عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:34 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 20
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


"تحريف النصوص لدوافع لاهوتية"

يتناول علم النقد النصي ما هو أكثر من مجرد تحديد النص الأصلي . فهو يعمل أيضًا على رصد الكيفية التي تمَّ من خلالها تعديل النص عبر الزمن سواء بسبب هفوات النساخ أو تحريفهم المقصود لها .هذا النوع الأخير،أي التغييرات العمدية، مهمٌّ للغاية، لا لأنَّه فحسب يساعدنا بالضرورة على فهم ما كان المؤلِّفون الأصليون يحاولون قوله ،بل أيضًا لأنَّه قادر على أن يوضح لنا شيئًا عن الكيفية التي كان النساخ ،الذين أعادوا إنتاج النصوص، يفسِّرون بها النصوص التي كتبها المؤلفون. ومن خلال رصد الكيفية التي حرَّفوا من خلالها النصوص التي بين أيديهم ،يمكننا اكتشاف إشارات تدلُّنا على ما كان هؤلاء النساخ يظنونه مُهِمَّا في النص،وهكذا يمكننا أن نتعلم الكثير فيما يتعلق بتاريخ النصوص عندما كانت تُنسخ و يعاد نسخها عبر القرون .
الفرضية التي ينبني عليها هذا الفصل هي أن نصوص العهد الجديد في بعض الأحيان كانت تتعرض للتحوير لأسباب لاهوتية . هذا كان يحدث كلَّما كان النسَّاخ القائمون على عملية النسخ معنيين بالتأكُّد من أن النصوص تقول ما يريدونها أن تقوله ؛ وأحيانًا يكون هذا بسبب نزاعات لاهوتية اشتعلت في العصر ذاته الذي عاش فيه النسَّاخ . ولكي نفهم هذا النوع من التغيير،يلزمنا أن نستوعب بعض المفاهيم عن النزاعات اللاهوتية في القرون المبكرة للمسيحية قبل الظهور واسع النطاق للنسّاخ "المحترفين " ـ وهي القرون التي حدثت فيها غالبية تحريفات الكتاب المقدس.


السياق اللاهوتي لتحريف النصوص

نملك معلومات كثيرة عن المسيحية خلال القرنين الثاني والثالث - وهو العصر الذي يقع ، فلنقُلْ ،بين اكتمال كتابة أسفار العهد الجديد و تحوُّل الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى الإيمان، الذي،كما رأينا،غيَّر كل شئ (1) . هذان القرنان بشكل خاص كانا غنيين بالتنوُّع اللاهوتيِّ بين المسيحيين الأوائل. في الواقع ، كان التنوُّع اللاهوتيُّ واسعًا جدًا إلى الدرجة التي جعلت مجموعات أطلقت على نفسها اسم المسيحيين يعتنقون المعتقدات والممارسات التي يصِّرُّ معظم مسيحيي اليوم على أنَّها ليست معتقدات مسيحية مطلقًا (2) . في القرنين الثاني والثالث كان ثمَّة مسيحيون يؤمنون بأنه لا إله إلا إلهٌ واحدٌ خلق كلَّ شئ. أناس آخرون من الذين يسمُّون أنفسهم المسيحيين أصرُّوا على أن للكون إلهين اثنين متمايزين - إلهٌ للعهد القديم ( إله النقمة ) وإلهٌ للعهد الجديد ( إله المحبة و الرحمة). هاذان لم يكونا وجهين مختلفين للإله نفسه: بل كانا في الواقع إلهين مختلفين تمامًا. من المدهش أن المجموعات التي تفوهت بهذه المزاعم - بما في ذلك أتباع مرقيون ، الذين تعرفنا عليهم من قبل،أصرَّت على أن رؤاها كانت هي التعاليم الحقة التي نادى بها يسوع وتلاميذه. مجموعات أخرى ، من المسيحيين الغنوصيين على سبيل المثال، أصرُّوا على أنه لم يكن ثمة إلهين اثنين فحسب، بل اثنا عشر إلها. وآخرون قالوا: بل ثلاثون إلهًا . و آخرون استمروا في القول أن الآلهة 365 إلهًا . كل هذه المجموعات زعمت أنَّها مسيحية وأصرت على أن رؤاها هي الرؤى الحقة و أن يسوع وتلاميذه بشروا بها. لماذا بكل بساطة لم تقرأ هذه المجموعات الأخرى عهدها الجديد ليروا أن آراءهم كانت خاطئة ؟ هذا لأنه لم يكن ثمة عهدٌ جديدٌ. وللتدليل على ذلك ، كلُّ كتب العهد الجديد كانت قد كتبت قريبًا من هذا الوقت ، ولكن كان ثمة كثيرٌ من الكتب الأخرى أيضًا كلها تزعم أنَّها كُتِبَتْ بأقلام تلاميذ يسوع نفسه - منها الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل ورؤًى أخرى كانت تحوي وجهات نظر أخرى تختلف أشدُّ الاختلاف عن تلك الموجودة في الكتب التي حدث في النهاية وأن أصبحت تُعْرَفُ بالعهد الجديد. العهد الجديد نفسه ظهر نتيجة لهذه الصراعات حول العقيدة في الله ( أو الآلهة) حيث اكتسبت مجموعة من مجموعات المؤمنين متحوِّلين إلى الإيمان أكثرَ مما اكتسبته المجموعاتُ الأخرى وحدَّدت الكتب التي ينبغي أن تتضمنها القائمة الرسمية للكتاب المقدس. في القرنين الثاني والثالث ،رغم ذلك،لم يكن ثمة قائمة رسمية ولا عقيدة لاهوتية متفق عليهما . بدلا من ذلك ، كان هناك تنوعٌ كبيرٌ :مجموعات متنوعة تؤكد على عقائد لاهوتية متنوعة مبنية على نصوص مكتوبة متنوعة وكلُّها يزعم أنه قد كُتِبَ بأقلام تلاميذ يسوع .
بعض من هذه المجموعات المسيحية أصرَّت على أن الله قد خلق هذا العالم ؛ آخرون رأوا أن الإله الحق لم يخلق العالم (الذي هو،في النهاية،مكان شرير)، لكنَّ العالم نتج عن كارثة كونية . بعضٌ من هذه المجموعات أصرَّ على أن الكتب المقدسة اليهودية أوحاها الإلهُ الواحدُ الحقُّ ؛ آخرون زعموا أن الكتب المقدسة اليهودية تنتمي إلى إلهِ اليهودِ الأقلِّ شأنًا الذي لم يكن هو نفسه الإله الواحد الحق. بعض هذه المجموعات أصرَّت على أن يسوع المسيح كان الابن الوحيد للإله و أنَّه كان إنسانًا كاملا وإلهًا كاملا ؛ مجموعات أخرى أصرَّت على أن المسيح كان إنسانًا تامًّا ولم يكن إلهًا على الإطلاق ؛ آخرون ادعوا أنه كان إلهًا كاملا ولم يكن إنسانًا على الإطلاق؛ وأكد البعض الآخر أن يسوع المسيح كان الشيئين كليهما : كائنًا إلهيًّا ( المسيح) و كائنا بشريًّا (يسوع). بعض هذه المجموعات آمنت بأن موت المسيح حدث لأجل خلاص العالم؛ بينما أكد الآخرون أن موت المسيح لم يكن له أيَّ علاقة بخلاص العالم؛ في حين أصرَّت مجموعات أخرى على أن المسيح لم يَمُتْ أبدًا في الحقيقة .كل واحدة من وجهات النظر هذه - ووجهات نظر أخرى بالإضافة إليها - كانت محلًّا لنقاشات وحوارات و مناظرات متواصلة طوال القرون الأولى من عمر الكنيسة حيث كان المسيحيون من مختلف المعتقدات يحاولون إقناع الآخرين بصحة مزاعمهم . مجموعةٌ واحدةٌ في النهاية "خرجت منتصرة" من هذه المناظرات. إنها تلك المجموعة التي قررت ما ستكون عليه العقائد المسيحية : الاعتقادات التي ستؤكد أنه ليس ثمة إلا إله واحد ، هو الخالق ، ويسوع ابنه هو الإنسان و الإله كلاهما ؛ وأنَّ الخلاص تمَّ بالموت والقيامة . وهي أيضًا تلك المجموعة التي قررت أيَّ الكتابات ستتضمنها القائمة الرسميَّة للكتاب المقدس. لقد اتفق معظمُ المسيحيِّين ،قريبًا من نهاية القرن الرابع،على أن الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال ورسائل بولس وكذلك مجموعة أخرى من الرسائل مثل رسالتي يوحنا الأولى وبطرس الأولى ،إلى جانب رؤيا يوحنا، هم جزء من القائمة الرسمية . ويا تُرى من كان يقوم بنسخ هذه النصوص ؟ هم أنفسهم المسيحيون من أعضاء الرعويات نفسها ،أي المسيحيون الذين كانوا على وعي تامٍّ بـالمناظرات التي دارت حول شخص الإله وحول منزلة الكتب المقدسة اليهودية وطبيعة المسيح وآثار موته بل وكانوا حتى مشاركين فيها. إنها المجموعة التي نصَّبت من نفسها "أرثوذكسًا"( التي تعني أنهم يؤمنون بما يعتبرونه هم " الاعتقاد الصحيح") ثمَّ قرَّرت ما ستؤمن به الأجيال المسيحية التالية وما ستقرأه على اعتبار أنَّه الكتاب المقدس . إذن ما الاسم الذي ينبغي أن نطلقه على وجهات النظر "الأرثوذكسية" في الفترة التي سبقت تحولها إلى الرأي الغالب عند كل المسيحيين ؟ ربما من الأفضل أن نسميها "ماقبل الأرثوذكسية" (proto-orthodox). ما يعني أنها تمثل وجهات نظر المسيحيين " الأرثوذكس" قبل أن ينتصروا في النزاعات التي وقعت في وقتٍ قريبٍ من بواكير القرن الرابع الميلاديّ.
هل أثرت هذه النزاعات على النسّاخ حينما كانوا يقومون بنسخ كتبهم المقدسة ؟ في هذا الفصل سأزعم أنها أثَّرت. ولبيان هذه المسألة،سأقتصر على قضية طبيعة المسيح التي تمثِّلُ جانبًا واحدًا فحسب من جوانب النزاعات اللاهوتية المتواصلة خلال القرنين الثاني والثالث. هل كان المسيحُ إنسانًا ؟ هل كان إلهًا ؟ أم كان الاثنين كليهما ؟ ولو كان هو الاثنين كليهما، فهل كان كائنين منفصلين أحدهما بشريٌّ والآخر إلهيٌّ ؟ أما كان كائنا واحدا بشريًّا وإلهيًّا في الوقت ذاته ؟
هذه هي الأسئلة التي تمَّت الإجابة عنها في نهاية الأمر عبر العقائد التي صيغت ثمَّ استمر تناقلها إلى أن وصلتنا في عصرنا الحالي،إنها العقائد التي تنصُّ على أنَّه يوجد" ربٌّ واحدٌ يسوعُ المسيح " الذي كان إلهًا كاملا وإنسانًا كاملا. قبل أن تصدر هذه القرارات ،كان ثمَّة اختلافات واسعة وكان لهذه الاختلافات تأثيرها على نصوص كتابنا المقدس (3) .ولتوضيح هذا الأمر سأدرس ثلاثة مواضع للنزاع حول طبيعة المسيح وسأرصد الطرق التي غيَّر من خلالها نسَّاخٌ حسني النية(لا شك في ذلك) نصوص الكتب التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد. لقد حرَّفوا النصوص التي لديهم عن عمد بغية جعلها أكثر موافقةً لوجهات نظرهم اللاهوتية الشخصيَّة وأقل موافقة لوجهات النظر اللاهوتية التي يعتنقها خصومهم . أول المواضع التي سأتناولها بالبحث تتعلق بزعم بعض المسيحيين أن يسوعَ كان إنسانًا كاملا لدرجة لا يمكن معها أن يكون إلهًا . و تلك كانت وجهة نظر مجموعة من المسيحيين يسميها العلماء اليوم بالتبنَّويين (adoptionists). وجهة نظري التي أجادل لإثباتها هي أن النسَّاخ المسيحيين الذين كانوا خصومًا لوجهات النظر التبنّوية حول يسوع قاموا بتعديل نصوصهم في بعض المواضع لكي يؤكَّدوا وجهة نظرهم القائلة أن يسوع لم يكن إنسانًا فحسب وإنما كان إلهًا أيضًا. يمكننا أن نسمي هذه التعديلات تحريفات الكتاب المقدس المضادة للتبنَّويين.

