الموضوع: لا تحزن
عرض مشاركة واحدة
قديم 14-01-2012 ~ 12:57 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 20
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


أيُّها الإنسان

أيُّها الإنسانُ : يا منْ ملَّ من الحياةِ ، وسئِم العيش ، وضاق ذرعاً بالأيامِ وذاق الغُصص ، أنَّ هناك فتحاً مبيناً ، ونصراً قريباً ، وفرجاً بعد شدَّة ، ويُسراً بعد عُسْرٍ .
إنَّ هناك لُطفاً خفيّاً منْ بينِ يديْك ومنْ خلقِك ، وإنَّ هناك أملاً مشرقاً ، ومستقبلاً حافلاً ، ووعداً صادقاً ، ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ . إن لضِيقِك فُرْجةً وكشْفاً ، ولمصيبتِك زوالٌ ، وإن هناك أنساً وروحاً وندىً وطلاً وظلاً . ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ .
أيُّها الإنسانُ : آنَ أنْ تُداوي شكَّك باليقينِ ، والتواء ضميرِك بالحقِّ ، وعِوج الأفكارِ بالهُدى ، واضطراب المسيرةِ بالرُّشدِ .
آن أنْ تقشع عنك غياهب الظلامِ بوجْهِ الفجرِ الصادقِ ، ومرارةِ الأسى بحلاوةِ الرَّضا ، وحنادسِ الفِتن بنورٍ يلقفُ ما يأفكُون .
أيُّها الإنسانُ: إنَّ وراء بيدائِكمْ القاحلِةِ أرضاً مطمئنَّةً، يأتيها رزقُها رَغَداً منْ كلِّ مكانٍ
وإنَّ على رأسِ جبلٍ المشقَّة والضَّنى والإجهاد ، جنَّةً أصابها وابلٌ ، فهي مُمرعةً ، فإنْ لم يصبْها وابلٌ فطلٌّ من البُشرى والفألِ الحسنِ ، والأملِ المنشودِ .
يا منْ أصابه الأرقُ ، وصرخ في وجهِ الليلِ : ألا أيُّها الليل الطويلُ ألا انْجلِ ، أبشِرْ بالصبحِ ﴿ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾ . صبحٌ يملؤُك نوراً وحبوراً وسروراً .
يا منْ أذهب لُبَّه الهمُّ : رُويْدك ، فإنَّ منْ أُفُقِ الغيبِ فَرَجاً ، ولك منْ السُّننِ الثابتِة الصادقِة فُسْحةً .
يا منْ ملأت عينك بالدمعِ : كفْكِفْ دموعك ، وأرِحْ مُقلتيْك ، اهدأْ فإنَّ لك منْ خالقِ الوجودِ ولايةً ، وعليك منْ لطفهِ رعايةً ، اطمئنَّ أيُّها العبدُ ، فقدْ فُرغ من القضاءِ ، ووقع الاختيارُ ، وحَصَلَ اللُّطفُ ، وذهب ظمأُ المشقَّةِ ، وابتلَّتْ عروقُ الجهدِ ، وثبت الأجرُ عند منْ لا يخيبُ لديهِ السعْيُ .
اطمئنَّ : فإنك تتعاملُ مع غالبٍ على أمرِهِ ، لطيفٍ بعبادِه ، رحيمٍ بخْلقِهِ ، حسنِ الصُّنعِ في تدبيرِهِ .
اطمئنَّ : فإنَّ العواقب حسنةٌ ، والنتائج مريحةٌ ، والخاتمة كريمةٌ .
بعد الفقرِ غِنَّى ، وبعد الظَّمأ رِيٌّ ، وبعد الفراقِ اجتماعٌ ، وبعد الهجْر وَصْلٌ ، وبعد الانقطاعِ اتِّصالٌ ، وبعد السُّهادِ نومٌ هادئٌ ، ﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾ .
لمعتْ نارُهُم وقْد عسْعَسَ الليـ

ـلُ وملَّ الحادي وحار الدَّلِيلُ

فتأمَّلتُها وفِكْري من البيْـ


ـنِ عليلٌ وطرْفُ عيني كلِيلُ

وفؤادي ذاك الفؤادُ المعنَّى


وغرامي ذاك الغرامُ الدَّخِيلُ

وسألْنا عن الوكيلِ المرجَّى


للمُلِمَّاتِ هل إليهِ سبيلُ ؟

فوجدْناه صاحب المُلْكِ طُرّاً

أكرم المُجزِلِين فردٌ جليلُ

أيُّها المعذَّبُون في الأرضِ ، بالجوعِ والضَّنْكِ والضَّنى والألمِ والفقْرِ والمرضِ ، أبشرُوا ، فإنكم سوف تشبعون وتسعدون ، وتفرحون وتصِحُّون ، ﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ{33} وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ﴾ .
فلابُدَّ لِلَّيلِ أنْ ينجلِيْ

