى باعتبارها القراءة الأصليَّة . لقد عرضت أشكالا عديدة للدليل الداخلي و الخارجي المعتبرة لدى النقاد النصِّيين ليس لأنني أتوقع من أي شخص يقرأ هذه الصفحات أنَّ يتقن هذه المبادئ وأنَّ يبدأ في تطبيقها على تقليد العهد الجديد المخطوط ،بل لأنه من المهم،عندما نحاول أنَّ نحدِّد الماهية التي كان عليها النص الأصليّ ، أنَّ نعترف بأن عددًا كبيرًا من هذه الاعتبارات لابد من وضعها في الحسبان وأنَّ كثيرًا من القرارات المبنيَّة على التقديرات الشخصية لابد من اتخاذها . فهناك أوقات يحدث فيها تناقض بين أجزاء الدليل أحدها مع الآخر ،على سبيل المثال ،حينما لا تكون القراءة الأكثر صعوبة (حسب نظرية احتمالات الناسخ)مدعومة جيدًا داخل المخطوطات (التي تمثل الدليل الخارجي )،أو عندما تكون القراءات الأكثر صعوبة غير متوافقة مع أسلوب الكتابة الذي يتميز بها الكاتب أيضًا (الاحتمالات الداخلية). باختصار، تحديد النص الأصلي ليس بالأمر اليسير ولا بالأمر الصريح ! بل يتطلب كثيرًا من التأمل في الدليل و التمحيص الحَذِرِ له، والعلماء المختلفون دائمًا ما يصلون إلى استنتاجات مختلفة –ليس فقط فيما يتعلق بالأمور الثانويَّة التي لا تؤثر على معنى الفقرة (مثل تهجئة كلمة ما أو تغيير ترتيب الكلمات المكتوبة باليونانية والتي لا يمكن حتى أنَّ يكون لها أي تأثيرٍ على الترجمة الإنجليزية)، و إنما فيما يتعلق بالأمور ذات الأهمية القصوى ، التي تؤثر على تفسير سفرٍ كاملٍ من أسفار العهد الجديد . ولتوضيح الأهمية التي تتسم بها بعض القرارت التي تتعلق بالنصوص ، سأنتقل الآن إلى ثلاث قراءات نصيَّة متباينة من النوع الأخير ،حين يكون لتحديد النص الأصلي تأثيرٌ بالغٌ على الكيفية التي تُفهم بها الرسالة التي يريد إيصالها بعض مؤلفي العهد الجديد . أعتقد أنَّ غالبية المترجمين إلى الإنجليزية في هذه الحالات الثلاث ،كما سيتضح ،قد اختاروا القراءة غير السليمة ولم يقدموا لنا ترجمة النص الأصلي وإنما ترجمة النص الذي اختلقه النُسَّاخ حينما حرَّفوا النصَّ الأصليّ. أول هذه النصوص يأتي من مرقس و هو ذو علاقة بغضب يسوع حينما استعطفه فقير مصاب بالبرص ليعالجه . قصة مرقس مع يسوع الغاضب مشكلة النص في مرقس 1 : 41 نجدها في قصة شفاء يسوع لرجل يعاني من مرضٍ جلديّ . المخطوطات الموجودة تحتفظ بشكلين مختلفين للعدد 41 ؛ القراءتان كلتاهما موضحتان هنا بين قوسين : فجاء ليكرِّز في مجامعهم في كل الجليل و يخرج الشياطين.فأتى إليه أبرص يتضرع إليه ويقول له :"إن ترِدْ ، تقدر أنَّ تطهرني." ،فشعر بالشفقة عليه (المقابل اليوناني هو : SPLANGNISTHEIS) أو فشعر بالغضب ( والمقابل اليوناني لها هو: ORGISTHEIS)،ومدَّ يده إليه ولمسه وقال :" أريد ، فاطهر ." فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ وَقَالَ لَهُ: «انْظُرْ لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ الْخَبَرَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أنَّ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. معظم الترجمات الإنجليزية تترجم بداية العدد 41 بطريقة تؤكِّد على محبة يسوع لهذا الأبرص الفقير المنبوذ : "الشعور بالشفقة"( أو يمكن ترجمة الكلمة بأنه " تحرك بدافع الشفقة") عليه . وفي سبيل قيامهم بهذا ،سارت هذه الترجمات وراء النص اليوناني الموجود في معظم المخطوطات التي لدينا .بالتأكيد من السهل أنَّ نعرف السبب الذي استخدمت من أجله عاطفة الشفقة في هذا الموقف . لا نعرف طبيعة المرض الذي ألمَّ بالرجل على سبيل الدقة – يفضل بعض المفسرين أنَّ يعتبروه برصًا ( اختلال في الجلد يظهر على شكل قشور )بدلا من اعتباره نوعًا من الإصابة باهتراء في لحم جسم الإنسان نسميه في العادة جذامًا . على أية حال ، من المحتمل جدًا أنَّ يكون هذا المريض قد خضع لأوامر الشريعة التوراتية التي تحظر على" المجذوم" أنَّ يعيش أيَّ حياةٍ طبيعيةٍ ؛ لقد كان مفروضًا عليهم أنَّ يعيشوا عيش المنبوذين ، معزولين عن المجتمع ،فقد اعتبروا أنجاسًا( سفر اللاويين 13 – 14 ). ولشعوره بالشفقة تجاه شخص على هذه الحال ،يمدَّ يسوع يده بلمسة حنونة ليلمس لحمه المصاب وليشفيه . الشفقة الطبيعية و الشعور الخالي من أي تعقيد الذي احتواه هذا المشهد ربما يفسر ،في الغالب ، سبب عدم اعتداد المفسرين والمترجمين بالنص الآخر الذي وجد في بعض مخطوطاتنا. هناك تعبير ورد في أحد أقدم شواهدنا ،المسمى مخطوطة بيزا، ويدعمه ثلاث مخطوطات لاتينية يمثِّل في البداية صياغة محيِّرة و مشوَّهَة . فهنا ،بدلا من القول أنَّ يسوع شعر تجاه الرجل بالشفقة ،يشير النص إلى أنه استشاط غضبًا . في اليونانية هنا فارق بين كلمتي (SPLANGNISTHEIS) و (ORGISTHEIS) . فبسبب وجودها في الشواهد اليونانية واللاتينية ، يسلم المتخصصون في النصوص بأن تاريخ هذه القراءة الثانية يرجع إلى القرن الثاني على الأقل . فهل من الممكن ، مع ذلك ، أنَّ تكون هذه هي القراءة التي كتبها مرقس نفسه ؟ كما رأينا بالفعل ، ليس صحيحًا أبدًا أنَّ نقول إنه عندما تحتوي الغالبية الساحقة من المخطوطات قراءة ما بينما تحتوي مخطوطتان فحسب القراءة الأخرى ، فإن قراءة الغالبية هي الصحيحة .في بعض الأحيان يكون العدد القليل من المخطوطات هو الذي يحتوي القراءة الصحيحة حتى عندما لا تتفق معه المخطوطات الأخرى جميعًا . إلى حدٍ ما ،هذا يكون سببه أنَّ الغالبية الساحقة من مخطوطاتنا يبعد تاريخ كتباتها عن تاريخ كتابة الأصول بالمئات والمئات من السنوات، وأنها قد تم نسخها من نسخ أخرى أحدث كثيرًا وليس من الأصول. بمجرد أنَّ يجد أحد التحريفات طريقه إلى التقليد المخطوط ، ربما يستقر فيه إلى الأبد ليصبح أوسع انتشارًا من التعبير الأصلي . في حالة كهذه ، القراءتان كلتاهما نعتبرهما تبدوان قديمتين للغاية . فأيُّ القراءتين هي القراءة الأصلية ؟ لو أنَّ قارئا مسيحيًّا خُيِّر اليوم بين هاتين القراءتين ، لا شك أنَّ كل شخص في الغالب سيختار القراءة الأكثر وجودًا في مخطوطاتنا : شعر يسوع بالشفقة تجاه هذا الرجل ، و شفاه .أما القراءة الأخرى فمن الصعب تصورُّها :فما معنى أنَّ يقال أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ أليس هذا وحده سببًا كافيًا للافتراض أنَّ مرقس قد كتب أنَّ يسوع شعر بالشفقة ؟ على العكس ، فحقيقة أنَّ إحدى القراءتين تعطي معنى مفيدًَا و أنه من السهل فهمها هي بالتحديد ما جعل بعض العلماء يرتابون في كونها قراءة غير أصلية ، لأن النساخ ،كما رأينا ،كانوا ليفضلوا أنَّ يكون فهمُ النص سهلا وغير معقد . إلا أنَّ السؤال الذي ينبغي أنَّ يسأل هو كالتالي:ما هو الأمر المنطقي بدرجة أكبر ،أن يغيِّر الناسخُ النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالغضب ليجعله يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ، أم أنَّ يغير النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ليجعله يقول إنه شعر بالغضب ؟ أي القراءتين تفسر وجود الآخر بصورة أفضل ؟ عندما ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية ،نجد القراءة الأخيرة هي الأكثر احتمالا . القراءة التي تشير إلى أنَّ يسوع شعر بالغضب هي القراءة " الأكثر صعوبة " ولذلك هي الأكثر احتمالا لأن تكون النص " الأصلي " . هناك دليل آخر أفضل من هذا السؤال النظري عن أيِّ القراءتين من المحتمل أنَّ يكون النساخ قد لفَّقوها . كما سيتضح ،ليس لدينا أي مخطوطة يونانية لمرقس تحتوي هذه الفقرة حتى نهاية القرن الرابع ،أي بعد ثلاثة قرون تقريبًا من تاريخ تأليف هذا السفر .لكننا بالفعل لدينا مؤلِّفان قاما بنسخ هذه القصة في العشرين عاما التي تلت تاريخ تأليفها الأول. اعترف العلماء لفترة طويلة أنَّ مرقس هو أول الأناجيل تأليفًا ، وأنَّ متى و لوقا كليهما استخدما رواية مرقس كمصدر للقصص التي حكياها عن يسوع . من الممكن ، إذن ، أنَّ نتفحص إنجيلي متى و لوقا لنعرف كيف قاما بتغيير نص مرقس في المواضع التي حكيا فيها القصة ذاتها ولكن بطريقة مختلفة (إن بدرجة أكبر أو أقل). حينما نفعل هذا ، نجد أنَّ متى ولوقا اقتبسا هذه القصة الواردة في مرقس . من اللافت للنظر أنَّ متى و لوقا قد اتَّبعا ما كتبه مرقس حول طلب الأبرص و رد يسوع في العددين 40 – 41 تقريبا كلمة بالكلمة . فأي كلمة يا ترى استخدماها لوصف رد فعل يسوع ؟ المثير للدهشة أنَّ متى ولوقا قاما كلاهما بحذف الكلمة تمامًا . إذا كان النص المرقسيُّ الذي كان بين يديِّ متى و لوقا قد وصف يسوع بأنه شعر بالشفقة ، فلماذا يحذف الرجلان كلاهما هذه الكلمة ؟متَّى و لوقا يصفان يسوع في مكان آخر بأنه شفوق ، وكلما وجدت في إنجيل مرقس قصة يُذْكَرُ فيها بوضوح الشفقة التي كان يتصف بها يسوع ، فهذا الرجل أو الآخر يحتفظ بالوصف كما هو في روايته . لكن ماذا عن الاحتمال الآخر ؟ ماذا لو أنَّ متى و لوقا قد قرءا في إنجيل مرقس أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ فهل كانا ميَّالَيْن إلى التخلص من هذا الشعور ؟ هناك مناسبات أخرى ،في الواقع ،وردت في إنجيل مرقس يصبح فيها يسوع غاضبًا . في كل مناسبة من هذه المناسبات ، قام متى و لوقا بتعديل الروايات . ففي مرقس 3 : 5 ينظر يسوع حوله " بغضب" إلى الموجودين في المجمع الذين كانوا يراقبونه ليروا ما إذا كان سيعالج الرجل ذا اليد اليابسة . هذا العدد في إنجيل لوقا متشابه تقريبا مع العدد الموازي في مرقس ، لكنَّ لوقا يحذف الإشارة إلى غضب يسوع .أما متَّى ، فقد أعاد كتابة هذا القسم من القصة ولم يذكر أيَّ شئ عن يسوع الغاضب . وعلى نحو مماثل ،في مرقس 10 – 14 يشتدُّ يسوع على تلاميذه (استخدمت هنا كلمة يونانية مختلفة) لمنعهم الناس من إدخال أطفالهم إليه لكي يباركهم . متى و لوقا كلاهما يرويان القصة ،بالحرف الواحد في الغالب، لكنهما يحذفان الإشارة إلى غضب يسوع (متى 19 – 14 ؛ لوقا 18 : 16 ). في المحصلة ، لا يشعر متَّى ولوقا بأي وخزٍ في الضمير حينما يصفان يسوع بكونه شفوقًا ، لكنهما أبدًا لم يصفاه باعتباره غاضبًا . فكلما وصف واحدٌ من مصادرهم (أي مرقس) يسوع بذلك ، كلما أعاد كلا الرجلين كلٌ على حدى حذف التعبير من روايتهما . لذلك ، في حين أنه من الصعب إيجاد مبرر يجعلهما يحذفان "الشعور بالشفقة" من روايتهما لحادثة علاج يسوع للمجذوم ، فإنه من السهولة بمكان تفهُّم أسباب رغبتهم في حذف " الشعور بالغضب ." فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ التعبير الأخير (أي الشعور بالغضب) هو الذي ورد في سلسلة قديمة جدا من المخطوطات وأنه من غير المحتمل أنَّ يكون النساخ قد اختلقوا هذا التعبير كبديل عن التعبير الآخر الذي يمكن فهمه بسهولة أكبر (أي الشعور بالشفقة) ، يصبح من الواضح بشكل أكبر أنَّ مرقس ،في واقع الأمر ،وصف يسوع بأنه قد غضب عندما اقترب منه المجذوم طلبًا للشفاء . قبل أنَّ نغادر هذه المسألة هناك أمر آخر يجب التأكيد عليه . أشرت إلى أنَّه في حين أنَّ متَّى ولوقا كانا يشعران بصعوبة في وصف يسوع بالغضب ،لم يكن لدى مرقس أي مشكلة في ذلك . حتى في القصة موضع الدراسة ، وبعيدًا عن المشكلة النصيَّة المتعلقة بالعدد 41 ، لم يعالج يسوع هذا المجذوم الفقير بطريقة إنسانية . فبعد أنَّ شفاه ، "وبَّخه بشدة " "وطرده ". وهاتان القراءتان هما الترجمة الحرفية للكلمات اليونانية والتي عادةً ما تخضع لعملية " تلطيف" في الترجمات . إنها تعبيرات قاسية ، استخدمت على الدوام في كل موضعٍ آخر في مرقس في سياقات صراع و عدوان عنيفين ( على سبيل المثال عندما يطرد يسوع الشياطين). من الصعب أنَّ نتصور السبب الذي يجعل يسوع يقوم بتوبيخ هذا الشخص و بطرده لو كان يشعر تجاهه بالشفقة ؛ لكنَّه لو كان غاضبًا ، فلربما كان الأمر أكثر منطقيًّة . فعلامَ إذن غضب يسوع ؟ هنا تتضح أهمية العلاقة بين النص والتفسير. بعض العلماء ممن فضَّلوا النص الذي يشير إلى أنَّ يسوع "أحس بالغضب" في هذه الفقرة توصلوا إلى تفسيرات بعيدة الاحتمال إلى حدٍ بعيد . يبدو أنَّ هدفهم من وراء ذلك هو أنَّ يبرروا هذا الشعور من خلال إظهار يسوع في مظهر الشفوق حتى مع إدراكهم أنَّ النص يقول إنه شعر بالغضب . أحد المفسرين ، على سبيل المثال ،يجادل بقوله إنَّ يسوع كان غاضبًا على العالم الملئ بالمرض ؛ بكلمات أخرى ، هو يحب المريض لكنه يكره المرض .ليس هناك أساس نصِّيٌّ لهذا التفسير ، لكنه يملك مزيَّة جعله يسوعَ يبدو في صورة جيدة .مفسرٌ آخرُ يجادل بقوله إنَّ يسوع غاضبٌ لأن هذا المجذوم كان منبوذًا من المجتمع ، متجاهلا حقيقة أنَّ النص لا يقول أيَّ شئ عن كون الرجل منبوذًا و أنه حتى إذا افترضنا أنَّ النص يقول ذلك ،فإن ذلك ليس ذنب المجتمع الذي يعيش فيه يسوع وإنما سبب ذلك هو شريعة الله (خاصة سفر اللاويين ). آخر يجادل في أنَّ سبب غضب يسوع هو،في حقيقة الأمر،أن شريعة موسى تجبر هذا النوع من الناس على الانعزال . هذا التفسير يتجاهل حقيقة أنه في خاتمة الفقرة (عدد 44 ) يؤكِّد يسوع على شريعة موسى و يحثُّ المجذوم بعد شفائه على أنَّ يلتزم بها . كل هذه التفسيرات لديها رغبة عامة في التلطيف من غضب يسوع و لديها العزم على القفز فوق النص من أجل الوصول إلى هذه الغاية . فإذا فعلنا عكسهم ، فماذا ستكون النتيجة ؟ يبدو لي أنَّ ثمَّة خيارين اثنين ، أولهما يركِّزُ على السياق الحرفيّ المباشر للفقرة والآخر يركز على السياق الأوسع للفقرة. أولا ، فيما يتعلق بالسياق المباشر ،كيف تؤثِّر الصورة التي رسمتها افتتاحية إنجيل مرقس على الخيار الأوَّل ؟ لو نحَّيْنا أفكارَنا المسبقة عن طبيعة يسوع جانبًا و لو قرأنا هذا النص الهام على نحو بسيط، سيتوجب علينا أنَّ نعترف بأن يسوع لا يبدو وديعًا لطيفًا دمث الأخلاق ولا يبدو كراعٍ صالحٍ مثلما تصوِّرُه لوحات الكنائس . يبدأ مرقس إنجيله برسم صورة ليسوع من الناحية الجسميّة ومن ناحية المواهب كشخصٍ ذي سلطان من ذلك النوع الذي لا ينبغي أنَّ تعبث معه . ويصفه بأنه نبيٌّ يعيش في البرية قدَّمَه للخدمة نبيٌّ آخر يعيش في البرية أيضًا ؛ وأنه قد انعزل عن المجتمع ليحارب الشيطان و ليحارب الوحوش في البرَِّيَّة ؛ وهو يعود ليدعوَ إلى التوبة السريعة لمواجهة القدوم الوشيك لدينونة الله ؛ وهو يدعو أتباعه للانفصال عن عائلاتهم ، و يربك جمهوره بسلطانه ؛ ويوبِّخ ويُخْضِع قوى الشيطان التي بإمكانها هزيمة البشر الفانين ؛ وهو يرفض التجاوب مع حاجات الجماهير ويتجاهل هؤلاء الذين يتوسلون للقائه . القصة الوحيدة في هذا الفصل الافتتاحيّ من إنجيل مرقس التي تشير إلى عطفه الشخصي هي قصة شفاء حماة سمعان بطرس التي كانت مريضة ملازمة للفراش . لكنَّ هذا التفسير الشفوق حتَّى يمكن أنَّ يخضع للتساؤلات. بعض الماكرين ممن يتَّسِمون بقوة الملاحظة لاحظوا أنه بعد أنَّ شفاها يسوع من الحمى التي أصابتها قامت لتخدمهم ،ومن المحتمل أنها أحضرت لهم وجبة العشاء. هل من المحتمل أنَّ يسوع قد جرى تصْويرُه في المشاهد الافتتاحيَّة لإنجيل مرقس باعتباره شخصية قوية تتمتع بالإرادة القوية و لديها أجندتها الخاصة و أنه شخص ذو سلطان له كاريزما ولا يروقه أن يقاطعه أحد؟ من المؤكد أنَّ رد فعله من ثمَّ كان منطقيًّا على ما قام به المجذوم حيث قام بتوبيخه و بطرده. هناك تفسير آخر ، رغم ذلك .كما أشرت من قبل ،يشعر يسوع بالغضب فعلا في مكان آخر داخل إنجيل مرقس . يحدث هذا للمرة الثانية في الإصحاح 3 ،الذي يتناول ، وياللمفاجأة ،قصة شفاء أخرى. هنا قال مرقس بوضوح إنَّ يسوع غضب على الفِرِّيسي الذي ظن أنه ليس من حقه أنَّ يشفي الرجل ذا اليد اليابسة في السبت . هناك حكاية مشابهة إلى حدٍّ بعيدٍ تصادفنا في إحدى القصص التي لم يذكر فيها أنَّ يسوع كان غاضبًا بصراحة و لكنَّ ذلك كان واضحًا رغم ذلك . ففي مرقس 9 ، عندما ينزل يسوع من جبل التجلِّي مع بطرس ويعقوب و يوحنا ، يجد تجمهرًا حول تلامذته ورجلا يائسا في المنتصف . ابن هذا الرجل تملكته روح شيطانية، وهو يشرح الموقف ليسوع ثم يناشده :" إن كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا". فردَّ يسوع عليه غاضبًا ،"لو كنتُ قادرًا ؟ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ" فيصبح الرجل أكثر يئسًا ويناشده،" أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي." فعندها طرد يسوع الروح الشريرة. الأمر المثير للدهشة في هذه القصص هو أنَّ غضب يسوع ينفجر حينما يشكك أحد الأشخاص في نيَّته ، أو في قدرته أو في سلطانه الإلهي على الشفاء .ربما هذا هو سبب غضبه في قصة المجذوم أيضًا .ففي القصة الواردة في مرقس 9 ،يقترب أحدهم من يسوع بحذر ليسأله :" لو لديك الرغبة ، تقدر على شفائه." فيشعر يسوع بالغضب. يسوع بطبيعة الحال لديه الرغبة في فعل ذلك ، باعتباره قادرًا ومخولا بهذا . يشفي يسوع الرجل و ،لكونه ما يزال في نفسه استياء من تشكك الرجل،يقوم بتوبيخه ثم طرده بحدة . هنا نجد شعورًا مختلفًا تماما تجاه القصة مرتبطًا بطريقة تفسيرها،وهو تفسير مبنيٌّ على طبيعة النص كما يبدو أنَّ مرقس قد كتبه. فمرقس ، في بعض المواضع ، يرسم يسوع باعتباره شخصًا غاضبًا . يتبع.. |