تحريفات النص المضادة للتبنَّويين
المسيحيون التبنِّيّون الأوائل

عددٌ من المجموعات المسيحية في القرنين الثاني والثالث نعلم عنها أنَّها كان لها وجهات نظر" تبنَّويّة" فيما يتعلق بالمسيح . وجهة النظر هذه سُمِّيت بالتبنَّوية لأنَّ المؤمنين بها أكدُّوا أن يسوع لم يكن من جوهرٍإلهيٍّ وإنما هو كائنٌ بشريُّ كاملٌ من لحمٍ ودمٍ " تبنّاه" الله لكي يصير ابنًا له وهو ما حدث غالبًا أثناء لحظة عماده (4) . أحدًُ أشهرِ المجموعات المسيحية المبكرة التي اعتنقت عقائد تبنَّوية حول المسيح كانت طائفة من اليهود المتنصرين عرفت باسم الأبيونيين .
لسنا على يقين من السبب الذي من أجله أطلق عليهم هذا الاسم . فمن المحتمل أنه ظهر كتسمية أطلقوها هم على أنفسهم استمدُّوها من الاسم العبري إبيون (Ebyon)الذي يعني " فقير". أتباع يسوع هؤلاء من المحتمل أنَّهم تأسَّوا بتلاميذ يسوع الأوائل في التخلِّي عن كلِّ شئٍ يملكونه في سبيل إيمانهم وهكذا فرضوا على أنفسهم فقرًا اختياريًّا من أجل الآخرين .
مهما يكن مصدر الاسم الذي حملوه فقد ذُكِرَت آراء هذه المجموعة بوضوح في سجلاتنا المبكرة،خاصة تلك التي كتبها أعداؤهم الذين نظروا إليهم باعتبارهم هراطقة. أتباع يسوع هؤلاء كانوا مثلََه يهودًا ؛حيث كان إصرارهم على أن الإنسان "لكي يصير تابعًا من أتباع يسوع فعليه أن يكون يهوديًّا" هو ما كان يميِّزُهم عن المسيحيين الآخرين. فكون الإنسان يهوديًّا يعني بالنسبة للرجال أن يختتنوا. وبالنسبة للرجال والنساء،كان ذلك يعني اتِّباع الشريعة اليهودية التي جاء بها موسى بما في ذلك أحكام الطعام الكوشير (الحلال) وحفظ السبت و الأعياد اليهوديَّة .
لقد كان مفهومُهم عن يسوع باعتباره مسيحًا يهوديّا هو،على وجه الخصوص، ما فرَّق بين هؤلاء المسيحيين وبين الآخرين. لأنَّه وحيث إنهم كانوا موحِّدين شديديِّ الالتزام ـ أي يؤمنون بأنًّ واحدًا فحسب هو المستحق لأن يكون إلهًا ـ فقد أصرُّوا على أن يسوع لم يكن إلهًا،بل كائنًا بشريًّا لا يختلف في "الطبيعة" عن بقيتنا. فهو قد وُلِِدَ من اتِّحادٍ جنسيِّ بين أبويه يوسف ومريم ووُلِد مثل أيِّ شخصٍ آخرَ ( فأمُّه لم تكن عذراءً) وتربّى ،من ثمَّ، في بيت يهوديٍّ. أمَّا ما جعل يسوع مختلفًا عن الآخرين كلِّهم فهو أنه كان أكثرهم برًّا في اتِّباعه للشريعة اليهودية؛ ومن أجل شدة برِّه تبنَّاه الله لكي يصير ابنه في لحظة العماد حينما سُمِع صوتٌ قادم من السماء يعلن أنَّه ابنَ الله . من تلك اللحظة فصاعدًا ،شعر يسوع أنه مدعوٌّ لإكمال المهمة التي كان الله قد أوكلها إليه ـ الموتُ على الصليب كأضحيةٍ كريمة من أجل خطايا الآخرين .
فعل ذلك بطاعة مخلصة تجاه ما دُعِي إليه ؛ الرب حينئذ أكرم تضحيته بإقامته يسوع من بين الأموات ورفعه إلى السماء حيث ينتظر إلى الآن قبل عودته لدينونة الأرض .
وبحسب الأبيونيين،لم يكن ليسوع،إذن،وجود قبل الزمان؛ وهو لم يُولَد من عذراء ؛ولم يكن إلهًا. كان يسوع إنسانًا بارًّا و مميَّزًا اختاره الله وأولاه علاقة خاصة معه .
ردًا على وجهات النظر التبنّويّة تلك ،مسيحيو ما قبل الأرثوذوكسية أصرّوا على أن يسوع لم يكن إنسانًا " فحسب" ، وإنما كان بالفعل من جوهرٍ إلهيّ، بل كان هو الله نفسه من بعض الوجوه. فلقد وُلِدَ من عذراء،وكان أكثرَ برًّا من أيِّ إنسانٍ آخرَ بحكم جوهره المختلف، وفي لحظة عماده لم يعلنه الله ابنا ( عبر التبنّي ) وإنما أكّد فقط بنوته له كما هوحاله منذ الأزل .
كيف أثرت هذه النزاعات على نصوص الكتاب المقدَّس التي كانت منتشرة خلال القرنين الثاني والثالث ، التي هي تلك النصوص كانت في طور النّسْخ من خلال نُسَّاخٍ غير محترفين كانوا هم أنفسهم متورطين إن بصورة أكبر أو أقل في تلكم النزاعات ؟ هناك القليل جدا ،بل تكاد تكون منعدمة،من القراءات المتباينة التي يبدو أنها كتبت عبر نساخ كانوا يعتنقون وجهة نظر تبنّوية . سبب هذه الندرة في الأدلة لا ينبغي أن يصيبنا بالدهشة . فلو حدث أن أحد المسيحيين التبنَّويين كان قد أدخل وجهات نظره إلى نصوص الكتاب المقدس ،فبالتأكيد سيجد من يصحِّحُها من بين النسَّاخِ المتأخرين ممن يعتنقون خطًّا أكثر أرثوذكسية. ما وجدناه بالفعل،مع ذلك،هي نماذج تعرَّضت فيها النصوص للتحريف على نحوٍ يبدو وكأنه قد حدث لمواجهة وجهة نظرٍ تبنَّوية فيما يتعلق بطبيعة المسيح . هذه التغييرات تؤكِّد أن المسيح مولودٌ من عذراء وأنه لم يُتَبَنَّ أثناء العماد بل هو نفسه كان إلهًا .

