عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:32 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 18
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


لوقا ويسوع الهادئ

على النقيض من مرقس ، لم يقل إنجيل لوقا على وجه التصريح أبدًا أنَّ يسوع شعر بالغضب. بل لا يبدو يسوع في هذا الإنجيل منزعجًا على الإطلاق،أو بأية حال.
فبدلا من يسوع الغاضب ، يرسم لوقا صورة ليسوع الهادئ . هناك فقرة يتيمة في هذا الإنجيل يبدو فيها أنَّ يسوع قد فقد رباطة جأشه . وهي فقرة أصالتها موضع جدال ساخن بين نقاد النصوص .
نجد هذه الفقرة في سياق صلاة يسوع على جبل الزيتون قبل وقت قصير من تعرضه للخيانة و للوقوع في الأسر (لوقا 22 : 39 -46 ). فبعد أن يوجِّه تلامذته بقوله :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ"، يتركهم يسوع ،و يجثو على ركبتيه،ويصلي" أَبَتَاهُ إن شِئْتَ أن تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" . في عددٍ كبيرٍ من المخطوطات تلي هذه الصلاة هذه القصة التي لا نجدها في أيِّ موضعٍ آخر فيما لدينا من أناجيل ، والتي تتعلق بقلقه الشديد و ما يعرف بقطرات عرقه الدموية :" وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. " (العددان 43 ، 44 ).
ينتهي المشهد بقيام يسوع من الصلاة وعودته إلى تلامذته ليجدهم نيامًا. فيكرر توجيهه لهم :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ" و على الفور يظهر يهوذا مع الجموع ويلقون القبض على يسوع .
إحدى الخصائص المثيرة لهذا النزاع حول هذه الفقرة هو تساوي كفة هذه الحجج وتلك حول ما إذا كان العددان المتنازع عليهما (43 ، 44 ) قد كتبهما لوقا أم أدخلهما فيما بعد أحد النساخ . المخطوطات الأقدم والتي يسلم العلماء بكونها الأفضل ( النص "السكندري") لا تحتوي هذين العددين في الغالب.لذلك من المحتمل أنهما إضافة متأخرة بيد ناسخ . من ناحية أخرى ، هاتان الفقرتان موجودتان في عدد قليل من الشواهد الأخرى المبكرة وهما غالبًا منتشرتان في كل مكان من التقليد المخطوط . لذا فهل هما قد أضيفتا بيد ناسخ أرادهما أنَّ يكونا جزءا من الكتاب المقدس أم حذفتا بيد آخر أراد العكس ؟ من الصعوبة بمكان أنَّ نجيب على هذاالسؤال اعتمادًا على المخطوطات .بعض العلماء اقترحوا أنَّ نستعين بالخصائص الأخرى التي يتصف بها العددان لكي نقرر هذا الأمر. أحد العلماء ، على سبيل المثال ، ادَّعى أنَّ الكلمات و الأسلوب في العددين يشبهان إلى حدٍ كبير ما نجده في لوقا في موضع آخر ( هذه الحجة مبنية على "الاحتمالات الداخلية "): على سبيل المثال ، ظهورات الملائكة هي سمة شائعة في لوقا ، وكلمات عديدة و جمل موجودة في الفقرة نجدها في مواضع أخرى في لوقا ولكن ليس في أي موضع آخر في العهد الجديد ( مثل الفعل " يقوِّيه").
لم تقنع هذه الحجة أحدًا ،مع ذلك، لأن معظم هذه الأفكار والتراكيب و الجمل " اللوقاوية بطريقة مميزة " هي إما مصاغة بطرق لا تنتمي إلى الأسلوب اللوقاوي (على سبيل المثال ، الملائكة لا تظهر في أيِّ مكان آخر من لوقا من غير أن تتكلم ) أو شائعة في النصوص اليهودية والمسيحية بخلاف العهد الجديد . زد على ذلك أنَّ هناك اجتماع غير طبيعي بالمرة لكلمات وجمل غير عادية في هذين العددين : على سبيل المثال (كرب ،عَرَق، قطرات) ليس لها وجود في موضع آخر في لوقا ولا في سفر الأعمال (الذي هو الجزء الثاني للإنجيل الذي كتبه المؤلف عينُه ). نظرا لذلك كله، من الصعب بمكان أنَّ نقرر أي شئ بخصوص هذين العددين على أساس الكلمات والأسلوب.
