عرض مشاركة واحدة
قديم 04-03-2021 ~ 07:33 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: إقرأ كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية
  مشاركة رقم 4
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


(1/112)
________________________________________
1
- السُّلْطَان الْغَازِي
عُثْمَان خَان الاول بعد ان بلغت الدولة العباسية اوج التَّقَدُّم والتمدن فِي خلَافَة هرون الرشيد وَابْنه المامون الَّذِي ترجمت فِي ايامه اغلب كتب اليونان وَتَقَدَّمت الْعُلُوم تَحت وارف ظلها تقدما لم تبلغه الدوله الاسلامية قبل عصره اخذت الدولة فِي التقهقر
(1/113)
________________________________________
شَيْئا فَشَيْئًا تبعا لناموس الْحَيَاة الطبيعية القَاضِي بالهرم بعد الشبيبة سنة الله فِي خلقه وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَاسْتمرّ الانحلال ينخر عظامها حَتَّى انها سَقَطت بِسُقُوط دَار السَّلَام فِي قَبْضَة قبائل التتار فِي 20 محرم سنة 656 هجرية 1258 م وقتلهم الْخَلِيفَة المستعصم بِاللَّه اخر العباسيين بِبَغْدَاد بعد ان لَبِثت دولتهم زِيَادَة عَن خَمْسَة قُرُون دعامة التمدن الاسلامي
وَمن ثمَّ لم يكن للاسلام بعْدهَا دولة عَظِيمَة تَحْمِي بيضته وتضم اشتاته بل ضَاعَت وحدته الملكية واستقل كل حَاكم بِمَا وكل اليه امْرَهْ من العمالات الاقاليم وَاسْتمرّ الْحَال على هَذَا المنوال إِلَى ان قيض الله للاسلام تأسيس الدولة الْعلية العثمانية فَجمعت تَحت رايتها اغلب الْبِلَاد الاسلامية وَفتحت كثيرا من الاقاليم الَّتِي لم يسْبق تحليها بحلية الدّين الحنيف واعادت للاسلام قوته واعلت بَين الانام كَلمته
(1/114)
________________________________________
ومؤسس هَذِه الدولة هُوَ ارطغرل بن سُلَيْمَان شاه التركماني قَائِد احدى قبائل التّرْك النازحين من سهول اسيا الغربية إِلَى بِلَاد اسيا الصُّغْرَى وَذَلِكَ انه كَانَ رَاجعا إِلَى بِلَاد الْعَجم بعد موت ابيه غرقا عِنْد اجتيازه اُحْدُ الانهر اذ شَاهد جيشين مشتبكين فَوقف على مُرْتَفع من الارض ليمتع نظره بِهَذَا المنظر المالوف لَدَى الرحل من الْقَبَائِل الحربية وَلما انس الضعْف اُحْدُ الجيشين وَتحقّق انكساره وخذلانه ان لم يمد اليه يَد المساعدة دبت فِيهِ النخوة الحربية وَنزل هُوَ وفرسانه مُسْرِعين لنجدة اضعف الجيشين وهاجم الْجَيْش الثَّانِي بِقُوَّة وشجاعة عظيمتين حَتَّى وَقع الرعب فِي قُلُوب الَّذين كَادُوا يفوزون بالنصر لَوْلَا هَذَا المدد الفجائي واعمل فيهم السَّيْف وَالرمْح ضربا ووخزا حَتَّى هَزَمَهُمْ شَرّ هزيمَة وَكَانَ ذَلِك فِي اواخر الْقرن السَّابِع لِلْهِجْرَةِ
وَبعد تَمام النَّصْر علم ارطغرل بَان الله قد قيضه لنجدة الامير عَلَاء الدّين سُلْطَان قونية احدى الامارات السلجوقية الَّتِي تاسست عقب انحلال دولة آل سلجوق بِمَوْت السُّلْطَان ملك شاه فِي 15 شَوَّال سنة 485 18 نوفمبر سنة 1092 م فكافأه عَلَاء الدّين على مساعدته لَهُ باقطاعه عدَّة اقاليم ومدن وَصَارَ لَا يعْتَمد فِي حروبه مَعَ مجاوريه الا عَلَيْهِ وعَلى رِجَاله وَكَانَ عقب كل انتصار يقطعهُ اراضي جَدِيدَة ويمنحه اموالا جزيلة ثمَّ لقب قبيلته بمقدمة السُّلْطَان لوجودها دَائِما فِي مُقَدّمَة الجيوش وَتَمام النَّصْر على يَدَيْهِ وَفِي غُضُون ذَلِك تزوج عُثْمَان اكبر اولاد ارطغرل ببنت رجل صَالح كَانَ رَآهَا مصادفة عِنْد والدها وعلق بهَا وَلَكِن ابى والدها ان يُزَوّجهَا لَهُ فَحزن عُثْمَان لذَلِك واظهر الصَّبْر وَالْجَلد وَلم يرغب الاقتران بغَيْرهَا حَتَّى قبل ابوها بعد ان قصّ عَلَيْهِ عُثْمَان مناما رَآهُ ذَات لَيْلَة فِي بَيت هَذَا
(1/115)
________________________________________
الصَّالح وَهُوَ انه رأى الْقَمَر صعد من صدر هَذَا الشَّيْخ وَبعد ان صَار بَدْرًا نزل فِي صَدره أَي فِي صدر عُثْمَان ثمَّ خرجت من صلبه شَجَرَة نمت فِي الْحَال حَتَّى غطت الاكوان بظلها وَنظر اكبر الْجبَال تحتهَا وَخرج النّيل والدجلة والغرات والطونة من جذعها وَرَأى ورق هَذِه الشَّجَرَة كالسيوف يحولها الرّيح نَحْو مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة
فتفاءل الشَّيْخ من هَذَا الْمَنَام وزوجه ابْنَته وَمَعَ اعتقادنا ان هَذَا الْمَنَام لَا بُد ان يكون مَوْضُوعا كَمَا يضع المؤرخون مثل هَذِه الاحلام لتعليل ظُهُور وَتقدم كل دولة سَوَاء كَانَ فِي ممالك الشرق اَوْ الغرب فقد ذَكرْنَاهُ تتميما للفائدة وَقبل ان يَبْنِي بهَا كَانَ طلبَهَا امير اسكي شهر فرفض والدها طلبه فحنق على عُثْمَان لما تزَوجهَا واراد ان يفتك بِهِ فهاجمه فِي قصر اُحْدُ مجاوريه وَطلب من صَاحب الْقصر ان يُسلمهُ اليه فَأبى ثمَّ خرج عَلَيْهِ عُثْمَان وَمن مَعَه ورده على عقبه واسر كوسه ميخائيل اُحْدُ من كَانَ مَعَه من الامراء ولكثرة اعجاب هَذَا الامير بشجاعة عُثْمَان تعلق بِهِ وَصَارَ من اخصائه ثمَّ اسْلَمْ وَبقيت دريته مَشْهُورَة فِي تَارِيخ الدولة باسم عائلة ميخائيل اوغلى
وَلما توفّي ارطغرل سنة 687 هـ الْمُوَافقَة سنة 1288 م عين الْملك عَلَاء الدّين اكبر اولاده مَكَانَهُ وَهُوَ عُثْمَان مؤسس دولتنا الْعلية العثمانية وَفِي هَذِه السّنة
(1/116)
________________________________________
ولدت زَوجته مَال خاتون ولدا ذكرا وَهُوَ اورخان وَلم يلبث عُثْمَان ان تحصل على امتيازات جَدِيدَة عقب فَتحه قلعة قره حِصَار سنة 688 هجرية الْمُوَافقَة سنة 1289 ميلادية فمنحه الْملك فِي السّنة الْمَذْكُورَة لقب بك واقطعه كَافَّة الاراضي والقلاع الَّتِي فتحهَا واجاز لَهُ ضرب العملة وان يذكر اسْمه فِي خطْبَة الْجُمُعَة وَبِذَلِك صَار عُثْمَان بك ملكا بِالْفِعْلِ لَا ينقصهُ الا اللقب
وَفِي سنة 1300 م تَقْرِيبًا الْمُوَافقَة سنة 699 هـ أَي السّنة المتممة للقرن السَّابِع من التَّارِيخ الهجري اغارت جموع التتار على بِلَاد آسيا الصُّغْرَى وفيهَا كَانَت وَفَاة عَلَاء الدّين آخر السلجوقيين بقونية قيل قَتله التتر وَقيل قَتله وَلَده غياث الدّين طَمَعا فِي الْملك وَلما قتل التتار غياث الدّين ايضا انْفَتح المجال لعُثْمَان فاستأثر بِجَمِيعِ الاراضي الْمُقطعَة لَهُ ولقب نَفسه باد يشاه آل عُثْمَان وَجعل مقرّ ملكه مَدِينَة يكى شهر واخذ فِي تحصينها وتحسينها ثمَّ اخذ فِي توسيع دَائِرَة املاكه ازميد ثمَّ ازنيك وَلما لم يتَمَكَّن من فتحهَا عَاد إِلَى عاصمته واشتغل فِي تنظيم
(1/118)
________________________________________
الْبِلَاد حَتَّى إِذا امن اضطرابها وتجهز لِلْقِتَالِ ارسل إِلَى جَمِيع امراء الرّوم بِبِلَاد آسيا الصُّغْرَى يخيرهم بَين ثَلَاثَة امور الاسلام اَوْ الْجِزْيَة اَوْ الْحَرْب فَاسْلَمْ بَعضهم وانضم اليه وَقبل الْبَعْض دفع الْخراج واستعان الْبَاقُونَ على السُّلْطَان عُثْمَان بالتتار واستدعوهم لنجدتهم لَكِن لم يعبأ بهم السُّلْطَان عُثْمَان بل هيأ لمحاربتهم جَيْشًا جرارا تَحت امرة ابْنه اورخان فَسَار اليهم هَذَا الشبل وَمَعَهُ عدد لَيْسَ بِقَلِيل من امراء الرّوم وَمن ضمنهم كوسه ميخائيل صديق عُثْمَان الَّذِي اخْتَار الاسلام دينا وَبعد محاربة عنيفة شتت شَمل التتار وَعَاد مسرعا لمحاصرة مَدِينَة بورصة فحاصرها سنة 717 هـ الْمُوَافقَة سنة 1317 م وللتمكن من فتحهَا بسهولة هاجم
(1/119)
________________________________________
حصن اردنوس الْكَائِن على قمة جبل اولمب فدخله عنْوَة ثمَّ دخل مَدِينَة بورصة بعد ان فتح كَافَّة مَا حولهَا من القلاع والحصون وحاصرها نَحْو عشر سنوات من غيرما حَرْب وَلَا قتال اذ ارسل ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة اوامره لعامله على هَذِه الْمَدِينَة بالانسحاب فاخلاها ودخلها اورخان وعساكره وَلم يتَعَرَّض لاهلها بِسوء مُقَابل دفع ثَلَاثِينَ الف من عملتهم الذهبية واسلم حاكمها افرينوس واعطى لَهُ لقب بك وَصَارَ من مشاهير قواد العثمانين
(1/120)
________________________________________
2
- السلكان الْغَازِي
اورخان الاول
وعقب ذَلِك بِقَلِيل استدعي اورخان إِلَى وَالِده فَوَجَدَهُ فِي حَالَة النزع وَلم يلبث ان اسْلَمْ الرّوح إِلَى بارئ النسمات ومبدع الكائنات بعد ان اوصى للْملك بعده لاورخان ثَانِي اولاده الْمَوْلُود فِي سنة 1281 م لاتصافه بعلو الهمة والشجاعة والاقدام وَلم يوص بهَا لبكر اولاده عَلَاء الدّين لميله إِلَى الْوَرع وَالْعُزْلَة وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي 21 رَمَضَان سنة 726 هجرية 1326 م عَن سبعين سنة قضى معظمها فِي تأسيس هَذِه الدولة الفخيمة الملحوظة بِعَين الْعِنَايَة الربانية وتوسيع نطاقها وَدفن فِي مَدِينَة بورصة وَبَلغت مُدَّة حكمه 27 سنة وَمن حسن حَظّ هَذِه الدولة ان عَلَاء الدّين لم يُعَارض فِي هَذِه الْوَصِيَّة الَّتِي حرمته من ملك عَظِيم بل قبلهَا مقدما الصَّالح الْعَام على الصَّالح الْخَاص وَاكْتفى بوزارة المملكة وَهِي الْوَظِيفَة الْمُسَمَّاة الْآن بالصدارة الْعُظْمَى الَّتِي قَلّدهُ اياها اخوه اورخان فاختص عَلَاء الدّين بتدبير الامور الداخلية وتفرغ اورخان للفتوحات وَنشر الرَّايَة العثمانية على كل مَا وصلت اليه يَدَاهُ من الْبِلَاد الْمُجَاورَة
وَمن اهم اعمال عَلَاء الدّين ان امْر بِضَرْب العملة من الْفضة وَالذَّهَب وَوضع نظاما للجيوش المظفرة وَجعلهَا دائمية اذ كَانَت قبل ذَلِك لَا تجمع الا وَقت الْحَرْب وَتصرف بعده ثمَّ خشِي من تحزب كل فريق من الْجند إِلَى الْقَبِيلَة التَّابِع اليها وانفصام عرى الْوحدَة العثمانية الَّتِي كَانَ كل سَعْيهمْ فِي ايجادها فَأَشَارَ عَلَيْهِ اُحْدُ
(1/122)
________________________________________
فحول ذَلِك الْوَقْت واسْمه قره خَلِيل وَهُوَ الَّذِي صَار فِيمَا بعد وزيرا اولا باسم خير الدّين باشا بِأخذ الشبَّان من اسرى الْحَرْب وفصلهم عَن كل مَا يذكرهم بجنسهم واصلهم وتربيتهم تربية اسلامية عثمانية بِحَيْثُ لَا يعْرفُونَ ابا الا السُّلْطَان وَلَا حِرْفَة الا الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَلعدم وجود اقارب لَهُم بَين الاهالي لَا يخْشَى من تحزبهم مَعَهم فاعجب السُّلْطَان اورخان هَذَا الرَّأْي وامر بانفاذه وَلما صَار عِنْده مِنْهُم عدد لَيْسَ بِقَلِيل سَار بهم إِلَى الْحَاج بكطاش شيخ طَريقَة البكطاشية باماسية ليدعو لَهُم بِخَير فَدَعَا لَهُم هَذَا الشَّيْخ بالنصر على الاعداء وَقَالَ فَلْيَكُن اسمهم يني تشارى ويرسم بالتركية هَكَذَا يكيجارى أَي الْجَيْش الْجَدِيد ثمَّ حرف فِي الْعَرَبيَّة فَصَارَ انكشاري
ثمَّ ارْتقى هَذَا الْجَيْش فِي النظام وَزَاد عدده حَتَّى صَار لَا يعول الا عَلَيْهِ فِي الحروب وَكَانَ هُوَ من اكبر واهم عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية كَمَا انهم خَرجُوا فِيمَا بعد عَن حدودهم وتعدوا واستبدوا بِمَا جعلهم سَببا فِي تَأَخّر الدولة وتقهقرها وَكَانَ ضباطهم يلقبون بالقاب غَرِيبَة فِي بَابهَا وَلكنهَا تدل على ان اولئك الْجنُود كَانُوا عائشين من انعامات السُّلْطَان وانهم كاولاده فَمن القابهم شوربجي باشي وعشي باشي وسْقا اغاشي واوده باشي إِلَى غير ذَلِك وَهَذِه الالقاب كَانَت عِنْدهم بِمَثَابَة العنوانات الْخَاصَّة بالرتب العسكرية ثمَّ انهم كَانُوا يعظمون ويجلون الْقُدُور الَّتِي كَانَت تقدم اليهم فِيهَا الماكولات فَكَانَ الانكشارية لَا يفارقون تِلْكَ الْقُدُور حَتَّى وَقت الْحَرْب وَكَانُوا يدافعون عَنْهَا دفاع الْجنُود عَن اعلامهم حَتَّى
(1/123)
________________________________________
كَانَ يعْتَبر ضياعها فِي الْقِتَال اكبر اهانة تلْحق باصحابها الْعَار والفضيحة وَكَانُوا إِذا ارادوا اظهار عدم الرِّضَا من بعض اوامر رُؤَسَائِهِمْ يقلبون الْقُدُور امام مَنَازِلهمْ واستمرت هَذِه الفئة عونا للدولة على اعدائها حَتَّى تَغَيَّرت احوالها وازداد طغيانها وانقلبت فوائدها مضرات فابطلها السُّلْطَان مَحْمُود الثَّانِي بعد ان قتل اغلبهم فِي يَوْم 16 يونيو سنة 1826 10 ذِي الْقعدَة سنة 1241 م لمقاومتهم اجراءات السلاطين وعصيانهم عَلَيْهِم وتعديهم على حُقُوقهم المقدسة
اما اورخان فاول عمل اجراه هُوَ نقل مقرّ الْحُكُومَة إِلَى مَدِينَة بورصة لحسن موقعها وارسل قواد جيوشه المظفرة لفتح مَا بَقِي من بِلَاد آسيا الصُّغْرَى ففتحوا اهم مدنها وَفتح السُّلْطَان بِنَفسِهِ مَدِينَة ازميد وَلم يبْق من مدن الرّوم المهمة ببر آسيا الا مَدِينَة ازنيك فحاصرها وضيق عَلَيْهَا الْحصار حَتَّى دَخلهَا بعد سنتَيْن فَسقط بسقوطها نُفُوذ الرّوم فِي بِلَاد آسيا وَمِمَّا جذب اليه قُلُوب الاهالي ان عاملهم باللين والرفق وَلم يعارضهم فِي اقامة شَعَائِر دينهم واذن لمن يُرِيد المهاجرة باخذ كَافَّة منقولاته وَبيع عقاراته مَعَ تَمام الْحُرِّيَّة فِي اجراءآته واسس بِهَذِهِ الْمَدِينَة عدَّة مدارس وتكايا للْفُقَرَاء والمعوزين وَجعل اكبر اولاده الْمَدْعُو سُلَيْمَان باشا حَاكما عَلَيْهَا وَلم يلبث فِي هَذَا المنصب الا قَلِيلا حَتَّى عين صَدرا اعظم بعد وَفَاة عَمه عَلَاء الدّين واشتهر سُلَيْمَان باشا بِفَتْح عدَّة مدن
وَفِي سنة 736 هـ سنة 1336 م ضم السُّلْطَان اورخان إِلَى ممالكه امارة قره سي لوُقُوع الْخلف بَين وَلَدي اميرها بعد مَوته وَلَوْلَا عدم اتِّفَاق الاخوين لما تمكن اورخان من ضمهَا الا بعد معاناة الْحَرْب والكفاح وَفِي ذَلِك موعظة لمن القى السّمع وَهُوَ شَهِيد وَبعد ذَلِك اشْتغل السُّلْطَان اورخان بترتيب داخليته وَسن النظامات اللَّازِمَة لاستتباب الامن بالداخل وانتشار الْعمرَان فِي الْبِلَاد وَفتح الْمدَارِس وَبِنَاء الْجَوَامِع والتكايا فَمن آثاره انه اسس مدرسة عالية فِي مَدِينَة بورصة واخرى فِي مَدِينَة ازنيك واجزل العطايا للشعراء وَالْعُلَمَاء فاضاف بذلك خيرات السّلم إِلَى فتوحات الْحَرْب
(1/124)
________________________________________
وبينما هُوَ راتع فِي بحبوحة الامن اذ ارسل اليه ملك الرّوم بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ واسْمه جَان باليولوج فِي غُضُون سنة 1355 وَفْدًا يطْلب مِنْهُ ان يمده بالمساعدة لصد اغارات دوشان ملك الصرب الَّذِي بعد ان جمع تَحت سُلْطَانه كَافَّة قبائل الصقالبة الغربية وَفتح بمساعدتهم بِلَاد البلغار زحف على مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَعرض ملك الرّوم على السُّلْطَان اورخان ان يُزَوجهُ ابْنَته فِي مُقَابلَة هَذِه المساعدة
(1/125)
________________________________________
فاجاب السُّلْطَان طلبه وارسل اليه عددا عَظِيما من جُنُوده لنجدته لَكِن فاجأ الْمَوْت الْملك دوشان قبل وُصُوله بجيوشه إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَبِذَلِك تخلص الرّوم من شَره وَعَاد العثمانيون إِلَى بِلَادهمْ
وَلما نزل العثمانيون بساحل اوروبا تحققوا ضعف مملكة الرّوم وَمَا آلت اليه من الانحلال فَأخذ السُّلْطَان اورخان فِي تجهيز الْكَتَائِب سرا لاجتياز الْبَحْر واحتلال بعض نقط على الشاطئ الاوروبي تكون مركزا لاعمال العثمانيين فِي اوروبا حَتَّى إِذا سنحت الفرص وساعدت الْمَقَادِير حاصروا مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة برا وبحرا ودخلوها فاتحين
وَفِي سنة 1357 اجتاز سُلَيْمَان باشا اكبر اولاد السُّلْطَان اورخان وَولي عَهده وَصدر مَمْلَكَته الاعظم بوغاز الدردنيل وَمَعَهُ اربعون من اشجع جُنُوده تَحت استار الظلام حَتَّى إِذا وصلوا إِلَى الضفة الاخرى قبضوا على مَا كَانَ بهَا من القوارب وعادوا بهَا إِلَى الضفة المعسكرة عَلَيْهَا جيوشهم فانتقل الْجَيْش إِلَى ضفة اوروبا وَكَانَ عدده ثَلَاثِينَ الْفَا واحتل ميناء تزنب وساعدتهم الْمَقَادِير بِسُقُوط جُزْء من اسوار جاليبولي عقب زلزال شَدِيد فَدَخلَهَا العثمانيون بِدُونِ كَبِير عناء
(1/126)
________________________________________
واحتلوا عدَّة مَدَائِن اخرى مِنْهَا ابسالا ورودستو وَغَيرهمَا
وَفِي سنة 1359 توفّي سُلَيْمَان باشا ولي عهد الدولة بِسَبَب سُقُوطه من على ظهر جَوَاده وَصَارَت ولَايَة الْعَهْد بعده إِلَى اخيه مُرَاد وَتَوَلَّى منصب الصدارة بعده الْوَزير خير الدّين باشا الَّذِي سبقت الاشارة اليه
(1/127)
________________________________________
3
- السُّلْطَان الْغَازِي
مُرَاد خَان الاول
وواقعة قوص اوه
وَفِي سنة 761 هـ سنة 1360 انْتقل إِلَى الدَّار الْآخِرَة السُّلْطَان اورخان الْغَازِي وسنه 81 سنة وَمُدَّة حكمه 35 سنة بعد ان ايد الدولة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة وترتيباته المفيدة وَدفن فِي مَدِينَة بورصة حَيْثُ دفن مُلُوك آل عُثْمَان السِّتَّة الاول وَتَوَلَّى بعده ابْنه السُّلْطَان مُرَاد الاول الْمَوْلُود سنة 726 هـ = 1326 م وَكَانَت فَاتِحَة اعماله احتلال مَدِينَة انقرة مقرّ سلطنة القرمان وَذَلِكَ ان سُلْطَان هَذَا الاقليم واسْمه عَلَاء الدّين اراد انتهاز فرْصَة انْتِقَال الْملك من السُّلْطَان اورخان إِلَى ابْنه السُّلْطَان مُرَاد لاثارة حمية الامراء المستقلين وتحريضهم على قتال العثمانيين ليدكوا صروح مجدهم ويقوضوا اركان ملكهم الْآخِذ فِي الامتداد يَوْمًا فيوما فَكَانَت عَاقِبَة دسائسه ان فقد اهم مدائنه وَبعد ضياعها ابرم الصُّلْح مَعَ السُّلْطَان مُرَاد ليحفظ مَا بَقِي لَهُ من الاملاك وزوجه ابْنَته لتمكين عرى الِاتِّحَاد بَينهمَا اما فِي اوروبا فَفتح البكلر بك لالة شاهين مَدِينَة ادرنه فِي سنة 1361 م سلمهَا قائدها الرُّومِي بعد قتال قَلِيل لما دَاخله من الْيَأْس من استخلاصها ولاهمية موقعها الجغرافي ووجودها على ملتقى ثَلَاثَة انهر نقل اليها السُّلْطَان تَحت المملكة
(1/129)
________________________________________
العثمانية واستمرت عَاصِمَة لَهَا إِلَى ان فتحت مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة سنة 1453 م وَفتح ايضا مَدِينَة فيلبه عَاصِمَة الرومللي الشرقية وَفتح القاضد افرينوس بك مدينتي وردار وكلجمينا باسم سُلْطَان العثمانيين وَبِذَلِك صَارَت مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة محاطة من جِهَة اوروبا باملاك آل عُثْمَان وفصلت عَن بَاقِي الامارات المسيحية الصَّغِيرَة الَّتِي كَانَت شبه جَزِيرَة البلقان مجزأَة بَينهَا وَصَارَت الدولة الْعلية متاخمة لامارات الصرب والبلغار والبانيا المستقلة
فاضطرب لذَلِك الْمُلُوك المسيحيون المجاورون للدولة الْعلية وطلبوا من البابا اوربانوس الْخَامِس ان يتوسط لَدَى مُلُوك اوروبا الغربيين ليساعدوهم على محاربة الْمُسلمين واخراجهم من اوروبا خوفًا من امتداد فتوحاتهم إِلَى مَا وَرَاء جبال البلقان اذ لَو اجتازوها بِدُونِ مُعَارضَة ومقاومة فِي مضايقها لم يقو اُحْدُ بعد ذَلِك على ايقاف تيار فتوحاتهم ويخشى بعْدهَا على جَمِيع ممالك اوروبا من العثمانيين فلبى البابا استغاثتهم وَكتب لجَمِيع الْمُلُوك بالتأهب لمحاربة الْمُسلمين وحرضهم على محاربتهم محاربة دينية حفظا للدّين المسيحي من الفتوحات الاسلامية
لَكِن لم ينْتَظر اوروك الْخَامِس الَّذِي عين ملكا على الصرب بعد دوشان الْقوي وُصُول المدد اليه من اوروبا بل اسْتَعَانَ بامراء بوسنة والفلاخ وَبِعَدَد
(1/130)
________________________________________
عَظِيم من فرسَان المجر وَسَار بهم لمهجمة مَدِينَة ادرنة عَاصِمَة الممالك العثمانية معللين النَّفس بالانتصار على العثمانيين ومؤملين النَّصْر عَلَيْهِم لاشتغال الْملك مُرَاد بمحاصرة مَدِينَة بيجا بِالْقربِ من بورصة بآسيا الصُّغْرَى فَلَمَّا وصل خبر تقدمهم إِلَى آذان العثمانيين قابلوهم على شاطيء نهر ماريتزا وفاجأوهم فِي لَيْلَة مظْلمَة بِقُوَّة عَظِيمَة القت الرعب فِي قُلُوبهم واوقعتهم فِي حيص بيص وَلم يَلْبَثُوا الا قَلِيلا حَتَّى ولوا الادبار تاركين الثرى مخضبا بدمائهم وَكَانَ ذَلِك فِي سنة 866 هـ سنة 1363 م اما السُّلْطَان مُرَاد فَكَانَ فِي هَذِه الاثناء مشتغلا بِالْقِتَالِ فِي بِلَاد آسيا الصُّغْرَى حَيْثُ فتح عدَّة مدن ثمَّ عَاد إِلَى مقرّ سلطنته لتنظيم مَا فَتحه من الاقاليم والبلدان كَمَا هُوَ شَأْن الفاتح الْحَكِيم الَّذِي لَا يَكْتَفِي بِفَتْح الْبِلَاد وَضرب الذلة والمسكنة على سكانها بل كَانَ ينسج على منوال ابيه وجده أَي يستريح بضع سِنِين من عناء الْفَتْح ليرتب جيوشه ويكمل من نقص مِنْهَا مستشهدا فِي ساحة النَّصْر وَلما عظم شَأْن الدولة خشيها مجاوروها خُصُوصا الضُّعَفَاء مِنْهُم فَأرْسلت جمهورية راجوزه فِي سنة 1365 إِلَى السُّلْطَان مُرَاد رسلًا امضوا مَعَه
(1/131)
________________________________________
معاهدة ودية وتجارية تعهدوا فِيهَا بِدفع جِزْيَة سنوية قدرهَا 500 دوكا ذهب وَهَذِه اول معاهدة امضيت بَين العثمانيين والدول المسيحية وَفِي سنة 1379 م اتَّحد لازارجر بلينانوفتش الَّذِي تربع على تخت مملكة الصرب بعد قتل اوروك مَعَ سيسمان امير البلغار على مقاتلة العثمانين ومحاربتهم لكنهما بعد عدَّة مناوشات خَفِيفَة تحققا فِي خلالها عجزهما عَن مكافحة العساكر الاسلامية ابرما الصُّلْح مَعَ السُّلْطَان على ان يتَزَوَّج السُّلْطَان بنت امير البلغار وعَلى ان يدْفع لَهُ الاميران خراجا سنويا معينا
وَلما توفّي البكلر بك لالة شاهين عين مَحَله ديمورطاش باشا وينسب إِلَى هَذَا الْوَزير تنظيم فرق الخيالة العثمانيين الْمُسَمَّاة سيباه على نظام جَدِيد وَاخْتَارَ ان تكون اعلامهم باللون الاحمر الَّذِي لَا يزَال شعار الدولة العثمانية حَتَّى الْآن واقطع كل نفر مِنْهُم جُزْءا من الارض يزرعه اصحابه الاصليون مسيحيين كَانُوا اَوْ مُسلمين فِي مُقَابلَة دفع جعل معِين لصَاحب الاقطاع وَذَلِكَ بِشَرْط ان يسكن الجندي فِي ارضه وَقت السّلم ويستعد للحرب عِنْد الِاقْتِضَاء على نَفَقَته وان يقدم ايضا جنديا آخر مَعَه وَكَانَ كل اقطاع لم يتَجَاوَز ايراده اسنوي عشْرين الف غرش يُسمى تيمار وَمَا زَاد ايراده على ذَلِك يُسمى زعامت وَكَانَت هَذِه الاقطاعات لَا يَرِثهَا الا الذُّكُور من الاعقاب وَإِذا انقرضت الذُّرِّيَّة الذُّكُور ترجع إِلَى الْحُكُومَة وَهِي تقطعها إِلَى جندي آخر بِنَفس هَذِه الشُّرُوط
ولاجل ان يكون للسُّلْطَان مُرَاد حلفاء بَين من بَقِي مُسْتقِلّا من امراء آسيا
(1/132)
________________________________________
الصغر زوج وَلَده بايزيد الملقب بييلدرم أَي الْبَرْق بنت امير كرميان وَهُوَ قدم للسُّلْطَان مَدِينَة كوتاهيه الشهيرة بِصفة مهر لابنته كَمَا هِيَ عَادَة الافرنج الْآن وَفِي ابْتِدَاء سنة 1381 م ابتدأت الفتوحات ثَانِيًا واخذت سَيرهَا الاول فألزم السُّلْطَان امير اقليم الحميد بالتنازل لَهُ عَن بِلَاده وَحَارب ديمورطاش باشا الصرب والبلغار لتأخيرهما فِي دفع الْخراج الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَفتح مَدَائِن موناستر وبرلبه واستيب وَوَقعت مَدِينَة صوفيا فِي قَبْضَة العثمانيين بعد محاصرة استمرت ثَلَاث سنوات من سنة 1381 م إِلَى سنة 1383 م وعقب ذَلِك فتح الصَّدْر الاعظم خير الدّين باشا مَدِينَة سلانيك الشهيرة وَفِي هَذِه الاثناء تمرد صاووجي اُحْدُ اولاد السُّلْطَان على وَالِده بالاتحاد مَعَ اندرونيكوس ابْن امبراطور الرّوم حنا باليولوج الَّذِي كَانَ وَالِده حرمه من الْملك بعده واوصى بِهِ إِلَى ابْنه الاصغر امانويل وتحزب مَعَهُمَا بعض من اضلهم الطمع والغرور غير ناظرين إِلَى ان هَذَا الشقاق الداخلي لَا يكون وَرَاءه الا ضعف الدولة وَتمكن اعدائها من الِاسْتِظْهَار عَلَيْهَا لَكِن لم يدع السُّلْطَان الشَّفَقَة
(1/133)
________________________________________
الوالدية تتغلب عَلَيْهِ بل ارسل لمحاربة وَلَده المتمرد من قهره هُوَ ومحاربيه وَقَتله وَجَمِيع من حازبه من اشراف الرّوم وَطلب من ملك الرّوم قتل ابْنه ففقأ عَيْنَيْهِ ونفاه حَتَّى مَاتَ وَلما مَاتَ الْقَائِد خير الدّين باشا اشهر قواد الدولة ظن متاخموها انه لم يبْق لَدَيْهَا من القواد من يرد كيدهم فِي نحرهم فاتحد عَلَاء الدّين امير القرمان الَّذِي سبق ذكره مَعَ بعض الامراء المستقلين واستعدوا لِلْقِتَالِ وابتدؤوا المناوشات لَكِن لم يمهلهم السُّلْطَان مُرَاد بل ارسل اليهم ديمورطاش باشا فحاربهم وقهرهم فِي سهل قونيه واخذ عَلَاء الدّين اسيرا وَلَوْلَا توَسط ابْنَته الَّتِي كَانَ تزَوجهَا السُّلْطَان مُرَاد عقب الْمُحَاربَة الاولى لجرده من املاكه وَلَكِن مُرَاعَاة لزوجته لم ياخذ مِنْهُ شَيْئا هَذِه الدفعة بل اقره فِي املاكه بِشَرْط دفع الْجِزْيَة وَكَانَ ذَلِك سنة 1386 م اما فِي اوروبا فَاتخذ الصرب وجود اعظم قواد السلطنة وجيوشها بالاناضول فرْصَة لمحاربة العساكر العثمانية ففاز الصرب اولا فِي سنة 1387 م وَكَانَ سيسمان قرال أَي امير البلغار يتأهب للانضمام إِلَى لازار ملك الصرب اذ فاجأ الْوَزير عَليّ باشا ديوش البلغار واحتل ترنوه وشومله والجأ سيسمان إِلَى الْفِرَار والاحتماء فِي مَدِينَة
(1/134)
________________________________________
نيكوبلي سنة 1388 وَبعد ان جمع شَمل مَا بَقِي من جيوشه دَاخل هَذِه الْمَدِينَة اراد محاربة العثمانيين ثَانِيَة فَخرج من نيكوبلي وهاجم الجيوش الاسلامية مهاجمة يائس فَانْهَزَمَ هزيمَة لم يقم لَهُ بعْدهَا قَائِمَة وَوَقع اسيرا فضم السُّلْطَان مُرَاد نصف بِلَاده اليه وَلم يَأْمر بقتْله بل منحه نعْمَة الْحَيَاة ورتب لَهُ مَا يقوم بمعاشه مراعيا فِي ذَلِك مقَامه السَّابِق وعينه حَاكما شبه مُسْتَقل على النّصْف الْبَاقِي 1389 م وَلما علم لازار ملك الصرب بانخذال رَفِيقه قرال البلغار مَال بجيوشه قَلِيلا جِهَة الغرب للانضمام إِلَى امراء البانيا الارنؤد فَلم يُمكنهُ السُّلْطَان مُرَاد من ذَلِك بل جد السّير فِي طلبه حَتَّى لحقه فِي سهل قوص اوه سنة 1389 م وانتشب الْقِتَال بَين الجيشين بِحَالَة يشيب من هولها الْولدَان دَافع فِي خلاله الصربيون دفاع الابطال وَبقيت الْحَرْب بَينهمَا سجالا مُدَّة من الزَّمن تناثرت فِيهَا الرؤوس وزهقت النُّفُوس واخيرا فر صهر الْملك لازار الْمَدْعُو فوك برانكوفتش وَمَعَهُ عشرَة آلَاف فَارس والتحق بِجَيْش الْمُسلمين فدارت الدائرة على الصربيين وجرح لازار وَوَقع اسيرا فِي ايدي العثمانيين فَقَتَلُوهُ وبهذه الْوَاقِعَة المهمة الَّتِي بَقِي دكرها شهيرا فِي اوروبا باسرها زَالَ اسْتِقْلَال الصرب كَمَا فقدت البلغار والرومللي والاناضول استقلالها من قبل وكما ستفقد اليونان وَغَيرهَا الِاسْتِقْلَال فِيمَا بعد وَبعد تَمام النَّصْر وَالْغَلَبَة للعثمانيين كَانَ السُّلْطَان مُرَاد يمر من بَين الْقَتْلَى اذ قَامَ من بَينهم جندي صربي اسْمه ميلوك كوبلوفتش وَطعن السُّلْطَان بخنجر طعنة كَانَت هِيَ القاضية عَلَيْهِ بعد قَلِيل فَسقط الْقَاتِل قَتِيلا تَحت سيوف الانكشارية لَكِن لم يفدهم قَتله شَيْئا اذ اسْلَمْ السُّلْطَان الرّوح بعد ذَلِك بِقَلِيل بعد ان ضم كثيرا من الْبِلَاد إِلَى مَا تَركه
(1/135)
________________________________________
لَهُ وَالِده السُّلْطَان اورخان مِمَّا مر بَيَانه وَكَانَت وَفَاته فِي 15 شعْبَان سنة 791 هـ 8 اكتوبر سنة 1388 م عَن خمس وَسِتِّينَ سنة وَبَلغت مُدَّة حكمه ثَلَاثِينَ سنة ونقلت جثته إِلَى مَدِينَة بورصة
(1/136)
________________________________________
4
- السُّلْطَان الْغَازِي
بايزيد خَان الاول
وَتَوَلَّى بعده السُّلْطَان بايزيد خَان الاول بكر اولاده وَكَانَت وِلَادَته سنة 761 هجرية سنة 1360 م اتّفق اركان الدولة على تَوليته وَكَانَ لَهُ اخ اصغر مِنْهُ بِقَلِيل يدعى يَعْقُوب متصفا بالشجاعة والاقدام وعلو الهمة فخيف على المملكة مِنْهُ من ان يَدعِي الْملك ويرتكن على ان الْملك انْتقل إِلَى السُّلْطَان اورخان بعد وَفَاة ابيه السُّلْطَان عُثْمَان وَلم يتَوَلَّى بعده ابْنه الْبكر عَلَاء الدّين وَلذَلِك قتل بِاتِّفَاق امراء الدولة وقواد جيوشها وَادّعى مورخو الافرنج ان قَتله كَانَ بِنَاء على فَتْوَى شَرْعِيَّة افتى بهَا عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان منعا لحُصُول الْفِتْنَة بِنَاء على قَوْله تَعَالَى {والفتنة أَشد من الْقَتْل}
وابتدأ السُّلْطَان بايزيد الاول اعماله بَان ولى الامير اسطفن بن لازار ملك الصرب حاكماغ عَلَيْهَا وَتزَوج اخته اوليفيرا واجازه بَان يحكم بِلَاده على حسب قوانينهم بِشَرْط دفع جِزْيَة مُعينَة وَتَقْدِيم عدد معِين من الْجنُود ينضمون إِلَى الجيوش الشاهانية وَقت الْحَرْب وَفعل ذَلِك وَلم يضم بِلَاد الصرب إِلَى املاكه ويجعلها ولَايَة كباقي الولايات ليسكن بَال الصربيين حَتَّى لَا يَكُونُوا شغلا شاغلا لَهُ نظرا لشهامتهم وحبهم الِاسْتِقْلَال وَلما سَاد الامن فِي اوروبا قصد بِلَاد آسيا وَفتح مَدِينَة آلاشهر الْمَعْرُوفَة عِنْد الافرنج باسم فيلادلفيا سنة 1391 م وَهِي آخر مَدِينَة بقيت للروم فِي آسيا وهابه امير آيدين فَترك لَهُ املاكه وعاش مطمئن
(1/137)
________________________________________
الخاطر فِي احدى المدن الْخَارِجَة عَن النفود العثماني وَكَذَلِكَ ترك اميرا منتشا وصاروخان ولايتيهما واحتميا عِنْد امير قسطموني
وتنازل الامير عَلَاء الدّين حَاكم بِلَاد القرمان للسُّلْطَان عَن جُزْء عَظِيم من املاكه ليؤمنه على الْبَاقِي
وَبعد هَذِه الفتوحات الَّتِي تمّ اغلبها بِدُونِ حَرْب عَاد السُّلْطَان إِلَى اوروبا وَحَارب امانويل باليولوج ملك الرّوم وحاصره فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَبعد ان ضيق عَلَيْهَا الْحصار ترك حولهَا جَيْشًا جرارا وسافر لغزو بِلَاد الفلاخ فقهر اميرها الْمَدْعُو دوك مانيس واكرهه على التوقيع على معاهدة يعْتَرف فِيهَا بسيادة الدولة الْعلية العثمانية على بِلَاده وبتعهد لَهَا بِدفع جِزْيَة سنوية مَعَ بَقَاء بِلَاده لَهُ يحكمها بِمُقْتَضى عوائد وقوانين اهلها وَتمّ ذَلِك فِي سنة 1393 م
وَفِي اثناء اشْتِغَال السُّلْطَان بمحاربة الفلاخ اراد عَلَاء الدّين امير القرمان ان يسْتَردّ مَا تنازل عَنهُ للدولة الْعلية فَجهز جَيش عَظِيما واستعان بِبَعْض مجاوريه وَسَار بخيله وَرجله قَاصِدا مهاجمة مَدِينَة انقره بعد ان فَازَ على ديمورطاش باشا فِي احدى الوقائع واخذه اسيرا فَلَمَّا بلغ خَبره إِلَى مسامع السُّلْطَان قَامَ بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد الاناضول وجد فِي طلب عَلَاء الدّين حَتَّى تقَابل الجيشان فِي مَوضِع يُقَال لَهُ آق جاي فَهَزَمَهُ السُّلْطَان بايزيد واسره هُوَ وولديه مُحَمَّد وَعلي وَضم مَا بَقِي من املاكه اليه وَبِذَلِك انمحت سلطنة القرمان وَصَارَت ولَايَة عثمانية ثمَّ فتحت امارات سيواس وتوقات وَكَانَ آخر امرائها يدعى الْغَازِي برهَان الدّين
وبذا لم يبْق من الامارات الَّتِي قَامَت على اطلال دولة آل سلجوق الاامارة قسطموني خَارِجَة عَن املاك الدولة العثمانية وَكَانَ اميرها يُسمى بايزيد ايضا واحتمى ببلاده كثير من اولاد الامراء الَّذين فتحت بِلَادهمْ فَكَانَ ذَلِك سَبَب غَزْو
(1/139)
________________________________________
بِلَاده وَذَلِكَ ان السُّلْطَان ارسل اليه من يطْلب مِنْهُ تَسْلِيم اولاد صَاحب آيدين وصاروخان فَامْتنعَ فَسَار اليه السُّلْطَان بايزيد بِنَفسِهِ واغار على بِلَاده وَفتح مَدَائِن ساسون وجانك وعثمانجق وَبِذَلِك انقرضت جَمِيع الامارات الصَّغِيرَة الْقَائِمَة بِبِلَاد الاناضول وَصَارَ الْعلم العثماني يخْفق منصورا فَوق صروحها اما بايزيد صَاحب قسطموني فلجأ إِلَى تيمورلنك سُلْطَان الموغول
وَمَعَ اسْتِمْرَار الْحصار حول الْقُسْطَنْطِينِيَّة ضم السُّلْطَان بِلَاد البلغار إِلَى الاملاك العثمانية فَصَارَت ولَايَة عثمانية كباقي الولايات بعد ان قتل اميرها سيسمان واسلم ابْنه وَعين حَاكما لسمسون سنة 1394 م
وَاقعَة نيكوبلي فَلَمَّا علم سجسمون ملك المجر خبر مَا حل بِبِلَاد البلغار خشِي عَليّ مَمْلَكَته اذ صَار متاخما فِي عدَّة نقط للدولة الْعلية فاستنجد باوروبا وساعده البابا واعلن
(1/140)
________________________________________
143 - الْحَرْب الدينيه بَين اقوام اوروبا الغربية فاجاب الدعْوَة دوك بورغونيا وارسل ابْنه الكونت دي نيفر وَمَعَهُ سِتَّة الاف محَارب اغلبهم من اشراف فرنسا وَفِيهِمْ كثير من اقارب ملك فرنسا نَفسه وانضم اليه حِين مسيره إِلَى بِلَاد المجر امراء بافاريا واستيريا وشواليه القديس حنا الاورشليمي وَكثير
(1/141)
________________________________________
من الالمانيين ثمَّ اجتاز هَذَا الْجَيْش نهر الدانوب وعسكر حول مَدِينَة نيكوبلي لمحاصرتها فَسَار اليهم السُّلْطَان بايزيد وَمَعَهُ مِائَتَا الف مقَاتل بهم كثير من اهالي الصرب تَحت قيادة اميرهم اسطفن بن لازار وَغَيرهم من الامم المسيحية الخاضعة لسلطان العثمانيين وَقَاتلهمْ قتالا عنيفا فِي يَوْم 23 ذِي الْقعدَة سنة 798 27 سبتمبر سنة 1396 كَانَت نتيجتها انتصار العثمانيين على الجيوش المتألبة عَلَيْهِم واسر كثير من اشراف فرانسا مِنْهُم الكونت دي نيفر نَفسه وَقتل اغلبهم واطلق سراح الْبَاقِي والكونت دي نيفر بعد دفع فدَاء اتّفق على مِقْدَاره وَيُقَال ان السُّلْطَان بايزيد لما اطلق سراح الكونت دي نيفر وَكَانَ قد الزم بالقسم على ان لَا يعود لمحاربته قَالَ لَهُ اني اجيز لَك ان لَا تحفظ هَذَا الْيَمين فانت فِي حل من الرُّجُوع لمحاربتي اذ لَا شَيْء احب الي من محاربة جَمِيع مسيحي اوروبا والانتصار عَلَيْهِم
هَذَا وَقد شدد الْحصار بعد ذَلِك على مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَلَوْلَا اغارة الموغول على بِلَاد آسيا الصُّغْرَى لتمكن من فتحهَا لَكِن الامور مَرْهُونَة باوقاتها فَاكْتفى بابرام الصُّلْح مَعَ ملكهَا هَذِه الْمرة بِشَرْط دفع عشرَة آلَاف ذهب سنويا من عملة وَقتهَا وان يُجِيز للْمُسلمين ان يبنوا بهَا جَامعا لاقامة شَعَائِر الدّين الحنيف وان تُقَام لَهُم محكمَة شَرْعِيَّة للنَّظَر فِي قضايا المستوطنين بهَا مِنْهُم
(1/144)
________________________________________
اغارة تيمورلنك على آسيا الصُّغْرَى
وَسبب اغارة تيمورلنك التتري الموغولي على الدولة العثمانية ان امير بَغْدَاد وَالْعراق الْمَدْعُو احْمَد جلاير التجأ إِلَى السُّلْطَان بايزيد حينما هاجمه الموغول فِي بِلَاده فارسل تيمورلنك إِلَى السُّلْطَان بِطَلَبِهِ فابى تَسْلِيمه اليه فَأَغَارَ تيمور بجيوشه الجرارة على بِلَاد آسيا الصُّغْرَى وافتتح مَدِينَة سيواس بارمينيا واخذ ابْن السُّلْطَان بايزيد الْمَدْعُو ارطغرل اسيرا وَقطع راسه وَلذَلِك جمع السُّلْطَان بايزيد جيوشه وَسَار لمحاربة تيمور الاعرج فتقابل الجيشان فِي سهل انقره واستمرت الْحَرْب من قبل شروق الشَّمْس إِلَى بعد غُرُوبهَا واظهر السُّلْطَان خلالها من الشجَاعَة مَا بهر الْعُقُول وادهش الاذهان وَلَكِن ضعف جَيْشه بفرار فرق آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان وانضمامها إِلَى جيوش تيمور لوُجُود اولاد امرائهم الاصليين فِي معسكر التتار وَلم يبْق مَعَ السُّلْطَان الا عشرَة آلَاف انكشاري وعساكر الصرب فحارب مَعَهم طول النَّهَار حَتَّى سقط اسيرا فِي ايدي الموغول هُوَ وَابْنه مُوسَى وهرب اولاده سُلَيْمَان وَمُحَمّد وَعِيسَى وَلم يُوقف لِابْنِهِ الْخَامِس مصطفى على اثر وَكَانَ ذَلِك فِي 19 ذِي الْحجَّة سنة 804 20 يوليو سنة 1402 م فعامل تيمورلنك اسيره بايزيد بِالْحُسْنَى واكرم مثواه لكنه شدد فِي المراقبة عَلَيْهِ نوعا بعد ان شرع فِي الهروب ثَلَاث مَرَّات وَضبط وَيُقَال انه سجنه فِي قفص من الْحَدِيد حَتَّى مَاتَ فِي 15 شعْبَان سنة 805 10 مارس سنة 1403 م وعمره 44 سنة وَمُدَّة حكمه 13 سنة وَهَذِه رِوَايَة نقلهَا بعض مؤرخي الافرنج بِدُونِ ترو وَذَلِكَ ان بايزيد رغب ان يسير
(1/146)
________________________________________
مَعَ جَيش تيمورلنك فِي تختروان يحملهُ حصانان ومقفلة شبابيكه بقضبان من حَدِيد وَلكَون بعض مؤرخي التّرْك اطلق على التختروان لفظ قفص ظن بعض المترجمين من الافرنج انه وَضعه فِي قفص كَمَا تُوضَع الوحوش الكاسرة وَنقل هَذِه الرِّوَايَة على علاتها كثير من الْمُتَقَدِّمين لَكِن لما تقدم علم التَّارِيخ وترجمت التواريخ التركية اصلح متأخرو المؤرخين خطأهم واجمعوا على انه لم يَضَعهُ فِي قفص مُطلقًا رَاجع الْجُزْء الثَّانِي من مؤلف همر المطبوع بباريس سنة 1835 صحيفَة 96 وَمَا بعْدهَا
وَمِمَّا يُؤَيّد حسن مُعَاملَة تيمورلنك للسُّلْطَان بايزيد انه صرح لِابْنِهِ مُوسَى بِنَقْل جثته بِكُل احتفال إِلَى مَدِينَة بورصة حَيْثُ دفن بِجَانِب السُّلْطَان مُرَاد مَعَ بَقَاء مُوسَى فِي حَالَة الاسر وَفِي حراسة امير كرميان
الفوضى بعد موت السُّلْطَان بايزيد
وَبعد موت السُّلْطَان بايزيد تجزأت الدولة إِلَى عدَّة امارات صَغِيرَة كَمَا حصل بعد سُقُوط دولة آل سلجوق لَان تيمورلنك اعاد إِلَى امراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان مَا فقدوه من الْبِلَاد
واستقل فِي هَذِه الفترة كل من البلغار والصرب والفلاخ وَلم يبْق تَابعا للراية العثمانية الا قَلِيل من الْبلدَانِ وَمِمَّا زَاد الْخطر على هَذِه الدولة الاسلامية عدم اتِّفَاق اولاد بايزيد على تنصيب احدهم بل كَانَ كل مِنْهُم يَدعِي الاحقية لنَفسِهِ فَأَقَامَ سُلَيْمَان فِي مَدِينَة ادرنه حَيْثُ ولاه الْجنُود سُلْطَانا ولاجل ان يستظهر على اخوته