تحريفات النص المضادة للتبنَّويين

لقد رأينا بالفعل من قبل تغييرا نصّيًّا يتعلق بالنِّزاع حول طبيعة المسيح وذلك عند نقاشنا في الفصل الرابع للأبحاث النصّية الخاصة بـ ( ج.ج فيتشتاين ). قام فيتشتاين بفحص المخطوطة السكندرية ، المحفوظة الآن في المكتبة البريطانية وتوصل إلى أنَّه في 1 تيموثي 3 : 16 ،بينما تتحدث معظم المخطوطات المتأخرة عن المسيح على اعتبار أنَّه " الله ظهر في الجسد "، تتحدث هذه المخطوطة الأكثر قِِدَمًا في الأصل ،بدلا من ذلك، عن المسيح "الذي أُظْهِرَ في الجسد " (who was made manifest in the flesh) .الاختلاف دقيق جدا في اللغة اليونانية ـ فهي فرق بين حرف "ثيتا" وحرف "أوميكرون" المتشابهين كثيرًا. أحد النسَّاخُ المتأخرين أدخل تغييرًا إلى القراءة الأصلية حتى لا تعود تُقرأ " الذي" وإنما لتقرأ " الله " ( ظهر في الجسد ). أو فلنقلها بكلمات أخرى،هذا المصحّح المتأخِّر غيّر النص بتلك الطريقة لكي يؤكِّد على ألوهية المسيح. من المدهش أن ندرك أن هذا التصحيح نفسَه وقع في أربعٍ من مخطوطاتنا الأخرى الأكثر قدمًا التي تخص 1 تيموثي ، في جميع هذه المخطوطات كان ثمة مصحِّحُون يغيرون النص بالطريقة ذاتها لكي يُدعى المسيح الآن " إلها" على نحوٍ واضحٍ. هذا النص أصبح هو النص المفضل لدى الأغلبية الساحقة من المخطوطات البيزنطية (أي المنتمية للعصور الوسطى ) - وبعد ذلك أصبح نصُّ غالبية الترجمات المسيحيَّة القديمة . مخطوطاتنا الأقدم والأفضل،مع ذلك،تتحدث عن المسيح "الذي" أُظْهِرَ في الجسد بدون أن تدعو يسوع إلهًا وذلك بشكل شديد الوضوح. هذا التغيير الذي حدث وأن تسيَّد المخطوطات المكتوبة في العصور الوسطى،إذن، صُنِعَ صُنْعًا لكي يؤكِّد ألوهية يسوع في نصٍّ كان يتَّسم بالغموض،في أحسن الظروف، بشأنها. هذا سيصبح مثالا على التحريف المضاد للآراء التبنوية وتحريفًا نصيّا أُحدِثَ لكي يضاد الزعم بأنَّ يسوع كان إنسانًا كاملا و لم يكن من جوهرٍ إلهيّ.
تغييراتٌ أخرى مضادة للآراء التبنويّة وقعت في المخطوطات التي تؤرِّخُ لحياة يسوع المبكرة في إنجيل لوقا. ففي موضعٍ واحدٍ يقال لنا أن يوسف ومريم اصطحبا يسوع إلى الهيكل وباركه رجل الله سمعان ، " وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ " (لوقا 2 : 33 ). أبوه ؟!! كيف يجرؤ النص أن يدعو يوسفَ أبًا ليسوع لو كان يسوع قد وُلِد من عذراء ؟ ليس من الغريب إذن أن يغيِّر عددٌ كبيرٌ من النُسّاخ النصَّ لكي يزيلوا الإشكالية المحتملة وذلك عبر قولهم " وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ ..." فالآن لا يسع مسيحيًّا تبنّويًّا أن يستغلَّ هذا النصَّ لكي يدعم الزعم القائل أن يوسفَ كان والدَ الطفل .
ظاهرة مشابهة حدثت بعد عددٍ قليلٍ من الأعداد في قصة يسوع ذي الاثنى عشر ربيعًا في الهيكل . للقصة خطٌّ مألوف: يوسف ومريم ويسوع يحضرون احتفالا في أورشليم لكن بعد ذلك عندما يتوجه باقي العائلة إلى بيتهم مع القافلة يتخلَّف يسوع بغير علمهم . كما يقول النص ،" أبواه لم يكونا يعلمان عن ذلك ." لكن كيف للنص أن يتحدَّث عن أبويه في الوقت الذي لم يكن يوسف أبًا ليسوع في الحقيقة ؟ عددٌ من الشواهد النصَّية "تصحّحُ" المشكلة عبر جعلها النص يُقرأ كالتالي،" وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا". مثالٌ آخرُ نستقيه من بعض الأعداد التالية، فبعد أن عادوا إلى أورشليم للبحث عن يسوع في كلِّ مكانٍ، تجده مريم بعد ثلاثة أيام في الهيكل. فإذا بها توبخه قائلة :" أنا وأبوك كنَّا نبحث عنك!" ومرة أخرى،قام بعض النسّاخ بحل المشكلة - هذه المرة عبر تحريف النص ببساطة لكي يُقرأ :"كنا نبحث عنك !"
أحدُ أكثرِ القراءات المتباينة المضادة للآراء التبنّوية طرافة بين مخطوطاتنا تحدث تمامًا حيث يتوقع المرء وجودها، ففي الرواية الخاصة بعماد يسوع على يدي يوحنا،أي في اللحظة ذاتها التي أصرَّ كثيرٌ من التبنَّويين على أن يسوع اختير فيها من قِبَل الله لكي يصبح ابنَه المتبنَّى. ففي إنجيل لوقا ،كما في مرقس،عندما كان يسوع يتمُّ تعميدُه ،انفتحت السماء ونزل الروح على يسوع في شكل حمامة وجاء صوت من السماء . لكنّ مخطوطاتِ إنجيلِ لوقا منقسمة بشأن ما قاله الصوت على وجه التحديد. وفقًا لمعظم مخطوطاتنا، نجدها تنطق الكلمات نفسها التي يجدها المرء في إنجيل مرقس :" أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ! " (مرقس 1 : 11 ؛ لوقا 3:23).
في مخطوطة يونانية مُمْعنةٌ في القِدَمِ وفي العديد من المخطوطات اللاتينية يقول الصوت شيئًا مختلفًَا بصورة صادمة :" أنت ابني ،أنا اليوم ولدتُك."
اليوم! ولدتُك! ألا يوحي ذلك بأنَّ يوم العماد هو اليوم ذاته الذي أصبح فيه يسوع ابنًا لله ؟ ألا يمكن أن يستخدم مسيحيٌّ تبنّويٌّ هذا النص ليدعم قضية صيرورة المسيح ابنا لله في هذا اليوم ؟
وبما أن هذه القراءة المتباينة تتسم بمثل هذه الطرافة،ربما من المستحسن أن نعيرَها بعض الانتباه كتوضيحٍ موسَّعٍ لصعوبة المشكلات التي يواجهها النقاد النصِّيون.
القضية الأولى التي ينبغي حلها هي : أيُّ هذين الشكلين من النص هو الشكل الأصلي وأيُّهما التحريف ؟ الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية تدعم القراءة الأولى "أنت ابني الحبيب الذي به سررت"؛ وهكذا ربما تغوي هذه الحقيقة المرء لكي ينظر إلى القراءة الأخرى باعتبارها تحريفًا . المشكلة في هذه الحالة هو أن هذا العدد اقتبسه كثير من آباء الكنيسة الأوَّلون في وقت لم تكن فيه معظم مخطوطاتنا قد كتبت بعد . فالنص يتمُّ اقتباسه في القرنين الثاني والثالث في كل مكان من روما إلى الإسكندرية ومن شمال أفريقيا وفلسطين إلى بلاد الغال (فرنسا)وأسبانيا. وفي كل الحالات تقريبًا ، كان الشكل الثاني من النص هو الذي يقتبس ( "أنا اليوم ولدتُك ").
أضف إلى ذلك أن هذا هو شكل النص الذي لا يشبه كثيرًا ما هو موجود في الفقرة الموازية في مرقس. يحاول النساخ بصورة نمطيّة ،كما رأينا ،أن يوفِّقوا بين النصوص بدلا من أن يتركوها متنافرة . لذا فشكل النص الذي يختلف عن مرقس هو الذي من المحتمل أكثر أن يكون النص الأصليَّ في لوقا. هذه الافتراضات ترجح أن القراءة الأقل ورودا في المخطوطات ـ" أنا اليوم ولدتُك" ـ هي بالفعل القراءة الأصلية وأنها تعرضت للتحريف عبر نسَّاخٍ خشوا من صداها التبنَّويّ . بعض العلماء اعتقدوا وجهة النظر المخالفة عبر التذرُّع بأنَّ الصوت أثناء العماد لدى لوقا لا يمكن أن يقول" أنا اليوم ولدتك " لأنه من الواضح أنه قد ذُكِرَ من قبلُ بالفعل ضمن رواية لوقا أن يسوع هو ابن الله . فها هو الملاك جبريل يعلن قبل ميلاد يسوع ،في لوقا 1 : 35،لأمِّ يسوع أن " اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. "
