عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2012 ~ 11:04 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


وفى أوائل القرن الثالث عشر، حاول مسيحي آخر يتصف بالقداسة أن يخاطب العالم الإسلامي في سياق حملة عسكرية صليبية، إذ حدث أثناء القتال في الحملة الصليبية الخامسة التى باءت بالفشل (1218 – 1219) أن جاء “القديس ” فرانسيس أسيسى إلى المعسكر المسيحي في دلتا نهر النيل ، ثم عبر خطوط الأعداء وطلب السماح له بمقابلة السلطان الكامل . وقيل إنه قضى ثلاثة أيام مع السلطان ، يشرح رسالة الإنجيل ، ويحث السلطان على التحول إلى المسيحية، وقد حرص فرانسيس على عدم المساس بذكرى النبي محمد، مما شجع المسلمين على الاستماع إليه ، ويبدو أنهم أعجبوا بذلك الأشعث الأغبر. وعندما آن له أن يرحل قال السلطان الكامل : “ادع الله لي، وابتهل إليه أن يهديني إلى ما يحبه و يرضاه من شرع وإيمان “. ومن ثم أعاد فرانسيس إلى المعسكر المسيحي “معززا مكرما سالما آمنا”[15]. وكان فرانسيس قد أرسل – قبل رحيله إلى الشرق – فريقا من صغار القسس للدعوة بين المسلمين في إسبانيا وإفريقيا ، ولكن المنهج الذي اتبعوه في مخاطبة العالم الإسلامي كان يختلف في روحه اختلافا شاسعا. فعندما وصلوا إلى إشبيلية لجئوا إلى أساليب شهداء قرطبة، فحاولوا أولا اقتحام المسجد أثناء صلاة الجمعة، وعندما قام المصلون بتفريقهم ، اتجهوا إلى قصر الأمير، وشرعوا يسبون النبي محمدا بصوت عال خارج القصر. وهكذا كانت هذه البعثة التبشيرية، وهى أول بعثة كبرى إلى أبناء الشرق ، لا تتسم بأي تعاطف أو حب ، لأن أتباع فرانسيس (الفرنسيسكان ) لم يكونوا يرمون إلى “هداية” المسلمين إلى المسيحية ، بل كانوا يحاولون استغلال الموقف للظفر بإكليل الشهادة . ولما علت أصواتهم وازدادت جلبتهم اضطرت السلطات إلى حبسهم ، إذ تسببت الحادثة في حرج شديد لهم ، كما حاولت السلطات تجنب ذيوع أمرهم فدأبت على نقلهم من سجن إلى سجن . ورفضت الحكم عليهم بالإعدام ، ولكن المسيحيين المستعربين في إشبيلية كانوا يخشون أن يتسبب هؤلاء المتعصبون في تعريض موقفهم للخطر، وطلبوا من السلطات التخلص منهم. وانتهى الأمر بترحيل الفرنسيسكان إلى مدينة “سبته ” في المغرب ، و لكنهم ما إن وصلوها حتى اتجهوا إلى المسجد أثناء صلاة الجمعة، وشرعوا من جديد في سب النبي محمد. ولم تجد السلطات بدأ، آخر الأمر، من .إعدامهم . وعندما وصلت الأنباء إلى “القديس ” فرانسيس ، قيل إنه صاح في ابتهاج “أعلم الآن أنني ظفرت بخمسة قسس صغار يخلصون لي”[16]. يبدو أن تلك النزعة قد غلبت على بعثات التبشير الفرنسيسكانية التالية، ففي عام 1227 أعدم فريق آخر من القسس في سبته ، وكانوا قد أرسلوا خطابات إلى بلدهم يقولون فيها إن هدف البعثة هو “الموت والهلاك للكفار”[17]، واتجه فريق آخر إلى الأراضي المقدسة ، ولكن أساليبهم لم يرضى عنها جيمس فيترى، أسقف عكا، فكتب يقول : إن المسلمين لا يترددون في الإصغاء للقسس الصغار عندما يتحدثون إيمان المسيح وتعاليم الأناجيل . ولكنهم عندما يتعرضون في حديثهم إلى .إنكار ما جاء به محمد، إذ يصورونه في خطبهم الدينية في صورة الكاذب الخائن ، فإن المسلمين يضربونهم دون احترام لبعثتهم ، ولولا لطف الله الذي يحفظهم بما يشبه المعجزة، لكان مصيرهم القتل أو الطرد من مدن المسلمين “[18].