لوقا ويسوع الهادئ على النقيض من مرقس ، لم يقل إنجيل لوقا على وجه التصريح أبدًا أنَّ يسوع شعر بالغضب. بل لا يبدو يسوع في هذا الإنجيل منزعجًا على الإطلاق،أو بأية حال. فبدلا من يسوع الغاضب ، يرسم لوقا صورة ليسوع الهادئ . هناك فقرة يتيمة في هذا الإنجيل يبدو فيها أنَّ يسوع قد فقد رباطة جأشه . وهي فقرة أصالتها موضع جدال ساخن بين نقاد النصوص . نجد هذه الفقرة في سياق صلاة يسوع على جبل الزيتون قبل وقت قصير من تعرضه للخيانة و للوقوع في الأسر (لوقا 22 : 39 -46 ). فبعد أن يوجِّه تلامذته بقوله :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ"، يتركهم يسوع ،و يجثو على ركبتيه،ويصلي" أَبَتَاهُ إن شِئْتَ أن تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" . في عددٍ كبيرٍ من المخطوطات تلي هذه الصلاة هذه القصة التي لا نجدها في أيِّ موضعٍ آخر فيما لدينا من أناجيل ، والتي تتعلق بقلقه الشديد و ما يعرف بقطرات عرقه الدموية :" وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. " (العددان 43 ، 44 ). ينتهي المشهد بقيام يسوع من الصلاة وعودته إلى تلامذته ليجدهم نيامًا. فيكرر توجيهه لهم :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ" و على الفور يظهر يهوذا مع الجموع ويلقون القبض على يسوع . إحدى الخصائص المثيرة لهذا النزاع حول هذه الفقرة هو تساوي كفة هذه الحجج وتلك حول ما إذا كان العددان المتنازع عليهما (43 ، 44 ) قد كتبهما لوقا أم أدخلهما فيما بعد أحد النساخ . المخطوطات الأقدم والتي يسلم العلماء بكونها الأفضل ( النص "السكندري") لا تحتوي هذين العددين في الغالب.لذلك من المحتمل أنهما إضافة متأخرة بيد ناسخ . من ناحية أخرى ، هاتان الفقرتان موجودتان في عدد قليل من الشواهد الأخرى المبكرة وهما غالبًا منتشرتان في كل مكان من التقليد المخطوط . لذا فهل هما قد أضيفتا بيد ناسخ أرادهما أنَّ يكونا جزءا من الكتاب المقدس أم حذفتا بيد آخر أراد العكس ؟ من الصعوبة بمكان أنَّ نجيب على هذاالسؤال اعتمادًا على المخطوطات .بعض العلماء اقترحوا أنَّ نستعين بالخصائص الأخرى التي يتصف بها العددان لكي نقرر هذا الأمر. أحد العلماء ، على سبيل المثال ، ادَّعى أنَّ الكلمات و الأسلوب في العددين يشبهان إلى حدٍ كبير ما نجده في لوقا في موضع آخر ( هذه الحجة مبنية على "الاحتمالات الداخلية "): على سبيل المثال ، ظهورات الملائكة هي سمة شائعة في لوقا ، وكلمات عديدة و جمل موجودة في الفقرة نجدها في مواضع أخرى في لوقا ولكن ليس في أي موضع آخر في العهد الجديد ( مثل الفعل " يقوِّيه"). لم تقنع هذه الحجة أحدًا ،مع ذلك، لأن معظم هذه الأفكار والتراكيب و الجمل " اللوقاوية بطريقة مميزة " هي إما مصاغة بطرق لا تنتمي إلى الأسلوب اللوقاوي (على سبيل المثال ، الملائكة لا تظهر في أيِّ مكان آخر من لوقا من غير أن تتكلم ) أو شائعة في النصوص اليهودية والمسيحية بخلاف العهد الجديد . زد على ذلك أنَّ هناك اجتماع غير طبيعي بالمرة لكلمات وجمل غير عادية في هذين العددين : على سبيل المثال (كرب ،عَرَق، قطرات) ليس لها وجود في موضع آخر في لوقا ولا في سفر الأعمال (الذي هو الجزء الثاني للإنجيل الذي كتبه المؤلف عينُه ). نظرا لذلك كله، من الصعب بمكان أنَّ نقرر أي شئ بخصوص هذين العددين على أساس الكلمات والأسلوب. حجة أخرى استعملها العلماء لها علاقة بالبنية الأدبيّة(literary structure) لهذه الفقرة . بإيجاز ، هذه الفقرة يبدو أنها مبنيَّة بتأنٍّ من خلال ما يعرفه عليه العلماء باعتباره قلب لترتيب الكلمات في جملتين متشابهتين (chiasmus) . حينما تبنى فقرة على هذا النحو ، الكلمة الأولى في هذه الفقرة تتطابق مع الكلمة الأخيرة منها؛ والكلمة الثانية تتطابق مع الكلمة قبل الأخيرة ؛و الكلمة الثالثة تتطابق مع الكلمة التي تسبق الكلمة قبل الأخيرة ، وهكذا . أو دعونا نعبر عن هذا بطريقة أخرى فنقول : صياغة هذه الفقرة هي صياغة مقصودة ؛ غرضها هو تركيز الانتباه على مركز الفقرة باعتباره مفتاح الجملة . و الأمر نفسه نجده هنا : فيسوع (أ) يطلب من تلاميذه أنَّ "يصلوا كي لا يدخلوا في تجربة" (العدد 40 ) ثم بعد ذلك يسوع (ب) يغادرهم (العدد 41 أ) و (ج)يجثو على ركبتيه للصلاة (العدد 41 ب). مركز هذه الفقرة هو (د) صلاة يسوع ذاتها ،الصلاة التي ضمَّنها طلبه بأن يتحقق ما يريده الله (العدد 42 ). بعد ذلك يسوع (ج) يقوم من صلاته (عدد 45 أ )، (ب)يعود إلى تلاميذه (عدد 45 ب)، و (أ) يجدهم نيامًا،ومرة أخرى يواجههم بالكلمات ذاتها ، فيقول لهم أنَّ " صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة "(العددان 45 ج ، 46 ).وجود هذا البناء الأدبي الواضح بحد ذاته ليس هو القضية في الواقع . بل القضية هي كيف أنَّ هذا العكس لترتيب الكلمات مهم لفهم معنى الفقرة . تبدأ القصة و تنتهي بوصيته لتلاميذه أن يصلوا إذا أرادوا أن يتجنبوا الدخول في تجربة. ظلت الصلاة لوقت طويل في نظر الكثيرين هي الموضع المحوريّ لإنجيل لوقا ( أكثر حتى من أي إنجيل آخر )؛ و هنا تتجلى أهميتها الخاصة . لأن صلاة يسوع هي في قلب الفقرة ذاتها ، الصلاة التي تعبر عن رغباته ، والتي تتضمن رغبته الأعظم بأن تتمَّ مشيئة الله (العددان 41 ج، 42 ). وباعتبارها مركزًا لهذا التركيب المنعكس (chiastic structure)، تقدم هذه الصلاة قضية الفقرة المحوريَّة و،على نحوٍ متوازٍ، مفتاح تفسيرها . هذا درس عن أهمية الصلاة في مواجهة الشهوات . التلاميذ ، على الرغم من طلب يسوع المتكرِّر لهم بأن يصلُّوا ،كانوا ينامون بدلا من ذلك . وعلى الفور تأتي الجموع للقبض على يسوع . وماذا يحدث ؟ التلاميذ ، الذين فشلوا في القيام بالصلاة ، دخلوا " في التجربة "؛وهربوا من مسرح الأحداث ،تاركين يسوع ليواجه مصيره وحيدًا . وماذا عن يسوع ، الإنسان الوحيد الذي صلَّى قبل أن يخضع للمحاكمة ؟ حينما تصل الجموع ، نجد أنه يخضع بهدوء لمشيئة الآب ويسلم نفسه للشهادة التي أعِدَّتْ له . رواية لوقا عن الآلام ، كما هو معروف ، هي قصة استشهاد يسوع ، الاستشهاد التي كان الهدف منه ،كما هو الحال مع مقتل الكثيرين من الشهداء،أن تقدم نموذجًا للمؤمن و الكيفية التي يحافظ بها على رباطة جأشه في مجابهة الموت . فلسفة الاستشهاد في إنجيل لوقا تظهر أنَّ الصلاة وحدها هي التي يمكن أن تجعل المرء على استعدادٍ للموت . ماذا يحدث ، مع ذلك ، حينما يتمُّ إقحام العددين المتنازع عليهما (العددان 43 ، 44 ) في الفقرة ؟ على المستوى الأدبي ، الترتيب الانعكاسي للكلمات(chiasmus) الذي يركِّز الفقرة على صلاة يسوع يتمُّ تدميرُه نهائيًا . الآن مركز الفقرة ، و من ثمَّ بؤرة اهتمامها ، يتحول إلى شدة الكرب الذي واجهه يسوع ، شدة الكرب الفظيعة التي كانت تتطلب ظهور مُعِينٍ خارقٍ للطبيعة ليقوِّيَ يسوعَ على تحملها. من الأمور الجديرة بالملاحظة في هذه النسخة المطوَّلة من القصة أنَّ الصلاة لم ينتج عنها الثقة بالنفس والهدوء الذين تحلَّى بهما يسوع في بقية الحكاية ؛ نعم ، حدث فقط بعد أن يصلِّي "بأشد لجاجة " أنَّ عرقه أخذ في الظهور على هيئة قطرات عظيمة من الدماء المتساقطة على الأرض . ما أريد توضيحه ليس فحسب أنَّ تركيبًا أدبيًّا قد انهار ، و إنما أنَّ بؤرة الاهتمام كلها تتحول إلى يسوع الواقع في حالة كرب مفجعة و سحيقة و الذي هو في أشد الحاجة إلى تدخل خارق للطبيعة . هذا في حدِّ ذاته لا يبدو كمشكلة مستعصية على الحل ، إلى أنَّ يدرك المرء أنه ليس هناك موضع في إنجيل لوقا صُوِّرَ يسوع فيه على هذا النحو . على العكس من ذلك تمامًا ، قطع لوقا شوطً طويلا لكي يقدم رؤيةً مناقضةً تماما للرؤية التي يتبنَّاها هذان العددان . فبدلا من دخوله في آلامه مجللا بالخوف و الارتجاف، مكروبًا من مصيره المحتوم القريب ، نجد أنَّ يسوع حسب تصوير لوقا له يمضي إلى حتفه هادئا ورابط الجأش واثقًا في مشيئة أباه حتى النهاية . من الحقائق الصادمة التي لها ارتباط وثيق بمشكلتنا النصية موضع الدراسة أنَّ لوقا كان بمقدوره أن يرسم هذه الصورة ليسوع فقط عبر التخلص من التقاليد التي كانت تتناقض معها في مصادره ( الإنجيل وفقًا لمرقس على سبيل المثال ). فقط الشكل المطوَّل من النص الوارد في لوقا 22 : 43 – 44 يبدو مخالفا لهذه القاعدة. مقارنة بسيطة بين نسخة مرقس من القصة محل الدراسة من شأنها جلاء هذه الأمر ( مع الوضع في الاعتبار أنَّ مرقس كان من مصادر لوقا – والذي قام بتعديله لكي يخرج بتأكيداته الفريدة ). لأن لوقا حذف قول مرقس أنَّ يسوع " ابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ "(مرقس 14 : 33 )، وكذلك تعليق يسوع أمام تلاميذه ،" نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! ". وبدلا من نزوله إلى الأرض في كربٍ(مرقس 14 : 35 )،يسوع حسب لوقا يجثو على ركبتيه (لوقا 22 : 41 ). في لوقا ، لم يطلب يسوع أن تعبر عنه هذه الساعة (قارن مع مرقس 14 : 35 )؛وبدلا من صلاته لمراتٍ ثلاث أن تُنْزَع عنه هذه الكأس (مرقس 14 : 36 ، 39 ، 41 )، نجده يطلب ذلك مرة واحدة (لوقا 22 : 42 )،مستهلا صلاته ،في إنجيل لوقا وحده،بشرطٍ شديد الأهميَّة :"إن شئت ". وهكذا ، في الوقت الذي يصوِّرُ فيه مصدر لوقا ،أي إنجيل مرقس، يسوع باعتباره مكروبًا عندما يصلِّي في الحديقة ،يعيد لوقا صياغة هذا المشهد كاملا لهدف إظهار أنَّ يسوع كان هادئا في مواجهة الموت . الاستثناء الوحيد هو قصة "عرق يسوع الدموي"، وهي الحكاية التي تخلو منها أقدم وأفضل الشواهد التي لدينا . لماذا يتعب لوقا نفسه في التخلص من الصورة التي رسمها مرقس عن يسوع المكروب لو أنَّ كُرْبَة يسوع كانت هي الغرض الأساسي من القصة ؟ من الواضح أنَّ لوقا لم يكن يشاطر مرقس مفهومه عن يسوع المكروب اليائس . ليس ثمَّة مكانٌ آخرُ يبدو فيه هذا الأمر واضحًا أشد ما يكون الوضوح من رواياتهما المتتالية عن صلب يسوع . يصوِّرُ مرقسُ يسوعَ وهو في طريقه إلى جلجثة كإنسان صامت . تلاميذه تركوه وهربوا ؛ حتَّى النسوة المؤمنات كنَّ يراقبنه فحسب "من بعيد" . الحاضرون كلهم كانوا يسخرون منه – المارَّة وزعماء اليهود و السارقان . يسوع المرقسيّ ضُرِبَ وتعرض للسخرية وخُذِلَ وهُجِرَ ،لا من قبل أتباعه فحسب،بل وحتى من قبل الله نفسه . كلماته الوحيدة التي تفوَّه بها في هذا الموقف من أوله لآخره تأتي عند نهاية المشهد ، حينما يصرخُ بصوتٍ عالٍ " إلوي ، إلوي ، لما شبقتني "(إلهي ،إلهي ، لما تركتني ؟). ثم يطلق بعد ذلك صرخةً مدويةً و يموت . هذه الصورة ،مرة أخرى ، تتناقض تماما مع ما نجده في إنجيل لوقا . ففي رواية لوقا ، نجد يسوع بعيدًا تماما عن أنَّ يكون صامتًا . وعندما يتكلم ، يظهر أنه ما يزال رابط الجأش واثقًا في الله أبيه ،راضٍ عن قدره ،مهتمًّا أكثر بمصير الآخرين . ففي طريقه إلى الصلب ، وفقا لما جاء في إنجيل لوقا ،عندما يرى يسوع مجموعة من النسوة يندبن سوء حظه ، يخبرهنَّ أنَّ لا يبكين عليه بل بالأحرى على أنفسهنَّ و على أطفالهن بسبب الكارثة التي ستحل بهم قريبًا (23 : 27 – 31 ).وبينما يجري تثبيتُه على الصليب بالمسامير ، نجده يصلِّي إلى الله :" يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " بدلا من أن يحافظ على صمته. على الصليب ، في وسط آلامه ، يدخل يسوع في حوارٍ شيِّقٍ مع أحد السارِقَيْن المصلوبَيْن إلى جواره ، مؤكِّدًا له أنهما سيجتمعان معًا في هذا اليوم في الجنة (23 : 43 ). أكثر الأمور تعبيرًا عما نقول هو أنه بدلا من أن يطلق يسوع في النهاية صرخته الحزينة بسبب هجر الله له،حسبما يصوره لوقا، يستودع روحه عند أبيه الرحيم وكُلُّه ثقة في منزلته عند الله ،:" يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي "(23 : 46 ). سيكون من العسير أن نغالي في تقدير أهمية هذه التغييرات التي أحدثها لوقا في مصدره (إنجيل مرقس) لكي نفهم مشكلة النص محل دراستنا . ليس هناك موضع في رواية لوقا للآلام يفقد يسوع فيه السيطرة على نفسه ؛ ولم يحدث على الإطلاق أنَّ كان يسوع في حالة عميقة و موهنة من الكرب بسبب ما سيؤول إليه مصيره . فهو هنا مسيطر تماما على قدره ، يعرف ما يجب عليه فعله وما سيحدث له بمجرد أن يحدث . إنه ذلك الرجل الذي يعيش في سلام مع نفسه و يواجه الموت بهدوء . ماذا ، إذن ، سنقول عن عددينا المتنازع عليهما ؟ هذان هما العددان في الإنجيل حسب لوقا كله الذان يقوِّضان هذه الصورة الواضحة . هنا فحسب يشعُرُ يسوع بالأسى على مصيره المحتوم ؛ هنا فحسب يفقد هدوءه ،هنا نجده غير قادر على تحمل أعباء مصيره . لماذا حذف لوقا كل آثار الأسى الذي شعر به يسوع في كل موضعٍ آخر لو كان قد قصد أن يؤكِّده هنا بأقوى الكلمات ؟ لماذا يحذف مادة من مصدره متوافقة مع هذا العدد قبل وبعد العددين موضع دراستنا ؟ يبدو أنَّ رواية " العرق الدموي" ليسوع ، التي ليس لها وجود في أقدم و أفضل مخطوطاتنا ،ليست أصيلة في إنجيل لوقا و إنما هي إضافة أحدثها أحد النساخ إلى الإنجيل (11). الرسالة إلى العبرانيين و يسوع المتروك الصورة التي رسمها لوقا ليسوع تتعارض ليس فقط مع ما جاء في إنجيل مرقس ، و إنما أيضًا مع تلك الواردة في أسفار مؤلفي العهد الجديد الآخرين ،بما في ذلك المؤلف المجهول للرسالة إلى العبرانيين ، الذي يبدو أنه افترض مسبقا معرفة تقاليد الآلام التي يواجه يسوع الموت خلالها وهو مكروب و التي مات فيها بلا أيِّ عونٍ من الله أو دعم منه ، وذلك ما يمكننا رؤيته في حلِّ واحدة من أكثر مشكلات العهد الجديد إثارة . هذه المشكلة النصية نجدها في سياق يتحدث عن خضوع كلِّ الأشياء النهائي ليسوع ، ابن الإنسان. لمرة أخرى ، سأضعُ القراءات المتباينة محل الدراسة بين الأقواس . " لأنه عندما يخضع (الله) كلَّ شئٍ له ، لم يترك شيئا غير خاضع له ، لكننا للآن لم نرَ كلَّ الأشياء خاضعة له . لكننا رأينا يسوع بالفعل ، الذي ،كونه جُعِلَ أقل شأنا من الملائكة لوقت قليل ، كُلِّلَ بالمجد والكرامة بسبب معاناته الموت ، لكي يذوق الموت عن كل واحدٍ (بنعمة الله / بعيدا عن الله )."(عبرانيين 2 : 8-9 ) على الرغم من أنَّ غالبية المخطوطات الباقية تصرح بأنَّ يسوع مات عن جميع البشر (بنعمة الله ) CHARITI THEOU)) ، توجد مخطوطتان أخريان تقولان ، بدلا من ذلك ،إنه مات " بمعزلٍ عن الله " (CHORIS THEOU). هناك أسباب جيدة تجعلنا نعتقد أنَّ القراءة الأخيرة ، مع كل ذلك ، كانت هي القراءة الأصلية في الرسالة إلى العبرانيين . لست بحاجة إلى الدخول في التعقيدات الخاصة بدعم المخطوطات للقراءة التي تقول " بعيدًا عن الله " إلا لكي أقول إنه حتى لو وجدت هذه القراءة في وثيقتين فقط يرجع تاريخ كتابتهما إلى القرن العاشر ، فإن أحدها (وهي المخطوطة رقم 1739 ) من المعروف أنها قد نقلت عن نسخة على الأقل لا تقل قِدَمًا عن أقدم مخطوطاتنا. الأمر الأكثر إثارة هو أنَّ أوريجانوس أحد علماء بواكير القرن الثالث يخبرنا أنَّ هذه القراءة (بمعزلٍ عن الله ) كانت هي القراءة الواردة في أغلب المخطوطات في عصره . هناك دليل آخر كذلك يشير إلى ذيوع هذه القراءة في العصور القديمة: فقد وُجِدَتْ في مخطوطات كانت معروفة للقديسَيْن "أمبروز" و"جيروم" في الغرب اللاتيني واقتبسها عددٌ من كتاب الكنيسة حتى القرن الحادي عشر. وهكذا ،على الرغم من أنها لم تكن ثابتة فيما لدينا من مخطوطات على نطاق واسع،إلا أنها في الوقت ذاته كانت مدعومة بأدلة خارجية قوية . وحينما يتحول المرء من الاعتماد على دليل خارجي إلى الاعتماد على دليل داخلي،فلا ريب في أفضليَّة هذه القراءة المتباينة الثابتة في المخطوطات ولو على نحوٍ ضعيف . رأينا بالفعل من قبل أنَّ النساخ كان من المرجَّح إلى حدٍّ كبيرٍ أنَّ يغيِّروا القراءة التي يكون من الصعب فهمها إلى أخرى أكثر سهولة ، و العكس غير صحيح . قراءتنا هذه تقدِّم لنا حالة نموذجية لهذه الظاهرة . كان المسيحيون في العادة في القرون الأولى ينظرون إلى موت يسوع باعتباره إظهارًا أسمى لنعمة الله . القول إنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " يمكن اعتبار أنه يعني عددًا من الأشياء غالبها غير مستساغ . وحيث إنَّ النساخ لابد وأنهم قد اختلقوا إحدى هاتين القراءاتين بالاعتماد على القراءة الأخرى ،فهناك تساؤلٌ صغيرٌ عن أيِّ هاتين القراءتين من المرجح أكثر أنه التحريف . لكن...هل كان هذا التحريف عن عمدٍ ؟ المدافعون عن النص الأكثر ورودا في المخطوطات " بنعمة الله " كان من المتحتم عليهم بالطبع أنَّ يزعموا أنَّ التغيير لم يطرأ بشكل متعمَّد (وإلا فسيكون نصهم المفضل هو الذي يمثِّل التحريف). تحت وطأة الاضطرار ،إذن ، قاموا بابتكار سيناريوهات بديلة لتفسير الأصل (غير المقصود) للقراءة الأكثر صعوبة . في الغالب ،سيفترضون ببساطة أنَّ التشابه بين الكلمتين محل الدراسة (XARITI/ XWRIS) في الشكل هو الذي جعل النساخ يخطئون عن غير قصد فيضعون حرف الجر(بمعزلٍ عن) بدلا من كلمة(نعمة) . وجهة النظر هذه ،مع ذلك ، تبدو بعيدة الاحتمال قليلا. فأيُّ الحالتين التاليتين هي الأكثر احتمالا: أنَّ يقوم ناسخٌ مهملٌ أو شارد الذهن بتغيير نصه من خلال كتابة كلمة " أقل " تكرارا في العهد الجديد (بمعزلٍ عن الله ) ،أم أن يستخدم أحدهم كلمة كثيرة التكرار في العهد الجديد ("نعمة" شائعة أربع أضعاف "بمعزل عن الله")؟ هل من المحتمل أن يكون هذا الناسخ قد اختلق جملة ليس لها أي وجود في أي مكان آخر في العهد الجديد ("بمعزلٍ عن الله) أم أنه اختلق جملة تكررت أكثر من عشرين مرة (" بنعمة الله")؟ ما هو الأكثر احتمالا :أن يختلق قولا غريبا و مثيرا للصعوبات ، ولو بغير قصد،أم أن يختلق الآخر الذي يعتبر قولا مألوفا وسهل الفهم ؟ بالتأكيد ، الخيار الأخير هو الأكثر احتمالا . فالقُرَّاء يخطئون في الكلمات الغريبة لصالح الكلمات الشائعة و يبسطون ما هو أكثر تعقيدًا خاصة عندما تشرد أذهانهم جزئيًّا. لذلك ،حتى نظرية الإهمال تدعم كون القراءة الأقل ورودًا في المخطوطات (بمعزلٍ عن الله) هي القراءة الأصلية. النظرية الأكثر شيوعًا في أوساط من يعتقدون أنَّ جملة " بمعزلٍ عن الله" ليست الجملة الأصلية هي أنَّ هذه القراءة اختلقت كملاحظة هامشية : فقد قرأ أحد النساخ في العدد 2 : 8 من سفر العبرانيين أنَّ " كل الأشياء" أُخْضِعَتْ لسلطان المسيح ، وعلى الفور ذهب فكره إلى العدد 15 : 27 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس: " لأن كل الأشياء أُخْضِعَتْ تحت قدمه (أي المسيح)." لكن حينما يقال أنَّ " كل الأشياء ستخضع،" من الواضح أنها تعني كل الأشياء باستثناء من أخضعها له (أي أنَّ الله نفسه ليس من بين الأشياء التي أُخْضِعَت للمسيح في النهاية). وفقا لهذه النظرية ،الناسخ الذي كان يقوم بنسخ الإصحاح 2 من العبرانيين أراد أنَّ يوضح هنا أيضًا أنَّ النص يشير إلى أنَّ كل شئ هو خاضع للمسيح ، وأنَّ هذا الأمر لا ينطبق على الله الآب. ولحماية النص من أنَّ يسئ أحدٌ فهمه ،أدخل الناسخ ملاحظة تفسيريَّة في هامش العدد 2 : 8 من العبرانيين (كنوع من الإحالة إلى اكورونثوس 15 : 27) ليشير إلى أنه لا شئ نجا من الخضوع للمسيح،" باستثناء الله". هذه الملاحظة انتقلت في وقت تالٍ بمعرفة ناسخ مهمل في العصور التالية إلى نصِّ العدد التالي ، العبرانيين 2 : 9 ، حيث ظنَّ أنَّها تنتمي إليه . على الرغم من ذيوع هذا الحل ، إلا أنه ربما أذكى من أن يعتمد ويتطلب حدوث كثير من الخطوات المشكوك فيها لكي يتم التصديق عليه. ليس هناك أي مخطوطة تضم بين ثناياها القراءتين معًا (أي التصحيح الذي وقع للهامش أو لنص العدد 8 ،حيث ينتمي الهامش ،ومعهما النص الأصلي للعدد 9 ). أضف إلى ذلك أنه لو ظنَّ ناسخٌ أنَّ الملاحظة كانت تصحيحا ورد في الهامش ،فلماذا وجده في الهامش بعد العدد 8 وليس العدد 9 ؟ أخيرًا ، لو أنَّ الناسخ الذي اختلق الهامش كان قد فعل ذلك ليشير إلى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ، ألم يكن سيكتب " باستثناء الله "( EKTOS THEOU)- وهي الجملة الموجودة بالفعل في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس) بدلا من أنَّ يكتب " بمعزلٍ عن الله "( CHORIS THEOU)- التي ليس لها وجود في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثيوس؟ بالجملة ، من الصعب جدا تفسير جملة (بمعزل عن الله ) لو أنَّ جملة ( بنعمة الله) كانت هي القراءة الأصلية في العبرانيين 2 : 9 . في الوقت نفسه ، بينما يصعب توقع أنَّ ناسخًا قد قال إنَّ المسيح مات "بمعزلٍ عن الله " ،نجد أنَّ ثمة أسبابًا منطقيةً للغاية تدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذه القراءة تحديدًا هي ما خطته يدُ مؤلِّف الرسالة إلى العبرانيين . لأن هذه القراءة الأكثر ورودًا في المخطوطات هي أكثر توافقا مع العقيدة اللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين(" وهذا المنهج هو ما يعرف بالاحتمالات الداخلية"). فهذه الكلمة "نعمة" (CHARIS) لم ترد مطلقا في الرسالة كلها في معرض الإشارة إلى موت يسوع أو إلى فوائد الخلاص التي جاءت كنتيجة لموته. بدلا من ذلك ، دائما ما نجدها تتعلق بهبة الخلاص المكفولة للمؤمن برحمة الله (انظر على وجه الخصوص الأعداد 4 : 16 ؛ و 10 : 29 ؛ و12 : 15 ؛13 : 25 من سفر الرسالة إلى العبرانيين). وللتأكيد على ذلك ، من المعروف تاريخيًّا أنَّ المسيحيين كانوا أكثر تأثُّرًا بالمؤلفين الآخرين للعهد الجديد ،بولس على وجه الخصوص،الذي كان يرى في تضحية يسوع على الصليب باعتبارها التجسيد الأسمى لنعمة الله . لكنَّ العبرانيين لا تستخدم هذا المصطلح (نعمة الله) على هذا النحو على الرغم من أنَّ النساخ الذي كانوا يعتقدون أنَّ مؤلف هذا السفر هو بولس ربما لم يدركوا هذا. من ناحية أخرى ،القول إنَّ يسوع قد مات " بمعزل عن الله"- وهو القول الغامض إذا فهمناه بمعزل عن السياق- يعطي معنى مقنعًا في سياقه الأدبي الواسع في ثنايا الرسالة إلى العبرانيين. وفي حين أنَّ هذا المؤلف لم يشِر على الإطلاق إلى موت يسوع باعتباره تجسيدا لل"نعمة" الإلهية ، فهو يؤكد على نحو متكرر أنَّ يسوع مات ميتة بشريَّة ومخزية تمامًا ، وأنَّه أُبْعِدَ تماما عن المملكة التي جاء منها ، مملكة الله؛ وأنَّ تضحيته ، نتيجة لذلك، قبلها الله ككفارة صحيحة عن الخطية. فوق ذلك ، لم يتدخل الله في مسألة آلام يسوع ولم يفعل شيئا ليخفف من آلامه . لذلك ، على سبيل المثال ،يتحدث سفر الرسالة إلى العبرانيين عن يسوع وهو يتضرع في مواجهة الموت إلى الله بصرخات مدوية وبدموع . في العدد 12 : 2 يقال عنه إنه احتمل " خزي " موتته،ليس لأن الله قد أعانه على ذلك ،بل لأنه كان يأمل في التبرُّر .وفي أنحاء الرسالة ،يقال إنَّ يسوع اختبر الألم و الموت الإنسانيَّ ، مثل الكائنات البشرية الأخرى " من كل وجه ". لكنَّ آلامه لم تكن كربة خففتها تدابير إلهية خاصة . الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ هذا هو موضوع رئيسي للسياق القريب لعدد 2 : 9 ، الذي يؤكِّد أنَّ المسيح اتخذ لنفسه وضعًا أقل من الملائكة لكي يشاركنا بالدم و اللحم ولكي يختبر الآلام الإنسانيَّة ولكي يموت ميتة إنسانية. وللتأكيد على ذلك،من المعروف أنَّ موت يسوع قد جلب الخلاص،لكنَّ الفقرة لا تقول أيَّ كلمة عن نعمة الله كأمر واضح في عمل المسيح الكفَّاري،بل تركز بدلا من ذلك على طبيعة المسيح وعن نزول المسيح إلى مملكة الموت والآلام العابرة . لقد اختبر يسوع الآلام كإنسانٍ كاملٍ بمعزلٍ عن أي عون من جهة نفسه باعتباره كائنًا علويًّا. العمل الذي بدأه عند نزوله يكَمِّلُه بموته، الموت الذي كان من المتحتم أنَّ يحدث " بمعزلٍ عن الله". كيف يمكن أن تكون القراءة "بمعزلٍ عن الله"، التي يمكن تفسيرها بصعوبة كتحريف أحدثه النساخ متوافقة مع الاختيارات اللغوية والأسلوبية واللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين، بينما القراءة البديلة "بنعمة الله"،التي لا تمثل للنساخ أي صعوبة على الإطلاق ، تبدو متناقضة مع ما تخبرنا به الرسالة إلى العبرانيين عن موت يسوع و مع الطريقة التي استعملتها في إخبارنا عن هذا الموت ؟ العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين يبدو أنه في الأصل كان يقول أنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " ، متروكًا ، على نحو مشابه كثيرا للصورة التي رسمها إنجيل مرقس في روايته عن آلام المسيح . الخاتمــــــة في كل حالة من هذه الحالات الثلاث التي ألقينا عليها الضوء ، هناك تباين نصيّ هام يضطلع بدور هام في الكيفية التي يتم بها تفسير هذه الفقرة المستهدفة بالدراسة . من المهم على نحوٍ واضح أنَّ نعرف ما إذا كان يسوع قد قيل عنه أنه شعر بالشفقة أم بالغضب في مرقس 1 : 41 ؛ وما إذا قد كان هادئا و رابط الجأش أم شاعر بقلق عميق في العدد لوقا 22 : 43 -44 ؛ وما إذا كان قد قيل عنه إنه مات بنعمة الله أو " بمعزلٍ عن الله "في العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين.يمكننا أنَّ ننظر في فقرات أخرى بسهولة كذلك ،لكي ندرك معنى أهميةالتعرف على كلمات مؤلف ما إذا كنا نريد أنَّ نفسر رسالته .بالنسبة للتقليد المخطوط للعهد الجديد ، هناك ما هو أكبر بكثير من مجرد التوصل إلى ما قاله مؤلفها بالفعل. هناك أيضًا قضية (الأسباب) التي من أجلها تعرضت هذه الكلمات للتغيير وكيف تؤثر هذه التغييرات على معاني كتاباتهم .هذه القضية المتعلقة بتعديل الكتاب المقدس في الكنيسة المسيحية الأولى ستكون موضوع الفصلين التاليين حيث سأحاول أن أوضح كيف أنَّ النساخ ،الذين لم يكونوا راضين تماما عن ما قالته أسفار العهد الجديد ،عدَّلوا كلماتها ليجعلوها تدعم المسيحية الأرثوذكسية بصورة أوضح ولكي تعارض الهراطقة والنساء واليهود والوثنيين بصورة أكبر. |
|
"تحريف النصوص لدوافع لاهوتية" يتناول علم النقد النصي ما هو أكثر من مجرد تحديد النص الأصلي . فهو يعمل أيضًا على رصد الكيفية التي تمَّ من خلالها تعديل النص عبر الزمن سواء بسبب هفوات النساخ أو تحريفهم المقصود لها .هذا النوع الأخير،أي التغييرات العمدية، مهمٌّ للغاية، لا لأنَّه فحسب يساعدنا بالضرورة على فهم ما كان المؤلِّفون الأصليون يحاولون قوله ،بل أيضًا لأنَّه قادر على أن يوضح لنا شيئًا عن الكيفية التي كان النساخ ،الذين أعادوا إنتاج النصوص، يفسِّرون بها النصوص التي كتبها المؤلفون. ومن خلال رصد الكيفية التي حرَّفوا من خلالها النصوص التي بين أيديهم ،يمكننا اكتشاف إشارات تدلُّنا على ما كان هؤلاء النساخ يظنونه مُهِمَّا في النص،وهكذا يمكننا أن نتعلم الكثير فيما يتعلق بتاريخ النصوص عندما كانت تُنسخ و يعاد نسخها عبر القرون . الفرضية التي ينبني عليها هذا الفصل هي أن نصوص العهد الجديد في بعض الأحيان كانت تتعرض للتحوير لأسباب لاهوتية . هذا كان يحدث كلَّما كان النسَّاخ القائمون على عملية النسخ معنيين بالتأكُّد من أن النصوص تقول ما يريدونها أن تقوله ؛ وأحيانًا يكون هذا بسبب نزاعات لاهوتية اشتعلت في العصر ذاته الذي عاش فيه النسَّاخ . ولكي نفهم هذا النوع من التغيير،يلزمنا أن نستوعب بعض المفاهيم عن النزاعات اللاهوتية في القرون المبكرة للمسيحية قبل الظهور واسع النطاق للنسّاخ "المحترفين " ـ وهي القرون التي حدثت فيها غالبية تحريفات الكتاب المقدس. السياق اللاهوتي لتحريف النصوص نملك معلومات كثيرة عن المسيحية خلال القرنين الثاني والثالث - وهو العصر الذي يقع ، فلنقُلْ ،بين اكتمال كتابة أسفار العهد الجديد و تحوُّل الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى الإيمان، الذي،كما رأينا،غيَّر كل شئ (1) . هذان القرنان بشكل خاص كانا غنيين بالتنوُّع اللاهوتيِّ بين المسيحيين الأوائل. في الواقع ، كان التنوُّع اللاهوتيُّ واسعًا جدًا إلى الدرجة التي جعلت مجموعات أطلقت على نفسها اسم المسيحيين يعتنقون المعتقدات والممارسات التي يصِّرُّ معظم مسيحيي اليوم على أنَّها ليست معتقدات مسيحية مطلقًا (2) . في القرنين الثاني والثالث كان ثمَّة مسيحيون يؤمنون بأنه لا إله إلا إلهٌ واحدٌ خلق كلَّ شئ. أناس آخرون من الذين يسمُّون أنفسهم المسيحيين أصرُّوا على أن للكون إلهين اثنين متمايزين - إلهٌ للعهد القديم ( إله النقمة ) وإلهٌ للعهد الجديد ( إله المحبة و الرحمة). هاذان لم يكونا وجهين مختلفين للإله نفسه: بل كانا في الواقع إلهين مختلفين تمامًا. من المدهش أن المجموعات التي تفوهت بهذه المزاعم - بما في ذلك أتباع مرقيون ، الذين تعرفنا عليهم من قبل،أصرَّت على أن رؤاها كانت هي التعاليم الحقة التي نادى بها يسوع وتلاميذه. مجموعات أخرى ، من المسيحيين الغنوصيين على سبيل المثال، أصرُّوا على أنه لم يكن ثمة إلهين اثنين فحسب، بل اثنا عشر إلها. وآخرون قالوا: بل ثلاثون إلهًا . و آخرون استمروا في القول أن الآلهة 365 إلهًا . كل هذه المجموعات زعمت أنَّها مسيحية وأصرت على أن رؤاها هي الرؤى الحقة و أن يسوع وتلاميذه بشروا بها. لماذا بكل بساطة لم تقرأ هذه المجموعات الأخرى عهدها الجديد ليروا أن آراءهم كانت خاطئة ؟ هذا لأنه لم يكن ثمة عهدٌ جديدٌ. وللتدليل على ذلك ، كلُّ كتب العهد الجديد كانت قد كتبت قريبًا من هذا الوقت ، ولكن كان ثمة كثيرٌ من الكتب الأخرى أيضًا كلها تزعم أنَّها كُتِبَتْ بأقلام تلاميذ يسوع نفسه - منها الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل ورؤًى أخرى كانت تحوي وجهات نظر أخرى تختلف أشدُّ الاختلاف عن تلك الموجودة في الكتب التي حدث في النهاية وأن أصبحت تُعْرَفُ بالعهد الجديد. العهد الجديد نفسه ظهر نتيجة لهذه الصراعات حول العقيدة في الله ( أو الآلهة) حيث اكتسبت مجموعة من مجموعات المؤمنين متحوِّلين إلى الإيمان أكثرَ مما اكتسبته المجموعاتُ الأخرى وحدَّدت الكتب التي ينبغي أن تتضمنها القائمة الرسمية للكتاب المقدس. في القرنين الثاني والثالث ،رغم ذلك،لم يكن ثمة قائمة رسمية ولا عقيدة لاهوتية متفق عليهما . بدلا من ذلك ، كان هناك تنوعٌ كبيرٌ :مجموعات متنوعة تؤكد على عقائد لاهوتية متنوعة مبنية على نصوص مكتوبة متنوعة وكلُّها يزعم أنه قد كُتِبَ بأقلام تلاميذ يسوع . بعض من هذه المجموعات المسيحية أصرَّت على أن الله قد خلق هذا العالم ؛ آخرون رأوا أن الإله الحق لم يخلق العالم (الذي هو،في النهاية،مكان شرير)، لكنَّ العالم نتج عن كارثة كونية . بعضٌ من هذه المجموعات أصرَّ على أن الكتب المقدسة اليهودية أوحاها الإلهُ الواحدُ الحقُّ ؛ آخرون زعموا أن الكتب المقدسة اليهودية تنتمي إلى إلهِ اليهودِ الأقلِّ شأنًا الذي لم يكن هو نفسه الإله الواحد الحق. بعض هذه المجموعات أصرَّت على أن يسوع المسيح كان الابن الوحيد للإله و أنَّه كان إنسانًا كاملا وإلهًا كاملا ؛ مجموعات أخرى أصرَّت على أن المسيح كان إنسانًا تامًّا ولم يكن إلهًا على الإطلاق ؛ آخرون ادعوا أنه كان إلهًا كاملا ولم يكن إنسانًا على الإطلاق؛ وأكد البعض الآخر أن يسوع المسيح كان الشيئين كليهما : كائنًا إلهيًّا ( المسيح) و كائنا بشريًّا (يسوع). بعض هذه المجموعات آمنت بأن موت المسيح حدث لأجل خلاص العالم؛ بينما أكد الآخرون أن موت المسيح لم يكن له أيَّ علاقة بخلاص العالم؛ في حين أصرَّت مجموعات أخرى على أن المسيح لم يَمُتْ أبدًا في الحقيقة .كل واحدة من وجهات النظر هذه - ووجهات نظر أخرى بالإضافة إليها - كانت محلًّا لنقاشات وحوارات و مناظرات متواصلة طوال القرون الأولى من عمر الكنيسة حيث كان المسيحيون من مختلف المعتقدات يحاولون إقناع الآخرين بصحة مزاعمهم . مجموعةٌ واحدةٌ في النهاية "خرجت منتصرة" من هذه المناظرات. إنها تلك المجموعة التي قررت ما ستكون عليه العقائد المسيحية : الاعتقادات التي ستؤكد أنه ليس ثمة إلا إله واحد ، هو الخالق ، ويسوع ابنه هو الإنسان و الإله كلاهما ؛ وأنَّ الخلاص تمَّ بالموت والقيامة . وهي أيضًا تلك المجموعة التي قررت أيَّ الكتابات ستتضمنها القائمة الرسميَّة للكتاب المقدس. لقد اتفق معظمُ المسيحيِّين ،قريبًا من نهاية القرن الرابع،على أن الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال ورسائل بولس وكذلك مجموعة أخرى من الرسائل مثل رسالتي يوحنا الأولى وبطرس الأولى ،إلى جانب رؤيا يوحنا، هم جزء من القائمة الرسمية . ويا تُرى من كان يقوم بنسخ هذه النصوص ؟ هم أنفسهم المسيحيون من أعضاء الرعويات نفسها ،أي المسيحيون الذين كانوا على وعي تامٍّ بـالمناظرات التي دارت حول شخص الإله وحول منزلة الكتب المقدسة اليهودية وطبيعة المسيح وآثار موته بل وكانوا حتى مشاركين فيها. إنها المجموعة التي نصَّبت من نفسها "أرثوذكسًا"( التي تعني أنهم يؤمنون بما يعتبرونه هم " الاعتقاد الصحيح") ثمَّ قرَّرت ما ستؤمن به الأجيال المسيحية التالية وما ستقرأه على اعتبار أنَّه الكتاب المقدس . إذن ما الاسم الذي ينبغي أن نطلقه على وجهات النظر "الأرثوذكسية" في الفترة التي سبقت تحولها إلى الرأي الغالب عند كل المسيحيين ؟ ربما من الأفضل أن نسميها "ماقبل الأرثوذكسية" (proto-orthodox). ما يعني أنها تمثل وجهات نظر المسيحيين " الأرثوذكس" قبل أن ينتصروا في النزاعات التي وقعت في وقتٍ قريبٍ من بواكير القرن الرابع الميلاديّ. هل أثرت هذه النزاعات على النسّاخ حينما كانوا يقومون بنسخ كتبهم المقدسة ؟ في هذا الفصل سأزعم أنها أثَّرت. ولبيان هذه المسألة،سأقتصر على قضية طبيعة المسيح التي تمثِّلُ جانبًا واحدًا فحسب من جوانب النزاعات اللاهوتية المتواصلة خلال القرنين الثاني والثالث. هل كان المسيحُ إنسانًا ؟ هل كان إلهًا ؟ أم كان الاثنين كليهما ؟ ولو كان هو الاثنين كليهما، فهل كان كائنين منفصلين أحدهما بشريٌّ والآخر إلهيٌّ ؟ أما كان كائنا واحدا بشريًّا وإلهيًّا في الوقت ذاته ؟ هذه هي الأسئلة التي تمَّت الإجابة عنها في نهاية الأمر عبر العقائد التي صيغت ثمَّ استمر تناقلها إلى أن وصلتنا في عصرنا الحالي،إنها العقائد التي تنصُّ على أنَّه يوجد" ربٌّ واحدٌ يسوعُ المسيح " الذي كان إلهًا كاملا وإنسانًا كاملا. قبل أن تصدر هذه القرارات ،كان ثمَّة اختلافات واسعة وكان لهذه الاختلافات تأثيرها على نصوص كتابنا المقدس (3) .ولتوضيح هذا الأمر سأدرس ثلاثة مواضع للنزاع حول طبيعة المسيح وسأرصد الطرق التي غيَّر من خلالها نسَّاخٌ حسني النية(لا شك في ذلك) نصوص الكتب التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد. لقد حرَّفوا النصوص التي لديهم عن عمد بغية جعلها أكثر موافقةً لوجهات نظرهم اللاهوتية الشخصيَّة وأقل موافقة لوجهات النظر اللاهوتية التي يعتنقها خصومهم . أول المواضع التي سأتناولها بالبحث تتعلق بزعم بعض المسيحيين أن يسوعَ كان إنسانًا كاملا لدرجة لا يمكن معها أن يكون إلهًا . و تلك كانت وجهة نظر مجموعة من المسيحيين يسميها العلماء اليوم بالتبنَّويين (adoptionists). وجهة نظري التي أجادل لإثباتها هي أن النسَّاخ المسيحيين الذين كانوا خصومًا لوجهات النظر التبنّوية حول يسوع قاموا بتعديل نصوصهم في بعض المواضع لكي يؤكَّدوا وجهة نظرهم القائلة أن يسوع لم يكن إنسانًا فحسب وإنما كان إلهًا أيضًا. يمكننا أن نسمي هذه التعديلات تحريفات الكتاب المقدس المضادة للتبنَّويين. تحريفات النص المضادة للتبنَّويين المسيحيون التبنِّيّون الأوائل عددٌ من المجموعات المسيحية في القرنين الثاني والثالث نعلم عنها أنَّها كان لها وجهات نظر" تبنَّويّة" فيما يتعلق بالمسيح . وجهة النظر هذه سُمِّيت بالتبنَّوية لأنَّ المؤمنين بها أكدُّوا أن يسوع لم يكن من جوهرٍإلهيٍّ وإنما هو كائنٌ بشريُّ كاملٌ من لحمٍ ودمٍ " تبنّاه" الله لكي يصير ابنًا له وهو ما حدث غالبًا أثناء لحظة عماده (4) . أحدًُ أشهرِ المجموعات المسيحية المبكرة التي اعتنقت عقائد تبنَّوية حول المسيح كانت طائفة من اليهود المتنصرين عرفت باسم الأبيونيين . لسنا على يقين من السبب الذي من أجله أطلق عليهم هذا الاسم . فمن المحتمل أنه ظهر كتسمية أطلقوها هم على أنفسهم استمدُّوها من الاسم العبري إبيون (Ebyon)الذي يعني " فقير". أتباع يسوع هؤلاء من المحتمل أنَّهم تأسَّوا بتلاميذ يسوع الأوائل في التخلِّي عن كلِّ شئٍ يملكونه في سبيل إيمانهم وهكذا فرضوا على أنفسهم فقرًا اختياريًّا من أجل الآخرين . مهما يكن مصدر الاسم الذي حملوه فقد ذُكِرَت آراء هذه المجموعة بوضوح في سجلاتنا المبكرة،خاصة تلك التي كتبها أعداؤهم الذين نظروا إليهم باعتبارهم هراطقة. أتباع يسوع هؤلاء كانوا مثلََه يهودًا ؛حيث كان إصرارهم على أن الإنسان "لكي يصير تابعًا من أتباع يسوع فعليه أن يكون يهوديًّا" هو ما كان يميِّزُهم عن المسيحيين الآخرين. فكون الإنسان يهوديًّا يعني بالنسبة للرجال أن يختتنوا. وبالنسبة للرجال والنساء،كان ذلك يعني اتِّباع الشريعة اليهودية التي جاء بها موسى بما في ذلك أحكام الطعام الكوشير (الحلال) وحفظ السبت و الأعياد اليهوديَّة . لقد كان مفهومُهم عن يسوع باعتباره مسيحًا يهوديّا هو،على وجه الخصوص، ما فرَّق بين هؤلاء المسيحيين وبين الآخرين. لأنَّه وحيث إنهم كانوا موحِّدين شديديِّ الالتزام ـ أي يؤمنون بأنًّ واحدًا فحسب هو المستحق لأن يكون إلهًا ـ فقد أصرُّوا على أن يسوع لم يكن إلهًا،بل كائنًا بشريًّا لا يختلف في "الطبيعة" عن بقيتنا. فهو قد وُلِِدَ من اتِّحادٍ جنسيِّ بين أبويه يوسف ومريم ووُلِد مثل أيِّ شخصٍ آخرَ ( فأمُّه لم تكن عذراءً) وتربّى ،من ثمَّ، في بيت يهوديٍّ. أمَّا ما جعل يسوع مختلفًا عن الآخرين كلِّهم فهو أنه كان أكثرهم برًّا في اتِّباعه للشريعة اليهودية؛ ومن أجل شدة برِّه تبنَّاه الله لكي يصير ابنه في لحظة العماد حينما سُمِع صوتٌ قادم من السماء يعلن أنَّه ابنَ الله . من تلك اللحظة فصاعدًا ،شعر يسوع أنه مدعوٌّ لإكمال المهمة التي كان الله قد أوكلها إليه ـ الموتُ على الصليب كأضحيةٍ كريمة من أجل خطايا الآخرين . فعل ذلك بطاعة مخلصة تجاه ما دُعِي إليه ؛ الرب حينئذ أكرم تضحيته بإقامته يسوع من بين الأموات ورفعه إلى السماء حيث ينتظر إلى الآن قبل عودته لدينونة الأرض . وبحسب الأبيونيين،لم يكن ليسوع،إذن،وجود قبل الزمان؛ وهو لم يُولَد من عذراء ؛ولم يكن إلهًا. كان يسوع إنسانًا بارًّا و مميَّزًا اختاره الله وأولاه علاقة خاصة معه . ردًا على وجهات النظر التبنّويّة تلك ،مسيحيو ما قبل الأرثوذوكسية أصرّوا على أن يسوع لم يكن إنسانًا " فحسب" ، وإنما كان بالفعل من جوهرٍ إلهيّ، بل كان هو الله نفسه من بعض الوجوه. فلقد وُلِدَ من عذراء،وكان أكثرَ برًّا من أيِّ إنسانٍ آخرَ بحكم جوهره المختلف، وفي لحظة عماده لم يعلنه الله ابنا ( عبر التبنّي ) وإنما أكّد فقط بنوته له كما هوحاله منذ الأزل . كيف أثرت هذه النزاعات على نصوص الكتاب المقدَّس التي كانت منتشرة خلال القرنين الثاني والثالث ، التي هي تلك النصوص كانت في طور النّسْخ من خلال نُسَّاخٍ غير محترفين كانوا هم أنفسهم متورطين إن بصورة أكبر أو أقل في تلكم النزاعات ؟ هناك القليل جدا ،بل تكاد تكون منعدمة،من القراءات المتباينة التي يبدو أنها كتبت عبر نساخ كانوا يعتنقون وجهة نظر تبنّوية . سبب هذه الندرة في الأدلة لا ينبغي أن يصيبنا بالدهشة . فلو حدث أن أحد المسيحيين التبنَّويين كان قد أدخل وجهات نظره إلى نصوص الكتاب المقدس ،فبالتأكيد سيجد من يصحِّحُها من بين النسَّاخِ المتأخرين ممن يعتنقون خطًّا أكثر أرثوذكسية. ما وجدناه بالفعل،مع ذلك،هي نماذج تعرَّضت فيها النصوص للتحريف على نحوٍ يبدو وكأنه قد حدث لمواجهة وجهة نظرٍ تبنَّوية فيما يتعلق بطبيعة المسيح . هذه التغييرات تؤكِّد أن المسيح مولودٌ من عذراء وأنه لم يُتَبَنَّ أثناء العماد بل هو نفسه كان إلهًا . تحريفات النص المضادة للتبنَّويين لقد رأينا بالفعل من قبل تغييرا نصّيًّا يتعلق بالنِّزاع حول طبيعة المسيح وذلك عند نقاشنا في الفصل الرابع للأبحاث النصّية الخاصة بـ ( ج.ج فيتشتاين ). قام فيتشتاين بفحص المخطوطة السكندرية ، المحفوظة الآن في المكتبة البريطانية وتوصل إلى أنَّه في 1 تيموثي 3 : 16 ،بينما تتحدث معظم المخطوطات المتأخرة عن المسيح على اعتبار أنَّه " الله ظهر في الجسد "، تتحدث هذه المخطوطة الأكثر قِِدَمًا في الأصل ،بدلا من ذلك، عن المسيح "الذي أُظْهِرَ في الجسد " (who was made manifest in the flesh) .الاختلاف دقيق جدا في اللغة اليونانية ـ فهي فرق بين حرف "ثيتا" وحرف "أوميكرون" المتشابهين كثيرًا. أحد النسَّاخُ المتأخرين أدخل تغييرًا إلى القراءة الأصلية حتى لا تعود تُقرأ " الذي" وإنما لتقرأ " الله " ( ظهر في الجسد ). أو فلنقلها بكلمات أخرى،هذا المصحّح المتأخِّر غيّر النص بتلك الطريقة لكي يؤكِّد على ألوهية المسيح. من المدهش أن ندرك أن هذا التصحيح نفسَه وقع في أربعٍ من مخطوطاتنا الأخرى الأكثر قدمًا التي تخص 1 تيموثي ، في جميع هذه المخطوطات كان ثمة مصحِّحُون يغيرون النص بالطريقة ذاتها لكي يُدعى المسيح الآن " إلها" على نحوٍ واضحٍ. هذا النص أصبح هو النص المفضل لدى الأغلبية الساحقة من المخطوطات البيزنطية (أي المنتمية للعصور الوسطى ) - وبعد ذلك أصبح نصُّ غالبية الترجمات المسيحيَّة القديمة . مخطوطاتنا الأقدم والأفضل،مع ذلك،تتحدث عن المسيح "الذي" أُظْهِرَ في الجسد بدون أن تدعو يسوع إلهًا وذلك بشكل شديد الوضوح. هذا التغيير الذي حدث وأن تسيَّد المخطوطات المكتوبة في العصور الوسطى،إذن، صُنِعَ صُنْعًا لكي يؤكِّد ألوهية يسوع في نصٍّ كان يتَّسم بالغموض،في أحسن الظروف، بشأنها. هذا سيصبح مثالا على التحريف المضاد للآراء التبنوية وتحريفًا نصيّا أُحدِثَ لكي يضاد الزعم بأنَّ يسوع كان إنسانًا كاملا و لم يكن من جوهرٍ إلهيّ. تغييراتٌ أخرى مضادة للآراء التبنويّة وقعت في المخطوطات التي تؤرِّخُ لحياة يسوع المبكرة في إنجيل لوقا. ففي موضعٍ واحدٍ يقال لنا أن يوسف ومريم اصطحبا يسوع إلى الهيكل وباركه رجل الله سمعان ، " وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ " (لوقا 2 : 33 ). أبوه ؟!! كيف يجرؤ النص أن يدعو يوسفَ أبًا ليسوع لو كان يسوع قد وُلِد من عذراء ؟ ليس من الغريب إذن أن يغيِّر عددٌ كبيرٌ من النُسّاخ النصَّ لكي يزيلوا الإشكالية المحتملة وذلك عبر قولهم " وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ ..." فالآن لا يسع مسيحيًّا تبنّويًّا أن يستغلَّ هذا النصَّ لكي يدعم الزعم القائل أن يوسفَ كان والدَ الطفل . ظاهرة مشابهة حدثت بعد عددٍ قليلٍ من الأعداد في قصة يسوع ذي الاثنى عشر ربيعًا في الهيكل . للقصة خطٌّ مألوف: يوسف ومريم ويسوع يحضرون احتفالا في أورشليم لكن بعد ذلك عندما يتوجه باقي العائلة إلى بيتهم مع القافلة يتخلَّف يسوع بغير علمهم . كما يقول النص ،" أبواه لم يكونا يعلمان عن ذلك ." لكن كيف للنص أن يتحدَّث عن أبويه في الوقت الذي لم يكن يوسف أبًا ليسوع في الحقيقة ؟ عددٌ من الشواهد النصَّية "تصحّحُ" المشكلة عبر جعلها النص يُقرأ كالتالي،" وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا". مثالٌ آخرُ نستقيه من بعض الأعداد التالية، فبعد أن عادوا إلى أورشليم للبحث عن يسوع في كلِّ مكانٍ، تجده مريم بعد ثلاثة أيام في الهيكل. فإذا بها توبخه قائلة :" أنا وأبوك كنَّا نبحث عنك!" ومرة أخرى،قام بعض النسّاخ بحل المشكلة - هذه المرة عبر تحريف النص ببساطة لكي يُقرأ :"كنا نبحث عنك !" أحدُ أكثرِ القراءات المتباينة المضادة للآراء التبنّوية طرافة بين مخطوطاتنا تحدث تمامًا حيث يتوقع المرء وجودها، ففي الرواية الخاصة بعماد يسوع على يدي يوحنا،أي في اللحظة ذاتها التي أصرَّ كثيرٌ من التبنَّويين على أن يسوع اختير فيها من قِبَل الله لكي يصبح ابنَه المتبنَّى. ففي إنجيل لوقا ،كما في مرقس،عندما كان يسوع يتمُّ تعميدُه ،انفتحت السماء ونزل الروح على يسوع في شكل حمامة وجاء صوت من السماء . لكنّ مخطوطاتِ إنجيلِ لوقا منقسمة بشأن ما قاله الصوت على وجه التحديد. وفقًا لمعظم مخطوطاتنا، نجدها تنطق الكلمات نفسها التي يجدها المرء في إنجيل مرقس :" أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ! " (مرقس 1 : 11 ؛ لوقا 3:23). في مخطوطة يونانية مُمْعنةٌ في القِدَمِ وفي العديد من المخطوطات اللاتينية يقول الصوت شيئًا مختلفًَا بصورة صادمة :" أنت ابني ،أنا اليوم ولدتُك." اليوم! ولدتُك! ألا يوحي ذلك بأنَّ يوم العماد هو اليوم ذاته الذي أصبح فيه يسوع ابنًا لله ؟ ألا يمكن أن يستخدم مسيحيٌّ تبنّويٌّ هذا النص ليدعم قضية صيرورة المسيح ابنا لله في هذا اليوم ؟ وبما أن هذه القراءة المتباينة تتسم بمثل هذه الطرافة،ربما من المستحسن أن نعيرَها بعض الانتباه كتوضيحٍ موسَّعٍ لصعوبة المشكلات التي يواجهها النقاد النصِّيون. القضية الأولى التي ينبغي حلها هي : أيُّ هذين الشكلين من النص هو الشكل الأصلي وأيُّهما التحريف ؟ الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية تدعم القراءة الأولى "أنت ابني الحبيب الذي به سررت"؛ وهكذا ربما تغوي هذه الحقيقة المرء لكي ينظر إلى القراءة الأخرى باعتبارها تحريفًا . المشكلة في هذه الحالة هو أن هذا العدد اقتبسه كثير من آباء الكنيسة الأوَّلون في وقت لم تكن فيه معظم مخطوطاتنا قد كتبت بعد . فالنص يتمُّ اقتباسه في القرنين الثاني والثالث في كل مكان من روما إلى الإسكندرية ومن شمال أفريقيا وفلسطين إلى بلاد الغال (فرنسا)وأسبانيا. وفي كل الحالات تقريبًا ، كان الشكل الثاني من النص هو الذي يقتبس ( "أنا اليوم ولدتُك "). أضف إلى ذلك أن هذا هو شكل النص الذي لا يشبه كثيرًا ما هو موجود في الفقرة الموازية في مرقس. يحاول النساخ بصورة نمطيّة ،كما رأينا ،أن يوفِّقوا بين النصوص بدلا من أن يتركوها متنافرة . لذا فشكل النص الذي يختلف عن مرقس هو الذي من المحتمل أكثر أن يكون النص الأصليَّ في لوقا. هذه الافتراضات ترجح أن القراءة الأقل ورودا في المخطوطات ـ" أنا اليوم ولدتُك" ـ هي بالفعل القراءة الأصلية وأنها تعرضت للتحريف عبر نسَّاخٍ خشوا من صداها التبنَّويّ . بعض العلماء اعتقدوا وجهة النظر المخالفة عبر التذرُّع بأنَّ الصوت أثناء العماد لدى لوقا لا يمكن أن يقول" أنا اليوم ولدتك " لأنه من الواضح أنه قد ذُكِرَ من قبلُ بالفعل ضمن رواية لوقا أن يسوع هو ابن الله . فها هو الملاك جبريل يعلن قبل ميلاد يسوع ،في لوقا 1 : 35،لأمِّ يسوع أن " اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. " حسب وجهة نظر لوقا نفسه،بكلماتٍ أخرى،كان يسوع بالفعل ابنًا لله عند ولادته. فلا يمكن أن يقال عن يسوع ،وفقًا لهذه الحُجة، إنَّه أصبح ابنًا لله في أثناء عماده- ولذلك فالقراءة الأكثر ذكرا في المخطوطات ،" أنت ابني الحبيب الذي به سررت،" من المحتمل أن تكون هي القراءة الأصلية. الصعوبة التي يواجهها هذا النمط من التفكير ـ برغم مظهره المقنع للوهلة الأولى ـ أنَّه يتجاهل الكيفية التي يستخدم بها لوقا ألقاب يسوع بشكل عام في ثنايا كتابه ( بما في ذلك كتابه الثاني سفر الأعمال وليس فقط الإنجيل ). تأمَّل،على سبيل المثال، ما يقوله لوقا عن يسوع باعتباره " المسيح"( التي هي الكلمة العبرية المقابلة للمصطلح اليوناني كرايست). فوفقًًا للوقا 2 : 11،ولد يسوع كمسيح، لكنَّه في واحدة من العبارات الواردة في سفر الأعمال، يقال عنه إنَّه صار مسيحًا أثناء عماده ( أعمال 10 : 37 – 38 )؛ وفي فقرة أخرى يصرح لوقا بأنَّ يسوع أصبح المسيح عند قيامته من الأموات ( أعمال 2 : 38 ). كيف يمكن أن تكون كل هذه الأمور صحيحة مجتمعةً ؟ يبدو أن التأكيد على اللحظات الهامة في حياة يسوع بالنسبة للوقا كان هو الأمر الأهم والذي ينبغي التشديد عليه باعتباره ضروريًّا لتأكيد هوية يسوع( باعتباره المسيح على سبيل المثال). الأمر ذاته ينطبق على المفهوم اللوقاوي عن المسيح باعتباره " الرب" (Lord). فقد قيل عنه أن الربَّ قد وُلِد في لوقا 2 : 11 ؛وأطلق عليه لقب"الرب" أثناء حياته في لوقا 10 : 1 ؛ لكنَّ سفر الأعمال 2 : 38 يشير إلى أنه أصبح ربًّا عند قيامته . من وجهة نظر لوقا، شخصية يسوع باعتباره الرب وابن الله هي الأمر ذو الأهمية . لكنَّ وقت حدوث ذلك،من الواضح،أنه ليس كذلك. فيسوع هو كل هذه الأشياء عند لحظات حياته الحاسمة ـ الميلاد ، العماد ، القيامة ، مثلا. يبدو ، من ثمّ، أنه في رواية لوقا عن عماد يسوع في الأصل،أتى الصوت من السماء ليعلن" أنت ابني ، أنا اليوم ولدتُك ". من المحتمل أن لوقا لم يكن يقصد أن يتم تفسير هذا العدد بما يخدم وجهة النظر التبنَّويّة،حيث إنه،في النهاية، كان بالفعل قد حكى قصة ميلاد يسوع من عذراء ( في الفصلين 1 – 2 ). لكنَّ المسيحيين المتأخِّرين عند قراءتهم للعدد 3 : 22 من إنجيل لوقا ربما قد أدهشهم مضمونها المحتمل حيث إنه يبدو عرضةً للتفسير التبنّوي. ولكي يمنعوا كلَّ أحدٍ من أن يفهم هذا النص على هذا النحو، بعضُ نسَّاخ ما قبل الأرثوذكسيّة غيَّروا النص لكي يجعلوه متطابقًا تمامًا مع النص 1 : 1 من إنجيل مرقس. الآن، وبدلا من أن يقال عن يسوع إنَّه وُلِد من الله، قيل عنه ما يؤكِّد أنَّه:"أنت ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ". وهذا ، بكلمات أخرى، تغييرٌ آخر للنص وقع لدوافع مضادة للأفكار التبنّويّة . سوف نختم هذا الجزء من نقاشنا بالنظر إلى تحريف آخر على الشاكلة ذاتها . هذا التغيير،مثلما هو الحال مع 1 تيموثي 3 : 16،يتعلق بنص قام فيه الناسخ بإحداث تحريف لكي يؤكِّدَ بعبارات قوية للغاية أن إيماننا بيسوع ينبغي أن يكون باعتباره الله بكل ما في الكلمة من معنى . يقع هذا النص في إنجيل يوحنا الذي هو الإنجيل الذي يتميز عن غيره من الأسفار التي نجحت في أن تكون جزءًا من القائمة القانونية للعهد الجديد في أنَّه بالفعل قد قطع شوطًا كبيرًا تجاه تحديد هويّة يسوع باعتباره كائنًا إلهيًّا( انظر على سبيل المثال ، يوحنا 8 : 58 ؛ 10 :30 ؛ 20 : 28 ). تحديد الهويّة هذا قد حدث على نحوٍ مدهشٍ للغاية في فقرة كان نصُّها الأصليّ مَحِلا لنزاع ساخن . الأعداد الثمانية الأولى من إنجيل يوحنا يطلق عليها أحيانا مقدمة الإنجيل (Prologue). يوحنا هنا يتحدث عن" كلمة الله "الذي كان" في البدء عند الله" والذي "كان هو الله " ( الأعداد 1- 3 ).كلمة الله هذه خلقت كلَّ شئٍ موجود. فوق ذلك، هي وسيلة الله في الاتصال بالعالم ؛ فالكلمة هي الطريقة التي بها أظهر الله نفسه للآخرين . ويقال لنا إنَّه في لحظة ما "الكلمة صار جسدا و حلّ بيننا ." بطريقة أخرى، كلمة الله أصبحت كائنًا بشريًّا ( عدد 14 ). هذا الكائن البشريُّ كان هو" يسوع المسيح "(عدد 17 ). وفقًا لهذا الفهم للأمور ،فإن يسوع المسيح يمثّل " تجسُّد " كلمة الله ، الذي كان مع الله في البدء وكان هو نفسه الله،والذي من خلاله خلق الله كلَّ الأشياء . ثمَّ تنتهي المقدمة ببعض الكلمات المفاجئة ، التي تأتي في أشكال متنوعة :" اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. " المشكلة النصّيّة تتعلق بتحديد هوية هذا " الوحيد". هل ينبغي تحديده باعتباره "الإله الوحيد الذي هو في حضن الآب " أم باعتباره " الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب " يجب أن يكون معلومًا أنَّ القراءة الأولى هي القراءة التي وجدت في أقدم المخطوطات والأفضل بوجه عام - وهي التي تنتمي إلى العائلة النصّيّة السكندرية. إلا أن الأمر المدهش هو أنه نادرًا ما نجدها في مخطوطات ليست لها صلة بالإسكندريّة . هل من الممكن أن تكون هذه القراءة قراءةً نصيّةً متباينة أحدثها ناسخٌ في الإسكندرية ثمّ تمَّ تعميمُها هناك ؟ لو صحَّ ذلك،فهذا سيفسِّرُ السبب الذي من أجله تضمنت الغالبية الساحقة من المخطوطات من كل الأماكن الأخرى القراءة الثانية التي جاء فيها أن يسوع لم يُدْعَ الإله الوحيد (unique God) ، وإنما الابن الوحيد .هناك أسبابٌ أخرى تجعلنا نعتقد أن القراءة الأخيرة هي،في حقيقة الأمر،القراءة الصحيحة. وذلك لأنَّ إنجيل يوحنا يستخدم عبارة "الابن الوحيد" ( أحيانا تترجم بطريقة خاطئة كـ" الابن الوحيد المولود only begotten Son " ) في مناسبات أخرى عديدة ( انظر يوحنا 3 : 16 ، 18 )؛ ولم يذكر في أيِّ مكان آخر أن المسيح هو " الإله الوحيد ". فوق ذلك ، ماهو المقصود من إطلاق (الإله الوحيد)على المسيح ؟ كلمة وحيد unique باليونانية تعني " الفريد من نوعه." من يكون وحيدًا من نوعه لابد أنه واحدٌ فقط. أمَّا مصطلح الإله الوحيد لابد وأنه يشير إلى الله الآب نفسه ـ وإلا فهو ليس فريدًا من نوعه. لكنَّ التعبير لو كان يشير إلى الآب ، فكيف يتم استخدامه للدلالة على الابن؟ لو سلمنا بأنَّ عبارة إنجيل يوحنا "الابن الوحيد" هي الأكثر شيوعًا (وقابلية للفهم )، فمن الواضح أنَّ تلك العبارة هي التي كان عليها النصُّ المكتوب في يوحنا 1 : 18 في شكله الأصليّ . هذا النص بحد ذاته ما يزال يمثل رؤية أكثر تمجيدًا للمسيح ـ فهو"الابن الوحيد الذي في حضن الآب." وهو الشخص الذي يجعل الله ظاهرًا لكلِّ إنسانٍ آخرَ . يبدو ، مع ذلك ، أنَّ بعض النسّاخ - من المحتمل أنَّ الإسكندرية كانت موطنهم - لم يكونوا سعيدين حتى بتلك الرؤية الممجِّدة للمسيح ،ولذلك جعلوها أكثر تمجيدًا عن ذي قبل وذلك عبر تحريف النص . الآن المسيح ليس ابن الله الوحيد فحسب،بل هو الإله الوحيد نفسُه ! وهذا أيضًا يبدو،حينئذ، تغييرًا للنص لأسباب مضادة للآراء التبنّويّة اضطلع به نسّاخ ماقبل الأرثوذكسية في القرن الثاني. تحريفات النص المضادة للآراء الظهورية *الظهوريون المسيحيون الأوائل في الطرف المقابل للخط اللاهوتي القادم من خلفية يهودية متنصرة والمتمثل في الأبيونيين ومعتقداتهم التبنَّويَّة في المسيح،كانت تقف مجموعات من المسيحيين عرفوا باسم الظهوريين (5) .