حجة أخرى استعملها العلماء لها علاقة بالبنية الأدبيّة(literary structure) لهذه الفقرة . بإيجاز ، هذه الفقرة يبدو أنها مبنيَّة بتأنٍّ من خلال ما يعرفه عليه العلماء باعتباره قلب لترتيب الكلمات في جملتين متشابهتين (chiasmus) . حينما تبنى فقرة على هذا النحو ، الكلمة الأولى في هذه الفقرة تتطابق مع الكلمة الأخيرة منها؛ والكلمة الثانية تتطابق مع الكلمة قبل الأخيرة ؛و الكلمة الثالثة تتطابق مع الكلمة التي تسبق الكلمة قبل الأخيرة ، وهكذا . أو دعونا نعبر عن هذا بطريقة أخرى فنقول : صياغة هذه الفقرة هي صياغة مقصودة ؛ غرضها هو تركيز الانتباه على مركز الفقرة باعتباره مفتاح الجملة . و الأمر نفسه نجده هنا :
فيسوع (أ) يطلب من تلاميذه أنَّ "يصلوا كي لا يدخلوا في تجربة" (العدد 40 ) ثم بعد ذلك يسوع (ب) يغادرهم (العدد 41 أ) و (ج)يجثو على ركبتيه للصلاة (العدد 41 ب). مركز هذه الفقرة هو (د) صلاة يسوع ذاتها ،الصلاة التي ضمَّنها طلبه بأن يتحقق ما يريده الله (العدد 42 ). بعد ذلك يسوع (ج) يقوم من صلاته (عدد 45 أ )، (ب)يعود إلى تلاميذه (عدد 45 ب)، و (أ) يجدهم نيامًا،ومرة أخرى يواجههم بالكلمات ذاتها ، فيقول لهم أنَّ " صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة "(العددان 45 ج ، 46 ).وجود هذا البناء الأدبي الواضح بحد ذاته ليس هو القضية في الواقع . بل القضية هي كيف أنَّ هذا العكس لترتيب الكلمات مهم لفهم معنى الفقرة . تبدأ القصة و تنتهي بوصيته لتلاميذه أن يصلوا إذا أرادوا أن يتجنبوا الدخول في تجربة. ظلت الصلاة لوقت طويل في نظر الكثيرين هي الموضع المحوريّ لإنجيل لوقا ( أكثر حتى من أي إنجيل آخر )؛ و هنا تتجلى أهميتها الخاصة . لأن صلاة يسوع هي في قلب الفقرة ذاتها ، الصلاة التي تعبر عن رغباته ، والتي تتضمن رغبته الأعظم بأن تتمَّ مشيئة الله (العددان 41 ج، 42 ). وباعتبارها مركزًا لهذا التركيب المنعكس (chiastic structure)، تقدم هذه الصلاة قضية الفقرة المحوريَّة و،على نحوٍ متوازٍ، مفتاح تفسيرها . هذا درس عن أهمية الصلاة في مواجهة الشهوات . التلاميذ ، على الرغم من طلب يسوع المتكرِّر لهم بأن يصلُّوا ،كانوا ينامون بدلا من ذلك . وعلى الفور تأتي الجموع للقبض على يسوع . وماذا يحدث ؟ التلاميذ ، الذين فشلوا في القيام بالصلاة ، دخلوا " في التجربة "؛وهربوا من مسرح الأحداث ،تاركين يسوع ليواجه مصيره وحيدًا . وماذا عن يسوع ، الإنسان الوحيد الذي صلَّى قبل أن يخضع للمحاكمة ؟ حينما تصل الجموع ، نجد أنه يخضع بهدوء لمشيئة الآب ويسلم نفسه للشهادة التي أعِدَّتْ له .
رواية لوقا عن الآلام ، كما هو معروف ، هي قصة استشهاد يسوع ، الاستشهاد التي كان الهدف منه ،كما هو الحال مع مقتل الكثيرين من الشهداء،أن تقدم نموذجًا للمؤمن و الكيفية التي يحافظ بها على رباطة جأشه في مجابهة الموت . فلسفة الاستشهاد في إنجيل لوقا تظهر أنَّ الصلاة وحدها هي التي يمكن أن تجعل المرء على استعدادٍ للموت .