و هكذا كان الحال إبان العصور الوسطى. فحتى عندما كان البعض يحاول التزام الإنصاف والموضوعية ، أو الدعوة لرسالة المسيحية بين المسلمين ، كان العداء يتفجر، وكان أحيانا ما يتخذ طابع العنف الشديد. ففي نهاية الثالث عشر، قام العلامة الدومينيكى “ريكولدو دا مونتى كروتشى” بجولة في بلدان الإسلامية ، وأعرب عن انبهاره بمستوى التقوى والورع الذي صادفه ، فكتب يقول : “إن على المسيحيين أن يخجلوا من ورع المسلمين ” . ولكنه عندما عاد إلى وطنه ليكتب عن “إقامة الحجة على المسلمين والقرآن ” لم يزد على تكرار الأساطير القديمة . كانت الصورة الغربية للإسلام قد بدأت تتخذ من القوة ما يكفل دحض آثار أي احتكاك مع المسلمين الحقيقيين ، مهما تكن الآثار إيجابية ، إذ وجد الغرب روحه في أيام الحروب الصليبية ، ويستطيع الباحث أن يرجع معظم ما نتميز به عن غيرنا من المشاعر الفياضة وضروب الحماس إلى تلك الفترة، وهذا هو ما ألمح إليه “أومبرتو إيكو” في مقال عنوانه : “أحلام القرون الوسطى” ، إذ يقول :
الواقع أن الأمريكيين والأوربيين قد ورثوا التركة الغربية ، فمعظم مشاكل العالم الغربي قد ظهرت في القرون الوسطى، لأن المجتمع القرون الوسطى هو الذي ابتدع اللغات الحديثة ، والمدن التجارية ، والاقتصاد الرأسمالي (إلى جانب البنوك والشيكات ، وأسعار الفائدة على الودائع ) . ونحن نشهد في القرون الوسطى نشأة الجيوش الحديثة، والمفهوم الحديث للدولة القومية ، وكذلك فكرة الاتحاد الإلهي (تحت راية إمبراطور ألماني يختاره مجلس نيابي يقوم بمهمة المؤتمر الانتخابي) ، والصراع بين الأغنياء والفقراء ، ومفهوم البدعة أو الانحراف الإيديولوجي، بل حتى فكرتنا المعاصرة عن الحب باعتباره سعادة مدمرة تجلب الشقاء . ويمكنني أن أضيف إلى القائمة الصراع بين الكنيسة والدولة ، والنقابات العمالية ، (و إن كانت في صورة الشركات ) والتحولات التكنولوجية لعمل العمال[19].
و كان يمكنه أن يضيف أيضا مشكلة الإسلام . فانتهاء القرون الوسطى لم يؤذن بانتهاء الأساطير القروسطية القديمة . فعلى كثرة المحاولات التى بذلت لوضع منظور يتميز بالمزيد من الموضوعية والإيجابية، وعلى تنامي الاتفاق في آراء العلماء على أن الإسلام وبنى الإسلام لا يمثلان الظواهر المخيفة التى توهمها الناس ، ظل التعصب القديم قائما.