أصل هذا الاسم مشتقٌ من الكلمة اليونانية (DOKEO) ،التي تعني " ظهور" أو "ترائي". كان الظهوريون يعتقدون أن يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا كاملا من لحمٍ ودمٍ . بل كان بدلا من ذلك إلهيا تمامًا ( وفقط )؛ لكنه "بدى" أو " ترائى " ككائن بشريٍّ ،أو بدى وكأنه يشعر بالجوع والعطش و الألم ، وبدى وكأنه ينزف ويموت. وحيث أن يسوعَ كان هو الله ، فلا يسعه أن يكون إنسانًا على الحقيقة. وإنَّما هو ببساطة كان قد جاء إلى الأرض في "مظهر" بشريٍّ من لحمٍ ودم. ربما كان الفيلسوف المُعَلِّم مرقيون هو أشهرُ ظهوريِّي القرون الأولى للمسيحية. لدينا كمٌّ كبير من المعلومات حول مرقيون لأن آباء الكنيسة في عصر ما قبل الأرثوذكسية من أمثال إيريناوس و تيرتوليانوس اعتبروا آراءه تهديدًا حقيقيًّا ولذا كتبوا عنها بكثافة. وما يزال لدينا كتابٌ من خمس مجلدات كتبه "تيرتليانوس" يسمى ضد مرقيون تحدث فيه بالتفصيل عن مفهوم الإيمان عند مرقيون وشنَّ فيه هجومًا عليه . ومن هذه المقالة الجدالية يمكننا أن نستقي الخصائص الرئيسية لأفكاره. كما رأينا (6) ، يبدو أنَّ مرقيون استقى أفكاره من الرسول بولس الذي كان يعتبره التلميذ الحقيقيَّ الوحيد ليسوع . في بعض رسائله يفرِّق بولس بين الناموس (الشريعة) والإنجيل مؤكِّدًا أنَّ الإنسان سيتبرَّر أمام الله عبر الإيمان بالمسيح (أي الإنجيل ) وليس بتأدية أعمال الناموس اليهودي. بالنسبة لمرقيون هذا الاختلاف بين إنجيل المسيح وشريعة موسى كان اختلافًا جذريًّا إلى درجة أن الإله الذي أعطى الشريعة لا يمكنه أبدًا أن يكون ذلك الذي أعطانا الخلاص في المسيح . لقد كانا،بطريقة أخرى ،إلهين اثنين مختلفين . فإله العهد القديم هو الذي خلق العالم واختار إسرائيل ليكونوا شعبه وأعطاهم شريعته المتوحشة . وهو،عندما ينقضون شريعته ( كما فعلوا جميعا )،يعاقبهم بالموت . أما يسوع فقد جاء من قِبَل الإله الأعظم ،أُرسل لينقذ الناس من إله النقمة الذي يعبده اليهود . وحيث إنه لا ينتمي لهذا الإله الآخر الذي خلق العالم المادِّيّ، لم يكن يسوع نفسه جزءًا من هذا العالم المادي. هذا يعني،من ثمّ،أنه لا يمكن أن يكون قد وُلِد في الحقيقة ،وأنه لم يكن له جسدٌ ماديٌّ ،ولم يكن بوسعه النزيف حقيقةً وهذا يعني أنه في حقيقة الأمر لم يمت . كل هذه الأشياء كانت أمرًا ظهوريًّا. لكنَّ يسوع حين "ظهر" ميتًا ـ كأضحية كاملة في الظاهر- قَبِِل ربُّ اليهود هذا الموت كثمن لمغفرة الخطايا. وكل من يؤمن بهذا سينجو من نقمة هذا الإله. مؤلفوا ماقبل الأرثوذكسيّة مثل ترتليانوس حملوا بشدة على هذه العقيدة اللاهوتية وأصرُّوا على أنَّه لو لم يكن المسيح كائنًا بشريًّا حقيقيًّا ،فلن يكون بوسعه أن ينقذ الكائنات البشرية الأخرى،وأنَّه لو لم ينزف دماءًا على الحقيقة ، فإنَّ دمه لا يمكن أن يجلبَ الخلاصَ وأنَّه لو لم يمت حقيقةً ،فموته " الظاهري" هذا لن يفيد أي شخص . لقد اتخذ ترتليانوس والآخرون، إذن، موقفًا قويًّا مفاده أن يسوع ـ في حين أنه ما يزال كائنًا إلهيًّا (على الرغم ممَّا قاله الأبيونيون و التبنَّويون الآخرون ) - كان مع ذلك إنسانًا كاملا. كان إنسانًا من لحم ودم ؛ كان باستطاعته الشعور بالآلام والنزف حقيقةً ، وقد أُقيم حقًا ببدنه من بين الأموات ؛ وارتفع بالبدن على الحقيقة إلى السماء حيث ما يزال في انتظار العودة بالبدن مكلَّلا بالمجد . تحريفات النص المضادة للدوسيطيين(الظهوريين) الصراع حول العقائد الظهورية المتعلقة بالمسيح كان له تأثيرٌ على النسَّاخ الذين كانوا يقومون بنسخ الكتب التي أصبحت في النهاية هي العهد الجديد. لكي أوضح هذه النقطة سوف أقوم بفحص أربع قراءات نصية متباينة في الفصول الأخيرة من إنجيل لوقا الذي ،كما رأينا، كان الإنجيل الوحيد الذي قبله مرقيون باعتباره الكتاب المقدس الرسمي (7) .أولى القراءت الأربع تتعلق بفقرة ناقشناها أيضا في الفصل الخامس ـ ألا وهي الرواية الخاصة بـ"دماء يسوع التي على هيئة عَرَق ". وكما رأينا هناك ،من المحتمل أن الأعداد محل الدراسة لم تكن أصلية في إنجيل لوقا . وتذكَّرْ أن هذه الفقرة تصف الحوادث التي وقعت قبل القبض على يسوع مباشرةً عندما ترك تلاميذه ليختلي بنفسه للصلاة داعيا الله أن يجيز عنه كأس آلامه مع الدعاء بأن " تتم مشيئة الله ". ثمّ نقرأ، في بعض المخطوطات،الأعداد المتنازع عليها : " وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ." ( الأعداد 43 – 44 ). أنا جادلت في الفصل 5 لإثبات أن الأعداد 43 -44 تمزق بناء هذه الفقرة الموجودة في إنجيل لوقا،التي هي بطريقة أخرى قلب لترتيب الكلمات في جملتين متوازيتين * chiasmus تشد الانتباه إلى صلاة يسوع بخصوص مشيئة الله التي ينبغي أن تتمَّ . أفترض أيضًا أن هذه الأعداد تتضمن عقيدة لاهوتية تختلف تمامًا عن الأخرى الموجودة في رواية لوقا عن الآلام . في كل مكان آخر ، كان يسوع هادئًا ومحافظًا على رباطة جأشه. لقد خرج لوقا،في الحقيقة ،عن مساره في التخلص من أي إشارة إلى جزع يسوع في روايته . هذه الأعداد ، من ثمَّ ،ليس لها وجود في أهم وأقدم الشواهد فحسب ، بل إنها أيضًا تسير عكس تيار الصورة الأخرى الموجودة في إنجيل لوقا عن مواجهة يسوع لموته . رغم ذلك ،يبقى السؤال مطروحًا : لماذا أضاف النسَّاخ هذه الأعداد إلى الرواية ؟ نحن الآن في موقع يسمح لنا بالإجابة عن ذلك السؤال. من الجدير بالملاحظة أن هذه الأعداد أُشيرَ إليها لمرات ثلاث من خلال مؤلفي ماقبل الأرثوذكسية في منتصف آواخر القرن الثاني ( جوستينوس الشهيد وإيريناوس الغالي ( من بلاد الغال)وهيبوليتوس الرومي (نسبة إلى روما ) )؛ الأمر الذي لا يزال مثيرًا للكثير من التعجُّب هو أن هذه الأعداد كلما تُذكر في أيِّ موضعٍ،يحدث ذلك في معرض مقاومة وجهة النظر الخاصة بكون يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا حقيقيًّا. أو فلنقلها بكلمات أخرى،الجزع العميق الذي شعر به يسوع وفقا لهذه الأعداد كان الهدف منها إظهار أنه كان في الحقيقة إنسانًا وأنه كان قابلا للمعاناة مثلنا جميعا. لذلك جوستينوس ،على سبيل المثال، الذي هو أحد علماء اللاهوت الدفاعي من المسيحيين الأوائل يزعم ،بعد ملاحظته أن " عَرَقُهُ َصَارَ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ عِنْدَمَا ٍ كَانَ يُصَلِّي " أن ذلك أظهر" أن الآب كان يتمنى أن يعاني ابنه مثل هذه الآلام من أجلنا ،" حتى" لا نقول إنه ،لأنه كان ابنا لله، لم يشعر بما كان يحدث له ولا بما تكبّده (8)." لنقلها بطريقة أخرى،جوستينوس وأضرابه من مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فهموا أن هذه الأعداد أظهرت في شكل نابض بالحياة أن يسوع لم "يظهر" فحسب أنه إنسان : بل لقد كان بالفعل إنسانًا في كل شئ . يبدو من المحتمل،إذن،وحيث أن هذه الأعداد ،كما رأينا،لم تكن جزءا أصليًّا في إنجيل لوقا، أنَّها أضيفت لأغراض مضادة للدوسيطيين(الظهوريين)،لأنها ترسم صورة واضحة تمامًا لبشرية يسوع الحقيقية. من وجهة نظر مسيحيي ما قبل الأرثوذكسيّة ، كان من الأهمية بمكان تأكيد المسيح كان إنسانًا حقيقيًّا من لحمٍ ودمٍ لأنَّ لحمه المذبوح و دمه المسفوك هما تحديدًا الذان جلبا لنا الخلاص - ليس في الظاهر وإنَّما في الحقيقة . قراءة نصيّة متباينة أخرى في رواية لوقا للساعات الأخيرة من حياة يسوع تؤكد هذه الحقيقة . يحدث ذلك في رواية عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه . في واحدة من أقدم مخطوطاتنا اليونانية ، وكذلك في العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال لنا : وبعد أن أخذ كأسًا ، وشكر ، قال ، " خذوا هذه وقسموها على أنفسكم ، لأنني أقول لكم إنني لن أشرب من فاكهة هذه الكرمة من الآن فصاعدًا ، حتى يأتي ملكوتُ الله." ثم أخذ خبزا ، وشكر ،وأخذ قطعة وأعطاهم إياها ، قائلا ," هذا جسدي . لكن انظروا، يد ذلك الشخص الذي سيخونني هي معي على هذه المنضدة . ( لوقا 22 : 17 -19 ) في غالبية مخطوطاتنا ، مع ذلك ، هناك إضافة إلى هذا النص ، وهي تلك الإضافة التي ستبدو مألوفة لكثير من قراء الكتاب المقدس الإنجليزي ، حيث وجدت طريقها إلى معظم الترجمات الحديثة . فبعد أن يقول يسوع " هذا جسدي ،" يواصل حديثه مع هذه الكلمات " الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ." هذه كلمات مألوفة تتحدث عن "شراكة " عشاء ربنا المعروفة أيضًا في شكل شديد الشبه في الرسالة الأولى إلى الكورينثيين (1 كور 11 : 23 – 25 ). على الرغم من حقيقة أن هذه الأعداد مألوفة،هناك أسباب مقنعة تدفعنا للاعتقاد بأنَِّ هذه الأعداد لم تكن في الأصل في إنجيل لوقا بل تمت إضافتها للتأكيد على أن جسد يسوع المكسور والدم المسفوك هما اللذان أتيا "لكم" بالخلاص. أولا،من الصعب تفسير السبب الذي من أجله سيحذف ناسخٌ هذه الأعداد إذا كانت أصيلة في إنجيل لوقا (فليس ثمة نهايات متشابهة (homoeoteleuton) ،على سبيل المثال ،يمكنها أن تفسر هذا الحذف )وخاصة إذا مع ما تمنحه من معنى واضح وسلس عند إضافتها . في الواقع ، معظم الناس ،عندما تحذف هذه الأعداد، سيجدون أن النص سيبدو مبتورا بعض الشئ . غرابة هذه النسخة المبتورة ربما هي التي أدت بالنسَّاخ إلى إضافة هذه الأعداد . فوق ذلك ، ينبغي ملاحظة أن هذه الأعداد،بقدر ما هي مألوفة،لا تمثل مفهوم لوقا الخاص عن موت يسوع .لأنَّ إحدى الخصائص اللافتة للصورة التي يرسمها لوقا لموت يسوع - قد يبدو ذلك غريبا في البداية ـ هي أنه أبدًا لم يشِر ،في أيِّ موضعٍ آخر،أن الموت ذاته هو الذي يجلب الخلاص من الخطيئة . لا يوجد في أي مكان في كتاب لوقا كاملا بمجلديه ( إنجيل لوقا وسفر الأعمال )،أنَّ موت يسوع قيل عنه أنه حدث "من أجلكم ". في الواقع ، في المناسبتين الوحيدتين التي يشير فيهما المصدر الذي استقى منه إنجيل لوقا ( إنجيل مرقس) إلى أنه بموت يسوع جاء الخلاص ( مرقس 10 : 45 ؛ 15 :39 )، غيَّرَ لوقا صياغة النص ( أو حذفها ). لوقا ، إذا قلناها بطريقة أخرى ،كان له مفهومه المختلف بخصوص الطريقة التي من خلالها يؤدي موت يسوع إلى الخلاص عن ما لدى مرقس ( وبولس ، والكتاب المسيحيون الأوائل الآخرون ). من اليسير أن نرى وجهة نظر لوقا المتميزة من خلال ما يتوجب أن يقوله في سفر الأعمال الذي يلقي الرسل فيه عددًا من الأقوال بهدف تحويل الآخرين إلى الإيمان . ليس في أيٍّ من هذه العبارات،مع ذلك،أنَّ الرسل أشاروا فعليًّا إلى أن موت يسوع يجلب تكفير الخطايا ( على سبيل المثال ، في الفصول 3 ، 4 ، 13 ). هذا لا يعني أن موت يسوع لم يكن مهمّا . بل هو مهمٌّ للغاية من وجهة نظر لوقا ـ لكن ليس باعتباره مكفرًا عن الخطايا . عوضا عن ذلك ،موت يسوع هو ما جعل الناس يدركون آثامهم أمام الله ( حيث مات على الرغم من أنه كان بريئًا ). وبمجرد أن يدرك الناس خطيئتهم،يعودون إلى الله بالتوبة ومن ثمّ تُغْفَر لهم خطاياهم . موت يسوع من وجهة نظر لوقا،بطريقة أخرى ،يقود الناس إلى التوبة وهذه التوبة هي التي تجلب الخلاص . ولكن ليس بناءًا على هذه الأعداد المتنازع عليها التي ليس لها وجود في بعض شواهدنا المبكرة : هنا يتم تصوير موت يسوع باعتباره توبة "لكم". في الأصل تبدو الأعداد وكأنها لم تكن جزءا من إنجيل لوقا . فلماذا،إذن،أضيفت ؟ في نزاع حدث بعد ذلك مع مرقيون ، أكد ترتليانوس التالي : أعلن يسوع بوضوحٍ كافٍ ما كان يقصده من ذكره للخبز،عندما سمَّى الخبز جسده الخاص. كما أكَّد على نحوٍ مشابهٍ،عند ذكره للكأس و صناعة العهد الجديد وخَتْمِه بدمه،حقيقة دمه .لأنه ليس هناك دمٌ يمكنه أن يكون في جسد ليس جسدًا من لحم. لذلك من دليل الجسد حصلنا على برهان الجسد،وبرهان الجسد من دليل الدم ( ضد مرقيون 4 ، 40 ) يبدو أن تلك الأعداد أضيفت للتأكيد على جسد المسيح الحقيقيِّ ودمه الذان ضحى بهما حقيقةً من أجل الآخرين. من المحتمل أن لا يكون هذا التأكيد وجهة نظر تخصُّ لوقا، لكنَّ مصدره بالتأكيد كان نسَّاخ ماقبل الأرثوذكسية الذين حرَّفوا نصوص لوقا التي بين أيديهم لكي يجابهوا عقائد الظهوريين المتعلقة بطبيعة المسيح مثل عقيدة مرقيون (9) . عددٌ آخر يبدو أنَّه كان قد أضيف إلى إنجيل لوقا من خلال نُسَّاخ ماقبل الأرثوذكسيّة هو العدد 24 : 12 من إنجيل لوقا ،الذي يقع بعد قيامة يسوع من الأموات تمامًا. بعض أتباع يسوع من النساء ذهبن إلى القبر، فلم يجدنه هناك،وقيل لهم إنه قد أُقيم . فعُدْنَ ليخبرن التلاميذ الذين رفضوا أن يصدقوهنَّ لأنَّ الحكاية قد أدهشتهم باعتبارها " حكاية ساذجة". ثمّ ، في كثير من المخطوطات تقع القصة المذكورة في 24 : 12 : " لكنَّ بطرس قَامَ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ المصنوعة من الكتان مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا فَمَضَى مُتَعَجِّبًا فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ. هناك أسباب ممتازة تجعلنا نعتقد أن هذا العدد لم يكن في الأصل جزءًا من إنجيل لوقا. فهو يحتوي على عدد كبير من السمات الأسلوبية التي ليس لها مثيل في أي موضعٍ آخر من إنجيل لوقا. من بين ذلك غالبية الكلمات المفصلية في النص ،على سبيل المثال ، "انحنى " و " الأكفان المصنوعة من الكتان" ( هناك كلمة أخرى كانت تستخدم للدلالة على ملابس القبر قبل ذلك في الرواية ).فوق ذلك ،من الصعب معرفة السبب الذي يجعل شخصًا ما يرغب في حذف هذا العدد لو كان في الحقيقة يشكَّل جزءًا أصليًّا من الإنجيل ( مرة أخرى ، ليس هناك نهايات متشابهة أو ما إلى ذلك لكي نعتبرها حذفًا غير مقصود ). وكما لاحظ كثيرٌ من القرَّاء ، يبدو العدد وكأنه تلخيص لحكاية وردت في إنجيل يوحنا ( 20 : 3 -10 )حيث يتسابق كلٌّ من بطرس و" التلميذ الحبيب" جريًا إلى القبر ويجدانه فارغًا. هل يمكن أن يكون شخصٌ قد أضاف حكاية مشابهة، بأسلوب مختصر،إلى إنجيل لوقا ؟ لو كان هذا صحيحًا ،فيالها من إضافة مدهشة ! فهي تدعم بشكل جيد جدا موقف مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية من يسوع وأنَّ لم يكن ببساطة شكلا ما من الأشباح وإنما كان له جسدٌ حقيقيٌّ ماديٌّ . أضف إلى ذلك أن هذا هو ما اعترف به كبير التلاميذ نفسه ،أعني بطرس . لذلك،وبدلا من ترك قصة القبر الفارغ على حالتها كـ" حكاية ساذجة " لبعض النساء غير الجديرات بالثقة ،فإنَّ النصَّ في وضعه الحالي يظهر أن القصة لم تكن قابلة للتصديق فحسب بل حقيقية : على اعتبار أن صحتها لم تتأكد إلا من خلال بطرس ( الذي هو رجل مستحق للثقة كما قد يفترض الإنسان ). الأمر الأكثر أهمية هو أن العدد حتى يؤكِّد على الطبيعة الماديَّة لقيامة يسوع، لأنَّ الشئ الوحيد الذي ترك داخل القبر هو دليلٌ ماديٌّ على حدوث القيامة : الكفن المصنوع من الكتان الذي غطَّى جسد يسوع . لقد كانت قيامة جسدية لشخصٍ حقيقيٍّ. أهمية هذه النقطة أشير إليها مرة أخرى من خلال ترتليانوس : الآن لو أنكروا موت (المسيح ) بسبب إنكار كونه جسدًا، فلن يكون ثمَّ تأكيدٌ لحدوث قيامته. فإذا لم يكن قد قام وذلك من أجل السبب ذاته الذي لم يمت من أجله،وحتى بسبب أنه لم يكن يمتلك حقيقة الجسد الذي كما عليه يقع الموت فله يمكن للقيامة أن تقع.على نحوٍ مماثل، لو أمكن دحض قيامة المسيح،فإن قيامتنا أيضًا تنمحي .(ضد مرقيون 3 ، 8 ) لابد أن المسيح كان له جسًدا حسًّيًا حقيقيًّا وأنه قد أقيم حقًا من الموت بالجسد.فليست الآلام و الموت فحسب هما اللذان تحملهما المسيح جسديًّا،بل وأقيم من الأموات جسديًّا: بالنسبة لمسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فقد رفع إلى السماء أيضًا بجسده . آخر قراءة متباينة سنلقي عليها الضوء تأتي من نهاية إنجيل لوقا ،بعد أن حدثت القيامة (ولكن في اليوم ذاته ). تحدَّث يسوع إلى أتباعه للمرة الأخيرة،وبعد ذلك انفصل عنهم : وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ .(لوقا 24 : 51 -52 ) من الطريف أن نلاحظ،مع ذلك،أنَّ هناك زيادة في بعض مخطوطاتنا الأكثر قدمًا- ومن بينها المخطوطة السينائية السكندرية – قد حدثت للنص (10) . فبعد أن تشير إلى أنَّه "أُبعِدَ عنهم ،" تصرح في هذه المخطوطات بأنه " َأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ". إنَّها زيادةٌ هامَّة لأنها تشدِّدُ على مغادرة يسوع جسديًّا خلال ارتفاعه ( بدلا من التعبير الهادئ " نُُقِل "). فإلى حدٍّ ما،هذه قراءة متباينة مثيرة للانتباه لأن المؤلف ذاته،أي لوقا،في كتابه الثاني،سفر الأعمال،يحكي مرة أخرى عن ارتفاع يسوع إلى السماء،لكنَّه يصرح بوضوح أنها حدثت بعد"أربعين يومًا" من وقت حدوث القيامة من بين الأموات ( أعمال 1 : 1-11 ). هذا يجعل من الصعوبة بمكان أن نصدق أن لوقا كتب هذه العبارة موضع الدراسة في لوقا 24 : 51 ـ حيث إنَّه بالتأكيد لن يعتقد أن يسوع قد ارتفع إلى السماء في يوم قيامته لو أنه يشير في بداية كتابه الثاني أنه ارتفع بعد ذلك بأربعين يوما. من الجدير بالملاحظة أيضًا أن الكلمة المفتاحية (key word) موضع الدراسة التي هي "رُفِع was taken up " لم تذكر في أيٍّ موضع آخر سواء في إنجيل لوقا أو في سفر الأعمال . فلماذا يضيف شخص ما هذه الكلمات ؟ نحن نعلم أن مسيحيي ماقبل الأرثوذكسيّة أرادوا أن يؤكدوا على الطبيعة المادية الحقيقية لمغادرة يسوع للأرض:لقد غادر يسوع بشكل ماديٍّ وسيعود ثانية بصورة ماديَّة ليأتي معه بالخلاص الماديِّ.وعلى هذا النحو قاموا بمجادلة الظهوريين الذين تمسكوا بأن هذا كله كان ظهورًا . من المحتمل أن ناسخًا كان مشتركًا في هذه المناظرات قام بتنقيح نصِّه لكي يؤكِّد على هذه القضيَّة . تحريفات النص المضادة للانقساميين المسيحيون الانقساميون الأوائل الاتجاه الثالث الذي كان محط اهتمام مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث له صلة بمجموعات مسيحيَّة كانت ترى المسيح لا باعتباره إنسانًا فحسب (مثلما هو الحال مع التبنِّيِّين) أو إلهًا فحسب ( كما يقول الظهوريُّون ) وإنما ككائنين اثنين ، أحدهما إنسانٌ تمامًا والآخر إله تماما (11) . ربما بمقدورنا أن نطلق على هذا " العقيدة الانقسامية"حول طبيعة المسيح لأنَّها قسمت يسوع المسيح إلى اثنين : يسوع الإنسان ( الذي كان إنسانًا كاملا) و المسيح الإله (الذي كان إلهًا كاملا). وفقا لغالبية القائلين بوجهة النظر هذه،يسوع الإنسان كان مسكونًا على نجوٍ غير دائمٍ بالكائن الإلهيِّ ،الذي هو المسيح ،وهذا مكَّنه من إنجاز أعماله الإعجازية و بتبليغ تعاليمه؛ لكنَّ المسيح فارق يسوع قبل موته،مجبرًا إياه على مواجهة الصلب وحده . هذه العقيدة الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح كان من الشائع الدفاع عنها غالبًا عبر مجموعة من المسيحيين يطلق عليهم العلماء اسم "الغنوصيين" (12) .مصطلح الغنُّوصيَّة يأتي من الكلمة اليونانية (جينوسيس) التي تعني المعرفة.وهي تنطبق على مجموعات واسعة التنوع من المسيحيين الأوائل الذين شدَّدوا على أهمية المعرفة الباطنية في الوصول إلى الخلاص . وفقا لمعظم هذه المجموعات ، العالم المادي الذي نحيا فيه لم يكن من عمل يدي الإله الواحد الحقيقيِّ. فلقد جاء نتيجة لكارثة وقعت في المملكة السماويَّة (divine realm) التي طُرِد منها أحد الكائنات الإلهية (الكثيرة) لأسبابٍ غامضةٍ من نواحي السماء ؛ وكنتيجة لسقوط العالم الماديِّ من حالة القداسة فقد قام إلهٌ أقل مقامًا بخلقه وذلك عبر سَبْيِه وسَجْنِه في أجسام الآدميين هنا على الأرض . بعض الكائنات البشرية لذلك في داخلهم ومضة إلهية وهم بحاجة إلى تعلُّم حقيقة كينونتهم ومن أين جاءوا وكيف جاءوا إلى هنا وكيف يمكنهم العودة . معرفة هذه الحقيقة ستقودهم إلى خلاصهم . تتكون الحقيقة من تعاليم باطنية و"معرفة"(جنوسيس) غامضة لا يمكن الحصول عليها إلا عبر كائنٍ إلهيٍّ من المملكة السماوية .