حسب وجهة نظر لوقا نفسه،بكلماتٍ أخرى،كان يسوع بالفعل ابنًا لله عند ولادته. فلا يمكن أن يقال عن يسوع ،وفقًا لهذه الحُجة، إنَّه أصبح ابنًا لله في أثناء عماده- ولذلك فالقراءة الأكثر ذكرا في المخطوطات ،" أنت ابني الحبيب الذي به سررت،" من المحتمل أن تكون هي القراءة الأصلية. الصعوبة التي يواجهها هذا النمط من التفكير ـ برغم مظهره المقنع للوهلة الأولى ـ أنَّه يتجاهل الكيفية التي يستخدم بها لوقا ألقاب يسوع بشكل عام في ثنايا كتابه ( بما في ذلك كتابه الثاني سفر الأعمال وليس فقط الإنجيل ). تأمَّل،على سبيل المثال، ما يقوله لوقا عن يسوع باعتباره " المسيح"( التي هي الكلمة العبرية المقابلة للمصطلح اليوناني كرايست). فوفقًًا للوقا 2 : 11،ولد يسوع كمسيح، لكنَّه في واحدة من العبارات الواردة في سفر الأعمال، يقال عنه إنَّه صار مسيحًا أثناء عماده ( أعمال 10 : 37 – 38 )؛ وفي فقرة أخرى يصرح لوقا بأنَّ يسوع أصبح المسيح عند قيامته من الأموات ( أعمال 2 : 38 ). كيف يمكن أن تكون كل هذه الأمور صحيحة مجتمعةً ؟ يبدو أن التأكيد على اللحظات الهامة في حياة يسوع بالنسبة للوقا كان هو الأمر الأهم والذي ينبغي التشديد عليه باعتباره ضروريًّا لتأكيد هوية يسوع( باعتباره المسيح على سبيل المثال). الأمر ذاته ينطبق على المفهوم اللوقاوي عن المسيح باعتباره " الرب" (Lord). فقد قيل عنه أن الربَّ قد وُلِد في لوقا 2 : 11 ؛وأطلق عليه لقب"الرب" أثناء حياته في لوقا 10 : 1 ؛ لكنَّ سفر الأعمال 2 : 38 يشير إلى أنه أصبح ربًّا عند قيامته . من وجهة نظر لوقا، شخصية يسوع باعتباره الرب وابن الله هي الأمر ذو الأهمية . لكنَّ وقت حدوث ذلك،من الواضح،أنه ليس كذلك. فيسوع هو كل هذه الأشياء عند لحظات حياته الحاسمة ـ الميلاد ، العماد ، القيامة ، مثلا.
يبدو ، من ثمّ، أنه في رواية لوقا عن عماد يسوع في الأصل،أتى الصوت من السماء ليعلن" أنت ابني ، أنا اليوم ولدتُك ". من المحتمل أن لوقا لم يكن يقصد أن يتم تفسير هذا العدد بما يخدم وجهة النظر التبنَّويّة،حيث إنه،في النهاية، كان بالفعل قد حكى قصة ميلاد يسوع من عذراء ( في الفصلين 1 – 2 ). لكنَّ المسيحيين المتأخِّرين عند قراءتهم للعدد 3 : 22 من إنجيل لوقا ربما قد أدهشهم مضمونها المحتمل حيث إنه يبدو عرضةً للتفسير التبنّوي.
ولكي يمنعوا كلَّ أحدٍ من أن يفهم هذا النص على هذا النحو، بعضُ نسَّاخ ما قبل الأرثوذكسيّة غيَّروا النص لكي يجعلوه متطابقًا تمامًا مع النص 1 : 1 من إنجيل مرقس. الآن، وبدلا من أن يقال عن يسوع إنَّه وُلِد من الله، قيل عنه ما يؤكِّد أنَّه:"أنت ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ". وهذا ، بكلمات أخرى، تغييرٌ آخر للنص وقع لدوافع مضادة للأفكار التبنّويّة .
سوف نختم هذا الجزء من نقاشنا بالنظر إلى تحريف آخر على الشاكلة ذاتها . هذا التغيير،مثلما هو الحال مع 1 تيموثي 3 : 16،يتعلق بنص قام فيه الناسخ بإحداث تحريف لكي يؤكِّدَ بعبارات قوية للغاية أن إيماننا بيسوع ينبغي أن يكون باعتباره الله بكل ما في الكلمة من معنى . يقع هذا النص في إنجيل يوحنا الذي هو الإنجيل الذي يتميز عن غيره من الأسفار التي نجحت في أن تكون جزءًا من القائمة القانونية للعهد الجديد في أنَّه بالفعل قد قطع شوطًا كبيرًا تجاه تحديد هويّة يسوع باعتباره كائنًا إلهيًّا( انظر على سبيل المثال ، يوحنا 8 : 58 ؛ 10 :30 ؛ 20 : 28 ). تحديد الهويّة هذا قد حدث على نحوٍ مدهشٍ للغاية في فقرة كان نصُّها الأصليّ مَحِلا لنزاع ساخن . الأعداد الثمانية الأولى من إنجيل يوحنا يطلق عليها أحيانا مقدمة الإنجيل (Prologue). يوحنا هنا يتحدث عن" كلمة الله "الذي كان" في البدء عند الله" والذي "كان هو الله " ( الأعداد 1- 3 ).كلمة الله هذه خلقت كلَّ شئٍ موجود. فوق ذلك، هي وسيلة الله في الاتصال بالعالم ؛ فالكلمة هي الطريقة التي بها أظهر الله نفسه للآخرين . ويقال لنا إنَّه في لحظة ما "الكلمة صار جسدا و حلّ بيننا ." بطريقة أخرى، كلمة الله أصبحت كائنًا بشريًّا ( عدد 14 ). هذا الكائن البشريُّ كان هو" يسوع المسيح "(عدد 17 ). وفقًا لهذا الفهم للأمور ،فإن يسوع المسيح يمثّل " تجسُّد " كلمة الله ، الذي كان مع الله في البدء وكان هو نفسه الله،والذي من خلاله خلق الله كلَّ الأشياء . ثمَّ تنتهي المقدمة ببعض الكلمات المفاجئة ، التي تأتي في أشكال متنوعة :" اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. "
المشكلة النصّيّة تتعلق بتحديد هوية هذا " الوحيد". هل ينبغي تحديده باعتباره "الإله الوحيد الذي هو في حضن الآب " أم باعتباره " الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب "
يجب أن يكون معلومًا أنَّ القراءة الأولى هي القراءة التي وجدت في أقدم المخطوطات والأفضل بوجه عام - وهي التي تنتمي إلى العائلة النصّيّة السكندرية. إلا أن الأمر المدهش هو أنه نادرًا ما نجدها في مخطوطات ليست لها صلة بالإسكندريّة . هل من الممكن أن تكون هذه القراءة قراءةً نصيّةً متباينة أحدثها ناسخٌ في الإسكندرية ثمّ تمَّ تعميمُها هناك ؟ لو صحَّ ذلك،فهذا سيفسِّرُ السبب الذي من أجله تضمنت الغالبية الساحقة من المخطوطات من كل الأماكن الأخرى القراءة الثانية التي جاء فيها أن يسوع لم يُدْعَ الإله الوحيد (unique God) ، وإنما الابن الوحيد .هناك أسبابٌ أخرى تجعلنا نعتقد أن القراءة الأخيرة هي،في حقيقة الأمر،القراءة الصحيحة. وذلك لأنَّ إنجيل يوحنا يستخدم عبارة "الابن الوحيد" ( أحيانا تترجم بطريقة خاطئة كـ" الابن الوحيد المولود only begotten Son " ) في مناسبات أخرى عديدة ( انظر يوحنا 3 : 16 ، 18 )؛ ولم يذكر في أيِّ مكان آخر أن المسيح هو " الإله الوحيد ". فوق ذلك ، ماهو المقصود من إطلاق (الإله الوحيد)على المسيح ؟ كلمة وحيد unique باليونانية تعني " الفريد من نوعه." من يكون وحيدًا من نوعه لابد أنه واحدٌ فقط. أمَّا مصطلح الإله الوحيد لابد وأنه يشير إلى الله الآب نفسه ـ وإلا فهو ليس فريدًا من نوعه. لكنَّ التعبير لو كان يشير إلى الآب ، فكيف يتم استخدامه للدلالة على الابن؟
لو سلمنا بأنَّ عبارة إنجيل يوحنا "الابن الوحيد" هي الأكثر شيوعًا (وقابلية للفهم )، فمن الواضح أنَّ تلك العبارة هي التي كان عليها النصُّ المكتوب في يوحنا 1 : 18 في شكله الأصليّ . هذا النص بحد ذاته ما يزال يمثل رؤية أكثر تمجيدًا للمسيح ـ فهو"الابن الوحيد الذي في حضن الآب." وهو الشخص الذي يجعل الله ظاهرًا لكلِّ إنسانٍ آخرَ .
يبدو ، مع ذلك ، أنَّ بعض النسّاخ - من المحتمل أنَّ الإسكندرية كانت موطنهم - لم يكونوا سعيدين حتى بتلك الرؤية الممجِّدة للمسيح ،ولذلك جعلوها أكثر تمجيدًا عن ذي قبل وذلك عبر تحريف النص . الآن المسيح ليس ابن الله الوحيد فحسب،بل هو الإله الوحيد نفسُه ! وهذا أيضًا يبدو،حينئذ، تغييرًا للنص لأسباب مضادة للآراء التبنّويّة اضطلع به نسّاخ ماقبل الأرثوذكسية في القرن الثاني.