ماذا يحدث ، مع ذلك ، حينما يتمُّ إقحام العددين المتنازع عليهما (العددان 43 ، 44 ) في الفقرة ؟ على المستوى الأدبي ، الترتيب الانعكاسي للكلمات(chiasmus) الذي يركِّز الفقرة على صلاة يسوع يتمُّ تدميرُه نهائيًا .
الآن مركز الفقرة ، و من ثمَّ بؤرة اهتمامها ، يتحول إلى شدة الكرب الذي واجهه يسوع ، شدة الكرب الفظيعة التي كانت تتطلب ظهور مُعِينٍ خارقٍ للطبيعة ليقوِّيَ يسوعَ على تحملها. من الأمور الجديرة بالملاحظة في هذه النسخة المطوَّلة من القصة أنَّ الصلاة لم ينتج عنها الثقة بالنفس والهدوء الذين تحلَّى بهما يسوع في بقية الحكاية ؛ نعم ، حدث فقط بعد أن يصلِّي "بأشد لجاجة " أنَّ عرقه أخذ في الظهور على هيئة قطرات عظيمة من الدماء المتساقطة على الأرض . ما أريد توضيحه ليس فحسب أنَّ تركيبًا أدبيًّا قد انهار ، و إنما أنَّ بؤرة الاهتمام كلها تتحول إلى يسوع الواقع في حالة كرب مفجعة و سحيقة و الذي هو في أشد الحاجة إلى تدخل خارق للطبيعة .
هذا في حدِّ ذاته لا يبدو كمشكلة مستعصية على الحل ، إلى أنَّ يدرك المرء أنه ليس هناك موضع في إنجيل لوقا صُوِّرَ يسوع فيه على هذا النحو . على العكس من ذلك تمامًا ، قطع لوقا شوطً طويلا لكي يقدم رؤيةً مناقضةً تماما للرؤية التي يتبنَّاها هذان العددان . فبدلا من دخوله في آلامه مجللا بالخوف و الارتجاف، مكروبًا من مصيره المحتوم القريب ، نجد أنَّ يسوع حسب تصوير لوقا له يمضي إلى حتفه هادئا ورابط الجأش واثقًا في مشيئة أباه حتى النهاية . من الحقائق الصادمة التي لها ارتباط وثيق بمشكلتنا النصية موضع الدراسة أنَّ لوقا كان بمقدوره أن يرسم هذه الصورة ليسوع فقط عبر التخلص من التقاليد التي كانت تتناقض معها في مصادره ( الإنجيل وفقًا لمرقس على سبيل المثال ). فقط الشكل المطوَّل من النص الوارد في لوقا 22 : 43 – 44 يبدو مخالفا لهذه القاعدة.
مقارنة بسيطة بين نسخة مرقس من القصة محل الدراسة من شأنها جلاء هذه الأمر ( مع الوضع في الاعتبار أنَّ مرقس كان من مصادر لوقا – والذي قام بتعديله لكي يخرج بتأكيداته الفريدة ). لأن لوقا حذف قول مرقس أنَّ يسوع " ابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ "(مرقس 14 : 33 )، وكذلك تعليق يسوع أمام تلاميذه ،" نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! ". وبدلا من نزوله إلى الأرض في كربٍ(مرقس 14 : 35 )،يسوع حسب لوقا يجثو على ركبتيه (لوقا 22 : 41 ). في لوقا ، لم يطلب يسوع أن تعبر عنه هذه الساعة (قارن مع مرقس 14 : 35 )؛وبدلا من صلاته لمراتٍ ثلاث أن تُنْزَع عنه هذه الكأس (مرقس 14 : 36 ، 39 ، 41 )، نجده يطلب ذلك مرة واحدة (لوقا 22 : 42 )،مستهلا صلاته ،في إنجيل لوقا وحده،بشرطٍ شديد الأهميَّة :"إن شئت ".
