الموضوع: لا تحزن
عرض مشاركة واحدة
قديم 14-01-2012 ~ 12:53 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 14
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


مشاهد التوحيد

إنَّ منْ مشاهدِ التوحيدِ عند الأذيَّةِ ( استقبالِ الأذى من الناسِ ) أموراً :
أولُها مشهدُ العَفْوِ : وهو مشهدُ سلامةِ القلبِ ، وصفائهِ ونقائِه لمنْ آذاك ، وحبُّ الخيرِ وهي درجةٌ زائدةٌ . وإيصالُ الخَيْرِ والنَّفعِ له ، وهي درجة أعلى وأعظمُ ، فهي تبدأ بكظْمِ الغَيْظِ ، وهو : أنْ لا تُؤذي منْ آذاك ، ثمَّ العفو ، وهو أنْ تسامحهُ ، وأنْ تغفرَ له زلَّتهُ . والإحسانِ ، وهو : أنْ تبادله مكان الإساءةِ منه إحساناً منك ، ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ ، ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ .
وفي الأثرِ : (( إنَّ الله أمرني أنْ أصِلَ منْ قطعني ، وأنْ أعفو عمَّنْ ظلمنِي وأنْ أُعطي منْ حَرَمَنِي )) .
ومشهدُ القضاءِ : وهي أنْ تعلم أنه ما آذاك إلا بقضاءٍ من اللهِ وقَدَرٍ ، فإنَّ العبد سببٌ من الأسبابِ ، وأنَّ المقدر والقاضي هو اللهُ ، فتسلِّمَ وتُذْعن لمولاك .
ومشهدُ الكفارةِ : وهي أنَّ هذا الأذى كفارةٌ منْ ذنوبك وحطٌّ منْ سيئاتِك ، ومحوٌ لزلاّتِك ، ورفعةٌ لدرجاتِك ، ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ .
من الحكمةِ التي يؤتاها كثيرٌ من المؤمنين ، نَزْعُ فتيلِ العداوةِ ، ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ ، (( المسلمُ منْ سلِم المسلمون منْ لسانِه ويدهِ )) .
أيْ : أن تَلْقَى منْ آذاك بِبِشر وبكلمةٍ لينةٍ ، وبوجهٍ طليقٍ ، لتنزع منهُ أتون العداوةِ ، وتطفئ نار الخصومِة ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ .
كٌن ريِّق البِشْرِ إنَّ الحُرَّ شيمتُهُ
صحيفةٌ وعليها البِشْرُ عنوانُ

ومنْ مشاهدِ التوحيدِ في أذى منْ يؤذيك :
مشهدُ معرفةِ تقصيرِ النفسِ : وهو انَّ هذا لم يُسلَّطِ عليك إلا بذنوبٍ منك أنت ، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾
وهناك مشهدٌ عظيمٌ ، وهو مشهدٌ تحمدُ الله عليهِ وتشكرُه ، وهو : أنْ جعلك مظلوماً لا ظالماً .
وبعضُ السلفِ كان يقولُ : اللهمَّ اجعلْني مظلوماً لا ظالماً . وهذا كابنْيْ آدم ، إذ قال خيرُهما : ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
وهناك مشهدٌ لطيفٌ آخرُ ، وهو : مشهدُ الرحمةِ وهو : إن ترْحَمَ منْ آذاك ، فإنهُ يستحقُّ الرحمةَ ، فإنَّ إصراره على الأذى ، وجرأته على مجاهرةِ اللهِ بأذيةِ مسلمٍ : يستحقُّ أن ترقَّ لهُ ، وأنْ ترحَمَهُ ، وأنْ تنقذه من هذا ، (( انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً )) .
ولمَّا آذى مِسْطَحٌ أبا بكرٍ في عِرْضِهِ وفي ابنتِهِ عائشة ، حلف أبو بكرٍ لا ينفقُ على مسطحٍ ، وكان فقيراً ينفقُ عليه أبو بكرٍ ، فأنزل اللهُ : ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ . قال أبو بكرٍ : بلى أُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي . فأعاد له النفقة وعفا عنهُ .
وقال عيينهُ بنُ حِصْنٍ لعمر : هيهِ يا عمرُ ؟ والله ما تعطينا الجَزْلَ ، ولا تحكمُ فينا بالعدْلِ . فهمّ به عمرُ ، فقال الحرُّ بنُ قيس : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الله يقول : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ ، قال : فواللهِ ما جاوزها عمرُ ، وكان وقَّفاً عند كتابِ اللهِ .
وقال يوسُفُ إخوتِهِ : ﴿ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ .
وأعلنها  في الملأِ فيمنْ آذاهُ وطرده وحاربه منْ كفارِ قريش ، قال : (( اذهبُوا فأنتمُ الطلقاءُ )) قالها يوم الفتحِ ، وفيِ الحديثِ : (( ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسه عندَ الغضبِ )) .
قال ابنُ المباركِ :
إذا صاحبت قوماً أهل وُدٍّ