و قد استمرت صورة الإسلام الموهومة التى روجها شهداء قرطبة إبان فترة الحملات الصليبية، وان لم تكن تمثل موضوعا من الموضوعات الرئيسية ، إذ حدث في عام 1191 ، أثناء رحلة الملك ريتشارد قلب الأسد إلى الأرض المقدسة، في إطار الحملة الصليبية الثالثة، أن التقى بأحد المتصوفة الإيطاليين ،المشهورين في مدينة ميسينا ، في جزيرة صقلية، وهو يواقيم فيورى، الذي ، اخبره أنه سوف ينتصر حتما على صلاح الرين الأيوبي . وإذا كان يواقيم قد خطأ في ذلك ، فإنه أبدى بعض الملاحظات الطريفة ، والجديرة بالذكر، إذ قال إن نهاية العالم وشيكة، وإن نشأة الإسلام تمثل إحدى الوسائل الرئيسية يستعين بها المسيخ الدجال ، أما المسيخ الدجال نفسه فهو حى يرزق في روما ، وقد كتب له أن يشغل كرسي البابوية في روما . والواقع أن زيادة انتقاد .الأوربيين لمجتمعهم ووعيهم بنقائصه جعلتهم يربطون بين الإسلام وبين العدو الذي يعيش بين ظهرانيهم . وهكذا كان المصلحون كذلك يوازون بين البابوية التي تفتقر إلى الإخلاص (عدوهم اللدود) وبين الإسلام ، فنجد أن المصلح الإنجليزي ابن القرن الرابع عشر، جون ويكليف ، يرمى الإسلام في كتاباته الأخيرة بالنقائص الكبرى التى كان يراها في الكنيسة الغربية المعاصرة له وهى الكبرياء ، والجشع والعنف ، وشهوة السلطة والامتلاك . فكتب يقول “إننا نحن المحمديين الغربيين ” وكان يعنى بذلك الكنيسة الغربية بصفة عامة، “على قلة عددنا بين أبناء الكنيسة كلهم ، نتصور أن العالم بأسره سوف يبنى نظمه على أساس أحكامنا ويرتعد فرقا من أوامرنا”[20].
و مضى يقول إنه لو لم تعد الكنيسة إلى الروح الحقيقية للأناجيل ، وللزهد الذي يدعو الدين إليه ، فإن هذه الروح “الإسلامية” سوف تستفحل في الغرب مثلما استفحلت في الشرق . وكانت أقواله تدل على تحول دقيق في الفكرة التي اعتادها من سبقه وهى اعتبار الإسلام ونبي الإسلام نقيضا لكل شئ “نتمنى” أن نكونه أو نخشى أن نصير إليه.
لم يكن أمام ويكليف إلا الاستناد إلى معلومات غير موثوق بها إلى حد بعيد، ولكنه قرأ ترجمة القران وظن أنه عثر على نقاط مهمة تسمح بالموازنة بين محمد وكنيسة روما . وكانت حجته تقول إن محمدا كان يشبه الكنيسة في عدم المبالاة بالكتاب المقدس ، فكان يأخذ منه ما يناسب دعواه ويطرح سائره ، وان محمدا كان يشبه أصحاب الطوائف الدينية في ابتداع تجديدات تثقل كواهل المؤمنين بأعباء جديدة، وأهم من ذلك كله ، أن محمدا يحذو حذو الكنيسة في حظر المناقشة الحرة للدين . والواقع أن ويكليف فسر بعض الآيات القرآنية تفسيرا يشي بالتعصب القروسطى القديم ، ولكن هذه الفقرات لا تحظر المناقشة الدينية في ذاتها، بل هي تقول إن بعض ضروب الجدل الديني قد أدت إلى الانشقاق في أديان التوحيد القديمة ، ونشوء الشيع والطوائف المتناحرة . فبعض الأفكار المتعلقة بالذات الإلهية من المحال أن تتعدى الحدس والتخمين ، فلا يمكن لأحد، على سبيل المثال ، أن يثبت صحة مبدأ التجسد، وهو الذي يقول محمد إنه من المبادئ التى أضافها بعض المسيحيين فيما يبدو إلى الرسالة الأصلية للنبي عيسى. ومع ذلك فإن ويكليف عقد مقارنة بين هذا التعصب الإسلامي المزعوم وبين موقف الكنيسة إزاء بعض المبادئ التى تكتنفها المشاكل مثل مبدأ القربان المقدس ، إذ تأمر المسيحيين بالإيمان الأعمى بالأشياء التى لا يستطيعون فهمها.