وهكذا ، في الوقت الذي يصوِّرُ فيه مصدر لوقا ،أي إنجيل مرقس، يسوع باعتباره مكروبًا عندما يصلِّي في الحديقة ،يعيد لوقا صياغة هذا المشهد كاملا لهدف إظهار أنَّ يسوع كان هادئا في مواجهة الموت . الاستثناء الوحيد هو قصة "عرق يسوع الدموي"، وهي الحكاية التي تخلو منها أقدم وأفضل الشواهد التي لدينا . لماذا يتعب لوقا نفسه في التخلص من الصورة التي رسمها مرقس عن يسوع المكروب لو أنَّ كُرْبَة يسوع كانت هي الغرض الأساسي من القصة ؟
من الواضح أنَّ لوقا لم يكن يشاطر مرقس مفهومه عن يسوع المكروب اليائس . ليس ثمَّة مكانٌ آخرُ يبدو فيه هذا الأمر واضحًا أشد ما يكون الوضوح من رواياتهما المتتالية عن صلب يسوع . يصوِّرُ مرقسُ يسوعَ وهو في طريقه إلى جلجثة كإنسان صامت . تلاميذه تركوه وهربوا ؛ حتَّى النسوة المؤمنات كنَّ يراقبنه فحسب "من بعيد" . الحاضرون كلهم كانوا يسخرون منه – المارَّة وزعماء اليهود و السارقان . يسوع المرقسيّ ضُرِبَ وتعرض للسخرية وخُذِلَ وهُجِرَ ،لا من قبل أتباعه فحسب،بل وحتى من قبل الله نفسه . كلماته الوحيدة التي تفوَّه بها في هذا الموقف من أوله لآخره تأتي عند نهاية المشهد ، حينما يصرخُ بصوتٍ عالٍ " إلوي ، إلوي ، لما شبقتني "(إلهي ،إلهي ، لما تركتني ؟). ثم يطلق بعد ذلك صرخةً مدويةً و يموت .
هذه الصورة ،مرة أخرى ، تتناقض تماما مع ما نجده في إنجيل لوقا . ففي رواية لوقا ، نجد يسوع بعيدًا تماما عن أنَّ يكون صامتًا . وعندما يتكلم ، يظهر أنه ما يزال رابط الجأش واثقًا في الله أبيه ،راضٍ عن قدره ،مهتمًّا أكثر بمصير الآخرين . ففي طريقه إلى الصلب ، وفقا لما جاء في إنجيل لوقا ،عندما يرى يسوع مجموعة من النسوة يندبن سوء حظه ، يخبرهنَّ أنَّ لا يبكين عليه بل بالأحرى على أنفسهنَّ و على أطفالهن بسبب الكارثة التي ستحل بهم قريبًا (23 : 27 – 31 ).وبينما يجري تثبيتُه على الصليب بالمسامير ، نجده يصلِّي إلى الله :" يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " بدلا من أن يحافظ على صمته.
على الصليب ، في وسط آلامه ، يدخل يسوع في حوارٍ شيِّقٍ مع أحد السارِقَيْن المصلوبَيْن إلى جواره ، مؤكِّدًا له أنهما سيجتمعان معًا في هذا اليوم في الجنة (23 : 43 ). أكثر الأمور تعبيرًا عما نقول هو أنه بدلا من أن يطلق يسوع في النهاية صرخته الحزينة بسبب هجر الله له،حسبما يصوره لوقا، يستودع روحه عند أبيه الرحيم وكُلُّه ثقة في منزلته عند الله ،:" يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي "(23 : 46 ).
سيكون من العسير أن نغالي في تقدير أهمية هذه التغييرات التي أحدثها لوقا في مصدره (إنجيل مرقس) لكي نفهم مشكلة النص محل دراستنا . ليس هناك موضع في رواية لوقا للآلام يفقد يسوع فيه السيطرة على نفسه ؛ ولم يحدث على الإطلاق أنَّ كان يسوع في حالة عميقة و موهنة من الكرب بسبب ما سيؤول إليه مصيره . فهو هنا مسيطر تماما على قدره ، يعرف ما يجب عليه فعله وما سيحدث له بمجرد أن يحدث . إنه ذلك الرجل الذي يعيش في سلام مع نفسه و يواجه الموت بهدوء .
ماذا ، إذن ، سنقول عن عددينا المتنازع عليهما ؟ هذان هما العددان في الإنجيل حسب لوقا كله الذان يقوِّضان هذه الصورة الواضحة . هنا فحسب يشعُرُ يسوع بالأسى على مصيره المحتوم ؛ هنا فحسب يفقد هدوءه ،هنا نجده غير قادر على تحمل أعباء مصيره . لماذا حذف لوقا كل آثار الأسى الذي شعر به يسوع في كل موضعٍ آخر لو كان قد قصد أن يؤكِّده هنا بأقوى الكلمات ؟
لماذا يحذف مادة من مصدره متوافقة مع هذا العدد قبل وبعد العددين موضع دراستنا ؟ يبدو أنَّ رواية " العرق الدموي" ليسوع ، التي ليس لها وجود في أقدم و أفضل مخطوطاتنا ،ليست أصيلة في إنجيل لوقا و إنما هي إضافة أحدثها أحد النساخ إلى الإنجيل (11).