فكْن لهمُ كذي الرَّحِمِ الشفيقِ

ولا تأخذْ بزلَّةِ كلِّ قومٍ

فتبقى في الزمانِ بلا رفيقِ


قال بعضُهم : موجودٌ في الإنجيل : اغفرْ لمنْ أخطأ عليك مرةً سبع مراتٍ ﴿ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾
أيْ : منْ أخطأ عليك مرةً فكرِّرْ عليه العَفْوَ سبع مراتٍ ، ليسلم لك دينُك وعِرْضُك ، ويرتاح قلبُك ، فإنَّ القَصَاصَ منْ أعصابِك ومنْ دمِك ، ومنْ نومِك ومنْ راحتِك ومنْ عِرضِك ، وليس من الآخرين .
قال الهنودُ في مثلٍ لهم : « الذي يقهرُ نفسه : أشجعُ من الذي يفتحُ مدينةً » . ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ﴾ .
**********************************


وقفـــةٌ

« أما دعوةُ ذي النونِ ، فإنَّ فيها منْ كمالِ التوحيدِ والتنزيهِ للربِّ تعالى ، واعترافِ العبدِ بظلمهِ وذنبه ، ما هو منْ أبلغ أدويةِ الكربِ والهمِّ والغمِّ ، وأبلغ الوسائلِ إلى اللهِ سبحانه في قضاءِ الحوائجِ فإنَّ التوحيد والتنزيهَ وتضمَّنانِ إثبات كلِّ كمالٍ للهِ ، وسلب كلِّ نقصٍ وعيبٍ وتمثيلٍ عنه . والاعترافُ بالظلمِ يتضمَّنُ إيمان العبدِ بالشرعِ والثوابِ والعقابِ ، ويُوجبُ انكساره ورجوعهُ إلى اللهِ ، واستقالته عثرته ، والاعتراف بعبوديتهِ وافتقارِه إلى ربِّه فهاهنا أربعة أمورٍ قدْ وقع التوسُّلُ بها : التوحيدُ ، والتنزيهُ ، والعبوديةُ ، والاعترافُ » .
﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ .
**************************************
اعتنِ بالظاهرِ والباطنِ

صفاءُ النفسِ بصفاءِ الثوبِ ، وهنا أمرٌ لطيفٌ وشيءٌ شريف ، وهو أنَّ بعض الحكماءِ يقولُ : منِ اتسخ ثوبُه ، تكدَّرتْ نفسُه . وهذا أمرٌ ظاهرٌ .
وكثيرٌ من الناسِ يأتيهِ الكَدَرُ بسببِ اتساخ ثوْبِهِ ، أو تغيُّرِ هِندامِهِ ، أو عدمِ ترتيبِ مكتبتِهِ ، أو اختلاطِ الأوراقِ عنده ، أو اضطرابِ مواعيدِه وبرنامِجِه اليوميِّ ، والكونُ بُني على النظامِ ، فمنْ عَرَفَ حقيقة هذا الدِّينِ ، علم أنه جاء لتنظيمِ حياةِ العبدِ ، قليلِها وكثيرِها ، صغيرِها وجليلِها ، وكلُّ شيءٍ عنده بحُسْبانٍ ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ . وفي حديثٍ عند الترمذيِّ : (( إنَّ الله نظيفٌ يحبُّ النظافة )) .
وعند مسلمٍ في الصحيحِ : (( إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال )) .
وفي حديثٍ حسنٍ : (( تجمَّلُوا حتى تكونوا كأنكمْ شامةٌ في عيونِ الناسِ )) .
يمشون في الحُللِ المضاعفِ نسْجُها
مشي الجمالِ إلى الجِمالِ البُزَّلِ