و لم يقلع لوثر وغيره من المصلحين البروتستانت عن هذه العادة، ففي أواخر أيامه ، وجد أنه يواجه الغزوات المخيفة التى كان الأتراك العثمانيون يشنونها على أوربا، ومن ثم تملكه كابوس شهداء قرطبة، وأصبح يعتقد أن الإسلام قد يكتسح الممالك المسيحية اكتساحا كاملا، وفى عام 1542 نشر ترجمته الخاصة للدراسة التى كتبها ريكولدو دامونتى كروتشى بعنوان إقامة الحجة (المشار إليها آنفا) وقال في التصدير إنه كان قرأها قبل ذلك بسنوات ووجد من المحال عليه أن يقبل أن الناس يمكن أن يؤمنوا بمثل تلك الأكاذيب الواضحة الجلية، وإنه كان يريد قراءة القرآن ولكنه لم يعثر على ترجمة لاتينية له – وذلك ، كما يبين ر. و. ساذرن ، دليل ساطع على التخلف الشديد للدراسات الإسلامية في القرن السادس عشر – وقال إنه استطاع أن يحصل على أعلى نسخة منه وعندها أدرك أن ريكولدو لم يكن كاذبا بل كان محقا فيما قاله . وتساءل عما إذا كان محمد والمسلمون يمثلون المسيخ الدجال ، ثم أجاب على التساؤل قائلا إن “الإسلام ” دين ساذج لا يقدر على أن يهوى في بالبشرية إلى ذلك المصير الرهيب ، أما العدو الحقيقي فهو البابا والكنيسة الكاثوليكية ، ومادامت أوربا تتمسك بهذا العدو الداخلي فسوف تعرض نفسها خطر الهزيمة على أيدي “المحمديين ” . وقد طرح زوينجلى وبعض المصلحين الآخرين أفكارا مماثلة ، إذ كانوا يعتبرون روما “رأس ” المسيخ الدجال و”المحمدية” جسده . ويدل هذا التطور في تفكير البروتستانت على أن نحب رين قد أضفوا على الإسلام صورة من داخل أوربا بحيث أصبح .رمزا ث ، المطلق في حياتهم الشعورية . وقد كتب نورمان دانييل دراسة عميقة عنوانها العرب وأوربا في العصور الوسطى يقول فيها إن الإسلام لم يعد حقيقة تاريخية خارجية يمكن للناقد أن يفحصها مثل سواها من الحقائق ، بل إن المصلحين قد “دسوا فكرة الإسلام باعتبارها حالة داخلية، يمكن إلصاقها بأعداء العقيدة الخالصة (مهما يكن تعريف الكاتب لها). وعلى هذا النحو كانوا يقومون في الواقع بتحويل الإسلام إلى كيان داخلي باعتباره “العدو” دون تمييز) وهو العدو الذي ظل يكمن زمنا طويلا في المخيلة الأوربية”[21].
و يضرب دانييل أمثلة من الكاثوليك والبروتستانت ، ويعقد مقارنات بين معارضيهم المسيحيين و “الإسلام” دون أن يدرك في الواقع ما تنطوي عليه تلك المقارنات. فكان المبشر الكاثوليكي، ابن القرن السابع عشر، م . ليفيبر يرى أن المسلمين بمثابة “بروتستانت محمديين”، يعتقدون أن الإيمان يبرر فعال الناس ، إذ “يرجون غفران كل خطاياهم بشرط إيمانهم بمحمد” ، ولكن كاتب أدب الرحلات البروتستانتي ابن القرن الثامن عشر، ل . راوولف كان يعتبر المسلمين “كاثوليك محمديين ” إذ إنهم “يقومون بالأعمال التى اخترعوها ، وتفانوا في الإخلاص لها ، مثل الزكاة والصلاة والصوم وافتداء الأسرى وما إلى ذلك ، ابتغاء مرضاة الله “[22]. ولم يكن المسيحيون في العصور الوسطى قادرين على النظر إلى الإسلام إلا باعتباره صورة ناقصة من صور المسيحية، كما اختلقوا الأساطير التى تبين أن محمدا تلقى تعليمه على أيدي أحد أصحاب البدع . واستمر أبناء الغرب ، فيما بعد، على ضوء الانقسامات الداخلية الجديدة في العالم المسيحي، ينظرون إلى محمد ودينه من منظور مسيحي في جوهره ، وكانوا ، فيما يبدو، لا يكترثون للحقيقة التاريخية الموضوعية، ولم يخطر على بالهم ، فيما يبدو، أن للمسلمين بواعث حماس مستقلة لا يمكن تحديدها في إطار الممارسة المسيحية.