(1/147)
________________________________________
عقد محالفة مَعَ ملك الرّوم ايمانويل الثَّانِي وتنازل لَهُ عَن مَدِينَة سلانيك وسواحل الْبَحْر الاسود لينجده على اخوته البَاقِينَ ولزيادة الوثوق مِنْهُ تزوج احدى قريباته
وَكَانَ مُحَمَّد بن بايزيد يحارب جنود تيمورلنك فِي جبال الاناطول واستخلص مِنْهُم مدينتي توقات واماسيا اما عِيسَى فَلَمَّا بلغه خبر وَفَاة وَالِده جمع مَا كَانَ مَعَه من الْجند بِمَدِينَة بورصه حَيْثُ كَانَ مختفيا واعلن نَفسه خَليفَة آل عُثْمَان بمساعدة الْقَائِد ديمور طاش باشا وَمِمَّا يُوجب الاسف والحزن ان استنجد كل من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة بتيمورلنك سَبَب هَذِه الْفِتَن والمفاسد فَقبل وفودهم بِكُل ارتياح وشجعهم على المثابرة والثبات فِي الْحَرْب يُرِيد بذلك اضعافهم ببعضهم حَتَّى لَا تقوم للدولة الْعلية بعدهمْ قَائِمَة
فَسَار مُحَمَّد لمحاربة اخيه عِيسَى وهزمه فِي عدَّة مواقع وَقَتله فِي الاخيرة مِنْهَا وَلم يبْق لَهُ بعد ذَلِك مُنَازع من اخوته فِي آسيا الصُّغْرَى واستخلص اخاه مُوسَى بعد ذَلِك من امير كرميان وَسلمهُ قيادة جَيش جرار ارسله بِهِ إِلَى اوروبا لمحاربة اخيه سُلَيْمَان فَلم يقو عَلَيْهِ بل انهزم امامه وَعَاد مقهورا إِلَى آسيا ثمَّ جمع جَيْشًا آخر وَعَاد بِهِ إِلَى اوروبا وَحَارب اخاه سُلَيْمَان وَقَتله خَارج اسوار مَدِينَة ادرنة فِي سنة 1410 وَبعدهَا اغار على بِلَاد الصرب وعاقب اهلها على خُرُوجهمْ عَن الطَّاعَة وَقَاتل سجسمون ملك المجر الَّذِي تصدى لَهُ لرده عَن بِلَاد الصرب لَكِن دَاخل الطمع الامير مُوسَى فعصى اخاه مُحَمَّد الَّذِي امده بالجنود لمحاربة اخيهما سُلَيْمَان واراد الِاسْتِقْلَال بِبِلَاد الدولة باوروبا وحاصر الْقُسْطَنْطِينِيَّة ليفتحها لنَفسِهِ فاستنجد ملكهَا بالامير مُحَمَّد فاتى اليه مسرعا لمحماربته والزمه بعد محاربة شَدِيدَة بِرَفْع الْحصار عَنْهَا ثمَّ حَالف الامير مُحَمَّد ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة وامير الصرب وبثوا الدسائس فِي جَيش مُوسَى حَتَّى خانه اغلب قواده وَوَقع اخيرا بَين يَدي اخيه مُحَمَّد فامر بقتْله سنة 816 هجرية سنة 1413 ميلادية
(1/148)
________________________________________
5
- انْفِرَاد السُّلْطَان
مُحَمَّد جلبي الْغَازِي بِالْملكِ
وَبِذَلِك انْفَرد مُحَمَّد الْمَوْلُود سنة 781 هـ 1379 م بِمَا بَقِي من بِلَاد آل عُثْمَان واشتهر فِي التَّارِيخ باسم السُّلْطَان مُحَمَّد جلبي الْغَازِي وَيعْتَبر بعض المؤرخين السُّلْطَان مُحَمَّد الاول خَامِس سلاطين آل عُثْمَان وَلم يعتبروا اخوته لكَوْنهم لم يَلْبَثُوا فِي الْملك مُدَّة طَوِيلَة وَذَلِكَ لعدم الْخَلْط فِي تعداد مُلُوك هَذِه الدولة وَلم يراع الْبَعْض الآخر هَذَا التَّرْتِيب بل اعتبرهم ملوكا وَلذَلِك وجد اخْتِلَاف بَين كتب المؤرخين فِي عدد سلاطين الدولة العثمانية لَكِن الْمُتَّفق عَلَيْهِ هُوَ عدم اعْتِبَار من نَازع السُّلْطَان مُحَمَّد جلبي فِي الْملك من اخوته وعده هُوَ خَامِس سلاطين الدولة الْعلية
هَذَا وَقد كَانَت مُدَّة حكم السُّلْطَان مُحَمَّد كلهَا حروبا داخلية لارجاع الامارات الَّتِي اسْتَقَلت فِي مُدَّة الفوضى الَّتِي اعقبت موت السُّلْطَان بايزيد فِي الاسر وحافظ على محالفة ملك الرّوم الَّذِي لَوْلَا مساعدته لَهُ لخيف على عرى الدولة الْعلية من الانفصام ورد لَهُ الْبِلَاد الَّتِي فتحهَا اخوه مُوسَى وَاسْتمرّ على محافظته لعهده إِلَى آخر عمره
وَمِمَّا يُؤثر عَن هَذَا السُّلْطَان انه اسْتعْمل الحزم مَعَ الْحلم فِي مُعَاملَة من قهرهم مِمَّن شقّ عَصا طَاعَة الدولة فانه لما قهر امير بِلَاد القرمان وَكَانَ قد اسْتَقل عَفا عَنهُ بعد ان اقْسمْ لَهُ على الْقُرْآن الشريف بَان لَا يخون الدولة فِيمَا بعد وَعَفا عَنهُ ثَانِيَة بعد ان حنث فِي يَمِينه
(1/149)
________________________________________
وَكَذَلِكَ لما حَارب قره جُنَيْد الَّذِي كَانَ حَاكم ازمير من قبل السُّلْطَان بايزيد وقهره عَفا عَنهُ وتناسى كل مَا وَقع مِنْهُ وعينه حَاكما لمدينة نيكوبلي
وَظهر فِي ايام هَذَا الْملك شخص يُسمى بدر الدّين من الْعلمَاء الْمَشْهُورين فِي ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ معينا بوظيفة قَاضِي عَسْكَر فِي جَيش مُوسَى اخي السُّلْطَان مُحَمَّد وَبعد انهزام مُوسَى كَمَا سبق ذكره الزم بالاقامة فِي مَدِينَة ازنيك ثمَّ هرب مِنْهَا وابتدأ فِي نشر مذْهبه المؤسس على الْمُسَاوَاة فِي الاموال والامتعة وَهَذَا الْمَذْهَب اشبه شَيْء بآراء بعض اشتراكيي هَذَا الْوَقْت فَتَبِعَهُ خلق كثير من الْمُسلمين والمسيحيين وَغَيرهم لانه كَانَ يعْتَبر جَمِيع الاديان على السوَاء وَلَا يفرق بَينهَا بل كَانَ عِنْده جَمِيع النَّاس اخوة مهما اخْتلفت مذاهبهم واديانهم واستعان فِي نشر مذْهبه هَذَا بشخص يدعى بيرقليجه مصطفى وَآخر يُقَال ان اصله يَهُودِيّ واسْمه طورلاق كَمَال واشتهر امْرَهْ بِسُرْعَة وَكثر عدد تابعيه حَتَّى خيف على المملكة العثمانية من امتداد مذْهبه فارسل اليه السُّلْطَان مُحَمَّد الْقَائِد سيسمان ابْن امير البلغار الَّذِي دخل فِي دين الاسلام وَعين حَاكما لمدينة سمسون مَعَ جَيش جرار لمحاربة اتِّبَاع بدر الدّين فَظهر عَلَيْهِ بيرقليجة مصطفى وَقَتله وَلما علم السُّلْطَان بذلك جمع الجيوش وارسل وزيره الاول الْمَدْعُو بايزيد باشا لمحاربة هَذِه الفئة فَصَارَ اليها وقابل مصطفى فِي ضواحي ازمير فحاربه فِي موقع يُقَال لَهُ قره بورنو وقهره واخذه اسيرا ثمَّ قَتله وَكَثِيرًا من اتِّبَاعه
وَفِي هَذِه الاثناء ضبط بدر الدّين فِي بِلَاد مقدونية بعد مقاومة شَدِيدَة وشنق
(1/150)
________________________________________
فِي سنة 1417 م وَبِذَلِك اطفئت هَذِه الْفِتْنَة وَلم يبْق لَهَا بعد ذَلِك من خبر وَكَانَ شنق رَئِيس هَذِه الْفِتْنَة بِنَاء على فَتْوَى افتى بهَا مَوْلَانَا سعيد اُحْدُ تلامذة التَّفْتَازَانِيّ وَهَذَا نَصهَا كَمَا جَاءَ فِي تَارِيخ همر من اتاكم وامركم جَمِيعًا على رجل يُرِيد ان يشق عصاكم وَيفرق جماعتكم فَاقْتُلُوهُ وَلم يهدأ بَال السُّلْطَان مُحَمَّد بعد انتصاره على بدر الدّين واشياعه حَتَّى ظهر اخوه مصطفى الَّذِي لم يُوقف لَهُ على اثر بعد وَاقعَة انقره الَّتِي اسر فِيهَا والدهم السُّلْطَان بايزيد الاول وطالبه بِالْملكِ وانضم اليه قره جُنَيْد الَّذِي سبق ذكر عَفْو السُّلْطَان عَنهُ وامده بِجُنُود ارسلها اليه امير الفلاخ سعيا وَرَاء ايجاد الْفِتَن فِي دَاخل الممالك العثمانية فاغار الامير مصطفى على اقليم تساليا بِبِلَاد اليونان لكنه لم يقو على مقاومة جنود اخيه السُّلْطَان مُحَمَّد فَدخل فِي مَدِينَة سلانيك وَكَانَت عَادَتْ إِلَى مملكة الرّوم بعد موت السُّلْطَان بايزيد واحتمى عِنْد حاكمها الْمعِين من قبل ملك الرّوم فَطلب السُّلْطَان تَسْلِيمه فابى ملك الرّوم ذَلِك ووعده ان يحفظه وَلَا يُطلق سراحه مَا دَامَ السُّلْطَان على قيد الْحَيَاة فَقبل السُّلْطَان مُحَمَّد هَذَا الاقتراح ورتب لاخيه راتبا سنويا وَلَقَد ذهب بعض المؤرخين إِلَى ان مصطفى هَذَا لم يكن ابْن السُّلْطَان بايزيد بل شخص انتحل لنَفسِهِ هَذِه الصّفة طَمَعا فِي الْملك الا ان المؤرخ العثماني الْمَدْعُو نشري وَكَثِيرًا من مؤرخي الرّوم قَالُوا بِصِحَّة نسبه وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا القَوْل تعْيين راتب لَهُ من قبل السُّلْطَان وَبلغ من كرم السُّلْطَان وحلمه انه عَفا عَن قره جُنَيْد نَفسه وعدة من محازبيه فِي سنة 1419 م وَكَانَت هَذِه الْفِتْنَة آخر الحروب الداخلية الَّتِي خضبت اراضي الدولة الْعلية بدماء العثمانيين بِسَبَب إغارة تيمورلنك عَلَيْهَا
وَبعد ذَلِك بذل السُّلْطَان مُحَمَّد جلبي قصارى جهده فِي محو آثَار هَذِه الْفِتَن باجرائه الترتيبات الداخلية الضامنة لعدم حُدُوث شغب فِي الْمُسْتَقْبل وبينما كَانَ
(1/151)
________________________________________
السُّلْطَان مشتغلا بِهَذِهِ المهام السلمِيَّة فاجأه الْمَوْت فِي سنة 824 هـ سنة 1421 م فِي مَدِينَة ادرنه فَاسْلَمْ الرّوح وعمره 43 سنة بعد ان اوصى بِالْملكِ لِابْنِهِ مُرَاد الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ فِي اماسيا
وخوفا من حُصُول مَا لَا تحمد عقباه لَو علم موت السُّلْطَان مُحَمَّد مَعَ وجود ابْنه مُرَاد فِي بِلَاد آسيا اتّفق وزيراه ابراهيم وبايزيد على اخفاء مَوته عَن الْجند حَتَّى يحضر ابْنه فاشاعا ان السُّلْطَان مَرِيض وارسلا لِابْنِهِ فَحَضَرَ بعد وَاحِد واربعين يَوْمًا واستلم مقاليد الدولة
واشتهر السُّلْطَان مُحَمَّد بحبه للعلوم والفنون وَهُوَ اول ملك عثماني ارسل الْهَدِيَّة السنوية إِلَى امير مَكَّة الَّتِي يُطلق عَلَيْهَا اسْم الصرة حَتَّى الْآن وَهِي عبارَة عَن قدر معِين من النُّقُود نرسل إِلَى الامير لتوزيعه على فُقَرَاء مَكَّة وَالْمَدينَة لَكِن لم تكن بِالْقدرِ الَّذِي بلغته الْآن وَقد قَالَ بعض المؤرخين ان السُّلْطَان سُلَيْمَان الاول هُوَ اول من ارسل الصرة فِي سنة 923 هـ سنة 1517 م بعد فتح مصر وَلَكِن اتّفق من يوثق بهم من المؤرخين خُصُوصا صولاق زَاده على ان السُّلْطَان مُحَمَّد جلبي هُوَ اول من ارسلها وَدفن السُّلْطَان بعد مَوته فِي مَدِينَة بورصة
(1/152)
________________________________________
6
- السُّلْطَان مرادخان الثَّانِي الْغَازِي
ولد السُّلْطَان مُرَاد الثَّانِي سنة 806 هـ سنة 1403 م وَتَوَلَّى سنة 824 هـ سنة 1421 م بعد موت ابيه وعمره ثَمَانِي عشرَة سنة وافتتح اعماله بابرام الصُّلْح مَعَ امير القرمان والاتفاق مَعَ ملك المجر على هدنة خمس سنوات حَتَّى يتفرغ لارجاع ماشق عَصا الطَّاعَة من ولايات اسيا لَكِن حدث مَا شغله عَن هَذَا الْعَمَل وَذَلِكَ ان ايمانويل طلب مِنْهُ ان يتعهد لَهُ بِعَدَمِ محاربته مُطلقًا وان يُسلمهُ اثْنَيْنِ من اخوته تامينا على نَفاذ هَذَا التعهد وتهدده باطلاق سراح عَمه مصطفى بن بايزيد وَلما لم يُحِبهُ مُرَاد الثَّانِي لطلبه اخْرُج مصطفى من منفاه واعطاه عشرَة مراكب حربية تَحت امرة دمتريوس لاسكاريس فاتى بهَا وحاصر مَدِينَة جاليبولي فَسلمت الا القلعة فَتَركهَا مصطفى بعد ان اقام حولهَا من الْجند مَا يَكْفِي لمنع وُصُول المدد اليها وَسَار بِبَقِيَّة جَيْشه قَاصِدا ادرنه فَخرج الْوَزير بايزيد باشا لمحاربته فَتقدم مصطفى وخطب فِي العساكر باطاعته لانه احق بِالْملكِ من ابْن اخيه فاطاعته الجيوش وَقتلت بايزيد باشا قائدهم فَسَار مصطفى بعد ذَلِك لمقابلة ابْن اخبه مُرَاد الثَّانِي الَّذِي كَانَ متحصنا مَعَ من مَعَه من الْجنُود خلف نهر صَغِير وَهُنَاكَ خانه بعض قواده وَتَركه اغلب جُنُوده حَتَّى الْتزم الهروب إِلَى مَدِينَة جاليبولي فسلمه بعض اتِّبَاعه إِلَى ابْن اخيه مُرَاد الثَّانِي فامر بشنقه
وَبعد ذَلِك اراد السُّلْطَان مُرَاد الانتقام من ملك الرّوم الَّذِي اطلق سراح عَمه مصطفى ليشغله عَن فتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَسَار اليه بخيله وَرجله وحاصر مدينته ثمَّ هاجمها فِي يَوْم 3 رَمَضَان سنة 825 21 اغسطس سنة 1422 م وَبعد قتال عنيف رَجَعَ العثمانيون بِدُونِ ان يتمكنوا من فتحهَا وَبعدهَا رفع عَنْهَا الْحصار
(1/153)
________________________________________
لعصيان اخ لَهُ يُقَال لَهُ مصطفى شقّ عَصَاهُ واستعان على اخيه السُّلْطَان مُرَاد بِبَعْض امراء آسيا الصُّغْرَى لَكِن لم تلبث هَذِه الْفِتْنَة ان اخمدت بِالْقَبْضِ على مصطفى وَقَتله مَعَ كثير من محازبيه فَوَقع الرعب فِي قُلُوب من ساعده من الامراء وتنازل امير قسطموني عَن نصف املاكه للسُّلْطَان وزوجه ابْنَته سنة 1423 اظهارا لاخلاصه وولائه وَفِي السّنة التالية عصى قره جُنَيْد وَاسْتولى على امارة آيدين لَكِن قهره حَمْزَة بك اخو الْوَزير بايزيد باشا وَقبض عَلَيْهِ وامر بخنقه فتخلصت الدولة بذلك من هَذَا الخائن الَّذِي خَان عهدها اكثر من مرّة
واعاد مُرَاد الثَّانِي إِلَى املاك الدولة الْعلية ولايات آيدين وصاروخان ومنتشا وَغَيرهَا من الامارات الَّتِي اعاد تيمورلنك استقلالها اليها وَكَذَلِكَ اسْتردَّ بِلَاد القرمان بعد ان قتل اميرها مُحَمَّد بك وَعين ابْنه ابراهيم واليا عَلَيْهَا مَعَ بعض امتيازات بِشَرْط ان يتنازل عَن اقليم الحميد وَفِي سنة 1428 توفّي امير كرميان عَن غير عقب واوصى بِمَا كَانَ بَاقِيا لَهُ من بِلَاده إِلَى السُّلْطَان مُرَاد وَبِذَلِك اسْتردَّ السُّلْطَان مُرَاد الثَّانِي جَمِيع مَا فَصله تيمورلنك عَن الدولة العثمانية من الْبِلَاد وَصَارَ فِي امكانه التفرغ لاعادة فتح مَا اسْتَقل من الْبِلَاد باوروبا بعد موت بايزيد الاول فابتدأ بَان الزم ملك المجر بعد محاربة شَدِيدَة كَانَت نتيجتها افْتِتَاح مَدِينَة كولمباز الْوَاقِعَة على شاطيء نهر الدانوب الايمن بالتوقيع على معاهدة تقضي عَلَيْهِ بالتخلي عَمَّا يكون لَهُ من الْبِلَاد على شاطيء نهر الدانوب الايمن بِحَيْثُ يكون هَذَا النَّهر فاصلا بَين املاك الدولة الْعلية والمجر
وَلما رأى امير الصرب الْمَدْعُو جورج برنكوفيتش انه لَا يقوى على مقاومة الدولة قبل ان يدْفع جِزْيَة سنوية قدرهَا خَمْسُونَ الف دوكا ذَهَبا وَيقدم للسُّلْطَان فرقة من جُنُوده للمساعدة وَقت الْحَرْب وان يُزَوجهُ ابْنَته مارا وان يقطع علاقاته مَعَ ملك المجر وان يتنازل ايضا للدولة الْعلية عَن بَلْدَة كروشيفاتس
(1/154)
________________________________________
الْوَاقِعَة فِي وسط بِلَاد الصرب لتجعلها حصنا منيعا تأوي اليه جنودها منعا لحُصُول الْفِتَن وَفِي سنة 1430 اعاد السُّلْطَان فتح مَدِينَة سلانيك الَّتِي كَانَ تنازل عَنْهَا ملك الرم إِلَى اهالي البندقية بعد ان حاصرها خَمْسَة عشر يَوْمًا وَبعد ذَلِك اراد السُّلْطَان مُرَاد ان يفتح مَا بَقِي من بِلَاد الصرب وبلاد البانيا الارنؤد والفلاخ قبل ان يُعِيد الكرة على الْقُسْطَنْطِينِيَّة حَتَّى لَا يكون لَهَا من هَذِه الولايات نصير فَوجه اهتمامه اولا إِلَى بِلَاد البانيا فاطاعه سكان يانيه وسكان اغلب بَاقِي الْبِلَاد بِدُونِ كثير عناء مشترطين عدم التَّعَرُّض لَهُم فِي دينهم وَلَا عوائدهم والزم جَان كستريو امير الْجُزْء الشمالي من بِلَاد البانيا ان يسلم لَهُ اولاده الاربعة رهينة على صدقه وولائه ثمَّ ضم املاكه اليه بعد وَفَاته سنة 1431
وَفِي سنة 1433 اعْترف فلاد امير الفلاخ الملقب دره قَول أَي الشَّيْطَان بسيادة الْبَاب العالي عَلَيْهِ تخلصا من الْحَرْب الَّتِي كَانَ لَا يشك فِي وخامة عَاقبَتهَا عَلَيْهِ لَكِن لم يكن هَذَا الخضوع الا ظاهريا فانه مَا لبث ان ثار هُوَ وامير الصرب بِنَاء على تحريض ملك المجر لَهما فحاربهما السُّلْطَان وقهرهما ثمَّ سَار إِلَى بِلَاد المجر وَخرب كثيرا من بلدانها وَعَاد مِنْهَا فِي سنة 1438 بسبعين الف اسير على مَا يُقَال
وَفِي السّنة التالية عصى جورج برنكوفتش امير الصرب فَكَانَت عَاقِبَة عصيانه ان فتح السُّلْطَان مُرَاد مَدِينَة سمندرية بِالْقربِ من مَدِينَة بلغراد عَاصِمَة بِلَاد
(1/155)
________________________________________
الصرب بعد ان حاصرها ثَلَاثَة اشهر وفر برنكوفتش إِلَى بِلَاد المجر محتميا عِنْد ملكهَا آلبير الَّذِي خلف سجسمون ثمَّ حاصر السُّلْطَان مَدِينَة بلغراد عَاصِمَة الصرب مُدَّة سِتَّة شهور وَلم يتَمَكَّن من فتحهَا لشدَّة دفاع من بهَا من الْجنُود
فَتَركهَا واغار على بِلَاد ترنسلفانيا وحاصر مَدِينَة هرمان ستاد التابعة لملك المجر وَكَانَ حَاكم هَذَا الاقليم هُوَ نياد قَائِد عُمُوم جيوش المجر فاتى هَذَا الْقَائِد الشهير على جنَاح السرعة للدفاع عَنْهَا وانتصر على العثمانيين وَقتل مِنْهُم عشْرين الف نفس وَقتل قائدهم والزم من بَقِي مِنْهُم بِالرُّجُوعِ خلف نهر الدانوب وَلما بلغ السُّلْطَان خبر انهزام جيوشه ارسل اليهم ثَمَانِينَ الف مقَاتل تَحت قيادة شهَاب الدّين باشا فَهَزَمَهُ ايضا هونياد المجري واخذه اسيرا فِي موقعة هائلة
(1/156)
________________________________________
بِالْقربِ من بَلْدَة يُقَال لَهَا وازاج سنة 1442 وَبعد ذَلِك سَار الْقَائِد المجري إِلَى بِلَاد الصرب وتغلب على السُّلْطَان مُرَاد نَفسه فِي مَدِينَة نيش واقتفى اثره إِلَى مَا وَرَاء جبال البلقان سنة 1443 وَظهر عَلَيْهِ فِي ثَلَاث وقائع اخرى واخيرا ابرم السُّلْطَان مُرَاد مَعَهم الصُّلْح على ان يتنازل عَن سيادته على بِلَاد الفلاخ وَيرد إِلَى امير الصرب مَدَائِن سمندريه والاجه حِصَار وان يهادن المجر مُدَّة عشر سنوات وامضيت هَذِه المعاهدة فِي 26 ربيع الاول سنة 848 13 يوليو سنة 1444
وعقب ذَلِك توفّي اكبر اولاد السُّلْطَان واسْمه عَلَاء الدّين فَحزن عَلَيْهِ وَالِده حزنا شَدِيدا وسئم الْحَيَاة فتنازل عَن الْملك لِابْنِهِ مُحَمَّد الْبَالِغ من الْعُمر ارْبَعْ عشرَة سنة وسافر هُوَ إِلَى ولَايَة آيدين للاقامة بَعيدا عَن هموم الدُّنْيَا وغمومها
تنازل السُّلْطَان عَن الْملك وعودته اليه
لكنه لم يمْكث فِي خلوته بضعَة اشهر حَتَّى اتاه خبر غدر المجر واغارتهم على بِلَاد البلغار غير مراعين شُرُوط الْهُدْنَة اعْتِمَادًا على تغرير الكردينال سيزاريني مَنْدُوب البابا وتفهيمه لملك المجر ان عدم رِعَايَة الذِّمَّة والعهود مَعَ الْمُسلمين لَا تعد حنثا وَلَا نقضا
وَلما ورد عَلَيْهِ خبر هَذِه الْخِيَانَة ونكث الْعَهْد قَامَ بجيشه لمحاربة المجر فَوَجَدَهُمْ محاصرين لمدينة وارنه الْوَاقِعَة على الْبَحْر الاسود وَبعد قَلِيل اشتبك الْقِتَال بَين الجيشين فَقتل ملك المجر الْمَدْعُو لادسلاس وتفرق الْجند بعد ذَلِك وَلم تفد شجاعة هونياد شَيْئا وَفِي الْيَوْم التَّالِي هاجم العثمانيون معسكر المجر واحتلوه
(1/157)
________________________________________
بعد قتال شَدِيد قتل فِيهِ الكردينال سيزاريني سَبَب هَذِه الْحَرْب وَتمّ للْمُسلمين هَذَا الْفَوْز الْمُبين فِي 28 رَجَب سنة 848 10 نوفمبر سنة 1444
فتْنَة اسكندر بك
وَبعد تَمام النَّصْر واستخلاص مَدِينَة وارنه رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى عزلته لكنه لم يلبث فِيهَا هَذِه الْمرة ايضا لَان عَسَاكِر الانكشارية ازدروا بملكهم الْفَتى مُحَمَّد الثَّانِي وعصوه ونهبوا مَدِينَة ادرنة عَاصِمَة الدولة فَرجع اليهم السُّلْطَان مُرَاد الثَّانِي فِي اوائل سنة 1445 م واخمد فتنتهم وخوفا من رجوعهم إِلَى اقلاق رَاحَة الدولة اراد ان يشغلهم بِالْحَرْبِ فاغار على بِلَاد اليونان وساعده على ذَلِك تَقْسِيم ايمانويل ملك الرّوم بِلَاده بَين اولاده بَان اعطى مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وضواحيها إِلَى ابْنه حنا وبلاد موره وجزء من تساليا لِابْنِهِ قسطنطين وَهُوَ آخر مُلُوك الرّوم وَلما علم قسطنطين بعزم السُّلْطَان مُرَاد على فتح بِلَاده حصن برزخ كورنته وَبنى فِيهِ قلاعا جعلت اجتيازه غير مُمكن لَكِن لم يعق هَذَا السُّور المنيع الجيوش العثمانية بل سلط عَلَيْهِ السُّلْطَان مدافعه ذكر المؤرخون ان هَذَا اول اسْتِعْمَال للمدافع فِي جيوش الدولة الْعلية حَتَّى احدث فِيهَا ثلمًا دخلت مِنْهُ الجيوش إِلَى مَدِينَة كورنته فَفَتحهَا
وَلم يتم فتح بِلَاد موره لازدياد عصيان اسكندر بك واثارته الْفِتَن فِي بِلَاد البانيا وَاكْتفى بِضَرْب الجزيه على اهلها هَذِه الْمرة وَلما هدأ باله من جِهَة اسكندر بك عاود الكرة عَلَيْهَا واسكندر بك هَذَا هُوَ اُحْدُ اولاد جورج كستريو امير البانيا الشمالية الَّذين سبق ذكر اخذ السُّلْطَان لَهُم رهينة وَضم بِلَاد ابيهم اليه بعد مَوته وَكَانَ قد اسْلَمْ اَوْ بالحري تظاهر بالاسلام لنوال مَا يكنه صَدره واظهر الاخلاص للسُّلْطَان حَتَّى قربه اليه وَفِي سنة 1443 حينما كَانَ السُّلْطَان مشتغلا بمحاربة
(1/158)
________________________________________
هونياد وَملك الصرب الزم كَاتب اول الْملك على ان يمْضِي لَهُ امرا بتوجيه ادارة مَدِينَة آق حِصَار من اعمال بِلَاد البانيا اليه واخذ هَذَا الامر بعد ان قتل ممضيه خوفًا من افشاء سره وَسَار إِلَى هَذَا الْبَلَد ودخله وَفِي الْحَال استدعى اليه رُؤَسَاء قبائل الارنؤد واظهر لَهُم مشروعه وَهُوَ استخلاص البانيا من يَد الاتراك فوافقوه على مَا وسوسه لَهُم وامدوه بِالْمَالِ وَالرِّجَال فَسَار مَعَهم وطرد العثمانيين من اغلب بِلَاد اجداده وانتصر على الْقَائِد عَليّ باشا سنة 1443 وساعده على امتداد نُفُوذه تنازل السُّلْطَان مُرَاد واشتغاله بمحاربة المجر لَكِن لما تمّ النَّصْر للسُّلْطَان فِي وَاقعَة وارنه واستتب الامن فِي بِلَاد اليونان امكنه جمع جَيش جرار لقمع هَذَا الخائن فقصده بِمِائَة الف مقَاتل واسترد مِنْهُ مدينتين من اهم مدن البانيا سنة 1447 ثمَّ تَركه حِين بلغه خبر اغارة هونياد المجري على بِلَاد الصرب ليعيد لنَفسِهِ مَا فقد من الشّرف فِي وَاقعَة وارنه وَكَانَ مَعَه فِي هَذِه الدفعة اربعة وَعِشْرُونَ الف رجل مِنْهُم عشرَة آلَاف من الفلاخ فاصطدم الْجَيْش العثماني بقيادة السُّلْطَان نَفسه مَعَ جَيش هونياد فِي وَادي قوص اوه فانتصر عَلَيْهِ السُّلْطَان نصرا مُبينًا فِي 18 شعْبَان سنة 852 17 اكتوبر سنة 1448 كَمَا انتصر السُّلْطَان مُرَاد الاول على لازار ملك الصرب سنة 1389 فِي هَذَا الْموقع ثمَّ عَاد السُّلْطَان مُرَاد الثَّانِي لمحاربة اسكندر بك بالبانيا وحاصر مَدِينَة آق حِصَار مُدَّة وَلما لم يجد سَبِيلا إِلَى فتحهَا لضعف جيوشه بِسَبَب هَذِه الحروب المتواصلة اراد ان يتَّفق مَعَ اسكندر بك عل الصُّلْح بَان يقلده السُّلْطَان امارة بِلَاد البانيا فِي مُقَابلَة جِزْيَة سنوية وَلما لم يقبل اسكندر بك هَذَا الاقتراح رفع السُّلْطَان الْحصار عَن الْمَدِينَة وَعَاد إِلَى ادرنه عَاصِمَة ممالكه ليجهز جيوشا جَدِيدَة كَافِيَة لقمع هَذَا الثائر لكنه توفّي فِي يَوْم 5 محرم سنة 855 7 فبراير سنة 1451 وَتَوَلَّى بعده ابْنه السُّلْطَان ابو الْفَتْح مُحَمَّد الثَّانِي ونقلت جثته إِلَى مَدِينَة بورصه وسنه 49 سنة وَمُدَّة حكمه 30 سنة
(1/159)
________________________________________
7
- السُّلْطَان الْغَازِي
مُحَمَّد الثَّانِي الفاتح وَفتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة
ولد هَذَا السُّلْطَان فِي 26 رَجَب سنة 833 20 ابريل سنة 1429 وَهُوَ سَابِع سلاطين هَذِه السلالة الملوكية وَلما تولى الْملك بعد ابيه لم يكن بآسيا الصُّغْرَى خَارِجا عَن سُلْطَانه الا جُزْء من بِلَاد القرمان ومدينة سينوب ومملكة طرابزون الرومية وَصَارَت مملكة الرّوم الشرقية قَاصِرَة على مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وضواحيها وَكَانَ اقليم موره مجزأ بَين البنادقة وعدة امارات صَغِيرَة يحكمها بعض اعيان الرّوم اَوْ الافرنج الَّذين تخلفوا عَن اخوانهم بعد انْتِهَاء الحروب الصليبية وبلاد الارنؤد
(1/160)
________________________________________
وايبيروس فِي حمى اسكندر بك السالف الذّكر وبلاد البشناق البوسنه مُسْتَقلَّة والصرب تَابِعَة للدولة الْعلية تابعية سيادته وَمَا بَقِي من بِحَيْثُ جَزِيرَة البلقان شبه جَزِيرَة البلقان دَاخِلا تَحت سلطة الدولة الْعلية
61
- وَبعد ان امْر بِنَقْل جثة وَالِده إِلَى مَدِينَة بورصه لدفنها بهَا امْر بقتل اخ لَهُ رَضِيع اسْمه احْمَد وبارجاع الاميرة مارا الصربية إِلَى والدها ثمَّ اخذ يستعد لتتميم فتح مَا بَقِي من بِلَاد البلقان ومدينة الْقُسْطَنْطِينِيَّة حَتَّى تكون جَمِيع املاكه مُتَّصِلَة لَا يتخللها عَدو مهاجم اَوْ صديق مُنَافِق لكنه قبل التَّعَرُّض لفتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة اراد ان يحصن بوغاز البوسفور حَتَّى لَا ياتي لَهَا مدد من مملكة طرابزون وَذَلِكَ بَان يُقيم قلعة على شاطيء البوغاز من جِهَة اوروبا تكون مُقَابلَة للحصن الَّذِي انشأه السُّلْطَان بايزيد ييلدرم ببر آسيا وَلما بلغ ملك الرّوم هَذَا الْخَبَر ارسل إِلَى السُّلْطَان سفيرا يعرض عَلَيْهِ دفع الْجِزْيَة الَّتِي يقررها فرفض طلبه وسعى فِي ايجاد سَبَب لفتح بَاب الْحَرْب وَلم يلبث ان وجد هَذَا السَّبَب بتعدي الْجنُود العثمانية على بعض قرى الرّوم ودفاع هَؤُلَاءِ عَن انفسهم وَقتل الْبَعْض من الْفَرِيقَيْنِ
فحاصر السُّلْطَان الْمَدِينَة فِي اوائل ابريل سنة 1453 من جِهَة الْبر بِجَيْش يبلغ الْمِائَتَيْنِ وَخمسين الف جندي وَمن جِهَة الْبَحْر بعمارة مؤلفة من مائَة وَثَمَانِينَ سفينة واقام حول الْمَدِينَة ارْبَعْ عشرَة بطارية طوبجية مدفعية وضع بهَا مدافع جسيمة صنعها صانع مجْرى شهير اسْمه اوربان كَانَت تقذف كرات من الْحجر زنة كل وَاحِدَة مِنْهَا اثْنَا عشر قِنْطَارًا إِلَى مَسَافَة ميل وَفِي اثناء الْحصار اكتشف قبر ابي
(1/161)
________________________________________
ايوب الانصاري الَّذِي اسْتشْهد حِين حِصَار الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي سنة 52 هـ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة بن ابي سُفْيَان الاموي وَبعد الْفَتْح بنى لَهُ مَسْجِد جَامع وَجَرت الْعَادة بعد ذَلِك ان كل سُلْطَان يتَوَلَّى يتقلد سيف عُثْمَان الْغَازِي الاول بِهَذَا الْمَسْجِد وَهَذَا الاحتفال يعد بِمَثَابَة التتويج عِنْد مُلُوك الافرنج وَلم تزل هَذِه الْعَادة متبعة حَتَّى الان وَلما شَاهد قسطنطين آخر مُلُوك الرّوم هَذِه الاستعدادات استنجد باوروبا فلبى طلبه اهالي جنوه وارسلوا لَهُ عمَارَة بحريّة تَحت امرة جوستنياني فاتى بمراكبه واراد
(1/162)
________________________________________
الدُّخُول إِلَى ميناء الْقُسْطَنْطِينِيَّة فعارضته السفن العثمانية وانتشرت بَينهمَا حَرْب هائلة فِي يَوْم 11 ربيع الثَّانِي سنة 857 21 ابريل سنة 1453 انْتَهَت بفوز جوستنياني ودخوله الميناء بعد ان رفع المحصورون السلَاسِل الحديدية الَّتِي وضعت لمنع المراكب العثمانية من الْوُصُول اليها ثمَّ اعيدت بعد مروره كَمَا كَانَت وَبعدهَا اخذ السُّلْطَان يفكر فِي طَريقَة لدُخُول مراكبه إِلَى الميناء لاتمام الْحصار برا وبحرا فخطر بِبَالِهِ فكر غَرِيب فِي بَابه وَهُوَ ان بِنَقْل المراكب على الْبر ليجتازوا السلَاسِل الْمَوْضُوعَة لمَنعه وَتمّ هَذَا الامر المستغرب بَان مهد طَرِيقا على الْبر اخْتلف فِي طوله والمرجح انه فرسخان أَي سِتَّة اميال ورصت فَوْقه الواح من الْخشب صبَّتْ عَلَيْهَا كمية من الزَّيْت والدهن لسُهُولَة زلق المراكب عَلَيْهَا وبهذه الْكَيْفِيَّة امكن نقل نَحْو السّبْعين سفينة فِي لَيْلَة وَاحِدَة حَتَّى إِذا اصبح النَّهَار ونظرها المحصورون ايقنوا ان لَا مناص من نصر العثمانيين عَلَيْهِم لَكِن لم تخمد عزائمهم بل ازدادوا اقداما وصمموا على الدفاع عَن اوطانهم حَتَّى الْمَمَات وَفِي يَوْم 15 جماد اول سنة 857 24 مايو سنة 1453 ارسل السُّلْطَان مُحَمَّد إِلَى قسطنطين يُخبرهُ انه لَو سلم الْبَلَد
(1/163)
________________________________________
اليه طَوْعًا يتعهد لَهُ بِعَدَمِ مس حريَّة الاهالي اَوْ املاكهم وان يُعْطِيهِ جَزِيرَة مورة فَلم يقبل قسطنطين ذَلِك بل آثر الْمَوْت على تَسْلِيم الْمَدِينَة فَعِنْدَ ذَلِك نبه السُّلْطَان على جيوشه بالاستعداد للهجوم فِي يَوْم 20 جماد اول سنة 857 29 مايو سنة 1453 ووعد الجيوش بمكافأتهم عِنْد تَمام النَّصْر وباقطاعهم اراضي كَثِيرَة وَفِي اللَّيْلَة السَّابِقَة لليوم المحدد اشعلت الْجنُود العثمانية الانوار امام خيامها للاحتفال بالنصر الْمُحَقق لديهم وظلوا طول ليلهم يهللون وَيُكَبِّرُونَ حَتَّى إِذا لَاحَ الْفجْر صدرت اليهم الاوامر بالهجوم فهجم مائَة وَخَمْسُونَ الف جندي وتسلقوا الاسوار حَتَّى دخلُوا الْمَدِينَة من كل فج وَاعْمَلُوا السَّيْف فِيمَن عارضهم ودخلوا كَنِيسَة القديسة صوفيا حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا البطريق وَحَوله عدد عَظِيم من الاهالي ويعتقد الرّوم حَتَّى الْآن ان حَائِط الْكَنِيسَة انْشَقَّ وَدخل فِيهِ البطرق والصور المقدسة وَفِي اعْتِقَادهم ان الْحَائِط ينشق ثَانِيَة يَوْم يخرج الاتراك من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَيخرج البطريق مِنْهَا وَيتم صلَاته الَّتِي قطعهَا عِنْد دُخُول العثمانيين عَلَيْهِ عِنْد الْفَتْح وَقد ارخ بَعضهم هَذَا الْفَتْح الْمُبين بَلْدَة طيبَة سنة 857 وَسميت الْمَدِينَة اسلامبول أَي تخت الاسلام اَوْ مَدِينَة الاسلام
اما قسطنطين فقاتل حَتَّى مَاتَ فِي الدفاع عَن وَطنه وَبعد فتحهَا جعلت عَاصِمَة للدولة وَلنْ تزَال كَذَلِك ان شَاءَ الله ولنذكر هُنَا ان الْمُسلمين حاصروا الْقُسْطَنْطِينِيَّة احدى عشرَة مرّة قبل هَذِه الْمرة الاخيرة مِنْهَا سَبْعَة فِي القرنين الاولين للاسلام فحاصرها مُعَاوِيَة فِي خلَافَة سيدنَا عَليّ سنة 34 هـ 654 م وحاصرها يزِيد بن
(1/164)
________________________________________
167 - مُعَاوِيَة سنة 47 هـ 667 م فِي خلَافَة سيدنَا عَليّ ايضا وحاصرها سُفْيَان بن اوس فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة 52 هـ 672 م وَفِي سنة 97 هـ 715 م حاصرها مسلمة فِي زمن الْخَلِيفَة عمر بن عبد الْعَزِيز الاموي وحوصرت ايضا فِي خلَافَة هِشَام سنة 121 هـ 739 م وَفِي الْمرة السَّابِعَة حاصرها اُحْدُ قواد الْخَلِيفَة هرون الرشيد سنة 182 هـ 798 م
هَذَا ثمَّ دخل السُّلْطَان الْمَدِينَة عِنْد الظّهْر فَوجدَ الْجنُود مشتغلة بالسلب والنهب وَغَيره فاصدر اوامره بِمَنْع كل اعتداء فَسَاد الامن حَالا ثمَّ زار كَنِيسَة ايا صوفيا وامر بَان يُؤذن فِيهَا بِالصَّلَاةِ اعلانا بجعلها مَسْجِدا جَامعا للْمُسلمين وَبعد تَمام الْفَتْح على هَذِه الصُّورَة اعلن فِي كَافَّة الْجِهَات بانه لَا يُعَارض فِي اقامة شَعَائِر ديانَة المسيحيين بل انه يضمن لَهُم حريَّة دينهم وَحفظ املاكهم فَرجع من هَاجر من المسيحيين واعطاهم نصف الْكَنَائِس وَجعل النّصْف الآخر جَوَامِع لمسلمين ثمَّ جمع ائمة دينهم لينتخبوا بطريقا لَهُم فَاخْتَارُوا جورج سكولاريوس وَاعْتمد السُّلْطَان هَذَا الانتخاب وَجعله رَئِيسا لطائفة الاروام واحتفل بتثبيته بِنَفس الابهة والنظام الَّذِي كَانَ يعْمل للبطارقة فِي ايام مُلُوك الرّوم المسيحيين واعطاه حرسا من عَسَاكِر الانكشارية ومنحه حق الحكم فِي القضايا المدنية والجنائية بكافة انواعها المختصة بالاروام وَعين مَعَه فِي ذَلِك مَجْلِسا مُشكلا من اكبر موظفي الْكَنِيسَة واعطى هَذَا الْحق فِي الولايات للمطارنة والقسوس وَفِي مُقَابلَة هَذِه الْمنح فرض عَلَيْهِم دفع الْخراج مستثنيا من ذَلِك ائمة الدّين فَقَط
وَبعد اتمام هَذِه الترتيبات واعادة مَا هدم من اسوار الْمَدِينَة وتحصينها سَافر بجيوشه لفتح بِلَاد جَدِيدَة فقصد بِلَاد موره لَكِن لم ينْتَظر اميراها دمتريوس وتوماس اخوا قسطنطين قدومه بل ارسلا اليه يخبرانه بقبولهما دفع جِزْيَة سنوية قدرهَا اثْنَا عشر الف دوكا فَقبل ذَلِك السُّلْطَان وَغير وجهته قَاصِدا بِلَاد الصرب فاتى هونياد الشجاع المجري ورد عَنْهُم مُقَدّمَة الجيوش العثمانية لَكِن لم يرغب الصرب فِي مساعدة المجر لَهُم لاخْتِلَاف مَذْهَبهم حَيْثُ كَانَ المجر كاثوليكيين تابعين لبابا
(1/165)
________________________________________
رومة والصرب ارثوذكسيين لَا يذعنون لسلطة البابا بل كَانُوا يفضلون تسلط الْمُسلمين عَلَيْهِم لما راوه من عدم تعرضهم للدّين مُطلقًا وَلذَلِك ابرم امير الصرب الصُّلْح مَعَ السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّانِي على ان يدْفع لَهُ سنويا ثَمَانِينَ الف دوكا وَذَلِكَ فِي سنة 1454 وَفِي السّنة التالية اعاد السُّلْطَان عَلَيْهَا الكرة بِجَيْش مؤلف من خمسين الف مقَاتل وثلاثمائة مدفع وَمر بجيوشه من جنوب بِلَاد الصرب إِلَى شمالها بِدُونِ ان يلقى اقل مُعَارضَة حَتَّى وصل مَدِينَة بلغراد الْوَاقِعَة على نهر الدانوب وحاصرها من جِهَة الْبر وَالنّهر وَكَانَ هونياد المجري دخل الْمَدِينَة قبل اتمام الْحصار عَلَيْهَا ودافع عَنْهَا دفاع الابطال حَتَّى يئس السُّلْطَان من فتحهَا وَرفع عَنْهَا الْحصار سنة 1455 لَكِن وان لم يتَمَكَّن العثمانيون من فتح عَاصِمَة الصرب الا انهم ربحوا امرا عَظِيما وَهُوَ اصابة هونياد بجراح بليغة مَاتَ بِسَبَبِهَا بعد رفع الْحصار عَن الْمَدِينَة بِنَحْوِ عشْرين يَوْمًا واراح الْمُسلمين مِنْهُ وَلما علم السُّلْطَان بِمَوْتِهِ ارسل الصَّدْر الاعظم مَحْمُود باشا لاتمام فتح بِلَاد الصرب فاتم فتحهَا من سنة 1458 إِلَى سنة 1460 وَبِذَلِك فقدت الصرب استقلالها نهائيا بعد ان اعيت الدولة الْعلية اكثر من مرّة
وَفِي هَذِه الاثناء تمّ فتح بِلَاد موره فَفِي سنة 1458 فتح السُّلْطَان مَدِينَة كورنته وَمَا جاورها من بِلَاد اليونان حَتَّى جرد توماس باليولوج اخا قسطنطين من جَمِيع بِلَاده وَلم يتْرك اقليم موره لاخيه دمتريوس الا بِشَرْط دفع الْجِزْيَة
وبمجرد مَا رَجَعَ السُّلْطَان بجيوشه ثار توماس وَحَارب الاتراك واخاه مَعًا فاستنجد دمتريوس بالسلطان فَرجع بِجَيْش عَرَمْرَم وَلم يرجع حَتَّى تمّ فتح اقليم موره سنة 1460 وهرب توماس إِلَى ايطاليا وَنفي دمتريوس فِي احدى جزائر الارخبيل
وَفِي ذَلِك الْوَقْت فتحت جزائر تاسوس والبروس وَغَيرهَا من جزائر بَحر الرّوم
(1/168)
________________________________________
وَبعد عودة السُّلْطَان من بِلَاد اليونان ابرم صلحا مؤقتا مَعَ اسكندر بك وَترك لَهُ اقليمي البانيا وايبيروس ثمَّ حول انظاره إِلَى آسيا الصُّغْرَى ليفتح مَا بَقِي مِنْهَا فَسَار بجيشه بِدُونِ ان يعلم احدا بوجهته فِي اوائل سنة 1461 وهاجم اولا ميناء اماستريس وَكَانَت مَرْكَز تِجَارَة اهالي جينوه النازلين بِهَدِّهِ الاصقاع وَلكَون سكانها تجارًا يُحَافِظُونَ على اموالهم وَلَا يهمهم دين اَوْ جنسية متبوعهم مَا دَامَ غير متعرض لاموالهم وَلَا ارواحهم فتحُوا ابواب الْمَدِينَة ودخلها العثمانيون بِغَيْر حَرْب ثمَّ ارسل إِلَى اسفنديار امير مَدِينَة سينوب يطْلب مِنْهُ تَسْلِيم بَلَده والخضوع لَهُ ولاجل تعزيز هَذَا الطّلب ارسل اُحْدُ قواده وَمَعَهُ عدد عَظِيم من المراكب لحصر الميناء فسلمها اليه الامير واقطعه الْملك اراضي وَاسِعَة باقليم بيثينيا مُكَافَأَة لَهُ على خضوعه ثمَّ قصد بِنَفسِهِ مَدِينَة طرابزون ودخلها بِدُونِ مقاومة شَدِيدَة وَقبض على الْملك واولاده وَزَوجته وارسلهم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة
وَلما عَاد اليها جهز جَيْشًا لمحاربة امير الفلاخ الْمَدْعُو فلاددره قَول أَي الشَّيْطَان لمعاقبته على مَا ارْتَكَبهُ من الفظائع مَعَ اهالي بِلَاده والتعدي على تجار العثمانيين النازلين بهَا فَلَمَّا قرب مِنْهَا ارسل اليه هَذَا الامير وَفْدًا يعرض على السُّلْطَان دفع جِزْيَة سنوية قدرهَا عشرَة آلَاف دوكا بِشَرْط ان يصادق على جَمِيع الشُّرُوط الْوَارِدَة بالمعاهدة الَّتِي ابرمت فِي سنة 1393 بَين امير الفلاخ اذ ذَاك وَالسُّلْطَان بايزيد فَقبل السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّانِي هَذَا الاقتراح وَعَاد بجيوشه وَلم يقْصد امير الفلاخ بِهَذِهِ المعاهدة الا التَّمَكُّن من الِاتِّحَاد مَعَ ملك المجر ومحاربة العثمانيين فَلَمَّا علم السُّلْطَان باتحادهما ارسل اليه مندوبين يسألانه عَن الْحَقِيقَة فَقبض عَلَيْهِمَا وقتلهما بوضعهما على عَمُود محدد من الْخشب خازوق واغار بعْدهَا على بِلَاد بلغاريا التابعة للدولة الْعلية وعثا فِيهَا الْفساد وَرجع بِخَمْسَة وَعشْرين الف اسير فارسل اليه
(1/169)
________________________________________
السُّلْطَان يَدعُوهُ إِلَى الطَّاعَة واخلاء سَبِيل الاسرى فَلَمَّا مثل الرُّسُل امامه امرهم بِرَفْع عمائمهم لتعظيمه وَعند ابائهم طلبه لمُخَالفَته لعوائدهم امْر هَذَا الظَّالِم بَان تسمر عمائمهم على رُؤْسهمْ بمسامير من حَدِيد
فَلَمَّا وصلت هَذِه الاخبار إِلَى السُّلْطَان مُحَمَّد استشاط غَضبا وَسَار على الْفَوْر بِمِائَة وَخمسين الف مقَاتل لمحاربة هَذَا الشقي الظلوم فوصل فِي اقْربْ وَقت إِلَى مَدِينَة بخارست عَاصِمَة الامير بعد ان هَزَمه وَفرق جيوشه لكنه لم يتَمَكَّن من الْقَبْض عَلَيْهِ لمجازاته على مَا اقترفه من الْمَظَالِم والمآثم لهروبه والتجائه إِلَى ملك المجر فَنَادَى السُّلْطَان بعزله وَنصب مَكَانَهُ اخاه راوول لِثِقَتِهِ بِهِ بِمَا انه تربى فِي حضَانَة السُّلْطَان مند نعومة اظفاره وبذا ضمت بِلَاد الفلاخ إِلَى الدولة الْعلية وَيُقَال ان عِنْد وُصُول السُّلْطَان مُحَمَّد إِلَى ضواحي بخارست وجد حول الْمَدِينَة جثث الاسرى الَّذين اتى بهم امير الفلاخ من بِلَاد بلغاريا وقتلهم عَن آخِرهم بِمَا فيهم الاطفال وَالنِّسَاء وَكَانَ عَددهمْ جَمِيعًا عشْرين الْفَا
وَفِي سنة 1462 حَارب السُّلْطَان بِلَاد بوسنة لِامْتِنَاع اميرها عَن دفع الْخراج واسره بعد محاربة عنيفة هُوَ وَولده وامر بِقَتْلِهِمَا فدانت لَهُ جَمِيع بِلَاد البشناق اهالي بوسنة وَفِي سنة 1464 اراد متياس كرفن ملك المجر استخلاص بوسنة من العثمانيين فَهزمَ بعد ان قتل مُعظم جَيْشه وَكَانَت عَاقِبَة تدخله ان جعلت بوسنة ولَايَة كباقي ولايات الدولة وسلبت مَا كَانَ منح لَهَا من الامتيازات وَدخل فِي جَيش الانكشارية ثَلَاثُونَ الْفَا من شبانها واسلم اغلب اشراف اهاليها