زأولُ الجمالِ : الاهتمامُ بالغسلِ . وعند البخاري : (( حقٌّ على المسلمِ أنْ يغتسل في كلِّ سبعةِ أيامٍ يوماً ، يغسلُ فيه رأسه وجسمهُ )) .
هذا على أقلِّ تقديرٍ . وكان بعضُ الصالحين يغتسلُ كلَّ يومٍ مرةً كعثمان بنِ عفان فيما ورد عنهُ ، ﴿ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ .
ومنها خصالُ الفطرةِ : كإعفاءِ اللحيِة وقصِّ الشاربِ ، وتقليمِ الأظافرِ ، وأخذِ الشعرِ الزائدِ من الجسمِ ، والسواكِ ، والطِّيبِ ، وتخليلِ الأسنانِ ، وتنظيفِ الملابسِ ، والاعتناءِ بالمظهرِ ، فإنَّ هذا مما يوسِّعُ الصدر ويفسحُ الخاطر . ومنها لُبسُ البياضِ ، (( البسوا البياض ، وكفِّنوا فيه موتاكمْ )) .
رقاقُ النعالِ طيّباً حُجُزاتُهم
يُحيّون بالرَّيْحانِ يوم السباسِبِ

وقد عقد البخاريُّ باب : لبسِ البياضِ : (( إنَّ الملائكة تنزلُ بثيابٍ بيضٍ عليهمْ عمائمُ بِيضٌ )) .
ومنها ترتيبُ المواعيدِ في دفترٍ صغيرٍ ، وتنظيمُ الوقتِ ، فوقتٌ للقراءةِ ، ووقتٌ للعبادةِ ، ووقتٌ للمطالعةِ ، ووقتٌ للراحة ، ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ ، ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ .
في مكتبةِ الكونجرسِ لوحةٌ مكتوبٌ عليها : الكونُ بُني على النظامِ . وهذا صحيحٌ ، ففي الشرائعِ السماويةِ الدعوةُ إلى التنظيمِ والتنسيقِ والترتيبِ ، وأخبر – سبحانه وتعالى – أنَّ الكون ليس لهْواً ولا عبثاً ، وأنه بقضاءٍ وقدرٍ ، وأنه بترتيب وبحُسبانٍ : ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ . ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ . ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ . ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾ .﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾ . ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ{16} لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ .
﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ ﴾ :
كان حكماءُ اليونانِ إذا أرادُوا معالجة المصابِ بالأوهامِ والقلق والأمراضِ النفسيةِ : يجبرونهُ على العملِ في الفلاحة والبساتين ، فما يمرُّ وقتٌ قصير إلا وقد عادت إليه عافيته وطمأنينته ، ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ ، ﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ ﴾ .
إنَّ أهل الأعمالِ اليدويِة همْ أكثُر الناسِ راحةً وسعادةً وبسْطة بالٍ، وانظرْ إلى هؤلاءِ العمَّالِ كيف يملكون منْ البالِ وقوةِ الأجسامِ ، بسببِ حركتِهمْ ونشاطِهمْ ومزاولاتِهمْ ، ((وأعوذُ بك من العجْزِ والكسلِ )) .
*********************************************
التْجِئ إلى الله

اللهُ : هو الاسم الجليلُ العظيمُ ، هو أعرفُ المعارفِ ، فيه معنىً لطيفٌ ، قيل : هو مِنْ أَلهَ ، وهو الذي تألهُهُ القلوبُ ، وتحبُّه ، وتسكنُ إليه ، وترضى بهِ وتركنُ إليهِ ، ولا يمكنُ للقلبِ أبداً أن يسكن أو يرتاح أو يطمئنَّ لغيرهِ سبحانه ، ولذلك علّم  فاطمة ابنتهُ دعاء الكرْبِ : (( اللهُ ، اللهُ ربي لا أشركُ به شيئاً )) . وهو حديثٌ صحيحٌ ، ﴿ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ ، ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ ، ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ ، ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ، ﴿ وْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ﴾ .
***************************************
عليهِ توكَّلْتُ
ومنْ أعظمِ ما يُضفي السعادة على العبدِ ركونُهُ إلى ربِّه ، وتوكُّلُه عليهِ ، واكتفاؤه بولايتهِ ورعايتهِ وحراستهِ ، ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ ، ﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ ، ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ .
**********************************
أجمعُوا على ثلاثةٍ