تحريفات النص المضادة للآراء الظهورية

*الظهوريون المسيحيون الأوائل

في الطرف المقابل للخط اللاهوتي القادم من خلفية يهودية متنصرة والمتمثل في الأبيونيين ومعتقداتهم التبنَّويَّة في المسيح،كانت تقف مجموعات من المسيحيين عرفوا باسم الظهوريين (5) .أصل هذا الاسم مشتقٌ من الكلمة اليونانية (DOKEO) ،التي تعني " ظهور" أو "ترائي". كان الظهوريون يعتقدون أن يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا كاملا من لحمٍ ودمٍ . بل كان بدلا من ذلك إلهيا تمامًا ( وفقط )؛ لكنه "بدى" أو " ترائى " ككائن بشريٍّ ،أو بدى وكأنه يشعر بالجوع والعطش و الألم ، وبدى وكأنه ينزف ويموت. وحيث أن يسوعَ كان هو الله ، فلا يسعه أن يكون إنسانًا على الحقيقة. وإنَّما هو ببساطة كان قد جاء إلى الأرض في "مظهر" بشريٍّ من لحمٍ ودم.
ربما كان الفيلسوف المُعَلِّم مرقيون هو أشهرُ ظهوريِّي القرون الأولى للمسيحية. لدينا كمٌّ كبير من المعلومات حول مرقيون لأن آباء الكنيسة في عصر ما قبل الأرثوذكسية من أمثال إيريناوس و تيرتوليانوس اعتبروا آراءه تهديدًا حقيقيًّا ولذا كتبوا عنها بكثافة. وما يزال لدينا كتابٌ من خمس مجلدات كتبه "تيرتليانوس" يسمى ضد مرقيون تحدث فيه بالتفصيل عن مفهوم الإيمان عند مرقيون وشنَّ فيه هجومًا عليه . ومن هذه المقالة الجدالية يمكننا أن نستقي الخصائص الرئيسية لأفكاره.
كما رأينا (6) ، يبدو أنَّ مرقيون استقى أفكاره من الرسول بولس الذي كان يعتبره التلميذ الحقيقيَّ الوحيد ليسوع . في بعض رسائله يفرِّق بولس بين الناموس (الشريعة) والإنجيل مؤكِّدًا أنَّ الإنسان سيتبرَّر أمام الله عبر الإيمان بالمسيح (أي الإنجيل ) وليس بتأدية أعمال الناموس اليهودي. بالنسبة لمرقيون هذا الاختلاف بين إنجيل المسيح وشريعة موسى كان اختلافًا جذريًّا إلى درجة أن الإله الذي أعطى الشريعة لا يمكنه أبدًا أن يكون ذلك الذي أعطانا الخلاص في المسيح .
لقد كانا،بطريقة أخرى ،إلهين اثنين مختلفين . فإله العهد القديم هو الذي خلق العالم واختار إسرائيل ليكونوا شعبه وأعطاهم شريعته المتوحشة . وهو،عندما ينقضون شريعته ( كما فعلوا جميعا )،يعاقبهم بالموت . أما يسوع فقد جاء من قِبَل الإله الأعظم ،أُرسل لينقذ الناس من إله النقمة الذي يعبده اليهود . وحيث إنه لا ينتمي لهذا الإله الآخر الذي خلق العالم المادِّيّ، لم يكن يسوع نفسه جزءًا من هذا العالم المادي. هذا يعني،من ثمّ،أنه لا يمكن أن يكون قد وُلِد في الحقيقة ،وأنه لم يكن له جسدٌ ماديٌّ ،ولم يكن بوسعه النزيف حقيقةً وهذا يعني أنه في حقيقة الأمر لم يمت . كل هذه الأشياء كانت أمرًا ظهوريًّا. لكنَّ يسوع حين "ظهر" ميتًا ـ كأضحية كاملة في الظاهر- قَبِِل ربُّ اليهود هذا الموت كثمن لمغفرة الخطايا. وكل من يؤمن بهذا سينجو من نقمة هذا الإله.
مؤلفوا ماقبل الأرثوذكسيّة مثل ترتليانوس حملوا بشدة على هذه العقيدة اللاهوتية وأصرُّوا على أنَّه لو لم يكن المسيح كائنًا بشريًّا حقيقيًّا ،فلن يكون بوسعه أن ينقذ الكائنات البشرية الأخرى،وأنَّه لو لم ينزف دماءًا على الحقيقة ، فإنَّ دمه لا يمكن أن يجلبَ الخلاصَ وأنَّه لو لم يمت حقيقةً ،فموته " الظاهري" هذا لن يفيد أي شخص . لقد اتخذ ترتليانوس والآخرون، إذن، موقفًا قويًّا مفاده أن يسوع ـ في حين أنه ما يزال كائنًا إلهيًّا (على الرغم ممَّا قاله الأبيونيون و التبنَّويون الآخرون ) - كان مع ذلك إنسانًا كاملا. كان إنسانًا من لحم ودم ؛ كان باستطاعته الشعور بالآلام والنزف حقيقةً ، وقد أُقيم حقًا ببدنه من بين الأموات ؛ وارتفع بالبدن على الحقيقة إلى السماء حيث ما يزال في انتظار العودة بالبدن مكلَّلا بالمجد .
تحريفات النص المضادة للدوسيطيين(الظهوريين)
الصراع حول العقائد الظهورية المتعلقة بالمسيح كان له تأثيرٌ على النسَّاخ الذين كانوا يقومون بنسخ الكتب التي أصبحت في النهاية هي العهد الجديد. لكي أوضح هذه النقطة سوف أقوم بفحص أربع قراءات نصية متباينة في الفصول الأخيرة من إنجيل لوقا الذي ،كما رأينا، كان الإنجيل الوحيد الذي قبله مرقيون باعتباره الكتاب المقدس الرسمي (7) .
أولى القراءت الأربع تتعلق بفقرة ناقشناها أيضا في الفصل الخامس ـ ألا وهي الرواية الخاصة بـ"دماء يسوع التي على هيئة عَرَق ". وكما رأينا هناك ،من المحتمل أن الأعداد محل الدراسة لم تكن أصلية في إنجيل لوقا . وتذكَّرْ أن هذه الفقرة تصف الحوادث التي وقعت قبل القبض على يسوع مباشرةً عندما ترك تلاميذه ليختلي بنفسه للصلاة داعيا الله أن يجيز عنه كأس آلامه مع الدعاء بأن " تتم مشيئة الله ". ثمّ نقرأ، في بعض المخطوطات،الأعداد المتنازع عليها : " وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ." ( الأعداد 43 – 44 ).
أنا جادلت في الفصل 5 لإثبات أن الأعداد 43 -44 تمزق بناء هذه الفقرة الموجودة في إنجيل لوقا،التي هي بطريقة أخرى قلب لترتيب الكلمات في جملتين متوازيتين * chiasmus تشد الانتباه إلى صلاة يسوع بخصوص مشيئة الله التي ينبغي أن تتمَّ .
أفترض أيضًا أن هذه الأعداد تتضمن عقيدة لاهوتية تختلف تمامًا عن الأخرى الموجودة في رواية لوقا عن الآلام . في كل مكان آخر ، كان يسوع هادئًا ومحافظًا على رباطة جأشه. لقد خرج لوقا،في الحقيقة ،عن مساره في التخلص من أي إشارة إلى جزع يسوع في روايته . هذه الأعداد ، من ثمَّ ،ليس لها وجود في أهم وأقدم الشواهد فحسب ، بل إنها أيضًا تسير عكس تيار الصورة الأخرى الموجودة في إنجيل لوقا عن مواجهة يسوع لموته . رغم ذلك ،يبقى السؤال مطروحًا : لماذا أضاف النسَّاخ هذه الأعداد إلى الرواية ؟ نحن الآن في موقع يسمح لنا بالإجابة عن ذلك السؤال. من الجدير بالملاحظة أن هذه الأعداد أُشيرَ إليها لمرات ثلاث من خلال مؤلفي ماقبل الأرثوذكسية في منتصف آواخر القرن الثاني ( جوستينوس الشهيد وإيريناوس الغالي ( من بلاد الغال)وهيبوليتوس الرومي (نسبة إلى روما ) )؛ الأمر الذي لا يزال مثيرًا للكثير من التعجُّب هو أن هذه الأعداد كلما تُذكر في أيِّ موضعٍ،يحدث ذلك في معرض مقاومة وجهة النظر الخاصة بكون يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا حقيقيًّا. أو فلنقلها بكلمات أخرى،الجزع العميق الذي شعر به يسوع وفقا لهذه الأعداد كان الهدف منها إظهار أنه كان في الحقيقة إنسانًا وأنه كان قابلا للمعاناة مثلنا جميعا. لذلك جوستينوس ،على سبيل المثال، الذي هو أحد علماء اللاهوت الدفاعي من المسيحيين الأوائل يزعم ،بعد ملاحظته أن " عَرَقُهُ َصَارَ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ عِنْدَمَا ٍ كَانَ يُصَلِّي " أن ذلك أظهر" أن الآب كان يتمنى أن يعاني ابنه مثل هذه الآلام من أجلنا ،" حتى" لا نقول إنه ،لأنه كان ابنا لله، لم يشعر بما كان يحدث له ولا بما تكبّده (8)."
لنقلها بطريقة أخرى،جوستينوس وأضرابه من مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فهموا أن هذه الأعداد أظهرت في شكل نابض بالحياة أن يسوع لم "يظهر" فحسب أنه إنسان : بل لقد كان بالفعل إنسانًا في كل شئ . يبدو من المحتمل،إذن،وحيث أن هذه الأعداد ،كما رأينا،لم تكن جزءا أصليًّا في إنجيل لوقا، أنَّها أضيفت لأغراض مضادة للدوسيطيين(الظهوريين)،لأنها ترسم صورة واضحة تمامًا لبشرية يسوع الحقيقية.
من وجهة نظر مسيحيي ما قبل الأرثوذكسيّة ، كان من الأهمية بمكان تأكيد المسيح كان إنسانًا حقيقيًّا من لحمٍ ودمٍ لأنَّ لحمه المذبوح و دمه المسفوك هما تحديدًا الذان جلبا لنا الخلاص - ليس في الظاهر وإنَّما في الحقيقة .
قراءة نصيّة متباينة أخرى في رواية لوقا للساعات الأخيرة من حياة يسوع تؤكد هذه الحقيقة . يحدث ذلك في رواية عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه . في واحدة من أقدم مخطوطاتنا اليونانية ، وكذلك في العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال لنا :
وبعد أن أخذ كأسًا ، وشكر ، قال ، " خذوا هذه وقسموها على أنفسكم ، لأنني أقول لكم إنني لن أشرب من فاكهة هذه الكرمة من الآن فصاعدًا ، حتى يأتي ملكوتُ الله." ثم أخذ خبزا ، وشكر ،وأخذ قطعة وأعطاهم إياها ، قائلا ," هذا جسدي . لكن انظروا، يد ذلك الشخص الذي سيخونني هي معي على هذه المنضدة . ( لوقا 22 : 17 -19 )
في غالبية مخطوطاتنا ، مع ذلك ، هناك إضافة إلى هذا النص ، وهي تلك الإضافة التي ستبدو مألوفة لكثير من قراء الكتاب المقدس الإنجليزي ، حيث وجدت طريقها إلى معظم الترجمات الحديثة . فبعد أن يقول يسوع " هذا جسدي ،" يواصل حديثه مع هذه الكلمات " الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ."
هذه كلمات مألوفة تتحدث عن "شراكة " عشاء ربنا المعروفة أيضًا في شكل شديد الشبه في الرسالة الأولى إلى الكورينثيين (1 كور 11 : 23 – 25 ). على الرغم من حقيقة أن هذه الأعداد مألوفة،هناك أسباب مقنعة تدفعنا للاعتقاد بأنَِّ هذه الأعداد لم تكن في الأصل في إنجيل لوقا بل تمت إضافتها للتأكيد على أن جسد يسوع المكسور والدم المسفوك هما اللذان أتيا "لكم" بالخلاص.
أولا،من الصعب تفسير السبب الذي من أجله سيحذف ناسخٌ هذه الأعداد إذا كانت أصيلة في إنجيل لوقا (فليس ثمة نهايات متشابهة (homoeoteleuton) ،على سبيل المثال ،يمكنها أن تفسر هذا الحذف )وخاصة إذا مع ما تمنحه من معنى واضح وسلس عند إضافتها . في الواقع ، معظم الناس ،عندما تحذف هذه الأعداد، سيجدون أن النص سيبدو مبتورا بعض الشئ . غرابة هذه النسخة المبتورة ربما هي التي أدت بالنسَّاخ إلى إضافة هذه الأعداد . فوق ذلك ، ينبغي ملاحظة أن هذه الأعداد،بقدر ما هي مألوفة،لا تمثل مفهوم لوقا الخاص عن موت يسوع .لأنَّ إحدى الخصائص اللافتة للصورة التي يرسمها لوقا لموت يسوع - قد يبدو ذلك غريبا في البداية ـ هي أنه أبدًا لم يشِر ،في أيِّ موضعٍ آخر،أن الموت ذاته هو الذي يجلب الخلاص من الخطيئة . لا يوجد في أي مكان في كتاب لوقا كاملا بمجلديه ( إنجيل لوقا وسفر الأعمال )،أنَّ موت يسوع قيل عنه أنه حدث "من أجلكم ". في الواقع ، في المناسبتين الوحيدتين التي يشير فيهما المصدر الذي استقى منه إنجيل لوقا ( إنجيل مرقس) إلى أنه بموت يسوع جاء الخلاص ( مرقس 10 : 45 ؛ 15 :39 )، غيَّرَ لوقا صياغة النص ( أو حذفها ). لوقا ، إذا قلناها بطريقة أخرى ،كان له مفهومه المختلف بخصوص الطريقة التي من خلالها يؤدي موت يسوع إلى الخلاص عن ما لدى مرقس ( وبولس ، والكتاب المسيحيون الأوائل الآخرون ). من اليسير أن نرى وجهة نظر لوقا المتميزة من خلال ما يتوجب أن يقوله في سفر الأعمال الذي يلقي الرسل فيه عددًا من الأقوال بهدف تحويل الآخرين إلى الإيمان . ليس في أيٍّ من هذه العبارات،مع ذلك،أنَّ الرسل أشاروا فعليًّا إلى أن موت يسوع يجلب تكفير الخطايا ( على سبيل المثال ، في الفصول 3 ، 4 ، 13 ). هذا لا يعني أن موت يسوع لم يكن مهمّا . بل هو مهمٌّ للغاية من وجهة نظر لوقا ـ لكن ليس باعتباره مكفرًا عن الخطايا . عوضا عن ذلك ،موت يسوع هو ما جعل الناس يدركون آثامهم أمام الله ( حيث مات على الرغم من أنه كان بريئًا ). وبمجرد أن يدرك الناس خطيئتهم،يعودون إلى الله بالتوبة ومن ثمّ تُغْفَر لهم خطاياهم . موت يسوع من وجهة نظر لوقا،بطريقة أخرى ،يقود الناس إلى التوبة وهذه التوبة هي التي تجلب الخلاص . ولكن ليس بناءًا على هذه الأعداد المتنازع عليها التي ليس لها وجود في بعض شواهدنا المبكرة :
هنا يتم تصوير موت يسوع باعتباره توبة "لكم". في الأصل تبدو الأعداد وكأنها لم تكن جزءا من إنجيل لوقا . فلماذا،إذن،أضيفت ؟ في نزاع حدث بعد ذلك مع مرقيون ، أكد ترتليانوس التالي :
أعلن يسوع بوضوحٍ كافٍ ما كان يقصده من ذكره للخبز،عندما سمَّى الخبز جسده الخاص. كما أكَّد على نحوٍ مشابهٍ،عند ذكره للكأس و صناعة العهد الجديد وخَتْمِه بدمه،حقيقة دمه .لأنه ليس هناك دمٌ يمكنه أن يكون في جسد ليس جسدًا من لحم. لذلك من دليل الجسد حصلنا على برهان الجسد،وبرهان الجسد من دليل الدم ( ضد مرقيون 4 ، 40 )