هَذَا وَكَانَت ابتدأت حركات الْعدوان فِي سنة 1463 بَين العثمانيين والبنادقة
(1/170)
________________________________________
بِسَبَب هروب اُحْدُ الرَّقِيق إِلَى كورون التابعة لَهُم وامتناعهم عَن تَسْلِيمه بِحجَّة انه اعتنق الدّين المسيحي فَاتخذ العثمانيون ذَلِك سَببا للاستيلاء على مَدِينَة ارجوس وَغَيرهَا فاستنجد البنادقة بحكومتهم وَهِي ارسلت اليهم عمَارَة بحريّة انزلت مَا بهَا من الجيوش إِلَى بِلَاد موره فثار سكانها وقاتلوا الْجنُود العثمانية الْمُحَافظَة على بِلَادهمْ واقاموا مَا كَانَ تهدم من سور برزخ كورنته لمنع وُصُول المدد من الدولة الْعلية وحاصروا مَدِينَة كورنته نَفسهَا واستخلصوا مَدِينَة ارجوس من الاتراك لَكِن لما علمُوا بقدوم السُّلْطَان مَعَ جَيش يبلغ عدده ثَمَانِينَ الف مقَاتل تركُوا البرزخ رَاجِعين على اعقابهم فَدخل العثمانيون بِلَاد موره بِدُونِ كَبِير مُعَارضَة واسترجعوا كل مَا اخذوه وَارْجِعُوا السكينَة إِلَى الْبِلَاد وَفِي السّنة التالية اعاد البنادقة الكرة على بِلَاد موره بِدُونِ فَائِدَة
وَبعد ذَلِك اخذ البابا بيوس الثَّانِي يسْعَى فِي تحريض الامم المسيحية على محاربة
(1/171)
________________________________________
الْمُسلمين حَربًا دينية لَكِن عاجله الْمنون قبل اتمام مشروعه الا ان تحريضاته هَاجَتْ اسكندر بك الالباني فحارب الْجنُود العثمانية وَحصل بَينهمَا عدَّة وقائع اهرق فِيهَا كثير من الدِّمَاء وَكَانَت الْحَرْب فِيهَا سجالا وَفِي سنة 1467 توفّي اسكندر بك بعد ان حَارب الدولة الْعلية خمْسا وَعشْرين سنة بِدُونِ ان تقوى على قمعه فَكَانَ من اشد خصوم الدولة وَالِد اعدائها
ثمَّ بعد هدنة استمرت سنة وَاحِدَة عَادَتْ الحروب بَين العثمانيين والبنادقة وَكَانَت نتيجتها ان افْتتح العثمانيون جَزِيرَة نجر بونت وَتسَمى فِي كتب التّرْك اجريبوس مَرْكَز مستعمرات البنادقة فِي جزائر الرّوم وَتمّ فتحهَا فِي سنة 1470 وَبعد ان سَاد الامن فِي انحاء اوروبا حول السُّلْطَان انظاره إِلَى بِلَاد القرمان بآسيا الصُّغْرَى وَوجد سَبِيلا سهلا للتدخل وَهُوَ ان اميرها الْمَدْعُو ابراهيم اوصى بعد مَوته بالحكم إِلَى اُحْدُ اولاده واسْمه الامير اسحق وَلكَون امهِ ام ولد نازعه الحكم اخوته من ابيه الَّذين من الزَّوْجَات فَتدخل السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّانِي وَحَارب اسحق وهزمه وَولى مَحَله اكبر اخوته وَعَاد إِلَى اوروبا لمحاربة اسكندر بك كَمَا مر فانتهز الامير اسحق غيابه وعاود الكرة على قونية لاسترداد مَا اوصى بِهِ اليه ابوه من الْبِلَاد فَرجع اليه السُّلْطَان وقهره وليستريح باله من هَذِه الْجِهَة ايضا ضم امارة القرمان إِلَى بِلَاده وَغَضب على وزيره مَحْمُود باشا الَّذِي عَارضه فِي هَذَا الامر
وَبعد ذَلِك بِقَلِيل زحف اوزون حسن اُحْدُ خلفاء تيمورلنك الَّذِي كَانَ سُلْطَانه ممتدا على كَافَّة الْبِلَاد والاقاليم الْوَاقِعَة بَين نهري آموداريا والفرات
(1/172)
________________________________________
وَفتح مَدِينَة توقات عنْوَة وَنهب اهلها فاخذ السُّلْطَان فِي تجهيز جَيش جرار وارسل لاولاده دَاوُد باشا بكلر بك الاناطول ومصطفى باشا حَاكم القرمان يامرهما بِالْمَسِيرِ لمحاربة الْعَدو فسارا بجيوشهما اليه وقابلا جَيش اوزون حسن على حُدُود اقليم الحميد وهزماه شَرّ هزيمَة سنة 1471 وَبعدهَا بِقَلِيل سَار اليه السُّلْطَان نَفسه وَمَعَهُ مائَة الف جندي واجهز على مَا بَقِي مَعَه من الْجنُود بِالْقربِ من مَدِينَة اذربيجان الَّتِي لَا تبعد كثيرا عَن نهر الْفُرَات وَلم يعد اوزون حسن لمحاربة الدولة بعد ذَلِك وَفِي هَذِه الاثناء كَانَت الْحَرْب متقطعة بَين العثمانيين والبنادقة الَّذين استعانو ببابا رومه وامير نابولي وَمَعَ كل فَكَانَ النَّصْر دَائِما للعثمانيين وَلم يتَمَكَّن البنادقة من استرجاع شَيْء مِمَّا اخذ مِنْهُم وَفِي سنة 1475 اراد السُّلْطَان فتح بِلَاد البغدان فارسل اليها جَيْشًا بعد ان عرض دفع الْجِزْيَة على اميرها الْمُسَمّى اسطفن الرَّابِع وَلم يقبل
وَبعد محاربة عنيفة قتل فِيهَا كثير من الجيشين المتحاربين عَادَتْ الجيوش العثمانيين بِدُونِ فتح شَيْء من هَذَا الاقليم وَلما بلغ خبر هَذَا الانهزام اذان السُّلْطَان عزم على فتح بِلَاد القرم حَتَّى يَسْتَعِين بفرسانها الْمَشْهُورين فِي الْقِتَال على محاربة البغدان وَكَانَ لجمهورية جنوا مستعمرة فِي بِحَيْثُ شبه جَزِيرَة القرم فِي مَدِينَة كافا فارسل السُّلْطَان اليها عمَارَة بحريّة ففتحتها بعد حِصَار سِتَّة ايام وَبعدهَا سَقَطت جَمِيع الاماكن التابعة لجمهورية جنوا وَبِذَلِك صَارَت جَمِيع شواطيء القرم تَابِعَة للدولة العثمانية وَلم يقاومها التتار النازلون بهَا وَلذَلِك اكْتفى السُّلْطَان بِضَرْب الْجِزْيَة عَلَيْهَا
(1/173)
________________________________________
وَبعد ذَلِك فتحت الْعِمَارَة العثمانية ميناء آق كرمان وَمِنْهَا اقلعت السفن الحربية إِلَى مصاب نهر الدانوب لاعادة الكرة على بِلَاد البغدان بَيْنَمَا كَانَ السُّلْطَان يجتاز نهر الدانوب من جِهَة الْبر بِجَيْش عَظِيم فتقهقر امامه جَيش البغدان لعدم امكانه الْمُحَاربَة فِي السهول وَتَبعهُ الْجَيْش العثماني حَتَّى اذا اوغل خَلفه فِي غابة كثيفة يجهل مفاوزها انقض عَلَيْهِ الْجَيْش البغداني وهزمه 1476 وَبِذَلِك اشْتهر اسطفن الرَّابِع امير البغدان بمقاومة العثمانيين كَمَا اشْتهر هونياد المجري واسكندر بك الالباني من قبل وَسَماهُ البابا شُجَاع النَّصْرَانِيَّة وحامي الدّيانَة المسيحية
وَفِي سنة 1477 اغار السُّلْطَان على بِلَاد البنادقة وَوصل إِلَى اقليم الفريول بعد ان مر باقليمي كرواسيا ودلماسيا وهما تابعان الان لمملكة النمسا والمجر فخاف البنادقة على مدينتهم الاصلية وابرموا الصُّلْح مَعَه تاركين لَهُ مَدِينَة كرويا الَّتِي كَانَت عَاصِمَة اسكندر بك الشهير فاحتلها السُّلْطَان ثمَّ طلب مِنْهُم مَدِينَة
(1/174)
________________________________________
اشقودره وَلما رفضوا التنازل عَنْهَا اليه حاصرها واطلق عَلَيْهَا مدافعه سِتَّة اسابيع مُتَوَالِيَة بِدُونِ ان يضعف قُوَّة سكانها وشجاعتهم فَتَركهَا لفرصة اخرى وَفتح مَا كَانَ حولهَا للبنادقة من الْبِلَاد والقلاع حَتَّى صَارَت مَدِينَة اشقودره مُنْفَصِلَة بِالْكُلِّيَّةِ عَن بَاقِي بِلَاد البنادقة وَكَانَ لابد من فتحهَا بعد قَلِيل لعدم امكان وُصُول المدد اليها وَلذَا فضل البنادقة ان يبرموا صلحا جَدِيدا مَعَ السُّلْطَان ويتنازلوا عَن اشقودره فِي مُقَابلَة بعض امتيازات تجارية وَتمّ الصُّلْح بَين الْفَرِيقَيْنِ على ذَلِك وامضيت بِهِ بَينهمَا معاهدة فِي يَوْم 5 ذِي الْقعدَة سنة 883 28 يناير سنة 1479 وَكَانَت هَذِه اول خطْوَة خطتها الدولة العثمانية للتدخل فِي شؤون اوروبا اذ كَانَت جمهورية البنادقة حِين ذَاك اهم دوَل اوروبا لاسيما فِي التِّجَارَة البحرية وَمَا كَانَ يعادلها فِي ذَلِك الا جمهورية جنوا
فتح جزائر اليونان ومدينة اوترانت
وَبعد ان تمّ الصُّلْح مَعَ البنادقة وجهت الجيوش إِلَى بِلَاد المجر لفتح اقليم ترنسلفانيا فقهرها كينيس كونت مَدِينَة تمسوار بِالْقربِ من مَدِينَة كرلسبرج فِي 13 اكتوبر سنة 1476 وَقتل فِي هَذِه الموقعة كثير من العثمانيين وارتكب المجر فظائع وحشية بعد الِانْتِصَار فَقتلُوا جَمِيع الاسرى ونصبوا موائدهم على جثثهم وَفِي سنة 1480 فتحت جزائر اليونان الْوَاقِعَة بَين بِلَاد اليونان وايطاليا
(1/175)
________________________________________
وَبعدهَا سَار الْقَائِد كدك احْمَد باشا بمراكبه لفتح مَدِينَة اوترانت بايطاليا الَّتِي كَانَ عزم السُّلْطَان على فتحهَا جَمِيعهَا وَيُقَال انه اقْسمْ بَان يرْبط حصانه فِي كَنِيسَة القديس بطرس بِمَدِينَة رومه مقرّ البابا ففتحت مَدِينَة اوترانب عنْوَة فِي يَوْم 4 جمادي الثَّانِيَة سنة 855 11 اغسطس سنة 1480
حِصَار مَدِينَة رودس
وَفِي هَذَا الْحِين كَانَت ارسلت عمَارَة بحريّة اخرى لفتح جَزِيرَة رودس الَّتِي كَانَت مَرْكَز رهبنة القديس حنا الاورشليمي وَكَانَ رئيسها اذ ذَاك بييردوبوسون الفرنساوي الاصل وَكَانَت الْحَرْب قَائِمَة بَينه وَبَين سُلْطَان مصر وباي تونس فاجتهد فِي ابرام الصُّلْح مَعَهُمَا ليتفرغ لصد هجمات الجيوش العثمانية وَكَانَت هَذِه الجزيرة مُحصنَة تحصينا منيعا وابتدا العثمانيون فِي حصارها فِي يَوْم 13 ربيع الاول سنة 885 23 مايو سنة 1480 وظلت المدافع تقذف عَلَيْهَا القنابل الحجرية تهدم اسوارها لَكِن كَانَ يصلح سكانها فِي اللَّيْل كل مَا تخربه المدافع بِالنَّهَارِ وَلذَلِك اسْتمرّ حصارها ثَلَاثَة اشهر حاول العثمانيون فِي خلالها الِاسْتِيلَاء على اهم قلاعها وَاسْمهَا قلعة القديس نيقولا بِدُونِ نتيجة وَفِي يَوْم 20 جُمَادَى الاولى سنة 885 28 يوليو سنة 1480 امْر الْقَائِد الْعَام بالهجوم على القلعة ودخولها من الفتحة الَّتِي فتحتها المدافع فِي اسوارها فهجمت عَلَيْهَا الجيوش وقاومها الاعداء بِكُل بسالة واقدام وَبعد اخذ ورد تقهقر العثمانيون بعد ان قتل وجرح مِنْهُم كَثِيرُونَ وَرفع الْبَاقُونَ عَنْهَا الْحصار
وَفِي يَوْم 4 ربيع الاول سنة 886 هـ 3 مايو سنة 1481 م توفّي ابوالفتح
(1/176)
________________________________________
السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّانِي الْغَازِي عَن ثَلَاث وَخمسين سنة وَمُدَّة حكم 31 سنة تمم فِي خلالها مَقَاصِد اجداده فَفتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَزَاد عَلَيْهَا فتح مملكة طرابزون الرومية والصرب والبوشناق والبانيا الارنؤود وَجَمِيع اقاليم اسيا الصُّغْرَى وَلم يبْق فِي بِلَاد البلقان الامدينة بلغراد التابعة للمجر وَبَعض جزائر تَابِعَة للبنادقة وَدفن فِي المدفن الْمَخْصُوص الَّذِي انشاه فِي اُحْدُ الْجَوَامِع الَّتِي اسسها فِي الاستانة
ترتيباته الداخلية
وَكَانَت مهارة هَذَا السُّلْطَان فِي الاعمال المدنية تعادل خبرته فِي الاعمال الحربية فاليه ينْسب تَرْتِيب الْحُكُومَة على نظامات جَدِيدَة فَسمى نفس الْحُكُومَة العثمانية بِالْبَابِ العالي وَجعل لَهَا اربعة اركان وَهِي الْوَزير وقاضي عَسْكَر والدفتردار وتعادل اختصاصاته اختصاصات نَاظر الْمَالِيَّة الْآن وَالرَّابِع يُسمى نيشانجى وَهُوَ عبارَة عَن كَاتب سر السُّلْطَان ثمَّ بعد امتداد سلطة الدولة الْعلية فِي جِهَة اوروبا جعل لَهَا قَاضِي عَسْكَر مَخْصُوص اسْمه قَاضِي عَسْكَر الروملي وقاضي عَسْكَر آخر للاناطول وَكَانَ اختصاصهما التَّعْيِين فِي وظائف الْقَضَاء مَا عدا بعض وظائف خُصُوصِيَّة يخْتَص بهَا الْوَزير الاكبر ثمَّ رتب وظائف الْجند فَجعل للانكشارية رَئِيسا مَخْصُوصًا اغا وناطه باشغال الضَّبْط والربط بِمَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة ورئيسا آخر للطوبجية وثالثا لما يخْتَص بذخائر وَمؤنَة الجيوش وَكَذَلِكَ وضع ترتيبا لداخليته الخصوصية واهم اعماله المدنية تَرْتِيب وظائف الْقَضَاء من اكبر وَظِيفَة وَهِي قَضَاء الروملي إِلَى اقل وَظِيفَة وَوضع اول مبادئ القانون الْمدنِي
(1/177)
________________________________________
وقانون الْعُقُوبَات فأبدل الْعُقُوبَات الْبَدَنِيَّة أَي السن بِالسِّنِّ وَالْعين بِالْعينِ وَجعل عوضهَا الغرامات النقدية بكيفية وَاضِحَة اتمها السُّلْطَان سُلَيْمَان القانوني الْآتِي ذكره
وَمن مآثره ايضا عدَّة جَوَامِع فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَغَيرهَا وَله الْيَد الْبَيْضَاء فِي انشاء كثير من الْمكَاتب الابتدائية والمدارس الْعَالِيَة مِمَّا يطول شَرحه
(1/178)
________________________________________
8
- السُّلْطَان الْغَازِي بايزيد خَان الثَّانِي واخوه الامير جم
توفّي السُّلْطَان ابو الْفَتْح مُحَمَّد الثَّانِي عَن وَلدين اكبرهما بايزيد الْمَوْلُود سنة 851 سنة 1447 م وَكَانَ حَاكما باماسيا وَثَانِيهمَا جم الْمَشْهُور فِي كتب الافرنج باسم الْبُرْنُس زيزيم وَكَانَ حَاكما فِي القرمان فاخفى الصَّدْر الاعظم قرماني مُحَمَّد باشا موت السُّلْطَان مُحَمَّد حَتَّى يَأْتِي بكر اولاده بايزيد وَلكنه لشدَّة ارتباطه ومودته بالاصغر ارسل اليه سرا يُخبرهُ بِمَوْت ابيه كي يحضر قبل اخيه الاكبر ويستلم مقاليد الدولة وَلما اذيع هَذَا الْخَبَر ثار الانكشارية على هَذَا الْوَزير وقتلوه وعثوا فِي الْمَدِينَة سلبا ونهبا واقاموا ابْن السُّلْطَان بايزيد واسْمه كركود نَائِبا عَاما عَن ابيه لحين حُضُوره وَذَلِكَ فِي يَوْم 5 ربيع الاول سنة 886 4 مايو سنة 1481 وَفِي يَوْم 13 ربيع الاول وصل الرَّسُول إِلَى بايزيد فسافر فِي الْيَوْم التَّالِي باربعة آلَاف فَارس وَوصل الْقُسْطَنْطِينِيَّة بعد مسير تِسْعَة ايام مَعَ ان الْمسَافَة تبلغ 160 فرسخا تقطع عَادَة فِي نَحْو 15 يَوْمًا فقابله امراء الدولة واعيانها عِنْد بوغاز مضيق البوسفور وَفِي اثناء اجتسازه البوغاز احاطت بِهِ عدَّة قوارب ملأى بالانكشارية وطلبوا مِنْهُ عزل اُحْدُ الوزراء الْمَدْعُو مصطفى باشا وَتَعْيِين اسحق باشا ضَابِط الْقُسْطَنْطِينِيَّة مَكَانَهُ فاجاب طَلَبهمْ وَكَذَلِكَ عِنْد وُصُوله إِلَى السراي الملوكية وجدهم مصطفين امامها طَالِبين الْعَفو عَنْهُم فِيمَا وَقع من قتل والوزير وَنهب الْمَدِينَة وان ينعم عَلَيْهِم بمبلغ سُرُورًا بتعيينه فاجابهم إِلَى جَمِيع مطالبهم وَصَارَت هَذِه سنة لكل من تولى بعده إِلَى ان ابطلها السُّلْطَان عبد الحميد خَان الاول سنة 1774 اما الرَّسُول الَّذِي كَانَ ارسله الْوَزير مُحَمَّد إِلَى الامير جم فَقبض عَلَيْهِ سِنَان باشا حَاكم الاناطول وَقَتله حَتَّى لَا يصل خبر موت السُّلْطَان مُحَمَّد اليه
(1/179)
________________________________________
وَكَانَ السُّلْطَان بايزيد الثَّانِي ميالا للسلم اكثر مِنْهُ إِلَى الْحَرْب محبا للعلوم الادبية مشتغلا بهَا وَلذَلِك سَمَّاهُ بعض مؤرخي التّرْك بايزيد الصُّوفِي لَكِن دَعَتْهُ سياسة الدولة إِلَى ترك اشغاله السلمِيَّة الْمَحْضَة والاشتغال بِالْحَرْبِ وَكَانَت اول حروبه داخلية وَذَلِكَ ان اخاه جما لما بلغه خبر موت ابيه سَار على الْفَوْر مَعَ من حَاز بِهِ ولاذ بِهِ قَاصِدا مَدِينَة بورصه فَدَخلَهَا عنْوَة بعد ان هزم الفي انكشاري ثمَّ ارسل إِلَى اخيه يعرض عَلَيْهِ الصُّلْح بِشَرْط تَقْسِيم المملكة بَينهمَا فَيخْتَص جم بولايات آسيا وبايزيد باوروبا فَلم يقبل بايزيد بل اتى اليه وقهره بِالْقربِ من مَدِينَة يكى شهر فِي يَوْم 23 جمادي الاولى سنة 886 20 يوليو سنة 1481 وَتَبعهُ حَتَّى اوصله إِلَى تخوم الْبِلَاد التابعة لمصر وَفِي عودته إِلَى عاصمته طلب مِنْهُ الانكشارية ان يُبِيح لَهُم نهب مَدِينَة بورصة مجازاة لَهَا على قبُولهَا الامير جما فَلم يوافقهم على ذَلِك وخوفا من حُصُول شغب مِنْهُم دفع إِلَى كل نفر مِنْهُم قرشين فاقام جم هَذِه السّنة بِالْقَاهِرَةِ ضيفا عِنْد السُّلْطَان قايدباي ويكتبها بَعضهم قايتباي ثمَّ عَاد فِي السّنة الثَّانِيَة إِلَى حلب وَمِنْهَا راسل قَاسم بك آخر ذُرِّيَّة امراء القرمان ووعده انه لَو انجده وساعده للحصول على ملك آل عُثْمَان يرد لَهُ بِلَاد اجداده فاغتر قَاسم بك بِهَذِهِ الوعود وَجمع احزابه وَسَار مَعَ الامير جم لمحاصرة مَدِينَة قونيه عَاصِمَة بِلَاد القرمان فصدهم عَنْهَا الْقَائِد العثماني كدك احْمَد باشا فاتح مدينتي كافا واوترنت والزم الامير جما بالفرار
ثمَّ حاول هَذَا الامير الصُّلْح مَعَ اخيه بِشَرْط اقطاعه بعض الولايات وَلما رفض السُّلْطَان هَذَا الطّلب الَّذِي لايكون وَرَاءه الا انقسام الدولة ارسل الامير جما رَسُولا من طرفه إِلَى رَئِيس رهبنة القديس حنا الاورشليمي برودس يطْلب مِنْهُ مساعدته
(1/180)
________________________________________
على اغراضه فقبلوه عِنْدهم بالجزيرة وَوصل اليها فِي 6 جُمَادَى الثَّانِيَة سنة 887 هـ 23 يوليوسنة 1482 وقابلة اهلها بِكُل تَجِلَّةً واحترام وَبعد قَلِيل وصلت إِلَى الجزيرة وُفُود من السُّلْطَان بايزيد لمخابرة رَئِيس الرهبنة على ابقاء اخيه جما عِنْدهم تَحت الْحِفْظ وَفِي مُقَابلَة ذَلِك يتعهد لَهُم السُّلْطَان بِعَدَمِ التَّعَرُّض لاستقلال الجزيرة مُدَّة حَيَاته وَيدْفَع مبلغا سنويا للرهبنة الْمَذْكُورَة قدره 45 الف دوكا فَقبل رئيسهم ذَلِك واوفوا بوعدهم وَلم يقبلُوا تَسْلِيمه إِلَى ملك المجر اَوْ امبراطور المانيا اللَّذين طلبا اطلاق سراحه ليستعملاه آلَة فِي اضعاف الدولة العثمانية بل ارسله رَئِيس الرهبنة إِلَى فرنسا وَوضع تَحت الْحِفْظ اولا فِي مَدِينَة نيس ثمَّ فِي شمبري وَبَقِي ينْقل من بَلْدَة للاخرى مُدَّة سبع سنوات وَفِي سنة 1489 سلمه رَئِيس الرهبنة إِلَى البابا انوسان الثَّامِن وَهُوَ خابر السُّلْطَان بايزيد طَالبا ان يحفظه عِنْده وتدفع اليه الدولة مَا كَانَت تَدْفَعهُ إِلَى رهبنة رودس فَقبلت ثمَّ مَاتَ هَذَا البابا وَخَلفه اسكندر بورجيا الشهير وَيُقَال ان هَذَا البابا عرض على السُّلْطَان
(1/181)
________________________________________
بايزيد ان يخلصه من اخيه وَبِعِبَارَة اخرى يقْتله لَو دفع اليه ثلثمِائة الف دوكا
وَفِي اثناء هَذِه المخابرات اغار شارل الثَّامِن ملك فرنسا على بِلَاد ايطاليا لتنفيذ مشروعه الوهمي وَهُوَ فتح مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة والوصول اليها عَن طَرِيق بِلَاد البنادقة فألبانيا وَلذَلِك كَانَ ارسل دعاة الْفِتْنَة وَالْفساد إِلَى بِلَاد مقدونيا واليونان لاثارة الافكار ضد العثمانيين لَكِن خشى ملك نابولي وجمهورية البنادقة من تعاظم شان الدولة الفرنساوية فوضعوا العراقيل امامه وارسلوا إِلَى السُّلْطَان بايزيد يخبرونه بمشروع ملك فرنسا ودسائسه وطلبوا مِنْهُ ان يُرْسل جيوشه إِلَى بِلَاد ايطاليا وان ياخذ حذره فِي داخليته
وَفِي هَذِه الاثناء حاصر ملك فرانسا مَدِينَة رومه وَطلب من البابا ان يُسلمهُ الامير جما العثماني فسلمه اليه وَيُقَال انه دس لَهُ السم قبل تَسْلِيمه اليه وَمَا فتئ هَذَا الامير مصاحبا لجيوش فرانسا حَتَّى توفّي فِي يَوْم 18 جمادي الاول سنة 900 14 فبراير سنة 1495 فِي مَدِينَة نابولي وَدفن فِي بَلْدَة جاييت بايطاليا ثمَّ نقلت جثته بعد ذَلِك بِمدَّة إِلَى الْبِلَاد العثمانية وَدفن فِي مَدِينَة بورصة فِي قُبُور اجداده وَتُوفِّي رَحمَه الله عَن 36 سنة قضى مِنْهَا 13 فِي هَذِه الْحَالة الشبيهة بالاسر خَارِجا عَن بِلَاده
هَذَا ولنأت على ذكر مَا حصل فِي مُدَّة سلطنة بايزيد الثَّانِي من الحروب بطرِيق الايجاز لعدم حُصُول فتوحات فِي ايامه تَقْرِيبًا فَكَانَت اغلبها على التخوم لصد هجمات المتاخمين ومجازاتهم على مَا يرتكبونه من السَّلب لَكِن فِي سنة 1487 كَانَت الحروب تنتشب بَين العثمانيين وملوك مصر لمتاخمة بِلَادهمْ عِنْد اطنه وطرسوس فَبعد مناوشات خَفِيفَة بَين الطَّرفَيْنِ على الْحُدُود توَسط بَينهمَا باي
(1/182)
________________________________________
تونس لعدم حُصُول الْحَرْب بَين اميرين مُسلمين فاتفقا على حل مرض للطرفين وساعد على ذَلِك حب السُّلْطَان بايزيد للسلم كَمَا سبق الذّكر وَكَانَ ذَلِك فِي سنة 1491 وَفِي السنين التالية حصلت عدَّة وقائع ذَات شَأْن لم تحصل مِنْهَا الدولة على نتائج تذكر اذ لم تفتح مَدِينَة بلغراد الَّتِي كَانَت مطمح انظار الدولة لبقائها كنقطة سَوْدَاء على شاطئ نهر الدانوب الايمن الْفَاصِل بَين املاك الدولة والمجر
ابْتِدَاء العلاقات مَعَ دوَل اوروبا
وَفِي عهد هَذَا السُّلْطَان ابتدأت علاقات الدولة الْعلية مَعَ مملكة الروس وَذَلِكَ انه بعد تفرق مملكة الروس الاولى عقب اغارة المغول على بِلَادهمْ وتسلطهم عَلَيْهَا مُدَّة استخلصها ايوان الثَّالِث وَكَانَ يلقب دوق موسكو واعاد لَهَا بعض مجدها السَّابِق فِي سنة 1481 م وابتدأت العلاقات بَينهَا وَبَين الدولة فِي سنة 1492 حَيْثُ وصل إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة اول سفير روسي وَمَعَهُ جملَة هَدَايَا للسُّلْطَان وَبعد ذَلِك باربع سنوات اتى اليها سفير آخر واستحصل من الدولة على بعض
(1/183)
________________________________________
امتيازات لتجار الروس
وَكَذَلِكَ ابتدأت فِي عَهده المواصلات الحبية مَعَ مملكة بولونيا فعقدت معاهدة بَين المملكتين فِي سنة 1490 وتجددت فِي سنة 1492 لَكِن لم يلبث هَذَا الْوِفَاق ان تكدر صفاؤه بِسَبَب ادِّعَاء كل من الدولتين حق السِّيَادَة على بِلَاد البغدان واغارة ملك بولونيا عَلَيْهَا فالتزم العثمانيون بطرد المجر مِنْهَا والاغارة على حُدُود بولونيا بمساعدة امير بغدان نَفسه الَّذِي قبل حماية الْبَاب العالي عَلَيْهَا
وَكَذَلِكَ ابتدأت المخابرات بَين الدولة الْعلية فِي ذَلِك الْحِين وَبَين البابا اسكندر السَّادِس بورجيا وَملك نابولي وجوك ميلانو وجمهورية فلورنسا فَكَانَ كل مِنْهُم يجْتَهد فِي محالفة الدولة الْعلية والاستعانة بجنودها الْبَريَّة ومراكبها
(1/184)
________________________________________
البحرية لمحاربة من عَادَاهُ وَفِي قطع علائق الِاتِّحَاد بَينهَا وَبَين من خَالفه وبتلك المساعي تمكن الايطاليون من ايجاد النفرة بَين الدولة وَبَين جمهورية البنادقة حَتَّى تسبب عَنْهَا حَرْب عوان بَينهمَا فارسل السُّلْطَان جيوشه من الْبر وَالْبَحْر لفتح مَدِينَة ليبنته من بِلَاد اليونان وَكَانَت تَابِعَة للبنادقة ففتحت بِكُل سهولة عقب انتصار الْعِمَارَة العثمانية على مراكب البنادقة الَّتِي اعترضتها عِنْد مدْخل الخليج الْمُسَمّى باسم هَذِه الْمَدِينَة وَفِي الْوَقْت نَفسه اغار وَالِي بِلَاد البشناق على اقليم فريول ثمَّ اجتاز نهر ايزونطو ووصلت طلائعه إِلَى ارباض مَدِينَة فيشنسا واوقف الْقِتَال بِسَبَب اشتداد الْبرد وَفِي السّنة التالية احتل العثمانيون ثغور مودون وكورون وناورين من بِلَاد اليونان وَكَانَت من املاك البنادقة فِي هَذِه الْبحار
فخافت جمهورية البندقية من تقدم الاتراك إِلَى مَرْكَز حكومتها من ضيَاع استقلالها واستغاثت بممالك اوروبا المسيحية فانجدها البابا وَملك فرانسا بِبَعْض مراكب حربية وساعدوها على محاصرة جَزِيرَة ميدللي لاشغال الدولة عَن بلادها فَلم تنجح بل فتح العثمانيون مَدِينَة رودتسو الْوَاقِعَة على بَحر الادرياتيك وَلَوْلَا عصيان اولاد السُّلْطَان عَلَيْهِ بِبِلَاد الاناطول كَمَا سَيَجِيءُ لفتحت بَاقِي بِلَاد البنادقة لَكِن اضطرت احوال المملكة الداخلية السُّلْطَان إِلَى ابرام الصاح مَعَ محاربيه باوروبا وهم الْجَرّ والبنادقة فتم الصُّلْح بَينه وَبَين الجمهورية سنة 1502 وَفِي السّنة التالية تمّ الصُّلْح كَذَلِك مَعَ ملك المجر
(1/185)
________________________________________
عصيان اولاد السُّلْطَان عَلَيْهِ وتنازله عَن الْملك لِابْنِهِ سليم
وَلَقَد تكدر صفاء حَيَاة الْملك فِي سني حكمه الاخيرة بعصيان اولاده عَلَيْهِ واضرامهم نَار الحروب الداخلية الَّتِي لَوْلَا مَا وَقع فِي قُلُوب اعدائها من الرعب لكَانَتْ هذة الحروب العائلية فرْصَة عَظِيمَة لَهُم وَذَلِكَ ان السُّلْطَان بايزيد الثَّانِي كَانَ لَهُ ثَمَانِيَة اولاد ذُكُور توفّي مِنْهُم خَمْسَة فِي صغرهم وَبَقِي ثَلَاثَة وهم كركود وَاحْمَدْ وسليم وَكَانَ اولهم مشتغلا بالعلوم والاداب ومجالسة الْعلمَاء وَلذَا كَانَ يمقته الْجَيْش لعدم ميله للحرب وَالثَّانِي كَانَ محبوبا لَدَى الاعيان والامراء وَكَانَ عَليّ باشا اكبر الوزراء مخلصا لَهُ وَكَانَ ثالثهم وَهُوَ سليم محبا للحرب ومحبوبا لَدَى الْجند عُمُوما والانكشارية خُصُوصا
ولاختلافهم فِي المشارب والآراء خشِي والدهم وُقُوع الشقاق بَينهم فَفرق بَينهم وَعين كركود واليا على احدى الولايات الْبَعِيدَة وَاحْمَدْ على اماسيا وسليما على طرابزون وَعين ايضا سُلَيْمَان بن ابْنه سليم واليا على كافا من بِلَاد القرم فَلم يرض سليم بِهَذَا التَّعْيِين بل ترك مقرّ وظيفته وسافر إِلَى كافا بالقرم وارسل إِلَى ابيه يطْلب مِنْهُ تَعْيِينه فِي احدى ولايات اوروبا فَلم يقبل السُّلْطَان بل اصر على بَقَائِهِ بطرابزون فعصى سليم وَالِده جهارا وَسَار بِجَيْش جمعه من قبائل التتر إِلَى بِلَاد الروملي وارسل وَالِده جَيْشًا لارهابه وَلما وجد من ابْنه التصميم على الْمُحَاربَة قبل تَعْيِينه باوروبا حَقنا للدماء وعينه واليا على مدينتي سمندريه وودين سنة 1511
وَلما وصل إِلَى كركود خبر نجاح اخيه سليم فِي مقاومته انْتقل إِلَى ولَايَة صاروخان واستلم ادارتها بِدُونِ امْر ابيه ليَكُون قَرِيبا من الْقُسْطَنْطِينِيَّة عِنْد الْحَاجة
(1/186)
________________________________________
ثمَّ سَار سليم إِلَى ادرنه واعلن نَفسه سُلْطَانا عَلَيْهَا فارسل وَالِده اليه من هَزَمه والجأه إِلَى الْفِرَار بِبِلَاد القرم وارسل جَيْشًا آخر لمحاربة كركود بآسيا فَهَزَمَهُ ايضا لَكِن الْتزم السُّلْطَان بايزيد بِالْعَفو عَن ابْنه سليم بِنَاء على الحاح الانكشارية لتعلقهم بِهِ واعادته إِلَى ولَايَة سمندرية وَفِي اثناء توجه سليم اليها قابله الانكشارية واتوابه إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة باحتفال زَائِد وَسَارُوا بِهِ إِلَى سراي السُّلْطَان وطلبوا مِنْهُ التنازل عَن الْملك لوَلَده الْمَذْكُور فَقبل واستقال فِي يَوْم 8 صفر سنة 918 25 ابريل سنة 1512 وَبعد ذَلِك بِعشْرين يَوْمًا سَافر للاقامة ببلدة ديموتيقا فَتوفي فِي الطَّرِيق يَوْم 10 ربيع الاول سنة 918 26 مايو سنة 1512 عَن 67 سنة وَمُدَّة حكمه 32 سنة ويدعى بعض المؤرخين ان وَلَده دس اليه السم خوفًا من رُجُوعه إِلَى منصة الْملك كَمَا فعل السُّلْطَان مُرَاد الثَّانِي الَّذِي سبق ذكره وَلم تزد املاك الدولة الْعلية فِي زمن السُّلْطَان بايزيد الثَّانِي الا قَلِيلا لحبه السّلم وحقن المدماء فَكَانَت حروبه الخارجية اضطرارية للمدافعة عَن الْحُدُود حَتَّى لَا يستخف بهَا اعداؤها وَكَانَ سلمي الطباع كَارِهًا للْقَتْل وَكَانَ اشهر وزرائه دَاوُد باشا الَّذِي تولى الوزارة بعد كدك احْمَد وَمكث بهَا ارْبَعْ عشرَة سنة واستقال مِنْهَا بِاخْتِيَارِهِ سنة 1497 وَقضى بَاقِي عمره فِي عمل الْخيرَات والمبرات
(1/187)
________________________________________
9
- السُّلْطَان سليم الاول الْغَازِي الملقب ب ياوز أَي الْقَاطِع
لما كَانَ تَعْيِينه بمساعي الانكشارية يَقْتَضِي توزيع المكافآت عَلَيْهِم حسب الْمُعْتَاد اعطى لكل نفر مِنْهُم خمسين دوكا ثمَّ عين ابْنه سُلَيْمَان حَاكما للقسطنطينية وسافر بجيوشه إِلَى بِلَاد آسيا لمحاربة اخوته واولاد اخوته حَتَّى يهدأ باله بداخليته وَلم يبْق لَهُ مُنَازع فِي الْملك فاقتفى اثر اخيه احْمَد إِلَى انقرة وَلم يتَمَكَّن من الْقَبْض عَلَيْهِ لوُجُود علاقات بَينه وَبَين الْوَزير مصطفى باشا الَّذِي كَانَ يُخبرهُ بمقاصد السُّلْطَان لَكِن علم السُّلْطَان بِهَذِهِ الْخِيَانَة فَقتل الْوَزير شَرّ قتلة جَزَاء لَهُ وعبرة لغيره ثمَّ ذهب إِلَى بورصة حَيْثُ قبض على خَمْسَة من اولاد اخوته وامر بِقَتْلِهِم وَبعدهَا توجه بِكُل سرعَة إِلَى صاروخان مقرّ اخيه كركود ففر مِنْهُ إِلَى الْجبَال وَبعد الْبَحْث عَلَيْهِ عدَّة اسابيع قبض عَلَيْهِ وَقتل
اما احْمَد فَجمع جَيْشًا من محازبيه وَقَاتل العساكر العثمانية فَانْهَزَمَ وَقتل بِالْقربِ من مَدِينَة يكى شهر فِي يَوْم 17 صفر سنة 919 24 ابريل سنة 1513
وَلما اطْمَأَن خاطره من جِهَة داخليته عَاد إِلَى مَدِينَة ادرنه حَيْثُ كَانَ بانتظار سفراء من قبل البندقية والمجر والموسكو وسلطنة مصر فابرم مَعَ جَمِيعهم هدنة لمدد طَوِيلَة بِمَا ان مطامعه كَانَت متجهة إِلَى بِلَاد الْفرس الَّتِي كَانَت اخذت فِي النمو والارتقاء فِي عصر ملكهَا شاه اسماعيل الشيعي فانه فتح ولَايَة شيروان وَجعل
(1/188)
________________________________________
مركزه مَدِينَة تبريز سنة 1501 وَبعدهَا فتح الْعرَاق الْعَرَبِيّ وبلاد خُرَاسَان وديار بكر سنة 1508 وارسل اُحْدُ قواده فاحتل مَدِينَة بَغْدَاد وَفِي سنة 1510 ضم إِلَى املاكه بِلَاد فارستان واذربيجان وَبِذَلِك امتدت مَمْلَكَته من الخليج الْفَارِسِي إِلَى بَحر الخزر وَمن منابع الْفُرَات إِلَى مَا وَرَاء نهر اموداريا
محاربة الْعَجم وَدخُول العثمانيين مَدِينَة تبريز
وَلما عصى السُّلْطَان سليم واخوته والدهم السُّلْطَان بايزيد الثَّانِي ساعد الشاه اسماعيل الامير احْمَد على وَالِده ثمَّ على اخيه من بعده وَقبل من فر من اولاده عِنْده وَزِيَادَة عل ذَلِك ارسل وَفْدًا إِلَى سُلْطَان مصر يطْلب مِنْهُ التَّحَالُف لايقاف سير الدولة العثمانية مُبينًا لَهُ انه ان لم يتَّفقَا حَارَبت الدولة كلا مِنْهُمَا على حِدته وقهرته وسلبت املاكه ولايجاد سَبَب للحرب امْر السُّلْطَان سليم بحصر عدد الشِّيعَة المنتشرين فِي الولايات المتاخمة لبلاد الْعَجم بطريقة سَرِيَّة ثمَّ امْر بِقَتْلِهِم جَمِيعًا وَيُقَال ان عَددهمْ كَانَ يبلغ نَحْو الاربعين الْفَا وَهَذِه المذبحة كالمذبحة الَّتِي حصلت بباريس فِي 5 جماد اول سنة 980 24 اغسطس سنة 1572 الْمَشْهُورَة فِي التواريخ
(1/189)
________________________________________
بمذبحة سان برتليمي
وَبعد ذَلِك اعلن السُّلْطَان سليم الشاه اسماعيل بِالْحَرْبِ وسافر بجيوشه من مَدِينَة ادرنه فِي 22 محرم سنة 920 19 مارس سنة 1514 وَفِي اثناء مسيره تبادل مَعَ الشاه اسماعيل رسائل مفعمة بالسباب وَسَار الْجَيْش العثماني تَحت قيادة السُّلْطَان سليم نَفسه كَمَا جرت بِهِ الْعَادة قَاصِدا مَدِينَة تبريز عَاصِمَة الْعَجم وَكَانَت الجيوش الفارسية تتقهقر امامه خدعة مِنْهُم لينهك التَّعَب الجيوش العثمانية فينقضوا عَلَيْهِم واستمروا فِي تقهقرهم إِلَى ارباض تبريز فَوَقع الْقِتَال بَين الجيشين فِي وَادي جال دران فِي 2 رَجَب سنة 920 24 اغسطس سنة 1514 فانتصرت الجيوش العثمانية نصرا مُبينًا لمساعدة الطوبجية لَهَا وفر الشاه بِمَا بَقِي من جيوشه وَوَقع كثير من قواده فِي الاسر واسرت ايضا احدى زَوْجَاته وَلم يقبل السُّلْطَان ان يردهَا لزَوجهَا بل زَوجهَا لَاحَدَّ كاتبي يَده انتقاما من الشاه وَفتحت الْمَدِينَة ابوابها ودخلها السُّلْطَان منصورا فِي يَوْم 14 رَجَب سنة 920 4 سبتمبر سنة 1514 وَاسْتولى على خَزَائِن الشاه وارسلها إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَكَذَلِكَ ارسل اليها اربعين شخصا من امهر صناع هَذِه الْمَدِينَة الامر الَّذِي يدل على عدم اغفاله تقدم الصَّنَائِع اثناء اشْتِغَاله بالحروب وَبعد ان استراح ثَمَانِيَة ايام قَامَ بجيوشه واخلى مَدِينَة تبريز لعدم وجود المؤونة الكافية لجيوشه بهَا مقتفيا اثر الشاه اسماعيل حَتَّى وصل إِلَى
(1/190)
________________________________________
شاطئ نهر الرس وَعِنْدهَا امْتنع الانكشارية عَن التَّقَدُّم لاشتداد الْبرد وَعدم وجود الملابس والمؤونة اللَّازِمَة لَهُم فقفل رَاجعا إِلَى مَدِينَة اماسيا بآسيا الصُّغْرَى للاستراحة زمن الشتَاء والاستعداد للحرب فِي اوائل الرّبيع وَمر فِي عودته من بِلَاد ارمينيا لكنه لم يفتحها لعدم وجود الْوَقْت الْكَافِي لذَلِك
وعندما اقبل الرّبيع بنضارته رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الْعَجم فَفتح قلعة كوماش الشهيرة وامارة ذِي الْقدر سنة 1515 ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة تَارِكًا قواده لاتمام فتح الولايات الفارسية الشرقية وَلما وصل اليها امْر بقتل عدد عَظِيم من ضباط الانكشارية الَّذين كَانُوا سَبَب الِامْتِنَاع عَن التَّقَدُّم فِي بِلَاد فَارس كَمَا سبق الذّكر خشيَة من امتداد الْفساد وَعدم الاطاعة فِي الجيوش وامر بقتل قَاضِي عَسْكَر هَذِه الفئة واسْمه جَعْفَر جلبي لانه كَانَ من اكبر المحركين لهَذَا الِامْتِنَاع وخوفا من حُصُول مثل ذَلِك فِي الْمُسْتَقْبل جعل لنَفسِهِ حق تعْيين قائدهم الْعَام وَلم يكن من بَينهم ليَكُون لَهُ بذلك السيطرة عَلَيْهِم وَكَانَ النظام السَّابِق يقْضِي بتعيينه من اقدم ضباط الانكشارية
وَبعد عودة السُّلْطَان إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فتحت الجيوش العثمانية مَدَائِن ماردين واورفه والرقة والموصل وبذل تمّ فتح اقليم ديار بكر واطاعت كَافَّة قبائل الكرد بِدُونِ كثير عناء بِشَرْط بقائهم تَحت حكم رُؤَسَاء قبائلهم
(1/191)
________________________________________
فتح مصر ودخولها ضمن الممالك المحروسة
وَلم ينْتَه السُّلْطَان سليم من محاربة الشِّيعَة وَفتح بِلَاد ديار بكر والموصل حَتَّى اخذ فِي الاستعداد لفتح سلطنة مصر بِمَا ان سلطانها قانصوه الغوري كَانَ تحالف مَعَ الشاه اسماعيل لمحاربة الدولة الْعلية وَلما علم سُلْطَان مصر بتأهب سُلْطَان آل عُثْمَان لمحاربته ارسل اليه رَسُولا يعرض عَلَيْهِ ان يتوسط بَينه وَبَين الْعَجم لابرام الصُّلْح فَلم يقبل بل طرد السفير بعد ان اهانه وَسَار بجيشه إِلَى بِلَاد الشَّام قَاصِدا وَادي النّيل وَكَانَ قانصوه الغوري استعد ايضا لمحاربته فتقابل الجيشان بِقرب حلب الشَّهْبَاء فِي وَاد يُقَال لَهُ مرج دابق وَهزمَ الغوري بِسَبَب وُقُوع الْخلاف بَين فرق جَيْشه الْمُؤلف من المماليك وساعدت المدافع العثمانية على النَّصْر وَقتل الغوري فِي اثناء انهزام الْجَيْش وسنه ثَمَانُون سنة وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم الاحد 25 رَجَب سنة 922 24 اغسطس سنة 1516
وَبعد هَذِه الموقعة احتل السُّلْطَان سليم بِكُل سهولة مَدَائِن حماه وحمص ودمشق وَعين بهَا وُلَاة من طرفه وقابل من بهَا من الْعلمَاء فاحسن وفادتهم وَفرق الانعامات على الْمَسَاجِد وامر بترميم الْجَامِع الاموي بِدِمَشْق وَلما صلى السُّلْطَان الْجُمُعَة بِهِ
(1/192)
________________________________________
اضاف الْخَطِيب عِنْدَمَا دَعَا لَهُ هَذِه الْعبارَة خَادِم الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَهِي مستعملة فِي الْخطْبَة إِلَى الْآن
هَذَا وَلما وصل خبر موت السُّلْطَان الغوري إِلَى مصر انتخب المماليك طومان باي خلفا لَهُ وارسل اليه السُّلْطَان سليم يعرض عَلَيْهِ الصُّلْح بِشَرْط اعترافه بسيادة الْبَاب العالي على الْقطر الْمصْرِيّ فَلم يقبل بل استعد لملاقاة الجيوش العثمانية عِنْد الْحُدُود فالتقت مقدمتا الجيشين عِنْد حُدُود بِلَاد الشَّام وهزمت مُقَدّمَة المماليك واحتل العثمانيون مَدِينَة غَزَّة على طَرِيق مصر وَسَارُوا نَحْو الْقَاهِرَة حَتَّى وصلوا بِالْقربِ مِنْهَا وعسكر السُّلْطَان بجيشه فِي اواخر ذِي الْحجَّة سنة 922 بالخانقاه الْمَعْرُوفَة بالخانكة وَفِي 29 ذِي الْحجَّة سنة 922 22 يناير سنة 1517 انتشب الْقِتَال بَين الطَّرفَيْنِ بِجِهَة العادلي جِهَة الوايلي وَفِي اثناء الْقِتَال قصد طومان باي وَبَعض الشجعان مَرْكَز السُّلْطَان سليم وَقتلُوا من حوله واسروا وزيره سِنَان بك وَقَتله طومان باي بِيَدِهِ ظنا مِنْهُ انه هُوَ السُّلْطَان سليم نَفسه وَلم تَنْفَع شجاعتهم شَيْئا بل تغلب عَلَيْهِم بمدافعه ومدافعهم الَّتِي استولى عَلَيْهَا وَقت الْحَرْب
وَبعد ذَلِك بِثمَانِيَة ايام فِي يَوْم 8 محرم سنة 923 دخل العثمانيون مَدِينَة الْقَاهِرَة رغما عَن مقاومة المماليك الَّذين حاربوهم من شَارِع لآخر وَمن منزل لآخر حَتَّى قتل مِنْهُم وَمن اهالي الْبَلَد مَا يبلغ خمسين الف نسمَة
اما طومان باي فالتجأ وَمن بَقِي مَعَه إِلَى بر الجيزة وَصَارَ يناوش العثمانيين وَيقتل كل من يأسره مِنْهُم لكنه لم يلبث ان وَقع فِي ايدي العثمانيين بخيانة بعض من مَعَه وشنق بامر السُّلْطَان سليم فِي 13 ابريل سنة 1517 21 ربيع الاول سنة 923 بِبَاب زويله وَدفن بالقبر الَّذِي كَانَ اعده السُّلْطَان الغوري لنَفسِهِ وَبعد ان مكث السُّلْطَان سليم بِالْقَاهِرَةِ نَحْو شهر اقام فِي منيل الرَّوْضَة واخذ فِي زِيَارَة جَوَامِع الْمَدِينَة وكل مَا بهَا من الْآثَار ووزع على اعيان الْمَدِينَة العطايا وَالْخلْع السّنيَّة وَحضر الاحتفال الَّذِي يحصل بِمصْر سنويا لفتح الخليج الناصري عِنْد بُلُوغ
(1/193)
________________________________________
النّيل الدرجَة الكافية لري الاراضي المصرية ثمَّ حضر احتفال سفر الْمحمل الشريف وقافلة الْحجَّاج الَّتِي ترسل مَعهَا الْكسْوَة الشَّرِيفَة إِلَى الاراضي الحجازية وارسل الصرة الْمُعْتَاد ارسالها إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين بِقصد توزيعها على الْفُقَرَاء من عهد السُّلْطَان مُحَمَّد جلبي العثماني وابلغها إِلَى ثَمَانِيَة وَعشْرين الف دوكا
وَمِمَّا جعل لفتح وَادي النّيل اهمية تاريخية عظمى ان مُحَمَّد المتَوَكل على الله آخر ذُرِّيَّة الدولة العباسية الَّذِي حضر اجداده لمصر بعد سُقُوط مَدِينَة بَغْدَاد مقرّ خلَافَة بني الْعَبَّاس فِي قَبْضَة هولاكو خَان التتري سنة 656 هـ سنة 1091 م وَكَانَت لَهُ الْخلَافَة بِمصْر اسْما تنازل عَن حَقه فِي الْخلَافَة الاسلامية إِلَى السُّلْطَان سليم العثماني وَسلمهُ الْآثَار النَّبَوِيَّة الشَّرِيفَة وَهِي البيرق وَالسيف والبردة وَسلمهُ ايضا مَفَاتِيح الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَمن ذَلِك التَّارِيخ صَار كل سُلْطَان عثماني اميرا للْمُؤْمِنين وَخَلِيفَة لرَسُول رب الْعَالمين اسْما وفعلا
هَذَا وَقد جَاءَ بالجزء السَّابِع من الخطط الجديدة التوفيقية للمرحوم عَليّ باشا مبارك بِخُصُوص مَا اجراه السُّلْطَان سليم الْغَازِي من الترتبات بِمصْر مَا يَأْتِي
وَلما اخذ مصر وَرَأى غَالب حكامها من المماليك الَّذين ورثوها عَن ساداتهم رأى ان بعد الْولَايَة عَن مَرْكَز الدولة رُبمَا اوجب خُرُوج حاكمها عَن الطَّاعَة وتطلبه الِاسْتِقْلَال فَجعل حُكُومَة مصر منقسمة إِلَى ثَلَاثَة اقسام وَجعل فِي كل قسم رَئِيسا وجعلهم جَمِيعًا منقادين لكلمة وَاحِدَة هِيَ كلمة وَزِير الدِّيوَان الْكَبِير وَجعله مركبا من الباشا الْوَالِي من قبله وَمن بيكوات السَّبع وجاقات وَجعل للباشا مزية توصيل اوامر السُّلْطَان إِلَى الْمجْلس وَحفظ الْبِلَاد وتوصيل الْخراج إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمنع كلا من الاعضاء الْعُلُوّ على صَاحبه وَجعل لاعضاء الْمجْلس مزية نقض اوامر الباشا باسباب تبدو لَهُم وعزله ان رَأَوْا ذَلِك والتصديق على جَمِيع الاوامر الَّتِي تصدر مِنْهُ فِي الامور الداخلية وَجعل حكام المديريات الاربع وَالْعِشْرين من
(1/194)
________________________________________
المماليك وخصهم بمزية جمع الْخراج فِي الْبِلَاد وقمع العربان وصدهم عَنْهَا والمحافظة على مَا فِي داخلها وكل ذَلِك بأوامر تصدر لَهُم من الْمجْلس وجردهم عَن التَّصَرُّف من انفسهم ولقب احدهم الْمُقِيم بِالْقَاهِرَةِ بشيخ الْبَلَد ثمَّ رتب الْخراج وقسمه اقساما ثَلَاثَة وَجعل من الْقسم الاول مَاهِيَّة عشْرين الف عسكري بالقطر من المشاة واثني عشر الْفَا من الخيالة وَالْقسم الثَّانِي يُرْسل إِلَى الْمَدِينَة المنورة وَمَكَّة المشرفة وَالْقسم الثَّالِث يُرْسل إِلَى خزينة الْبَاب العالي وَلم يلْتَفت إِلَى رَاحَة الاهالي بل تَركهَا عرضة للمضار كَمَا كَانَت وَمن هَذَا التَّرْتِيب تمكنت الدولة الْعلية من ابقاء الديار المصرية تَحت تصرفها نَحْو مِائَتي سنة ثمَّ اهملت بعد ذَلِك القوانين الَّتِي وَضعهَا السُّلْطَان سليم من حِين استيلائه عَلَيْهَا وَكَانَت هِيَ الاساس وَلم تلْتَفت الدولة لما كَانَ يحصل من المماليك من الامور المخلة بالنظام فضعفت شَوْكَة الدولة وهيبتها الَّتِي كَانَت لَهَا على مصر واخذ البكوات تكْثر من المماليك وتتقوى بهَا حَتَّى فاقت بقوتها الدولة العثمانية فِي الديار المصرية فآل الامر وَالنَّهْي لَهُم فِي الْحُكُومَة وَصَارَت الدولة صورية غير حَقِيقِيَّة وَسبب ذَلِك اكثارهم من شِرَاء المماليك وَلَو كَانَت الدولة الْعلية تنبهت لهَذَا الامر ومنعت بيع الرَّقِيق لكَانَتْ الامور بَاقِيَة على مَا وَضعهَا السُّلْطَان سليم وَلَكِن غفلت عَن هَذَا الامر كَمَا غفلت عَن امور كَثِيرَة وَمن ذَلِك لحق الاهالي الذل والاهانة وَهَاجَر كثير مِنْهُم إِلَى الديار الشامية والحجازية وَغَيرهمَا وَخَربَتْ الْبِلَاد وتعطلت الزِّرَاعَة من قلَّة المزارعين وَعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الخصب ونتج من ذَلِك وَمن خوف الدولة الْعلية من تمكن الباشا فِي الْحُكُومَة ان تغلبت البكوات وَصَارَت كلمتهم هِيَ النافذة وانفردوا بِالتَّصَرُّفِ اهـ
وَفِي اوائل شهر سبتمبر سنة 1517 سَافر السُّلْطَان سليم من الْقَاهِرَة عَائِدًا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الَّتِي صَارَت من ذَلِك الْوَقْت مقرّ الْخلَافَة الاسلامية الْعُظْمَى وَكَانَ سَفَره عَن طَرِيق بِلَاد الشَّام مستصحبا مَعَه آخر بني الْعَبَّاس وَعين خير بك واليا على مصر وَهُوَ اُحْدُ امراء المماليك الَّذين خانوا طومان باي وانضموا اليه وَترك
(1/195)
________________________________________
بِالْقَاهِرَةِ حامية كَافِيَة لحفظ الامن تَحت قيادة خير الدّين آغا الانكشاري وَفِي اثناء مروره بصحراء الْعَريش الْتفت لوزيره الاكبر يُونُس باشا الَّذِي كَانَ فتح مصر على غير رَأْيه وَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ انه قد اتم فتحهَا خلافًا لرأيه فجاوبه يُونُس باشا بَان فتحهَا لم يعد عَلَيْهِ بِشَيْء الا قتل نَحْو نصف الْجَيْش بِمَا انه سلمهَا لخائن كَانَ غَرَضه التَّمَلُّك عَلَيْهَا لنَفسِهِ فَلَا يُؤمن وَلَاؤُه للدولة فَغَضب السُّلْطَان من هَذَا الْكَلَام الموجه اليه بِصفة لوم وامر بقتْله فِي الْحَال فَقتل وَكَانَ ذَلِك فِي 6 رَمَضَان سنة 923 وَعين مَكَانَهُ بير مُحَمَّد باشا الَّذِي كَانَ معينا قَائِم مقَام السُّلْطَان فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة اثناء تغيبه فِي فتح مصر لِثِقَتِهِ بِهِ بِنَاء على مَا اظهره من اصالة الرَّأْي فِي محاربة الشاه اسماعيل
وَفِي 20 رَمَضَان سنة 923 وصل السُّلْطَان إِلَى مَدِينَة دمشق وَمكث بهَا إِلَى 22 صفر سنة 924 ثمَّ سَافر إِلَى مَدِينَة حلب بعد ان حضر الاحتفال باقامة الصَّلَاة اول مرّة فِي الْجَامِع الَّذِي اقامه بِدِمَشْق على قبر محيي الدّين بن الْعَرَبِيّ فِي 24 محرم سنة 924 25 وَبعد أَن أَقَامَ بحلب مُدَّة شَهْرَيْن سَافر قَاصِدا عَاصِمَة ملكه فوصلها فِي 17 رَجَب سنة 924 25 يوليه سنة 1518 ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى مَدِينَة ادرنه بعد عشرَة ايام قَضَاهَا فِي الاسْتِرَاحَة من اتعاب السّفر وَكَانَ وَلَده سُلَيْمَان معينا حَاكما لَهَا مُدَّة غياب وَالِده وَبعد وُصُول ابيه بِتِسْعَة ايام استأذنه الامير سُلَيْمَان فِي السّفر إِلَى ولَايَة صاروخان الْمعِين واليا عَلَيْهَا
وَفِي اثناء اقامة السُّلْطَان بِمَدِينَة ادرنه وصل اليه سفير من قبل مملكة اسبانيا ليخابره بشأن حريَّة زِيَارَة المسيحيين للقدس الشريف الَّذِي كَانَ قبلا تَابعا لسلطنة مصر وتبعها فِي دُخُولهَا تَحت ظلّ الدولة الْعلية فِي مُقَابلَة دفع الْمبلغ الَّذِي كَانَ يدْفع
(1/196)
________________________________________
سنويا للمماليك فاحسن السُّلْطَان مُقَابلَته وَصرح بقبوله ذَلِك إِذا ارسل ملكه رَسُولا آخر مخولا لَهُ حق ابرام معاهدة مَعَ الْبَاب العالي وَكَذَلِكَ اتى اليه فِيهَا سفير من قبل جمهورية البندقية ليدفع لَهُ خراج سنتَيْن متاخر الْخراج الْمُقَرّر عَلَيْهَا نَظِير بَقَائِهَا فِي جَزِيرَة قبرص
وَكَانَ فِي هَذِه الْمدَّة مشتغلا بتجهيز عمَارَة بحريّة لمعاودة الكرة على جَزِيرَة رودس بحرا وَكَانَ يستعد ايضا لمحاربة شاه الْعَجم ثَانِيًا فَجمع خَمْسَة عشر الف فَارس بِمَدِينَة قيصرية وَضم اليهم ثَلَاثِينَ الف جندي من المشاة تَحت قيادة فرحات باشا بيلر بك الاناطول وارسل اليهم عددا عَظِيما من المدافع والذخائر لَكِن لم يمهله الْمنون ريثما يتم مَشْرُوع فتح جَزِيرَة رودس بل عاجله فِي رحلته من الْقُسْطَنْطِينِيَّة إِلَى ادرنه فَتوفي فِي يَوْم 9 شَوَّال سنة 926 22 سبتمبر سنة 1520 فِي السّنة التَّاسِعَة من حكمه والحادية وَالْخمسين من عمره اذ كَانَت وِلَادَته فِي سنة 975
واخفى طبيبه الخصوصي خبر مَوته عَن الْحَاشِيَة وَلم يبلغهُ الا للوزراء فَاجْتمع كل من بير مُحَمَّد باشا وَاحْمَدْ باشا ومصطفى باشا وقرروا اخفاء هَذَا الامر حَتَّى يحضر وَلَده سُلَيْمَان من اقليم صاروخان خوفًا من ان تثور الانكشارية كَمَا هِيَ عَادَتهم
فَكَانَت مُدَّة حكمه كمدة حكم جده مُحَمَّد الفاتح أَيَّام فتوحات خارجية وتنظيمات داخلية إِلَّا أَنه كَانَ ميالا لسفك الدِّمَاء فَقتل سَبْعَة من وزرائه لأسباب واهية
وَكَانَ كل وَزِير مهدد بِالْقَتْلِ لاقل هفوة حَتَّى صَار يدعى على من يرام مَوته بَان يصبح وزيرا لَهُ وَبنى كثيرا من الْجَوَامِع وحول اجمل كنائس الْقُسْطَنْطِينِيَّة إِلَى مَسَاجِد مَعَ سبق الْوَعْد من السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّانِي الفاتح لبطريق الرّوم بِعَدَمِ مس نصف الْكَنَائِس الثَّانِي الَّذِي تَركه لَهُم بعد فتح الْمَدِينَة كَمَا مر
(1/197)
________________________________________
10
- السُّلْطَان الْغَازِي سُلَيْمَان خَان الاول القانوني
ولد هَذَا الْملك الَّذِي بلغت الدولة الْعلية فِي مدَّته اعلى دَرَجَات الْكَمَال فِي غرَّة شعْبَان سنة 900 هجرية 27 ابريل سنة 1495 م وَهُوَ عَاشر مُلُوك آل عُثْمَان وَلَو عده بعض المؤرخين حادي عشرهم بِاعْتِبَار سُلَيْمَان الَّذِي نَازع اخاه مُحَمَّد جلبي الْملك سُلْطَانا فَذَلِك خطأ لانه لم يحكم بِصفة قانونية وَلذَلِك اجْمَعْ المؤرخين على تَسْمِيَة السُّلْطَان سُلَيْمَان الاول واعتباره عَاشر مُلُوك هَذِه الدولة وَهُوَ الاصح
وبمجرد وُصُول خبر موت ابيه قَامَ قَاصِدا الْقُسْطَنْطِينِيَّة ودخلها فِي يَوْم 16 شَوَّال سنة 926 29 سبتمبر سنة 1520 وَكَانَ فِي انْتِظَاره على افريز السراي جنود الانكشارية فقابلوه بالتهليل وَطلب الْهَدَايَا الْمُعْتَاد توزيعها عَلَيْهِم عِنْد تَوْلِيَة كل ملك وَبعد ظهر ذَلِك الْيَوْم حضر بير مُحَمَّد باشا من ادرنه وَاخْبَرْ عَن وُصُول جثة المرحوم السُّلْطَان سليم فِي الْيَوْم التَّالِي
وَفِي صَبِيحَة 17 شَوَّال جرت رسوم المقابلات السُّلْطَانِيَّة فوفد الامراء والوزراء والاعيان يعزون السُّلْطَان بِمَوْت وَالِده ويهنؤنه بالخلافة فِي آن وَاحِد وَهُوَ يقابلهم بملابس الْحداد وَعند الظّهْر وصل اليه خبر قدوم الجثة فَخرج لمقابلة النعش خَارج الْمَدِينَة وَسَار فِي الْجِنَازَة حَتَّى واروها التُّرَاب على اُحْدُ مرتفعات الْمَدِينَة وامر بِبِنَاء جَامع شَاهِق وَهُوَ جَامع سليمية ومدرسة فِي الْمحل الَّذِي دفن فِيهِ
وَكَانَت باكورة اعماله بعد توزيع النُّقُود على الانكشارية تعْيين مربيه قَاسم باشا مستشارا خَاصّا وابلاغ تَوليته على عرش الْخلَافَة الْعُظْمَى إِلَى كَافَّة الْوُلَاة واشراف مَكَّة وَالْمَدينَة بخطابات مفعمة بالنصايح والآيات القرآنية المبينة فضل الْعدْل والقسط فِي الاحكام ووخامة عَاقِبَة الظُّلم وَكَانَ يستهل خطاباته بِالْآيَةِ الشَّرِيفَة {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
(1/198)
________________________________________
وَلما وصل خبر تَوليته إِلَى حَاكم الشَّام واسْمه الْغَزالِيّ وَهُوَ من اصحاب قانصوه الغوري الَّذين خانوه فِي وَاقعَة مرج دابق تمرد واشهر الْعِصْيَان وَاسْتولى على قلعة دمشق وارسل اُحْدُ اتِّبَاعه لاحتلال مَدِينَة بيروت واجتهد فِي استمالة خير بك الْعَامِل على مصر اليه وارسل اليه جَوَابا يحثه فِيهِ عل الْعِصْيَان مُبينًا لَهُ سهولة النجاح بِالنّظرِ إِلَى بعدهمْ عَن مقرّ الْخلَافَة وحداثة سنّ السُّلْطَان فجاوبه خير بك بانه لَا يشْتَرك مَعَه الا إِذا استولى على مَدِينَة حلب وَلم يكن جَوَابه هَذَا الا مداهنة وخداعا فانه ارسل خطابات الْغَزالِيّ إِلَى السُّلْطَان فعين السُّلْطَان فرحات باشا اُحْدُ وزرائه لقمع هَذَا المتمرد وَمَعَهُ جَيش كَاف لاخماد هَذِه الثورة قبل امتدادها
فَسَار فرحات باشا بِكُل همة فِي اواخر ذِي الْحجَّة سنة 926 نوفمبر سنة 1520 وَوصل إِلَى حلب فِي 22 دسمبر وَكَانَ الْغَزالِيّ اذ ذَاك محاصرا لَهَا فَارْتَد على عَقِبَيْهِ بِدُونِ قتال عَائِدًا إِلَى دمشق وتحصن فِيهَا فتاثره فرحات باشا بجُنُوده وحاصره فِيهَا وَفِي يَوْم 17 صفر سنة 927 27 يناير سنة 1521 خرج الْغَزالِيّ من الْمَدِينَة طلبا لِلْقِتَالِ فَهزمَ وَقتل اغلب من كَانَ مَعَه وفر هُوَ متنكرا لَكِن خانه بعض اتِّبَاعه وَسلمهُ إِلَى فرحات باشا فَقتله فِي 8 صفر وارسل راسه إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة
فتح مَدِينَة بلغراد
وَعند وُصُول راسه إِلَى العاصمة ورد خبر قتل السفير الَّذِي ارسله السُّلْطَان إِلَى ملك المجر يطْلب مِنْهُ دفع الْجِزْيَة اَوْ الْحَرْب فاستشاط السُّلْطَان غَضبا وامر بتجهيز الجيوش وَجمع كل مَا يلْزمهُم من الْمُؤْنَة والذخائر لمحاربة المجر وَسَار هُوَ بِنَفسِهِ فِي مُقَدّمَة الْجَيْش وارسل اُحْدُ مشاهير قواده واسْمه احْمَد باشا لمحاصرة مَدِينَة شابتس الْقَرِيبَة من بلغراد فَفَتحهَا فِي 2 شعْبَان سنة 927 وَوصل
(1/199)
________________________________________
اليها السُّلْطَان فِي الْيَوْم التَّالِي ثمَّ سَافر بالجيوش الَّتِي كَانَت مشتغلة بحصار هَذِه الْمَدِينَة لمساعدة وزيره بير مُحَمَّد باشا على تضييق الْحصار على مَدِينَة بلغراد ففتحت بعد دفاع شَدِيد واخلت الْجنُود المجرية قلعتها فِي 25 رَمَضَان سنة 927 29 اغسطس سنة 1521 ودخلها السُّلْطَان وَصلى الْجُمُعَة فِي احدى كنائسها الَّتِي حولت مَسْجِدا وَصَارَت هَذِه الْمَدِينَة الَّتِي كَانَت امْنَعْ حصن للمجريين ضد تقدم الدولة الْعلية اكبر مساعد لَهَا على فتح مَا وَرَاء نهر الدانوب من الاقاليم والبلدان واعلن السُّلْطَان هَذَا الِانْتِصَار إِلَى جَمِيع الْوُلَاة وملوك اوروبا وَرَئِيس جمهورية البنادقة ثمَّ عَاد إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة مكللا بالنصر وَالظفر على الاعداء وارسل اليه قَيْصر الروس يهنئه بالفوز وَالظفر وَكَذَلِكَ رُؤَسَاء جمهوريتي البندقية وراجوزة
وَفِي اول محرم سنة 928 امضيت بَين الدولة العثمانية وجمهورية البنادقة معاهدة تجارية تؤيد المعاهدات السَّابِقَة وَزيد عَلَيْهَا ان وَكيل الجمهورية فِي الاستانة قنصلها يجب تَغْيِيره كل ثَلَاث سنوات وان قضايا التركات تنظر بطرفه وان يكون لَهُ الْحق فِي ارسال ترجمان لحضور المرافعة فِي القضايا الَّتِي تُقَام ضد رعايا حكومته امام المحاكم العثمانية وان يكون الْخراج الَّذِي يدْفع مِنْهَا إِلَى الدولة نَظِير احتلالها جزيرتي قبرص وزانطة عشرَة آلَاف دوكا عَن الاولى وَخَمْسمِائة
(1/202)
________________________________________
عَن الثَّانِيَة ولهذه المعاهدة اهمية عظمى لانها اساس الامتيازات القنصلية بِبِلَاد الدولة الْعلية
فتح جَزِيرَة رودس
وَبعد ذَلِك اخذ السُّلْطَان فِي الاستعداد برا وبحرا لفتح جَزِيرَة رودس الَّتِي لم يتَمَكَّن السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح من فتحهَا لتَكون حَلقَة اتِّصَال بَين الْقُسْطَنْطِينِيَّة ومصر من جِهَة الْبَحْر ولكي لَا يكون للمسيحيين مَرْكَز حُصَيْن فِي وسط بِلَاده تلجأ إِلَيْهِ عمارات الدول المعادية للدولة وَقت الْحَرْب واراد الاسراع فِي تتميم هَذَا الْعَمَل الْعَظِيم الَّذِي عجز عَنهُ لوُجُود مُلُوك أوروبا مشتغلين فِي جِهَات اخرى لَا يُمكنهُم مساعدة الرهبنة المحتلة لَهَا فَكَانَ ملك فرانسا فرانسوا
(1/203)
________________________________________
الاول وشارل الْخَامِس الشهير بشارلكان ملك اسبانيا والمانيا مَعًا مشتغلين بمحاربة بعضهما والبابا لاون الْعَاشِر مشتغلا بمجادلة ومقاومة الراهب الالماني لوثر مؤسس مَذْهَب البروتستانت وبلاد المجر مضطربة فِي الدَّاخِل بِسَبَب
(1/204)
________________________________________
عدم اتِّفَاق امرائها واعيانها وَصغر سنّ ملكهَا لويس الثَّانِي كل هَذِه الاسباب حملت السُّلْطَان على انتهاز هَذِه الفرصة لفتح هَذَا الْحصن المنيع لَكِن اقْتَضَت شفقته ان يُرْسل إِلَى رَئِيس الرهبنة قبل الشُّرُوع فِي الْحَرْب كتابا يعرض عَلَيْهِ اخلاء الجزيرة والانسحاب مِنْهَا بِكُل من مَعَه من المسيحيين الَّذين يؤثرون المهاجرة على الْبَقَاء متعهدا لَهُ بِعَدَمِ التَّعَرُّض لانفسهم ولاموالهم وَلما لم يقبل رئيسهم هَذَا الاقتراح امْر السُّلْطَان الْعِمَارَة البحرية فاقلعت قاصدة رودس وسافر هُوَ من طَرِيق الْبر إِلَى خليج مرمورا الْمُقَابل للجزيرة من جِهَة آسيا فوصلتها الدونانمة فِي 26 يونيه سنة 1522 وارسلت إِلَى الْبر مدافع الْحصار وامؤنة والذخائر وَوصل اليها السُّلْطَان فِي 28 يوليه وبمجرد وُصُوله ابْتَدَأَ الْحصار بغاية الشدَّة ودافع من بهَا دفاع الابطال خُصُوصا الرهبان وَيُقَال ان النِّسَاء كَانَت تساعد الرِّجَال فِي الدفاع بالقاء الاحجار على المحاصرين وصب الزيوت الحارة على رُؤْسهمْ لَكِن لم يجد كل ذَلِك شَيْئا امام المدافع العثمانية الَّتِي تُوجد بعض قللها إِلَى الْآن فِي الجزيرة يستغرب رائيها من ضخامتها وَلما اعيت الْحِيَل رَئِيس هَذِه الرهبنة واسْمه فيليه
(1/205)
________________________________________
دي ليل ادام الفرنساوي الاصل ونفدت مُؤْنَته وذخائره ارسل اثْنَيْنِ من رهبانه إِلَى السُّلْطَان فِي 2 صفر سنة 929 21 دسمبر سنة 1522 يطْلب مِنْهُ السماح لَهُم باخلاء الجزيرة فِي مُدَّة اثْنَي عشر يَوْمًا بِشَرْط ان تبتعد الجيوش العثمانية عَن الْمَدِينَة المحصورة مَسَافَة ميل من كل جهاتها حَتَّى لَا يحصل للمحصورين ضَرَر عِنْد خُرُوجهمْ فَقبل السُّلْطَان ذَلِك لَكِن فِي 5 مِنْهُ دخل الْمَدِينَة فريق من الانكشارية رغم اوامر السُّلْطَان واحتلوا الْمَدِينَة وارتكبوا كَافَّة انواع القبائح حسب عَادَتهم فَغَضب السُّلْطَان وامر بمراعاة شُرُوط التَّسْلِيم وعاقب المفسدين فاعيد الامن وسادت السكينَة وَفِي الْيَوْم التَّالِي قَابل السُّلْطَان رَئِيس الرهبنة وانعم عَلَيْهِ بخلعة سنية وَفِي يَوْم 13 صفر سنة 929 اول يناير سنة 1523 سَافَرت هَذِه الفئة الممحضة نَفسهَا للدفاع عَن الدّين المسيحي ومحاربة الْمُسلمين قاصدة جَزِيرَة مالطة الَّتِي تنازل لَهَا عَنْهَا الْملك شارلكان واستمرت هَذِه الرهبنة نازلة بهَا حَتَّى احتلها بونابرت عِنْد قدومه مصر سنة 1213 هـ سنة 1798 م
وَبعد ذَلِك عَاد السُّلْطَان إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة ووفد اليها سفراء من قبل الروسيا والبندقية لتهنئته بالنصر وارسل اليه ايضا ملك الْعَجم سفيرا لهَذَا الْغَرَض وارسل مَعَه خَمْسمِائَة فَارس وَلما وصل إِلَى الاستانة امْر السُّلْطَان ان لايدخلها مَعَه الاعشرون فَقَط وَفِي شهر يونيه سنة 1523 عزل الْوَزير الاول أَي الصَّدْر الاعظم بير مُحَمَّد باشا بِنَاء على دسائس الْوَزير احْمَد باشا طَمَعا فِي وظيفته لَكِن خَابَ مسعاه فقد عين
(1/206)
________________________________________
السُّلْطَان مَكَانَهُ اُحْدُ خواصه ابراهيم باشا وَعين احْمَد باشا واليا على مصر لوفاة خير بك فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ فِيهِ السُّلْطَان محاصرا لجزيرة رودس وَلما وصل احْمَد باشا إِلَى الْقَاهِرَة اخذ فِي استمالة من بَقِي من امراء المماليك اليه باقطاعهم الاراضي واغضائه عَمَّا يرتكبون مِنْهُ انواع الاثام والمظالم وَلما تحقق من اخلاصهم اعلن الْعِصْيَان مرّة وَاحِدَة وَاسْتولى على القلعة بعد قتل حاميتها فارسل اليه السُّلْطَان امرا بعزله من ولَايَة مصر وبالعود إِلَى الاستانة وَتَسْلِيم الْولَايَة لخلفه قره مُوسَى فَقتل الرَّسُول وقره مُوسَى الْوَالِي الْجَدِيد ثمَّ خانه اُحْدُ وزرائه اسْمه مُحَمَّد بك واراد الْقَبْض عَلَيْهِ فهرب واختفى عِنْد عرب الْبَادِيَة فاقتفى اثره حَتَّى ضَبطه وَقَتله وارسل راسه إِلَى الاستانة فعين بدله قَاسم باشا الْوَالِي الاسبق وكوفئ مُحَمَّد بك بتقليده وَظِيفَة دفتردار الْولَايَة سنة 1524
وَفِي 24 رَجَب سنة 930 28 مايو سنة 1524 ولد للسُّلْطَان غُلَام سمي سليما وَهُوَ الَّذِي خَلفه باسم سليم الثَّانِي وَفِي 2 شعْبَان 5 يونيه احتفل بالاستانة بزواج الصَّدْر الاعظم من الانكشارية والسيباه الفرسان السَّوَارِي لارجاع الامن إِلَى ربوعها وترتيب ماليتها وتننظيم امورها فسافر وَوصل اليها فِي 24 مارس سنة 1525 واقام بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى اتم ماموريته وغادرها فِي 22 شعْبَان سنة 931 14 يونيه سنة 1525 قَاصِدا الاستانة عَن طَرِيق الْبر مارا بِدِمَشْق وقيصرة وَوصل الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي 7 سبتمبر من السّنة نَفسهَا وقوبل بِكُل اجلال واحترام لعلو مَنْزِلَته عِنْد السُّلْطَان
تدَاخل الدولة الْعلية فِي بِلَاد القرم والفلاخ وفتنة الانكشارية
وَفِي هَذِه الاثناء حصلت بعض فتن داخلية فِي بِلَاد القرم وَذَلِكَ ان غَازِي وبابا وَلَدي مُحَمَّد كراي خَان القرم ثارا على والدهما وعمهما فَقَتَلَاهُمَا سنة 929 سنة 1522 م وتقلد غَازِي كراي اكبرهما الامارة وَجعل اخاه وزيرا لَهُ لَكِن لم يقبل السُّلْطَان ذَلِك بل عين عَمهمَا سعادت كراي خَانا بدل اخيه مُحَمَّد كراي الْمَقْتُول وامده بِجَيْش من الانكشارية فَقبل غَازِي تعْيين عَمه وَصَارَ هُوَ وزيرا لَهُ وَبعد ذَلِك بِسِتَّة اشهر قتل غَازِي واخوه بَابا بامر عمهم سعادت وَفِي سنة
(1/207)
________________________________________
938 - سنة 1531 قَامَ اخوهما اسلام كراي وَاسْتولى على الامارة وفر سعادت إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمكث بهَا حَتَّى توفّي سنة 944 سنة 1537 وَدفن بِجَامِع ابي ايوب بالاستانة وَكَانَت نتيجة هَذِه الْفِتَن زِيَادَة تدخل الدولة الْعلية فِي امور بِلَاد القرم حَتَّى فِي تعْيين امرائها وَصَارَت بذلك ولَايَة عثمانية تَقْرِيبًا
وَفِي سنة 1524 اراد السُّلْطَان ان يَجْعَل اقليم الفلاخ ولَايَة عثمانية وَلم يكن للدولة عَلَيْهِ اذ ذَاك الا السِّيَادَة والجزية فسير اليه جَيْشًا استولى على عاصمتها وعَلى اميرها وارسلوه إِلَى الاستانة فثار الاعيان وعينوا خلفا لَهُ وساعدهم على ذَلِك امير اقليم ترنسلفانيا المجاور لَهُ فَقبل السُّلْطَان من عينوه فِي مُقَابلَة زِيَادَة الْجِزْيَة عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ
هَذَا وَفِي 25 مارس سنة 1525 تذمر الانكشارية بعد عودة السُّلْطَان من مَدِينَة ادرنة الَّتِي كَانَ توجه اليها للاقامة بهَا فِي فصل الشتَاء ونهبوا سراي ابراهيم باشا الصَّدْر الاعظم الَّذِي كَانَ اذ ذَاك بِمصْر وَمحل الجمرك وعدة اماكن اخرى من منَازِل الاعيان وحارة الْيَهُود وَلَوْلَا ان تدارك السُّلْطَان الْخطب بِنَفسِهِ لامتد الْعِصْيَان لكنه اسكتهم عَن السَّلب والنهب بتوزبع الف دوكا عَلَيْهِم ثمَّ بعد ذَلِك عزل بعض رُؤَسَائِهِمْ الَّذين كَانُوا سَبَب هَذَا الْعِصْيَان وَقتل بَعضهم
ابْتِدَاء المخابرات والمراسلات بَين الدولة الْعلية وَملك فرانسا
وَفِي ذَلِك الْعَهْد ابتدأت المخابرات بَين ملك فرانسا والدولة الْعلية وَذَلِكَ ان شارلكان ملك النمسا كَانَ فِي آن وَاحِد ملكا لاسبانيا والبلاد المنخفضة هولاندا وامبراطورا لالمانيا وحاكما لجزء عَظِيم من ايطاليا الجنوبية وَكَانَت جمهوريتا جنوا وفلورنسا تابعتين اليه وجمهورية البنادقة طوع امْرَهْ ومدينة وهران باقليم جزائر الغرب تَابِعَة لَهُ وَكَذَلِكَ جَزِيرَة مينورقة وجزيرة صقلية فَكَانَت
(1/208)
________________________________________
املاكه مُحِيطَة بمملكة فرانسا من جَمِيع الْجِهَات الا من جِهَة الْبَحْر
وَلذَلِك سعى فرنسيس الاول ملك فرانسا فِي التَّحَالُف مَعَ دولة آل عُثْمَان والاتحاد مَعهَا على محاربة شارلكان لتحاربه الدولة الْعلية من جِهَة المجر والنمسا وتشغله عَن جيوش فرانسا من جِهَة الغرب فيتمكن ملك فرانسا بذلك من الاخذ بثأر وَاقعَة بافيا بايطاليا الَّتِي اخذ فِيهَا فرنسيس الاول اسيرا
وَيظْهر من سعي فرانسا فِي استمالة الدولة الْعلية الاسلامية اليها وبذل الْجهد فِي محالفتها مَعَ كَون فرانسا مُعْتَبرَة لَدَى البابا اول الدول الكاثولكية واهمها مُحَافظَة عل عدم تقدم الاسلام باوروبا ان الدولة العثمانية بلغت فِي ذَلِك الْوَقْت شَأْنًا عَظِيما لم تبلغه من قبل وَصَارَ وجودهَا ضَرُورِيًّا لحفظ التوازن السياسي باوروبا
واول سفير ارسل من قبل فرانسا إِلَى الْبَاب العالي ارسلته الملكة لويز زَوْجَة فرنسيس الاول حَالَة وجوده ماسورا فِي بِلَاد اسبانيا لَكِن لم يصل هَذَا السفير إِلَى الْبَاب العالي بل قبض عَلَيْهِ حَاكم بوسنه اثناء مروره قَاصِدا الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَقَتله هُوَ واتباعه وَفِي اواخر سنة 1525 ارسل سفير آخر وَهُوَ جَان فرنجباني وَوصل الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمَعَهُ جَوَاب من ملك فرانسا إِلَى جلالة السُّلْطَان الْأَعْظَم يطْلب مِنْهُ بِكُل تواضع أَن يهاجم ملك المجر أحد حلفاء شارلكان حَتَّى يمنعهُ من مساعدته وَيُمكن فرانسا بذلك ان تنتصر على شارلكان وتسترد مَا سلبه مِنْهَا من الشّرف فِي وَاقعَة بافيا
وقابل السُّلْطَان سُلَيْمَان السفير الفرانساوي فِي 6 دسمبر سنة 1525 باحتفال زَائِد واجزل لَهُ العطايا وَبعد ان عرض عَلَيْهِ السفير مطَالب ملكه وعده السُّلْطَان بمحاربة المجر لَكِن لم تمض بَينهمَا معاهدة بل اكْتفى السُّلْطَان بَان كتب لملك فرانسا بتاريخ اوائل ربيع الثَّانِي سنة 932 جَوَابا يظْهر لَهُ فِيهِ استعداده لمساعدته وَهَذِه صورته نقلا عَن تَرْجَمَة الْجُزْء الاول من تَارِيخ جودت باشا
الله الْعلي الْمُعْطِي الْمُغنِي الْمعِين
بعناية حَضْرَة عزة الله جلت قدرته وعلت كَلمته وبمعجزات سيد زمرة الانبياء
(1/209)
________________________________________
وقدوة فرقة الاصفياء مُحَمَّد الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَثِيرَة البركات وبمؤازرة قدس ارواح حماية الاربعة ابي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم اجمعين وَجَمِيع اولياء الله انا سُلْطَان السلاطين وبرهان الخواقين متوج الْمُلُوك ظلّ الله فِي الارضين سُلْطَان الْبَحْر الابيض وَالْبَحْر الاسود والاناضول والروملي وقرمان الرّوم وَولَايَة ذِي الْقَدَرِيَّة وديار بكر وكردستان واذربيجان والعجم وَالشَّام وحلب ومصر وَمَكَّة وَالْمَدينَة والقدس وَجَمِيع ديار الْعَرَب واليمن وممالك كَثِيرَة ايضا الَّتِي فتحهَا آبَائِي الْكِرَام واجدادي الْعِظَام بقوتهم الْقَاهِرَة انار الله براهينهم وبلاد اخرى كَثِيرَة افتتحتها يَد جلالتي بِسيف الظفر انا السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان بن السُّلْطَان سليم خَان بن السُّلْطَان بايزيد خَان إِلَى فرنسيس ملك ولَايَة فرنسا وصل إِلَى اعتاب ملْجأ السلاطين الْمَكْتُوب الَّذِي ارسلتموه مَعَ تابعكم فرانقبان النشيط مَعَ بعض الاخبار الَّتِي اوصيتموه بهَا شفاهيا واعلمنا ان عَدوكُمْ استولى على بِلَادكُمْ وانكم الْآن محبوسون وتستدعون من هَذَا الْجَانِب مدد الْعِنَايَة بِخُصُوص خلاصكم وكل ماقلتموه عرض على اعتاب سَرِير سدتنا الملوكانية واحاط بِهِ علمى الشريف على وَجه التَّفْصِيل فَصَارَ بِتَمَامِهِ مَعْلُوما فَلَا عجب من حبس الْمُلُوك وضيقهم فَكُن منشرح الصَّدْر وَلَا تكن مَشْغُول الخاطر فان آبَائِي الْكِرَام واجدادي الْعِظَام نور الله مراقدهم لم يَكُونُوا خالين من الْحَرْب لاجل فتح الْبِلَاد ورد الْعَدو وَنحن أَيْضا سالكون على طريقتهم وَفِي كل وَقت نفتح الْبِلَاد الصعبة والقلاع الحصينة وخيولنا لَيْلًا وَنَهَارًا مسروجة وسيوفنا مسلولة فَالْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ييسر الْخَيْر بارادته ومشيئته واما بَاقِي الاحوال والاخبار تفهمونها من تابعكم الْمَذْكُور فَلْيَكُن معلومكم هَذَا تحريرا فِي اوائل شهر آخر الربيعين سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة بمقام دَار السلطنة الْعلية الْقُسْطَنْطِينِيَّة المحروسة المحمية
فتح بِلَاد المجر وعاصمتها
وَفِي 25 ابريل سنة 1526 سَافر السُّلْطَان سُلَيْمَان من الْقُسْطَنْطِينِيَّة لمحاربة المجر الَّذين كَانَت الْحَرْب غير مُنْقَطِعَة بَينهم وَبَين العثمانيين على التخوم وَكَانَ الْجَيْش
(1/210)
________________________________________
213 - العثماني مؤلفا من نَحْو مائَة الف جندي و 300 مدفع و 800 سفينة فِي نهر الطونة لنقل الجيوش من بر إِلَى آخر فَسَار الْجَيْش تَحت قيادة السُّلْطَان ووزرائه الثَّلَاثَة إِلَى بِلَاد المجر من طَرِيق الصرب مارين بقلعة بلغراد الَّتِي جعلت قَاعِدَة لاعمالهم الحربية
وَبعد ان افْتتح الْجَيْش عدَّة قلاع ذَات اهمية حربية على نهر الطونة وصل باجمعه إِلَى وَادي موهاكس فِي 20 ذِي الْقعدَة سنة 932 28 اغسطس سنة 1526 وَفِي الْيَوْم الثَّانِي اصطفت الْجنُود العثمانية على ثَلَاثَة صُفُوف وَكَانَ السُّلْطَان وَمَعَهُ كَافَّة المدافع وَفرْقَة الانكشارية فِي الصَّفّ الثَّالِث فهجم فرسَان المجر المشهورون بالبسالة والاقدام تَحت قيادة السُّلْطَان لويس على صُفُوف العساكر العثمانية الاول فتقهقر امامهم العثمانيون خلف المدافع وَلما وصلت فرسَان المجر بِالْقربِ من المدافع امْر السُّلْطَان باطلاقها عَلَيْهِم فاطلقت تباعا وتوالى اطلاقها بِسُرْعَة غَرِيبَة اوقعت الرعب فِي قُلُوب المجر فاخذوا فِي التقهقر تتبعهم العساكر المظفرة حَتَّى قتل اغلب الفرسان المجرية وَقتل ملكهم وَلم يعثر على جثته فَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة سَبَب ضيَاع اسْتِقْلَال بِلَاد المجر باسرها لعدم وجود حيش آخر يُقَاوم العثمانيين فِي مَسِيرهمْ ولحصول الفوضى فِي الْبِلَاد بِسَبَب موت سلطانهم وَلذَلِك ارسل اهالي مَدِينَة بود عَاصِمَة المجر مَفَاتِيح الْمَدِينَة إِلَى السُّلْطَان فاستلمها وَسَار يحف
(1/211)
________________________________________
بِهِ النَّصْر ويحدوه الْجلَال حَتَّى وصل إِلَى مَدِينَة بود ودخلها فِي 3 ذِي الْحجَّة سنة 932 10 سبتمبر سنة 1526 مشددا الاوامر على الْجنُود بِعَدَمِ التَّعَرُّض للاهالي والمحافظة على النظام لَكِن لم تَجِد تنبيهاته شَيْئا بل انتشرت الْجنُود فِي جَمِيع انحاء الْمَدِينَة وَفِي جَمِيع ارجاء بِلَاد المجر ناهبين قاتلين مرتكبين كل الفظائع الَّتِي ترتكبها الجيوش الْغَيْر منتظمة عقب الِانْتِصَار كَمَا شوهد ذَلِك فِي جَمِيع الْبِلَاد حَتَّى فِي هَذَا الْعَصْر الموسوم بعصر التمدن
وَبعد دُخُول السُّلْطَان إِلَى مَدِينَة بود جمع اعيان الْقَوْم وامراءهم وَوَعدهمْ بَان يعين جَان زابولي امير ترانسلفانيا ملكا عَلَيْهِم ثمَّ غادر رَحمَه الله إِلَى مقرّ خِلَافَته مستصحبا مَعَه كثيرا من نفائس الْبِلَاد واهمها الْكتب الَّتِي كَانَت مَوْجُودَة فِي خَزَائِن متياس كورفن وَكَذَلِكَ فعل نابليون الشهير حينما دخل مصر فِي اوائل الْقرن الثَّالِث عشر من الْهِجْرَة فانه اخذ كثيرا من كتب الْفِقْه واحكام الشَّرِيعَة الغراء وَتلك كَانَت عَادَته عِنْد دُخُوله أَي مملكة من ممالك اوروبا فانه كَانَ يحمل إِلَى فرانسا كل مَا بهَا من التحف كالصور والتماثيل والكتب والْآثَار وَلَوْلَا هَذِه الْعَادة لما افعمت متاحفها بالآثار والنفائس
وَفِي اثناء عودته اقام اسبوعا فِي مَدِينَة ادرنه وَوصل إِلَى مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة المحمية فِي 17 صفر سنة 933 23 نوفمبر سنة 1526
(1/214)
________________________________________
اغارة ملك النمسا على المجر وفتحه مَدِينَة بود وانتصار العثمانيين عَلَيْهِ واسترجاع المجر
وَفِي اواخر سنة 1527 ادّعى فردينان ملك النمسا وَهُوَ اخو شارلكان الشهير الاحقية فِي ان يكون ملكا على بِلَاد المجر بِسَبَب قرَابَته مَعَ الْملك لويس الَّذِي قتل فِي وَاقعَة موهاكس وَسَار بجُنُوده لمحاربة جَان زابولي امير ترنسلفانيا الَّذِي عينه السُّلْطَان سُلَيْمَان ملكا على بِلَاد المجر وهزمه فارسل زابولي إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان يستنجده على منازعه فِي الْملك وَوصل رَسُوله إِلَى الْبَاب العالي وقابل السُّلْطَان فِي 3 فبراير سنة 1568 فوعده السُّلْطَان بمساعدته وامضيت معاهدة بذلك بتاريخ 29 فبراير سنة 1528 وَبِنَاء على هَذَا الِاتِّفَاق اصدر السُّلْطَان الاوامر إِلَى جَمِيع الْجِهَات بالاستعداد للحرب وَجمع الجيوش والذخائر وَعين وزيره الاول ابراهيم باشا السَّابِق ذكره مرَارًا سر عَسْكَر للجيش أَي قائدا عَاما لَهُ مُكَافَأَة لَهُ على خدماته الجليلة فِي مصر حِين ارسل اليها لترتيب احوالها وَلما اظهره من المعلومات العسكرية فِي وَاقعَة موهاكس الاخيرة وَبعد ذَلِك بِسنة تَقْرِيبًا سَافر السُّلْطَان سُلَيْمَان من الاستانة قَاصِدا محاربة المجر فِي 10 مايو سنة 1529 يَقُود جَيْشًا مؤلفا من مِائَتَيْنِ وَخمسين الف جندي وَنَحْو ثَلَاثمِائَة مدفع وَوصل إِلَى مَدِينَة فيليبه فِي 12 شَوَّال سنة 936 9 يونيه سنة 1529 وَمِنْهَا إِلَى مَدِينَة موهاكس حَيْثُ اتى زابولي لمقابلة السُّلْطَان فقابله فِي 16 ذِي الْحجَّة سنة 936 20 يوليه سنة 1529 محاطا بوزرائه الثَّلَاثَة ابراهيم باشا واياس باشا وقاسم باشا وبكافة القواد وَبعد ان مكث زابولي ملك المجر بِحَضْرَتِهِ الْعلية وقتا قَلِيلا اذن لَهُ السُّلْطَان بالانصراف بعد ان اعطاه ثَلَاثَة من الْخُيُول المطهمة وَثَلَاث خلع سنية
ابْتِدَاء الحروب مَعَ النمسا وحصار ويانه عاصمتها اول دفْعَة
ثمَّ سَار الْخَلِيفَة الاعظم إِلَى مَدِينَة بود عَاصِمَة المجر الَّتِي كَانَ فردينان ملك النمسا محتلا لَهَا فوصلها فِي 3 سبتمبر وابتدأ الْحصار لَكِن لم يلبث فردينان
(1/215)
________________________________________
ان فر هَارِبا من بود قَاصِدا مَدِينَة ويانه عَاصِمَة النمسا وَفِي 8 مِنْهُ طلب قَائِد الحامية النمساوية بِمَدِينَة بود تَسْلِيم الْمَدِينَة وقلاعها إِذا وعدهم السُّلْطَان بالسماح لَهُم بِالْخرُوجِ بِدُونِ تعرض لحياتهم وَلما اجابهم السُّلْطَان لذَلِك اخلوا الْمَدِينَة وَفِي حَال خُرُوجهمْ مِنْهَا انقض عَلَيْهِم الانكشارية وَقتلُوا اغلبهم غير طائعين لاوامر رُؤَسَائِهِمْ مهددين من رغب فِي مَنعهم من القواد والضباط وَبعد ذَلِك بسبعة ايام أَي فِي يَوْم 15 مِنْهُ ارسل السُّلْطَان اُحْدُ قواد الانكشارية ليرافق زابولي إِلَى الْقصر الملوكي ويقلده تَاج الملوكية
وَبعد اعادة زابولي إِلَى عرش ملك بِلَاد المجر بمساعدة الجيوش العثمانية قَامَ السُّلْطَان بجيوشه قَاصِدا مَدِينَة ويانه لغزوها مستصحبا مَعَه الْملك زابولي تَارِكًا فِي مَدِينَة بود حامية عثمانية تَحت قيادة اُحْدُ أغاوات ضباط الانكشارية لحفظ الامن بهَا وتوطيده فِي جَمِيع انحائها إِلَى ان يعود الْملك زابولي اليها وَفِي 27 سبتمبر من السّنة الْمَذْكُورَة وصل السُّلْطَان سُلَيْمَان بجيوشه امام عَاصِمَة بِلَاد النمسا وَوضع الْحصار حولهَا وسلط مدافعه على اسوارها فهدم جُزْءا مِنْهَا وَفتح بهَا ثلمًا صَار توسيعه بألغام البارود حَتَّى صَار يُمكن الجيوش الهجوم مِنْهُ بِكُل سهولة ثمَّ امْر الْجنُود بالهجوم فهجمت كالاسود فِي ايام 10 و 11 و 12 اكتوبر واخيرا فِي يَوْم 20 صفر سنة 937 هـ 13 اكتوبر سنة 1539 وَبعد ان اسْتمرّ الْقِتَال طول
(1/216)
________________________________________
يَوْمه عَادَتْ الْجنُود العثمانية إِلَى معسكرها بِدُونِ ان تقوى على الدُّخُول فِي الْمَدِينَة وَلما رأى السُّلْطَان ان ذخيرة الطوبجية الَّتِي عَلَيْهَا الْمعول فِي الْحصار قد نفدت والشتاء قد اقبل بشدته وثلوجه الْمَعْهُودَة فِي هَذِه الْجِهَات الشَّدِيدَة الْبُرُودَة اصدر اوامره بِالرُّجُوعِ عَن ويانه هَذِه السّنة واعداد الجيوش لمعاودة الكرة عَلَيْهَا فِي اقْربْ وَقت وَكَانَت هَذِه هِيَ الْمرة الاولى الَّتِي لم يفز السُّلْطَان سُلَيْمَان بالنصر فِيهَا وَمر فِي عودته على مَدِينَة بود عَاصِمَة المجر وَبعد ان ودع ملكهَا زابولي عَاد إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة من طَرِيق بلغراد
وفى ربيع سنه 1531 ارسل ملك النمسا جَيْشًا لمحاصرة مَدِينَة بود واستخلاصها من قَبْضَة زابولي خَليفَة العثمانيين وحليفهم فصدوا عَنْهَا بِقُوَّة الحامية الاسلامية المعسكرة فِيهَا وَفِي 19 رَمَضَان سنة 938 25 ابريل سنة 1532 سَار السُّلْطَان سُلَيْمَان قَاصِدا مَدِينَة ويانه ثَانِيَة لفتحها ومحو مَا لحقه من الفشل امامها فِي الْمرة الاولى بعد ان رفض مَا عرضه عَلَيْهِ فردينان ارشيدوق النمسا من الصُّلْح وَلما وصل إِلَى مَدِينَة نيش بِبِلَاد الصرب وجد فِي انْتِظَاره سفراء من قبل ارشيدوق النمسا وَوجد بِمَدِينَة بلغراد سفيرا جَدِيدا من قبل ملك فرانسا فرانسوا الاول وَهُوَ المسيو رنسون فقابله السُّلْطَان فِي اول ذِي الْحجَّة سنة 938 5 يولو سنة 1532 باحتفال فائق لم يسْبق مثله لاي سفير غَيره وَذَلِكَ انه صف لاستقباله عدد عَظِيم من الْجنُود واطلقت المدافع تَحِيَّة لقدومه وقابله السُّلْطَان مُقَابلَة خُصُوصِيَّة محاطا بوزرائه وقواد جيوشه على ضد مَا حصل لمراسلي فردينان الَّذين قوبلوا بِكُل تحقير وامتهان وَبعد الْمُقَابلَة وتبادل عِبَارَات السَّلَام بَين السفير الفرنساوي وجلالة الْخَلِيفَة الاعظم عَاد السفير لملكه حَامِلا خطابا لمرسله يُؤَكد السُّلْطَان فِيهِ اتحادهما على محاربة شارلكان ووعده بامداده بالعمارة العثمانية إِذا مست الْحَاجة ثمَّ سَار السُّلْطَان بجيوشه الَّتِي كَانَ يبلغ عَددهمْ مِائَتي الف مقَاتل وانضم اليهم بعد مزاولتهم مَدِينَة بلغراد خَمْسَة عشر الف فَارس من تتر القرم تَحت قيادة صَاحب كراي اخي خَان القرم وَفِي اثناء الْمسير نَحْو مَدِينَة ويانه فتح الْجَيْش عدَّة قلاع
(1/217)
________________________________________
وحصون بِدُونِ مقاومة تذكر الا ان مَدِينَة جانز ابدت من الدفاع اكثر مِمَّا كَانَ يتَوَقَّع مِنْهَا لقلَّة حاميتها لَكِن لم تَجِد مدافعتها شَيْئا بل سلم قائدها القلعة فِي 26 محرم سنة 939 28 اغسطس سنة 1532 بِشَرْط عدم دُخُول الْجنُود العثمانية الْمَدِينَة فَقبل السُّلْطَان هَذَا الشَّرْط مُكَافَأَة لاهاليها على مَا ابدوه من حب الوطن والشهامة والاقدام فِي الدفاع عَنهُ
ثمَّ سَار الْجَيْش الهوينا إِلَى عَاصِمَة النمسا وَلما اقْترب مِنْهَا مَال إِلَى جِهَة الْيَسَار قَاصِدا اقليم استيريا وَمِنْهَا عَاد إِلَى بلغراد ثَانِيًا بِدُونِ ان يحاصر مَدِينَة ويانه لما بلغه من استعداد شارلكان للدفاع عَنْهَا وَجمع الجيوش فِيهَا بَين نمساويين والمان واسبانيول وَغَيرهم وَعدم وجود مدافع حِصَار مَعَه ولاقتراب فصل الشتَاء بزمهريره وجليده اللَّذين لَا يُمكن مَعَهُمَا اسْتِمْرَار الْحصار بكيفية ضامنة لفتحها وادخالها فِي حوزة الاسلام كَمَا فتحت بِلَاد المجر وعاصمتها من قبلهَا
وَلما وصل السُّلْطَان فِي ايابه إِلَى مَدِينَة فيليبه عين صَاحب كراي التتري خَانا لبلاد القرم بدل اخيه مُكَافَأَة لَهُ على خدماته اثناء مُرُور الْجَيْش باراضي النمسا ورتب لاخيه سعادت كراي معاشا سنويا يَلِيق بمقامه وَفِي 19 ربيع آخر سنة 939 18 نوفمبر سنة 1532 عَاد السُّلْطَان إِلَى مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وزينت الْمَدِينَة وضواحيها عدَّة لَيَال مُتَوَالِيَات احتفالا بعودة جلالته
وَفِي اثناء انتشاب هَذِه الحروب من جِهَة الْبر اتت تَحت امرة الاميرال اندري دوريا عمَارَة بحريّة مؤلفة من سفن شارلكان الحربية وَمَعَهَا عدَّة
(1/218)
________________________________________
221 - من سفن البابا بِقصد محاربة العثمانيين من جِهَة الْبَحْر فاحتل اندرى دوريا الْمَذْكُور مينائي كورون وباتراس بِبِلَاد موره بعد قتل من كَانَ بهَا من الْجنُود الانكشارية وتدمير القلعتين اللَّتَيْنِ اقامهما السُّلْطَان بايزيد الثَّانِي على ضفتي خليج ليبالت بِبِلَاد اليونان وتهديد جزائر الرّوم الخاضعة لسلطان الدولة الْعلية
وَفِي اوائل سنة 1523 ارسل فردينان ارشيدوق النمسا سفيرا من قبله يدعى جيروم دي زار إِلَى الاستانة يعرض طلب الصُّلْح على جلالة السُّلْطَان فقابل الصَّدْر الاعظم ابراهيم باشا وتباحثا فِي شُرُوط الصُّلْح وَفِي يَوْم 14 يناير سنة 1533 قَابل السُّلْطَان السفير وَلم يقبل السُّلْطَان الصُّلْح بل قبل المهادنة مؤقتا حَتَّى تسلم اليه مَفَاتِيح مَدِينَة جران وَبعدهَا تحول الْهُدْنَة إِلَى صلح فارسل السفير ابْنه فسبازيان دي زارا فِي اول فبراير إِلَى ويانه يَصْحَبهُ رَسُول من قبل السُّلْطَان لعرض هَذِه الشُّرُوط على فردينان فعرضها فردينان على اكابر الدولة واعيانها فقبلوها وارسل إِلَى الاستانة خطابا بذلك على يَد الرَّسُول العثماني فِي 29 مايو سنة 1533 وَبعد ذَلِك تحررت بَين الطَّرفَيْنِ معاهدة الصُّلْح فِي 22 يونيو سنة 1533 28 ذِي الْقعدَة سنة 939 واهم مَا فِيهَا ان يرد النمساويون مَدِينَة كورون للدولة الْعلية وَلَا يردوا شَيْئا مِمَّا فتحوه من بِلَاد المجر وان مَا تتفق عَلَيْهِ النمسا مَعَ زابولي صَاحب بِلَاد المجر لَا ينفذ مَا لم يعتمده جلالة السُّلْطَان العثماني وَهِي اول معاهدة صلح بَين النمسا وَالْبَاب العالي
(1/219)
________________________________________
دُخُول العثمانيين مَدِينَة تبريز ثَانِي دفْعَة
هَذَا وَقد حصل فِي اثناء اشْتِغَال السُّلْطَان بمحاربة النمسا بعض اضطرابات على حُدُود بِلَاد الْعَجم وساعد على ذَلِك خِيَانَة شرِيف بك خَان مَدِينَة بدليس والواقعة على حُدُود المملكتين وانحيازه إِلَى مملكة الْعَجم وَلذَلِك ارسل السُّلْطَان وزيره الاول ابراهيم باشا لمحاربة هَذَا العَاصِي وَالسير بعد ذَلِك إِلَى مَدِينَة تبريز عَاصِمَة الْعَجم لفتحها فسافر ابراهيم باشا وَقبل وُصُوله إِلَى قونية وصل اليه فِي 2 ربيع الآخر سنة 940 21 اكتوبر سنة 1533 شمس الدّين ابْن حَاكم اذربيجان الَّذِي كَانَ تَابعا لملك الْعَجم وانضم إِلَى السلطانة العثمانية وَمَعَهُ راس شرِيف بك الَّذِي حاربه وَالِده وَقَتله وَلذَلِك سَار ابراهيم باشا إِلَى مَدِينَة حلب لامضاء فصل الشتَاء بهَا وَفِي اوائل ربيع سنة 1534 قَامَ مِنْهَا بجيوشه قَاصِدا مَدِينَة تبريز فَفتح فِي طَرِيقه جَمِيع الْحُصُون والقلاع الْمُجَاورَة لبحيرة وان وَوصل بِدُونِ كَبِير مُعَارضَة إِلَى تبريز ودخلها بِسَلام فِي غرَّة شهر محرم الْحَرَام سنة 941 هـ 13 يوليو سنة 1534 م وَبنى بهَا قلعة وَجعل فِي وَسطهَا حامية عثمانية لمنع السكان عَن اتيان كل مَا يُمكن ان يكدر صفو الرَّاحَة العمومية
فتح مَدِينَة بَغْدَاد
وَفِي 27 سبتمبر من السّنة الْمَذْكُورَة 16 صفر سنة 941 وصل السُّلْطَان سُلَيْمَان الْغَازِي إِلَى تبريز فقابله الاهالي بِكُل تبجيل وتعظيم وَبعد ان عين السُّلْطَان ابْن الامير شيروان قائدا لحامية مَدِينَة تبريز وَقبل خضوع امير كيلان الْمَدْعُو ملك مظفر خَان وَغَيره من امراء الْفرس الَّذين تركُوا لِوَاء شاه طهماسب ملك الْعَجم وانحازوا إِلَى ظلّ الْخَلِيفَة الاعظم سَار السُّلْطَان بجيوشه إِلَى مَدِينَة سلطانية
(1/222)
________________________________________
الَّتِي تقهقر اليها الشاه بجيوشه لَكِن لصعوبة الطّرق واستحالة مُرُور المدافع الضخمة وعربات النَّقْل بهَا لِكَثْرَة الامطار والاوحال تَركهَا السُّلْطَان وَقصد مَدِينَة بَغْدَاد لفتحها فَلَمَّا اقْترب مِنْهَا تقدم ابراهيم باشا الصَّدْر الاعظم وسر عَسْكَر الجيوش العثمانية لاحتلالها قبل قدوم السُّلْطَان فَدَخلَهَا فِي يَوْم 24 جُمَادَى الْآخِرَة سنة 941 31 دسمبر سنة 1534 ووجدها خاوية من الْجنُود اذ تَركهَا حاكمها بِكُل جُنُوده هربا من الْوُقُوع فِي قَبْضَة الْجنُود العثمانية فيذيقونه الْحمام وَبعد ان اقام السُّلْطَان فِي مَدِينَة بَغْدَاد مُدَّة اربعة اشهر رتب الادارة الداخلية فِي خلالها وزار قُبُور الائمة الْعِظَام وقبر الامام عَليّ رَابِع الْخُلَفَاء الرَّاشِدين كرم الله وَجهه فِي مَدِينَة النجف وقبر ابْنه الْحُسَيْن فِي كربلا وارسل الخطابات إِلَى البندقية وويانه اعلانا بانتصاره على الشاه طهماسب وافتتاحه مَدَائِن تبريز وبغداد
وَفِي 28 رَمَضَان سنة 941 الْمُوَافق 2 ابريل سنة 1535 سَافر السُّلْطَان بجيوشه عَائِدًا إِلَى مَدِينَة تبريز مارا بِبِلَاد الاكراد واقليم المراغه وَولى سُلَيْمَان باشا اُحْدُ قواد جيوشه على مَدِينَة بَغْدَاد وَمَعَهُ الْفَا جندي لحمايتها وَفِي اثناء مسيره وصل إِلَى مُعَسْكَره سفير فرنساوي اسْمه مسيو لافوري ارسل لتهنئته على فتوحاته الاخيرة ثمَّ وصل إِلَى مَدِينَة تبريز رَابِع الْمحرم سنة 942 واقام بهَا 15 يَوْمًا قَضَاهَا فِي تعْيين الْوُلَاة على الْمَدَائِن المفتتحة حَدِيثا وترتيب شؤون الداخلية ثمَّ قفل رَاجعا إِلَى الاستانة فوصلها فِي 14 رَجَب سنة 942 8 يناير سنة 1536
الامتيازات القنصلية
وَفِي اوائل شهر فبراير سنة 1536 تمّ الِاتِّفَاق بَين المسيو لافوري سفير فرنسا وَالْبَاب العالي وَصدر بِهِ خطّ شرِيف يمنح بعض امتيازات لرعايا ملك فرنسا النازلين باراضي الممالك المحروسة وَهَذَا نَص هَذِه المعاهدة مترجما من مَجْمُوعَة
(1/223)
________________________________________
البارون دي تستا الْمَوْجُودَة فِي الكتباخانة الخديوية
ليكن مَعْلُوما لَدَى الْعُمُوم انه فِي شهر سنة 942 من الْهِجْرَة المحمدية شهر فبراير سنة 1536 من الميلاد قد اتّفق بِمَدِينَة الاستانة الْعلية كل من المسيو جَان دي لافوري مستشار وسفير صَاحب السَّعَادَة الامير فرنسوا المتعمق فِي المسيحية ملك فرنسا الْمعِين لَدَى الْملك الْعَظِيم ذِي الْقُوَّة والنصر السُّلْطَان سُلَيْمَان خاقَان التّرْك إِلَى آخر القابه والامير الْجَلِيل ذِي الْبَطْش الشَّديد سر عَسْكَر السُّلْطَان بعد ان تباحثا فِي مضار الْحَرْب وَمَا ينشأ عَنهُ من المصائب وَمَا يَتَرَتَّب على السّلم من الرَّاحَة والطمأنينة على البنود الْآتِيَة
البند الاول قد تعاهد المتعاقدان بالنيابة عَن جلالة الْخَلِيفَة الاعظم وَملك فرانسا على السّلم الاكيد والوفاق الصَّادِق مُدَّة حياتهما وَفِي جَمِيع الممالك والولايات والحصون والمدن والموانئ والثغور والبحار والجزائر وَجَمِيع الاماكن الْمَمْلُوكَة لَهُم الْآن اَوْ الَّتِي تدخل فِي حوزتهم فِيمَا بعد بِحَيْثُ يجوز لرعاياهما وتابعيهما السّفر بحرا بمراكب مسلحة اَوْ غير مسلحة والتجول فِي بِلَاد الطّرف الآخر والمجيء اليها والاقامة بهَا اَوْ الرُّجُوع إِلَى الثغور والمدن اَوْ غَيرهَا بِقصد الاتجار على حسب رغبتهم بِكَمَال الْحُرِّيَّة بِدُونِ ان يحصل لَهُم ادنى تعد عَلَيْهِم اَوْ على متاجرهم
البند الثَّانِي يجوز لرعايا وتابعي الطَّرفَيْنِ البيع وَالشِّرَاء والمبادلة فِي كَافَّة السّلع الْغَيْر مَمْنُوع الاتجار فِيهَا ولسيرها ونقلها برا وبحرا من مملكة إِلَى اخرى مَعَ دفع العوائد والضرائب الْمُعْتَادَة قَدِيما بِحَيْثُ يدْفع الفرنساوي فِي الْبِلَاد العثمانية مَا يَدْفَعهُ الاتراك وَيدْفَع الاتراك فِي الْبِلَاد الفرنساوية مَا يَدْفَعهُ الفرنساويون بِدُونِ ان يدْفع أَي الطَّرفَيْنِ عوائد اَوْ ضَرَائِب اَوْ مكوسا اخرى
البند الثَّالِث كلما يعين ملك فرنسا قنصلا فِي مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة اَوْ فِي بيرا وَاو غَيرهمَا من مَدَائِن المملكة العثمانية كالقنصل الْمعِين الْآن بِمَدِينَة الاسكندرية
(1/224)
________________________________________
يصير قبُوله ومعاملته بكيفية لائقة وَيكون لَهُ ان يسمع وَيحكم وَيقطع بِمُقْتَضى قانونه فِي جَمِيع مَا يَقع فِي دائرته من القضايا المدنية والجنائية بَين رعايا ملك فرنسا بِدُونِ ان يمنعهُ من ذَلِك حَاكم اَوْ قَاضِي شَرْعِي اَوْ صوباشي اَوْ أَي موظف آخر وَلَكِن لَو امْتنع اُحْدُ رعايا الْملك عَن اطاعة اوامر اَوْ احكام القنصل فَلهُ ان يَسْتَعِين بموظفي جلالة السُّلْطَان على تنفيذها وَعَلَيْهِم مساعدته ومعاونته وعَلى أَي حَال لَيْسَ للْقَاضِي الشَّرْعِيّ اَوْ أَي موظف اخر ان يحكم فِي المنازعات الَّتِي تقع بَين التُّجَّار الفرنساويين وَبَاقِي رعايا فرنسا حَتَّى لَو طلبُوا مِنْهُ الحكم بَينهم وان اصدر حكما فِي مثل هَذِه الاحوال يكون حكمه لاغيا لَا يعْمل بِهِ مُطلقًا
البند الرَّابِع لَا يجوز سَماع الدَّعَاوَى المدنية الَّتِي يقيمها الاتراك اَوْ جباة الْخراج اَوْ غَيرهم من رعايا جلالة السُّلْطَان ضد التُّجَّار اَوْ غَيرهم من رعايا فرنسا اَوْ الحكم عَلَيْهِم فِيهَا مَا لم يكن مَعَ المدعين سندات بِخَط الْمُدَّعِي عَلَيْهِم اَوْ حجَّة رسمية صادرة من القَاضِي الشَّرْعِيّ اَوْ القنصل الفرنساوي وَفِي حَالَة وجود سندات اَوْ حجج لَا تسمع الدَّعْوَى اَوْ شَهَادَة مقدمها الا بِحُضُور ترجمان القنصل
البند الْخَامِس وَلَا تجوز للقضاة الشرعيين اَوْ غَيرهم من ماموري الْحُكُومَة العثمانية سَماع أَي دَعْوَى جنائية اَوْ الحكم ضد تجار ورعايا فرنسا بِنَاء على شكوى الاتراك اَوْ جباة الْخراج اَوْ غَيرهم من رعايا الدولة الْعلية بل على القَاضِي اَوْ المامور الَّذِي ترفع اليه الشكوى ان يَدْعُو المتهمين بالحضور ر بِالْبَابِ العالي مَحل اقامة الصَّدْر الاعظم الرسمي وَفِي حَالَة عدم وجود الْبَاب الْمشَار اليه أَي إِذا حصلت الْوَاقِعَة فِي مَحل غير الاستانة يَدعُوهُم امام اكبر ماموري الْحُكُومَة السُّلْطَانِيَّة وَهُنَاكَ يجوز قبُول شَهَادَة جابي الْخراج والشخص الفرنساوي ضد بعضهما
البند السَّادِس لَا يجوز محاكمة التُّجَّار الفرنساويين ومستخدميهم وخادميهم فِيمَا يخْتَص بالمسائل الدِّينِيَّة امام القَاضِي اَوْ السنجق بيك اَوْ الصوباشي اَوْ غَيرهم
(1/225)
________________________________________
من المامورين بل تكون محاكمتهم امام الْبَاب العالي وَمن جِهَة اخرى يكون مُصَرح لَهُم بِاتِّبَاع شَعَائِر دينهم وَلَا يُمكن جبرهم على الاسلام اَوْ اعتبارهم مُسلمين مَا لم يقرُّوا بذلك غير مكرهين
البند السَّابِع لَو تعاقد وَاحِد اَوْ اكثر من رعايا فرانسا مَعَ اُحْدُ العثمانيين اَوْ اشْترى مِنْهُ بضائع اَوْ اسْتَدَانَ مِنْهُ نقودا ثمَّ خرج من الممالك العثمانية قبل ان يقوم بِمَا تعهد بِهِ فَلَا يسال القنصل اَوْ اقارب الْغَائِب اَوْ أَي شخص فرنساوي آخر عَن ذَلِك مُطلقًا وَكَذَلِكَ لَا يكون ملك فرانسا ملزما بِشَيْء بل عَلَيْهِ ان يُوفي طلب الْمُدَّعِي من شخص الْمُدعى عَلَيْهِ اَوْ املاكه لَو وجدت باراضي الدولة الفرنساوية اَوْ كَانَ لَهُ املاك بهَا
البند الثَّامِن لَا يجوز اسْتِخْدَام التُّجَّار الفرنساويين اَوْ مستخدميهم اَوْ خدامهم اوسفنهم اَوْ قواربهم اَوْ مَا يُوجد بهَا من اللوازمات اَوْ المدافع والذخائر اَوْ التِّجَارَة جبرا عَنْهُم فِي خدمَة جلالة السُّلْطَان الاعظم اَوْ غَيره فِي الْبر وَالْبَحْر مَا لم يكن ذَلِك بطوعهم واختيارهم
البند التَّاسِع يكون لتجار فرانسا ورعاياها الْحق فِي التَّصَرُّف فِي كَافَّة متعلقاتهم بِالْوَصِيَّةِ بعد مَوْتهمْ وَعند وَفَاة اُحْدُ مِنْهُم وَفَاة طبيعية اَوْ قهرية عَن وَصِيَّة فتوزع
(1/226)
________________________________________
امواله وَبَاقِي ممتلكاته على حسب مَا جَاءَ بهَا وَلَو توفّي وَلم يوص فتسلم تركته إِلَى وَارثه اَوْ الْوَكِيل عَنهُ بِمَعْرِِفَة القنصل لَو كَانَ فِي مَحل وَفَاته قنصل والا فتحفظ التَّرِكَة بِمَعْرِِفَة قَاضِي الْجِهَة بعد ان تعْمل بهَا قَائِمَة جرد على يَد شُهُود اما لوكانت الْوَفَاة فِي جِهَة بهَا قنصل فَلَا يكون للْقَاضِي اَوْ مامور بَيت المَال اَوْ غَيرهمَا حق فِي ضبط التَّرِكَة مُطلقًا وَلَو سبق ضَبطهَا بِمَعْرِِفَة اُحْدُ مِنْهُم يصير تَسْلِيمهَا إِلَى القنصل اَوْ من يَنُوب عَنهُ لَو طلبَهَا قبل الْوَارِث اَوْ وَكيله وعَلى القنصل توصيلها وتسليمها إِلَى صَاحب الْحق فِيهَا
البند الْعَاشِر بِمُجَرَّد اعْتِمَاد جلالة السُّلْطَان وَملك فرانسا لهَذِهِ المعاهدة فَجَمِيع رعاياهما الْمَوْجُودين عِنْدهمَا اَوْ عِنْد تابعيهما اَوْ على مراكبهما اَوْ سفنهما اَوْ فِي أَي مَحل اَوْ اقليم تَابع لسلطتهما فِي حَالَة الرّقّ سَوَاء اكان ذَلِك بشرائهم اَوْ باسرهم وَقت الْحَرْب يصير اخراجهم فَوْرًا من حَالَة الاسترقاق إِلَى بحبوحة الْحُرِّيَّة بِمُجَرَّد طلب وَتَقْرِير السفير اَوْ القنصل اَوْ أَي شخص آخر معِين لهَذَا الْخُصُوص وَلَو كَانَ احدهم قد غير دينه ومعتقده فَلَا يكون ذَلِك مَانِعا لاطلاق سراحه
وَمن الان فَصَاعِدا لَا يجوز لجلالة السُّلْطَان اَوْ ملك فرنسا وَلَا لقبودانات الْبَحْر وَرِجَال الْحَرْب اَوْ أَي شخص اخر تَابع لاحدهما اَوْ لمن يستاجرونهم لذَلِك سَوَاء فِي الْبر وَالْبَحْر اخذ اَوْ اَوْ شِرَاء اَوْ بيع اَوْ حجز اسراء الْحَرْب بِصفة ارقاء وَلَو تجاسر قرصان اَوْ غَيره من رعايا احدى الدولتين المتعاقدتين على اخذ اُحْدُ رعايا الطّرف الاخر اَوْ اغتصاب املاكه اَوْ امواله يصير اخبار حَاكم الْجِهَة وَعَلِيهِ ضبط الْفَاعِل ومعاقبته على مُخَالفَته شُرُوط الصُّلْح عِبْرَة لغيره ورد مَا يُوجد عِنْده من الاشياء المغتصبة الى من اخذت مِنْهُ واذا لم يضْبط الْفَاعِل فَيمْنَع هُوَ وَجَمِيع شركائه من الدُّخُول فِي الْبِلَاد وتضبط ممتلكاته لجَانب الْحُكُومَة التَّابِع اليها وَيصير التعويض على مَا حصل لَهُ من الضَّرَر مِمَّا يصادر من املاك الْجَانِي وَهَذَا لَا يمْنَع من مجازاته لَو صَار ضَبطه فِيمَا بعد وللمجني عَلَيْهِ ان يَسْتَعِين على الْحُصُول على
(1/227)
________________________________________
ذَلِك بضامني هَذَا الصُّلْح وهم السِّرّ عَسْكَر عَن الجناب السلطاني واكبر الْقُضَاة عَن ملك فرانسا
البند الْحَادِي عشر لَو تقابلت دونانمات احدى الدولتين المتعاقدتين بِبَعْض مراكب رعايا الدولة الاخرى فعلى هَذِه المراكب تَنْزِيل قلوعها وَرفع اعلام دولتها حَتَّى اذا علمت حَقِيقَتهَا لَا تحجزها اَوْ تضايقها السفن الحربية اَوْ أَي تَابع اخر للدولة صَاحِبَة الدونانمة واذا حصل ضَرَر لاحدهما فعلى الْملك صَاحب الدونانمة تعويض هَذَا الضَّرَر فَوْرًا واذا تقابلت سفن رعايا الدولتين فعلَيْهِمَا رفع الْعلم وابداء السَّلَام بِطَلْقَة مدفع والمجاوبة بِالصّدقِ لَو سُئِلَ ربانها عَن الدولة التَّابِع اليها وَلما تعلم حَقِيقَتهَا لَا يجوز لاحداها ان تفتش الاخرى بِالْقُوَّةِ اَوْ تسبب لَهَا أَي عائق كَانَ
البند الثَّانِي عشر اذا وصلت احدى المراكب الفرنساوية سَوَاء بطرِيق الصدفة اَوْ غَيرهَا الى احدى موانىء اَوْ شطوط الدولة الْعلية تُعْطى مَا يلْزمهَا من الماكولات وَغَيرهَا من الاشياء مُقَابل دفع الثّمن الْمُنَاسب بِدُونِ الزامها تَفْرِيغ مَا بهَا من البضائع لدفع الاثمان ثمَّ يُبَاح لَهَا الذّهاب اينما تُرِيدُ واذا وصلت الى الاستانة وارادت السّفر مِنْهَا بعد الاستحضار على جَوَاز الْخُرُوج من امين الجمرك وَدفع الرَّسْم اللَّازِم وتفتيشها بِمَعْرِِفَة الامين الْمشَار اليه فَلَا يجوز وَلَا يُمكن تفتيشها فِي أَي مَحل اخر الا عِنْد الْحُصُون المقامة بمدخل بوغاز جاليبولي الدردنيل بِدُونِ دفع شَيْء مُطلقًا لَا عِنْد هَذَا البوغاز وَلَا فِي أَي مَكَان اخر عِنْد خُرُوجهَا خلاف مَا صَار دَفعه سَوَاء كَانَ الطّلب باسم جلالة السُّلْطَان اَوْ اُحْدُ ماموريه
البند الثَّالِث عشر لَو كسرت اَوْ اغرقت مراكب احدى الدولتين بالصدفة اَوْ غَيرهَا عِنْد الْبِلَاد التابعة للطرف الاخر فَمن ينجو من هَذَا الْخطر يبْقى مُتَمَتِّعا بحريَّته لَا يمانع فِي أَخذ مَا يكون لَهُ من الْأَمْتِعَة وَغَيرهَا أما لَو غرق جَمِيع من بهَا فَمَا يُمكن تخليصه من البضائع يسلم الى القنصل اَوْ نَائِبه لتسليمها لاربابها بِدُونِ ان ياخذ القبودان باشا اَوْ السنجق بيك اَوْ الصوباشي اَوْ القَاضِي اَوْ غَيرهم من
(1/228)
________________________________________
ماموري الدولة ام رعاياها شَيْئا مِنْهَا والا فيعاقب من يرتكب ذَلِك باشد الْعقَاب وعَلى هَؤُلَاءِ المامورين ان يساعدوا من يخصص لاستلام الاشياء الْمَذْكُورَة
البند الرَّابِع عشر لَو هرب اُحْدُ الارقاء المملوكين لَاحَدَّ العثمانيين واحتمى فِي بَيت ام مركب اُحْدُ الفرنساويين فَلَا يجْبر الفرنساوي الا على الْبَحْث عَنهُ فِي بَيته اَوْ مركبه وَلَو وجد عِنْده يُعَاقب الفرنساوي بِمَعْرِِفَة قنصله وَيرد الرَّقِيق لسَيِّده واذا لم يُوجد الرَّقِيق بدار اَوْ مركب الفرنساوي فَلَا يسال عَن ذَلِك مُطلقًا
البند الْخَامِس عشر كل تَابع لملك فرانسا اذا لم يكن اقام باراضي الدولة الْعلية مُدَّة عشر سنوات كَامِلَة بِدُونِ انْقِطَاع لايلزم بِدفع الْخراج اَوْ أَي ضريبة ايا كَانَ اسْمهَا ولايلزم بحراسة الاراضي الْمُجَاورَة اَوْ مخازن جلالة السُّلْطَان وَلَا بِالشغلِ فِي الترسانة اَوْ أَي عمل اخر وَكَذَلِكَ تكون مُعَاملَة رعايا الدولة فِي بِلَاد فرانسا
وَقد اشْترط ملك فراسنا ان يكون للبابا وَملك انكلترا اخيه وَحَلِيفه الابدي وَملك ايقوسيا الْحق فِي الِاشْتِرَاك بمنافع هَذِه المعاهدة لَو ارادوا بِشَرْط انهم يبلغون تصديقهم عَلَيْهَا الى جلالة السُّلْطَان وَيطْلب مِنْهُ اعْتِمَاد ذَلِك فِي ظرف ثَمَانِيَة شهور تمْضِي من هَذَا الْيَوْم
البند السَّادِس عشر يُرْسل كل من جلالة السُّلْطَان وَملك فرانسا تَصْدِيقه للاخر على هَذِه المعاهدة فِي ظرف سِتَّة شهور تمْضِي من تَارِيخ امضائها مَعَ الْوَعْد من كليهمَا بالمحافظة عَلَيْهَا والتنبيه على جَمِيع الْعمَّال والقضاة والمامورين وَجَمِيع الرعايا بمراعاة كَامِل نصوصها بِكُل دقة ولكي لَا يَدعِي اُحْدُ الْجَهْل بِهَذِهِ المعاهدة يصير نشر صورتهَا فِي الاستانة والاسكندرية ومصر ومرسيليا وناربونة وَفِي جَمِيع الاماكن الاخرى الشهيرة فِي الْبر وَالْبَحْر التابعة لكل من الطَّرفَيْنِ انْتَهَت المعاهدة
(1/229)
________________________________________
وَبِذَلِك صَارَت فرانسا الدولة الاوروباوية الوحيدة الحائزة امتيازات لرعاياها وَلَكِن كَانَ هَذَا الِاتِّفَاق سَببا فِي تدخل فرانسا وَبَاقِي دوَل اوروبا فِي شؤون المملكة الداخلية خُصُوصا فِي هَذَا الْقرن الاخير كَمَا سَيَجِيءُ وَكَانَت هِيَ اخر اعمال الصَّدْر الاعظم ابراهيم باشا فان السُّلْطَان توجس مِنْهُ خيفة لازدياد نُفُوذه على الْجنُود والقواد وازداد تحذره مِنْهُ بعد محاربته الْعَجم الاخيرة الَّتِي كَانَ فِيهَا ابراهيم باشا الْمَذْكُور سر عَسْكَر لجَمِيع الجيوش فانه امضى بعض الاوامر العسكرية بلقب سر عَسْكَر سُلْطَان وَحشِي السُّلْطَان ان تكون تِلْكَ الاعمال مُقَدمَات لاغتصابه الْملك لنَفسِهِ فامر بقتْله فِي 22 رَمَضَان سنة 942 15 مارس سنة 1536 فَقتل وَخَلفه فِي مَرْكَز الصدارة اياس باشا بدسيسة روكسلان الروسية احدى حظيات السُّلْطَان وسياتي ذكر مَا اتته من الدسائس والمفاسد عِنْد الْكَلَام على قتل السُّلْطَان لِابْنِهِ مصطفى
خير الدّين باشا البحري وَفتح اقليمي الجزائر وتونس
ولنأت هَهُنَا على ملخص تَارِيخ خير الدّين باشا البحري الَّذِي اشْتهر فِي كتب الافرنج باسم بارب روس أَي ذِي اللِّحْيَة الصَّهْبَاء وَمَا فَتحه من الْبِلَاد فِي سواحل بِلَاد الغرب وجنوب ايطاليا وانا لم نذْكر حوادثه حسب ترتيبها لعدم الْفَصْل بهَا بَين اعمال السُّلْطَان سُلَيْمَان الحربية فِي جِهَات النمسا غربا وبلاد الْعَجم شرقا خوفًا من تشتيت فكر الْمطَالع فَنَقُول ان اصل خير الدّين باشا من اروام جَزِيرَة مدللي احدى جزائر الرّوم وَكَانَ هُوَ واخ لَهُ يدعى اوروج يشتغلان بحرفة القراصنة ببحر الرّوم ثمَّ اسلما ودخلا فِي خدمَة السُّلْطَان مُحَمَّد الحفصي صَاحب تونس واستمرا فِي حرفتهما وَهِي اسر مراكب المسيحيين التجارية واخذ كَافَّة مَا بهَا من البضائع وَبيع ركابهَا وملاحيها بِصفة رَقِيق وَفِي
(1/230)
________________________________________
ذَات يَوْم ارسلا إِلَى السُّلْطَان سليم الاول احدى المراكب الماسورة اظهارا لخضوعهم لسلطانه فقبلها مِنْهُمَا وارسل لَهما خلعا سنية وَعشر سفن ليستعينوا بهَا على غَزْو مراكب الافرنج فَقَوِيت شوكتهما واشرابت اعناقهما لاحتلال بعض سواحل الغرب باسم سُلْطَان آل عُثْمَان فاستولى خير الدّين على ثغر شرشل باقليم الجزائر ثمَّ عَاد إِلَى تونس وَمِنْهَا ارسل إِلَى السُّلْطَان سليم الَّذِي كَانَ اذ ذَاك بِمصْر رَسُولا يَدعِي كرداوغلى يُؤَكد لَدَيْهِ اخلاصه وولاءه للسدة السُّلْطَانِيَّة العثمانية اما اوروج فَبعد ان استولى على مَدِينَة الجزائر نَفسهَا وَهزمَ الجيوش الاسبانية الَّتِي ارسلها شارلكان لمساعدة الجزائريين على محاربة اوروج فتح ايضا مَدِينَة تلمسان وَقتل بعْدهَا بِقَلِيل فِي محاربة الاسبانيين لَكِن لم يتَمَكَّن هَؤُلَاءِ من استخلاص تلمسان والجزائر بل حفظهما خير الدّين وَقتل امير الجزائر وارسل من قبله اُحْدُ اتِّبَاعه واسْمه الْحَاج حُسَيْن إِلَى السُّلْطَان سليم وَقد كَانَ اتم فتح مصر ليخبره بِفَتْح مَدِينَة الجزائر باسمه الشريف فقابله السُّلْطَان وَعين خير الدّين باشا بكلر بك على اقليم الجزائر وبذا صَار هَذَا الاقليم ولَايَة عثمانية يدعى فِيهِ فِي خطْبَة الْجُمُعَة باسم السُّلْطَان سليم وتضرب النُّقُود باسمه
وَبعد ذَلِك اسْتمرّ خير الدّين باشا فِي غَزْو مراكب الافرنج وَالنُّزُول على بعض شواطئ ايطاليا وفرنسا واسبانيا واخذ كل مَا تصل اليه يَده من اموال واهالي وَفتح الْحصن الَّذِي اقامه الاسبانيول فِي جَزِيرَة صَغِيرَة امام مَدِينَة الجزائر ثمَّ ارسل اليه السُّلْطَان سُلَيْمَان بعد تحالفه مَعَ فرانسا ان يكف عَن مراكب الفرنساويين وشواطئهم فحول كل قواده على شاطئ اسبانيا وانتقم من اهلها على مَا ارتكبوه من الفظائع والمنكرات مَعَ الْمُسلمين بعد سُقُوط غرناطة فِي ايديهم وساعد كثيرا
(1/231)
________________________________________
مِمَّن بَقِي بِبِلَاد الاندلس من الْمُسلمين على الرُّجُوع إِلَى بِلَاد الغرب والاستيطان بهَا فِرَارًا من اضطهاد الاسبانيول واجبارهم لَهُم على الْخُرُوج من دين الاسلام واعتناق الدّين المسيحي مِمَّا لَا يدْخل فِي مَوْضُوع هَذَا الْكتاب
وَفِي اوائل سنة 1533 استدعاه السُّلْطَان سُلَيْمَان إِلَى الاستانة ليتفق مَعَه على مَا يلْزم اتِّخَاذه من الاحتياطات لصد هجمات الاميرال اندري دوريا الجنوي اجير شارلكان فسافر بِبَعْض المراكب وَوصل الْقُسْطَنْطِينِيَّة بعد سفر الصَّدْر الاعظم ابراهيم باشا لمحاربة الْعَجم بِقَلِيل فقابله الْملك واحسن وفادته وامره بالاستعداد وانشاء المراكب الكافية لفتح اقليم تونس فاشتغل خير الدّين باشا طول الشتَاء بانشاء المراكب
وَفِي اوائل صيف سنة 1534 بعد مَا سَافر السُّلْطَان سُلَيْمَان قَاصِدا مَدِينَة تبريز كَمَا مر خرج خير الدّين بمراكبه من بوغاز الدردنيل غير قَاصد تونس مُبَاشرَة بل عرج فِي طَرِيقه على جَزِيرَة مالطة وَبَعض موانيء جنوب ايطاليا لغزو مراكبها واهلها بِدُونِ احتلالها حَتَّى لَا يعلم قَصده الاصلي وَهُوَ فتح تونس ثمَّ قصد مَدِينَة تونس فِي اوائل سنة 1535 واعلن الاهالي انه آتٍ لعزل السُّلْطَان مولَايَ حسن آخر سلالة بني حَفْص وَكَانَ الاهالي ناقمين عَلَيْهِ لميله لشارلكان وتنصيب اخيه حسن الرشيد مَكَانَهُ وَبِذَلِك احتل مَدِينَة تونس وثغرها الْمُسَمّى حلق الْوَادي بِدُونِ كثير عناء باسم السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني
وَلما وصل الامبراطور شارلكان خبر سُقُوط تونس اتَّحد مَعَ رهبنة القديس حنا الاورشليمي الَّتِي نزلت بِجَزِيرَة مالطة بعد فتح جَزِيرَة رودس على استرجاع
(1/232)
________________________________________
تونس واعادة مولَايَ حسن الى تخت ملكه وجهز عمَارَة قَوِيَّة قادها هُوَ بِنَفسِهِ وَنزل مَعَ اشراف اسبانيا من ثغر برشلونة فِي 29 مايو سنة 1535 وَوصل الى حلق الْوَادي فِي 16 يونيه وحاصرها هِيَ ومدينة تونس مُدَّة شهر تَقْرِيبًا وَفتحهَا فِي 14 يوليو وَاسْتولى على مَا بقلعتها وثغرها من المدافع والمراكب وَفِي يَوْم 21 يوليو دخلت جيوش شارلكان الْمَدِينَة وَصرح لَهُم بنهبها فَقتلُوا ونهبوا وفسقوا وارتكبوا كل انواع الْمُحرمَات وهدموا الْمَسَاجِد وحرقوا ومزقوا اغلب الْكتب النفيسة وَفِي اول اغسطس دَخلهَا شارلكان وَمنع الْجَيْش عَن هَذِه الاعمال فاستتب الامن وسادت السكينَة وَفِي ثَمَانِيَة مِنْهُ امضيت معاهدة بَين شارلكان ومولاي حسن الَّذِي اعيد الى ملكه تقضي عَلَيْهِ باخلاء سَبِيل الارقاء المسيحيين والاباحة لجَمِيع المسيحيين بالاستيطان فِي اقليم تونس واقامة شَعَائِر دينهم بِدُونِ مُعَارضَة وان يتنازل لشارلكان عَن مَدَائِن بونه وَبني زرت وَحلق الْوَادي وان يدْفع لَهُ مبلغ اثنى عشر الف دوكا مصاريف الْحَرْب وان يقدم لَهُ سنويا اثنى عشر حصانا وقدرها من المهارة الْعَرَبيَّة عَلامَة امتنانه بِشَرْط انه لَو خَالف احدى هَذِه الشُّرُوط يدْفع اول مرّة خمسين الف دوكا وَفِي الثَّانِيَة مائَة الف وَفِي الثَّالِثَة يسْقط حَقه فِي الْملك وَفِي 17 اغسطس سَافر الامبراطور شارلكان تَارِكًا فِي حلق الْوَادي الف جندي اسبانيولي وَعشرَة مراكب حربية اما خير الدّين باشا فانه لما راى تحزب الاهالي وميلهم لسلطانهم الْمَعْزُول وَعدم وجود الْجنُود الكافية مَعَه وَبعده عَن مَرْكَز السلطنة لامداده فِي الْوَقْت اللَّازِم ارتحل بجُنُوده على مراكبه
(1/233)
________________________________________
اتِّحَاد فرنسا والدولة الْعلية على محاربة النمسا وَبَعض وقائع اخرى
ولنرجع إِلَى ذكر محالفة فرنسا مَعَ الدولة الْعلية ونتائجها فَنَقُول ان اتِّفَاقهمَا كَانَ قَاضِيا بَان الدولة الْعلية تجْعَل وجهة حروبها بِلَاد نابولي وجزيرة صقلية واسبانيا عوضا عَن مهاجمة النمسا الَّتِي تتحد جَمِيع امارات وممالك المانيا للمدافعة عَنْهَا اذ هِيَ مَعَ استقلالها جُزْء من التَّحَالُف الالماني وان جيوش فرنسا تدخل بِلَاد ايطاليا من جِهَة اقليم بيمونتي بشمال غرب ايطاليا حينما تدْخلهَا الجيوش العثمانية من جِهَة مملكة نابولي
لَكِن عدم دُخُول جمهورية البندقية فِي هَذَا التَّحَالُف واظهارها الْعدوان لَهُم كَانَ سَببا فِي عدم نجاح كل هَذِه التدبيرات وساعد ذَلِك هياج الراي الْعَام المسيحي ضد التَّحَالُف الفرنساوي العثماني واحجام فرنسوا الاول امام النفور الْعَام خشيَة ان يرْمى بالمروق عَن دينه المسيحي باتحاده مَعَ دولة اسلامية لمحاربة دولة تدين بِدِينِهِ
فاراد السُّلْطَان سُلَيْمَان الانتقام من جمهورية البنادقة على عدم انحيازها لتحالفه مَعَ انه رَاعى جوارها وَلم يغز بِلَادهمْ فارسل خير الدّين باشا الَّذِي ترقى إِلَى رُتْبَة قبودان باشا جَمِيع الدوننمات العثمانية وَمَعَهُ نَحْو الف سفينة لمحاصرة جَزِيرَة كورفو فحاصرها فِي شهر سبتمبر سنة 1537 واتى السُّلْطَان بِنَفسِهِ لمناظرة الْحصار لكنه امْر بِرَفْعِهِ عَنْهَا لشدَّة دفاع اهلها وَعدم ضيَاع وقته النفيس حول هَذِه الجزيرة وَعَاد هُوَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فوصلها اول نوفمبر من السّنة الْمَذْكُورَة وارسل خير الدّين باشا لفتح مَا بَقِي من جزائر الرّوم فَفتح اغلبها وغزا جَزِيرَة كريد وَفِي عودته قَابل دونانمة مؤلفة من مائَة وَسبعين سفينة تَقْرِيبًا يَقُودهَا اندري روبا اميرال شارلكان فحاربها وانتصر عَلَيْهَا فِي 25 سبتمبر سنة 1538
(1/234)
________________________________________
وَفِي مايو سنة 1538 جمع السُّلْطَان سُلَيْمَان بِبِلَاد الارنؤود جَيْشًا عَظِيما مؤلفا من مائَة الف مقَاتل لشن الْغَارة على بِلَاد ايطاليا وَكَانَ مَعَه ولداه مُحَمَّد وسليم وسفير فرانسا المسيو دولا فوري وَفِي الْوَقْت نَفسه نزل خير الدّين باشا بميناء اوترانته بجنوب ايطاليا اسْتِعْدَادًا لمهاجمتها من جِهَة الْجنُوب بَيْنَمَا يهاجمها السُّلْطَان سُلَيْمَان من جِهَة الشرق وَملك فرانسا من جِهَة الغرب لَكِن احجام فرانسا عَن التَّقَدُّم اطاعة للراي الْعَام كَمَا ذكرنَا كَانَ السَّبَب فِي عدم نجاح هَذَا الْمَشْرُوع الَّذِي لَو تمّ لكَانَتْ نتيجته دُخُول بِلَاد ايطاليا باسرها تَحت ظلّ الدولة الْعلية وانْتهى الامر بَان تهادن ملك فرانسا مَعَ الامبراطور شارلكان وامضيا مهادنة نيس سنة 1538 اما من جِهَة البندقية فاستمرت الْحَرْب بَينهَا وَبَين الدولة الْعلية سجالا انْتَهَت بِالصُّلْحِ فِي اواخر سنة 1538 بتنازل البندقية عَن ملفوازي ونابولي دي رومانيا من بِلَاد موره
هَذَا اما من جِهَة بِلَاد المجر فابتدات الحروب ثاينة سنة 1537 وانتهت بانهزام جَيش الماني مُرْسل من قبل شارلكان تَحت رياسة اشهر قواده فِي 2 ديسمبر سنة 1537 وَفِي سنة 1538 عصى امير البغدان بِنَاء على تحريض فردينان ملك النمسا فقهر وَولي مَكَانَهُ اخوه اسطفن وعززت الحامية العثمانية منعا لحُصُول مثل ذَلِك
وَفِي هَذِه الاثناء اتّفق فردينان وزابولي ملك المجر على اقتسام الْبِلَاد اولى من تدخل العثمانيين فِي شؤونهم كَمَا سبق وَوُجُود المجر تَحت حمايتهم الامر المشين لكافة الممالك المسيحية وَكَانَت هَذِه دسيسة من فردينان للايقاع بزابولي الَّذِي قبل حماية العثمانيين لَهُ مُدَّة من الزَّمن فارسل صُورَة هَذَا الِاتِّفَاق إِلَى الْبَاب العالي ليعلمه بِعَدَمِ وَلَاء زابولي لَهُ
(1/235)
________________________________________
موت زابولي ملك المجر وسفر السُّلْطَان إِلَى بود لمحاربة النمساويين
ثمَّ مَاتَ زابولي سنة 1540 قبل ان تقتص الدولة الْعلية مِنْهُ على خيانته تَارِكًا طفْلا صَغِيرا ولد قبل مَوته بِخَمْسَة عشر يَوْمًا فاغارت على الْفَوْر جيوش النمسا على المجر منتهزين هَذِه الفرصة لنوال ماربهم أَي استخلاص بِلَاد المجر من حماية وتباعية الدولة الْعلية وحاصروا ارملة زابولي وابنهما فِي مَدِينَة بود واحتلوا مَدِينَة بيست الْمُقَابلَة لَهَا على نهر الطونة وعدة قلاع بِالْقربِ مِنْهَا وبمجرد وُصُول هَذَا الْخَبَر للدولة الْعلية قَامَ السُّلْطَان بِنَفسِهِ قَاصِدا بِلَاد المجر فِي شهر يوليو سنة 1541 وَوصل فِي 29 اغسطس إِلَى مَدِينَة بود الَّتِي رفع النمساويون عَنْهَا الْحصار بِمُجَرَّد سماعهَا خبر قدوم السُّلْطَان وجيوشه وَاشْتَدَّ ياس الْجنُود المجرية المحصورة داخلها خشيَة من وقوعهم بَين نارين وَفِي الْيَوْم التَّالِي قدم إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان ولد زابولي وَفِي اثناء الاحتفال بقدومه احتل الانكشارية الْمَدِينَة ثمَّ دَخلهَا السُّلْطَان باحتفال زَائِد وَجعل بِلَاد المجر ولَايَة عثمانية وحول اكبر كنائسها إِلَى مَسْجِد جَامع وتعهد جلالة السُّلْطَان كِتَابَة إِلَى ارملة زابولي بانه لايحتل بِلَاد وَلَدهَا الا مُدَّة طفولته وَيُعِيدهَا لَهُ مَتى بلغ رشده
وعقب ذَلِك بِقَلِيل وصل إِلَى معسكر السُّلْطَان سُلَيْمَان وَفد من قبل ملك النمسا يحمل اليه كثيرا من الْهَدَايَا النفيسة مِنْهَا سَاعَة تدل على الايام والشهور وسير الْكَوَاكِب وَعرض عَلَيْهِ هَذَا الْوَفْد دفع مائَة الف فلورين سنويا جِزْيَة عَن جَمِيع بِلَاد المجر لَو تَركهَا لَهُ السُّلْطَان اَوْ اربعين الْفَا فَقَط عَن الْجُزْء المحتلة لَهُ جيوش النمسا فاجابه السُّلْطَان ان لايتخابر مَعَهم بِخُصُوص الصُّلْح الا من بعد ان يخلي فردينان القلاع المجرية الَّتِي بِيَدِهِ وَلذَا لم يتم الصُّلْح وَبَقِي الْعدوان مستمرا وَبعد ذَلِك بايام قَلَائِل وصل إِلَى السُّلْطَان سفير فرنساوي يُخبرهُ باستئناف الحروب بَين فرانسا وشارلكان وانه يسْعَى فِي تَجْدِيد التَّحَالُف بَين الدولة وَالْبَاب العالي لمحاربة شارلكان وَمِمَّا يدل على ضعف سياية فرانسوا الاول وَعدم ثباته انه
(1/236)
________________________________________
بعد ان امضى مَعَ شارلكان هدنة نيس ساعده ايضا لَدَى الدولة العثمانية للحصول على هدنة بَينهَا وَبَينه وَكتب فِي سنة 1539 بذلك خطابا للسُّلْطَان سُلَيْمَان فجاوبه السُّلْطَان لَا يهادنه الا اذا رد لَهُ لملك فرانسا جَمِيع القلاع والحصون الَّتِي فتحهَا وَلما لم يقبل شارلكان ذَلِك فترت العلاقات بَينهمَا وَصَارَت الْحَرْب قاب قوسين اَوْ ادنى سنة 1541 وارسل المسيو رونسون إِلَى القسطنطينة ليتفق مَعَ السُّلْطَان على الترتيبات الحربية اللَّازِمَة
وَفِي اثناء مسير هَذَا السفير من اقليم ميلان قَتله اُحْدُ اعوان حَاكم هَذَا الاقليم التَّابِع لشارلكان وَبِنَاء على اوامره طَمَعا فِي العثور على اوراق مَعَه للسُّلْطَان يُوجد بهما مَا يمس الدّين المسيحي فينشرها بَين مُلُوك وامراء اوروبا ليوغر صُدُورهمْ عَلَيْهِ ويتركوه بِلَا مساعدة فيفوز هُوَ بالغلبة عَلَيْهِ لَكِن خَابَ مسعاه حَيْثُ لم يجد مَعَه اوراقا من هَذَا الْقَبِيل بل اهرق دم السفير هدرا
سفر الدونانمة العثمانية إِلَى فرانسا وَفتح مَدِينَة نيس
وَلما بلغ فرانسوا الاول خبر قتل سفيره ارسل بدله اُحْدُ ضباطه المسيو بولان إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان يطْلب مِنْهُ مساعدته على محاربة شارلكان بسفنه وقائدها خير الدّين باشا فتردد السُّلْطَان اولا لعدم ثبات ملك فرنسا وَضعف عزيمته وَقبل اخيرا بِنَاء على الحاح السفير وتعضيد خير الدّين باشا لَهُ لَا سِيمَا وَقد وصل اليه خبر مهاجمة شارلكان بجيوشه لمدينة الجزائر وارتداده عَنْهَا خائبا فِي 31 اكتوبر سنة 1541 وَفِي ربيع سنة 1543 سَافر السُّلْطَان بجيوشه إِلَى بِلَاد المجر لاستئناف المحاربات وَفِي الْوَقْت نَفسه اقلع خير الدّين باشا من مياه الاستانة بمراكبه وَمَعَهُ السفير الفرنساوي بولان قَاصِدا مرسيليا احدى موانئ فرانسا الجنوبية فوصلها بعد ان غزا فِي طَرِيقه سواحل جَزِيرَة صقلية وقوبل من الفرنساويين بِكُل تَجِلَّةً واكبار وانضمت سفنه إِلَى سفنهم وَمِنْهَا اقلعوا إِلَى مَدِينَة نيس فحاصروها من جِهَة الْبَحْر وفتحوها عنْوَة فِي 21 جُمَادَى الاولى سنة 950 22 اغسطس سنة 1543 ولوقوع الشحناء بَين العسكرين لم يتم احتلالها
(1/237)
________________________________________
ثمَّ اذن لخير الدّين باشا ومراكبه بتمضية فصل الشتَاء فِي ميناء طولون بفرنسا واعطى لَهُ ثَمَانمِائَة الف ريال فرنساوي للصرف على جُنُوده
وَفِي ربيع السّنة التالية سنة 1544 رفض فرانسوا الاول مساعدة الْعِمَارَة العثمانية لَهُ لهياج جَمِيع المسيحيين عَلَيْهِ ونسبتهم اياه للمروق عَن دينه لاستعانته بِالْمُسْلِمين وابرم مَعَ شارلكان فِي مارس سنة 1544 معاهدة كريسي القاضية بِالصُّلْحِ فَعَاد خير الدّين باشا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَتُوفِّي سنة 953 هـ سنة 1546 م وَدفن بِجِهَة بشكطاش على شاطئ البوسفور فِي الْمحل الْمعد لمرسى الدونانمات العثمانية
ابرام الصُّلْح مَعَ النمسا
اما من جِهَة النمسا فاستمر الْقِتَال بَينهمَا وَبَين العثمانيين مُدَّة من الزَّمن كَانَ النَّصْر فِيهَا غَالِبا فِي جَانب الْجنُود المظفرة الاسلامية واخيرا ابتدئ فِي المخابرات بَين الطَّرفَيْنِ للتوصل إِلَى عقد صلح مرضى لكل مِنْهُمَا واستمرت المخابرات جَارِيَة إِلَى سنة 1547 لعدم اتِّفَاقهمَا وسعى سفير فرنسا المسيو جِبْرِيل درامون فِي عدم الْوُصُول إِلَى الْوِفَاق طَمَعا مِنْهُ فِي تَجْدِيد علائق الالفة بَين دولته والدولة الْعلية لَكِن وَفَاة فرانسوا الاول فِي شهر مارس سنة 1547 ساعدت على اتمام الصُّلْح فتم الامر بَينهمَا فِي 19 يونيه اول جمادي الاولى سنة 954 على هدنة خمس سنوات بِشَرْط ان يدْفع فردينان ملك النمسا جِزْيَة سنوية مقدارها ثَلَاثُونَ الف دوكا نَظِير مَا بَقِي تَحت يَده من بِلَاد المجر وان تبقى بِلَاد المجر تَابِعَة لِابْنِ
(1/238)
________________________________________
زابولي اميرها الاخير تَحت وصاية امهِ ايزابلا ورعاية الدولة الْعلية
هَذَا ولنذكر مَا حصل فِي هَذِه الْمدَّة من الحروب فِي جِهَات آسيا فَنَقُول انه حضر إِلَى دَار الْخلَافَة الْعُظْمَى سنة 1537 سفير من قبل صَاحب دهلي بِالْهِنْدِ يستنجده ضد همايون بن ظَاهر الدّين مُحَمَّد الشهير ببابر صَاحب دهلي وَآخر من قبل صَاحب الجوزرات بِالْهِنْدِ ايضا يطْلب مِنْهُ المساعدة ضد البرتغاليين الدّين اغاروا على بِلَاده واحتلوا اهم ثغورها
فتح عدن
فارسل السُّلْطَان اوامره إِلَى من يدعى سُلَيْمَان باشا وَالِي مصر اذ ذَاك بتجهيز عمَارَة بحريّة بثغر السويس على الْبَحْر الاحمر لمحاربة البرتغاليين وَفتح عدن وبلاد الْيمن حَتَّى لَا تستولي عَلَيْهَا البرتغال اَوْ أَي دولة اوروبية اخرى فَتَصِير حجر عَثْرَة فِي سَبِيل تقدم الدولة الْعلية فِي جِهَات الشرق وَقَاعِدَة لاعمال الدولة الَّتِي تحتلها ضد مصر فصدع سُلَيْمَان باشا بامره وشيد عمَارَة بحريّة هائلة مؤلفة من سبعين سفينة فِي اقْربْ وَقت وسلحها بالمدافع الضخمة وَسَار بهَا فِي يونيو سنة 1538 وَمَعَهُ عشرُون الف جندي وَفتح مَدَائِن عدن ومسقط وحاصر جَزِيرَة هُرْمُز عِنْد مدْخل
(1/239)
________________________________________
الْعَجم ثمَّ قصد سواحل الجوزرات وَفتح اغلب الْحُصُون الَّتِي اقامها البرتغاليون هُنَاكَ لَكِن اخفق امام ثغر ديو بعد ان حاصره مُدَّة ثمَّ قفل رَاجعا بالغنائم وَفتح فِي ايامه بَاقِي اقليم الْيمن وَجعل ولَايَة عثمانية
وَفِي سنة 1547 قبل اتمام الصُّلْح مَعَ النمسا اتى إِلَى الْبَاب العالي اخ لشاه الْعَجم يدعى القاصب مرزا وَطلب من السُّلْطَان انجاده ضد اخيه الَّذِي اهتضم لَهُ حقوقا فانتهز السُّلْطَان هَذِه الفرصة لتجديد الاغارة على بِلَاد الْعَجم وانتظر ريثما يتم الصُّلْح باوروبا ويهدأ باله من جِهَتهَا
دُخُول العثمانيين مَدِينَة تبريز ثَالِث دفْعَة
وَفِي اوائل سنة 1548 سَار بجيوشه قَاصِدا مَدِينَة تبريز فَدَخلَهَا ثَالِث دفْعَة وَفتح فِي طَرِيقه الْجُزْء التَّابِع للعجم من بِلَاد الكرد وقلعة وان الشهيرة وَعَاد يحف بِهِ النَّصْر وَالظفر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي دسمبر سنة 1549 اما القاصب مرزا فاخذ اسيرا فِي احدى الوقائع الحربية بعد ان سَار مَعَ جَيش من الاكراد إِلَى قرب مَدِينَة اصفهان
وَلم تدم السكينَة فِي ربوع بِلَاد المجر والنمسا بدسيسة رَاهِب يدعى مارتنيوزي كَانَت قربته اليها الملكة ايزابلا بِنَاء على وَصِيَّة زَوجهَا لَهَا قبل مَوته فانه سعى فِي التَّوْفِيق بَين الملكة وفردينان ملك النمسا حَتَّى انه تحصل بِقُوَّة دهائه وسلطته الدِّينِيَّة على ان تنازلت الملكة إِلَى فردينان عَن اقليم ترانسلفانيا ومدينة تمسفار خلافًا لشروط الْهُدْنَة وسير فردينان جَيْشًا نمساويا لاحتلالهما وَفِي اثناء هَذِه المخابرات كَانَ الراهب يُكَاتب السُّلْطَان سُلَيْمَان وَيظْهر لَهُ الاخلاص وَصدق الْوَلَاء لَكِن لم تخف حَقِيقَة الامر على السُّلْطَان بل علم بِهَذَا التنازل الْمُخَالف للعهود وارسل على الْفَوْر جيوشه المظفرة للمحافظة على نَفاذ شُرُوط الْهُدْنَة وارجاع النمساويين إِلَى حدودهم فارسل جَيْشًا مؤلفا من ثَمَانِينَ الف جندي إِلَى بِلَاد المجر فِي شهر سبتمبر سنة 1551 وَلم يُقَابل هَذَا الْجَيْش فِي طَرِيقه مقاومة تذكر بل فتح بِكُل
(1/240)
________________________________________
سهولة القلاع والحصون المحتلة لَهَا جيوش النمسا لاخلاء النمساويين لَهَا عِنْد اقتراب الْجنُود العثمانية اليها ودنوها مِنْهَا وَلما راى الراهب مارتينوزي افول نجمه وَعدم نجاحه فِي الْحُصُول على مرغوبه اراد السَّعْي لَدَى السُّلْطَان سُلَيْمَان مظْهرا لَهُ ميله لمساعدته فِي اخضاع اقليم ترنسلفانيا الَّذِي قاوم الجيوش العثمانية مقاومة شَدِيدَة طَمَعا فِي ان يعين هُوَ واليا عَلَيْهَا فاحس فردينان بخيانته ودس عَلَيْهِ من قَتله فِي دسمبر سنة 1551
وَفِي سنة 1552 انتصر العثمانيون على النمساويين فِي عدَّة وقائع وَفتح الْوَزير الثَّانِي احْمَد باشا مَدِينَة تمسفار وحاصرت الجيوش بعد ذَلِك مَدِينَة ارلو بِبِلَاد النمسا الحصينة مُدَّة من الزَّمن ثمَّ رفع عَنْهَا الْحصار عَلَيْهَا واجبارها على التَّسْلِيم بِمَنْع المؤونة عَنْهَا لاقتراب فصل الشتَاء وشدته فِي هَذِه الاقاليم
وَفِي اثناء ذَلِك كَانَ القبودان طرغول الَّذِي خلف القبودان الشهير خير الدّين باشا فِي غَزْو مراكب الافرنج وشواطئ بِلَادهمْ قد حَاز شهرة عَظِيمَة فِي الحروب البحرية وخافت باسه جَمِيع دوَل الافرنج المعادية للدولة الْعلية وَحفظ اسْم البحرية العثمانية من السُّقُوط بِمَوْت رئيسها بل ومؤسسها الاكبر خير الدّين باشا
معاهدة سنة 1553 بَين الدولة الْعلية وفرنسا
وَبعد موت السُّلْطَان فرانسوا الاول ملك فرنسا حذا وَلَده هنري الثَّانِي حذوه ونسج على منواله فِي مُوالَاة الدولة الْعلية والمحافظة على محبتها وتوثيق عرى
(1/241)
________________________________________
الالفة والاتحاد مَعهَا للاستعانة ببحريتها عِنْد الْحَاجة فابقى المسيو جِبْرِيل درامون سفيرا لَهُ بدار السَّعَادَة وامره بمرافقة السُّلْطَان فِي حَملته الاخيرة على بِلَاد الْعَجم فرافقه وَفِي عودته زار بَيت الْمُقَدّس فقابله الرهبان والقسوس بِكُل احتفال لتاييد المعاهدات السَّابِقَة القاضية بِجعْل جَمِيع الكاثوليك المستوطنين باراضي الدولة الْعلية تَحت حماية فرنسا ثمَّ عَاد إِلَى فرنسا فَوجدَ نيران الْحَرْب قد اشتعلت ثَانِيًا بَينهَا وَبَين النمسا فَعَاد إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَاتفقَ مَعَ الْبَاب العالي على ان تتحد الدونانمة التركية مَعَ الْعِمَارَة الفرنساوية لفتح جَزِيرَة كورسيكا مجازاة لاهالي جنوه المحتلين لَهَا على مساعدتهم لشارلكان ولتكون مركزا لاعمال الدونانمتين فِي غَزْو سواحل اسبانيا وايطاليا وابرمت بذلك معاهدة بتاريخ 16 صفر سنة 960 اول فبراير سنة 1553 وَهَذَا نَصهَا مترجمة عَن مَجْمُوعَة البارون دي تستا السَّابِق ذكرهَا
ان جلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان وهنري دي فالوا الثَّانِي ملك الفرانك قد ابرما اتحادا مُشْتَمِلًا على الْعبارَة الْآتِيَة بِخُصُوص الْحَرْب البحري جعله الله حميد الْعَاقِبَة الَّذِي سيشرعان فِيهِ ضد الامبراطور شارلكان
البند 1 بِمَا ان جلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان سُلْطَان التّرْك بارساله عمَارَة بحريّة فِي بَحر التوسكان ضد الامبراطور شارل الْخَامِس قد اعان بذلك هنري دي فالوا مُدَّة سنتَيْن بِنَاء على طلبه المتكرر فِي باديء الامر وبالخصوص بِنَاء على ترجياته الْبَالِغَة اقصى دَرَجَات الحض فقد اتّفق بَان الْملك هنري يدْفع ثَلَاثمِائَة الف قِطْعَة
(1/242)
________________________________________
من الدهب بِصفة متاخر مُرَتّب الدونانمة وَذَلِكَ حِين مَا تصير الملاحة مامونة لنقل النُّقُود بالعمارة وان السفن الحربية التابعة للْملك هنري لَا تتباعد عَن الْعِمَارَة الْمَذْكُورَة وَتعْتَبر كانها مَرْهُونَة نَظِير الْمبلغ الْمَذْكُور حَتَّى يدْفع لاميرال عمَارَة السُّلْطَان سُلَيْمَان
البند 2 مَتى توفر هَذَا الشَّرْط بِوَجْه الْعَدَالَة فان جلالة السُّلْطَان التّرْك سُلَيْمَان يقوم بتجهيز سِتِّينَ مركبا حَرْبِيّا ذَات ثَلَاثَة صُفُوف و 25 قرصانا بحريا ويرسلها للْملك هنري فِي مُدَّة اربعة شهور مُتَوَالِيَة من ابْتِدَاء اول مايو الْقَابِل
البند 3 اما فِي حَالَة مَا إِذا اراد هنري دي فالوا ان يسْتَعْمل الْعِمَارَة الْمَذْكُورَة فِي اثناء هَذِه الْمدَّة للاستعانة بهَا على الْجِهَات الغربية أَي الْجِهَات الْوَاقِعَة من ابْتِدَاء كروتون لغاية جائت فانه يقوم بِدفع مائَة وَخمسين الف قِطْعَة من الدهب إِلَى جلالة سُلْطَان التّرْك سُلَيْمَان بغاية من الضَّبْط
البند 4 كل سفينة تَابِعَة للامبراطور اَوْ للمتحالفين مَعَه سَوَاء اكانت معدة للنَّقْل اَوْ كَانَت من المراكب الْخَفِيفَة وَسَوَاء اكانت سفنا حربية صَغِيرَة اَوْ كَبِيرَة فبمجرد وُقُوعهَا اسيرة لَدَى الْعِمَارَة العثمانية تصير من تِلْكَ اللحظة ملكا للسُّلْطَان سُلَيْمَان ملك التّرْك
البند 5 المدن والقصبات والقرى والكفور الَّتِي تتغلب عَلَيْهَا هَذِه الْعِمَارَة تكون مُبَاحَة غنيمَة للترك وَجَمِيع سكانها راشدين اَوْ قاصرين رجَالًا كَانُوا اَوْ نسَاء وَلَو انهم معتنقون الدّيانَة المسيحية وَيَكُونُونَ قد سلمُوا انفسهم باختيارهم فانه لَا بُد من تَركهم اسراء وعبيدا للترك بِمُقْتَضى وَاجِبَات الِاتِّفَاق الصَّرِيحَة بِهَذَا الصدد الَّتِي قر عَلَيْهَا الامر بَين السُّلْطَان سُلَيْمَان وَبَين فرانسوا ابي هنري من مُنْذُ سبع عشرَة سنة الا ان امتلاك هَذِه المدن والقصبات والقرى والكفور والمؤن والذخائر وَكَذَلِكَ مدافع البرونز صَغِيرَة كَانَت اَوْ كَبِيرَة مَعَ جَمِيع متعلقاتها من حيوانات وَغَيرهَا الَّتِي تُوجد فِيهَا فانها تتْرك للْملك هنري بِمُوجب هَذِه المعاهدة
(1/243)
________________________________________
البند 6 إِذا اصدر الْملك هنري امْرَهْ إِلَى عمَارَة جلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان بَان تحارب شارل ملك النمسا غير متجهة نَحْو الغرب بل نَحْو الشرق والجنوب ويقصد بذلك مسيرها فِي الشواطيء من عِنْد مصب نهر ترونتو لغاية كروتون بِحَيْثُ ان هَذِه الْعِمَارَة تقوم باعباء اوامر هنري بِدُونِ مُقَابل فقد اتّفق على ان الْموَاد الحربية ومؤنات المدن والقصبات الَّتِي تقع تَحت يَد التّرْك يتنازل عَنْهَا للْملك هنري وَلَكِن المدن والقصبات والقرى والكفور فانها تتْرك غنيمَة للترك كَمَا تقرر ذَلِك بالبند السَّابِق واما الوطنيون والمزارعون والقاطنون البالغون والقاصرون الرِّجَال مِنْهُم وَالنِّسَاء فانهم يسلمُونَ للاسر بِدُونِ مُعَارضَة حَتَّى وَلَو كَانُوا مِمَّن يعتنقون الدّيانَة المسيحية بل وَلَو كَانُوا مِمَّن اسْلَمْ نَفسه بمحض ارادته
البند 7 يُمكن لاميرال جلالة الْملك سُلَيْمَان ان يستولي وياسر باسم مليكه الافخم كل مَكَان تقدم عَلَيْهِ الْعِمَارَة التركية المظفرة مَتى راى ثمَّة من فَائِدَة وَذَلِكَ من ابْتِدَاء حُدُود نهر ترونتو لغاية أوترانت وكرتون وَمن ثمَّ لغاية صقلية ونابولي وعموما جَمِيع الاقاليم الْمَمْلُوكَة للامبراطور شارل الْخَامِس ملك النمسا سَوَاء اكان ذَلِك الْمَكَان دَاخل الاراضي اَوْ سَوَاء اكان مَدِينَة اَوْ قَصَبَة اَوْ قَرْيَة اَوْ كفرا اَوْ ميناء اَوْ خليجا وَله الْحق فِي الِاسْتِيلَاء على أَي سفينة يصادفها وَله ان يَغْزُو بل وان ينهب وياسر الرِّجَال وَالنِّسَاء الْبَالِغين اَوْ القاصرين حَتَّى انه يُمكنهُ مَتى شَاءَ ان يحافظ ويتملك جَمِيع مَا يغتنمه سَوَاء اكان من بني الانسان اَوْ المدن اَوْ الْبيُوت الخلوية وان يعدها ويستعملها لاحتياجاته وَلَو ضد رَغْبَة الفرنك وبالرغم عَن مضادتهم الشَّدِيدَة فِي ذَلِك
البند 8 إِذا تحصل جلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان على تملك احدى الاربع مدن
(1/244)
________________________________________
حصنها فِي اقليم البوي بِوَاسِطَة مساعي فردينان سنسيفرن برنس دي سالرنيتين بِمُقْتَضى تعهد هَذَا الامير فجلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان يُعِيد إِلَى هنري مبلغ الثلاثمائة الف قِطْعَة من الذَّهَب الَّتِي ضمن لَهُ كَمَا تقدم دَفعهَا وَذَلِكَ فِي حَالَة مَا إِذا كَانَت دفعت اليه
البند 9 جلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان يسلم عدا عَن ذَلِك الثَّلَاثِينَ سفينة حربية وبحارتها بِدُونِ ادنى فديَة وَكَذَا المدافع والمؤن وَجَمِيع الْموَاد وَيسْتَثْنى من ذَلِك رجال بحريَّته الخصوصيون وعساكره كَمَا وانه يدْفع فِي اقْربْ وَقت لبرنس سالرن الَّذِي بذل نَفسه وكل مَا فِي وَسعه للحصول عَلَيْهَا وَكَانَ نصِيبه ان حرم من منصبه وطرد من وَطنه وبيته مبلغ الثَّلَاثِينَ الف قِطْعَة من الذَّهَب الَّتِي صرفهَا بِكُل ارتياح وكرم
فَهَذِهِ البنود بالحالة الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَة بهَا اعلاه قد وضحت بِحَسب مَا جرت بِهِ الْعَادة بِكَلَام مضبوط لايقبل التَّأْوِيل بِوَاسِطَة ارامونت سفير هنري لَدَى جلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان الَّذِي اضاف اليها قسما صَرِيحًا بِحُضُور برنس سالرنيتين بِصفة كَونه نَائِبا امينا وَمن جِهَة اخرى فقد تصدق عَلَيْهَا من رستم باشا بِمُوجب السلطة الممنوحة لَهُ من لدن جلالة السُّلْطَان سُلَيْمَان
وَقد ابرم جَمِيع ذَلِك وَاتفقَ عَلَيْهِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي اول فبراير سنة 1553
فسارت مراكب الدولتين وَفتحت جَزِيرَة كورسيكا بعد شن الْغَارة على بِلَاد كلابريا وجزيرة صقلية من اعمال ايطاليا لَكِن لوُقُوع النفرة بَين القائدين لم يسْتَمر احتلالها بل افْتَرَقت العمارتان وَرجع القبودان العثماني إِلَى الاستانة
(1/245)
________________________________________
وَكَانَت هَذِه آخر دفْعَة حَارب فِيهَا العثمانيون والفرنساويون كَتفًا لكتف لتغير الظروف والاحوال حَتَّى اتت حَرْب القرم الاخيرة الَّتِي حصلت فِي اواسط هَذَا الْقرن وحاربت فِيهَا فرنسا وانكلتره مَعَ الدولة الْعلية دولة الروس لَا دفاعا عَن الدولة العثمانية بل لاضعاف الروسيا حَتَّى لَا تتمكن من الِاسْتِيلَاء على بوغاز البوسفور كَمَا سَيَأْتِي مفصلا
ولنذكر هُنَا حَادِثَة شنيعة وَهِي قتل السُّلْطَان لوَلَده الاكبر مصطفى بِنَاء على دسيسة احدى زَوْجَاته الْمُسَمَّاة فِي كتب الافرنج روكسلان اما فِي كتب التّرْك فاسمها خورم أَي الباسمة ذَلِك حَتَّى يتَوَلَّى بعده ابْنهَا سليم ولمالها من الثِّقَة بالصدر الاعظم رستم باشا اذ كَانَ تَعْيِينه بمساعيها لَدَى السُّلْطَان بعد موت اياس باشا وَمَا زَالَت تساعده حَتَّى زوجه السُّلْطَان ابْنَته مِنْهَا فكاشفته بمرغوبها وَهُوَ تمهيد الطَّرِيق لتولي ابْنهَا سليم فانتهز هَذَا الْوَزير فرْصَة انتشاب الْحَرْب بَين الدولة ومملكة الْعَجم فِي سنة 1553 وَوُجُود مصطفى ضمن قواد الْجَيْش وَكتب إِلَى بيه بَان وَلَده يحرض الانكشارية على عَزله وتنصيبه كَمَا فعل السُّلْطَان سليم الاول مَعَ ابيه السُّلْطَان بايزيد الثَّانِي فَلَمَّا وصل هَذَا الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان وَكَانَت وَالِدَة سليم قد تمكنت من تَغْيِير افكاره نَحوه قَامَ فِي الْحَال قَاصِدا بِلَاد الْعَجم متظاهرا بانه يُرِيد ان يتَوَلَّى قيادة الْجَيْش وَلما وصل إِلَى المعسكر استدعى وَلَده الْمِسْكِين إِلَى سرادقه فِي يَوْم 12 شَوَّال سنة 960 هـ 21 سبتمبر سنة 1553 وبمجرد وُصُوله إِلَى الدَّاخِل خنقه بعض الْحجاب المنوطين بتنفيذ مثل هَذِه الاوامر فَقتل رَحمَه الله شَهِيد دسائس زَوْجَة وَالِده وَعدم تثبت ابيه مِمَّا نسب اليه وَكَانَت هَذِه الفعلة الشنعاء نقطة سَوْدَاء فِي تَارِيخ السُّلْطَان سُلَيْمَان الَّذِي اتسعت دَائِرَة السلطنة فِي ايامه وَلَوْلَا دسيسة هَذِه الْمَرْأَة الاجنبية الَّتِي رُبمَا كَانَت مؤجرة لهَذِهِ الْغَايَة لبقي اسْمه لَا تشوبه شَائِبَة ثمَّ نقلت جثة هَذَا الشَّهِيد إِلَى مَدِينَة بورصه ودفنت مَعَ جثث اجداده وَلم تكتف هَذِه الْمَرْأَة البربرية الطباع بقتل مصطفى سُلْطَان بل ارسلت إِلَى مَدِينَة بورصة
(1/246)
________________________________________
من قتل ابْنه الرَّضِيع وَقَالَ فِي ذَلِك بعض الشُّعَرَاء ... يادهر وَيحك مَا ابقيت لي جلدا
وانت وَالِد سوء تاكل الولدا ...

وَكَانَ رَحمَه الله محبوبا لَدَى الانكشارية لشجاعته ولدى الْعلمَاء وَالشعرَاء لاشتغاله بالادب وميله إِلَى الشّعْر فرثاه كثير من الشُّعَرَاء بقصائد رنانة وَلم يخشوا سطوة ابيه
اما الانكشارية فثاروا وطلبوا من السُّلْطَان قتل الْوَزير رستم باشا الْمُدبر لهَذِهِ المكيدة حبا فِي حفظ منصبه فَعَزله السُّلْطَان تسكينا لخاطرهم وَولى مَكَانَهُ الْوَزير احْمَد باشا لَكِن لم يهدأ بَال زَوْجَة السُّلْطَان حَتَّى اغرت زَوجهَا على قتل هَذَا الْوَزير وارجاع رستم باشا مُكَافَأَة لَهُ على تَنْفِيذ سيء اغراضها
وَبعد قتل هَذَا البريء تَوَجَّهت الجيوش إِلَى بِلَاد الْعَجم وَلم يحصل فِي هَذِه الْمرة وقائع مهمة بل بعد ان غزت الجيوش العثمانية بِلَاد شيروان بِدُونِ فَائِدَة تذكر مَال الْفَرِيقَانِ للصلح فتم بَينهمَا فِي 8 رَجَب سنة 962 29 مايو سنة 1555 على ان يُبَاح للاعاجم الْحَج إِلَى بَيت الله الْحَرَام ويزاولوا مَذْهَبهم بِدُونِ تعرض وَكَانَ للسُّلْطَان سُلَيْمَان ابْن آخر اسْمه جهانكير حزن حزنا شَدِيدا على قتل اخيه مصطفى حَتَّى توفّي شَهِيد الْمحبَّة الاخوية بعد موت اخيه بِقَلِيل وَاخْتلف فِي مَوته انه قتل نَفسه امام وَالِده بعد ان بكته على قتل اخيه وَقيل غير ذَلِك
وَبعد ذَلِك يقليل توفيت هَذِه الْمَرْأَة الَّتِي سودت بدسائسها آخر سني حكم السُّلْطَان سُلَيْمَان الَّذِي اشْتهر قبل ذَلِك بِكُل الكمالات
وَلم تكن هَذِه الْحَادِثَة خَاتِمَة الفظائع بل اعقبها بقتل ابْنه الثَّانِي بايزيد واولاده الْخَمْسَة وَذَلِكَ ان مربي بايزيد الْمَدْعُو لَا لَهُ مصطفى عين نَاظر خَاصَّة سليم سُلْطَان وَلكَون هَذَا الامير كَانَ يخْشَى مزاحمة اخيه بايزيد لَهُ فِي الْملك بعد موت ابيهما كاشف لَا لَهُ مصطفى بانه يُرِيد ايغار صدر ابيه على بايزيد ليَقْتُلهُ وَيكون هُوَ سليم الْوَارِث الوحيد لملك آل عُثْمَان فاخذ مصطفى يبْحَث عَن الطَّرِيقَة الموصلة
(1/247)
________________________________________
لهَذِهِ الْغَايَة المشؤمة حَتَّى هداه شَيْطَان عقله وابليس سَرِيرَته إِلَى ان يكْتب لبايزيد يَقُول لَهُ ان سليما منهمك فِي الشَّهَوَات وَلَا يَلِيق ان يخلف وَالِده وَمَعَ ذَلِك فوالده مصمم على استخلافه مَعَ عدم اهليته للْملك وَعدم استعداده للخلافة فتبادلت بَينهمَا المكاتبات بشان ذَلِك واخيرا كتب بايزيد إِلَى اخيه سليم خطابا بِهِ بعض عِبَارَات تمس كَرَامَة والدهما فارسل سليم الْخطاب لابيه وَلما اطلع السُّلْطَان سُلَيْمَان على هَذَا الْخطاب غضب غَضبا شَدِيدا وَكتب لبايزيد يوبخه على مَا اتاه ويامره بالانتقال من قونيه الَّتِي كَانَ معينا واليا عَلَيْهَا إِلَى مَدِينَة اماسيا فخشي بايزيد ان يكون قصد ابيه الْغدر بِهِ وَامْتنع عَن التَّوَجُّه إِلَى اماسيا وَجمع جَيْشًا يبلغ عدده عشْرين الف نسمَة واظهر التمرد فارسل اليه ابوه الْوَزير مُحَمَّد باشا الملقب بصقللي لمحاربته فتقابل الجيشان بِقرب قونيه وَاسْتمرّ الْقِتَال يومي 30 و 31 مايو سنة 1561 واخيرا هزم بايزيد وتقهقر إِلَى اماسيا وَمِنْهَا إِلَى بِلَاد الْعَجم حَيْثُ التجأ هُوَ واولاده إِلَى الشاه طهماسب فقابله واظهر لَهُ الاخلاص والاستعداد لحمايته لكنه كَاتب السُّلْطَان سُلَيْمَان وَابْنه سليما سرا على تَسْلِيم بايزيد واولاده اليهما مَعَ انهم احتموا بحماه وَلم يرع ذمتهم بل خَانَهُمْ وسلمهم إِلَى رسل السُّلْطَان فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا وهم بايزيد واولاده الاربعة اورخان ومحمود وَعبد الله وَعُثْمَان فِي مَدِينَة قزوين بِبِلَاد الْعَجم فِي 15 محرم سنة 969 25 سبتمبر سنة 1561 ونقلت جثتهم إِلَى مَدِينَة سيواس حَيْثُ واروها الثرى وَكَانَ لبايزيد ابْن صَغِير فِي مَدِينَة بورصه فخنق ايضا وَدفن فِي جَانب وَالِده واخوته
هَذَا اما من جِهَة المجر فَلم تَنْقَطِع الحروب بَينهَا وَبَين الدولة الْعلية وَكَذَلِكَ المخابرات كَانَت غير مُنْقَطِعَة للوصول إِلَى الصُّلْح وَلَا حَاجَة لنا فِي تَفْصِيل الوقائع الَّتِي حصلت بَين الجيشين لعدم وجود فَائِدَة فِي ذَلِك سوى ملال الْمطَالع بل نكتفي
(1/248)
________________________________________
بالْقَوْل انه فِي سنة 1555 حصلت هدنة بَين الطَّرفَيْنِ لسِتَّة اشهر وَمثلهَا فِي سنة 1557 وَفِي شهر يونيه سنة 1562 تمّ الصُّلْح بَينهمَا لمُدَّة ثَمَانِي سنوات بِشَرْط اسْتِمْرَار النمسا على دفع الْجِزْيَة السنوية الَّتِي قررتها المعاهدات السَّابِقَة وساعد على ذَلِك حب سميز على باشا الَّذِي خلف رستم باشا بعد مَوته فِي منصب الصدارة الْعُظْمَى للسلم وَعدم ميله لسفك الدِّمَاء
وَمَعَ ذَلِك فَلم تَنْقَطِع المناوشات بالمرة على حُدُود النمسا والمجر بل استمرت بِنَوْع غير رسمي وَبعد هَذَا الصُّلْح الاوهى من بَيت العنكبوت لما بَين العنصرين المتجاورين من عوامل الْبغضَاء تمكن السُّلْطَان من تَوْجِيه اهتمامه إِلَى تعزيز سفنه الحربية لحماية الجزائر وطرابلس الغرب الَّتِي افتتحها طرغول فِي غُضُون سنة 1551 سنة 958 لبعدها عَن مقرّ الْخلَافَة الْعُظْمَى وطموح انظار اسبانيا إِلَى ارجاعها اذ ان محتلها يكون دَائِما مهددا لسواحل اسبانيا ونابولي الَّتِي كَانَت تَابِعَة لاسبانيا فِي هَذَا الْحِين
حِصَار جَزِيرَة مالطه
فعززت الدونانمات العثمانية وَفِي اوائل سنة 1565 ارسلت عمَارَة بحريّة مؤلفة من نَحْو مِائَتي سفينة لفتح جَزِيرَة مالطه مقرّ رهبنة القديس حنا الاورشليمي لاهمية هَذِه الجزيرة الْوَاقِعَة بَين اقليم تونس وجنوب ايطاليا وضرورة احتلالها لكل دولة تُرِيدُ ان تكون لَهَا الْيَد الطُّولى على الْبَحْر الابيض الْمُتَوَسّط فابتدئ حصارها فِي شهر مايو من السّنة الْمَذْكُورَة وَاسْتمرّ نَحْو الاربعة شهور بِدُونِ ان يكون موت القبودان الشهير طرغول الْمَعْرُوف عِنْد الافرنج باسم دراجوت فِي اثناء الْحصار سَببا فِي عدم استمراره وَلما قرب قصل الشتَاء الَّذِي تكْثر فِيهِ الزوابع البحرية رفع الْحصار عَنْهَا فِي 11 سبتمبر سنة 1565 وعادت السفن بجيوشها إِلَى دَار السَّعَادَة
(1/249)
________________________________________
فتح مَدِينَة سكدوار
وَفِي اثناء ذَلِك قَامَت الْحَرْب على قدم بِبِلَاد المجر لَان مكسمليان الَّذِي خلف وَالِده فردينان ملك النمسا بعد مَوته سنة 1564 احتل مَدِينَة توكاي من اعمال المجر مُقَابلَة احتلال اسطفن زابولي ملك المجر لاحدى مدائنه ولان الصَّدْر الاعظم الطَّوِيل مُحَمَّد باشا الَّذِي تولى منصب الصدارة عقب موت سميز عَليّ باشا كَانَ محبا للحرب لانه من صقالبة البشناق الميالين لِلْقِتَالِ والجلاد
وَمَعَ ان السُّلْطَان كَانَ يتالم من دَاء النقرس تقلد بِنَفسِهِ رياسة الْجَيْش فِي تَاسِع شَوَّال سنة 973 29 ابريل سنة 1566 م وَسَار لصد هجمات النمسا عَن بِلَاد المجر التابعة لَهُ سيادة وعندما وصل اليها قابله ملكهَا الشَّاب اسطفن فاحسن اليه واكرم مثواه ووعده انه لن يبرح حَتَّى يُعِيد لَهُ مَا اغتيل من بِلَاده ثمَّ قَامَ بِصُحْبَتِهِ قَاصِدا قلعة ارلو الشهيرة الَّتِي عجز عَن فتحهَا قبل ذَاك التَّارِيخ باربع عشرَة سنة كَمَا سبق ذكره لَكِن بلغه فِي اثناء الطَّرِيق ان امير سكدوار تغلب عل فرقة من جيوشه فاراد ان يَغْزُو بِلَاده قبل محاصرة قلعة ارلو فَسَار إِلَى مَدِينَة سكدوار وابتدأ فِي حصارها وَفِي اقل من اسبوعين احتل معاقلها الامامية وَبعد ذَلِك اخلى المحصورون الْمَدِينَة خُفْيَة واحتموا بقلعتها مصرين على الدفاع عَنْهَا لآخر رم
(1/250)
________________________________________
موت السُّلْطَان سُلَيْمَان
وَفِي اوائل شهر سبتمبر اشْتَدَّ مرض السُّلْطَان وَتُوفِّي فِي 20 صفر سنة 974 5 سبتمبر سنة 1566 عَن ارْبَعْ وَسبعين سنة قمرية أَي بعد حِصَار الْمَدِينَة بِنَحْوِ خَمْسَة شهور وَكَانَت مُدَّة ملكه ثَمَانِيَة واربعين سنة قَضَاهَا فِي توسيع نطاق الدولة واعلاء شانها حَتَّى بلغت فِي ايامه اعلى دَرَجَات الْكَمَال واخفى الْوَزير خبر مَوته خوفًا من وُقُوع الفشل فِي المعسكر وارسل لوَلَده سليم بِمَدِينَة كوتاهية يُخبرهُ بذلك وَيطْلب مِنْهُ الْحُضُور على جنَاح السرعة إِلَى الاستانة منعا للقلاقل وَفِي يَوْم 8 سبتمبر هجم العثمانيون على القلعة واحتلوها عنْوَة وَفِي انْتِهَاء الْقِتَال حصلت فرقعة عَظِيمَة انفجرت بِسَبَبِهَا ارْض القلعة وانهدم بناؤها على من بهَا من طرفِي المتحاربين وَذَلِكَ ان المحصورين لما راوا ان لَا مناص لَهُم من الانهزام اَوْ الْمَوْت دبروا هَذِه المكيدة باعمال عدَّة الغام اشعلوها بعد احتلال العثمانيين اياها حَتَّى يموتوا وَيهْلك كَافَّة من دَخلهَا من جنود العثمانيين واعلن الْوَزير هَذَا الِانْتِصَار لكافة الْجِهَات باسم الْملك حرصا على عدم اذاعة مَوته الَّذِي لم يذعه الا بعد ان اتت اليه اخبار اكيدة من الاستانة بوصول وَلَده سليم اليها واستلامه مهام الاعمال بهَا
واشتهر المرحوم السُّلْطَان سُلَيْمَان بالقانوني لما وَضعه من النظامات الداخلية فِي كَافَّة فروع الْحُكُومَة فَادْخُلْ بعض تغييرات فِي نظام الْعلمَاء والمدرسين الَّذِي وَضعه السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح وَجعل اكبر الْوَظَائِف العلمية وَظِيفَة الْمُفْتِي وَقسم جَيش الانكشارية إِلَى ثَلَاث فرق بِحَسب سني خدمتهم وَجعل مُرَتّب كل نفر من الْفرْقَة الاولى من ثَلَاثَة غروش إِلَى سَبْعَة غروش يوميا وَالثَّانيَِة من ثَمَانِيَة غروش إِلَى تِسْعَة غروش يوميا للنفر الْوَاحِد وَفِي الثَّالِثَة الْمُؤَلّفَة مِمَّن اصيبوا بعاهات دائمية جعل مُرَتّب النَّفر مِنْهُم ثَلَاثِينَ غرشا إِلَى مائَة وَعشْرين غرشا شهريا وَكَانَ عدد الْجَيْش عِنْد وَفَاته ثَلَاثمِائَة الف مِنْهَا خَمْسُونَ الْفَا من الجيوش المنتظمة والباقية غير منتظمة وَعدد المدافع ثَلَاثمِائَة والسفن الحربية ثَلَاثمِائَة ايضا
(1/251)
________________________________________
اسباب الانحطاط
وَتَقَدَّمت الفتوحات فِي ايامه تقدما عَظِيما لم تصل اليه بعده وَبَلغت الدولة اوج سعادتها واخذت بعده فِي الْوُقُوف تَارَة والتقهقر اخرى حَتَّى وصلت إِلَى الْحَالة الَّتِي عَلَيْهَا الان لجملة اسباب مِنْهَا زِيَادَة الثروة بِسَبَب الفتوحات العديدة والغنائم الْكَثِيرَة وَلَا يخفى ان الثروة تورث غَالِبا الْمُفَاخَرَة فِي الْمصرف والتغالي فِي الزهو والترف وكل امة سادت فِيهَا هَذِه الْخِصَال لَا بُد لَهَا من التَّأَخُّر وَمِنْهَا ان الانكشارية كَانُوا لَا يخرجُون إِلَى الْحَرْب الا إِذا كَانَ السُّلْطَان مَعَهم وَلذَا كَانَت اهم الحروب والغزوات تَحت امرة السُّلْطَان وقيادته لانه ان لم يخرج بِنَفسِهِ لما حَارَبت الانكشارية الَّتِي عَلَيْهَا الْمدَار الاول فِي الحروب فَغير السُّلْطَان سُلَيْمَان هَذِه السّنة الحميدة واجاز للانكشارية الْقِتَال تَحت امرة قائدهم الاكبر وَلَو لم يكن السُّلْطَان مَوْجُودا فَكَانَ هَذَا التَّغْيِير سَببا فِي تقاعس اغلب من خَلفه من السلاطين عَن الْخُرُوج من قصورهم الباذخة وتفضيلهم الْبَقَاء بَين غلمانهم وجواريهم المختلفات الاجناس على الْخُرُوج لِلْقِتَالِ وتكبد مشاقه وَمِنْهَا ان كَافَّة امور الدولة المهمة كَانَت تنظر فِي ديوَان الوزراء تَحت رئاسة السُّلْطَان فابطل السُّلْطَان سُلَيْمَان هَذِه الْعَادة وَصَارَ الدِّيوَان ينْعَقد تَحت رئاسة اكبر الوزراء وَهُوَ الصَّدْر الاعظم وَالسُّلْطَان لاه عَن ذَلِك معرض عَن دسائس الوزراء وَمن يستعينون بهم من جواريه وازواجه وترتب على ذَلِك ان صَارَت الامور بيد الوزراء المغايرين للْجِنْس العثماني اصلا ونسبا اذ ان اغلبهم مِمَّن اسْلَمْ اَوْ تظاهر بالاسلام من النَّصَارَى اَوْ من غلْمَان وخدم السلاطين ونتيجة ذَلِك وَاضِحَة كَمَا ظهر للقارئ عِنْد مطالعة اسباب قتل مصطفى ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان بِنَاء على دسائس زَوجته والوزير رستم باشا وَمنا الاباحة للانكشارية بالتزوج والاقامة خَارج ثكناتهم مَعَ اعظائهم بعض امتيازات وَقبُول الاخلاط ضمن زمرتهم مِمَّا جعلهم من اكبر مُوجبَات تَأَخّر الدولة بعد ان كَانَت من اعظم عوامل تقدمها إِلَى غير ذَلِك من الاسباب الَّتِي سنوردها تباعا بِحَسب مقتضيات الاحوال
(1/252)
________________________________________
11
- السُّلْطَان الْغَازِي سليم خَان الثَّانِي
ولد السُّلْطَان سليم الثَّانِي فِي 6 رَجَب سنة 930 هجرية 10 مايو سنة 1533 م وَهُوَ ابْن روكسلان الروسية سَابِقَة الذّكر وَتَوَلَّى الْملك بعد موت ابيه وَوصل إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي 9 ربيع اول سنة 974 24 دسمبر سنة 1566 م وَبعد ان مكث بهَا يَوْمَيْنِ سَار على عجل إِلَى مَدِينَة سكدوار للاحتفال بارجاع جثة وَالِد المرحوم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فقابله خَارج الْمَدِينَة سفراء فرنسا والبندقية القادمين لتهنئته بِالْملكِ وَلما وصل مَدِينَة صوفيا فِي 6 اكتوبر ارسل الرُّسُل إِلَى كَافَّة الممالك الخارجية والولايات الداخلية يُخْبِرهُمْ بِمَوْت ابيه وتوليته على عرش آل عُثْمَان وَمِنْهَا قصد مَدِينَة بلغراد وَمكث فِيهَا حَتَّى اتى الْوَزير مُحَمَّد باشا صقللي بجثة وَالِده المرحوم وَذَلِكَ ان الْوَزير مُحَمَّد باشا لم يعلن بوفاة السُّلْطَان سُلَيْمَان الا فِي اثناء عودته من مَدِينَة سكدوار إِلَى بلغراد بل اوهم الْجند ان السُّلْطَان مَرِيض وَلَا يُمكن لَاحَدَّ مُقَابلَته وَلما اعلن مَوته إِلَى الْجنُود بعد مَوته بِنَحْوِ خمسين يَوْمًا لبست الجيوش عَلَيْهِ الْحداد وَسَارُوا إِلَى بلغراد حَيْثُ كَانَ سليم الثَّانِي فِي انتظارهم فطلبت الْجنُود مِنْهُ ان يوزع عَلَيْهِم العطايا الْمُعْتَادَة فابى ثمَّ اذعن لطلباتهم لاظهارهم الْعِصْيَان والتمرد وَعدم اطاعتهم اوامر ضباطهم وامتهانهم لَهُم بِحُضُور السُّلْطَان
وَلم يكن السُّلْطَان متصفا بِمَا يؤهله للْقِيَام بِحِفْظ فتوحات ابيه فضلا عَن اضافة شَيْء اليها وَلَوْلَا وجود الْوَزير الطَّوِيل مُحَمَّد باشا صقللي المدرب على الاعمال الحربية السياسية للحق الدولة الفشل لَكِن حسن سياسة هَذَا الْوَزير وَعظم اسْم الدولة ومهابتها فِي قُلُوب اعدائها حَفظتهَا من السُّقُوط مرّة وَاحِدَة فتم الصُّلْح بَينهَا وَبَين النمسا بمعاهدة تاريخها 17 فبراير سنة 1568 من شُرُوطهَا حفظ النمسا
(1/253)
________________________________________
املاكها فِي بِلَاد المجر وَدفعهَا الْجِزْيَة السنوية المقررة بالعهود السَّابِقَة واعترافها بتبعية امراء ترانسلفانيا والفلاخ والبغدان إِلَى الدولة الْعلية وتجددت ايضا الْهُدْنَة مَعَ ملك بولونيا باعتراف الْبَاب العالي بالتحالف الَّذِي حصل مَا بَين ملك بولونيا وامير البغدان وَكَذَلِكَ جددت مَعَ شارل التَّاسِع ملك فرنسا فِي سنة 1569 الاتفاقيات الَّتِي تمت بَين الدولتين فِي عصر السُّلْطَان سُلَيْمَان وايد السُّلْطَان سليم الامتيازات القنصلية وَزَاد عَلَيْهَا امتيازات اخرى اهمها معافاة كل فرنساوي من دفع الْخراج الشخصي وان يكون للقناصل الْحق فِي الْبَحْث عَمَّن يكون عِنْد العثمانيين من الفرنساويين فِي حَالَة الرّقّ واطلاق سراحهم والبحث عَمَّن اخذهم بِصفة رَقِيق لمجازاته وان يرد السُّلْطَان كَافَّة الاشياء الَّتِي تاخذها قراصنة الْبَحْر من المراكب الفرنساوية ومعاقبة الاخذ لَهَا وان تكون المراكب العثمانية ملزمة بمساعدة مَا يرتطم من السفن الفرنساوية على شواطئ الدولة وبحفظ مَا بهَا من الرِّجَال وَالْمَتَاع وان يكون لفرنسا كل الامتيازات الممنوحة لجمهورية البنادقة
ولزيادة تَوْثِيق عرى الِاتِّحَاد بَين الدولة وفرنسا وَزِيَادَة نُفُوذ اتحادهما اتّفقت الدولتين على ترشيح هنري دي فالوا اخي ملك فرنسا لعرش بولونيا ليَكُون لَهُم ظهيرا ضد النمسا من جِهَة والروسيا من اخرى وَقد تمّ ذَلِك فعلا وَصَارَت بولونيا تَحت حماية الدولة الْعلية حماية فعلية وان لم تكن اسمية وَبِذَلِك صَارَت فرنسا ملكة التِّجَارَة فِي الْبَحْر الابيض الْمُتَوَسّط وَجَمِيع الْبِلَاد التابعة للدولة وارسلت
(1/254)
________________________________________
تَحت ظلّ هَذِه المعاهدات عدَّة ارساليات دينية كاثوليكية إِلَى كَافَّة بِلَاد الدولة الْمَوْجُودَة بهَا مسيحيون خُصُوصا فِي بِلَاد الشَّام لتعليم اولادهم وتربيتهم على محبَّة فرنسا وَكَانَت هَذِه الامتيازات الْمُوجبَة لضعف الدولة بِسَبَب تدخل القناصل فِي الاجراءآت الداخلية بِدَعْوَى رفع الْمَظَالِم عَن المسيحيين واتخاذها لَهَا سَبِيلا لامتداد نفوذها بَين رعايا الدولة المسيحيين واهم نتائج هَذَا التدخل واضره مَآلًا واوخمه عَاقِبَة اسْتِعْمَال هَذِه الارساليات الدِّينِيَّة فِي حفظ جنسية ولغة كل شعب مسيحي حَتَّى إِذا ضعفت الدولة امكن هَذِه الشعوب الِاسْتِقْلَال بمساعدة الدول المسيحية اَوْ الانضمام إِلَى احدى هاته الدول كَمَا شوهد ذَلِك فِي هَذَا الْقرن الاخير مِمَّا سياتي مفصلا بالشرح الْكَافِي وَالْبَيَان الوافي
وَمن اعمال الْوَزير مُحَمَّد باشا صقللي ان ارسل جَيْشًا عَظِيما إِلَى بِلَاد الْيمن فِي سنة 976 سنة 1569 م تَحت قيادة عُثْمَان باشا الَّذِي عين عَاملا عَلَيْهَا لقمع ثورة اهاليها الَّذين عصوا الدولة اتبَاعا لامر سلطانهم الشريف مطهر بن شرف الدّين يحيى فانتصر عُثْمَان باشا عَلَيْهِم بمساعدة سِنَان باشا وَالِي مصر وَدخلت الجيوش المظفرة بِمَدِينَة صنعاء بعد ان فتحت جَمِيع القلاع
فتح جَزِيرَة قبرص
وَفِي اوائل السّنة التالية اعْترف الشريف مطهر بسيادة الْبَاب العالي على بِلَاده وَمن اعماله ايضا فتح جَزِيرَة قبرص الَّتِي كَانَت تَابِعَة للبندقية فارسلت اليها المراكب الحربية فِي سنة 978 سنة 1570 تَحت امرة بيالي باشا تحمل مائَة الف جندي يَقُودهَا لاله مصطفى باشا الَّذِي كَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي عصيان وَقتل بايزيد
(1/255)
________________________________________
اخي السُّلْطَان سليم فرست السفن امام مَدِينَة ليمازون لفقوسه كَذَا ذكرهَا القرماني فِي اول اغسطس وَفتحت فِي 8 ربيع الآخر سنة 978 9 سبتمبر سنة 1570 ثمَّ وضع الْحصار امام مَدِينَة فماجوست ماغوسه كَذَا ذكرهَا القرماني ولاقتراب فصل الشتَاء امهل فتحهَا إِلَى اوائل الرّبيع وابتدأت اعمال الْحصار ثَانِيًا فِي ابريل سنة 1571 وَفتحت فِي 10 ربيع الاول سنة 979 2 اغسطس من السّنة الْمَذْكُورَة وَبِذَلِك تمّ فتح جَزِيرَة قبرص وَصَارَت من ذَلِك الْعَهْد تَابِعَة للدولة العثمانية إِلَى ان احتلها الانكليز بكيفية غَرِيبَة سنة 1878 كَمَا ترى فِي اواخر هَذَا الْكتاب
وَاقعَة ليبانت البحرية
وَفِي هَذِه الاثناء غزت المراكب العثمانية جَزِيرَة كريد وظنته وَغَيرهَا بِدُونِ ان تفتحها واحتلت مَدَائِن دلنسنيو وانتيباري على الْبَحْر الادرياتيكي
(1/256)
________________________________________
وَلما رات البندقية تغلب العثمانيين عَلَيْهَا وَفتح كثير من بلادها استعانت باسبانيا والبابا وَتمّ بَينهم الِاتِّفَاق على محاربة الدولة بحرا خوفًا من امتداد سلطتها على بِلَاد ايطاليا فَجمعُوا مراكبهم وَجعلُوا دون جوان ابْن شارلكان سِفَاحًا من احدى خليلاته اميرا عَلَيْهَا فسارت سفن المسيحين إِلَى شواطئ الدولة وَكَانَت تِلْكَ الدونانمة المختلطة مؤلفة من 70 سفينة اسبانيولية و 140 من سفن البنادقة و 12 للبابا و 9 من سفن رهبنة مالطه
وقابلت هَذِه الدونانمة الْعِمَارَة العثمانية مؤلفة من 300 سفينة فِي 17 جُمَادَى الاولى سنة 979 7 اكتوبر سنة 1571 بِالْقربِ من ليبنة واشتبك بَينهم الْقِتَال مُدَّة ثَلَاث سَاعَات مُتَوَالِيَة انْتهى الامر بعْدهَا بانتصار الدونانمة المسيحية فاخذت 130 سفينة عثمانية واحرقت واغرقت 94 وغنمت 300 مدفعا و 30 الف اسيرا وَهَذِه اول وَاقعَة حصلت بَين الدولة من جِهَة واكثر من دولتين مسيحيتين من جِهَة اخرى واشتراك البابا فِيهَا يدل على ان المحرك لهَذِهِ التالبات ضد الدولة الاسلامية الوحيدة هُوَ الدّين كَمَا ايدته الْحَوَادِث والحروب فِيمَا بعد لَا السياسة كَمَا يدعونَ
وَكَانَ لهَذَا الْفَوْز رنة فَرح فِي قُلُوب المسيحيين اجْمَعْ حَتَّى ان البابا خطب فِي كَنِيسَة ماري بطرس برومه وشكر دون جوان على انتصاره على السفن الاسلامية
(1/257)
________________________________________
وَذَلِكَ مِمَّا لايجعل عِنْد الْمطَالع اقل رِيبَة اَوْ شكّ فِي ان المسالة الشرقية مسالة دينية لَا سياسية كَمَا ادَّعَاهُ ويدعيه الاوروبيون ويغتر بِهِ السذج الْغَيْر المطلعين
وَلما وصل خبر هَذِه الْحَادِثَة إِلَى الاستانة هاج الْمُسلمُونَ على المسيحيين وهموا بقتل الْمُرْسلين الكاتوليك لَوْلَا تدارك الْوَزير مُحَمَّد باشا صقللي الامر بَان حجز هَؤُلَاءِ الْمُرْسلين تَحت الْحِفْظ حَتَّى تعود السكينَة إِلَى ربوعها وَقد اخرجهم بِنَاء على الحاح سفير فرنسا وَلم تقعد هَذِه الْحَادِثَة المشؤمة همه هَذَا الْوَزير بل انتهز فرْصَة الشتَاء وَعدم امكان اسْتِمْرَار الْحَرْب لتشييد دونانمة اخرى وبذل النَّفس والنفيس فِي تجهيزها وتسليحها حَتَّى إِذا اقبل صيف سنة 1572 كَانَ قد تمّ استعداد 250 سفينة جَدِيدَة وَفِي هَذِه السّنة لم تحصل وقائع بحريّة مهمة لوُقُوع الشقاق بَين القبودان البندقي والقبودان الاسبانيولي حَتَّى ان جمهورية البندقية سعت فِي التَّقَرُّب إِلَى الدولة الْعلية فعرضت عَلَيْهَا الصُّلْح واستمرت بَينهم المخابرات مُدَّة وَفِي 3 ذِي الْقعدَة سنة 980 7 مارس سنة 1573 تمّ الصُّلْح على ان تتنازل البندقية للدولة عَن جَزِيرَة قبرص وان تدفع لَهَا غَرَامَة حربية قدرهَا 300 الف دوكا
اما من جِهَة اسبانيا فقد قصد دون جوان مَدِينَة تونس فِي اواخر سنة 1572 واحتلها بِدُونِ مقاومة لارتحال من كَانَ بهَا من العثمانيين عِنْد قدوم السفن الاسبانيولية وتحققهم من أَن الدفاع لَا يجدي نفعا لقلَّة عَددهمْ بِالنِّسْبَةِ للاسبانيول فاحتلها دون جوان واعاد اليها سلطانها مولَايَ حسن الَّذِي التجأ اليهم عِنْد احتلال العثمانيين لبلاده لَكِن لم يلبث الا نَحْو 8 اشهر لاسترجاعها ثَانِيَة إِلَى املاك الدولة بِمَعْرِِفَة سِنَان باشا فِي اغسطس سنة 1575 وَفِي جِهَة بِلَاد البغدان انتصر العثمانيون بعد موقعة هائلة اهرقت فِيهَا الدِّمَاء كالسيول المنهمرة فِي 9 يونيو سنة 1574 على الامير ايوونيا الَّذِي تمرد على الدولة طلبا للاستقلال وصلب جَزَاء عصيانه وعبرة لغيره
وَفِي 27 شعْبَان سنة 982 12 دسمبر سنة 1574 توفّي السُّلْطَان سليم الثَّانِي وعمره اثْنَيْنِ وَخَمْسُونَ سنة قمرية وَمُدَّة حكمه ثَمَانِي سِنِين و 5 اشهر وَتُوفِّي عَن سِتَّة اولاد وهم مُرَاد وَمُحَمّد وَسليمَان ومصطفى وجهانكير وَعبد الله وَثَلَاث بَنَات تولى بعده ابْنه السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث
(1/258)
________________________________________
12
- السُّلْطَان الْغَازِي مرادخان الثَّالِث
وضع الحماية على بولونيا
ولد هَذَا السُّلْطَان بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي 5 جُمَادَى الاولى سنة 953 هـ 4 يوليه سنة 1546 وَكَانَت فَاتِحَة اعماله ان اصدر امرا بِعَدَمِ شرب الْخمر الَّذِي شاع اسْتِعْمَاله ايام السُّلْطَان السَّابِق وافرط فِيهِ الْجنُود خُصُوصا الانكشارية فثار الانكشارية لذَلِك واضطروه لاباحته لَهُم بِمِقْدَار لَا يَتَرَتَّب مِنْهُ ذُهُول الْعقل وتكدير الرَّاحَة العمومية وامر بقتل اخوته وَكَانُوا خَمْسَة ليامن على الْملك من الْمُنَازعَة اذ صَار قتل الاخوة عَادَة تَقْرِيبًا وَفِي اوائل سنة 1575 ترك هنري دي فالوا ملك بولونيا مقرّ حكومته عَائِدًا لفرانسا وَلما بلغ الْبَاب العالي خبر سَفَره اوصى اشراف بولونيا بانتخاب باتوري امير ترنسلفانيا التَّابِع للدولة الْعلية ملكا عَلَيْهِم فانتخبوه فِي اواخر السّنة الْمَذْكُورَة وَبِذَلِك صَارَت بولونيا نَفسهَا تَحت حمايتها
هَذَا وحصلت على حُدُود النمسا عدَّة مناوشات سَالَ فِيهَا الدِّمَاء بَين الطَّرفَيْنِ بِدُونِ اشهار حَرْب وَفِي اواخر سنة 1576 امضيت هدنة سلم بَين الْبَاب العالي والامبراطور رودلف الَّذِي خلف مكسمليان الثَّانِي لمُدَّة ثَمَانِي سنوات تبتدئ من اول يناير سنة 1577 وَعند بَيَان املاك الدولة الْعلية بِهَذِهِ المعاهدة
(1/259)
________________________________________
ذكرت بولونيا ضمن الاقاليم الَّتِي للدولة حق السِّيَادَة عَلَيْهَا وَمِمَّا يُؤَيّد ان مملكة بولونيا كَانَت تَحت حمايتها استنجاد باتوري بهَا ضد اغارات التتار على حُدُوده الشرقية وتعهد الْبَاب العالي بحمايتها بمعاهدة رسمية تاريخها 30 يوليو سنة 1577
وَكَانَت علاقات هَذَا السُّلْطَان مَعَ فرانسا حَسَنَة جدا وَكَذَلِكَ مَعَ جمهورية البندقية فجدد لَهما الامتيازات القنصلية والتجارية مَعَ زِيَادَة بعض بنود فِي صالحهما اهمها ان يكون سفير فرنسا مقدما على كَافَّة سفراء الدول الاخرى فِي المقابلات والاحتفالات الرسمية حَيْثُ كثر توارد السفراء على بَابه العالي للسعي فِي ابرام معاهدات تجارية تكون ذَرِيعَة فِي الْمُسْتَقْبل للتدخل الْفعْلِيّ وَفِي ايامه تحصلت ايزابلا ملكة الانكليز على امتياز خصوصي لتجار بلادها وَهِي ان مراكبها تحمل الْعلم الانكليزي وَكَانَ لَا يجوز لَهَا ذَلِك قبلا بل كَانَت السفن على اخْتِلَاف اجناسها مَا عدا سفن البندقية لَا تدخل إِلَى موانئ الدولة الْعلية الا تَحت ظلّ الْعلم الفرنساوي لَيْسَ الا كَمَا قَضَت بذلك العهود الَّتِي ابرمت مَعَ السُّلْطَان سُلَيْمَان وَابْنه السُّلْطَان سليم الثَّانِي وتجددت فِي اوائل حكم هَذَا السُّلْطَان
وَفِي سنة 1578 حصلت فتْنَة داخلية فِي مملكة مراكش بالمغرب الاقصى وَنَازع زعيمها السُّلْطَان فِي الْملك وحصلت بَينهمَا عدَّة وقائع مهمة واخيرا استنجد سلطانها بالعثمانيين واستعان مدعي الْملك بالبرتغاليين فاوعزت الدولة اَوْ بالحري مُحَمَّد باشا صقللي لوالي طرابلس بانجاد سلطانها الشَّرْعِيّ فاسرع بمساعدته والتقى التّرْك والبرتغال بِالْقربِ من مَحل يُقَال لَهُ الْقصر الْكَبِير وَكَانَ يَوْمًا مشهودا دارت فِيهِ الدائرة على البرتغال وَقتل فِيهِ رَئِيس الثائرين المستنجد بهم وَبعد تَمام النَّصْر واعادة الامن والسكينة إِلَى ربوع مراكش عَادَتْ الجيوش العثمانية حاملة مَا اغدق عَلَيْهَا من الْهَدَايَا وَبِذَلِك دخلت مملكة مراكش ضمن دَائِرَة نُفُوذ الدولة وَصَارَ شمال افريقيا باجمعه تَابعا لَهَا تَمامًا اَوْ خاضعا لنفوذها وَلم يبْق لَهَا فِي عصرنا هَذَا الا ولَايَة طرابلس والسيادة الاسمية على مصر واستولت فرانسا على تونس
(1/260)
________________________________________
والجزائر وَصَارَت مراكش ميدان مسابقة لدسائس الاجانب تسْعَى كل دولة فِي ازدياد نفوذها بهَا وَبِعِبَارَة اخرى لابتلاعها فَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه
وَفِي هَذِه السّنة ابتدأت المخابرات بَين الدولة واسبانيا للوصول إِلَى الصُّلْح وَبعد ان استمرت نَحْو خمس سِنِين تمّ الصُّلْح بَينهمَا لَكِن لم يمْنَع ذَلِك القراصنة من الطَّرفَيْنِ على نهب السفن التجارية وَسبي واسترقاق من بهَا من النِّسَاء وَالرِّجَال حَتَّى كَانَ يستعد للسَّفر فِي الْبَحْر الابيض الْمُتَوَسّط كَمَا يستعد لرحلة حربية لعدم الامن وَكَثْرَة القراصنة بِمَا لم يسْبق لَهُ مثيل لَان كلا من الطَّرفَيْنِ كَانَ يعْتَبر غَزْو سفن الطّرف الآخر من الْوَاجِبَات الدِّينِيَّة والقربات الْمَشْرُوعَة
محاربة الْعَجم وَدخُول العثمانيين مَدِينَة تبريز رَابِع دفْعَة
هَذَا واهم مَا حصل فِي ايام السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث محاربة بِلَاد الْعَجم بِنَاء على ايعاز الصَّدْر الاعظم مُحَمَّد باشا صقللي وانتهاز فرْصَة الاضطرابات الداخلية بهَا وَذَلِكَ انه لما توفّي الشاه طهماسب سنة 984 هـ سنة 1576 م تولى بعده ابْنه حيدر وَقتل بعد بضع سَاعَات قبل دفن ابيه ودفنا مَعًا ثمَّ تولى بعده اسماعيل ابْن طهماسب وَتُوفِّي مسموما سنة 985 وَخَلفه اخوه محمدد خدابنده وَكَانَت الْبِلَاد منقسمة عَلَيْهِ فارسلت الجيوش السُّلْطَانِيَّة لمحاربته وَفتح مَا تيَسّر من بِلَاده وَجعل لاله مصطفى باشا قائدا لَهَا فَسَار بجيوشه قَاصِدا اقليم الكرج من بِلَاد الجركس فِي اواخر سنة 1577 م وَكَانَت تَابِعَة إِلَى مملكة الْعَجم وَفتحهَا واحتل مَدِينَة تفليس عَاصِمَة الكرج بعد ان انتصر على جنود الشاه وتغلب على قائدهم
(1/261)
________________________________________
الْمُسَمّى دقماق بِالْقربِ من حصن جلدر فِي 8 اغسطس سنة 1578 وَعين امراء الكرج حكاما سناجق من قبل الدولة وَبعد ان قهر ثَانِيًا جيوش الْعَجم فِي 8 سبتمبر من السّنة الْمَذْكُورَة عَاد مصطفى باشا وجيوشه إِلَى مَدِينَة طرابرون لتمضية فصل الشتَاء الَّذِي لَا يُمكن اسْتِمْرَار الْقِتَال فِي غضونه لشدَّة الْبرد وتراكم الثلوج فِي هَذِه الاصقاع وَقسمت بِلَاد الكرج إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام وَهِي شيروان وتفليس وَتَكون القسمان الباقيان من بِلَاد الكرج الاصلية وحصنت مَدِينَة قارص بكيفية جَعلتهَا امْنَعْ معاقل الدولة على الْحُدُود وَمَا فتئت كَذَلِك حَتَّى احتلها الروس سنة 1877 وَعين لكل مِنْهَا حَاكم عَام بكلر بك وَفِي اواسط الشتَاء اتت اربعة جيوش جرارة تَحت امرة الامير حَمْزَة ميرزا وهاجمت بِلَاد شيروان من كل فج حَتَّى اضْطر حاكمها عُثْمَان باشا إِلَى اخلاء مَدِينَة شيروان والاحتماء بِمَدِينَة دربند وَكَذَلِكَ حاصر الاعجام مَدِينَة تفليس نَفسهَا وَلم يقووا على استرجاعها لثبات حاميتها العثمانية حَتَّى اتى اليها المدد وَرفع عَنْهَا الْحصار عنْوَة سنة 1579 وَفِي غُضُون ذَلِك قتل الصَّدْر الاعظم مُحَمَّد باشا صقللي الَّذِي حَافظ على نُفُوذ الدولة بعد موت السُّلْطَان سُلَيْمَان وَتمكن بسياسته ودهائه من ابرام الصُّلْح مَعَ دوَل اوروبا المعادية لَهَا وانشأ عمَارَة بحريّة بعد وَاقعَة ليبنته وَفتحت جَزِيرَة قبرص بتعليماته وارشاداته وكوفئ على خدماته الجليلة بِالْقَتْلِ لَا لذنب جناه اَوْ جِنَايَة ارتكبها بل هِيَ دسائس حَاشِيَة السُّلْطَان قَضَت عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ غدرا تبعا لدسائس الاجانب الَّذين لَا يروق فِي اعينهم وجود مثل هَذَا الْوَزير يُدِير دولاب الاعمال على محور الاسْتقَامَة فدسوا اليه من قَتله تخلصا من صَادِق خدمته للدولة فَكَانَ مَوته ضَرْبَة شَدِيدَة ومحنة عَظِيمَة لَا سِيمَا وَقد كثر بعده تنصيب وعزل
(1/262)
________________________________________
الصُّدُور فعين اولا من يدعى احْمَد باشا ثمَّ عزل فِي اغسطس سنة 1580 وَعين بعده سِنَان باشا اُحْدُ القواد الْمَشْهُورين وَاحِد رُؤَسَاء الْجَيْش الْمُحَارب فِي بِلَاد الكرج وَتَوَلَّى قيادة هَذَا الْجَيْش بعد موت قائده الْعَام مصطفى الَّذِي قيل انه انتحر مسموما لعدم حُصُوله على منصب الصدارة وَلكنه عزل من منصبه بعد قَلِيل وَنفي إِلَى خَارج الْبِلَاد وَتَوَلَّى مَكَانَهُ سياوس باشا المجري الاصل فِي الصدارة الْعُظْمَى وفرهاد اَوْ فرحات باشا اُحْدُ القواد الْعِظَام قائدا عَاما للجيش الْمُحَارب فِي الكرج وَلم يات هَذَا الْقَائِد باعمال تذكر لعدم انقياد الانكشارية وامتثالهم لاوامر رُؤَسَائِهِمْ
اما عُثْمَان باشا حَاكم اقليم شيروان فَسَار إِلَى فتح بِلَاد طاغستان على شاطئ بَحر الخزر وَبعد ان اتم فتحهَا عقب موقعة عَظِيمَة انتصر فِيهَا على الاعجام نصرا مُبينًا فِي 9 مايو سنة 1583 سَار بطرِيق الْبر إِلَى بِلَاد القرم مخترقا جبال قَاف اَوْ القوقاز وسهول روسيا الجنوبية لعزل خانها عقَابا لَهُ على امْتِنَاعه عَن ارسال المدد إِلَى الدولة الْعلية لمحاربة الْعَجم فوصل اليها بعد ان عانى من المشقات اقصاها وَمن الصعوبات مُنْتَهَاهَا لوعورة الطَّرِيق ومناوشة الروس لَهُ إِلَى مَدِينَة كافا عَاصِمَة الخان مُحَمَّد كراي فَجمع الخان جَيْشًا عَظِيما من الفرسان القوزاق الْمَشْهُود لَهُم بالبسالة والاقدام وحاصر عُثْمَان باشا وجيوشه الَّتِي اضناها التَّعَب وانهكها السّير وَلَوْلَا عصيان اخيه اسلام كراي عَلَيْهِ لوعده بالامارة من قبل الدولة الْعلية وتفرق جيوشه من حوله وَقَتله غدرا بدسيسة اخيه لانتصر على العثمانيين لَكِن خانه اخوه ودس اليه من قَتله طَمَعا فِي الامارة سنة 1584 وَبعد ذَلِك رَجَعَ عُثْمَان باشا إِلَى الاستانة برا وقوبل بِكُل تكريم واعظام وَبعد ايام
(1/263)
________________________________________
قَلَائِل عين صَدرا اعظم بدل سياوس باشا المجري وسر عَسْكَر الْجَيْش الكرج وَكَانَ تَعْيِينه فِي سنة 992 هـ 1584 م
فَسَار فِي جَيش عَرَمْرَم مؤلف من مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ الف مقَاتل قَاصِدا بِلَاد اذربيجان فاخترقها بِدُونِ كثير مقاومة ثمَّ قصد مَدِينَة تبريز عَاصِمَة الْعَجم فَدَخلَهَا بعد ان انتصر على حَمْزَة ميرزا وَترك فِيهَا حامية قَوِيَّة وَبعد ان استمرت الْحَرْب سجالا بَين الدولتين نَحْو سِتّ سنوات توفّي فِي خلالها الصَّدْر الاعظم عُثْمَان باشا سر عَسْكَر الْجَيْش تمّ الصُّلْح وامضي بَينهمَا فِي 21 مارس سنة 1585 على ان تتنازل الْعَجم للدولة العثمانية عَن اقليم الكرج وشيروان ولورستان وجزء من اذربيجان ومدينة تبريز وَتَوَلَّى بعده خَادِم مسيح باشا صَدرا اعظم سنة 993 وَفِي السّنة التالية اعيد سياوس باشا إِلَى هَذَا المنصب الخطير وَبِذَلِك هدأت الاحوال وانقطعت الحروب على سَائِر حُدُود المملكة تَقْرِيبًا
الا ان هَذِه السكينَة لم تكن لترضي الانكشارية الَّذين كَانُوا يفضلون اسْتِمْرَار الحروب للنهب وَالسَّلب وارتكاب مَالا خير فِيهِ فَكَانَت إِذا انْقَطَعت الحروب تمردوا وارتكبوا هَذِه القبائح فِي بِلَاد الدولة المعسكرين بهَا بل وَفِي نفس الاستانة فَلَمَّا بَلغهُمْ ان المخابرات سائرة بَين الدولة والعجم للوصول إِلَى الصُّلْح ثَارُوا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وطلبوا تَسْلِيم الدفترادار نَاظر الْمَالِيَّة وَمُحَمّد باشا بكلر بك الرومللي لقتلهما بِدَعْوَى انهما ارادا ان يصرفا اليهم نقودا نَاقِصَة الْعيار وحاصروهما فِي منزلهما إِلَى ان قتلوهما شَرّ قتلة وَلم يقو السُّلْطَان على مَنعهم وتمردوا مرّة اخرى سنة 1593 فِي الاستانة واخرى فِي مَدِينَة بود وَقتلُوا واليها وَفِي الْقَاهِرَة وَفِي تبريز مِمَّا يطول شَرحه ووصلت بهم القحة إِلَى آخرهَا وَلذَلِك اشار سِنَان باشا الَّذِي اعيد إِلَى منصة الوزارة فِي سنة 997 باشغالهم بمحاربة بِلَاد المجر واوعز إِلَى حسن باشا وَالِي بِلَاد البشناق بوسنه ان يجتاز حُدُود بِلَاد المجر اعلانا للحرب لَكِن هَل يُرْجَى نجاح اَوْ فلاح حَقِيقِيّ من جيوش بلغ عِنْدهَا عدم النظام الدرجَة القصوى
(1/264)
________________________________________
حَتَّى استطالت لقتل الْوُلَاة وعزل الْحُكَّام كلا وَلَو كَانَ قائدها الاسكندر المقدوني اَوْ ابراهيم باشا الْمصْرِيّ اَوْ نابليون الفرنساوي وَرب معترض يعْتَرض علينا فِي تَسْمِيَة ابراهيم باشا بالمصري مَعَ انه لم يُولد بهَا فنجاوبه ان ابراهيم باشا نشر الرَّايَة المصرية فِي بِلَاد الْعَرَب وَالشَّام وجنوب الاناطول والسودان وانتصر بالمصريين لَا بغيرهم وَلم يكن ذَلِك مِنْهُ الا لاعلاء شَأْن الوطن الْمصْرِيّ واستقلاله فِي الدَّاخِل وَنشر نُفُوذه فِي الْخَارِج وَلذَلِك حق لنا ان نُسَمِّيه الْمصْرِيّ بل الْمصْرِيّ الوحيد بعد وَالِده مُحَمَّد عَليّ باشا الْكَبِير ولنرجع إِلَى ذكر حروب الدولة مَعَ المجر فَنَقُول ان الْحَرْب كَانَت تَارَة لَاحَدَّ الْفَرِيقَيْنِ وطورا للْآخر فَقتل حسن باشا وَالِي الهرسك وَانْهَزَمَ وَالِي بود وَفتحت جيوش النمسا الَّتِي انْحَازَتْ إِلَى المجر عدَّة قلاع عثمانية ثمَّ استردها سِنَان باشا الصَّدْر الاعظم سنة 1595 وَفِي هَذَا الْموقع يجب علينا وعَلى كل عثماني التأسف والتحسر على عدم خُرُوج السُّلْطَان بِنَفسِهِ إِلَى الْحَرْب وتحجبه عَن اعين جيوشه وَعدم قيادتهم بِذَاتِهِ الشَّرِيفَة إِلَى ساحات النَّصْر فلولا ذَلِك لكَانَتْ الْغَلَبَة دَائِما لَهُم باذنه تَعَالَى فقد عودهم عز وَجل النَّصْر على الاعداء فِي زمن اجداده سُلَيْمَان وسليم الاول وَمن قبلهم لَان وجود الْخَلِيفَة الاعظم فِي رَأس جيوشه يبث فيهم روحا جَدِيدَة فيتحدون مَعَه قلبا وقالبا ويسيرون مَعَه إِلَى النَّصْر الْمُبين والفوز الْعَظِيم وَكم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة باذن الله وَمِمَّا زَاد احوال المملكة ارتباكا اشهار الفلاخ والبغدان وترنسلفانيا الْعِصْيَان بالاتحاد وتحالفهم مَعَ رودلف الثَّانِي ملك النمسا وامبراطور المانيا على محاربة الدولة والحصول على الِاسْتِقْلَال فَسَار اليهم الصَّدْر الاعظم سِنَان باشا فِي سنة 1595 وَدخل مَدِينَة بوخارست عَاصِمَة الفلاخ عنْوَة ثمَّ انتصر عَلَيْهِ مخائيل امير الفلاخ الملقب فِي كتب الافرنج بالشجاع وَدخل مَدِينَة ترجوفتس وَقتل حاميتها ورئيسها فاخذ العثمانيون فِي الانسحاب والتقهقر خلف نهر الدانوب تَبِعَهُمْ مخائيل الفلاخي وانتصر عَلَيْهِم مرّة ثَانِيَة بِالْقربِ من مَدِينَة جورجيوا
(1/265)
________________________________________
عِنْد عبورهم النَّهر وَفتح الْمَدِينَة وعدة مَدَائِن اخرى اهمها مَدِينَة نيكوبلي
وَفِي هَذِه الاثناء ولي فرهاد باشا منصب الصدارة فِي سنة 999 ثمَّ اعيد سياوس باشا ثَالِثا اليها سنة 1000 ثمَّ اصيب السُّلْطَان بداء عياء وَتُوفِّي مسَاء 8 جُمَادَى الاولى سنة 1003 19 يناير سنة 1595 وَله من الْعُمر خَمْسُونَ سنة وَكَانَت مُدَّة ملكه احدى وَعشْرين سنة تَقْرِيبًا وَكَانَ شَاعِرًا مجيدا فطنا لبيبا الا انه كَانَ كثير الْميل لاقتناء الْجَوَارِي الحسان عَاملا بمشورتهن وَكَانَ من ضمن حظياته جَارِيَة بندقية الاصل من عائلة شهيرة بهَا اسْمهَا بافو سباها قراصين الْبَحْر وبيعت فِي السراي السُّلْطَانِيَّة وَسميت صَفِيَّة اصطفاها السُّلْطَان لنَفسِهِ وتدخلت كثيرا فِي السياسة الخارجية ساعدت بلادها الاصلية كثيرا وَهِي وَالِدَة السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث
(1/266)
________________________________________
13
- السُّلْطَان الْغَازِي مُحَمَّد خَان الثَّالِث
ولد هَذَا السُّلْطَان فِي 7 ذِي الْقعدَة سنة 974 هـ 16 مايو سنة 1566 م وَتَوَلَّى بعد موت ابيه مُرَاد الثَّالِث ابْن صَفِيَّة الايطالية الاصل وَكَانَ لَهُ تِسْعَة عشر اخا غير الاخوات فامر بخنقهم قبل دفن ابيه ودفنوا مَعًا تجاه ايا صوفيا
وَفِي اوائل حكمه سَار على اثر سلفه فِي عدم الْخُرُوج إِلَى الْحَرْب وَترك امور الداخلية فِي ايدي وزرائه الَّذين مِنْهُم سِنَان باشا وجفالة زَاده هُوَ ابْن الْقَائِد جفالة باشا الجنوي الأَصْل الَّذِي قتل فِي محاربة الْعَجم الْأَخِيرَة وَصِحَّة اسْمه سيكالا ثمَّ حرف فَصَارَ جفالة وَآخر يدعى حسن باشا ففسدوا فِي الارض وَبَاعُوا المناصب الملكية والعسكرية وقللوا عيار العملة حَتَّى علا الضجيج من جَمِيع الْجِهَات وتعاقب انهزام الجيوش العثمانية امام مخائيل الفلاخي فضم لسلطانه بمساعدة الجيوش النمساوية واقليم البغدان وجزءا عَظِيما من ترنسلفانيا لعدم وجود القواد الاكفاء لصدهم
وَمِمَّا يخلد للسُّلْطَان الْغَازِي مُحَمَّد الثَّالِث الذّكر ويجعله رصيفا لاجداده الاوائل انه لما تحقق ان هَذَا الانحلال ناشيء من تحجبه عَن الاعمال وَعدم قيادته الجيوش برز بِنَفسِهِ وتقلد المركز الَّذِي كَانَ ترك مُرَاد الثَّالِث وسليم الثَّانِي لَهُ من دواعي تقهقر الدولة امام اعدائها الا وَهُوَ مَرْكَز قيادة عُمُوم الجيوش فَسَار إِلَى بلغراد وَمِنْهَا إِلَى ميدان الْحَرْب والنزال وَبعد قَلِيل دبت فِي الجيوش الحمية الدِّينِيَّة والغيرة
(1/267)
________________________________________
العسكرية فَفتح قلعة ارلو الحصينة الَّتِي عجز السُّلْطَان سُلَيْمَان عَن فتحهَا فِي سنة 1556 وَدَمرَ جيوش المجر والنمسا تدميرا فِي سهل كرزت بِالْقربِ من هَذِه القلعة فِي 26 اكتوبر سنة 1596 حَتَّى شبهت هَذِه الموقعة بواقعة موها كز الَّتِي انتصر فِيهَا السُّلْطَان سُلَيْمَان سنة 1526 وَبعد هَذِه الموقعة استمرت الْحَرْب سجالا بِدُونِ ان تحصل بَين الطَّرفَيْنِ وقائع حاسمة
وَفِي ابْتِدَاء الْقرن السَّابِع عشر للميلاد حصلت فِي بِلَاد الاناطول ثورة داخلية كَادَت تكون وخيمة الْعَاقِبَة على الدولة خُصُوصا ونيران الحروب مستعر لهيبها على حُدُود المجر والنمسا وَذَلِكَ ان فرقة من الجيوش الْمُؤجرَة ويسمونها بالتركية علوفه جي الَّتِي هِيَ بِالنِّسْبَةِ للانكشارية كنسبة الباشبوزق للجيوش المنتظمة لم تثبت فِي وَاقعَة كرزت الْمُتَقَدّم ذكرهَا بل ولت الادبار وركنت إِلَى الْفِرَار فنفيت إِلَى ولايات آسيا واطلق عَلَيْهَا اسْم فراري تحقيرا لَهُم وعبرة لغَيرهم وَهُنَاكَ ادّعى اُحْدُ رُؤَسَائِهِمْ واسْمه قره يازيجي ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَهُ مناما ووعده بالنصر على آل عُثْمَان وَفتح ولايات آسيا فَتَبِعَهُ كثير من هَذِه الفئة وشق عَصا الطَّاعَة وتغلب على وَالِي القرمان وَدخل مَدِينَة عين تَابَ عنْوَة فارسلت اليه الجيوش وحاصرته فِيهَا وَلما رأى ان لَا مناص لَهُ من التَّسْلِيم اَوْ الْمَوْت عرض على الْوَزير المحاصر لَهُ الطَّاعَة للسُّلْطَان بِشَرْط تَعْيِينه واليا لاماسيا فَقبل شَرطه وَرفع عَنهُ الْحصار لَكِن بِمُجَرَّد ابتعاد الجيوش عَنهُ رفع راية الْعِصْيَان ثَانِيًا واتحد مَعَ اخيه الْمُسَمّى دُلي حسن وَالِي بَغْدَاد فَاتبع وَسْوَسَة اخيه وَكفر
(1/268)
________________________________________
بِنِعْمَة الدولة وجاهر بعصيانها
فارسل صقللي حسن باشا مَعَ جَيش جرار لمحاربتهما وانتصر على قره يازيجي والجأه إِلَى الاحتماء بجبال جانق على الْبَحْر الاسود حَيْثُ توفّي من الْجراح الَّتِي اصابته فِي الْحَرْب تَارِكًا اخاه للاخذ بثأره وفعلا فَازَ الدلي حسن على صقللي حسن باشا وَقَتله على اسوار مَدِينَة توقات ثمَّ هزم وُلَاة ديار بكر وحلب ودمشق وحاصر مَدِينَة كوتاهية فِي سنة 1601 واستفحل امْرَهْ حَتَّى خيفت الْعَاقِبَة وَلما رات الدولة تجسم هَذِه النَّازِلَة اخذت فِي اسْتِعْمَال طرق السّلم والتودد فاجزلت اليه العطايا واغدقت عَلَيْهِ الهبات ثمَّ عرضت عَلَيْهِ ولَايَة بوسنه فَقبل بعد تعللات كَثِيرَة وَوضع السِّلَاح واعلن باخلاصه للدولة الْعلية سنة 1603 وسافر بجُنُوده من انْضَمَّ اليها من اخلاط الاكراد واوباش القرمان وَاسْتعْمل قوته لمحاربة الافرنج على حُدُود الدولة من جِهَة اوروبا حَتَّى هَلَكت جيوشه عَن آخرهَا فِي المناوشات المستمرة بَينهَا وَبَين عَسَاكِر المجر والنمسا واستراحت الدولة من شَرها
واعقبت هَذِه الثورة الْعَظِيمَة ثورة اخرى فِي نفس الاستانة الْعلية كَاد شَرها يتَعَدَّى إِلَى نفس الْخَلِيفَة الاعظم وَذَلِكَ ان جنود السباه أَي الخيالة طلبُوا من الدولة ان تعوض عَلَيْهِم مَا فقدوه من ريع الاقطاعات المعطاة لَهُم فِي بِلَاد آسيا الَّتِي كَانُوا يسمونها تمارا بِسَبَب فتْنَة قره يازيجي ودلي حسن بآسيا الصُّغْرَى وَلما لم يكن فِي وسع الدولة تَلْبِيَة طَلَبهمْ لنَقص دَخلهَا هِيَ ايضا بِسَبَب هَذِه الْفِتْنَة تمردوا وثاروا وطلبوا نهب مَا فِي الْمَسَاجِد من التحف الذهبية والفضية فاستعانت الدولة عَلَيْهِم بِجُنُود الانكشارية وادخلتهم فِي طاعتها بعد سفك الدِّمَاء وَلَو اتَّحد الانكشارية مَعَهم وساعدوهم على مطالبهم لخيف على حَيَاة الدولة من الدَّاخِل وَالْخَارِج
(1/269)
________________________________________
وَمن ذَلِك يظْهر جليا اختلال النظام العسكري وَعدم صلاحيته لحفظ اسْم الدولة وشرفها بَين اعدائها وَفِي هَذِه السّنة توفّي السُّلْطَان وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي 12 رَجَب سنة 1012 16 دسمبر سنة 1603 وعمره 37 سنة وَمُدَّة حكمه 9 سِنِين وَخَلفه ابْنه احْمَد الاول
1 - 4
(1/270)
________________________________________
السُّلْطَان الْغَازِي احْمَد خَان الاول وانتصار الشاه عَبَّاس
ولد هَذَا السُّلْطَان فِي 12 جُمَادَى الثَّانِيَة سنة 998 18 ابريل سنة 1590 فَتَوَلّى الْملك وَلم يتَجَاوَز سنه الرَّابِعَة عشر الا بِقَلِيل وَلم يامر بقتل اخيه مصطفى بل اكْتفى بحجزه بَين الخدم والجواري وَكَانَت اركان الدولة غير ثَابِتَة فِي كَافَّة بِلَاد آسيا ونار الْحَرْب مستعرة على حُدُود الْعَجم شرقا والنمسا غربا وَكَانَت الْحَرْب مَعَ الْعَجم شَدِيدَة الْوَطْأَة فِي هَذِه الْمرة لتولي الشاه عَبَّاس الشهير قيادتها وَمِمَّا جعل لَهَا اهمية اعظم من كَافَّة الحروب السَّابِقَة اضْطِرَاب الاحوال فِي الولايات الشرقية عُمُوما وسعي كل امة من الامم الْمُخْتَلفَة النَّازِلَة بهَا للحصول على الِاسْتِقْلَال وَكَانَ اهم رُؤَسَاء هَذِه الْحَرَكَة رجلا كرديا لقب بجان بولاد وَمَعْنَاهَا بِالْعَرَبِيَّةِ من نَفسه كالبولاد لشدَّة باسه وَقُوَّة اقدامه والامير فَخر الدّين الدرزي وَغَيرهمَا لَكِن قيض الله للدولة فِي هَذِه الشدَّة الْوَزير مُرَاد باشا الملقب بقويوجي الَّذِي عين صَدرا اعظم وَكَانَ قد تجَاوز الثَّمَانِينَ ليَكُون عونا وعضدا للسُّلْطَان الْفَتى فتقلد
(1/271)
________________________________________
مَعَ كبر سنه ووهن قواه قيادة الجيوش وَحَارب الثائرين بهمة ونشاط زائدين فانتصر على فَخر الدّين وجان بولاد واقتفى اثرهم حَتَّى اختفيا فِي بادية الشَّام واستمال قلندر اوغلى اُحْدُ زعماء الثورة فِي الاناطول وعينه واليا على انقرة وَقبض على آخر يدعى احْمَد بك وَقَتله بعد ان فرق جنده بِالْقربِ من قونية وَلما رأى جَان بولاد الْكرْدِي عدم نجاح الثورة سَافر للاستانة واظهر الطَّاعَة للسُّلْطَان فَعَفَا عَنهُ وعينه واليا لتمسوار
وَفِي سنة 1608 انتصر على من بَقِي من العصاة بِقرب وان وَفِي السّنة التالية قتل آخر زعمائهم الْمَدْعُو يُوسُف باشا الَّذِي كَانَ اسْتَقل باقاليم صاروخان ومنتشا وآيدين وَبِذَلِك عَادَتْ السكينَة وساد الامن بهمة هَذَا الشجاع الَّذِي لقب بِسيف الدولة عَن اسْتِحْقَاق
هَذَا وانتهز الشاه عَبَّاس هَذِه الفرصة لاسترجاع بِلَاد الْعرَاق العجمي واحتل مَدَائِن تبريز ووان وَغَيرهمَا ولمناسبة اضمحلال جيوش الدولة فِي هَذِه الحروب الَّتِي استمرت عدَّة سنوات مُتَوَالِيَة وَمَوْت اهم قوادها خُصُوصا الصَّدْر الاعظم قويوجي يَوْم 5 اغسطس سنة 1611 تراسلت الدولتان على الصُّلْح وَتمّ الامر بَينهمَا فِي سنة 1612 بمساعي نصوح باشا الَّذِي تولى منصب الصدارة بعد موت قويوجي مُرَاد باشا على ان تتْرك الدولة الْعلية لمملكة الْعَجم جَمِيع الاقاليم والبلدان والقلاع والحصون الَّتِي فتحهَا العثمانيون من عهد السُّلْطَان الْغَازِي سُلَيْمَان الاول القانوني بِمَا فِيهَا مَدِينَة بَغْدَاد وَهَذِه اول معاهدة تركت فِيهَا الدولة بعض فتوحاتها ويمكننا القَوْل بِكُل اسف وحزن انها كَانَت فَاتِحَة الانحطاط واول المعاهدات المشؤومة الَّتِي ختمت بمعاهدة برلين الشهيرة
اما من جِهَة المجر والنمسا فَفِي اثناء اشْتِغَال الدولة بحروبها الداخلية استبد النمساويون بِبِلَاد المجر واساؤا مُعَاملَة اشرافها نَظِير اخلاصهم للدولة الْعلية حَتَّى رفضوا نير النمسا المسيحية وطلبوا من الدولة ان ترمقهم بِعَين حمايتها وتخلصهم من استرقاق النمسا لَهُم وانتخبوا الامير بوسكاي ملكا عَلَيْهِم سنة 1605
(1/272)
________________________________________
فانشرحت الدولة لهَذِهِ النتيجة الَّتِي مَا كَانَت تنتظرها من امة مسيحية لَا سِيمَا وَهِي فِي حَالَة كربَة لِكَثْرَة الحروب الداخلية وتقهقر جيوشها امام الشاه عَبَّاس فَقبلت هَذَا الاسترحام واعتمدت انتخاب بوسكاي وامدته بجيوشها ففتحت فِي زمن يسير حصون جران ويسجراد وسيريم وَغَيرهَا
وَفِي سنة 1606 خشيت النمسا من امتداد الفتوحات العثمانية فسعت فِي سلخ بوسكاي عَن الدولة فَاعْترفت بانتخابه ملكا للمجر واميرا لاقليم ترنسلفانيا وتنازلت عَن كَافَّة الاقاليم المجرية الَّتِي كَانَت للسُّلْطَان باتوري بِشَرْط رُجُوع مَا يكون مِنْهَا المانيا وخصوصا اقليم ترنسلفانيا إِلَى امبراطور المانيا بعد موت بوسكاي ولزيادة اضْطِرَاب احوال الدولة بآسيا وتعسر اسْتِمْرَار الْحَرْب مَعَ النمسا بِدُونِ مساعدة جيوش المجر لَهَا ابرمت الصُّلْح مَعَ امبراطور النمسا فِي سنة 1606 عينهَا على ان لَا تدفع النمسا الْجِزْيَة السنوية الَّتِي قدرهَا ثَلَاثُونَ الف دوكا فِي الْمُسْتَقْبل مُقَابل التعويض عَنْهَا للدولة بِدفع مبلغ مِائَتي الف دوكا وان تضم الدولة الْعلية لاملاكها حصون جران وارلو وكانيشا وَفِي سنة 1608 اجْتمع نواب النمسا والمجر فِي مَدِينَة برسبورج وَصَدقُوا عل هَذَا الِاتِّفَاق وَكَذَلِكَ صدق عَلَيْهِ لمُدَّة عشْرين سنة من تَارِيخ التَّصْدِيق مندوبو مملكة المانيا مُجْتَمعين بهيئة مؤتمر بِمَدِينَة ويانه سنة 1615 اما بِلَاد المجر فَبَقيت تَابِعَة للدولة بَعْضهَا تَبَعِيَّة فعلية وَالْبَعْض تَبَعِيَّة حماية وَسميت هَذِه المعاهدة بمعاهدة ستواتوروك
وَبعد التَّصْدِيق نهائيا على هَذَا الِاتِّفَاق من جَمِيع اولي الشَّأْن توفّي بوسكاي
(1/273)
________________________________________
وَامْتنع اهالي اقليم ترنسلفانيا عَن الدُّخُول ضمن املاك الامبراطورية مفضلين الْبَقَاء تَحت حماية الدولة العثمانية الاسلامية الَّتِي لم تتعرض لَهُم لَا فِي دينهم وَلَا فِي عوائدهم اكْتِفَاء بالجزية السنوية فعينت لَهُم الدولة سجسمون راجوتسكي ثمَّ جِبْرَائِيل باتوري ثمَّ بتلن جابور وَهُوَ من اشد خصوم دولة النمسا وَالِد اعدائها وتعهد هَذَا الامير بِمَنْع امراء الفلاخ والبغدان من اقتناء الاراضي والقصور فِي امارته حَتَّى لَا يلتجؤا اليها لَو تمردوا على الدولة وبتسليمهم لَهَا لَو فروا اليها وَبِذَلِك صَارَت ترنسلفانيا حَائِلا بَين الامارتين وبلاد المجر
هَذَا وَلَو ان الحروب انْقَطَعت على كَافَّة حُدُود الدولة تَقْرِيبًا الا انه قد حصلت مَا بَين سنة 1611 وَسنة 1614 بعض مناوشات بحريّة بَين مراكب الدولة وسفن رُهْبَان مالطه وَملك اسبانيا وولايات ايطاليا كَانَ الْفَوْز فِيهَا غَالِبا لمراكب الاعداء وَلذَلِك امْر الصَّدْر نصوح باشا بِجمع جَمِيع سفن الدولة فِي مياه الْبَحْر الابيض الْمُتَوَسّط لصد تعديات مراكب الافرنج وَحفظ طَرِيق الْبَحْر بَين الاستانة وولايات الغرب فانتهز بعض اخلاط القوزاق انسحاب السفن الحربية من الْبَحْر الاسود واغاروا على ثغر سينوب ونهبوا مَا بِهِ وَلما علم السُّلْطَان بذلك غضب على الصَّدْر الاعظم وسعى بِهِ بعض مبغضيه طَمَعا فِي نوال منصبه وَمَا فتئوا يوغرون صدر سَيّده عَلَيْهِ حَتَّى امْر بقتْله فِي 14 اكتوبر سنة 1614 فخنق فِي قصره
هَذَا وازدادت فِي ايام السُّلْطَان احْمَد الاول العلاقات السياسية مَعَ دوَل الافرنج فجددت مَعَ فرانسا الْعُقُود والعهود الْقَدِيمَة فس سنة 1604 مَعَ بعض زيادات طفيفة وَفِي سنة 1609 جددت مَعَ مملكة بولونيا الاتفاقات الَّتِي أبرمت مَعهَا فِي زمن السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث وأهم مَا بهَا تعهد بولونيا بِمَنْع قوزاق الروسية من الاغارة على اقليم البغدان وتعهد الدولة الْعلية بِمَنْع تتار القرم من التَّعَدِّي على حُدُودهَا وَفِي سنة 1612 تحصلت ولايات الفلمنك على امتيازات تجارية تضارع مَا منحته
(1/274)
________________________________________
كل من فرنسا وانكلترا وهم أَي الفلمنك الَّذين ادخُلُوا فِي الْبِلَاد الاسلامية اسْتِعْمَال التبع أَي تدخين الدُّخان فعارض الْمُفْتِي فِي اسْتِعْمَاله واصدر فَتْوَى بِمَنْعه فهاج الْجند واشترك مَعَهم بعض مستخدمي السراي السُّلْطَانِيَّة حَتَّى اضطروه إِلَى اباحته وَفِي 23 ذِي الْقعدَة سنة 1026 22 نوفمبر سنة 1617 م توفّي السُّلْطَان احْمَد الاول وعمره 28 سنة وَمُدَّة حكمه 14 سنة تَقْرِيبًا ولصغر سنّ وَلَده عُثْمَان الَّذِي كَانَ لم يتَجَاوَز ثَلَاث عشرَة سنة من عمره خَالف الْعَادة المتبعة من ابْتِدَاء الْغَازِي السُّلْطَان عُثْمَان الاول أَي تنصيب اكبر الاولاد اَوْ احدهم مَكَان وَالِده واوصى بِالْملكِ بعده لاخيه
(1/275)
________________________________________
15
- السُّلْطَان مصطفى خَان الاول
ولد هَذَا السُّلْطَان سنة 1001 هـ وَقضى طول عمره دَاخل محلات الْحرم وَلم يتعاطى اشغالا مُطلقًا بل وَلم يعلم من امور المملكة شَيْئا كَمَا كَانَت عَادَة بعض مُلُوك بني عُثْمَان وَهِي ان كل سُلْطَان يتَوَلَّى يامر بقتل اخوته اَوْ يحجزهم فِي السراي كي لَا يكون مِنْهُم مُنَازع فِي الْملك وَهِي عَادَة مستقبحة جدا لما فِيهَا من قتل اقْربْ النَّاس بِلَا ذَنْب اَوْ جرم الا مَا يخيله لَهُم الْوَهم من الْخَوْف على الْملك والاستئثار بِهِ مَعَ انهم لَو استخدموا اخوتهم فِي المناصب الْعَالِيَة لَا سِيمَا قيادة الجيوش كَمَا يفعل مُلُوك اوروبا الْآن لحفظوا ذمار الدولة واخلصوا فِي خدمتها اكثر من الذوات الَّذين اغلبهم كَمَا رايت وَترى فِي سِيَاق هَذَا الْكتاب من غير الْجِنْس التركي بل من المماليك الجركس اَوْ الافرنج الَّذين رُبمَا اعتنقوا الدّين الاسلامي ودخلوا فِي خدمَة الدولة اعداء فِي لِبَاس اصدقاء لتنفيذ اغراض دولهم وكادت تقوم الْحَرْب بَين الدولة وفرنسا عِنْد تَوليته وَذَلِكَ ان كاتم اسرار السفارة الفرنساوية ساعد اُحْدُ اشراف بولونيا وَكَانَ مسجونا بالاستانة على الهروب مِنْهَا فسجن كاتم السِّرّ والمترجم والسفير وَلم يلبث هَذَا السُّلْطَان على سَرِير الْملك الا ثَلَاثَة اشهر تَقْرِيبًا ثمَّ عَزله ارباب الغايات وَفِي مقدمتهم الْمُفْتِي وقيز لر اغاسي أَي آغا السراي وساعدهم الانكشارية على ذَلِك لتوزيع الهبات عَلَيْهِم عِنْد تَوْلِيَة كل ملك جَدِيد فعزل فِي اول سنة 1027 26 فبراير سنة 1618 م واقاموا مَكَانَهُ السُّلْطَان عُثْمَان الثَّانِي الْمَوْلُود فِي غُضُون سنة 1013 هـ
(1/276)
________________________________________
16
- السُّلْطَان عُثْمَان خَان الثَّانِي وخلعه ثمَّ قَتله وارجاع السُّلْطَان مصطفى ثمَّ عَزله
هُوَ ابْن السُّلْطَان احْمَد الاول وامر باطلاق قنصل فرنسا وكاتبه ومترجمه وارسل مَنْدُوبًا لملك فرنسا لويس الثَّالِث عشر يُسمى حُسَيْن جاووش بِجَوَاب اعتذار عَمَّا حصل من الاهانة لسفيره وَبِذَلِك انحسمت هَذِه المشكلة
وَحدث فِي هَذِه الاثناء ان تدخلت بولونيا فِي شؤون امارة البغدان لمساعدة جراسياني الَّذِي عزل بِنَاء على مساعي بتلن جابور امير ترنسلفانيا واضيفت امارته إِلَى اسكندر شربان امير الفلاخ وَصَارَت الامارتان تابعتين لَهُ فَاتخذ السُّلْطَان عُثْمَان هَذَا التدخل سَببا فِي اشهار الْحَرْب على مملكة بولونيا وَتَحْقِيق امنيته وَهِي فتح هَذِه المملكة وَجعلهَا فاصلا بَين املاك الدولة ومملكة الروسيا الَّتِي ابتدأت فِي الظُّهُور وَقبل الشُّرُوع فِي الْحَرْب امْر بقتل اخيه مُحَمَّد تبعا للْعَادَة الْمَشْرُوعَة فَقتل فِي 12 يناير سنة 1621 مأسوفا عَلَيْهِ
ثمَّ اصدر امرا بتقليل اختصاصات الْمُفْتِي وَنزع مَا كَانَ لَهُ من السلطة فِي تعْيين وعزل الموظفين وَجعل وظيفته قَاصِرَة على الافتاء حَتَّى يامن شَرّ دسائسه الَّتِي رُبمَا تكون سَببا فِي عَزله كَمَا كَانَت سَبَب عزل سلفه لَكِن اتى الامر على الضِّدّ بِمَا كَانَ يؤمل كَمَا سَيَجِيءُ وَبعد ان اتم هَذِه التمهيدات الداخلية سير الجيوش والكتائب لمحاربة مملكة بولونيا فالتقت بجيشهم تَحت قيادة امير وَلنَا وَكَانَ متحصنا
(1/277)
________________________________________
فِي مَحل منيع بِالْقربِ من بَلْدَة يُقَال لَهَا شوك زم فهاجم العثمانون فِي حصونهم عدَّة دفعات مُتَوَالِيَة بِدُونِ ان يزحزحوهم عَن معاقلهم قطلبت الانكشارية الْكَفّ عَن الْحَرْب وَطلب البولونيون الصُّلْح لفقد قائدهم وتبادلت بَينهمَا المخابرات وَتمّ الصُّلْح وامضي من الطَّرفَيْنِ فِي 6 اكتوبر سنة 1620 فحنق السُّلْطَان على الانكشارية من طَلَبهمْ الرَّاحَة وخلودهم إِلَى الكسل والزامه على الصُّلْح مَعَ بولونيا بِدُونِ تتميم قَصده أَي ضمهَا إِلَى املاكه وعزم على ابطالها وافنائها عَن آخرهَا ولاجل التأهب لتنفيذ هَذَا الامر الخطير امْر بحشد جيوش جَدِيدَة فِي ولايات آسيا وتنظيمها وتدريبها على الْقِتَال حَتَّى إِذا كملت عدَّة وعددا اسْتَعَانَ بهَا على ابادة هَذِه الفئة الباغية وَشرع فعلا فِي انفاذ هَذَا الْمَشْرُوع لَكِن احس الانكشارية بذلك فهاجوا وماجوا وتذمروا وَاتَّفَقُوا على غزل السُّلْطَان وَتمّ لَهُم ذَلِك فِي يَوْم 9 رَجَب سنة 1031 20 مايو سنة 1622 واعادوا مَكَانَهُ السُّلْطَان مصطفى الاول وَلم يكتفوا بعزله بل هجموا عَلَيْهِ فِي سرايه وانتهكوا حرمتهَا وقبضوا عَلَيْهِ بَين جواريه وزوجاته وقادوه قهرا إِلَى ثكناتهم موسعيه سبا وشتما واهانة مِمَّا لم يسْبق لَهُ مثيل فِي تَارِيخ دولتنا الْعلية وَزِيَادَة على ذَلِك انهم نقلوه من هُنَاكَ إِلَى القلعة الْمَعْرُوفَة بِذَات السَّبع قلل يَدي قله حَيْثُ كَانَ بانتظاره كل مِمَّن يدعى دَاوُد باشا وَعمر باشا الكيخيا وقلندر اوغلى وَغَيرهم فاعدموا السُّلْطَان عُثْمَان لحياة غير مبالين بِهَذَا الجرم الْعَظِيم والاثم الَّذِي مَا بعده اثم الا الْكفْر الْمُبين فانه ان كَانَت مُخَالفَة اوامر الْخَلِيفَة الاعظم تعد كفرا بِنَصّ الْكتاب الشريف فَمَا بالك بقتْله وَهنا يقف الْقَلَم ويكف المداد عَن وصف هَذِه الفعلة الشنعاء والكبيرة الشعواء تَارِكًا وصفهَا للقارئ اللبيب والمطلع الاديب لعجزي عَن هَذَا الْمقَام العالي وتقصيري عَن هَذِه الْمَرَاتِب العوالي وَقلة بضاعتي وقصور قريحتي مكتفيا بِنَقْل اسماء مرتكبها إِلَى الْخلف لتَكون هدف سخطتهم ومرمى سِهَام فضيحتهم وَقتل رَحمَه الله وَلم يتَجَاوَز الثَّامِنَة عشرَة من عمره وَمُدَّة حكمه ارْبَعْ سِنِين واربعة اشهر
(1/278)
________________________________________
وَبعد ذَلِك صَارَت الْحُكُومَة العوبة فِي ايدي الانكشارية ينصبون الوزراء ويعزلونهم بِحَسب اهوائهم فعزلوا دَاوُد باشا قَاتل السُّلْطَان بعد بضع ايام وصاروا يمنحون المناصب لمن يجزل اليهم العطايا فَكَانَت الْوَظَائِف تبَاع جهارا وارتكبوا انواع الْمَظَالِم فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَلما بلغ خبر قتل السُّلْطَان إِلَى الْوُلَاة وانتشرت بَينهم اخبار الفوضى السائدة فِي الاستانة وسوس لَهُم ابليس الطمع فاطاعوه وسرى فِي عروقهم شَيْطَان الغواية فَاتَّبعُوهُ فاشهر وَالِي طرابلس الشَّام استقلاله وطرد الانكشارية من ولَايَته واقتفى اثره وَالِي ارضروم الْمَدْعُو اباظة باشا مُدعيًا انه يُرِيد الانتقام للمرحوم السُّلْطَان عُثْمَان شَهِيد الانكشارية وَسَار بِمن تبعه إِلَى سيواس وانقره ففتحهما مصادرا التزامات الانكشارية واقطاعاتهم قَاتلا كل من وَقع فِي مخالبه من هَذِه الفئة الَّتِي تلوثت بِدَم سلالة سلاطينهم وَتَبعهُ وَالِي سيواس وسنجق قره شهر ثمَّ سَار إِلَى مَدِينَة بورصه فحاصرها ودخلها بعد ثَلَاثَة اشهر الا قلعتها فَلم تسلم
واستمرت الاضطرابات الداخلية فِي نفس كرْسِي الْخلَافَة الْعُظْمَى وَلَا امن وَلَا سكينَة مُدَّة ثَمَانِيَة عشر شهرا مُتَوَالِيَة حَتَّى إِذا شعر الْعُمُوم بِمَا وَرَاء هَذِه الفوضى من الدمار والخراب وشبع الانكشارية نهبا وسلبا وقتلا فِي نفوس الاهالي واموالهم عينوا متن يدعى كمانكش على باشا صَدرا اعظم لتوسمهم فِيهِ الْخِبْرَة والاستعداد فاشار عَلَيْهِم بعزل السُّلْطَان مصطفى ثَانِيًا لضعف عزيمته ووهن قواه الْعَقْلِيَّة فعزلوه فِي 15 ذِي الْقعدَة سنة 1032 11 سبتمبر سنة 623 وولوا مَكَانَهُ السُّلْطَان مُرَاد الرَّابِع وَبَقِي فِي الْعَزْل إِلَى ان توفّي فِي غُضُون سنة 1049 هـ سنة 1639 م
(1/279)
________________________________________
17
- السُّلْطَان الْغَازِي مُرَاد خَان الرَّابِع
هُوَ ابْن السُّلْطَان احْمَد الاول ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث ولد فِي 28 جُمَادَى الاولى سنة 1018 29 اغسطس سنة 1609 م وولاه الانكشارية بعد عزل عَمه السُّلْطَان مصطفى الاول ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث مَعَ حَدَاثَة سنة كي لَا يكون مُعَارضا لَهُم فِي اعمالهم الاستبدادية وَلَا مضعفا لنفوذهم الَّذِي اكتسبوه بقتل سُلْطَان وعزل غَيره واستمروا مُدَّة الْعشْر سِنِين الاولى من حكمه على غيهم وطغيانهم
محاربة الْعَجم واستيلائهم على بَغْدَاد
وانتهز الشاه عَبَّاس ملك الْعَجم هَذَا الاختلال فرْصَة لتوسيع املاكه من جِهَة حُدُود الدولة الْعلية فَكَانَ الامر حِينَئِذٍ بعكس مَا كَانَ عَلَيْهِ ايام المرحوم الْغَازِي السُّلْطَان سُلَيْمَان القانوني وَذَلِكَ ان رَئِيس الشرطة فِي مَدِينَة بَغْدَاد واسْمه بكير آغا ثار على الْوَالِي وَقَتله واستبد فِي الاحكام فارسلت لَهُ الدولة قائدا يدعى حَافظ باشا حاربه وحصره فِي دَار السَّلَام فسولت لبكير آغا نَفسه الخبيثة ان يخون الدولة وراسل الشاه عباسا وَعرض عَلَيْهِ تَسْلِيم الْمَدِينَة فَسَار الشاه بجُنُوده لاحتلالها وَفِي الْوَقْت نَفسه عرض بكير آغا على الْقَائِد العثماني ان يرد الْمَدِينَة للعثمانيين لَو اقرته الدولة على ولايتها فَقبل ذَلِك واحتلتها الْجنُود المظفرة قبل وُصُول شاه الْعَجم وَهُوَ لما وَصلهَا حاصرها ثَلَاثَة اشهر ثمَّ فتحهَا بخيانة ابْن بكير آغا الَّذِي سلمهَا لَهُ بِشَرْط تَعْيِينه حَاكما عَلَيْهَا من قبلهم لَكِن خَابَ سَعْيه فقد قَتله الشاه جَزَاء خيانته كَمَا قتل اباه وَفِي ذَلِك عِبْرَة لكل جَاهِل خائن يظنّ ان الاجنبي يعْتَقد فِيهِ الاخلاص ويكافئه لَو ساعده على ابتلاع وَطنه فَهَل يَرْجُو من بَاعَ وَطنه
(1/280)
________________________________________
الْعَزِيز بيع الْمَتَاع خيرا من تِلْكَ الدولة كلا فانها تستعمله آلَة لنوال غرضها ثمَّ تلفظه لفظ النواة فَيرجع يعَض بنان النَّدَم على ضيَاع شرفه وتسويد صفحات تَارِيخه حَيْثُ لَا ينفع النَّدَم وينكص على عَقِبَيْهِ مذموما مَدْحُورًا وبمناسبة سُقُوط بَغْدَاد فِي ايدي الْعَجم وَعدم اخباره السُّلْطَان بذلك سعى المُنَافِقُونَ بالصدر الاعظم كمانكش على باشا لَدَى السُّلْطَان وافهموه انها لم تسْقط الا لخيانته فحنق عَلَيْهِ وامر بقتْله وَولى مَكَانَهُ جركس مُحَمَّد باشا وَلم يلبث هَذِه الاخير ان توفّي وَعين بعده حَافظ احْمَد باشا سنة 1033 هجرية سنة 1624 م وَهُوَ الَّذِي اشْتهر فِي مكافحة اباظة باشا سنة والفوز عَلَيْهِ فِي وَاقعَة قيصرية ومحاصرته فِي ارضروم حَتَّى الْتزم بالخضوع للدولة واظهار الْوَلَاء لَهَا فعفت عَنهُ عَفْو كريم مقتدر واقرته فِي ولَايَته سنة 1624 م فَسَار حَافظ باشا الصَّدْر الْجَدِيد إِلَى مَدِينَة بَغْدَاد لاستردادها وحاصرها فِي اوائل سنة 1624 وضيق عَلَيْهَا الْحصار وَلما اسْتمرّ الْحصار مُدَّة بِدُونِ ان تنثني عَزِيمَة المحصورين تذمر الانكشارية واظهروا عدم الرَّغْبَة فِي الْحَرْب بكيفية اضطرته لرفع الْحصار عَن الْمَدِينَة وَالرُّجُوع إِلَى الْموصل وَمِنْهَا إِلَى ديار بكر حَيْثُ ثار الْجند مرّة ثاينة فعزل السُّلْطَان حَافظ باشا سنة 1034 هجرية سنة 1624 م وَعين بدله من يدعى خَلِيل باشا الَّذِي سبق تقلده هَذَا المنصب فِي عهد السلاطين احْمَد الاول ومصطفى الاول وَعُثْمَان الثَّانِي شَهِيد الانكشارية وَكَانَت فَاتِحَة اعماله انه استدعى اباظه باشا إِلَى مُعَسْكَره فَظن انه يُرِيد الْغدر بِهِ فَرفع راية الْعِصْيَان ثَانِيًا وَقتل حامية ارضروم من الانكشارية وانتصر على الْقَائِد حُسَيْن باشا وجيشه فَسَار اليه الصَّدْر خَلِيل باشا بِنَفسِهِ وحصره ثمَّ رفع عَنهُ الْحصار بعد شَهْرَيْن نوفمبر سنة 1527 فعزل من الصدارة سنة 1035 هجرية وَولى مَكَانَهُ خسرو باشا وَهُوَ عاود الكرة على ارضروم وادخل اباظه باشا فِي طَاعَة الدولة
(1/281)
________________________________________
وعينه واليا على البشناق بوسنة سنة 1037 هـ سنة 1628 م وَفِي هَذِه الاثناء كَانَت ثورات الْجنُود متتابعة بالاستانة وَفِي كل مرّة يطْلبُونَ قتل من يشاؤن من رُؤَسَاء الْحُكُومَة الْمُخَالفين لَهُم فِي الرَّأْي وَلَا يرى السُّلْطَان مندوحة من اجابة طلباتهم اسكاتا لَهُم وخوفا من ان يصل اليه اذاهم ثمَّ توفّي الشاه عَبَّاس وَتَوَلَّى ابْنه شاه ميرزا وَكَانَ حَدِيث السن فَدخل العشم فِي افئدة القواد العثمانيين وَسَار خسرو باشا من حِينه إِلَى بِلَاد الْعَجم رغما عَن تذمر جُنُوده وَوصل بعد العناء الشَّديد إِلَى مَدِينَة همذان فَدَخلَهَا فَجْأَة فِي 26 شَوَّال سنة 1039 18 يونيو سنة 1630 ثمَّ قصد مَدِينَة بَغْدَاد وانتصر اثناء عودته اليها ثَلَاث دفعات مُتَوَالِيَات على جيوش الْعَجم وَوصل اليها وابتدأ فِي محاصرتها فِي شهر سبتمبر من السّنة الْمَذْكُورَة فدافع عَنْهَا قَائِد حاميتها دفاعا شَدِيدا وَصد هجوم العثمانيين عَنْهَا فِي 7 ربيع الثَّانِي سنة 1040 14 نوفمبر سنة 1630 ولهجوم الشتَاء رفع خسرو باشا عَنْهَا الْحصار وَرجع إِلَى مَدِينَة الْموصل لقَضَاء فصل الشتَاء وَفِي الرّبيع التَّالِي أَرَادَ معاودة الكرة على مَدِينَة بَغْدَاد فَلم تمتثل الْجنُود اوامره وَلذَلِك اضْطر إِلَى التقهقر إِلَى مَدِينَة حلب خوفًا من وُصُول الْعَدو اليه بالموصل وَهُوَ غير واثق من جُنُوده
ثورة الانكشارية وقتلهم الصَّدْر الاعظم حَافظ باشا وثورة فَخر الدّين الدرزي
وَفِي غُضُون ذَلِك اصدر السُّلْطَان امْرَهْ بعزل خسرو باشا واعادة حَافظ باشا إِلَى منصب الصدارة فسعى الْمَعْزُول لَدَى الْجند وافهمهم انه لم يعْزل الا لمساعدته لَهُم فثاروا وارسلوا إِلَى الاستانة يطْلبُونَ ارجاعه وَلما لم يجب السُّلْطَان طَلَبهمْ سَارُوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَقَامُوا بثورة عَظِيمَة خيف مِنْهَا على حَيَاة الْملك فانهم دخلُوا السراي السُّلْطَانِيَّة فِي 18 رَجَب سنة 1041 9 فبراير سنة 1632 وَقتلُوا حَافظ باشا رغما عَن تدخل السُّلْطَان ومنعهم عَنهُ فاغتاظ السُّلْطَان وامر بقتل خسرو باشا محرك هَذِه الْفِتْنَة فَقتل وَلم ينل بغيته من الْبَقَاء فِي الصدارة وَعين من يدعى
(1/282)
________________________________________
بيرام مُحَمَّد باشا صَدرا اعظم وَمن ذَلِك الْحِين اظهر السُّلْطَان عزما شَدِيدا قَوِيا فِي مجازاة رُؤْس الانكشارية وَغَيرهم مِمَّن كَانَ يهيج الخواطر ويقلق الرَّاحَة العمومية وَصَارَ يامر بقتل كل من ثَبت عَلَيْهِ اقل اشْتِرَاك فِي الحركات الاخيرة وَبِذَلِك داخلهم الرعب وَوَقعت مهابته فِي قُلُوبهم وخشيه الصَّغِير وَالْكَبِير والامير والحقير وَسَار كل فِي طَرِيقه مكبا على عمله بِدُونِ أَن ياتي مَا يكدر صفو كأس الرَّاحَة العمومية وَأمن النَّاس على اموالهم واعراضهم من التَّعَدِّي وسادت السكينَة فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة وضواحيها وَجَمِيع انحاء المملكة وَكَانَت آخر ثورة للانكشارية فِي آخر شَوَّال سنة 1041 19 مايو سنة 1632 حركها من يدعى رَجَب باشا لغاية فِي النَّفس فامر السُّلْطَان بقتْله والقاء جثته من شبابيك السراي حَتَّى يَرَاهَا المتجمهرون فسكنت الخواطر وَلم يحصل مَا يعبث بالامن بعد ذَلِك فِي مدَّته وَبعد كسر شَوْكَة الانكشارية اراد السُّلْطَان ان يُعِيد للدولة مَا فقدته من النّفُوذ بِسَبَب اهمال بعض اسلافه وَعدم اطاعة الانكشارية وامتناعهم عَن الْحَرْب عِنْد الْحَاجة القصوى فارسل إِلَى وَالِي دمشق بمحاربة فَخر الدّين امير الدوروز وادخله فِي طَاعَة الدولة فَقَامَ الْوَالِي بالمامورية خير قيام وَهزمَ فَخر الدّين واسره هُوَ وولديه وارسلهم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة حَيْثُ عاملهم السُّلْطَان بِكُل احتفاء واكرام وَلَكِن لما بلغ السُّلْطَان ان اُحْدُ احفاده ثار ثَانِيًا وَنهب بعض مَدَائِن الشَّام امْر بقتْله وَولده الاكبر فقتلا فِي ذِي الْقعدَة سنة 1044 ابريل سنة 1635 فاطاع الدروز وَبقيت الامارة فِي ذُرِّيَّة فَخر الدّين الْمَذْكُور نَحْو مائَة سنة ثمَّ انْتَقَلت إِلَى عائلة شهَاب الَّتِي مِنْهَا الامير بشير فِي حروب ابراهيم باشا ابْن مُحَمَّد عَليّ باشا والدولة فِي النّصْف الاول من هَذَا الْقرن المسيحي
(1/283)
________________________________________
فتح اريوان واسترجاع بَغْدَاد
ثمَّ سَار السُّلْطَان بِنَفسِهِ الشَّرِيفَة إِلَى بِلَاد الْعَجم لاسترجاع فتوحات السُّلْطَان الْغَازِي سُلَيْمَان الاول القانوني فَفتح مَدِينَة اريوان فِي 25 صفر سنة 1045 10 اغسطس سنة 1635 وارسل السُّلْطَان رسولين إِلَى الاستانة لتزيين الْمَدِينَة مُدَّة سَبْعَة ايام وَقتل اخويه بايزيد وَسليمَان لبلوغه عَنْهُمَا مَا كدر خاطره واتباعا للْعَادَة المذمومة وَبعد ذَلِك قصد السُّلْطَان مَدِينَة تبريز فَفَتحهَا عنْوَة فِي 28 ربيع الاول سنة 1045 10 سبتمبر سنة 1635 الْمَذْكُورَة ثمَّ عَاد إِلَى الاستانة للاستراحة من عناء السّفر ومشقات الْحَرْب وَمِمَّا يدل على ان وجود السُّلْطَان مَعَ جيوشه لَهُ اهمية عظمى وَيبْعَث فيهم روحا جَدِيدَة أَنه بِمُجَرَّد رُجُوع السُّلْطَان اشْتَدَّ عزم الْعَجم ووقفوا امام الجيوش العثمانية بعد ان كَانُوا يفرون من امامهم اينما الْتَقَوْا بهم وَالسُّلْطَان فائدهم ثمَّ تغلبُوا عَلَيْهِم واستردوا مَدِينَة اريوان وفازوا بالغلبة فِي وَاقعَة منتظمة فِي وَادي مهربان سنة 1636
فَلَمَّا وصل خبر انتصار الْعَجم على الْجنُود العثمانية إِلَى مسامع السُّلْطَان اراد اذلالهم وَكسر شوكتهم فَسَار بِجَيْش عَظِيم كَامِل الْعدة وَالْعدَد إِلَى مَدِينَة دَار السَّلَام وابتدأ حصارها بكيفية منتظمة فِي 8 رَجَب سنة 1048 15 نوفمبر سنة 1638 وَكَانَ يشْتَغل بِنَفسِهِ فِي اعمال الْحصار الشاقة تنشيطا للجند وسلط على اسوارها المدافع الضخمة الَّتِي نقلهَا اليها وَلما فتحت المدافع فِيهَا فَتْحة كَافِيَة للهجوم اصدر السُّلْطَان اوامره بذلك فهجمت الجيوش كالليوث الكواسر فِي صَبِيحَة 18 شعْبَان سنة 1048 25 دسمبر سنة 1638 وَلم يثنها قتل الصَّدْر الاعظم طيار مُحَمَّد باشا الَّذِي تولى بعد موت بيرام مُحَمَّد باشا المتوفي فِي 6 ربيع الآخر سنة 1048 17 اغسطس سنة 1638 بل استمرت الْحَرْب 48 سَاعَة مُتَوَالِيَة ختمت بانتصار الْجنُود العثمانية نصرا مُبينًا ودخولهم الْمَدِينَة وارجاعها إِلَى المملكة العثمانية وَلم تزل تَابِعَة اليها حَتَّى الْآن
(1/284)
________________________________________
وَبعد ذَلِك رغب شاه الْعَجم عدم اسْتِمْرَار الْقِتَال وَعرض الصُّلْح على الدولة الْعلية بَان يتْرك لَهَا مَدِينَة بَغْدَاد بِشَرْط ان تتْرك هِيَ اليه مَدِينَة اريوان ودارت المخابرات بَين الدولتين نَحْو عشرَة اشهر كَامِلَة وَفِي 21 جُمَادَى الاولى سنة 1049 19 سبتمبر سنة 1639 تمّ الصُّلْح على ذَلِك وانقطعت اسباب الْعدوان من بَينهمَا وَكَانَ يؤمل فِي السُّلْطَان مُرَاد الرَّابِع أَن يضارع السُّلْطَان الْغَازِي سُلَيْمَان الاول القانوني فِي الفتوحات وَبعد الصيت لَوْلَا ان قصفت الْمنون عود حَيَاته الرطيب وَهُوَ فِي مقتبل الشَّبَاب فتوفى يرحمه الله عَن غير عقب فِي 16 شَوَّال سنة 1049 هجرية فبراير سنة 1640 م وسنه 31 سنة وَمُدَّة حكمه 16 سنة و 11 شهرا وَتَوَلَّى بعده اخوه ابراهيم
(1/285)
________________________________________
18
- السُّلْطَان الْغَازِي ابراهيم خَان الاول وَفتح جَزِيرَة كريد
هُوَ ابْن السُّلْطَان احْمَد الاول ولد فِي 12 شَوَّال سنة 1024 4 نوفمبر سنة 1615 وَكَانَ غير ميال لمحاربة النمسا فاطمان خاطرها واوعز لامير ترنسلفانيا بكف الْعدوان عَنْهَا لَكِن كَانَ من جِهَة اخرى محافظا على كَرَامَة الدولة غير متراخ فِي معاقبة من يَمَسهَا بِسوء اَوْ يتَعَدَّى حُدُودهَا وَلذَلِك افْتتح حروبه الخارجية بارسال جَيش جرار إِلَى بِلَاد القرم لمحاربة القوزاق الَّذين احتلوا مَدِينَة آزاق فحاربهم العثمانيون وابلوا فيهم بلَاء حسنا واستردوا الْمَدِينَة مِنْهُم بعد ان احرقوها وَذَلِكَ سنة 1642 وَمن اعماله ايضا فتح جَزِيرَة كريد وَكَانَت تَابِعَة لجمهورية البندقية وَحصل فتحهَا بِسَبَب حِكَايَة غَرِيبَة تكَاد تقرب من الرِّوَايَات الْمَوْضُوعَة وَذَلِكَ ان آغا السراري قيزلر اغاسي كَانَ عِنْده جَارِيَة حسناء وضعت حَدِيثا فاعجبت السُّلْطَان واختارها لَان تكون ظِئْرًا أَي مُرْضِعَة لِابْنِهِ الوحيد مُحَمَّد ولشغف السُّلْطَان بالجارية ومحبته لابنها حصلت بعض امور داخلية مكدرة فاراد آغا السراري ملافاة لهَذِهِ الشقاقات العائلية ان يبتعد عَن الاستانة بِحجَّة زِيَارَة بَيت الله الْحَرَام ويستصحب الْجَارِيَة وَابْنهَا مَعَه وَلما اذن لَهُ السُّلْطَان بذلك سَافر وبينما هُوَ فِي الطَّرِيق اذ هاجمته مراكب رُهْبَان مالطة وقتلوه واخذوا الْوَلَد ظنا مِنْهُم انه ابْن السُّلْطَان وَلما تحققوا من غلطتهم ربوا الْوَلَد على الدّين المسيحي وادخلوه طائفتهم
(1/286)
________________________________________
واشتهر عِنْد الافرنج باسم بَدْرِي اوتوماتو أَي الاب العثماني وَبعد ذَلِك نزل الرهبان إِلَى جَزِيرَة كريد واحسن البنادقة وفادتهم فاغتاظ السُّلْطَان من ذَلِك غيظا شَدِيدا وَحبس قناصل البندقية وانكلترا وهولاندا وَلم يفرج عَنْهُم الا بعد ان اقنعه وزيره الاول بَان اغلب هَؤُلَاءِ الرهبان بل كلهم من الفرنساويين وَمَعَ ذَلِك فانهم غير تابعين للحكومة الفرنساوية وَلَا لغَيْرهَا فهدأ باله وَلكنه امْر بتجهيز عمَارَة بحريّة قَوِيَّة لفتح جَزِيرَة كريد لاهمية موقعها الجغرافي الْحَرْبِيّ عِنْد مدْخل بَحر ارخبيل اليونان ولتوسطها فِي الطَّرِيق بَين الاستانة وَولَايَة الغرب فجهزت الدونانمة وسارت باحتفال زَائِد تَحت قيادة من يدعى يُوسُف باشا إِلَى ان القت مراسيها امام مَدِينَة خَانِية اهم ثغور الجزيرة فِي 29 ربيع الآخر سنة 1055 24 يونيه سنة 1645 وافتتحها بِدُونِ حَرْب تَقْرِيبًا لعدم وُصُول الدونانمه البندقية اليها فِي الْوَقْت الْمُنَاسب فانتقم البنادقة بحرق ثغور بتراس وكورون ومودون من بِلَاد موره وَيُقَال ان السُّلْطَان اراد فِي مُقَابلَة ذَلِك قتل المسيحيين اجْمَعْ وَلَوْلَا مُعَارضَة الْمُفْتِي اِسْعَدْ زَاده ابي سعيد افندي لتم هَذَا الامر وَرُبمَا كَانَت هَذِه دسيسة فِي كتب الافرنج الا انها تشهد على أَي حَال بِحسن سياسة هَذَا الْمُفْتِي لسعيه فِي منع هَذَا الامر الَّذِي لَو تمّ كَانَ يلْحق بالدولة عارا عَظِيما كَمَا لحق بمسيحي اسبانيا لما ارتكبوه من الْقَتْل والفتك بِالْمُسْلِمين بعد فتح مَدِينَة غرناطة وَفِي سنة 1646
(1/287)
________________________________________
فتح اغلب الجزيرة وَفِي السّنة التالية وضع الْحصار امام مَدِينَة كنديا عَاصِمَة الجزيرة لَكِن حَال دون اتمامه وَفتح الْمَدِينَة عصيان الْجنُود فِي الاستانة
وتفصيله ان السُّلْطَان ابراهيم اراد ان يفتك برؤوس الانكشارية فِي لَيْلَة زفاف احدى بَنَاته على ابْن الصَّدْر الاعظم لتذمرهم وانتقادهم على اعماله ورغبتهم فِي التَّدَاخُل فِي شؤون الدولة وَالْخُرُوج عَن حدودهم فَعَلمُوا بِقصد السُّلْطَان وَتَآمَرُوا على عَزله واجتمعوا بِمَسْجِد يُقَال لَهُ اورطه جَامع وانضم اليهم بعض الْعلمَاء والمفتي عبد الرَّحِيم افندي واهاجوا عَسَاكِر الانكشارية والسباه وَقرر الْجَمِيع بعزله وتولية ابْنه مُحَمَّد الرَّابِع الْمَوْلُود فِي 29 رَمَضَان سنة 1051 اول يناير سنة 1642 م أَي الَّذِي لم يتم السَّابِعَة من عمره وتمت هَذِه الثورة يَوْم 18 رَجَب سنة 1058 8 اغسطس سنة 1648 وَبعد ذَلِك بِعشْرَة ايام اظهر السباه عدم ارتياحهم من الْملك الفتي وطلبوا اعادة السُّلْطَان ابراهيم إِلَى عرش الْخلَافَة فخشي رُؤَسَاء الْعِصَابَة الَّتِي عزلته من تغلب السباه وارجاعه رغم انفهم وصمموا على قَتله فَسَارُوا إِلَى السراي وَمَعَهُمْ الجلاد قره عَليّ وقتلوه خنقا كَمَا قتلوا السُّلْطَان عُثْمَان الثَّانِي من قبله فَكَانَت مُدَّة حكمه 8 سِنِين و 9 شهور وسنه 34 سنة وَبِذَلِك ارْتَاحَ خاطرهم واطمان بالهم
(1/288)
________________________________________
19
- السُّلْطَان الْغَازِي مُحَمَّد خَان الرَّابِع
انْفَرد بِالْملكِ ولصغر سنه وَقعت المملكة فِي الفوضى وَصَارَت الْجنُود لاترحم صَغِيرا وَلَا توقر كَبِيرا وَسعوا فِي الارض فَسَادًا وَرجعت الْحَالة إِلَى مَا وصلت اليه قبل تولي السُّلْطَان مُرَاد الرَّابِع بل إِلَى اتعس مِنْهَا وسرى عدم النظام إِلَى الْجنُود المحاصرة كنديا بكيفية اضطرت قائدهم السِّرّ عَسْكَر حُسَيْن باشا لرفع الْحصار عَنْهَا وَكَذَلِكَ كَانَ سريان هَذَا الدَّاء العضال إِلَى الْجنُود البحرية سَبَب انهزام الدونانمه العثمانية امام دونانمة الْعَدو امام مَدِينَة فوقيه سنة 1649 ثمَّ ثار بآسيا الصُّغْرَى فِي هَذِه السّنة ايضا رجل يدعى قاطرجي اوغلي وانضم اليه آخر يدعى كورجي يني وهزما احْمَد باشا وَالِي الاناطول وسارا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَلَوْلَا وُقُوع الشقاق بَينهمَا لخيف على العاصمة من وُقُوعهَا فِي قبضتهما لَكِن وَقع الْخلف بَينهمَا وافترقا فحاربهما الْجند وَهزمَ الثَّانِي وَقتل وارسل راسه إِلَى السُّلْطَان وَتمكن الآخر وَهُوَ قاطرجي اوغلي من الْحُصُول على الْعَفو عَنهُ وتعيينه واليا للقرمان وَبِذَلِك انْتَهَت هَذِه الثورة لَوْلَا اشْتِغَال النمسا بِالْحَرْبِ الهائلة الدِّينِيَّة الْمَعْرُوفَة
(1/289)
________________________________________
بِحَرب الثَّلَاثِينَ سنة لانتهزنت هَذِه الفرصة وَفتحت بِلَاد المجر بِدُونِ مقاومة وَمن جِهَة اخرى لَوْلَا وَلَاء المجر وتفضيلهم الْحُكُومَة العثمانية على حُكُومَة النمسا لثاروا طلبا للاستقلال وَبعد ذَلِك توالت الثورات تَارَة من الانكشارية وطورا من السباه وآونة من الاهالي لما يثقل عَلَيْهِم نير استبداد الْجنُود وتعاقب عزل وتنصيب الصُّدُور بِسُرْعَة غَرِيبَة لم تسبق فِي الدولة وَلَا فِي ايام حكم السُّلْطَان سليم تبعا للاهواء والغايات واختل النظام اَوْ بِعِبَارَة صَرِيحَة صَار عدم النظام نظاما للدولة
وَفِي هَذِه الاثناء تغلبت مراكب جمهورية البندقية على عمَارَة الدولة عِنْد مدْخل الدردنيل واحتلت تنيدوس وجزيرة لمنوس وَغَيرهمَا ومنعت بذلك المراكب الحاملة للقمح واصناف الماكولات عَن الْوُصُول إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة من هَذَا الطَّرِيق حَتَّى غلت جَمِيع الاصناف وَاسْتمرّ الْحَال على هَذَا المنوال وَلَا نظام وَلَا امن وَلَا سكينَة وبالاختصار لَا حُكُومَة ثَابِتَة إِلَى ان قيض لَهَا الْوَالِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَزير مُحَمَّد باشا الشهير بكوبريلي الَّذِي تولى منصب الصدارة سنة 1067 سنة 1656 فعامل الانكشارية مُعَاملَة من يُرِيد ان يطاع اطاعة عمياء وَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا عِنْدَمَا ثَارُوا كعادتهم لما راوه رجلا خَبِيرا بدخائل الامور قَادِرًا على قمعهم والزامهم الْعود إِلَى السكينَة وامر بعد تَعْيِينه بِقَلِيل بشنق بطريرك الاروام لما ثَبت لَهُ تدخله فِي الدسائس والفتن الداخلية
وَمِمَّا يُؤثر عَن هَذَا الْوَزير الْجَلِيل انه استصدر امرا من السُّلْطَان بِمَنْع قتل سلفه وَكَانَ قد امْر بقتْله وتعيينه واليا على كانيشا وَفِي اواسط يوليه سنة 1657
(1/290)
________________________________________
ارسل المراكب لمحاربة سفن البنادقة المحاصرة لمدخل الدردنيل فحاربتها وَلم تساعدها الظروف على نوال النَّصْر ثمَّ بعد موت الْقَائِد البحري البندقي الشهير موشنجو بِنَحْوِ سِتَّة اسابيع انتصرت الْعِمَارَة العثمانية على البنادقة واستردت مِنْهُم مَا احتلوه من الثغور والجزائر
وَفِي اثناء ذَلِك كَانَت نيران الحروب متأججة بَين مملكة بولونيا وشارل جوستاف ملك السويد فارسل هَذَا سفراء إِلَى الْبَاب العالي يطْلبُونَ مِنْهُ ابرام معاهدة هجومية ودفاعية لمحاربة بولونيا وَتَكون هَذِه المملكة تَحت حماية الدولة بِالْفِعْلِ فامتنعت عَن قبُول هَذَا الْوِفَاق وَلما علمت ان راكوكسي امير ترنسلفانيا اتَّحد مَعَ السويد على قتال بولونيا باتحاده مَعَ قرال الفلاخ والبغدان امرت بعزله وعزل قرال الفلاخ الْمَدْعُو قسطنطين الاول وَتَعْيِين ميهن الرُّومِي مَكَانَهُ فقابل راكوكسي الارادة السُّلْطَانِيَّة بالعصيان وانتصر على العثمانيين بِالْقربِ من ليبا سنة 1658 لحُصُول عصيانه فَجْأَة وَعدم الاستعداد لصده ثمَّ سَار كوبريلي لقمعه وَضم إِلَى جُنُوده جيوش ميهن امير الفلاخ الْجَدِيد الَّذِي كَانَ يُرِيد مساعدة راكوكسي لكنه لم ير بدا من مرافقة كوبريلي خوفًا من ظُهُور خيانته فِي وَقت غير مُنَاسِب وباتحاد الجيشين تمكن كوبريلي من قهر هَذَا العَاصِي وطرده من الْبِلَاد وَتَعْيِين من يدعى اشاتيوس بركسي قرالا على ترنسلفانيا بِشَرْط ان يدْفع خراجا سنويا قدره اربعون الف دوكا وَبعد استتباب الامن عَاد الصَّدْر إِلَى الاستانة وبمجرد
(1/291)
________________________________________
عودته اظهر ميهن قرال الفلاخ الْعِصْيَان واضطهد الْمُسلمين وَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا وصادرهم فِي اموالهم واملاكهم واستدعى راكوكسي الْمَعْزُول لمساعدته واعدا لَهُ بإرجاعه إِلَى ولَايَته بعد النَّصْر على العثمانيين وَأَرْسلُوا إِلَى غيكا قرال البغدان يوسوسون لَهُ بالانضمام اليهما فَلم يصغ إِلَى وساوسهم وَلذَلِك سَارُوا اليه وانتصروا عَلَيْهِ بِالْقربِ من مَدِينَة ياسى عَاصِمَة امارته وَلما وصل خبر تمردهم إِلَى الاستانة رَجَعَ كوبريلي على جنَاح السرعة لمحاربتهما قبل اشتداد الْخطب واتساع الْخرق على الراقع وانتصر عَلَيْهِمَا نصرا مُبينًا ثمَّ عزل ميهن جَزَاء خيانته وَعين غيكا قرال البغدان قرالا على الفلاخ ايضا سنة 1659 وَفِي السّنة التالية احتل وَالِي بود عَاصِمَة المجر مَدِينَة جروس واردين التابعة للنمسا بعد مناوشات خَفِيفَة فاعتبرت النمسا ذَلِك اعلانا للحرب وابتدأت الحركات العدوانية بَين الطَّرفَيْنِ
هَذَا ولنذكر شَيْئا من علاقات الدولة مَعَ فرنسا اثناء هَذِه الاضطرابات الداخلية الَّتِي جرت فِيهَا الدِّمَاء وَقتل فِيهَا ملكان كَمَا مر فَنَقُول انه لم يحصل تغير فِي هَذِه العلاقات الا فِي وَقت اشْتِغَال فرنسا فِي محاربة النمسا ايام وزارة الكاردينال ريشليو الَّذِي كَانَ عَاملا على اذلالها اعلاء لشأن فرنسا فاخذ نُفُوذ فرنسا لَدَى
(1/292)
________________________________________
الْبَاب العالي فِي الضعْف شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى تقاسمت مَعهَا البندقية حق حماية الْكَنَائِس المسيحية فِي غلطة ايام السُّلْطَان مُرَاد الرَّابِع الَّذِي طرد طغمة اليسوعيين من الاستانة سنة 1628 بِنَاء على الحاح سفراء انكلترا وهولاندا سعيا وَرَاء اضعاف نُفُوذ الكاتوليك وَتَقْرِير نُفُوذ البروتستانت بِمَا ان دَوْلَتِي انكلترا وهولاندا كَانَتَا فِي ذَلِك الْعَصْر بروتستانتيين دون بَاقِي الدولة الاوروبية وَلعدم مدافعة فرانسا عَن امتيازاتها اخْتصَّ اليونانيون بِخِدْمَة بَيت الْمُقَدّس مَعَ ان ذَلِك كَانَ مَنُوطًا بالرهبان الكاتوليك بِمُقْتَضى المعاهدات المبرمة مَعَ سُلَيْمَان الاول وتجددت ايام مُحَمَّد الثَّالِث وَاحْمَدْ الاول كَمَا مر وَمِمَّا زَاد علاقات الدولتين فتورا وَجعل الْحق بِجَانِب الدولة العثمانية تدخل فرنسا سرا بمساعدة البنادقة على الدفاع عَن جَزِيرَة كريد وامدادها لَهُم بِالسِّلَاحِ وَضبط عدَّة مراسلات رمزية كَانَت مُرْسلَة إِلَى المسيو دي لاهي مَعَ شخص فرنساوي موظف فِي بحريّة البندقية وَهُوَ سلمهَا بِنَفسِهِ إِلَى الْوَزير كوبريلي سنة 1659 طَمَعا فِي المَال وَكَانَ اذ ذَاك بِمَدِينَة ادرنه وَلما لم يُمكنهُ حل رموزها ارسل إِلَى الاستانة يَسْتَدْعِي السفير الفرنساوي ولتمرضه ارسل وَلَده إِلَى ادرنه مَكَانَهُ فَلَمَّا مثل بَين يَدي الصَّدْر الاعظم وَسَأَلَهُ عَن معنى هَذِه الرموز لم يراع فِي جَوَابه آدَاب المخاطبة فامر بسجنه فِي الْحَال وَلما بلغ خبر سجنه إِلَى وَالِده سَافر إِلَى ادرنه خوفًا على حَيَاة وَلَده وَلم يمنعهُ اشتداد مَرضه عَن السّفر وقابل الْوَزير كوبريلي مُحَمَّد باشا وَلما لم يرشده السفير عَن معنى الجوابات المرموزة لم يقبل
(1/293)
________________________________________
اخلاء سَبِيل ابْنه بل سَافر إِلَى ولَايَة ترنسلفانيا وَلم يُطلق سراحه الا بعد عودته فِي سنة 1660 وَلما علم الكردينال مازرين بِحَبْس ابْن السفير ارسل إِلَى الاستانة سفيرا فَوق الْعَادة اسْمه المسيو دي بلندل وَمَعَهُ جَوَاب من سُلْطَان فرنسا يطْلب فِيهِ الِاعْتِذَار عَمَّا حصل وعزل الصَّدْر الاعظم لَكِن لم يسمح لهَذَا السفير بالوصول إِلَى السُّلْطَان بل قابله الصَّدْر الاعظم بِكُل تعاظم وكبرياء وَلذَلِك ساعدت فرنسا كريد جهارا وارسلت اليها اربعة آلَاف جندي واجازت إِلَى البندقية جمع عَسَاكِر متطوعة من فرنسا وامدت النمسا بِالْمَالِ طَمَعا فِي اشغال الدولة وانتقاما مِنْهَا لَكِن لم تثن هَذِه الاجراءآت عَزِيمَة كوبريلي مُحَمَّد باشا بل مَا لبث يُقَاوم اعداء الدولة فِي الدَّاخِل وَالْخَارِج حَتَّى اعاد لَهَا سالف مجدها وَجعلهَا مُحْتَرمَة فِي اعين الدول اجْمَعْ بعد ان كَادَت تُؤدِّي بهَا الْفِتَن الداخلية إِلَى الدمار وَلما احس باقتراب اجله لاشتداد الْمَرَض عَلَيْهِ طلب مِنْهُ السُّلْطَان مُحَمَّد الرَّابِع ان يدله على من يُعينهُ خلفا لَهُ بعد وَفَاته فاوصاه بتولية ابْنه احْمَد ثمَّ توفّي سنة 1072 سنة 1661 وَخَلفه ابْنه كوبريلي زَاده احْمَد باشا
فتح قلعة نوهزل
وَكَانَ خير خلف لخير سلف فانه كَانَ متصفا بالشجاعة والاقدام وَحسن الرَّأْي واص الة التَّدْبِير وَاسْتمرّ على خطة ابيه من عدم التساهل مَعَ الجندية ومجازاة من يَقع مِنْهُ اقل امْر مخل بالنظام باشد الْعقَاب ومحاربة اعداء الدولة بِدُونِ فتور اَوْ ملال حَتَّى يزِيل من اذهانهم مَا خامرها من تضعضع احوال الدولة وَقرب زَوَالهَا وَلذَلِك لم يقبل مَا فاتحته بِهِ دولة النمسا وجمهورية البندقية من الصُّلْح
(1/294)
________________________________________
وقاد الجيوش بِنَفسِهِ وَعبر نهر الطونة لمحاربة النمسا وَوضع الْحصار امام قلعة نوهزل فِي يَوْم 13 محرم سنة 1074 17 اغسطس سنة 1663 وَمَعَ ان هَذِه القلعة كَانَت مَشْهُورَة فِي جَمِيع اوروبا بالمناعة وَعدم امكان أَي اُحْدُ التغلب عَلَيْهَا وَفتحهَا فقد اضْطر كوبريلي احْمَد باشا حاميتها إِلَى التَّسْلِيم بِشَرْط خُرُوج من بهَا من الْجنُود بِدُونِ ان يمسهم ضَرَر تاركين مَا بهَا من الاسلحة والذخائر واخلوها فعلا فِي 25 صفر سنة 1074 28 سبتمبر سنة 1663 بعد البدء فِي حصارها بِسِتَّة اسابيع وَلذَلِك اضْطَرَبَتْ اوروبا باجمعها لهول هَذَا الْخَبَر الَّذِي دوى فِي آذان مُلُوك اوروبا ووزرائها كالرعد حَتَّى وضعُوا اصابعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق حذر الْمَوْت وَكَانَ هَذَا الْفَتْح الْمُبين اشد تاثيرا على ليوبولد امبراطور النمسا اكثر من غَيره لدُخُول الجيوش العثمانية فِي بِلَاده وانتشارها فِي اقليمي مورافيا وسيليزيا فاتحين غازين حَتَّى خيل لَهُ ان السُّلْطَان سُلَيْمَان قد بعث من رمسه لفتح
(1/295)
________________________________________
ويانه عَاصِمَة دولته وَلذَلِك وسط البابا اسكندر السَّابِع فِي طلبه المساعدة لَهُ من لويز الرَّابِع عشر ملك فرنسا وَكَانَ قد عرض عَلَيْهِ فِي ابْتِدَاء الْحَرْب امداده باربعين الف من الالمانيين المحالفين لَهُ فابى خوفًا من اظهار الضعْف فسعى البابا جهده لَدَى ملك فرنسا حَتَّى قبل بارساله سِتَّة آلَاف جندي فرنساوي واربعة وَعشْرين الف من محالفيه الالمانيين تَحت قيادة الكونت دي كوليني
وانضم هَذَا الْجَيْش إِلَى الْجَيْش النمساوي الْقَائِد لَهُ الكونت دي ستروتزي وابتدأت المناوشات بَين الجيشين المتحاربين فَقتل الْقَائِد الْعَام النمساوي وَخَلفه الْقَائِد الشهير مونت كوكوللي وَكَانَ قد انْضَمَّ إِلَى الْجَيْش الفرنساوي عدد عَظِيم من شُبَّان الاشراف تَحت رئاسة الدوك دي لافوياد وَفِي الاوائل كَانَ النَّصْر فِي جَانب العثمانيين فاحتل كوبريلي احْمَد باشا مَدِينَة سرنوار وعسكر على شاطئ نهر يُقَال لَهُ نهر راب والاعداء معسكرون امامه وَبعد ان حاول عبوره وصده النمساوي الفرنساوي جمع كل قواه فِي يَوْم 8 محرم سنة 1075
(1/296)
________________________________________
اول اغسطس سنة 1664 وَعبر النَّهر عنْوَة وَبعد قَلِيل انتصر على قلب جَيش الْعَدو وَلَوْلَا تدخل الفرنساويين وخصوصا الاشراف مِنْهُم لتم للعثمانيين النَّصْر لَكِن لم يُمكن الانكشارية الثَّبَات امام جنود الْعَدو الاكثر مِنْهُم عددا فانهم كلما قتل مِنْهُم صف تقدم الآخر وَبِذَلِك انْتهى الْيَوْم بِدُونِ انتصار تَامّ لَاحَدَّ الْفَرِيقَيْنِ فان العثمانيين حَافظُوا على مراكزهم بِدُونِ تقدم للامام وَسميت هَذِه الْوَاقِعَة بواقعة سان جوتار نِسْبَة لكنيسة قديمَة حصلت الْحَرْب بِالْقربِ مِنْهَا وَبعد ذَلِك تبادلت المخابرات توصلا للصلح وَبعد عشرَة ايام ابرمت بَين الطَّرفَيْنِ معاهدة اهم مَا بهَا اخلاء الْجَيْش لاقليم ترنسلفانيا وَتَعْيِين ابافي حَاكما عَلَيْهَا تَحت سيادة الدولة الْعلية وتقسيم بِلَاد المجر بَين الدولتين بَان يكون للنمسا ثَلَاث ولايات وللباب العالي اربعة مَعَ بَقَاء حصني نوفيجراد ونوهزل تابعين للدولة الْعلية
هَذَا وَلَو ان الْحَرْب انْتَهَت على حُدُود النمسا الا ان فرنسا مَا زَالَت مراكبها تطارد سفن الْمغرب بِحجَّة انها تغزو سفنها وَمَا زَالَت هَذِه حجتهم حَتَّى استولوا على اقليمي الجزائر وتونس فِي هَذَا الْقرن وَاسْتمرّ هَذَا الْحَرْب مُدَّة بِغَيْر صفة رسمية وَفِي سنة 1666 ارسل الْوَزير الفرنساوي كولبر الَّذِي خلف مازارين سفيرا للدولة لاصلاح ذَات بَينهمَا لَكِن لم يصب فِي الانتخاب فانه ارسل ابْن المسيو دي لاهي الَّذِي حَبسه الْوَزير كوبريلي احْمَد باشا فِي ادرنه كَمَا سبق ذكره
(1/297)
________________________________________
وَلذَلِك لم تفد ماموريته شَيْئا بل ابى الصَّدْر تَجْدِيد الامتيازات الفرنساوية التجارية وحرمها حق امرار بضائعها من مصر فالسويس إِلَى الْهِنْد وَزِيَادَة على ذَلِك منحت إِلَى جمهورية جنوا امتيازات خُصُوصِيَّة شَبيهَة بامتيازات انكلترا وَلذَلِك جاهرت فرنسا بمساعدة مَدِينَة كانديا عل محاربة العثمانيين فَسَار الصَّدْر سنة 1667 بِنَفسِهِ لتتميم فتح هَذِه الْمَدِينَة الحصينة الَّتِي كَادَت تعيي الدولة وَاسْتمرّ الْحصار والقتال مُدَّة اكثر من سنتَيْن لامداد فرنسا لَهَا بِالْمَالِ وَالرِّجَال والسفن الحربية واخيرا اضطرت الحامية إِلَى التَّسْلِيم فسلمها قائدها موروزيني فِي 29 ربيع الثَّانِي سنة 1080 26 سبتمبر سنة 1669 بعد ان امضى مَعَ الصَّدْر معاهدة بالنيابة عَن جمهورية البندقية تقضي بالتنازل للدولة الْعلية عَن جَزِيرَة كريد مَا عدا ثَلَاث قرى وَهِي قره بوزا وسودا وَسَبَيْنَا لونجا وصدقت البندقية عَلَيْهَا فِي فبرايرسنة 1670 وَفِي هَذِه الاثناء كَانَ المسيو دي لاهي سفير فرانسا مُقيما بالاستانة يسْعَى جهده فِي الْحُصُول على تَجْدِيد الامتيازات فَلم يفلح
وَفِي سنة 1670 ارسل لويز الرَّابِع عشر سفيرا غَيره يدعى الماركي دي نوانتل بعمارة بحريّة حربية بِقصد ارهاب الصَّدْر وتهديده بِالْحَرْبِ إِذا لم يذعن لطلبات فرانسا لَكِن لم ترهبه هَذِه التظاهرات بل قَابل السفير بِكُل سُكُون وَقَالَ لَهُ ان تِلْكَ المعاهدات لم تكن الا منحا سلطانية لَا معاهدات اضطرارية وَاجِبَة التَّنْفِيذ وانه ان لم يرتح لهَذَا الْجَواب فَمَا عَلَيْهِ الا الرحيل وَلما وصل هَذَا الْجَواب إِلَى ملك فرنسا اراد اعلان الْحَرْب على الدولة وَلَوْلَا نصائح الْوَزير كولبر لركبت فرانسا هَذَا الْمركب الخشن وجلبت لنَفسهَا ضَرَرا فادحا بقفل ابواب الشرق امام مراكبها بل تمكن كولبر بِحِكْمَتِهِ وسياسته ومعاملة الدولة الْعلية باللين والخضوع من تَجْدِيد المعاهدات الْقَدِيمَة فِي سنة 1673 وفوض ثَانِيًا إِلَى فرنسا حق حماية بَيت الْمُقَدّس كَمَا كَانَ لَهَا ذَلِك من ايام السُّلْطَان سُلَيْمَان وَبِذَلِك عَادَتْ العلاقات إِلَى سَابق ضفائها بَين الدولتين وَمِمَّا زَاد حُدُود الدولة اتساعا ومنعة من جِهَة الشمَال خضوع
(1/298)
________________________________________
جَمِيع القوزاق الساكنين بالجزء الجنوبي من بِلَاد الروسيا إِلَى الْخَلِيفَة الاعظم مُحَمَّد الرَّابِع بِدُونِ حَرْب بل حبا فِي الدُّخُول فِي حمى حامي دولة الاسلام وَلذَلِك اغارت بولونيا على ولَايَة اوكرين فاستنجد حاكمها الاكبر بالعثمانيين فانجده السُّلْطَان وَسَار بِنَفسِهِ فِي جَيش جرار وَوصل فِي قَلِيل من الزَّمن إِلَى حصن رامنيك فِي 23 ربيع آخر سنة 1083 18 اغسطس سنة 1672 واحتل هَذَا الْحصن عنْوَة بعد محاصرة استمرت عشرَة ايام وَكَذَلِكَ احتل مَدِينَة لمبرج الشهيرة فَطلب سلطانهم ميشل الصُّلْح على ان يتْرك اقليم اوكرين للقوزاق وَولَايَة بودوليا للدولة الْعلية وَيدْفَع لَهَا جِزْيَة سنوية قدرهَا مِائَتَان وَعِشْرُونَ الف بندقي ذَهَبا فَقبل السُّلْطَان هَذِه الشُّرُوط وامضيت بَينهمَا فِي 25 جُمَادَى الاولى سنة 1083 18 سبتمبر سنة 1672 أَي بعد اعلان الْحَرْب بِشَهْر وَاحِد وَسميت هَذِه المعاهدة بمعاهدة بوزاكس
لَكِن لم تقبل الامة البولونية بِهَذَا الْوِفَاق بل اصرت على اسْتِمْرَار الْقِتَال وارسلت قائدهم الشهير سوبيسكي بجيوش جرارة لمحاربة العثمانيين فاسترد مَدِينَة لمبرج
(1/299)
________________________________________
واظهارا لممنونية الامة انتخبته ملكا عَلَيْهَا بعد موت ميشل سنة 1673 واستمرت الْحَرْب بَين الدولتين سجالا إِلَى سنة 1167 وفيهَا جدد الْملك سوبيسكي الصُّلْح بعد ان فقد مُعظم جيوشه فِي هَذِه الحروب المستمرة وتنازل للدولة الْعلية عَمَّا كَانَ تنازل لَهَا عَنهُ الْملك ميشل الا بعض مدن قَليلَة الاهمية وَكَانَت هَذِه المعاهدة خَاتِمَة اعمال كوبريلي احْمَد باشا الَّذِي توفّي بعد اتمامها بِقَلِيل فِي 24 رَمَضَان سنة 1087 30 اكتوبر سنة 1676 عَن وَاحِد واربعين سنة قضى مِنْهَا خمس عشرَة سنة فِي منصب الصدارة الْعُظْمَى بِكُل امانة وصداقة سائرا فِي ذَلِك على خطة وَالِده المرحوم كوبريلي مُحَمَّد باشا وتقلد منصب الصدارة بعده زوج اخته قره مصطفى وَلم يكن كُفؤًا للسير فِي الطَّرِيق الَّذِي رسمه كوبريلي الْكَبِير وَولده بل اتبع مصْلحَته الذاتية وَبَاعَ المناصب الْعَالِيَة والمعاهدات والامتيازات المجحفة بالدولة حَالا واستقبالا بِدَرَاهِم مَعْدُودَة وبسوء سياسته كدر خواطر القوزاق وابعدهم عَن الدولة حَتَّى ان خَان اقليم اوكرين عصاها جهارا فِي فبراير سنة 1677 واستنجد بالروسيا الَّتِي كَانَت آخذة اذ ذَاك فِي تنظيم داخليتها وَتقدم وَكَانَت تتوق للدخول ضمن الْمُجْتَمع الاوروبي فامدته بِالرِّجَالِ وحاربت عَسَاكِر الدولة اسْتمرّ الْحَرْب بَين القوزاق والروس من جِهَة والعثمانيين من جِهَة اخرى بَين اخذ ورد حَتَّى سنة 1681 حَيْثُ تمّ الصُّلْح بَينهم على بَقَاء الْحَالة على مَا كَانَت عَلَيْهِ قبل ابْتِدَاء الْحَرْب وَسميت هَذِه المعاهدة بمعاهدة رادزين
وَفِي هَذِه السّنة سَار قره مصطفى باشا إِلَى بِلَاد المجر لمحاربة النمسا بِنَاء على استدعاء تيليكي اُحْدُ اشراف المجر الَّذِي اثار الايالات المجرية التابعة للنمسا للتخلص من استبدادها الديني فان الامبراطور ليوبولد لكَونه كاتوليكيا كَانَ يامر بقتل كل من يلوح عَلَيْهِ ادنى ميل إِلَى مَذْهَب البروتستانت
حِصَار مَدِينَة ويانه اخر دفْعَة
وَبعد ان انتصر عدَّة مَرَّات على النمساويين قصد مَدِينَة ويانة عَاصِمَة النمسا فحاصرها سنة 1683 مُدَّة شَهْرَيْن وَاسْتولى على كَافَّة قلاعها الامامية وَهدم اسوارها
(1/300)

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22