طالعتُ الكتب التي تعتني بمسألةِ القلقِ والاضطرابِ ، سواءٌ كانتْ لسلفِنا من محدِّثين وأدباء ومربِّين ومؤرِّخين أو لغيرِهمْ مع النشراتِ والكتبِ الشرقيةِ والغربيةِ والمترجمةِ ، والدورياتِ والمجلاَّتِ ، فوجدتُ الجميع مجمعين على ثلاثةِ أسسِ لمنْ أراد الشفاء والعافية وانشراح الصدرِ ، وهي :
الأولُ : الاتصالُ باللهِ عزَّ وجلَّ ، وعبوديتُه ، وطاعتُه واللجوءُ إليه ، وهي مسألةُ الإيمانِ الكبرى ، ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ .
الثاني : إغلاقُ ملفِّ الماضي ، بمآسيهِ ودموعِه ، وأحزانِه ومصائِبِه ، وآلامِه وهمومِه ، والبدءِ بحياةٍ جديدةٍ مع يومٍ جديدٍ .
الثالثُ : ترْكُ المستقبلِ الغائبِ ، وعدمُ الاشتغالِ بهِ والانهماكُ فيهِ ، وتركُ التوقعاتِ والانتظاراتِ والتوجُّساتِ ، وإنِّما العيشُ في حدودِ اليومِ فَحَسْبُ .
قال عليٌّ : إيَّاكمْ وطول الأملِ ، فإنَّه يُنْسِي ، ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ .
إيَّاك وتصديق الأراجيفِ والشائعاتِ ، فإنَّ الله قال عنْ أعدائِه : ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ .
وعرفتُ أناساً منْ سنواتٍ عديدةٍ ، وهمْ ينتظرون أموراً ومصائب وحوادث وكوارث لمْ تقعْ ، ولا يزالون يُخوِّفون أنفسهم وغيرهم منها، فسبحان الله ما أنكدُ عَيْشَهمْ !! ومَثَلُ هؤلاءِ كالسجينِ المعذَّبِ عند الصينيين ، فإنهمْ يجعلونه تحت أنبوبٍ يقطُرُ على رأسِهِ قطرةً من الماءِ في الدقيقةِ الواحدةِ ، فيبقى هذا السجينُ ينتظرُ كلَّ قطرةٍ ثمَّ يصيبُه الجنونُ ، ويفقدُ عقله . وقدْ وصف اللهُ أهل النارِ فقال : ﴿ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ﴾ ، ﴿ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ﴾ ، ﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ .
****************************************
أحِلْ ظالمك على الله

إلى الدَّيانِ يوم الحشْرِ نمضي
وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ

ويكفي العبد إنصافاً وعدْلاً أنهُ ينتظرُ يوماً يجمعُ اللهُ فيهِ الأولين والآخرين ، لا ظلم في ذلك اليومِ ، والحكمُ هو اللهُ عزَّ وجلَّ ، والشهودُ الملائكةُ ، ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ .
*****************************
كسرى وعجوزٍ

ذكر بُزر جمهرُ حكيمُ فارس : أنَّ عجوزاً فارسيةً كان عندها دجاجٌ في كوخٍ مجاورٍ لقصرِ كسرى الحاكمِ ، فسافرتْ إلى قريةٍ أخرى ، فقالتْ : يا ربِّ أستودعُك الدجاج . فلمَّا غابتْ ، عدا كسرى على كوخِها ليوسع قصْره وبستانهُ ، فذبح جنودُه الدجاج ، وهدمُوا الكوخ ، فعادتِ العجوزُ فالتفتتْ إلى السماءِ وقالتْ : يا ربّ ، غبتُ أنا فأين أنت ! فأنصفها اللهُ وانتقم لها ، فعدا ابنُ كسرى على أبيه بالسكينِ فَقَتَلهُ على فراشِهِ . ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾ ، ليتنا جميعاً نكونُ كخيْرَي ابني آدم القائلِ : ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾ . (( كنْ عبد اللهِ المقتول ، ولا تكنْ عبد الله القاتل )) ، إنَّ عند المسلمِ مبدأ ورسالةً وقضيةً أعظمُ من الانتقامِ والتشفي والحِقْدِ والكراهيةِ .
******************************************
مُرَكَّبُ النقْصِ قد يكونُ مُرَكَّبَ كمالٍ

﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ . بعضُ العباقرةِ شقُّوا طريقهم بصمودٍ لإحساسِهم بنقصٍ عارضٍ ، فكثيرٌ من العلماءِ كانوا موالي ، كعطاءٍ ، وسعيدِ بن جُبيْرٍ ، وقَتَادَةَ ، والبخاريِّ ، والترمذيِّ ، وأبي حنيفة .
وكثيرٌ منْ أذكياءِ العالمِ وبحورِ الشريعةِ أصابهُم العمى ، كابن عباسٍ ، وقتادة ، وابنِ أمِّ مكتوم ، والأعمشِ ، ويزيدِ بنِ هارون .
ومن العلماء المتأخرين : الشيخُ محمدُ بنُ إبراهيم آل الشيخ ، والشيخُ عبدُاللهِ بنُ حميد ، والشيخُ عبدُالعزيزِ بنُ بازٍ . وقرأتُ عن أذكياء ومخترعين وعباقرةٍ عَرَبٍ كان بهمْ عاهاتٌ ، فهذا أعمى ، وذاك أصمُّ وآخرُ أعوجُ ، وثانٍ مُقْعدٌ ، ومع ذلك أثَّروا في التاريخ ، وأثَّروا في حياةِ البشريةِ بالعلومِ والاختراعاتِ والكشوفِ . ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ .
ليستِ الشهادةُ العلميةُ الراقيةُ كلَّ شيءٍ ، لا تهتمَّ ولا تغتمَّ ولا تضِقْ ذرْعاً لأنك لم تنلِ الشهادة الجامعية ، أو الماجستير ، أو الدكتوراه ، فإنها ليستْ كلُّ شيء ، بإمكانِك أنْ تؤثِّرَ وأنْ تلمع وأنْ تقدّم للأمةِ خيراً كثيراً ، ولوْ لمْ تكنْ صاحب شهادةٍ علميةٍ . كمْ منْ رجلٍ شهيرٍ خطيرٍ نافعٍ لا يحملُ شهادةً ، إنما شقَّ طريقه بعصاميَّتِهِ وطموحِه وهمَّتِه وصمودِه . نظرتُ في عصرِنا الحاضرِ فرأيتُ كثيراً من المؤثِّرين في العالمِ الشرعي والدعوةِ والوعي والتربيةِ والفكرِ والأدبِ ، لم يكنْ عندهمْ شهاداتٌ عالميةٌ ، مثلُ الشيخ ابن بازِ ، ومالكِ بنِ نبيٍّ ، والعقادِ ، والطنطاوي ، وأبي زهرة ، والمودوديِّ والندويِّ ، وجمعٍ كثيرٍ .
ودونك علماء السلفِ ، والعباقرة الذين مرُّوا في القرونِ المفضَّلةِ .
نفسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما
وعلَّمتْهُ الكرَّ والإقداما

وعلى الضدِّ منْ ذلك آلافُ الدكاترةِ في العالمِ طولاً وعرضاً ، ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾ . القناعةُ كَنْزٌ عظيمٌ ، وفي الحديثِ الصحيحِ : (( ارض بما قسم اللهُ لك تَكُنْ أغنى الناسِ )) .
ارضْ بأهلِك ، بدخْلِك ، بمرْكبِك ، بأبنائِك ، بوظيفتِك ، تجدِ السعادة والطمأنينة .
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( الغِنى غِنى النفسِ )) .
وليس بكثرةِ العرضِ ولا بالأموالِ وبالمنصبِ، لكنَّ راحة النفسِ ، ورضاها بما قَسَمَ الله.
وفي الحديثِ الصحيحِ : ((إنَّ الله يحبُّ العبد الغنيَّ التقيَّ الخفيَّ)) . وحديثِ : ((اللهمَّ اجعلْ غناه في قلبِهِ )) .
قال أحدُهم : ركبتُ مع صاحبِ سيارةٍ من المطارِ ، متوجّهاً إلى مدينةٍ من المدنِ ، فرأيتُ هذا السائق مسروراً جذِلاً ، حامداً للهِ وشاكراً ، وذاكراً لمولاهُ ، فسألُه عن أهلِه فأخبرني أنَّ عنده أسرتين ، وأكثر منْ عشرةِ أبناءٍ ، ودخلُهُ في الشهرِ ثمانمائةِ ريالٍ فَحَسْبُ ، وعنده غُرفٌ قديمةٌ يسكنُها هو وأهلُه ، وهو مرتاح البالِ ، لأنهُ راضٍ بما قَسَمَ اللهُ لهُ .
قال : فعجبتُ حينما قارنتُ بين هذا وبين أناسٍ يملكونُ ملياراتٍ من الأموالِ والقصورِ والدورِ ، وهمْ يعيشون ضنْكاً من المعيشةِ ، فعرفتُ أن السعادة ليستْ في المالِ .
عرفتُ خَبَرَ تاجرٍ كبيرٍ ، وثريٍّ شهيرٍ عندهُ آلافُ الملايين وعشراتُ القصورِ والدورِ ، وكانَ ضيِّق الخُلُقِ ، شرس التعاملِ ثائر الطبع ، كاسف البالِ ، مات في غربةٍ عنْ أهلِه ، لأنهُ لم يَرْضَ بما أعطاهُ اللهُ إياه ، ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ{15} كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾ .
منْ معالمِ راحةِ البالِ عند العربيِّ القديمِ أنْ يَخْلُو بنفسِه في الصحراءِ ، وينفرد عنِ الأحياءِ ، يقولُ أحدُهم :
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عوى
وصوَّت إنسانٌ فكِدْتُ أطِيرُ