يبدو أن تلك الأعداد أضيفت للتأكيد على جسد المسيح الحقيقيِّ ودمه الذان ضحى بهما حقيقةً من أجل الآخرين. من المحتمل أن لا يكون هذا التأكيد وجهة نظر تخصُّ لوقا، لكنَّ مصدره بالتأكيد كان نسَّاخ ماقبل الأرثوذكسية الذين حرَّفوا نصوص لوقا التي بين أيديهم لكي يجابهوا عقائد الظهوريين المتعلقة بطبيعة المسيح مثل عقيدة مرقيون (9) .
عددٌ آخر يبدو أنَّه كان قد أضيف إلى إنجيل لوقا من خلال نُسَّاخ ماقبل الأرثوذكسيّة هو العدد 24 : 12 من إنجيل لوقا ،الذي يقع بعد قيامة يسوع من الأموات تمامًا. بعض أتباع يسوع من النساء ذهبن إلى القبر، فلم يجدنه هناك،وقيل لهم إنه قد أُقيم . فعُدْنَ ليخبرن التلاميذ الذين رفضوا أن يصدقوهنَّ لأنَّ الحكاية قد أدهشتهم باعتبارها " حكاية ساذجة".
ثمّ ، في كثير من المخطوطات تقع القصة المذكورة في 24 : 12 : " لكنَّ بطرس قَامَ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ المصنوعة من الكتان مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا فَمَضَى مُتَعَجِّبًا فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ.
هناك أسباب ممتازة تجعلنا نعتقد أن هذا العدد لم يكن في الأصل جزءًا من إنجيل لوقا. فهو يحتوي على عدد كبير من السمات الأسلوبية التي ليس لها مثيل في أي موضعٍ آخر من إنجيل لوقا. من بين ذلك غالبية الكلمات المفصلية في النص ،على سبيل المثال ، "انحنى " و " الأكفان المصنوعة من الكتان" ( هناك كلمة أخرى كانت تستخدم للدلالة على ملابس القبر قبل ذلك في الرواية ).فوق ذلك ،من الصعب معرفة السبب الذي يجعل شخصًا ما يرغب في حذف هذا العدد لو كان في الحقيقة يشكَّل جزءًا أصليًّا من الإنجيل ( مرة أخرى ، ليس هناك نهايات متشابهة أو ما إلى ذلك لكي نعتبرها حذفًا غير مقصود ). وكما لاحظ كثيرٌ من القرَّاء ، يبدو العدد وكأنه تلخيص لحكاية وردت في إنجيل يوحنا ( 20 : 3 -10 )حيث يتسابق كلٌّ من بطرس و" التلميذ الحبيب" جريًا إلى القبر ويجدانه فارغًا. هل يمكن أن يكون شخصٌ قد أضاف حكاية مشابهة، بأسلوب مختصر،إلى إنجيل لوقا ؟
لو كان هذا صحيحًا ،فيالها من إضافة مدهشة ! فهي تدعم بشكل جيد جدا موقف مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية من يسوع وأنَّ لم يكن ببساطة شكلا ما من الأشباح وإنما كان له جسدٌ حقيقيٌّ ماديٌّ . أضف إلى ذلك أن هذا هو ما اعترف به كبير التلاميذ نفسه ،أعني بطرس . لذلك،وبدلا من ترك قصة القبر الفارغ على حالتها كـ" حكاية ساذجة " لبعض النساء غير الجديرات بالثقة ،فإنَّ النصَّ في وضعه الحالي يظهر أن القصة لم تكن قابلة للتصديق فحسب بل حقيقية : على اعتبار أن صحتها لم تتأكد إلا من خلال بطرس ( الذي هو رجل مستحق للثقة كما قد يفترض الإنسان ). الأمر الأكثر أهمية هو أن العدد حتى يؤكِّد على الطبيعة الماديَّة لقيامة يسوع، لأنَّ الشئ الوحيد الذي ترك داخل القبر هو دليلٌ ماديٌّ على حدوث القيامة : الكفن المصنوع من الكتان الذي غطَّى جسد يسوع . لقد كانت قيامة جسدية لشخصٍ حقيقيٍّ. أهمية هذه النقطة أشير إليها مرة أخرى من خلال ترتليانوس :
الآن لو أنكروا موت (المسيح ) بسبب إنكار كونه جسدًا، فلن يكون ثمَّ تأكيدٌ لحدوث قيامته. فإذا لم يكن قد قام وذلك من أجل السبب ذاته الذي لم يمت من أجله،وحتى بسبب أنه لم يكن يمتلك حقيقة الجسد الذي كما عليه يقع الموت فله يمكن للقيامة أن تقع.على نحوٍ مماثل، لو أمكن دحض قيامة المسيح،فإن قيامتنا أيضًا تنمحي .(ضد مرقيون 3 ، 8 )
لابد أن المسيح كان له جسًدا حسًّيًا حقيقيًّا وأنه قد أقيم حقًا من الموت بالجسد.فليست الآلام و الموت فحسب هما اللذان تحملهما المسيح جسديًّا،بل وأقيم من الأموات جسديًّا: بالنسبة لمسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فقد رفع إلى السماء أيضًا بجسده .
آخر قراءة متباينة سنلقي عليها الضوء تأتي من نهاية إنجيل لوقا ،بعد أن حدثت القيامة (ولكن في اليوم ذاته ). تحدَّث يسوع إلى أتباعه للمرة الأخيرة،وبعد ذلك انفصل عنهم :
وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ .(لوقا 24 : 51 -52 )
من الطريف أن نلاحظ،مع ذلك،أنَّ هناك زيادة في بعض مخطوطاتنا الأكثر قدمًا- ومن بينها المخطوطة السينائية السكندرية – قد حدثت للنص (10) . فبعد أن تشير إلى أنَّه "أُبعِدَ عنهم ،" تصرح في هذه المخطوطات بأنه " َأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ". إنَّها زيادةٌ هامَّة لأنها تشدِّدُ على مغادرة يسوع جسديًّا خلال ارتفاعه ( بدلا من التعبير الهادئ " نُُقِل "). فإلى حدٍّ ما،هذه قراءة متباينة مثيرة للانتباه لأن المؤلف ذاته،أي لوقا،في كتابه الثاني،سفر الأعمال،يحكي مرة أخرى عن ارتفاع يسوع إلى السماء،لكنَّه يصرح بوضوح أنها حدثت بعد"أربعين يومًا" من وقت حدوث القيامة من بين الأموات ( أعمال 1 : 1-11 ).
هذا يجعل من الصعوبة بمكان أن نصدق أن لوقا كتب هذه العبارة موضع الدراسة في لوقا 24 : 51 ـ حيث إنَّه بالتأكيد لن يعتقد أن يسوع قد ارتفع إلى السماء في يوم قيامته لو أنه يشير في بداية كتابه الثاني أنه ارتفع بعد ذلك بأربعين يوما. من الجدير بالملاحظة أيضًا أن الكلمة المفتاحية (key word) موضع الدراسة التي هي "رُفِع was taken up " لم تذكر في أيٍّ موضع آخر سواء في إنجيل لوقا أو في سفر الأعمال . فلماذا يضيف شخص ما هذه الكلمات ؟ نحن نعلم أن مسيحيي ماقبل الأرثوذكسيّة أرادوا أن يؤكدوا على الطبيعة المادية الحقيقية لمغادرة يسوع للأرض:لقد غادر يسوع بشكل ماديٍّ وسيعود ثانية بصورة ماديَّة ليأتي معه بالخلاص الماديِّ.وعلى هذا النحو قاموا بمجادلة الظهوريين الذين تمسكوا بأن هذا كله كان ظهورًا . من المحتمل أن ناسخًا كان مشتركًا في هذه المناظرات قام بتنقيح نصِّه لكي يؤكِّد على هذه القضيَّة .