حسب المسيحيين الغنوصيين، المسيح هو الكاشف الإلهي لحقائق الخلاص؛ فقد دخل المسيح ،في كثير من الأفكار الغنوصية، إلى يسوع الإنسان أثناء العماد الأمر الذي أهَّلَه لمهمَّتِه التبشيرية ثم بعد ذلك غادره ليموت على الصليب في النهاية.وهذا السبب الذي جعل يسوع يصرخ،" إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟" فبالنسبة لهؤلاء الغنوصيين، كان المسيح قد غادر يسوع بالمعنى الحرفيِّ ( أو "تركه وراءه "). بعد موت يسوع أقامه من بين الأموات كمكافأة من أجل إخلاصه واستمر عبره في تعليم تلاميذه الحقائق الباطنيَّة التي بإمكانها أن تقودهم إلى الخلاص. لقد وجد مسيحيو ماقبل الأرثوذكسية هذا التعليم مستهجنًا تقريبًا من كل الوجوه. فبالنسبة إليهم ، العالم الماديّ ليس مكانًا شريرًا نشأ عن كارثة كونيَّة وإنما هو خليقة صالحة للإله الواحد الحقيقيّ. والخلاص،عندهم، يأتي عبر الإيمان بموت المسيح و قيامته وليس من خلال تعلّم المعرفة الروحية الباطنيَّة التي بإمكانها أن تضئ حقيقة الوضع الإنساني . والأمر الأهم لأهدافنا في هذا الفصل هو أن يسوع المسيح ،بالنسبة إليهم، لم يكن كائنين اثنين وإنَّما كائنٌ واحدٌ إلهيٌّ وبشريٌّ معًا في وقت واحد وفي الوقت ذاته . تغييرات النص لدوافع مضادة للانقساميين لعبت النزاعات حول عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح دورًا في نسخ النصوص التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد. رأينا من قبل بالفعل موضعًا لقراءة متباينة تعرضنا لها بالبحث في الفصل الخامس وهي تلك الموجودة في سفر العبرانيين 2 : 9 والتي قيل فيها عن يسوع ،أي في نص الرسالة الأصلي، إنَّه مات "منفصلا عن الله ". في نقاشنا هناك، رأينا أن معظم النساخ كانوا قد قبلوا القراءة الأخرى التي أشارت إلى أن المسيح مات "بنعمة الله " على الرغم من أن ذلك ليس هو النص الذي كتبه المؤلِّف الأصليُّ . لكننا لم نتعرض بالتفصيل لقضيَّة السبب الذي ربما جعل النساخ يرون أن النص في وضعه الأصلي ربما يمثِّل خطورة ولذلك ينبغي تعديله .الآن،في وجود هذه الخلفية الموجزة عن المفاهيم الغنوصية تجاه المسيح،يصبح التغيير منطقيًّا على نحوٍ أكبر.لأنه وفقًا للمعتقدات التي تبناها الانقساميون بخصوص طبيعة المسيح ،مات المسيح بالفعل "منفصلا عن الله" وذلك في أنَّه عندما كان على الصليب غادره العنصر الإلهيُّ الذي كان قد سكنه في وقتٍ سابق ولذلك مات يسوع وحده . ولأنهم كانوا واعين إلى أن النص يمكن أن يستعمل لتدعيم وجهة النظر هذه، أحدث النسَّاخ المسيحيون تغييرًا عميقًًا رغم بساطته. الآن،بدلا من أن يشير النص إلى أن يسوع قد مات منفصلا عن الله، إذ به أكد أن وفاة المسيح تمَّت "بنعمة الله". هذا ،إذن،تحريفٌ موجَّه ضدَّ التعاليم الانقسامية . نموذجٌ آخرُ مثير للاهتمام يخص هذه الظاهرة يقع تمامًا في الموضع الذي ربما يتوقع المرء منَّا أن يجده فيه ، في رواية الإنجيل لحادثة صلب يسوع . كما أشرت من قبل،في إنجيل مرقس التزم يسوع الصمت في كل موقفٍ من مواقفِ عملية الصلب . صلبه الجنود وسخر منه المارَّة و زعماء اليهود ، كما سخر منه أيضًا مجرمان عُلِّقوا معه على الصليب ؛ لكنه لم ينطق ببنت شفة – حتى اللحظة النهائية حينما يقترب الموت ويصرخ يسوع بكلماتٍ مقتبسة من مزمور 22 :"إلوي ،إلوي ،لما شبقتني ؟" ،التي تترجم كالآتي:"إلهي ، إلهي ،لما تركتني ؟"(مرقس 15 :34 ). من الطريف أن نلاحظ أنَّه وفقًا لما ذكره إيريناوس،الكاتب الذي عاش في عصر ماقبل الأرثوذكسية ،كان إنجيل مرقس هو المفضَّل لدى هؤلاء "الذين فصلوا يسوع عن المسيح " – أي لدى الغنوصيين الذي اعتنقوا عقائد انقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح(13). لدينا من الأدلة القوية ما يجعلنا نفترض أن بعض الغنوصيين أخذوا هذه الجملة الأخيرة التي قالها يسوع على معناها الحرفيِّ لكي يثبتوا أن هذه اللحظة هي التي انفصل فيها المسيح ذو الطبيعة الإلهية عن يسوع (حيث أن اللاهوت لا يمكن أن يذوق الفناء والموت ). الدليل يأتي من الوثائق الغنوصية التي تعتقد في أهمية هذه اللحظة من حياة يسوع . لذلك ،على سبيل المثال ، يقتبس إنجيل بطرس غير القانوني(apocryphal) ،الذي راودت البعضَ الشكوكُ في احتوائه على عقائد انقسامية بخصوص طبيعة المسيح ،هذه الكلمات بطريقة مغايرة نوعًا ما فيقول :" قوتي،قوتي،لقد غادرتني!" الأمر الأشد وقعًا هو أن النص الغنوصي المعروف باسم إنجيل فيليب ذكر النص ثمَّ أُعطاه تفسيرا انقساميًّا :"إلهي ، إلهي ، لماذا أيها السيد(Lord) تركتني ؟" ولأنَّه قال هذه الكلمات على الصليب،فلابد أنَّه في هذه اللحظة ذاتها قد انقسم . مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية كان لديهم معلومات عن الشيئين كليهما:الأناجيل وتفسيراتها لهذه اللحظة الحاسمة من مشهد صلب يسوع.ليس إذن من قبيل المفاجئة أن نص إنجيل مرقس تم التلاعب به عبر بعض النساخ بطريقة راوغت هذا التفسير الغنوصي. في إحدى المخطوطات اليونانية و العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال أن يسوع لم يطلق " صرخة الافتراق " التقليدية التي وردت في مزمور 22 ، لكنه بدلا من ذلك صرخ :" إلهي ،إلهي ، لماذا سخرت مني ؟" هذا التغيير الذي تعرض له النص نتج عنه قراءة طريفة – بل ومنسجمة تماما مع سياقها الأدبي. لأنه كما أشرت من قبل ،كلُّ إنسانٍ آخر تقريبًا في القصة قد سخر من يسوع عند هذه اللحظة – القادة اليهود والمارَّة والسارقان . والآن،وفي وجود هذه القراءة،انضم الله أيضًا حسب قول النص إلى قائمة الساخرين من يسوع . يسوع ، شاعرًا باليأس ،يطلق صرخة مدوية ويموت. إنه مشهد قوي ومثير للشفقة .هذه القراءة رغم ذلك ليست هي القراءة أصلية،وذلك يتضح من كونها مفقودة تقريبًا في كل شواهدنا الأقدم والأفضل (بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى النص السكندري) وكذلك لكونها لا تتوافق مع الكلمات الآرامية التي تفوه بها يسوع( لما شبقتني – التي تعني "لماذا تركتني،" وليس " لماذا سخرت منِّي"). لماذا إذن حرَّف النُسَّاخ هذا النص؟ إذا سلَّمنا بمدى فائدتها لمن يدافعون عن العقائد التي تخصُّ طبيعة المسيح وذلك من وجهة نظر الإنقساميين ،فحينها سيظلُّ هناك سؤالٌ صغيرٌ عن سبب ذلك. لقد كان كُتَّابُ عصر ما قبل الأرثوذكسية معنيِّين بأن لا يستخدمَ خصومُهم الغنوصيُّون النص ضدهم فقاموا بإحداث تغيير هامٍّ ومتناغمٍ مع السياق الذي عاشوا في ظله،وذلك لكي يقال من الآن فصاعدًا عن الله إنه سخر من يسوع بدلا من أن يقالَ عنه إنَّه تركه. مثالنا الأخير على هذا النوع من القراءات المتباينة الذي كان سبب حدوثه الرغبة في الوقوف ضد التعاليم الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح سنسوقه من فقرة تقع في الرسالة الأولى ليوحنا. ففي أقدم شكلٍ معروفٍ للعدد 4 : 23 ،يقال لنا :"بهذا تعرفون روح الله . كل روح تعترف بأن يسوع قد جاء في الجسد فهي من الله؛وكل روح لا تعترف بيسوع فهي ليست من الله.هذا هو روح ضد المسيح." إنها فقرة واضحة وصريحة : هؤلاء الذين اعترفوا بأن يسوع جاء حقًا في الجسد (أي رفضوا قبول وجهات النظر الظهورية على سبيل المثال ) هم وحدهم من ينتمون إلى الله؛أما هؤلاء الذين رفضوا الاعتراف بهذا فهم مقاومون للمسيح (أي أنهم أضداد المسيح ). مع ذلك ،هناك قراءة مختلفة طريفة نجدها في النصف الثاني من هذه الفقرة . فبدلا من الإشارة إلى الشخص الذي " لم يعترف بيسوع "، هناك العديد من الشواهد تشير إلى الشخص الذي " يقسم يسوع " ماذا يعني هذا - يقسم يسوع – ولماذا نجحت هذه القراءة في أن تشق طريقها إلى بعض المخطوطات ؟ في البدء ، ينبغي أن أشدِّدَ على أن عدد المخطوطات التي تحوي هذه القراءة ليس بالكبير جدا .ففي الشواهد اليونانية لا توجد إلا في هامش مخطوطة واحدة يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر(وهي المخطوطة 1739 ). لكنَّ هذه المخطوطة،كما رأينا من قبل،هي مخطوطة مميزة لأنها فيما يبدو قد نسخت من مخطوطة ترجع إلى القرن الرابع وهوامشها تسجل أسماء آباء الكنيسة الذي كان لديهم قراءات مختلفة لأجزاء محددة من النص. في هذا الموضع تحديدًا ،يشير الهامش إلى أن القراءة " يقسم يسوع " كانت معروفة لدى العديد من آباء الكنيسة في أواخر القرن الثاني و بواكير القرن الثالث،من أمثال إيريناوس وكليمنت وأوريجانوس. أضف إلى ذلك أنها تظهر في الفولجاتا اللاتينية. ومن بين أمور أخرى ، هذا يوضح أن هذه القراءة المختلفة كانت مشهورة خلال العصر الذي كان مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية يتنازعون مع الغنوصيين حول قضايا طبيعة المسيح. مع ذلك، هذه القراءة لا يمكن على الأرجح أن تقبل باعتبارها النص" الأصليّ " مع التسليم بقلة الأدلة التي تعضد موثوقيتها- فهي مفقودة،على سبيل المثال،في كل مخطوطاتنا التي تصنَّف باعتبارها الأقدم والأفضل بين المخطوطات ( في الواقع ليس لها أي وجود في أي مخطوطة يونانية باستثناء هذا الوجود في الهامش). لماذا،رغم كل ذلك،أضافها أحد النسَّاخ المسيحيين ؟ يبدو أنها قد أضيفت من أجل اختلاق مطعن "كتابيٍّ" على عقائد الانقساميين التي تتعلق بطبيعة المسيح،التي تفرق فيها المسيح و يسوع بعضهما عن الآخر إلى كيانات منفصلة،أو بحسب تعبير هذه القراءة المختلفة التي جاء فيها أن يسوع قد " انفصل " عن المسيح. أيُّ إنسانٍ يؤمن بصحة وجهة النظر هذه، حسب ما تفترض القراءة النصية المختلفة، فهو ليس من الله ،بل بالأحرى هو ضد المسيح . مرة أخرى ،إذن ، لدينا ها هنا قراءة تولدت عن سياق النزاعات المتعلقة بطبيعة المسيح التي اندلعت في القرنين الثاني و الثالث . الخاتمة أحد العوامل التي ساهمت في وقوع تحريفات النساخ لنصوصهم هو السياق التاريخي الذي عاشوا في ظلِّه . كان النسَّاخ المسيحيُّون في القرنين الثاني والثالث متورطين في النزاعات و المناظرات التي حدثت في زمنهم ، وقد أثَّرت هذه النزاعات أحيانًا في عملية إعادة إنتاج النصوص التي اندلعت بخصوصها هذه النزاعات. بكلمات أخرى ،قام النساخ في بعض الأحيان بتحريف نصوصهم لكي يدفعوها لأن تقول ما كانوا يعتقدون مسبقًا أنَّها تعنيه .لم يكن هذا بالضرورة أمرًا سيئًا ، لأننا على الأرجح يمكننا أن نفترض أن معظم النساخ الذين أدخلوا تغييرات إلى نصوصهم غالبًا ما فعلوا ذلك إما بسبب عدم الانتباه أو بنيَّة حسنة . لكنَّ الحقيقة، مع ذلك،هي أنه بمجرد أن قام هؤلاء بتحريف نصوصهم، أصبحت كلمات النصوص مختلفة تمام الاختلاف وهذه الكلمات التي لحقها التغيير أثَّرت بالضرورة على تفسير القرَّاء المتأخِّرين لهذه الكلمات. كانت النزاعات اللاهوتية التي اندلعت في القرنين الثاني والثالث من بين أسباب هذه التحريفات لأنَّ النسَّاخَ أحيانًا عدَّلوا نصوصهم في ضوء العقائد التي اعتنقها التبنيُّون والظهوريُّون والانقساميون فيما يتعلق بالمسيح وطبيعته،وهم الذين كانوا يتنافسون من أجل الفوز بموطء قدم تحت الشمس في هذه الفترة. هناك عوامل أخرى ذات بعدٍ تاريخيٍّ كانت مؤثرة أيضًا في هذا الصدد ، منها ما يتعلق على نحوٍ أقل بالنزاع اللاهوتي و على نحوٍ أكبر بصراعات هذا العصر الاجتماعية ، مثل الصراع حول دور النساء في الكنائس المسيحية الأولى و العداء المسيحيِّ لليهود والدفاع المسيحي عن الإيمان ضد مطاعن الخصوم الوثنيين. في الفصل التالي سنرى كيف أن هذه الصراعات الأخرى ذات الطابع الاجتماعي تركت أثارها على النساخ المسيحييِّن الذين نسخوا نصوص الكتاب المقدس في القرون التي سبقت العصر الذي أصبح النساخ المحترفون هم من ينسخون النصوص فيه.هوامش الفصل السادس
|
الفصل السابع بيئات النص الاجتماعية ربما من المأمون تمامًا أن نقول إن عملية نَسْخ النصوص المسيحية المبكرة كانت في العادة عملية «محافِظة». فقد كان النساخ -سواء أكانوا من هواة القرون الأولى أم كانوا من المحترفين في العصور الوسطى- عازمين على «المحافظة» على التقليد النصيِِّ الذي كانوا يقومون بنسخه. لم يكن اهتمامهم الأول منصبًّا على تعديل التقليد، بل على الحفاظ عليه لمصلحتهم الخاصة ولمصلحة من سيأتون بعدهم. معظم النساخ، بلا شك، حاولوا أن يؤدُّوا عملهم في التأكد من أن النص الذي يقومون بإعادة إنتاجه كان هو النص نفسه الذي ورثوه بنزاهة. رغم ذلك، حدث وأن وقعت التغييرات في النصوص المسيحية المبكرة. فالنساخ سيقعون أحيانًا ـ بل في كثيرٍ من الأحيان ـ في الأخطاء غير المقصودة، من خطاء في تهجئة كلمة ما أو حذف لسطر أو ببساطة عبر إفساد الجُمَل التي كان من المفترض أن يقوموا بنسخها؛ وأحيانا قاموا بتغيير النص عمدًا مع سبق الإصرار والترصُّد حيث أدخلوا «تصحيحات» إلى النص اتضح في الواقع أنَّها تحريفٌ لما كان مؤلِّفُ النصِّ قد كتبه في الأصل. قمنا في الفصل السابق بدراسة أحد أنواعٍ التغييرات العمدية ـ وهي تلك المتصلة ببعض الصراعات اللاهوتية التي اضطرم أوارها في القرنين الثاني والثالث، أي في الوقت الذي وقعت فيه معظم التغييرات التي شهدها تقليدنا المحفوظ في شكل نصيّ. لكني لا أريد أن أؤكد صحة الانطباع الخاطئ أنَّ هذا النوع من التغييرات اللاهوتية للنص كان يقع في كل مرة يجلس فيها ناسخ لينسخ فقرة من الفقرات. كان هذا يحدث أحيانا. وعندما كان يقع، كان له تأثيرٌ بعيدُ الغور على النص. في هذا الفصل، سنرصد عوامل أخرى تتعلق بالظروف والملابسات التي أدَّت، في بعض الأحيان، إلى تحريف النص. هناك ثلاثة أنواع، على وجه الخصوص، من النزاعات التي كانت ملحوظة جدًا في المجتمعات المسيحية المبكرة سنقوم بدراستها: نزاعٌ داخليٌّ حول دور النساء في الكنيسة ونزاعين آخرين خارجيين، أحدهما مع اليهود من غير المسيحيين والآخر مع الخصوم الوثنيين. وسنرى في كل نوع على حدى كيف أنَّ هذه النزاعات، في أحايين متفرقة، لعبت أيضا دورًا في تحريف النصوص التي كان يقوم بإعادة إنتاجها لمصلحة المجتمع نسَّاخٌ هم أنفسهم كانوا متورطين في هذه النزاعات. النساء ونصوص الكتاب المقدس لم تلعب النزاعات التي ثارت حول دور المرأة في الكنيسة دورا كبيرًا في تحريف نصوص العهد الجديد، لكنها لعبت بالفعل دورا وذلك في فقراتٍ طريفةٍ وهامَّة. نحتاج، لكي نفهم أنواع التغييرات التي وقعت للنص، أن نعرف بعض الخلفيات عن طبيعة هذه النزاعات(117). النساء في الكنيسة الأولى وصل العلماء المعاصرون إلى درجة الاعتراف بأنَّ النزاعات التي دارت حول دور المرأة في الكنيسة الأولى وقعت تحديدًا لأن النساء كان لهن دور، وكثيرا ما كان دورًا كبيرًا ومرموقًا لدى العامة. فوق ذلك، كان هذا هو الوضع المألوف منذ بدايات المسيحية ذاتها، ابتداءً من خدمة يسوع. نعم كان التلاميذ الأكثر قربًا من يسوع ـ الحواريين الاثنى عشر ـ جميعهم من الرجال، وهو المتوقع من معلّم يهودي في فلسطين في القرن الأول. إلا أن أناجيلنا المبكرة تشير إلى أن يسوع أيضًا كان يرافقه نساء في أثناء رحلاته، وأن بعضًا من هؤلاء النسوة كنّ من الداعمات له ولتلاميذه من الناحية الماليَّة، حيث عملن كمساعدات له أثناء تجواله للقيام بعمله التبشيري (انظر مرقس 15: 40 -51، لوقا 8: 1-3). يقال لنا إن يسوع قد انخرط في حوار علني مع بعض النسوة وأنه بشَّرهن علانية (مرقس 7: 24 – 30؛ يوحنا 4: 1- 42). ويقال لنا، على وجه الخصوص، إن النسوة رافقن يسوع أثناء رحلته الأخيرة إلى أورشليم، حيث كنَّ حاضرات عند صلبه وحيث بقين، وحدهنّ، على ولائهنَّ له حتى النهاية في الوقت الذي فرّ فيه التلاميذ الذكور (متى 27: 55؛ مرقس 15: 40- 41). الأهم من هذا كله هو أنَّ كل إنجيلٍ من أناجيلنا يشير إلى أنَّ النسوة ـ مريم المجدلية وحدها، أو مع رفيقاتها الأخريات ـ هن اللاتي اكتشفن قبره الفارغ وهكذا كنّ أولَ من عرفن وشهِدن على قيامة يسوع من بين الأموات (متى 28: 1-10؛ مرقس 16: 1- 8؛ لوقا 23: 55 – 24: 10؛ ويوحنا 20: 1-2). وإنه لأمر مثير أن نسأل عن ماهية الرسالة التي قدمها يسوع فجذبت النسوة على وجه الخصوص. معظم العلماء يعتقدون أن يسوع أعلن عن مملكة الله المزمع أن تأتي، والتي لن يكون ثمة ظلم فيها ولا معاناة ولا شرّ، والتي فيها كل الناس، الأغنياء منهم والفقراء، العبيد والأحرار، الرجال والنساء، سيكونون متساويين. يبدو جليًّا أنَّ هذا كان أمرا جذَّابًا على نحو مخصوص كرسالة أمل للذين كانوا محرومين ـ مثل الفقراء، المرضى، المنبوذين.... والنساء(118) في هذا العصر. على أية حال، من الواضح أنه حتى بعد موته، استمرت رسالة يسوع في جذبها للنساء. بعض الخصوم القدماء للمسيحية من بين الوثنيين، بمن فيهم سيلزس، على سبيل المثال، الناقد الذي عاش في أواخر القرن الثاني والذي ذكرناه من قبل، انتقد الديانة المسيحية على خلفية أن أتباعها في الغالب كانوا من الأطفال والعبيد والنساء (أي من هؤلاء الذين لم يكونوا في الغالب يتمتعون بمركز اجتماعي داخل المجتمع). الغريب أنَّ أوريجانوس، الذي كتب الرد المسيحي على سيلزس، لم ينكر التهمة لكنَّه حاول أن يحوَِّلها ضد سيلزس في محاولة لإظهار أن الله يستطيع أن يأخذ ما هو ضعيف وأن يكسوه بالقوة. لكننا لسنا بحاجة إلى الانتظار حتى قدوم أواخر القرن الثاني لكي نرى أنَّ النساء لعبن دورًا رئيسًا في الكنائس المسيحية المبكرة. لدينا بالفعل معرفة واضحة بهذا الأمر من الكاتب المسيحي القديم الذي نجت أعماله من الضياع، بولس الرسول. الرسائل البولسية التي يتضمنها العهد الجديد تقدم دليلا ثريًّا على أنَّ النساء تبوَّأْن مكانة مميَّزة في المجتمعات المسيحية الناهضة وذلك منذ أقدم الأزمنة. ربما ننظر، على سبيل المثال، إلى رسالة بولس إلى أهل رومية، التي يرسل في نهايتها تحياته إلى أعضاء عديدين من الكنيسة الرومانية (الفصل 16). على الرغم من أنَّ بولس يذكر هنا أسماء عدد أكبر من الرجال في مقابل النساء، إلا أنه من الواضح أنَّ النساء لم يكن ينظر إليهن على