وقد خرج أبوٍّ ذر إلى الربذةِ . وقال سفيانُ الثوريَّ : ودِدْتُ أني في شِعْبٍ من الشِّعابِ لا يعرفُني أحدٌ ! وفي الحديثِ : (( يُوشِكُ أنْ يكون خَيْرَ مالِ المسلمِ : غَنَمٌ يتبعُ بها مواقع القطرِ وشعف الجبالِ ، ويفرُّ بدينِه من الفِتنِ )) .
فإذا حصلتِ الفتنُ كان الأسلمُ للعبدِ الفرار منها ، كما فعل ابنُ عُمرَ وأسامةُ بنُ زيدٍ ومحمدُ بنُ مسلمة لما قُتِل عثمانُ .
عَرفْتُ أناساً ما أصابهمُ الفقْرُ والكدرُ وضيِقُ الصَّدْرِ إلا بسببِ بُعْدِهم عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، فتجدُ أحدهم كان غنيّاً ورزقُهُ واسعاً ، وهو في عافيةٍ منْ ربِّه ، وفي خيرٍ منْ مولاه ، فأعرض عنْ طاعِة اللهِ ، وتهاون بالصلاةِ ، واقترف كبائر الذنوبِ ، فسلبَه ربُّه عافية بدنِه ، وَسَعَةَ رِزْقِهِ ، وابتلاهُ بالفقْرِ والهمِّ والغمِّ ، فأصبح منْ نكدٍ إلى نَكَدٍ ، ومنْ بلاءٍ إلى بلاءٍ ، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ ، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ ، ﴿وَأَن أَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً﴾.
ودِدتُ أنَّ عندي وصفةً سحريَّة ألقيها على همومك وغمومِك وأحزانِك ، فإذا هي تلْقفُ ما يأفِكون ، لكنْ مِنْ أين لي ؟! ولكنْ سوف أخبرُك بوصفةٍ طبيَّةٍ منْ عيادةِ علماءِ الملَّةِ وروَّاد الشَّريعةِ ، وهي : اعبدِ الخالق ، وارض بالرزقِ ، وسلّمْ بالقضاءِ ، وازهدْ في الدُّنيا ، وقصَّرِ الأمل . انتهى .
عجبتُ العالِم نفسانٍّي شهيرٍ أمريكيٍّ ، اسمُهُ ( وليم جايمس ) ، هو أبو علِم النفسِ عندهم ، يقولُ : إننا نحنُ البشرُ نفكِّرُ فيما لا نملكُ ، ولا نشكرُ الله على ما نملكُ ، وننظرُ إلى الجانبِ المأسويِّ المظلمِ في حياتِنا ، ولا ننظرُ إلى الجانب المشْرقِ فيها ، ونتحسَّرُ على ما ينقصُنا ، ولا نسعدُ بما عندنا ، ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ ، (( وأعوذُ باللهِ منْ نفسٍ لا تَشْبَعُ )) .
وفي الحديثِ : (( منْ أصبح والآخرةُ همُّه ، جمع اللهُ شمله ، وجَعَلَ غناه في قلبِه ، وأتتْه الدنيا وهي راغمةٌ ، ومنْ أصبح والدنيا همُّه ، فرَّق اللهُ عليهِ شمله ، وجعلَ فَقْرَهُ بين عيْنَيْه ، ولم يأتِه من الدنيا إلاَّ ما كٌتِب له )) . ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ .

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22