ولابدَّ للقيْدِ أنْ ينكسِرْ

ومنْ يتهيَّبْ صُعُود الجبالِ

يعِشْ أبد الدَّهْرِ بين الحُفرْ

وحقٌّ على العبدِ أن يظُنَّ بربِّه خيراً ، وان ينتظر منهُ فضلاً ، وأنْ يرجُو من مولاهُ لُطفاً ، فإنَّ منْ أمرُه في كلمةِ ( كُن) ، جديرٌ أنْ يُوثق بموعودِهِ ، وأنْ يُتعلَّقَ بعهودِهِ ، فلا يجلبُ النفع إلا هو ، ولا يدفع الضُّرَّ إلا هو ، ولهُ في كلِّ نفسٍ لُطفٌ ، وفي كلِّ حركةٍ حكمةٌ ، وفي كلِّ ساعةٍ فَرَجٌ ، جعل بعدَ الليلِ صُبحاً ، وبعد القحْطِ غَيْثاً ، يُعطي ليُشْكر ، ويبتلي ليعلم من يصْبِرُ ، يمنحُ النَّعْماء ليسمع الثَّناء ، ويُسلِّطُ البلاء ليُرفع إليه الدُّعاءُ ، فحريٌّ بالعبدِ أن يقوِّي معه الاتِّصال ، ويُمدَّ إليه الحبال ، ويُكِثرُ السؤال ﴿ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ، ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ .
لو لمْ تُرِدْ نيْل ما أرجو وأطْلُبُهُ
مِن جُودِ كفِّك ما علَّمْتني الطَّلبا

انقطع العلاءُ بنُ الحضرميِّ ببعضِ الصحابةِ في الصحراءِ ، ونفِد ماؤُهم ، وأشرفُوا على الموتِ ، فنادى العلاءُ ربَّه القريب ، وسأل إلهاً سميعاً مجيباً ، وهتف بقولِهِ : يا عليُّ يا عظيمُ ، يا حكيمُ يا حكيمُ . فنزل الغيثُ في تلك اللحظةِ ، فشربُوا وتوضؤوا ، واغتسلوا وسَقوْا دوابَّهم . ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ .
***************************************
وقفــــةٌ

« محبَّةُ اللهِ تعالى ، ومعرفُته ، ودوامُ ذِكْرِه ، والسُّكُونُ إليه ، والطمأنينةُ إليه ، وإفرادُه بالحُبِّ والخوفِ والرجاءِ والتَّوكُّلُ ، والمعاملةُ ، بحيثُ يكون هو وَحْدَهُ المستولي على همومِ العبدِ وعزماتِه وإرادتِه . هو جنَّةُ الدنيا ، والنعيمُ الذي لا يُشبِههُ نعيمٌ ، وهو قُرَّة عينِ المُحِبين ، وحياةُ العارفين » .
« تعلُّقُ القلبِ باللهِ وحدهُ واللَّهجُ بذِكرِهِ والقناعةُ : أسبابٌ لزوالِ الهمومِ والغمومِ ، وانشراحُ الصدرِ والحياةُ الطَّيِّبة . والضِّدُّ بالضِّدِّ ، فلا أضْيقُ صدراً ، وأكْثَرُ همّاً ، ممَّنْ تعلَّق قلبُه بغيرِ اللهِ ، ونسي ذِكْر اللهِ ، ولم يقْنَعْ بما آتاهُ اللهُ ، والتَّجرِبةُ أكبرُ شاهدٍ » .
*************************************
تعزَّ بالمنكوبين

﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى ﴾ .
وممَّنْ نُكِب نكبةً داميةً ساحقةً ماحقةً : البرامكةُ ، أُسرةُ الأُسرةُ الأُبَّهةِ والتَّرَفِ والبذْلِ والسَّخاءِ ، وأصبحتْ نكْبتُهم عِبرةً وعظةً ومثلاً ، فإنَّ هارون الرشيد سطا عليهمْ بيْن عشيَّةٍ وضُحاها ، وكانوا في النعيمِ غافلين ، وفي لحافِ الرَّغدِ دافِئين ، وفي بستانِ الترفِ مُنعَّين ، فجاءهم أمرُ اللهِ ضُحىً وهم يلعبون ، على يدِ أقربِ الناسِ إليهم ، فخرَّب دُورهم ، وهدمَ قصورهُم ، وهتك سُتُورهُم ، واستلب عبيدهُمْ ، وأسال دماءهم ، وأوردهم موارد الهالِكين ، فَجَرَحَ بمصابِهم قلوب أحبابِهم ، وقرَّح بنكالِهم عيون أطفالِهم ، فلا إله إلا اللهُ ، كم منْ نعمةٍ عليهم سُلبتْ ، وكمْ منْ عبرةٍ منْ أجلهِم سُفكتْ ، ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ . قبل نكبتهم بساعةٍ ، كانوا في الحرير يرْفُلون ، وعلى الدِّيباجِ يزحفون ، وبكأسِ الأماني يترعُون ، فيها لهوْلِ ما دهاهُم ، ويا لفجيعةِ ما علاهم
هذا المصابُ وإلاَّ غيرُه جللُ
وهكذا تُمحقُ الأيَّامُ والدُّولُ