الرسالة إلى العبرانيين و يسوع المتروك

الصورة التي رسمها لوقا ليسوع تتعارض ليس فقط مع ما جاء في إنجيل مرقس ، و إنما أيضًا مع تلك الواردة في أسفار مؤلفي العهد الجديد الآخرين ،بما في ذلك المؤلف المجهول للرسالة إلى العبرانيين ، الذي يبدو أنه افترض مسبقا معرفة تقاليد الآلام التي يواجه يسوع الموت خلالها وهو مكروب و التي مات فيها بلا أيِّ عونٍ من الله أو دعم منه ، وذلك ما يمكننا رؤيته في حلِّ واحدة من أكثر مشكلات العهد الجديد إثارة .
هذه المشكلة النصية نجدها في سياق يتحدث عن خضوع كلِّ الأشياء النهائي ليسوع ، ابن الإنسان. لمرة أخرى ، سأضعُ القراءات المتباينة محل الدراسة بين الأقواس .
" لأنه عندما يخضع (الله) كلَّ شئٍ له ، لم يترك شيئا غير خاضع له ، لكننا للآن لم نرَ كلَّ الأشياء خاضعة له . لكننا رأينا يسوع بالفعل ، الذي ،كونه جُعِلَ أقل شأنا من الملائكة لوقت قليل ، كُلِّلَ بالمجد والكرامة بسبب معاناته الموت ، لكي يذوق الموت عن كل واحدٍ (بنعمة الله / بعيدا عن الله )."(عبرانيين 2 : 8-9 )
على الرغم من أنَّ غالبية المخطوطات الباقية تصرح بأنَّ يسوع مات عن جميع البشر (بنعمة الله ) CHARITI THEOU)) ، توجد مخطوطتان أخريان تقولان ، بدلا من ذلك ،إنه مات " بمعزلٍ عن الله " (CHORIS THEOU). هناك أسباب جيدة تجعلنا نعتقد أنَّ القراءة الأخيرة ، مع كل ذلك ، كانت هي القراءة الأصلية في الرسالة إلى العبرانيين .
لست بحاجة إلى الدخول في التعقيدات الخاصة بدعم المخطوطات للقراءة التي تقول " بعيدًا عن الله " إلا لكي أقول إنه حتى لو وجدت هذه القراءة في وثيقتين فقط يرجع تاريخ كتابتهما إلى القرن العاشر ، فإن أحدها (وهي المخطوطة رقم 1739 ) من المعروف أنها قد نقلت عن نسخة على الأقل لا تقل قِدَمًا عن أقدم مخطوطاتنا.
الأمر الأكثر إثارة هو أنَّ أوريجانوس أحد علماء بواكير القرن الثالث يخبرنا أنَّ هذه القراءة (بمعزلٍ عن الله ) كانت هي القراءة الواردة في أغلب المخطوطات في عصره . هناك دليل آخر كذلك يشير إلى ذيوع هذه القراءة في العصور القديمة: فقد وُجِدَتْ في مخطوطات كانت معروفة للقديسَيْن "أمبروز" و"جيروم" في الغرب اللاتيني واقتبسها عددٌ من كتاب الكنيسة حتى القرن الحادي عشر. وهكذا ،على الرغم من أنها لم تكن ثابتة فيما لدينا من مخطوطات على نطاق واسع،إلا أنها في الوقت ذاته كانت مدعومة بأدلة خارجية قوية .
وحينما يتحول المرء من الاعتماد على دليل خارجي إلى الاعتماد على دليل داخلي،فلا ريب في أفضليَّة هذه القراءة المتباينة الثابتة في المخطوطات ولو على نحوٍ ضعيف .