و لكن عصر النهضة شهد محاولات جديدة من جانب بعض أبناء الغرب للتوصل إلى تفهم يتسم بالمزيد من الموضوعية للعالم الإسلامي، وكانوا في ذلك يتبعون التقاليد والطموحات التى أرساها “بيتر المبجل ” وهى التى أبقى بعض علماء القرن الخامس عشر على شعلتها موقدة، مثل جون سيجوفيا ونيكولاس كوسا . ففي عام 1453 ، بعيد الفتح التركي لإمبراطورية بيزنطة المسيحية ، الذي أتى بالإسلام إلى عتبة باب أوربا، ألمح جون سيجوفيا إلى ضرورة العثور على أسلوب جديد لمواجهة الخطر الإسلامي، قائلا إنه من المحال أن يلقى الهزيمة في ميدان القتال أو عن طريق أنشطة التبشير التقليدية . ومن ثم بدأ يعمل على وضع ترجمة جديدة للقرآن ، بالتعاون مع أحد فقهاء المسلمين من سلمانكا، كما اقترح عقد مؤتمر دولي، يجرى فيه تبادل الآراء العلمية بين المسلمين والمسيحيين . ولكن المنية وافته عام 1458 قبل أن يؤتى أي من هذين المشروعين أكله ، ومن ثم تولى صديقه نيكولاس كوسا العمل على إنجاح هذا المنهج الجديد. ففي عام 1460 كتب كتابا عنوانه “منخل القرآن ” لم يتبع فيه السبل الجدلية المألوفة بل حاول فيه إجراء دراسة أدبية وتاريخية ولغوية منهجية للنص الذي كان جون سيجوفيا يعتبره نصا جوهريا ومن ثم وضعت أسس الدراسات العربية في عصر النهضة ، وكان المنهج الموسوعي الذي لا يقف عند حدود دولة أوربية دافعا لبعض العلماء إلى وضع تقييم يتسم بالمزيد من الواقعية للعالم الإسلامي، والى نبذ الاتجاهات الصليبية الفجة . ومع ذلك لم تختلف الحال كثيرا عما كانت عليه في العصور الوسطى ، فزيادة إدراك الحقائق لم تستطع طمس صور الكراهية القديمة التى كانت تسيطر سيطرة قوية على المخيلة الغربية.
و قد برز ذلك بوضوح وجلاء في عام 1697 ، الذي شهد أولى بوادر التنوير بنشر عملين كان لهما تأثيرهما الكبير. أما الأول فكان اسمه المكتبة الشرقية، وكان المؤلف “بارتلمى ديربيلو” قد اجتهد حتى جعله أهم وأصدق مرجع للدراسات الإسلامية والشرقية في إنجلترا وأوربا حتى مطلع القرن التاسع عشر. وقد وصف بأنه دائرة المعارف الإسلامية الأولى ، وكان “ديربيلو” قد استعان بمصادر عربية وتركية وفارسية ، وبذل جهدا صادقا لإزالة الغشاوة التى أعمت أبصار أصحاب المنهج المسيحي القديم ، فقدم ، على سبيل المثال ، صورا مختلفة لأساطير خلق الكون الشائعة في الشرق ، وكان من المحتوم أن يتسم هذا المنهج بالإيجابية، وكان دليلا على وجود روح أقرب إلى الصحة قليلا. ومع ذلك ، ففي الباب الذي يتحدث فيه عن “محمد” نجد ما يبعث على الأسى، إذ يردد الأقوال المألوفة مثل:
هذا هو الدجال الشهير محمد، صاحب ومؤلف بدعة اكتسبت اسم الدين ، ونسميها “المذهب المحمدي”.
انظر باب الإسلام . وقد نسب مفسرو القران وغيرهم من فقهاء الشريعة الإسلامية أو المحمدية إلى هذا النبي الكاذب جميع الفضائل التى ينسبها الآريون ،أو البولسيون [أتباع القديس بولس] أو المتشبهون بهم ، وغيرهم من دعاة البدع ، إلى يسوع المسيح ، دان كانوا ينزعون عنه صفة القداسة [23]
أدراك “ديربيلو” للاسم الصحيح للدين لم يمنعه من مواصلة الإشارة إليه باسم “المحمدية” ، وذلك لأنه الاسم الذي نطلقه “نحن ” عليه ، وعلى نفس المنوال ، استمر العالم المسيحي في النظر إلى النبي نظرة شائهة باعتباره صورة “لنا ” وإن كانت أدنى وأحط شأنا .
وفى نفس العام نشر مستشرق إنجليزي يدعى “همفرى بريدو” كتابا مهما عنوانه “محمد: طبيعة الدجل الحقيقية” ، ويكفى العنوان وحده لإيضاح مدى استغراقه في التعصب القروسطى القديم – والواقع أنه يستشهد بأقوال ريكولدو دامونتى كروتشى باعتبارها مصدره الأساسي – وذلك رغم زعمه أنه قد توصل إلى نظرة إلى الدين تتميز بالمزيد من العقلانية والتنوير عما كان يمكن تحقيقه في كنف ظلام العصور الوسطى وخزعبلاتها . وهكذا فإن بريدو، باعتباره من أنصار العقل ، يقول إن الإسلام لا يقتصر على كونه محاكاة للمسيحية فحسب ، بل هو نموذج واضح لمستوى البلاهة الذي يمكن أن ينحط إليه أي دين ، وليست المسيحية باستثناء من ذلك ، ما لم تكن للدين أسس راسخة على صخرة العقل الصلبة . إننا نفترض أن عصر العقل قد حرر الأذهان من التعصب الديني المعوق الذي اتسمت به فترة الحملات الصليبية، ولكن بريدو يكرر جميع الأفكار غير العقلانية التى تسلطت على الأذهان في الماضي، إذ كتب يقول عن محمد:
كان الشطر الأول من حياته يتسم بالإباحية الشديدة والآثام البالغة ، إذ كان يجد متعة كبيرة في السلب والنهب و إهراق الدم ، وفقا لما جرت عليه عادات العرب الذين كان يميل معظمهم إلى سلوك هذا السبيل ، فكانوا على الدوام تقريبا أ في تناحر، إذ تتقاتل القبائل ليغنم بعضها من الآخر كل ما يستطيع أن يغنمه . . .
كانت النزعتان اللتان تملكان لبه هما الطموح والشهوة، وكان السبيل الذي سلكه لبناء الإمبراطورية دليلا ساطعا على النزعة الأولى، وكانت زوجاته الكثيرات دليلا قاطعا على النزعة الثانية. والواقع أن النزعتين تسيطران على إطار دينه برمته ، فلا يكاد فصل من فصول القرآن يخلو من ذكر قانون من قوانين الحرب و إراقة الدماء تحقيقا للنزعة الأولى، أو ينص على حرية معاشرة النساء في هذه الدنيا، أو الوعد بالاستمتاع بهن في الدار الآخرة ، تحقيقا للنزعة الأخرى[24].
ولكن القرن الثامن عشر شهد بعض الجهود الرامية إلى وضع تفهم أكثر دقة للإسلام . ففي عام 1708 أصدر سايمون أوكلى المجلد الأول من كتابه تاريخ المسلمين الذي أغضب كثيرا من القراء لأنه لم يصور الإسلام على أنه دين السيف (أي أن يسقط عليه مشاعر القراء تجاه أنفسهم ) ولكنه حاول أن ينظر إلى الجهاد في القرن السابع من وجهة نظر المسلمين . وفى عام 1734 نشر جورج سيل ترجمة رائعة للقرآن ما تزال تعتبر دقيقة رغم افتقار أسلوبها إلى البريق . وفى عام 1751 نشر فرانسو فولتير كتابا بعنوان “أخلاق الأمم وروحها” دافع فيه عن محمد باعتباره مفكرا سياسيا عميق الفكر، ومؤسس دين عقلاني حكيم ، ومشيرا إلى أن الدولة الإسلامية كانت تتمتع دائما بالتسامح الذي يزيد عما تتسم به التقاليد المسيحية . وكان المستشرق الهولندي يوهان يعقوب رايسكى (ت 1774 ) دارسا لا يجارى للغة العربية ، استطاع أن يستجف المسحة الربانية في حياة محمد ونزول الإسلام (ولكن بعض زملائه اضطهدوه بسبب هذه الجهود

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22