اطمأنوا في سِنةٍ من الدهرِ ، وأمْنٍ من الحدثان ، وغفْلةٍ من الأيامِ ﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ﴾ . خفقتْ على رؤوسِهِمُ البنودُ ، واصطفَّتْ على جوانِبِهم الجنودُ .
كأنْ لم يكُن بين الحَجُونِ إلى الصفّا

أنيسٌ ولم يسْمُرْ بمكَّة سامِرُ


رتعُوا في لذَّةِ العيشِ لاهين ، وتمتَّعُوا في صفْو الزمان آمنِين ، ظنُّوا السراب ماءً ، والورم شحْماً ، والدنيا خُلُوداً ، والفناء بقاءً ، وحسبوا الوديعة لا تُستردُّ ، والعارية لا تُضمنُ ، والأمانة لا تُؤدَّى ، ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ .
فجائعُ الدهرِ ألوانٌ مُنوَّعةٌ

وللزَّمانِ مَسَرَّاتٌ وأحزانُ

وهذه الدارُ لا تبقي على أحدٍ

ولا يدومُ على حالٍ لها شأنُ

أصبحوا في سرورٍ وأمسوْا في القبورِ ، وفي لحظةٍ منْ لحظاتِ غَضَبِ هارونِ الرشيدِ ، سلَّ سيف النّقمةِ عليهمْ ، فقتل جعفر بن يحيى البرمكيَّ ، وصلبهُ ثمَّ أحرق جثمانه ، وسجن أباه يحيي بن خالدٍ ، وأخاه الفضْل بن يحيى ، وصادر أموالهمْ وأملاكهم .
ولما قَتَلَ أبو جعفر المنصورُ محمد بن عبدِاللهِ بن الحَسَنِ ، بعث برأسِهِ إلى أبيهِ عبدِاللهِ بن الحسنِ في السجنِ مع حاجبِهِ الربيعِ ، فوضعَ الرأسَ بين يديهِ ، فقال : رحمك اللهُ يا أبا القاسم ، فقدْ كنت من الذين يُفون بعهدِ اللهِ ، ولا ينقُضون الميثاق ، والذين يصِلون ما أمر اللهُ بهِ أنْ يُوصل ويخشوْن ربَّهم ويخافون سوء الحسابِ ، ثم تمثَّل بقولِ الشاعرِ :
فتى كان يحميه مِنْ الذُّلِّ سيفُه
ويكفيه سوءاتِ الأمورِ اجتنابُها

والتفت إلى الربيع حاجبِ المنصورِ ، وقال له : قُلْ لصاحبِك : قدْ مضى منْ بُؤسِنا مُدَّةٌ ، ومنْ نعيمِك مِثُلها ، والموعدُ اللهُ تعالى !
وقدْ أخذ هذا المعنى العباسُ بنُ الأحنفِ – وقيل : عمارةُ بنُ عقيلٍ – فقال :
فإنْ تلحظي حالي وحالكِ مرَّةً

بنظرةِ عينٍ عنْ هَوَى النَّفْسِ تُحْجبُ

نجِد كُلَّ مرَّ منْ بُؤسِ عيشتي

يمُرُّ بيومٍ منْ نعيمكِ يُحْسبُ

كما في ( قولٍ على قول ) .
والآن : أين هارون الرشيدُ وأين جعفرُ البرمكيُّ ؟ أين القاتلُ والمقتولُ ؟ أين الآمرُ والمأمورُ ؟ أين الذين أصدر أمره وهو على سريرهِ في قصرهِ ؟ وأين الذي قتِل وصُلِب ؟ لا شيء ، أصبحوا كأمسِ الدَّابر ، وسوف يجمعُهم الحكمُ العدْلُ ليومِ لا ريب فيه ، فلا ظُلْم ولا هضْم ، ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴾ ، ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ .
قيل ليحيى بن خالدٍ البرمكيِّ : أرأيت هذه النكْبة ، هل تدري ما سببُها ؟ قال : لعلَّها دعوةُ مظلومٍ ، سرتْ في ظلامِ الليلِ ونحنُ عنها غافلون .
ونُكب عبدُالله بنُ معاوية بنِ عبدِاللهِ بنِ جعفر ، فقال في حبْسهِ :
خَرَجْنَا من الدنيا ونحنُ مِن أهلِها