رأينا بالفعل من قبل أنَّ النساخ كان من المرجَّح إلى حدٍّ كبيرٍ أنَّ يغيِّروا القراءة التي يكون من الصعب فهمها إلى أخرى أكثر سهولة ، و العكس غير صحيح . قراءتنا هذه تقدِّم لنا حالة نموذجية لهذه الظاهرة . كان المسيحيون في العادة في القرون الأولى ينظرون إلى موت يسوع باعتباره إظهارًا أسمى لنعمة الله . القول إنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " يمكن اعتبار أنه يعني عددًا من الأشياء غالبها غير مستساغ . وحيث إنَّ النساخ لابد وأنهم قد اختلقوا إحدى هاتين القراءاتين بالاعتماد على القراءة الأخرى ،فهناك تساؤلٌ صغيرٌ عن أيِّ هاتين القراءتين من المرجح أكثر أنه التحريف .
لكن...هل كان هذا التحريف عن عمدٍ ؟ المدافعون عن النص الأكثر ورودا في المخطوطات " بنعمة الله " كان من المتحتم عليهم بالطبع أنَّ يزعموا أنَّ التغيير لم يطرأ بشكل متعمَّد (وإلا فسيكون نصهم المفضل هو الذي يمثِّل التحريف). تحت وطأة الاضطرار ،إذن ، قاموا بابتكار سيناريوهات بديلة لتفسير الأصل (غير المقصود) للقراءة الأكثر صعوبة . في الغالب ،سيفترضون ببساطة أنَّ التشابه بين الكلمتين محل الدراسة (XARITI/ XWRIS) في الشكل هو الذي جعل النساخ يخطئون عن غير قصد فيضعون حرف الجر(بمعزلٍ عن) بدلا من كلمة(نعمة) .
وجهة النظر هذه ،مع ذلك ، تبدو بعيدة الاحتمال قليلا. فأيُّ الحالتين التاليتين هي الأكثر احتمالا: أنَّ يقوم ناسخٌ مهملٌ أو شارد الذهن بتغيير نصه من خلال كتابة كلمة " أقل " تكرارا في العهد الجديد (بمعزلٍ عن الله ) ،أم أن يستخدم أحدهم كلمة كثيرة التكرار في العهد الجديد ("نعمة" شائعة أربع أضعاف "بمعزل عن الله")؟ هل من المحتمل أن يكون هذا الناسخ قد اختلق جملة ليس لها أي وجود في أي مكان آخر في العهد الجديد ("بمعزلٍ عن الله) أم أنه اختلق جملة تكررت أكثر من عشرين مرة (" بنعمة الله")؟ ما هو الأكثر احتمالا :أن يختلق قولا غريبا و مثيرا للصعوبات ، ولو بغير قصد،أم أن يختلق الآخر الذي يعتبر قولا مألوفا وسهل الفهم ؟ بالتأكيد ، الخيار الأخير هو الأكثر احتمالا . فالقُرَّاء يخطئون في الكلمات الغريبة لصالح الكلمات الشائعة و يبسطون ما هو أكثر تعقيدًا خاصة عندما تشرد أذهانهم جزئيًّا. لذلك ،حتى نظرية الإهمال تدعم كون القراءة الأقل ورودًا في المخطوطات (بمعزلٍ عن الله) هي القراءة الأصلية.
النظرية الأكثر شيوعًا في أوساط من يعتقدون أنَّ جملة " بمعزلٍ عن الله" ليست الجملة الأصلية هي أنَّ هذه القراءة اختلقت كملاحظة هامشية : فقد قرأ أحد النساخ في العدد 2 : 8 من سفر العبرانيين أنَّ " كل الأشياء" أُخْضِعَتْ لسلطان المسيح ، وعلى الفور ذهب فكره إلى العدد 15 : 27 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس:
" لأن كل الأشياء أُخْضِعَتْ تحت قدمه (أي المسيح)." لكن حينما يقال أنَّ " كل الأشياء ستخضع،" من الواضح أنها تعني كل الأشياء باستثناء من أخضعها له (أي أنَّ الله نفسه ليس من بين الأشياء التي أُخْضِعَت للمسيح في النهاية).
وفقا لهذه النظرية ،الناسخ الذي كان يقوم بنسخ الإصحاح 2 من العبرانيين أراد أنَّ يوضح هنا أيضًا أنَّ النص يشير إلى أنَّ كل شئ هو خاضع للمسيح ، وأنَّ هذا الأمر لا ينطبق على الله الآب. ولحماية النص من أنَّ يسئ أحدٌ فهمه ،أدخل الناسخ ملاحظة تفسيريَّة في هامش العدد 2 : 8 من العبرانيين (كنوع من الإحالة إلى اكورونثوس 15 : 27) ليشير إلى أنه لا شئ نجا من الخضوع للمسيح،" باستثناء الله". هذه الملاحظة انتقلت في وقت تالٍ بمعرفة ناسخ مهمل في العصور التالية إلى نصِّ العدد التالي ، العبرانيين 2 : 9 ، حيث ظنَّ أنَّها تنتمي إليه .
على الرغم من ذيوع هذا الحل ، إلا أنه ربما أذكى من أن يعتمد ويتطلب حدوث كثير من الخطوات المشكوك فيها لكي يتم التصديق عليه.
ليس هناك أي مخطوطة تضم بين ثناياها القراءتين معًا (أي التصحيح الذي وقع للهامش أو لنص العدد 8 ،حيث ينتمي الهامش ،ومعهما النص الأصلي للعدد 9 ). أضف إلى ذلك أنه لو ظنَّ ناسخٌ أنَّ الملاحظة كانت تصحيحا ورد في الهامش ،فلماذا وجده في الهامش بعد العدد 8 وليس العدد 9 ؟ أخيرًا ، لو أنَّ الناسخ الذي اختلق الهامش كان قد فعل ذلك ليشير إلى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ، ألم يكن سيكتب " باستثناء الله "( EKTOS THEOU)- وهي الجملة الموجودة بالفعل في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس) بدلا من أنَّ يكتب " بمعزلٍ عن الله "( CHORIS THEOU)- التي ليس لها وجود في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثيوس؟
بالجملة ، من الصعب جدا تفسير جملة (بمعزل عن الله ) لو أنَّ جملة ( بنعمة الله) كانت هي القراءة الأصلية في العبرانيين 2 : 9 .
في الوقت نفسه ، بينما يصعب توقع أنَّ ناسخًا قد قال إنَّ المسيح مات "بمعزلٍ عن الله " ،نجد أنَّ ثمة أسبابًا منطقيةً للغاية تدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذه القراءة تحديدًا هي ما خطته يدُ مؤلِّف الرسالة إلى العبرانيين . لأن هذه القراءة الأكثر ورودًا في المخطوطات هي أكثر توافقا مع العقيدة اللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين(" وهذا المنهج هو ما يعرف بالاحتمالات الداخلية"). فهذه الكلمة "نعمة" (CHARIS) لم ترد مطلقا في الرسالة كلها في معرض الإشارة إلى موت يسوع أو إلى فوائد الخلاص التي جاءت كنتيجة لموته.
بدلا من ذلك ، دائما ما نجدها تتعلق بهبة الخلاص المكفولة للمؤمن برحمة الله (انظر على وجه الخصوص الأعداد 4 : 16 ؛ و 10 : 29 ؛ و12 : 15 ؛13 : 25 من سفر الرسالة إلى العبرانيين).
وللتأكيد على ذلك ، من المعروف تاريخيًّا أنَّ المسيحيين كانوا أكثر تأثُّرًا بالمؤلفين الآخرين للعهد الجديد ،بولس على وجه الخصوص،الذي كان يرى في تضحية يسوع على الصليب باعتبارها التجسيد الأسمى لنعمة الله . لكنَّ العبرانيين لا تستخدم هذا المصطلح (نعمة الله) على هذا النحو على الرغم من أنَّ النساخ الذي كانوا يعتقدون أنَّ مؤلف هذا السفر هو بولس ربما لم يدركوا هذا.
من ناحية أخرى ،القول إنَّ يسوع قد مات " بمعزل عن الله"- وهو القول الغامض إذا فهمناه بمعزل عن السياق- يعطي معنى مقنعًا في سياقه الأدبي الواسع في ثنايا الرسالة إلى العبرانيين. وفي حين أنَّ هذا المؤلف لم يشِر على الإطلاق إلى موت يسوع باعتباره تجسيدا لل"نعمة" الإلهية ، فهو يؤكد على نحو متكرر أنَّ يسوع مات ميتة بشريَّة ومخزية تمامًا ، وأنَّه أُبْعِدَ تماما عن المملكة التي جاء منها ، مملكة الله؛ وأنَّ تضحيته ، نتيجة لذلك، قبلها الله ككفارة صحيحة عن الخطية. فوق ذلك ، لم يتدخل الله في مسألة آلام يسوع ولم يفعل شيئا ليخفف من آلامه . لذلك ، على سبيل المثال ،يتحدث سفر الرسالة إلى العبرانيين عن يسوع وهو يتضرع في مواجهة الموت إلى الله بصرخات مدوية وبدموع . في العدد 12 : 2 يقال عنه إنه احتمل " خزي " موتته،ليس لأن الله قد أعانه على ذلك ،بل لأنه كان يأمل في التبرُّر .وفي أنحاء الرسالة ،يقال إنَّ يسوع اختبر الألم و الموت الإنسانيَّ ، مثل الكائنات البشرية الأخرى " من كل وجه ". لكنَّ آلامه لم تكن كربة خففتها تدابير إلهية خاصة .
الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ هذا هو موضوع رئيسي للسياق القريب لعدد 2 : 9 ، الذي يؤكِّد أنَّ المسيح اتخذ لنفسه وضعًا أقل من الملائكة لكي يشاركنا بالدم و اللحم ولكي يختبر الآلام الإنسانيَّة ولكي يموت ميتة إنسانية. وللتأكيد على ذلك،من المعروف أنَّ موت يسوع قد جلب الخلاص،لكنَّ الفقرة لا تقول أيَّ كلمة عن نعمة الله كأمر واضح في عمل المسيح الكفَّاري،بل تركز بدلا من ذلك على طبيعة المسيح وعن نزول المسيح إلى مملكة الموت والآلام العابرة . لقد اختبر يسوع الآلام كإنسانٍ كاملٍ بمعزلٍ عن أي عون من جهة نفسه باعتباره كائنًا علويًّا. العمل الذي بدأه عند نزوله يكَمِّلُه بموته، الموت الذي كان من المتحتم أنَّ يحدث " بمعزلٍ عن الله".
كيف يمكن أن تكون القراءة "بمعزلٍ عن الله"، التي يمكن تفسيرها بصعوبة كتحريف أحدثه النساخ متوافقة مع الاختيارات اللغوية والأسلوبية واللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين، بينما القراءة البديلة "بنعمة الله"،التي لا تمثل للنساخ أي صعوبة على الإطلاق ، تبدو متناقضة مع ما تخبرنا به الرسالة إلى العبرانيين عن موت يسوع و مع الطريقة التي استعملتها في إخبارنا عن هذا الموت ؟ العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين يبدو أنه في الأصل كان يقول أنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " ، متروكًا ، على نحو مشابه كثيرا للصورة التي رسمها إنجيل مرقس في روايته عن آلام المسيح .


الخاتمــــــة
في كل حالة من هذه الحالات الثلاث التي ألقينا عليها الضوء ، هناك تباين نصيّ هام يضطلع بدور هام في الكيفية التي يتم بها تفسير هذه الفقرة المستهدفة بالدراسة . من المهم على نحوٍ واضح أنَّ نعرف ما إذا كان يسوع قد قيل عنه أنه شعر بالشفقة أم بالغضب في مرقس 1 : 41 ؛ وما إذا قد كان هادئا و رابط الجأش أم شاعر بقلق عميق في العدد لوقا 22 : 43 -44 ؛ وما إذا كان قد قيل عنه إنه مات بنعمة الله أو " بمعزلٍ عن الله "في العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين.يمكننا أنَّ ننظر في فقرات أخرى بسهولة كذلك ،لكي ندرك معنى أهميةالتعرف على كلمات مؤلف ما إذا كنا نريد أنَّ نفسر رسالته .
بالنسبة للتقليد المخطوط للعهد الجديد ، هناك ما هو أكبر بكثير من مجرد التوصل إلى ما قاله مؤلفها بالفعل. هناك أيضًا قضية (الأسباب) التي من أجلها تعرضت هذه الكلمات للتغيير وكيف تؤثر هذه التغييرات على معاني كتاباتهم .هذه القضية المتعلقة بتعديل الكتاب المقدس في الكنيسة المسيحية الأولى ستكون موضوع الفصلين التاليين حيث سأحاول أن أوضح كيف أنَّ النساخ ،الذين لم يكونوا راضين تماما عن ما قالته أسفار العهد الجديد ،عدَّلوا كلماتها ليجعلوها تدعم المسيحية الأرثوذكسية بصورة أوضح ولكي تعارض الهراطقة والنساء واليهود والوثنيين بصورة أكبر.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22