تحريفات النص المضادة للانقساميين
المسيحيون الانقساميون الأوائل

الاتجاه الثالث الذي كان محط اهتمام مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث له صلة بمجموعات مسيحيَّة كانت ترى المسيح لا باعتباره إنسانًا فحسب (مثلما هو الحال مع التبنِّيِّين) أو إلهًا فحسب ( كما يقول الظهوريُّون ) وإنما ككائنين اثنين ، أحدهما إنسانٌ تمامًا والآخر إله تماما (11) . ربما بمقدورنا أن نطلق على هذا " العقيدة الانقسامية"حول طبيعة المسيح لأنَّها قسمت يسوع المسيح إلى اثنين : يسوع الإنسان ( الذي كان إنسانًا كاملا) و المسيح الإله (الذي كان إلهًا كاملا).
وفقا لغالبية القائلين بوجهة النظر هذه،يسوع الإنسان كان مسكونًا على نجوٍ غير دائمٍ بالكائن الإلهيِّ ،الذي هو المسيح ،وهذا مكَّنه من إنجاز أعماله الإعجازية و بتبليغ تعاليمه؛ لكنَّ المسيح فارق يسوع قبل موته،مجبرًا إياه على مواجهة الصلب وحده .
هذه العقيدة الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح كان من الشائع الدفاع عنها غالبًا عبر مجموعة من المسيحيين يطلق عليهم العلماء اسم "الغنوصيين" (12) .مصطلح الغنُّوصيَّة يأتي من الكلمة اليونانية (جينوسيس) التي تعني المعرفة.وهي تنطبق على مجموعات واسعة التنوع من المسيحيين الأوائل الذين شدَّدوا على أهمية المعرفة الباطنية في الوصول إلى الخلاص . وفقا لمعظم هذه المجموعات ، العالم المادي الذي نحيا فيه لم يكن من عمل يدي الإله الواحد الحقيقيِّ. فلقد جاء نتيجة لكارثة وقعت في المملكة السماويَّة (divine realm) التي طُرِد منها أحد الكائنات الإلهية (الكثيرة) لأسبابٍ غامضةٍ من نواحي السماء ؛ وكنتيجة لسقوط العالم الماديِّ من حالة القداسة فقد قام إلهٌ أقل مقامًا بخلقه وذلك عبر سَبْيِه وسَجْنِه في أجسام الآدميين هنا على الأرض . بعض الكائنات البشرية لذلك في داخلهم ومضة إلهية وهم بحاجة إلى تعلُّم حقيقة كينونتهم ومن أين جاءوا وكيف جاءوا إلى هنا وكيف يمكنهم العودة . معرفة هذه الحقيقة ستقودهم إلى خلاصهم .
تتكون الحقيقة من تعاليم باطنية و"معرفة"(جنوسيس) غامضة لا يمكن الحصول عليها إلا عبر كائنٍ إلهيٍّ من المملكة السماوية .حسب المسيحيين الغنوصيين، المسيح هو الكاشف الإلهي لحقائق الخلاص؛ فقد دخل المسيح ،في كثير من الأفكار الغنوصية، إلى يسوع الإنسان أثناء العماد الأمر الذي أهَّلَه لمهمَّتِه التبشيرية ثم بعد ذلك غادره ليموت على الصليب في النهاية.وهذا السبب الذي جعل يسوع يصرخ،" إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟" فبالنسبة لهؤلاء الغنوصيين، كان المسيح قد غادر يسوع بالمعنى الحرفيِّ ( أو "تركه وراءه "). بعد موت يسوع أقامه من بين الأموات كمكافأة من أجل إخلاصه واستمر عبره في تعليم تلاميذه الحقائق الباطنيَّة التي بإمكانها أن تقودهم إلى الخلاص. لقد وجد مسيحيو ماقبل الأرثوذكسية هذا التعليم مستهجنًا تقريبًا من كل الوجوه. فبالنسبة إليهم ، العالم الماديّ ليس مكانًا شريرًا نشأ عن كارثة كونيَّة وإنما هو خليقة صالحة للإله الواحد الحقيقيّ. والخلاص،عندهم، يأتي عبر الإيمان بموت المسيح و قيامته وليس من خلال تعلّم المعرفة الروحية الباطنيَّة التي بإمكانها أن تضئ حقيقة الوضع الإنساني . والأمر الأهم لأهدافنا في هذا الفصل هو أن يسوع المسيح ،بالنسبة إليهم، لم يكن كائنين اثنين وإنَّما كائنٌ واحدٌ إلهيٌّ وبشريٌّ معًا في وقت واحد وفي الوقت ذاته .

تغييرات النص لدوافع مضادة للانقساميين
لعبت النزاعات حول عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح دورًا في نسخ النصوص التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد.
رأينا من قبل بالفعل موضعًا لقراءة متباينة تعرضنا لها بالبحث في الفصل الخامس وهي تلك الموجودة في سفر العبرانيين 2 : 9 والتي قيل فيها عن يسوع ،أي في نص الرسالة الأصلي، إنَّه مات "منفصلا عن الله ". في نقاشنا هناك، رأينا أن معظم النساخ كانوا قد قبلوا القراءة الأخرى التي أشارت إلى أن المسيح مات "بنعمة الله " على الرغم من أن ذلك ليس هو النص الذي كتبه المؤلِّف الأصليُّ . لكننا لم نتعرض بالتفصيل لقضيَّة السبب الذي ربما جعل النساخ يرون أن النص في وضعه الأصلي ربما يمثِّل خطورة ولذلك ينبغي تعديله .الآن،في وجود هذه الخلفية الموجزة عن المفاهيم الغنوصية تجاه المسيح،يصبح التغيير منطقيًّا على نحوٍ أكبر.لأنه وفقًا للمعتقدات التي تبناها الانقساميون بخصوص طبيعة المسيح ،مات المسيح بالفعل "منفصلا عن الله" وذلك في أنَّه عندما كان على الصليب غادره العنصر الإلهيُّ الذي كان قد سكنه في وقتٍ سابق ولذلك مات يسوع وحده . ولأنهم كانوا واعين إلى أن النص يمكن أن يستعمل لتدعيم وجهة النظر هذه، أحدث النسَّاخ المسيحيون تغييرًا عميقًًا رغم بساطته. الآن،بدلا من أن يشير النص إلى أن يسوع قد مات منفصلا عن الله، إذ به أكد أن وفاة المسيح تمَّت "بنعمة الله". هذا ،إذن،تحريفٌ موجَّه ضدَّ التعاليم الانقسامية . نموذجٌ آخرُ مثير للاهتمام يخص هذه الظاهرة يقع تمامًا في الموضع الذي ربما يتوقع المرء منَّا أن يجده فيه ، في رواية الإنجيل لحادثة صلب يسوع . كما أشرت من قبل،في إنجيل مرقس التزم يسوع الصمت في كل موقفٍ من مواقفِ عملية الصلب . صلبه الجنود وسخر منه المارَّة و زعماء اليهود ، كما سخر منه أيضًا مجرمان عُلِّقوا معه على الصليب ؛ لكنه لم ينطق ببنت شفة – حتى اللحظة النهائية حينما يقترب الموت ويصرخ يسوع بكلماتٍ مقتبسة من مزمور 22 :"إلوي ،إلوي ،لما شبقتني ؟" ،التي تترجم كالآتي:"إلهي ، إلهي ،لما تركتني ؟"(مرقس 15 :34 ). من الطريف أن نلاحظ أنَّه وفقًا لما ذكره إيريناوس،الكاتب الذي عاش في عصر ماقبل الأرثوذكسية ،كان إنجيل مرقس هو المفضَّل لدى هؤلاء "الذين فصلوا يسوع عن المسيح " – أي لدى الغنوصيين الذي اعتنقوا عقائد انقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح(13).
لدينا من الأدلة القوية ما يجعلنا نفترض أن بعض الغنوصيين أخذوا هذه الجملة الأخيرة التي قالها يسوع على معناها الحرفيِّ لكي يثبتوا أن هذه اللحظة هي التي انفصل فيها المسيح ذو الطبيعة الإلهية عن يسوع (حيث أن اللاهوت لا يمكن أن يذوق الفناء والموت ). الدليل يأتي من الوثائق الغنوصية التي تعتقد في أهمية هذه اللحظة من حياة يسوع . لذلك ،على سبيل المثال ، يقتبس إنجيل بطرس غير القانوني(apocryphal) ،الذي راودت البعضَ الشكوكُ في احتوائه على عقائد انقسامية بخصوص طبيعة المسيح ،هذه الكلمات بطريقة مغايرة نوعًا ما فيقول :" قوتي،قوتي،لقد غادرتني!" الأمر الأشد وقعًا هو أن النص الغنوصي المعروف باسم إنجيل فيليب ذكر النص ثمَّ أُعطاه تفسيرا انقساميًّا :"إلهي ، إلهي ، لماذا أيها السيد(Lord) تركتني ؟" ولأنَّه قال هذه الكلمات على الصليب،فلابد أنَّه في هذه اللحظة ذاتها قد انقسم . مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية كان لديهم معلومات عن الشيئين كليهما:الأناجيل وتفسيراتها لهذه اللحظة الحاسمة من مشهد صلب يسوع.ليس إذن من قبيل المفاجئة أن نص إنجيل مرقس تم التلاعب به عبر بعض النساخ بطريقة راوغت هذا التفسير الغنوصي. في إحدى المخطوطات اليونانية و العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال أن يسوع لم يطلق " صرخة الافتراق " التقليدية التي وردت في مزمور 22 ، لكنه بدلا من ذلك صرخ :" إلهي ،إلهي ، لماذا سخرت مني ؟" هذا التغيير الذي تعرض له النص نتج عنه قراءة طريفة – بل ومنسجمة تماما مع سياقها الأدبي. لأنه كما أشرت من قبل ،كلُّ إنسانٍ آخر تقريبًا في القصة قد سخر من يسوع عند هذه اللحظة – القادة اليهود والمارَّة والسارقان . والآن،وفي وجود هذه القراءة،انضم الله أيضًا حسب قول النص إلى قائمة الساخرين من يسوع . يسوع ، شاعرًا باليأس ،يطلق صرخة مدوية ويموت. إنه مشهد قوي ومثير للشفقة .هذه القراءة رغم ذلك ليست هي القراءة أصلية،وذلك يتضح من كونها مفقودة تقريبًا في كل شواهدنا الأقدم والأفضل (بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى النص السكندري) وكذلك لكونها لا تتوافق مع الكلمات الآرامية التي تفوه بها يسوع( لما شبقتني – التي تعني "لماذا تركتني،" وليس " لماذا سخرت منِّي").
لماذا إذن حرَّف النُسَّاخ هذا النص؟ إذا سلَّمنا بمدى فائدتها لمن يدافعون عن العقائد التي تخصُّ طبيعة المسيح وذلك من وجهة نظر الإنقساميين ،فحينها سيظلُّ هناك سؤالٌ صغيرٌ عن سبب ذلك. لقد كان كُتَّابُ عصر ما قبل الأرثوذكسية معنيِّين بأن لا يستخدمَ خصومُهم الغنوصيُّون النص ضدهم فقاموا بإحداث تغيير هامٍّ ومتناغمٍ مع السياق الذي عاشوا في ظله،وذلك لكي يقال من الآن فصاعدًا عن الله إنه سخر من يسوع بدلا من أن يقالَ عنه إنَّه تركه.
مثالنا الأخير على هذا النوع من القراءات المتباينة الذي كان سبب حدوثه الرغبة في الوقوف ضد التعاليم الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح سنسوقه من فقرة تقع في الرسالة الأولى ليوحنا. ففي أقدم شكلٍ معروفٍ للعدد 4 : 23 ،يقال لنا :"بهذا تعرفون روح الله . كل روح تعترف بأن يسوع قد جاء في الجسد فهي من الله؛وكل روح لا تعترف بيسوع فهي ليست من الله.هذا هو روح ضد المسيح." إنها فقرة واضحة وصريحة : هؤلاء الذين اعترفوا بأن يسوع جاء حقًا في الجسد (أي رفضوا قبول وجهات النظر الظهورية على سبيل المثال ) هم وحدهم من ينتمون إلى الله؛أما هؤلاء الذين رفضوا الاعتراف بهذا فهم مقاومون للمسيح (أي أنهم أضداد المسيح ). مع ذلك ،هناك قراءة مختلفة طريفة نجدها في النصف الثاني من هذه الفقرة . فبدلا من الإشارة إلى الشخص الذي " لم يعترف بيسوع "، هناك العديد من الشواهد تشير إلى الشخص الذي " يقسم يسوع " ماذا يعني هذا - يقسم يسوع – ولماذا نجحت هذه القراءة في أن تشق طريقها إلى بعض المخطوطات ؟ في البدء ، ينبغي أن أشدِّدَ على أن عدد المخطوطات التي تحوي هذه القراءة ليس بالكبير جدا .ففي الشواهد اليونانية لا توجد إلا في هامش مخطوطة واحدة يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر(وهي المخطوطة 1739 ). لكنَّ هذه المخطوطة،كما رأينا من قبل،هي مخطوطة مميزة لأنها فيما يبدو قد نسخت من مخطوطة ترجع إلى القرن الرابع وهوامشها تسجل أسماء آباء الكنيسة الذي كان لديهم قراءات مختلفة لأجزاء محددة من النص. في هذا الموضع تحديدًا ،يشير الهامش إلى أن القراءة " يقسم يسوع " كانت معروفة لدى العديد من آباء الكنيسة في أواخر القرن الثاني و بواكير القرن الثالث،من أمثال إيريناوس وكليمنت وأوريجانوس. أضف إلى ذلك أنها تظهر في الفولجاتا اللاتينية. ومن بين أمور أخرى ، هذا يوضح أن هذه القراءة المختلفة كانت مشهورة خلال العصر الذي كان مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية يتنازعون مع الغنوصيين حول قضايا طبيعة المسيح. مع ذلك، هذه القراءة لا يمكن على الأرجح أن تقبل باعتبارها النص" الأصليّ " مع التسليم بقلة الأدلة التي تعضد موثوقيتها- فهي مفقودة،على سبيل المثال،في كل مخطوطاتنا التي تصنَّف باعتبارها الأقدم والأفضل بين المخطوطات ( في الواقع ليس لها أي وجود في أي مخطوطة يونانية باستثناء هذا الوجود في الهامش). لماذا،رغم كل ذلك،أضافها أحد النسَّاخ المسيحيين ؟ يبدو أنها قد أضيفت من أجل اختلاق مطعن "كتابيٍّ" على عقائد الانقساميين التي تتعلق بطبيعة المسيح،التي تفرق فيها المسيح و يسوع بعضهما عن الآخر إلى كيانات منفصلة،أو بحسب تعبير هذه القراءة المختلفة التي جاء فيها أن يسوع قد " انفصل " عن المسيح. أيُّ إنسانٍ يؤمن بصحة وجهة النظر هذه، حسب ما تفترض القراءة النصية المختلفة، فهو ليس من الله ،بل بالأحرى هو ضد المسيح .
مرة أخرى ،إذن ، لدينا ها هنا قراءة تولدت عن سياق النزاعات المتعلقة بطبيعة المسيح التي اندلعت في القرنين الثاني و الثالث .
الخاتمة
أحد العوامل التي ساهمت في وقوع تحريفات النساخ لنصوصهم هو السياق التاريخي الذي عاشوا في ظلِّه . كان النسَّاخ المسيحيُّون في القرنين الثاني والثالث متورطين في النزاعات و المناظرات التي حدثت في زمنهم ، وقد أثَّرت هذه النزاعات أحيانًا في عملية إعادة إنتاج النصوص التي اندلعت بخصوصها هذه النزاعات. بكلمات أخرى ،قام النساخ في بعض الأحيان بتحريف نصوصهم لكي يدفعوها لأن تقول ما كانوا يعتقدون مسبقًا أنَّها تعنيه .لم يكن هذا بالضرورة أمرًا سيئًا ، لأننا على الأرجح يمكننا أن نفترض أن معظم النساخ الذين أدخلوا تغييرات إلى نصوصهم غالبًا ما فعلوا ذلك إما بسبب عدم الانتباه أو بنيَّة حسنة . لكنَّ الحقيقة، مع ذلك،هي أنه بمجرد أن قام هؤلاء بتحريف نصوصهم، أصبحت كلمات النصوص مختلفة تمام الاختلاف وهذه الكلمات التي لحقها التغيير أثَّرت بالضرورة على تفسير القرَّاء المتأخِّرين لهذه الكلمات. كانت النزاعات اللاهوتية التي اندلعت في القرنين الثاني والثالث من بين أسباب هذه التحريفات لأنَّ النسَّاخَ أحيانًا عدَّلوا نصوصهم في ضوء العقائد التي اعتنقها التبنيُّون والظهوريُّون والانقساميون فيما يتعلق بالمسيح وطبيعته،وهم الذين كانوا يتنافسون من أجل الفوز بموطء قدم تحت الشمس في هذه الفترة. هناك عوامل أخرى ذات بعدٍ تاريخيٍّ كانت مؤثرة أيضًا في هذا الصدد ، منها ما يتعلق على نحوٍ أقل بالنزاع اللاهوتي و على نحوٍ أكبر بصراعات هذا العصر الاجتماعية ، مثل الصراع حول دور النساء في الكنائس المسيحية الأولى و العداء المسيحيِّ لليهود والدفاع المسيحي عن الإيمان ضد مطاعن الخصوم الوثنيين. في الفصل التالي سنرى كيف أن هذه الصراعات الأخرى ذات الطابع الاجتماعي تركت أثارها على النساخ المسيحييِّن الذين نسخوا نصوص الكتاب المقدس في القرون التي سبقت العصر الذي أصبح النساخ المحترفون هم من ينسخون النصوص فيه.



هوامش الفصل السادس

(1) للاطلاع على نصوص هامة من هذه الفترة ،انظر كتاب :" بعد العهد الجديد: قارئ في المسيحية المبكرة" (fter the New Testament: A Reader in Early Christianity) تأليف بارت د.إرمان (نيويورك :مطبعة جامعة أكسفورد،1999 ). مقدمة رائعة لهذه الفترة يمكن الحصول عليه من كتاب :"الكنيسة الأولى"( The Early Church)لهنري تشادويك (نيويورك: بنجوين،1967 ).

(2) للاطلاع على مناقشة أوسع للمادة التي تناقشها الفقرات التالية ،انظر على وجه الخصوص كتاب إرمان ،الديانات المسيحية المفقودة ،( Lost Christianities)،الفصل الأول.

(3) للاطلاع على مناقشة أوسع،انظر كتاب إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture).

(4) للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا للآراء التبنَّويَّة،والشخصيات التي اعتنقتها ،انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 47 – 54 .

(5) للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا عن الظهوريين والعقائد الظهورية بخصوص طبيعة المسيح، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 181 – 187 .

(6) انظر الصفحتين 14 ، 15 ، من الفصل الأول.

(7) اعترف أيضًا بقانونية عشر رسائل بولسية باعتبارها جزء من الكتاب المقدس(جميعها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسالة 1، 2 إلى تيموثاوس والرسالة إلى تيطوس)، رفض العهد القديم كله ، لأنها منسوبة إلى الإله الخالق ، وليس إله يسوع .

* معنى مصطلح chiasmus يتضح من الجملة التالية:

أنا ذهبت إلى المدرسة ،إلى المدرسة ذهبوا هم . أي هي عكس في الجملة الثانية لترتيب الكلمات في الجملة الأولى.

(8) هذه الاقتباسات مأخوذة من حوار جوستينوس مع تريفو ، ص 103 .

(9) لإثبات مطول لأن هذه الأعداد لم تكن أصلية في إنجيل لوقا بل أضيفت لدحض آراء ظهورية ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 198 – 209 .

(10) للاطلاع على إضافة نصية أخرى ومناقشة أوسع لهذه الإضافة ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 227 -232 .

(11) للاطلاع على معلومات أكثر تفصيلا عن عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح والجماعات الغنوصية التي اعتنقتها ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 119 – 124 .

(12) للمزيد من النقاشات عن الغنوصية ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، الفصل ال6 .

(13) ضد الهراطقة 3، 2 ،7 .

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22