فلسْنا مِن الأمواتِ فيها ولا الأحياء

إذا دخل السَّجانُ يوماً لحاجةٍ


عجِبْنا وقلنا : جاء هذا من الدُّنيا

ونفرحُ بالرُّؤْيا فجُلُّ حديثِنا


إذا نحنُ أصبحنا الحديث عن الرُّؤْيا

فإنْ حسُنتْ كانتْ بطيئاً مجيئُها

وإنْ قبُحتْ لم تنتظر وأتتْ سعيا

سجنَ أحدُ ملوكِ فارس حكيماً منْ حكمائِهمْ ، فكتب لهُ رقعةً يقولُ : إنها لنْ تمُرَّ عليَّ فيها ساعةٌ ، إلا قرَّبتْني من الفرجِ وقرَّبتْك من النِّقمةِ ، فأنا أنتظرُ السَّعة ، وأنت موعودٌ بالضيِّقِ .
ويُنكبُ ابنُ عبَّادٍ سلطانُ الأندلسِ ، عندما غلب عليه الترفُ ، وغلب عليهِ الانحرافُ عنِ الجادَّةِ ، فكثرُتِ الجواري في بيتهِ ، والدُّفوفُ والطَّنابيرُ ، والعزْفُ وسماعُ الغناءِ ، فاستغاث يوماً بابن تاشفين – وهو سلطانُ المغربِ – على أعدائِهِ الروم في الأندلسِ ، فعبر ابنُ تاشفين البحر ، ونصرَ ابن عبَّادِ ، فأنزلهُ ابنُ عبَّادٍ في الحدائقِ والقصورِ والدُّورِ ، ورحَّب به وأكرمه . وكان ابنُ تاشفين كالأسدِ ، ينظرُ في مداخلِ المدينة وفي مخارجِها ، لأنَّ في نفسه شيئاً .
وبعد ثلاثةِ أيام هجم ابنُ تاشفين بجنودِه على المملكةِ الضعيفةِ ، وأسر ابن عبَّادٍ وقيَّده وسَلَبَ مُلكه ، وأخذ دُوره ودمَّر قصوره ، وعاث في حدائقِهِ ، ونَقَلَهُ إلى بلدِه ( أغماتٍ) أسيراً ، ﴿ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ . فتقلَّد ابنُ تاشفين زِمام الحُكمِ ، وادعى أنَّ أهل الأندلسِ همُ الذين استدعوْه وأرادوه .
ومرَّتِ الأيامُ ، وإذا ببناتِ ابنِ عبَّادٍ يصِلْنه في السجنِ ، حافياتٍ باكياتٍ كسيِفاتٍ جائعاتٍ ، فلمَّا رآهنّ بكى عند البابِ ، وقال :
فيما مضى كُنت بالأعيادِ مسرورا

فساءك العيدُ في أغمات مأسورا

ترى بناتِك في الأطمارِ جائعةً


يغزِلْن للناسِ ما يمْلِكْن قطميرا

بَرَزْنَ نحْوك للتَّسليمِ خاشعةً


أبصارُهُنَّ حسيراتٍ مَكاسِيرا

يطأْن في الطينِ والأقدامُ حافيةٌ

كأنَّها لم تطأ مِسكاً وكافُورا

ثمَّ دخل الشاعرُ ابنُ اللَّبانةِ على ابنِ عبّادٍ ، فقال له :
تَنَشَّقْ رياحين السَّلامِ فإنَّما

أصُبُّ بها مِسْكاً عليك وحَنْتَما

وقُلْ مجازاً إن عدمت حقيقةً


بأنك ذو نُعمى فقد كُنت مُنعما

بكاك الحيا والريحُ شقَّتْ جُيُوبها

عليها وتاه الرَّعدُ باسمِك مُعْلِما

وهي قصيدةٌ بديعة ، أوْرَدَها الذهبيُّ ومدحها .
روى الترمذيُّ ، عن عطاءٍ ، عنْ عائشة – رضي اللهُ عنها وأرضاها – أنَّها مرَّتْ بقبرِ أخيها عبدِالله الذي دُفن فيه بمكة ، فسلَّمت عليهِ ، وقالتْ : يا عبداللهِ ، ما مثلي ومثُلك إلا كما قال مُتمِّمٌ :
وكُنَّا كندْماني جُذيْمَةَ بُرهةً

من الدهرِ حتى قِيل لنْ يتصدَّعا

وعِشْنا بخيرٍ في الحياةِ وقبلنا


أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعا

فلمَّا تفرَّقْنا كأنِّي ومالِكاً

لطُولِ اجتماعٍ لم نبِتْ ليلةً معا

ثمَّ بكتْ وودَّعتْه .
وكان عمرُ رضي اللهُ عنهُ يقولُ لمتمِّمِ بن نويرة : يا متمِّم ، والذي نفسي بيده ، لَوَدِدْتُ أني شاعرٌ فأرثي أخي زيداً ، واللهِ ما هبَّتِ الصّبا منْ نجد إلاَّ جاءتني بريحِ زيدٍ . يا متممُ ، إنَّ زيداً أسلم قبلي وهاجرَ وقتل قبلي ، ثمَّ يبكي عمر . يقول متمِّم :
لعمْري لقد لام الحبيبُ على البُكا

حبيبي لِتذْرافِ الدُّموعِ السَّوافِكِ

فقال أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتهُ


لقبرٍ ثوى بين اللِّوى فالدّكادِكِ

فقلتُ له إن الشَّجى يبعثُ الشَّجى

فدعْني فهذا كلُّهُ قبرُ مالِكِ

نُكب بنو الأحمرِ في الأندلسِ ، فجاء الشاعرُ ابنُ عبدون يُعزِّيهم في هذه المصيبةِ فقال :
الدَّهْرُ يفجعُ بعد العَيْنِ بالأثرِ

فما البكاءُ على الأشباحِ والصُّورِ

أنهاك أنهاك لا آلُوك موعظة


عنْ نوْمَةٍ بين نابِ اللَّيْثِ والظُّفُرِ

وَلَيْتها إذ فدتْ عمراً بخارجةٍ

فدتْ عليّاً بمنْ شاءتْ من البشرِ

﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾ ،﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ﴾ .
**************************************
ثمراتُ الرِّضا اليانعة

﴿ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ .
وللرضا ثمراتٌ إيمانيةٌ كثيرةٌ وافرةٌ تنتجُ عنه ، يرتفعُ بها الراضي إلى أعلى المنازلِ ، فيُصبحُ راسخاً في يقيِنه ، ثابتاً في اعتقادِه ، وصادقاً في أقوالِه وأعمالِه وأحوالِه .
فتمامُ عبوديِّتِه في جَرَيانِ ما يكرهُهُ من الأحكام عليه . ولو لم يجْرِ عليه منها إلاَّ ما يحبُّ ، لكان أبْعَد شيءٍ عنْ عبوديَّة ربِّه ، فلا تتمُّ له عبوديَّة . من الصَّبرِ والتَّوكلِ والرِّضا والتضرُّعِ والافتقارِ والذُّلِّ والخضوعِ وغَيْرِها – إلاَّ بجريانِ القدرِ له بما يكرهُ ، وليس الشأنُ في الرضا بالقضاءِ الملائم للطبيعةِ ، إنما الشأنُ في القضاءِ المُؤْلِمِ المنافِرِ للطَّبْعِ . فليس للعبدِ أنْ يتحكَّم في قضاءِ اللهِ وقدرِه ، فيرضى بما شاء ويرفضُ ما شاء ، فإنَّ البشر ما كان لهمِ الخِيَرَةُ ، بلْ الخيرةُ اللهِ ، فهو أعْلمُ وأحْكمُ وأجلُّ وأعلى ، لأنه عالمُ الغيبِ المطَّلِعُ على السرائرِ ، العالمُ بالعواقبِ المحيطُ بها .

رضاً برضا :
ولْيَعْلم أنَّ رضاه عن ربِّه سبحانهُ وتعالى في جميعِ الحالاتِ ، يُثمِرُ رضا ربُه عنه ، فإذا رضي عنه بالقليلِ من الرِّزقِ ، رضي ربُّه عنه بالقليلِ من العملِ ، وإذا رضي عنه في جميع الحالاتِ ، واستوتْ عندهُ ، وجدهُ أسْرَعَ شيءٍ إلى رضاهُ إذا ترضَّاه وتملَّقه ؛ ولذلك انظرْ للمُخلصيِن مع قِلَّةِ عملهِم ، كيف رضي اللهُ سعيهم لأنهمْ رضُوا عنهُ ورضي عنهمْ ، بخلافِ المنافقين ، فإنَّ الله ردَّ عملهم قليلهُ وكثيرهُ ؛ لأنهمِ سخِطُوا ما أنزلَ الله وكرهُوا رضوانهُ ، فأحبط أعمالهم .

منْ سخِط فلهُ السُّخْطُ :
والسُّخطُ بابُ الهمِّ والغمِّ والحزنِ ، وشتاتِ القلبِ ، وكسفِ البالِ ، وسُوءِ الحالِ ، والظَّنِّ بالله خلافُ ما هو أهلُه . والرضا يُخلِّصُه منْ ذلك كلِّه ، ويفتحُ له باب جنةِ الدنيا قبل الآخرةِ ، فإنَّ الارتياح النفسيَّ لا يتمُّ بمُعاكسةِ الأقدارِ ومضادَّة القضاءِ ، بل بالتسليمِ والإذعانِ والقبُولِ ، لأنَّ مدبِّر الأمرِ حكيمٌ لا يُتَّهمُ في قضائِه وقدرهِ ، ولا زلتُ أذكرُ قصة ابن الراونديِّ الفيلسوف الذَّكّيِ الملحدِ ، وكان فقيراً ، فرأى عاميّاً جاهلاً مع الدُّورِ والقصورِ والأموالِ الطائلةِ ، فنظر إلى السماءِ وقال : أنا فيلسوفُ الدنيا وأعيشُ فقيراً ، وهذا بليدٌ جاهلٌ ويحيا غنيّاً ، وهذه قِسمةٌ ضِيزى . فما زادهُ اللهُ إلا مقْتاً وذُلاّ وضنْكاً ﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ﴾ .

فوائدُ الرِّضا :
فالرِّضا يُوجِبُ له الطُّمأنينة ، وبرد القلبِ ، وسكونهُ وقراره وثباتهُ عند اضطرابِ الشُّبهِ والتباسِ والقضايا وكثْرةِ الواردِ ، فيثقُ هذا القلبُ بموعودِ اللهِ وموعودِ رسوله  ، ويقولُ لسانُ الحالِ : ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ . والسخطُ يوجبُ اضطراب قلبِه ، وريبتهُ وانزعاجهُ ، وعَدَمَ قرارِهِ ، ومرضهُ وتمزُّقهُ ، فيبقى قلِقاً ناقِماً ساخِطاً متمرِّداً ، فلسانُ حالِه يقولُ : ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾ . فأصحابُ هذه القلوبِ إن يكُن لهمُ الحقُّ ، يأتوا إليه مُذعِنِين ، وإن طُولِبوا بالحقِّ إذا همْ يصْدفِون ، وإنْ أصابهم خيرٌ اطمأنٌّوا به ، وإنْ أصابتهم فتنةٌ انقلبُوا على وجوههِم ، خسرُوا الدنيا والآخرةِ ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ . كما أنّ الرضا يُنزلُ عليه السكينة التي لا أَنْفَعَ له منها ، ومتى نزلتْ عليه السكينةُ ، استقام وصلحتْ أحوالُه ، وصلح بالُه ، والسُّخط يُبعِدُه منها بحسبِ قلَّتِه وكثرتِه ، وإذا ترحَّلتْ عنهُ السكينةُ ، ترحَّل عنه السرورُ والأمْنُ والراحةُ وطِيبُ العيشِ . فمنْ أعْظَمِ نعمِ اللهِ على عبدِه : تنزُّلُ السكينةِ عليهِ . ومنْ أعظمِ أسبابِها : الرضا عنه في جميعِ الحالاتِ .

لا تُخاصِم ربَّك :
والرضا يخلِّصُ العبد منْ مُخاصمةِ الربِّ تعالى في أحكامِه وأقضيتِه . فإنَّ السُّخط عليهِ مُخاصمةٌ له فيما لم يرض به العبدُ ، وأصلُ مخاصمةِ إبليس لربِّه : منْ عَدَمِ رضاه بأقْضِيَتِه ، وأحكامِه الدِّينيِة والكونيِة . وإنَّما ألحد منْ ألحدَ ، وجَحِدَ منْ جحد لأنهُ نازعَ ربَّه رداء العظمةِ وإزار الكبرياءِ ، ولم يُذعِنْ لمقامِ الجبروتِ ، فهو يُعطِّلُ الأوامر ، وينتهِكُ المناهي ، ويتسخَّطُ المقادير ، ولم يُذعِنْ للقضاءِ .

حُكْمٌ ماضٍ وقضاءٌ عَدْلٌ :
وحُكمُ الرَّبِّ ماضٍ في عبدِه ، وقضاؤُه عدْلٌ فيه ، كما في الحديثِ : (( ماضٍ فيَّ حكمُك ، عَدْلٌ في قضاؤك )) . ومنْ لم يرض بالعدلِ ، فهو منْ أهلِ الظُّلمِ والجوْرِ . واللهُ أحكمُ الحاكمين ، وقدْ حرَّ الظلُّمَ على نفسِه ، وليس بظلاَّمٍ للعبيدِ ، وتقدَّس سبحانه وتنزَّه عنْ ظُلْمِ الناسِ ، ولكنّ أنْفُسهم يظلمون .
وقولُه : ((عَدْلٌ في قضاؤك )) يَعُمُّ قضاء الذنبِ ، وقضاء أثرِهِ وعقوبتِه ، فإنَّ الأمرينِ منْ قضائِه عزَّ وجلَّ ، وهو أعدلُ العادلين في قضائِه بالذنبِ ، وفي قضائِه بعقوبتِه . وقد يقضي سبحانه بالذنبِ على العبدِ لأسرارٍ وخفايا هو أعْلَمُ بها ، قد يكونُ لها من المصالحِ العظيمِة ما لا يعلمُها إلا هُو .

لا فائدة في السُّخطِ :
وعدمُ الرَّضا : إمَّا أنْ يكون لفواتِ ما أخطأهُ ممَّ يحبُّه ويريدهُ ، وإمّا لإصابةٍ بما يكرهُه ويُسخطُه . فإذا تيقَّن أنَّ ما أخطأه لم يكُنْ ليُصيبَه ، وما أصابه لم يكنْ ليُخطئه ، فلا فائدة في سخطِه بعد ذلك إلا فواتُ ما ينفعُه ، وحصولُ ما يضرُّه . وفي الحديث : (( جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ يا أبا هريرة ، فقدْ فُرِغَ من القضاءِ ، وانتُهِي من القدرِ ، وكُتِبتِ المقاديرُ ، ورُفِعتِ الأقلامُ ، وجفَّتِ الصُّحُفُ )) .

السلامةُ مع الرِّضا :
والرضا يفتحُ له باب السلامةِ ، فيجعلُ قلبهُ سليماً ، نقيّاً من الغشِّ والدَّغلِ والغلِّ ، ولا ينجو منْ عذابِ اللهِ إلا منْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ ، وهو السَّالِمُ من الشُّبهِ ، والشَّكِّ والشِّركِ ، وتلبُّسِ إبليس وجُندِه ، وتخذيلِهِ وتسويفِهِ، ووعْدِه ووعيدِه ، فهذا القلبُ ليس فيهِ إلا اللهُ: ﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ .
وكذلك تستحيلُ سلامةُ القلبِ من السُّخطِ وعدمِ الرضا ، وكلَّما كان العبدُ أشدَّ رضاً ، كان قلبُه أسْلَمَ . فالخبثُ والدَّغَلُ والغشُّ : قرينُ السُّخطِ . وسلامةُ القلبِ وبرُّه ونُصحُه : قرينُ الرضا . وكذلك الحسدُ هو منْ ثمراتِ السخطِ . وسلامةُ القلبِ منهُ : منْ ثمراتِ الرضا . فالرضا شجرةٌ طيِّبة ، تُسقى بماءِ الإخلاصِ في بستانِ التوحيدِ ، أصلُها الإيمانُ ، وأغصانُها الأعمالُ الصالحةُ ، ولها ثمرةٌ يانِعةٌ حلاوتُها . في الحديثِ : (( ذاق طعْم الإيمانِ منْ رضي باللهِ ربّاً ، وبالإسلام ديِناً ، وبحمدٍ نبياً )) . وفي الحديث أيضاً : (( ثلاثٌ منْ كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمانِ .... )) .

السُّخْطُ بابُ الشَّكِّ :
والسُّخطُ يفتحُ عليهِ باب الشَّكِّ في اللهِ ، وقضائه ، وقدرِه ، وحكمتِهِ وعلمِهِ ، فقلَّ أنْ يَسْلَمَ الساخِطُ منْ شكٍّ يُداخلُ قلبه ، ويتغلغلُ فيه ، وإنْ كان لا يشعرُ به ، فلوْ فتَّش نفسه غاية التفتيشِ ، لوَجَدَ يقينهُ معلولاً مدخولاً ، فإنَّ الرضا واليقين أخوانِ مُصطحبانِ ، والشَّكَّ والسُّخط قرينانِ ، وهذا معنى الحديثِ الذي في الترمذيِّ : (( إنِ استطعت أن تعمل بالرِّضا مع اليقينِ ، فافعل . فإن لم تستطع ، فإن في الصبر على ما تكره النَّفْسُ خيْراً كثيراً )) . فالساخطُون ناقِمون منْ الداخلِ ، غاضبِون ولوْ لمْ يتكلمَّوا ، عندهم إشكالاتٌ وأسئلةٌ ، مفادُها : لِم هذا ؟ وكيف يكونُ هذا ؟ ولماذا وقع هذا ؟

الرِّضا غِنىً وأمْنٌ :
ومنْ ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ اللهُ صدرهُ غِنىً وأمْناً وقناعةً ، وفرَّغ قلبه لمحبَّتِه والإنابِة إليه ، والتَّوكُّلِ عليه . ومنْ فاته حظُّه من الرِّضا ، امتلأ قلبُه بضدِّ ذلك ، واشتغل عمَّا فيه سعادتُه وفلاحُه .
فالرِّضا يُفرِّغُ القلب للهِ ، والسخطُ يفرِّغُ القلب من اللهِ ، ولا عيش لساخِطٍ ، ولا قرار لناقِمٍ ، فهو في أمر مريجٍ ، يرى أنَّ رزقهُ ناقصٌ ، وحظَّهُ باخِسٌ ، وعطيَّتهُ زهيدةٌ ، ومصائبهُ جمَّةٌ ، فيرى أنه يستحقّ أكْثر منْ هذا ، وأرفع وأجلَّ ، لكنّ ربَّه – في نظرِهِ – بخسهُ وحَرَمَه ومنعَهُ وابتلاه ، وأضناهُ وأرهَقَه ، فكيف يأنسُ وكيف يرتاح ، وكيف يحيا ؟ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ .

ثمرةُ الرِّضا الشُّكْرُ :
والرضا يُثمرُ الشكر الذي هو منْ أعلى مقاماتِ الإيمانِ ، بل هو حقيقةُ الإيمانِ . فإنَّ غاية المنازلِ شكرِ المولى ، ولا يشكُرُ اللهُ منْ يرضى بمواهبه وأحكامِه ، وصُنعِه وتدبيرِه ، وأخذِه وعطائِه ، فالشاكرُ أنْعمُ الناسِ بالاً ، وأحسنُهم حالاً .

ثمرةُ السُّخطِ الكفرُ :
والسخطُ يُثمِر ضدَّه ، وهو كُفْرُ النِّعمِ ، وربما أثمر له كُفْر المنعِم . فإذا رضي العبدُ عن ربِّه في جميعِ الحالاتِ ، أوجب له لذلك شُكره ، فيكونُ من الراضين الشاكرين . وإذا فاتهُ الرضا ، كان من الساخطين ، وسلك سُبُل الكافرين . وإنما وقع الحيْفُ في الاعتقاداتِ والخللُ في الدياناتِ مِنْ كوْنٍ كثيرٍ من العبيدِ يريدون أن يكونوا أرباباً ، بلْ يقترحون على ربِّهم ، ويُحِلُّون على مولاهم ما يريدون: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ .

السُّخطُ مصيدةٌ للشيطانِ :
والشيطانُ إنما يظفرُ بالإنسانِ غالباً عند السخطِ والشهوةِ ، فهناك يصطادُه ، ولاسيَّما إذا استحكم سخطُه ، فإنهُ يقولُ ما لا يُرضي الرَّبَّ ، ويفعلُ ما لا يُرضيه ، وينوي ما لا يُرضيهِ ، ولهذا قال النبيَّ  عند موت ابنهِ إبراهيم : (( يحزنُ القلبُ وتدمعُ العينُ ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا )) . فإنَّ موت البنين من العوارضِ التي تُوجِبُ للعبدِ السخط على القَدَرِ ، فأخبرَ النبيُّ  أنهُ لا يقولُ في مثْلِ هذا المقامِ – الذي يسخطُه أكثرُ الناسِ ، فيتكلَّمون بما لا يُرضي الله ، ويفعلون ما لا يرضيه – إلا ما يُرضي ربَّه تبارك وتعالى . ولو لمح العبدُ في القضاءِ بما يراهُ مكروهاً إلى ثلاثةِ أُمورٍ ، لهان عليه المصابُ .
أوَّلها : علمُه بحكمةِ المقدِّرِ جلَّ في علاه ، وأنهُ أخْبَرُ بمصلحةِ العبدِ وما ينفعُه .
ثانيها : أنْ ينظر للأجرِ العظيمِ والثوابِ الجزيلٍ ، كما وعد اللهُ منْ أُصِيب فصبر مِنْ عبادِهِ .
ثالثُها : أن الحُكم والأمر للرَّبِّ ، والتسليم والإذعان للعبدِ : ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ .

الرِّضا يُخرجُ الهوى :
والرضا يُخرجُ الهوى من القلبِ ، فالراضي هواهُ تبعٌ لمرادِ ربِّه منه ، أعني المراد الذي يحبُّه ربُّه ويرضاهُ ، فلا يجتمعُ الرضا واتِّباعُ الهوى في القلبِ أبداً ، وإنْ كان معهُ شُعبةٌ منْ هذا ، وشعبةٌ منْ هذا ، فهو للغالِب عليه منهما .
إنْ كان رضاكُم في سهري
فسلامُ اللهِ على وَسَنِي


﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ .

إنْ كان سرَّكُمُ ما قال حاسِدُنا
فما لجرْجٍ إذا أرضاكمو ألمُ








  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22