الإطلاق باعتبراهنَّ أدنى مرتبةً من نظرائهنَّ الذكور في داخل الكنيسة. من بين من يذكرهن بولس، على سبيل المثال، «فيبي» التي كانت شماسة (deacon) (أو قسيسة) فِي كَنْخَرِيَا، والمساعدة الخاصة لبولس، والتي أولاها ثقته في القيام بمهمة حمل رسالته إلى رومية (الأعداد 1-2). وهناك أيضا فريسكا التي كانت، مع زوجها أكيلا، مسئولة عن العمل التبشيري بين الأمم وكانا يدعمان كنيسة مسيحية في بيتهما (رومية 16: 3-4: ولاحظوا أنها ذكرت أولا وقبل زوجها). ثم هناك مريم، زميلة بولس التي تعمل بين الرومانيين (العدد 6)؛ وهناك أيضا النساء «تريفينا» و«تريفوسا»، و«برسيس»، اللاتي يطلق عليهن بولس «شركاء العمل» في الإنجيل (العددين 6، 12). وهناك جوليا وأم روفس وأخت نيريوس، وكلهنَّ فيما يبدو كان لهنَّ مكانةً عالية داخل الجماعة (العددين 13، 15). الأكثر إثارة للدهشة، وجود يونياس، المرأة التي يدعوها بولس «قبلي بين الرسل» (العدد 7). جماعة الرسل كانت كما هو واضح أوسع من قائمة الاثني عشر رجلا المشهورين لدى معظم الناس. النساء، باختصار، يبدو أنهنَّ لعبن دورًا هامًّا في الكنائس في عصر بولس. هذه المكانة العالية إلى حد ما لم تكن بالأمر المألوف في العالم اليوناني الروماني. وربما تكون هذه المكانة قد ترسخَّت، كما أعتقد، بإعلان يسوع أنَّ المملكة المزمع أن تأتي ستعتمد المساواة بين الرجال والنساء. كانت هذه، فيما يبدو، هي كذلك رسالة بولس كما يمكن أن نلحظ، على سبيل المثال، في إعلانه الشهير لأهل غلاطية: لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ (غلاطية 3: 27-28) المساواة في المسيح ربما تجسدت في طقوس العبادة الفعلية للجماعات التي أقامها بولس. فبدلا من التزام الصمت كـ «سامعين للكلمة»، يبدو أن النساء شاركن بنشاط في اللقاءات الأسبوعية للجماعة، حيث شاركن، على سبيل المثال، بالصلاة والتنبؤ تمامًا كما كان الرجال يفعلون (1 كور 11-4 ,5). في الوقت ذاته، بحسب المفسرين المعاصرين، يبدو أنَّ بولس لم يصل برؤيته للعلاقة بين الرجال والنساء في المسيح إلى الحد الذي يمكن أن نظنه كنتيجة منطقية لهذه العلاقة. فلقد أمر بالفعل، على سبيل المثال، أن تغطي النساء رؤوسهن عندما يتنبأن ويصلين في الكنيسةلكي يظهرن كـ «خاضعات لسلطان» (1كور 11: 3-16، خاصة العدد 10). بولس، بكلمات أخرى، لم يثر انقلابا اجتماعيًّا في العلاقة بين الرجال والنساء ـ مثلما لم يدع إلى إلغاء العبوديّة، على الرغم من أنه ادّعى أنه ليس ثمّ «عبدٌ ولا حرٌّ «في المسيح. بل أصرّ بدلا من ذلك على أنه ما دام «الوقت قليل «(قبل مجئ المملكة)، فإنَّ كل إنسان ينبغي أن يكون راضيًا عن الأوضاع المستقرة وأنه ينبغي أن لا يسعى أحدٌ ما إلى تغيير وضعه الاجتماعي ـ سواء أكان عبدًا أم حرًّا، متزوجا أم أعذبا، ذكرًا أم أنثى (1كور 7: 17 – 24). في أفضل الأحوال، إذن، يمكن النظر إلى هذا باعتباره موقفًا متضاربًا تجاه دور النساء: فلقد كنَّ متساويات في المسيح وكان مسموحًا لهنَّ أن يشاركن في حياة الجماعة، ولكن باعتبارهن نساءً، لا رجالا (فلم يكُنّ، على سبيل المثال، قادرات على نزع أغطية رؤوسهن ليتساوين مع الرجال، أي في أن رؤوس الرجال ليست خاضعة «لسلطان»). هذه الازدواجية من جانب بولس كان لها أثرٌ مثيرٌ للدهشة على دور النساء داخل الكنائس فيما تلى العصر الذي عاش فيه. ففي بعض الكنائس تمَّ التأكيد على المساواة في المسيح؛ في البعض الآخر كانت الضرورة تتطلب أن تظل النساء خاضعاتٍ للرجال. وهكذا في بعض الكنائس، اضطلعت النساء بأدوار قيادية شديدة الأهمية؛ وفي البعض الآخر، شحُبَت أدوارهن وأُخرِسَت أصواتُهنّ. إذا قرأنا الوثائق المتأخرة المرتبطة بالكنائس التي أقامها بولس، بعد موته، يمكننا أن نرى أنَّ النزاعات قد اندلعت حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه النساء؛ في النهاية كان ثمة جهود تبذل لقمع دور النساء في الكنائس تمامًا. يتضح هذا من إحدى الرسائل التي نسبت إلى بولس. أصبح العلماء اليوم بشكل عام على قناعة من أنَّ الرسالة الأولى إلى تيموثاوس لم يكتبها بولس بل كتبها واحدٌ من أتباعه المتأخرين من الجيل الثاني من تلامذته (119). في هذه الرسالة، في فقرة من الفقرات غير المشهورة التي تتناول النساء في العهد الجديد، يقال لنا إنَّ النساء يجب أن لا يسمح لهنَّ أن يعلمن الرجال لأنهن خلقن أقل شأنا، كما أشار إلى ذلك الله ذاته في الشريعة، حيث خلق الله حواء الثانية في الترتيب من أجل الرجل؛ وأنَّ امرأة (في إشارة إلى حواء) يجب أن لا تتسلط على رجل (في إشارة إلى آدم) من خلال قيامها بالتعليم. علاوة على ذلك، وفقا لهذا المؤلف، كلُّ إنسانٍ يعرف ما يحدث عندما تتولى امرأة القيام بدور المعلم: يغويها (الشيطان) بلا شك وتقود الرجل إلى الضلال. لذلك فعلى النساء أن يبقين في المنزل وأن يحافظن على القيام بأعمال البر التي تناسب المرأة، من إنجاب الأطفال لأزواجهن والالتزام بالتعقل. أو كما يقول النص ذاته: لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ. وَلَكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي التَّعَدِّي، وَلَكِنَّهَا سَتَخْلُصُ بِوِلاَدَةِ الأَوْلاَدِ، إِنْ ثَبَتْنَ فِي الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْقَدَاسَةِ مَعَ التَّعَقُّلِ (1تيموثاوس 2: 11 -15) ياله من فرق شاسع بين هذا وبين رؤية بولس أنه «في المسيح... ليس ثمة ذكر أو أنثى» وكلما تحركنا باتجاه القرن الثاني، إذ بخطوط المعركة تبدو مرسومة على نحوٍ أوضح. فهناك بعض الجماعات المسيحية التي تؤكد على أهمية النساء وتسمح لهن بالاضطلاع بأدوار بارزة داخل الكنيسة، وهناك آخرون يؤمنون بأن النساء ينبغي أن يحافظن على صمتهن وخضوعهن لرجال الجماعة. النساخ الذين كانوا يقومون بنسخ النصوص التي أصبحت فيما بعد الكتاب المقدس كانوا بصورة واضحة مشاركين في هذه الصراعات. وأحيانا كانت هذه الصراعات تترك أثرا على النص الذي ينسخ، حيث غُيِّرَت فقرات لكي تعكس وجهات نظر النساخ الذين كانوا يعيدون إنتاجها. تقريبا في كل موضع يحدث فيه تغير من هذا النوع، يتعرض النص للتغيير لكي يحد من دور المرأة ولتقليل أهميتها بالنسبة للحركة المسيحية. في هذا الجزء يمكننا أن نرصد بعض الأمثلة القليلة. التحريفات النصية المتعلقة بالنساء واحدة من أهم الفقرات التي تتعلق بالنقاش الحالي حول دور النساء في الكنيسة نجده في 1 كورنثيوس الإصحاح 14. كما هو الحال في معظم ترجماتنا الإنجليزية الحديثة، تُقرأ الفقرة على النحو التالي: لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلَهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلَهُ سَلاَمٍ كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ. لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا. وَلَكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئًا فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي الْبَيْتِ لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ. أَمْ مِنْكُمْ خَرَجَتْ كَلِمَةُ اللهِ؟ أَمْ إِلَيْكُمْ وَحْدَكُمُ انْتَهَتْ؟ تبدو الفقرة كأمر واضح وصريح للنساء بأن لا يتكلمن (فضلا عن أن يعلِّمن!) داخل الكنيسة، تماما مثلما هو الحال مع الفقرة الموجودة في 1تيموثي الإصحاح 2. معظم العلماء، كما رأينا، على قناعة بأن بولس لم يكتب هذه الفقرة الواردة في 1 تيموثي وذلك لأنها جزء من رسالة تبدو وكأنها قد كتبت بمعرفة أحد أتباع بولس من الجيل الثاني ثمَّ نسبت إلى بولس. ورغم أنَّ أحدًا لا يشك أنَّ بولس، مع ذلك، قد كتب الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. إلا أنَّ ثمة شكوكًا تحوم حول هذه الفقرة فحسب. لأنَّ العددين موضع البحث (أعني العددين 34، 35)، كما سيتضح، تغيَّر موضعهما في بعض من شواهدنا النصية الهامة. ففي مخطوطات يونانية ثلاث وشاهدين اثنين لاتينيين، نجدهما لا في هذا الموضع، بعد العدد 33، وإنما في موضع مـتأخر بعد العدد 40. هذا ما دعا بعض العلماء للافتراض بأنَّ هذه الأعداد لم يكتبها بولس وإنما كانت في الأصل نوعًا من الهوامش أضيفت بمعرفة أحد النساخ، ربما تحت تأثير الأعداد في 1 تيموثي الإصحاح 2. بعد ذلك أدخل هذا الهامش في مواضع مختلفة من النص عبر نسَّاخٍ متعددين ـ البعض يضع هذا الهامش بعد العدد 33 والآخرون بعد العدد 40. هناك أسباب معقولة تجعلنا نعتقد أنَّ بولس لم يكتب هذه الأعداد أصلا. فأولا، هذه الأعداد غير منسجمة مع سياقها المباشر. ففي هذا الجزء من الإصحاح 14 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، يشير بولس إلى قضية التنبُّوء في الكنيسة ويعطي تعليمات للأنبياء المسيحيين بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها سلوكهم أثناء طقوس العبادة المسيحية. هذا هو موضوع الأعداد من 26 إلى 33، وهو مرة أخرى موضوع الأعداد من 36 إلى 40. فلو أننا حذفنا العددين 34 و35 من سياقهما، فإن تدفق الفقرة سيبدو سلسًا باعتباره حديثًا عن دور الأنبياء المسيحيين. وحينها يبدو الحديث عن النساء وكأنه حشر في سياق النص المباشر يقطع التعاليم التي يعطيها بولس بخصوص قضية أخرى مختلفة. هذان العددان لا يبدو أنهما فقط محشوران في سياق الإصحاح 14، بل إنهما يبدوان أيضا غريبين عن ما يقوله بولس بوضوح في كل موضع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. فبولس في موضعٍ سابق خلال هذا السفر، كما ذكرنا بالفعل من قبل، يعطي تعليمات للنساء اللائي يتكلمن داخل الكنيسة: فوفقا للإصحاح 11، فإنهن عندما يصلين ويتنبأن ـ وهي الأعمال التي كانت دائما ما تتمُ بصوتٍ عالٍ خلال إقامة طقوس العبادة المسيحية ـ فإنه يتوجَب عليهن أن يكنَّ متأكداتٍ من ارتدائهن للحجاب على رؤوسهن (11: 2-16). في هذه الفقرة، التي لا يرتاب أحدٌ في صحة نسبتها إلى بولس، من الواضح أنَّ بولس يدرك أنَّ النساء يستطعن أن يتكلمن، بل ويمارسن الكلام بالفعل داخل الكنيسة. في الفقرة المتنازع عليها في الإصحاح 14، مع ذلك، من الواضح أن «بولس» * يحرِّم على النساء أن يتكلمن مطلقًا. من الصعب التوفيق بين وجهتيِّ النظر المختلفتين هاتين ـ فإما أن بولس يسمح للنساء بالكلام (مع تغطية رؤوسهن، كما في الإصحاح 11) أو لا يسمح بذلك (الإصحاح 14). وكما يبدو التفكير بأن بولس سيناقض نفسه سريعا خلال مساحة قصيرة تتكون من ثلاث فصول أمرًا غير منطقي، فيبدو أنَّ بولس ليس هو مصدر هذه الأعداد محل البحث. وهكذا على أساس جمع الأدلة، العديد من المخطوطات التي تختلف فيها مواضع الأعداد والسياق الأدبي القريب والسياق ضمن الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ككل، يتضح أنَّ بولس لم يكتب الأعداد 1كورنثوس 14: 34-35. كان لزاما على المرء أن يفترض من ثمّ أنَّ هذه الأعداد التي هي تحريف للنص قام به أحد النساخ، كان تحريفها في الأصل في صورة، ربما، ملاحظة مكتوبة في الهامش ثم في النهاية وفي مرحلة مبكرة من مراحل نسخ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، ألحقت بالنص ذاته. التحريف تمَّ بلا شك بمعرفة ناسخ كان معنيًّا بتأكيد أنه لا ينبغي أن يكون ثمة دور عامٌّ تضطلع به النساء داخل الكنيسة، وأنهن ينبغي أن يصمتن وأن يطِعْنَ أزواجهن. وجهة النظر هذه إذن حدث وأن أصبحت جزءًا من النص ذاته عبر تحريف النصوص (120). يمكننا أن ندرس مثالا آخر للتغييرات التي لحقت بالنص من النوع ذاته ولكن بصورة مختصرة. أحد التغييرات يقع في فقرة ذكرتها من قبل بالفعل، ألا وهي الرسالة إلى أهل رومية الإصحاح 16، حيث يتكلم بولس فيها عن إحدى النسوة، جونيا، ورجل كان فيما يبدو زوجا لها، أندرونيكوس، وكلاهما قال بولس عنهما إنهما «مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ» (العدد 7). هذا العدد شديد الأهمية، لأنه هو الموضع الوحيد في العهد الجديد الذي يشار فيه إلى امرأة باعتبارها واحدة من الرسل. ولقد كان لهذه الفقرة تأثيرًا كبيرًا على المفسرين إلى درجة أنَّ عددًا كبيرًا منهم أصرَّ على أنَّ ما تقوله الفقرة ليس هو معناها الحقيقي، لذلك ترجموا الفقرة باعتبارها تشير لا إلى امرأة تدعى جونيا وإنما إلى رجل يسمى جونياس، الذي أُثنِي عليه جنبا إلى جنب مع رفيقه أندرونيكوس باعتباره رسولا (apostle). العقبة التي تقف أمام هذه الترجمة هي أنه في الوقت الذي كانت فيه جونيا اسما نسويًّا شائعًا، فإن «جونياس» لا دليل في العالم القديم على أنه كان اسمًا لرجل. إنَّ بولس يشير إلى امرأة تدعى جونيا، وذلك على الرغم من أنه في بعض الترجمات الحديثة الإنجليزية للكتاب المقدس (ربما تريدون أن ترجعوا إلى نسختكم الخاصة للتأكد!) يواصل المترجمون الإشارة إلى هذه المرأة التي كانت من بين الرسل كما لو أنها كانت رجلا يدعى جونياس (121). بعض النساخ أيضا كان لديهم صعوبة في وصف هذه المرأة المجهولة بالرسولة، ولذلك قاموا بإحداث تغيير بسيط للغاية في النص للتحايل على المشكلة. في بعض مخطوطاتنا، بدلا من أن تقول «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي، «نجد أن النص قد تغير لكي تسهل ترجمته أكثر: «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ؛ وأيضا على الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي». مع وجود هذا التغيير الذي تعرض له النص، لم يعد المرء في حاجة إلى أن يقلق بشأن المرأة التي ذكرت بين العصبة الرسولية المكونة من الذكور! تغيير مشابه وقع بمعرفة بعض النساخ الذين قاموا بنسخ سفر الأعمال. ففي الإصحاح رقم 17 نحاط علمًا بأن بولس ورفيقه في التبشير «سيلا» قضوا وقتا في تسالونيكي يدعون اليهود الموجودين في المعبد المحلي إلى الإيمان بإنجيل المسيح. يقال لنا في العدد 4 إن الاثنين لاقا بعضًا من النجاح الباهر في تحويل الناس إلى الإيمان: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ». فكرة أن هؤلاء النسوة كن متقدمات، ناهيك عن التحولات الهامة إلى الإيمان التي حدثت على أيديهما، كانت أكثر مما يحتمل بالنسبة لبعض النساخ، ولذلك حدث وأن تعرض النص للتغيير في بعض المخطوطات، لكي يقال لنا الآن: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ زوجات الرجال الْمُتَقَدِّمين عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ» الآن أصبح الرجال هم المتقدمون، وليس النسوة اللاتي تحولن إلى الإيمان. من بين رفاق بولس في سفر الأعمال كان ثمة زوج وامرأته يسميان «أكيلا» و«بريسكلا»؛ وهماعند ذكرهما في بعض الأحيان، يقدم المؤلف اسم الزوجة أولا، كما لو كانت تتمتع برتبة أعلى سواء من ناحية القرابة أو داخل المهمة التبشيريَّة المسيحية (كما يحدث في رومية 16: 3 كذلك، حيث يطلق عليها اسم بريسكا). ليس أمرًا مثيرًا للاستغراب إذن أن يبدي النساخ أحيانًا امتعاضهم بسبب هذا الترتيب ومن ثمَّ يقومون بعكسه حتى يحصل الرجل على ما يستحقه من مكانة عبر ذكر اسمه أولا: أكيلا وبريسكلا بدلا من بريسكلا وأكيلا (122). باختصار، كان ثمة نزاعات في القرون الأولى للكنيسة حول دور النساء، وعند اللزوم كانت هذه النزاعات تتسلل إلى عملية نسخ نصوص العهد الجديد ذاته، حيث غيَّر النساخ أحيانًا نصوصهم ليجعلوها تتوافق بصورة أكبر مع مفهومهم الخاص عن الدور (المحدود) للنساء داخل الكنيسة. يتــــبع بإذن الله |
اليهود ونصوص الكتاب المقدس إلى هنا نكون قد تعرضنا بالدراسة للعديد من النزاعات الدينية التي نبعت من الداخل المسيحي في وقت مبكر من عمر الكنيسة – مثل النزاعات التي دارت حول قضايا ذات علاقة بطبيعة المسيح وعن دور النساء في الكنيسة – ورأينا كيف كان تأثير هذه النزاعات على النسَّاخ الذي أعادوا نسخ نصوصهم المقدسة. مع ذلك، لم تكن هذه النزاعات هي النوع الوحيد الذي انخرط فيه المسيحيون. فكما كانت هذه النزاعات شاقة بالنسبة لمن أداروا رحاها، وذات أهمية بالنسبة لنقاشاتنا في هذا الكتاب، كذلك كانت الصراعات التي اندلعت مع هؤلاء الخارجين عن الإيمان، من يهودٍ ووثنيين، الذين وقفوا موقف المعارضة للمسيحيين واشتبكوا معهم في نزاعات جدليَّة. اضطلعت هذه النزاعات أيضًا بدورٍ ما في عملية نسخ نصوص الكتاب المقدس. يمكننا البدء بالتعرض للنزاعات التي كان مسيحيو القرون الأولى قد انخرطوا فيها مع اليهود غير المسيحيين. اليهود والمسيحيون في حالة صراع إحدى الأمور التي تبعث على السخرية فيما يتعلق بالمسيحية في عصورها المبكرة هي أنَّ يسوع نفسه كان يهوديًّا، عَبَدَ إله اليهود وحافظ على العادات اليهودية وفسَّر الشريعة اليهودية، وكان له تلاميذ من اليهود الذين اتبعوه على اعتبار أنه المسيح اليهوديَّ. على الرغم من ذلك، وفي غضون عشرات قليلة من السنوات فحسب بعد موته، كان أتباع يسوع قد كوَّنوا ديانة وقفت من اليهودية موقف النقيض. فكيف انتقلت المسيحية بهذه السرعة من كونها طائفة يهودية إلى ديانة معادية لليهود؟ إنه سؤال صعب، والإجابة عليه بصورة مرضية تستلزم أن نفرد له كتابًا كاملا (123). أما هنا، فبإمكاني على الأقل أن أكتفي بإعطاء وصفٍ تاريخي موجز لظهور معاداة اليهودية في المسيحية الأولى كوسيلة لإعطاء وصف معقول للمحيط الذي عاش فيه النسَّاخ المسيحيون الذين في بعض الأحيان قاموا بتحريف نصوص كتابهم المقدس على نحوٍ معادٍ لليهودية. شهدت العشرون عامًا الأخيرة زيادة كبيرة ومفاجأة في مجال البحث عن يسوع التاريخي. نتج عن ذلك أنَّه قد توفَّر الآن عددٌ هائلٌ من الآراء التي تبحث في الكيفية المثلى لفهم حقيقة المسيح- هل كان معلمًا يهوديًّا، أم كان مصلحًا اجتماعيًّا؟ هل كان متمردًا سياسيًّا أم فيلسوفًا ساخرًا أم نبيًّا رؤَوِيًّا: تتزايد الخيارات إلى مالا نهاية. الشئ الوحيد الذي يتفق عليه كل العلماء تقريبًا، على الرغم من كل هذه الاختلافات، هو أنه بغض النظر عن الكيفية التي يمكن للمرء أن يفهم بها الدافع وراء رسالة يسوع، فإنه لابد أن يوضع في سياقه الحقيقي باعتباره يهوديًّا فلسطينيًّا عاش في القرن الأول الميلاديّ. أيًّا ما تكن السمات الأخرى التي كان عليها يسوع، فإنه كان يهوديًّا بكل ما في الكلمة من معنى، لقد كان يهوديًّا من كل الوجوه – كما هو الحال بالنسبة لتلاميذه أيضًا. في بعض اللحظات – قبل موته على الأرجح، وبعده على وجه اليقين - أصبح أتباع يسوع ينظرون إليه باعتباره المسيح اليهوديَّ. ورغم أن اليهود الآخرون كانوا يفهمون مصطلح المسيح بطرق مغايرة خلال القرن الأول، إلا أنَّ شيئا واحدًا بدى أنه كان محط إجماع كل اليهود عندما يفكرون في المسيح، وذلك أنه يجب أن يكون شخصية عظيمة وصاحبة سلطان وذلك حتى يقهر، بطريقة ما - ربما على سبيل المثال من خلال تكوين جيش يهوديٍّ أو إنزال ملائكة السماء - أعداء إسرائيل وليقيم دولة إسرائيل ذات السيادة التي يحكمها الله نفسه (ربما من خلال وسيط بشريّ). المسيحيون الذين أطلقوا على المسيح لقب المسيح من الواضح أنهم مرُّوا بأوقات عصيبة لكي يقنعوا الآخرين بزعمهم هذا، لأن يسوع، بدلا من أن يكون محاربًا عظيمًا أو حاكم بأمر السماء، كان معروفًا على نطاق واسع باعتباره واعظًا متجوِّلا هاجم الجانب السئ من الشريعة وصُلِب كمجرم أثيم. إطلاق اسم المسيح على يسوع كان بالنسبة لغالبية اليهود أمرًا يجلب لقائله السخرية. لم يكن يسوع قائدًا لليهود مهاب الجانب. بل كان ضعيفًا وعاجزًا – فقد أعدم بأكثر طرق القتل إذلالا وإيلامًا من بين الطرق التي ابتكرها الرومان الذين هم أصحاب السلطة الحقيقية. رغم ذلك، أصرَّ المسيحيون على أنَّ يسوع هو المسيح وعلى أنَّ موته لم يكن إخفاقًا للعدالة بل حدثًا تنبأ به الكتاب المقدس وأنَّه وقع بترتيبٍ من الله، حيث جلب عن طريقه الخلاص للعالم. ماذا كان على المسيحيين أن يفعلوا حيال حقيقة أنهم عانوا الأمرَّيْن لإقناع غالبية اليهود بصحة مزاعمهم عن يسوع؟ ما كانوا بطبيعة الحال ليعترفوا أنهم كانوا هم المخطئون. وإذا لم يكونوا هم، فمن؟ لابد وأن اليهود كانوا هم المخطئين. في وقت مبكر من تاريخهم، بدأ المسيحيون يصرُّون على أنَّ اليهود الذين رفضوا رسالة المسيحيين كانوا متمردين وعميانا، لأنهم برفضهم لرسالة يسوع، يرفضون الخلاص الذي قدمه الإله ذاته الذي يعبده اليهود. بعضٌ من هذه المزاعم كانت تصاغ بواسطة مؤلفنا المسيحي الأقدم، بولس الرسول. ففي رسالته الأولى التي كتبها لمسيحيي تسالونيكي، والمحفوظة حتى اليوم، يقول بولس: فَإِنَّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ اللهِ الَّتِي هِيَ فِي الْيَهُودِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلَّهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ (1تسالونيكي 2: 14- 15) أصبح بولس يؤمن بأن اليهود رفضوا يسوع لأنهم فهموا أن مقامهم الخاص عند الله كان عائدًا إلى أمرين اثنين: أنَّ لديهم الشريعة التي أعطاها الله إياها وأنهم يتمسكون بها (رومية 10: 34). مع ذلك، كان الخلاص حسب مفهوم بولس قد جاء لليهود وللأمم كذلك، ولكن ليس عبر الشريعة وإنما بالإيمان بموت يسوع وقيامته (رومية 3: 21 -22). لذلك، ليس للالتزام بالشريعة أي دور في وقوع الخلاص؛ ولأجل هذا علَّم بولس الوثنيين (أو الأمم) الذين أصبحوا أتباعًا ليسوع أن رفع قيمتهم أمام الله لا يحدث باتباعهم للشريعة. لقد كان على الأمميين أن يبقوا كما هم – أي ليس عليهم أن يتحولوا إلى اليهودية (غلاطية 2: 15 – 16). المسيحيون الأوائل الآخرون، بطبيعة الحال، كان لهم رأي آخرـ كما هو حالهم مع كل قضية تقريبا من قضايا هذا العصر! فالقديس متَّى، على سبيل المثال، يبدو وكأنه يفترض مقدمًا أنه على الرغم من أنَّ موت يسوع وقيامته هما اللذان جلبا الخلاص، فإن تلاميذه سيلتزمان بطبيعة الحال بأحكام الشريعة، كما فعل يسوع نفسه (انظر متى 5: 17-20). في النهاية، مع ذلك، أصبح من المسلم به على نطاق واسع أنَّ المسيحيين كانوا مختلفين مع اليهود حول قضية اتِّباع الشريعة اليهودية وعدم ارتباطها بقضية الخلاص، وحول أن الانضمام إلى الشعب اليهودي سيعني الارتباط بالشعب الذي رفض مسيحه، والذي، في حقيقة الأمر، رفض الإيمان بإلهه الخاص. وعندما ننتقل إلى القرن الثاني نجد أنَّ المسيحية واليهودية قد أصبحتا ديانتين منفصلتين كليةً إلا أنَّ كلَّ واحدةٍ منهما لديها، رغم ذلك، الكثير لتقوله عن الأخرى. وجد المسيحيون أنفسهم، في الواقع، وقد شكلوا نوعا من الرابطة. لأنهم كانوا يؤمنون بأنَّ يسوع كان هو المسيح الذي تنبأت به الكتب اليهودية المقدسة؛ ولكي تحصل على المصداقية في عالمٍ يعتزُّ بكل ما هو قديم ويرتاب في كلِّ «جديد» باعتباره بدعة مشكوكا بها، فقد صار لزامًا على المسيحيين أن يواصلوا الاستشهاد بالكتب المقدسة ـ باعتبارها أساسا لمعتقداتهم الخاصة. كان هذا يعني أنَّ المسيحيين ادَّعوا أنَّ الكتاب المقدس اليهودي هو كتابهم هم أيضًا المقدس. ولكن أليس الكتاب المقدس اليهودي هو لليهود؟ بدأ المسيحيون يصرّون على أنَّ اليهود لم ينكروا فحسب مسيحهم، وإنما هم بذلك قد أنكروا إلههم، وأساؤوا فهم كتابهم المقدس أيضا. ولذلك نجد أنَّ الكتابات المسيحية مثل ما عرف باسم رسالة برنابا، وهو الكتاب الذي اعتبره بعض المسيحيين الأوائل جزءا من قائمة العهد الجديد الرسمية، قد أكَّد أن اليهودية كانت دائمًا ولا تزال ديانة باطلة، وأنَّ ملاكا شريرًا أضلَّ اليهود ليفهموا الشريعة التي أعطاها الله لموسى بأنها تعاليم حرفية تشرح كيف ينبغي أن يعيش الإنسان، في حين أنها كانت من المفترض أن تفسر في الحقيقة على نحوٍ رمزيٍّ(124). في النهاية نجد المسيحيين يعاقبون اليهود بأقسى العقوبات الممكنة لعدم قبولهم يسوع باعتباره المسيح. فمع وجود مؤلفين، جوستينوس الشهيد الذي عاش في القرن الثاني كمثال، يدِّعون أنَّ السبب الذي دعا الله أن يفرض الختان على اليهود كان ليميزهم باعتبارهم شعبًا مخصوصًا جديرًا بالاضطهاد. هناك أيضا مؤلفون، مثل ترتليانوس وأوريجانوس، يزعمون أنَّ أورشاليم دمرها الجيش الروماني في عام 70 ميلاديا كعقوبة لليهود الذين قتلوا مسيحهم، ومؤلفون مثل مليتو أسقف سرديس يجادلون حول أنَّ اليهود بقتلهم المسيح، كانوا في الواقع مدانين بقتل الله. «انتبهوا يا كل عائلات الأمم وترقبوا! جريمة قتل استثنائية حدثت في قلب أورشاليم، في المدينة المكرسة لشريعة الله، في مدينة العبرانيين، في مدينة الأنبياء، في المدينة المعروفة بالعادلة. ومن يا ترى الذي قُتِل؟ ومن القاتل؟ أشعر بالعار من إجابة هذا السؤال، لكنَّ الإجابة عليه واجبة.... الذي علّق السماء في الفضاء هو نفسه من عُلِّق؛ الذي سمَّّر السموات في مكانها، دُقَّ بالمسامير؛ الذي ثبت كل الأشياء هو نفسه ثُبِّتَ إلى شجرة. السيد قد أُهِين، الرب قد قُتِل، ملك إسرائيل أبيد بيد إسرائيل اليمنى» (عظة الفصح 94-96)(125). من الواضح أننا قطعنا شوطا طويلا في الابتعاد عن نموذج يسوع، ذلك اليهودي الفلسطيني الذي التزم التقاليد اليهودية ومارس التبشير بين أبناء وطنه وعلَّم تلاميذه اليهود المعنى الحقيقي للشريعة اليهودية. باقتراب القرن الثاني وعندما كان النسَّاخ المسيحيون يقومون بإعادة كتابة النصوص التي أصبحت في النهاية جزءًا من العهد الجديد، كان غالبية المسيحيين من الوثنيين السابقين، أي من غير اليهود ممن تحولوا إلى الإيمان بالمسيحية والذين فهموا أنه على الرغم من أنَّ هذا الدين كان مبنيًّا، في الأساس، على الإيمان بإله اليهود كما ذُكِرَ نعته في الكتاب المقدس اليهودي، إلا أنه كان ذا توجه معاد لليهود تماما. تحريفات النص المناهضة لليهود معاداة اليهودية التي كان يكنها بعض النساخ المسيحيين في القرنين الثاني والثالث كان لها دورٌ هام في الطريقة التي بها نسخت النصوص. واحد من أوضح الأمثلة نجده في رواية لوقا لحادثة الصلب، التي يقال فيها إن يسوع نطق بصلاة من أجل هؤلاء المسئولين عن صلبه: وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا (لوقا 23: 33-34) صلاة يسوع هذه كما سيتضح لا يمكن أن نجدها، مع ذلك، في كل ما لدينا من مخطوطات: فهي مفقودة في أقدم شاهد يوناني لدينا (وهي البردية p75، التي يرجع تاريخها إلى وقت قريب من عام 200 ميلادية) وشواهد أخرى عديدة عالية القيمة من القرن الرابع والقرون التي تلته؛ في الوقت ذاته، هذه الصلاة موجودة في المخطوطة السينائية وفي عدد كبير من المخطوطات، بما في ذلك معظم المخطوطات التي تمت كتابتها في العصور الوسطى. ولذلك فالسؤال الملح الآن هو: هل قام ناسخ أو عدد من النساخ بحذف هذه الصلاة من مخطوطة كانت تحتوي عليها في الأصل؟ أم هل أضيفت من خلال أحد النساخ (أو عدد من النساخ) إلى مخطوطة هي في الأصل كانت خالية منها؟ انقسمت آراء العلماء لفترة طويلة عند الرد على هذا السؤال. فلأن الصلاة مفقودة في العديد من الشواهد المبكرة، ولأنها شديدة الأهمية، فلم يقصِّر كثيرٌ من العلماء في الادِّعاء بأنها غير أصلية داخل النصّ. أحيانا يميلون إلى حجة مبنية على دليل داخليّ. كما أوضحت من قبل، مؤلف إنجيل لوقا هو نفسه من كتب سفر أعمال الرسل. في سفر الأعمال نجد فقرة شبيهة بفقرتنا هذه في قصة ستيفانوس، شهيد المسيحية الأول والإنسان الوحيد الذي ذُكِرَ في سفر الأعمال أنَّ أمرًا قد صدر بقتله. ولأن اسطيفانوس كان متَّهمًا بالتجديف، فقد نُفِّذَ في حقه الرجم حتى الموت عبر جمهور يهوديٍّ غاضب؛ وقبل أن يموت صلى قائلا: «يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أعمال 7: 60). بعض العلماء جادلوا بالقول إنَّ أحد النساخ لم يرغب في أن يبدو يسوع أقلَّ تسامحًا بأيِّ حالٍ من شهيده الأول، إسطيفانوس، فأضاف الصلاة إلى إنجيل لوقا حتى يدعو يسوع أيضا بالمغفرة لقاتليه. إنه دفاعٌ مقنعٌ لكنه ليس مقنعًا تمامًا لأسباب عدَّة. أشدُّ هذه الأسباب إقناعا هو الآتي: في كلِّ مرة يحاول النساخ أن يوفقوا بين النصوص بعضها البعض، كانوا يميلون إلى فعل ذلك عبر تكرار الكلمات ذاتها في الفقرتين كلتيهما. في حالتنا هذه، لا نجد الصياغة متطابقة بل جلُّ ما نجده مجرد صلاتين متشابهتين. ليس هذا هو نوع «التوافق» الذي كان نمطًا يكرره النساخ. الأمر المفاجئ أيضا بخصوص هذه النقطة هو أنَّ لوقا، أي المؤلف نفسه، في عددٍ من المناسبات ينحرف عن أسلوبه لكي يظهر التشابه بين ما حدث ليسوع في الإنجيل وما حدث لتلاميذه في سفر الأعمال: يسوع وتلاميذه يعمَّدون، كلا الجانبين يقبلان الروح القدس عند لحظة العماد، كلاهما يبشِّرُ بالأخبار السارة، وكلاهما يرفضان من قبل الناس بسببها، كلا الجانبين يتألمان بأيدي الزعماء اليهود... إلى آخره. ما يحدث ليسوع في الكتاب المقدس يحدث لتلاميذه في سفر الأعمال. ومن هنا فليس ثمة أي مفاجأة ـ بل الأمر بالأحرى متوقع ـ في أنَّ واحدا من تلاميذ يسوع الذين أعدموا مثله تماما بمعرفة السلطات الحانقة، سيصلِّي إلى الله ليغفر لقاتليه. هناك أسباب أخرى تدفعنا للارتياب في كون صلاة يسوع من أجل الغفران هي جزء أصلي من الإصحاح 23 من إنجيل لوقا. ففي كل مكان إنجيل لوقا وسفر الأعمال يتم التأكيد، على سبيل المثال، على أنَّه رغم براءة يسوع (مثلما هو حال تلاميذه)، فإن هؤلاء الذين قتلوه فعلوا ذلك لعدم معرفتهم بحقيقة ما يقومون به. فها هو بطرس في سفر الأعمال إصحاح 3 يقول: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ» (العدد 27)؛ أو كما يقول بولس في سفر الأعمال الإصحاح 17: «فَاللَّهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (العدد 30 *). وهذه هي تحديدا الملاحظة المتوافقة مع صلاة يسوع: «لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون». يبدو، إذن، أنَّ لوقا 23: 34 كانت جزءا من نص لوقا الأصلي. فلماذا، رغم ذلك، يريد ناسخ (أو عدد من النساخ) حذف هذا الجزء؟ هنا يصير الوعي بالسياق التاريخي الذي كان النساخ يعملون ضمنه أمرًا حاسمًا. ربما يتساءل القرَّاء المعاصرون عن حقيقة الشخص الذي كان المسيح يصلي من أجله. فهل هم الرومان الذين قتلوه عن جهل؟أم هم اليهود الذين كانوا مسئولين عن تسليمه للرومان في المقام الأول؟ مهما تكن الطريقة التي يمكن أن نجيب بها على هذا التساؤل في محاولة لتفسير هذه الفقرة اليوم، يبدو أنَّ الكيفية التي كانوا في الكنيسة الأولى يفسرونها بها هي من الوضوح بمكان. تقريبا في كل حالة نوقشت فيه الصلاة في كتابات الآباء الأوائل للكنيسة، يبدو جليًّا أنهم كانوا يفسرونها بأن المقصود بها اليهود وليس الرومان(126). لقد كان يسوع يطلب من الله أن يسامح الشعب اليهودي (أو القادة اليهود) الذين كانوا مسئولين عن موته. الآن أصبح السبب الذي من أجله أراد بعض النُسَّاخ أن يحذفوا العدد واضحًا. أيصلِّي يسوع من أجل المغفرة لليهود؟ كيف ذلك؟ بالنسبة للمسيحيين الأوائل كان ثمة مشكلتان تواجهان هذا العدد في حال النظر إليه على هذا النحو. أولا، تسائل المسيحيون: ما الذي يجعل يسوع يصلي لمغفرة ذنوب هذا الشعب المتمرد الذي رفض اللهََ نفسهَ عن عمد؟ هذا الأمر كان نادر التصور عند كثيرٍ من المسيحيين. بل أكثر من ذلك، نقول: إنه قريبًا من القرن الثاني كان كثيرٌ من المسيحيين على قناعة تامة بأنَّ الله لم يغفر لليهود لأنهم، كما ذكرت من قبل، اعتقدوا أن الله سمح بتدمير أورشليم كعقوبة لليهود على قتلهم يسوع. يقول أوريجانوس أحد آباء الكنيسة: «صحيحٌ أنَّ المدينة التي مر فيها يسوع بمثل هذه الآلام ينبغي أن تدمر بالكامل، وأنَّ الأمة اليهودية ينبغي أن تباد» (ضد سيلزس 4، 22)(127) كان اليهود يعرفون جيدا ما كانوا يفعلونه، ومن الواضح أن الله لم يسامحهم. انطلاقًا من وجهة النظر هذه، ليس لدعاء يسوع بالمغفرة من أجلهم أيَّ معنى في وقت لم يكن ثمة غفران ممكن في حقهم. ماذا كان على النساخ أن يفعلوا، إذن، مع هذا النص الذي يصلي فيه يسوع «أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون»؟ تعاملوا مع النص ببساطة من خلال اقتطاع النص لكي لا يواصل يسوع طلب المغفرة لهم. هناك فقرات أخرى تركت فيها المشاعر المعادية لليهود التي كان النساخ الأوائل يكنونها في صدورهم أثرها على النصوص التي كانوا ينسخونها. واحدة من أبرز الفقرات التي تشير إلى الظهور النهائي للمعاداة للسامية هي في مشهد محاكمة يسوع في إنجيل متَّى. فوفقًا لهذه الحادثة، يعلن بيلاطس براءة يسوع، حيث يغسل يده لكي يظهر أنه: «بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!» ثم يطلق الحشد اليهودي صرخة كان مقدَّرًا لها أن تلعب هذا الدور الرهيب في اندلاع العنف ضد اليهود خلال القرون الوسطى، حيث يبدو أنهم يعلنون فيها مسئوليتهم عن موت يسوع: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا «(متى 27: 24 -25). التباين النصّي موضع اهتمامنا يحدث في العدد التالي. يقال في هذا العدد إن بيلاطس جلد يسوع ثم «أَسْلَمَهُ لِيُصْلَبـ «. أي شخص يقرأ هذا النص سيفترض في البداية أنه سلم يسوع لجنوده (الرومان) لكي يصلبوه. ما يجعل الأمر أكثر إحداثا للصدمة هو أنه في بعض الشواهد المبكرة ـ بما في ذلك واحدة من التصحيحات التي أدخلها النساخ إلى المخطوطة السينائية ـ تم إدخال تغيير إلى النص لكي يقوِّي إلى مدى أبعد التورط اليهودي في موت يسوع. وفقا لهذه المخطوطات، قام بيلاطس «بتسليمه إليهم (أي إلى اليهود) لكي يقوموا هم بصلبه». الآن مسئولية اليهود عن مقتل يسوع هي مسئولية كاملة، وفي الوقت نفسه هذا تغيير كان الباعث إليه شعورٌ معادٍ لليهود كان منتشرًا بين المسيحيين الأوائل. أحيانا تكون القراءات المتباينة المعادية لليهود دقيقة للغاية ولا تلفت انتباه الإنسان إليها إلى أن يبذل أحدهم بعض الفكر حول المسألة. على سبيل المثال، في قصة الميلاد الواردة في إنجيل متى، يقال إنَّ يوسف دعى ابن مريم المولود حديثًا يسوع (التي تعني «الخلاص») «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم «(متى 1: 21). من العجيب أنه في واحدة من المخطوطات التي حفظتها لنا الترجمة السوريانية، يقول النص بدلا عن ذلك: «لأنه سيخلص العالم من خطاياه». هنا مرة أخرى يبدو أنَّ ناسخًا كان يشعر بعدم الراحة من تصوُّر أنَّ اليهود يمكنهم أن يحصلوا على الخلاص. تغييرٌ مشابهٌ آخر يحدث في إنجيل يوحنا. ففي الإصحاح الرابع، يتحدث يسوع مع المرأة السامريّة ويقول لها، «أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ». (العدد 22). في بعض المخطوطات السوريانية واللاتينية تغير النص فأصبح يقول الآن إنَّ: «الخلاص يأتي من أرض يهودا». بكلمات أخرى، ليس الشعب اليهوديُّ هو من جلب الخلاص إلى العالم؛ بل موت يسوع في أرض يهودا هو الذي فعل ذلك. مرة أخرى ربما نرتاب في أنَّ شعورًا معاديًا لليهود هو ما كان باعثًا على التحريف الذي قام به النساخ. المثال الأخير الذي سأسوقه في هذا التعرض المختصر يأتي من مخطوطة بيزا التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وهي نفسها المخطوطة التي تحوي قراءات متباينة طريفة ومثيرة للدهشة عن أيِّ مخطوطة أخرى. في الإصحاح السادس من لوقا، حيث يتهم الفرِّيسيون يسوع وتلاميذه بانتهاك حرمة يوم السبت (6: 1-4)، نجد قصة إضافية في مخطوطة بيزا تتكون من عددٍ واحد: «في اليوم ذاته رأى رجلا يعمل في السبت، وقال له، «يا إنسان، لو كنت تعلم ما تفعله، فأنت مبارك، لكن لو لم يكن عندك علم، فأنت ملعون ومنتهك للشريعة». إن تفسيرا كاملا لهذه الفقرة غير المتوقعة وغير العادية يتطلب قدرا كبيرا من البحث(128). بالنسبة لأهدافنا في هذا الفصل يكفي أن نلاحظ أنَّ يسوعَ واضحٌ للغاية في هذه الفقرة على نحوٍ لم يحدث أبدا في أي مكان آخر في الأناجيل. في مواقف أخرى، عندما يتهم يسوع بانتهاك السبت، يدافع عن أفعاله، لكنه أبدا لا يشير إلى أن أحكام الشريعة الواردة في حق يوم السبت يجب أن تُنْتَهَك. أمَّا في هذا العدد، يصرِّحُ يسوع بوضوح أنَّ أيَّ إنسانٍ يعرف أنَّ انتهاك السبت هو أمر شرعيٌّ لا غبار عليه هو إنسان مبارك إن فعل ذلك؛ هؤلاء الذين لا يفهمون سبب شرعية انتهاك السبت هم فحسب المخطئون. مرة أخرى، هذه قراءة متباينة يبدو أنها ذات علاقة بظهور الروح المعادية لليهودية في الكنيسة المبكرة. |
|
|
الساعة الآن 08:34 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir