عرض مشاركة واحدة
قديم 17-01-2012 ~ 06:40 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


تاسعا: رده لقصة علي بن أبي طالب في تحريق الزنادقة:
ذكر لهذا الحديث عدة روايات وتأويلات:
1- الرد اللغوي لحديث علي وابن عباس - رضي الله عنهم - الذي رواه البخاري أنه قال: "أتي علي – رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا تعذبوا بعذاب الله ). ولقتلتهم، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( من بدل دينه فاقتلوه ) "[48]، ثم يقول الأستاذ البنا عن هذه الرواية أن هناك أيضا شيء يحيك في النفس بالنسبة للمتن في رواية عكرمة، فكلمة زنادقة التي لو استقصينا تاريخة لأظهر هذا التقصي أنها لم تشتهر في أيام الخلافة الراشدة[49].

2- كذلك تحريق علي – رضي الله عنه - لهم مع نهي الرسول واستبعاد أن يجهل علي ما علمه ابن عباس[50].

3- ثم ورود الحديث على إطلاقه مما يسمح بانطباقه على من يبدل دينه إلى الإسلام أو من يبدله من مسيحية إلى يهودية أو من يهودية إلى مسيحية (وهو ما ذهب إليه بعض الأئمة) وهو يناقض ما قرره الرسول حسب ما ذكره ابن هشام في السيرة بقوله: "من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها"[51].

4- يقول: "الرواية الثانية عن بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة وقد وثق بهز جماعة كما اختلف فيه آخرون وتوقفوا في الاحتجاج به"[52]، وذكر أن مصدره ميزان الاعتدال (1/165)


5- وقال أيضا: "أن راوي الرواية الثالثة شهر بن حوشب وإن كان من الرواة المشهورين فقد اختلف فيه وقال بعضهم لا يحتج به أو تركوه، مع أن المحدثين عادة لا يردون أحاديث لمثل ما أوردناه من شبهات أو أقاويل عن الرواة، وأنهم لا يرون أن ما قيل فيهم يوقف الاحتجاج بهم، فقد يجوز لنا أن نتوقف إذا كان الأمر يتعلق بالقتل، وأي حرج في أن نقف مثل موقف مسلم من عكرمة؟!"[53]

1- الرد على رده الحديث لورود لفظ الزندقة به:
أ‌-أن الألفاظ منه ما هو أصيل، ومنه ما هو معرب، وهذه الكلمة من الكلمات الفارسية التي تم تعريبها وانتقالها للعربية، وكان تعريبها مع الفتح العربي لبلاد فارس، وتحول معناها مع التعريب إلى الخروج والمروق من الدين.

ب‌- أن ذلك ليس معناه الجزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكلم بالفارسية، وإنما يدل ذلك على صحة مذهب من قال بجواز الرواية بالمعنى.

ت‌- أما قوله أن لفظ الزنديق لم يشتهر في أيام الخلافة الراشدة، فهو أمر خطأ، ولا يمكن الجزم به من أوجه، فإن اختلاط العرب بالفرس وعوامل الجوار تفرض التأثير والتأثر اللغوي، فضلا عن أن الفتح الإسلامي لفارس قد بدأ في عام 11 هـ على يد خالد بن الوليد، مما يدل على أن هذا اللفظ كان من السهل انتقاله وتداوله لدى المسلمين.

ث‌- كذلك فإن ما يمكن الجزم به هو خلافه، وهو أن هذه اللفظة كانت موجودة في أول المعاجم العربية، فيقول الإمام الخليل (ت 170 هـ) في معجمه العين: "زندق: الزِّنديق... زَنْدَقَةُ الزِّنديق: ألا يؤمن بالآخرة، وبالربوبية"[54]، والخليل بن أحمد الفراهيدي كان مولده عام 100هـ ووفاته عام 170 هـ، وكونه قد قام بتدوين هذا اللفظ في هذه الفترة، ومن البديهي أن يكون هذا اللفظ مستقرا قبل تدوينه، كما أن العلم دائما مستقر قبل تدوينه.

ج‌- أن بلاد فارس قد خرج منها النابغين في حمل العلم الشرعي، فكان منهم محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم لم الحجاج النيسابوري، وأبو داود السجستاني، وأحمد بن عيسى الترمذي، والقزويني وغيرهم، فكان من اليسير روايتهم لمثل هذه الألفاظ بما يسهل معناها لديهم، دون وجود حرج شرعي في الرواية، وهذه المسألة هي التي تكلم فيها علماء الحديث في جواز الرواية بالمعنى، ولا ريب أن تأدية الحديث بلفظه أولى، وفيما يتعبد بلفظه فهو أوجب، ولكن لا حرج في الرواية بالمعنى لأن ذلك أنه من باب التوسيع في نقل العلم، فالصحابة كانوا يروون بالمعنى، وذلك جلي في اختلاف روايتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفس المعنى، دون أن ينكر أحدهم على الآخر، وهم سلف هذه الأمة الذين أمرنا الله بالاقتداء بهم، وعدم الخروج عن هديهم، وهم مجمعون على ذلك.

ح‌- أن الحديث ورد في كتب أخرى من كتب السنن بلفظ الردة، مثال ذلك ما رواه الإمام أبو داود من حديث عكرمة "أَنَّ عَلِيًّا، عَلَيْهِ السَّلَام أَحْرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ..."[55]، فأخذ رواية واحدة والانطلاق منها للطعن في الحكم الشرعي ليس سبيل العدل والإنصاف والإخلاص في البحث العلمي.

2-الرد على رده الحديث لأنه من المستبعد عدم علم علي - رضي الله عنهم - به:
والرد على هذه الدعوى أنها مستغربة من أوجه:
أ‌- استبعاده أن يكون على قد علم بهذا الحكم هو من الغلو في علي - رضي الله عنهم -، وهذا فعل فرقة الشيعة المغالين في آل البيت.
ب‌- أن عليا - رضي الله عنهم - عند أهل السنة من أهل العلم والفضل، ورابع أفضل هذه الأمة، إلا أنه لم يجمع العلم، وقد أنكر الله على نبي من أنبيائه من قبل بأنه قرصته نملة فحرق واد من النمل، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قرصت نملة نبيا من لأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح "[56].
ت‌- ومما يدل على أنه لم يحز العلم أنه لم يكن ملازما للنبي في كل وقت وحين، فكان الرسول يرسله في الغزوات، فأرسله إلى فتح خيبر، واليمن، وهذا قطعا لا يسمح له أن يتلقى من النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ما يتحدث به.

3- الرد على أن نص الحديث ينطبق على كل من بدل دينه:
والرد على ذلك:
أن الخلاف في هذه المسألة لا يمت لحد الردة في الإسلام، فكون الحديث يتعدى للملل والنحل الأخرى أمر، وكونه يثبت حد الردة في الأديان الأخرى أمر أخر، فنقطة البحث هي كون هذا الحديث يستدل به على حد الردة في الإسلام أم لا، بغض النظر عن تعديه للملل والنحل الأخرى.

كذلك لا يجوز النظر للحديث منفصلا عن مخصصاته، ودون الجمع مع الأدلة الأخرى، فهناك في علم الأصول ما يسمى بالمخصص المنفصل، فليس لفظ الحديث صالح لكل دين، وإنما للدين الإسلامي فحسب الذي شهد الله له بالصحة على سائر الأديان، وأمر بالدعوة إليه، وأمر في أحاديث عدة بقتل من ارتد عنه من الأدلة الواردة في السنة النبوية.

فحينما يقول الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ النساء(11)، فليس المراد هنا المسلم منهم والكافر، لأن هناك مخصص منفصل ورد في السنة يمنع التوارث بين المسلم والكافر، فكذلك في الحديث الذي معنا، مخصصه منفصل، والواجب تدبر الأدلة وصفها جنبا إلى جنب، والعمل بها جميعا لقول الله جل وعلى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ النساء (82).

4- الرد على أن أحد روايات الحديث من طريق بهز بن حكيم وقد طعن فيه:
أقول: وهذه مذهب من يعتقد ثم يستدل، فإن بهز بن حكيم قد روى له الأئمة: البخاري تعليقا، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال فيه ابن حجر أنه صدوق، وقال عنه الذهبي أنه وثقه جماعة، وقال ابن عدي: "لم أر له حديثا منكرا، ولم أر أحدا من الثقات يختلف في الرواية عنه، وأما أحمد وإسحاق فاحتجا به"، ثم قال الذهبي معلقا: "قلت: ما تركه عالم قط، إنما توقفوا في الاحتجاج به"، وقال أيضا: "وقال الحاكم: ثقة، إنما أسقط من الصحيح، لأن روايته عن أبيه عن جده شاذة لا متابع له عليها. وقال أبو داود: هو حجة عندي"[57].

فمما سبق يتبين لنا أن غالب الأئمة وثقوه، ورغم أن الإمام البخاري قد قال أنهم توقفوا فيه إلا أنه قد خَرَّجَ له تعليقا، وأن من الأسباب التي طعن به فيها ما لا يقبل كلعبه بالشطرنج، فليس ذلك مما يسقط رواية الرجل. كذلك فإن روايته التي توقف العلماء فيها هي ما رواه عن أبيه، وهذه الرواية إنما وجدت مرة واحدة في المعجم الكبير للطبراني [58]، فكأنما الأستاذ البنا قد ترك كل الروايات لهذا الحديث، ثم انطلق إلى ما يوافق هواه لينطلق منه إلى الطعن في هذا الحد، وهذا ليس سبيل من ينشد الحق، ويتحراه ويطلبه، بل هو سبيل من يقرر الأفكار المسبقة بغض النظر عن حجج الآخر المخالف له.

عاشرا: نفيه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل أحدا ردة:
ويقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتل أحد فيقول: "وأهم من هذا كله أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -لم يقتل حدا لا رجل ولا امرأة للردة وحدها"[59]، كما حكى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل ابن خطل لأنه قد قتل غلامه، واستدل بما حكاه ابن إسحاق أنه قد كان له ماضيا جنائيا حيث قتل غلامه في أحد الرحلات[60].

الرد:
أ‌- النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل أناسا للردة وحدها، وأناس للردة مع أمر آخر، فقد قتل ابن خطل وقوم عكل للردة والقتل سويا، لكنه قتل آخرون للردة وحدها.

ب‌- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل ابن خطل، وكان مسلما ثم ارتد، فأمر بقتله في فتح مكة لأنه ارتد، وقتل غلاما له[61]، ولو كان معلقا بأستار الكعبة، وقتل قوما من عكل لردتهم وقتلهم لراعي رسول الله.

ت‌- أنه لم يكن ابن خطل فحسب ممن قتل ردة في يوم الفتح حتى يكون لذلك تأويل بقتله غلامه، فقد كان ممن أهدر دمه للحكم بكفرهم عدة أشخاص ذكرهم الإمام النسائي في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال: "لما كان يوم فتح مكة، أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم! وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة ابن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح"، ومن المرتدين كان مقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، فقد أسلما ثم ارتدا من قبل.

ث‌- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَقَرَّ الرجل الأعمى الذي قتل أمَّ ولد له لأنها ارتدت بسبها للنبي، قال الإمام أبو داود: " أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ، فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ»، فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ، وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا، فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ، وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»"[62].

ج‌- أن الصحابة قد ساروا بهذه السنة فيمن ارتد في عصرهم، وكانوا ينسبون ذلك للنبي ويطبقونه، فقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فقال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا). فقال أبو موسى: يا نبي الله إن أرضنا بها شراب من الشعير المزر، وشراب من العسل البتع، فقال: (كل مسكر حرام). فانطلقا، فجعلا يتزاوران في سفرهما، فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا ؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه[63]، وهذا يرد على قوله: "فإذا أصر بعض الناس على صحة وقوة حديث "من بدل دينه فاقتلوه" فيصار إلى أنه للجواز وليس للوجوب، وما يصرفه عن الوجوب ما سبق من الشواهد التي تثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل مرتدا لمجرد أنه بدل دينه، ولكنه جمع إلى ذلك إفعالا من المحاربة التي تستحق القتل "[64]، وذلك لأنه قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته قد كانت سنته قتل المرتد، بغض النظر أنه جمع إلى ردته أفعالا من المحاربة أم لا.

ح‌- وكما ورد في تحريق علي - رضي الله عنهم - للزنادقة، ولا غضاضة في كونه قد علم بحد الردة، وجهل حكم الحرق إلا عند من يغلو فيه ويدعي له العصمة.

خ‌- أنه ورد عن عمر قبوله للحد، وإنكاره لمسألةِ مُخَالَفَةِ مَن حَولَهُ للاستتابة، فجاء في الموطأ من حديث حديث عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قال: " قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، قَالَ: فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: «أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ، وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ» ؟ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي»"[65]، فهو معترف بحد الردة، منكر لعدم الاستتابة، مع أن الرجل لم يكن له ما يوجب قتله سوى هذا الأمر.

د‌- أن حد الردة من باب حفظ الأصل الأول من الضروريات الخمس، ألا وهو الدين، من كيد الكائدين الذين يريدون التلاعب بهذا الدين، والذين كانوا يحاولون صد المؤمنين عن دينهم بقولهم: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[آل عمران: 72]

حادي عشر: قوله أن مسألة الردة صناعة فقهية سياسية:
ومن اتهاماته للعلماء أنه يقول أنها صناعة فقهية لخدمة الدولة الأموية، وبداية الدولة العباسية لإدانة الخارجين عليهم، فيقول: "عندما احتدمت العداوات السياسية والخلافات المذهبية وهددت وحدة الأمة وكيانها، عندئذ وقف الفقهاء موقف حماة القانون والنظام والسلطة، وكأن المناخ أملى عليهم أن يبتروا من المجتمع كل خارج عليه...وتوصلوا بحكم الصناعة الفقهية إلى إضافتيين: الأولى إبداع صيغة من جحد معلوما من الدين بالضرورة، بحيث تتسع للجميع، والثانية فكرة الاستتابة"[66].

قلت: فكأنما الفقهاء رجال سلطة يطلبون الدنيا، ولم يدر أن التصنيف في الردة قد سبق ذلك بكثير، فالقرآن قد أثبت الردة، والعلماء ضبطوا الردة بمسائل الكفر والإيمان مما نص عليه القرآن، وبما هو معلوم من الدين بالضرورة، والمعلوم من الدين بالضرورة ليست قاعدة فضفاضة، وإنما قاعدة منضبطة تشمل ما اشتهر من أحكام الدين في هذا الزمان والمكان، ثم تأتي مرحلة إقامة الحجة على المكلف الذي أتى ناقضا من نواقض الإسلام، ولو كان الأمر سياسيا محضا لما حصلت له استتابة.

وحد الردة يضمن حرية من يدخل في الإسلام دون هوى، فليس دخوله إلا عن قناعة أنه لن يخرج منه، ليس لمال، أو جاه، أو ليطعن فيه من الداخل ويشكك أهله ثم يخرج، فمن لم يرد هذا الدين بشروطه بعدما يعرف أنه الحق، فإنه ليس بملزم على الدخول فيه، وهذا ما قال الله جل وعلا فيه: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[آل عمران: 72]، يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: "حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ﴾، فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدّقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدَرُ أن يرجعوا عن دينهم"[67]

كما أنه لو أن الإيمان والكفر قضية شخصية لما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقوام بالردة لاستهزائهم بالصحابة، قال تعالى: ﴿قل أبالله وآياته...﴾، فالردة تحصل بالقول والفعل والاعتقاد والشك.

يقول الإمام النووي في التكفير بالمجمع عليه: " قَوْلُهُ: إِنَّ جَاحِدَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ يَكْفُرُ، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلِ الصَّوَابُ فِيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَقِبَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّهُ إِنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ يُعْلَمُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً، كَفَرَ إِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكْفُرْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ."[68]

فليس الأمر أمرا سياسيا، فما لم يعرفه كل المسلمين، فليس من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المحال أن يكون كذلك وليس له مستند شرعي، ولا يدخل في ذلك ما اشتهر بين الناس من الضعيف والموضوع في الدين كالموالد وغيرها.

يقول الإمام الأنصاري في الردة: "هي قطع من يصح طلاقه الإسلام بكفر عزما أو قولا أو فعلا استهزاء أو عنادا أو اعتقادا كنفي الصانع أو نبي أو تكذيبه أو جحد مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة بلا عذر أَوْ تَرَدَّدَ فِي كُفْرٍ أَوْ إلْقَاءِ مُصْحَفٍ بقاذورة أو سجود لمخلوق فتصح ردة سكران كإسلامه ولو ارتد فجن أمهل ويجب تفصيل شهادة بردة ولو ادعى إكْرَاهًا وَقَدْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِلَفْظِ كُفْرٍ أَوْ فعله حلف أو بردته فلا تقبل وَلَوْ قَالَ أَحَدُ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ مَاتَ أَبِي مرتدا فإن بين سبب ردته فنصيبه في وإلا استفصل وتجب استتابة مرتد حالا فإن أصر قتل أو أسلم صح ولو زنديقا وفرعه إن انعقد قبلها".[69]

ويقول الإمام الأنصاري في ضابط الجحود: "أو جحد مجمع عليه " إثباتا أو نفيا بقيدين زدتهما بقولي " معلوم من الدين ضرورة بلا عذر " كركعة من الصلوات الخمس وكصلاة سادسة بخلاف جحد مجمع عليه لا يعرفه إلا الخواص ولو كان فيه نص كاستحقاق بنت الابن السدس مع البنت وبخلاف المعذور كمن قرب عهده بالإسلام"[70]

أما قصة حاطب فتدل على قتل المرتد، وهذا فهم عمر - رضي الله عنهم - حينما قال للنبي: "دعني أضرب عنق هذا المنافق"، أما حاطب فقد قال: "إني كنت امرأ ملصقا في قريش، يقول: كنت حليفا، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام"[71]، ولا شك أن حاطب - رضي الله عنهم - لم يرتكب مكفرا، وإلا لما كانت له مغفرة، ولو ارتكب مكفرة لاستحق القتل الذي أشار له عمر، فالجاسوسية مراتب.

كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم حد الردة نفاقا على بعض من عاشوا حوله من المنافقين درءا للفتنة، وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"[72]

ثاني عشر: تأويله لقتال أبي بكر للمرتدين:
ثم يحاول الهروب من قضية قتال المرتدين، فيقول أن قتال أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة إنما كان بسبب المال والسلطان: "وعلى هذا فأن أبا بكر لم يحارب المرتدين، ولكنه حورب من المرتدين، ورد عليهم ولم تكن القضية قصية إيمان وكفر، ولكن قضية مال وسلطان... فالقبائل المرتدة حاربت لرفض الزكاة وأبو بكر حارب لأخذها، وقد قالها صريحة والله لو منعوني عناقا أو عقال كانوا يدفعونه لرسول الله لحاربتهم عليه"[73]، وهذا الحد كان النصارى يطبقونه على من ارتد، وليست محاكم التفتيش عنا ببعيد، فدين الإسلام ليس مجالا للتجربة، تدخله لتجرب، بل ادرسه قبل أن تعتنقه، لأن الدين هو ما تريد أن يكون مآلك به في الآخرة هو النجاة، فكيف يدخل المرء هذا الدين ليشكك أهله لتقصيره قبل الدخول فيه؟!

ومفسدة بقاء المرتد عن الكافر الأصلي أعظم، لأنه سيطعن في الدين الذي انتقل منه، أما الكافر الأصلي فلا، وعداوته وعدم الأخذ منه معلومة بالاضطرار، وهذا جلي في هذا العصر، أن من كان تأثيرهم الأعظم هم من أحدثوا الفتن في الدين الإسلامي بردتهم.

ويقول أن الصحابة أنكروا ذلك على أبي بكر قوله لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، إلا أنه وهو في موقع رجل الدولة رفضوا الانقياد للدولة المركزية ومنعوا الزكاة، وأحدهما يكفي لحربهم[74].

الرد:
روى الإمام البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال: "لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله). قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"[75]

والحديث يدل على ما يلي:
1- أن الأمر في بدايته يدل على وقوع الردة في العرب
2- أن هذه الردة كانت بتأويل، صَاحَبَهَا عدم انقياد للدولة، بدليل اشكال هذا الأمر عند عمر - رضي الله عنهم -، ثُمَّ آل الأمر باقتناعه برأي أبي بكر - رضي الله عنهم -.
3- الحديث يدل على أنها ليست ردة سياسية، وإنما عدم انقياد لمعلوم من الدين بالضرورة، وهو مسألة الزكاة، وأنه لا فرق بين شرائع الإسلام، من حيث الصلاة والزكاة وغيرها
4- أن رد أبي بكر على عمر يدل على أن الشرائع من لوازم الإيمان، من جحدها كفر.
5- انقياد عمر لرأي أبي بكر - رضي الله عنهم -، واقتناعه بأن رأي أبي بكر هو الحق، وحصول الإجماع من الصحابة على قتالهم.

ثالث عشر: تقريره أن الصحابة تسامحوا مع المخالفين لهم في العقيدة:
1- ثم يقرر أن الصحابة قد تسامحوا مع المخالفين في العقيدة كالقدرية، فقال أن الصحابة لم يكفروا القدرية أو الجبرية، وكانوا يغسلونهم ويدفنوهم في مقابر المسلمين، ولم يكفروا من قال بخلق القرآن، أو من قال بالمنزلة بين المنزلتين، أو أن مرتكب الكبيرة كافر في النار، وأن الله لا يخلق المعصية، ولم يكفروا المرجئة، ولم يكفروا الجهمية، وقال أنه رغم مقولات الجهم والجعد، إلا أنهم حينما ماتوا غسلوهم وكفنوهم ودفنوهم بمقابر المسلمين.[76]

2- ويقول: " كان المجتمع الإسلامي كان يعيش فوضى خلاقة، تسمح لكل صاحب فكر بجانب من الحرية بحيث يمكن أن تظهر القدرية جنبا إلى جنب الجبرية والمرجئة جنبا إلى جنب الخوارج والشيعة جنبا إلى جنب السنة"[77].

الرد:
إن كلام الأستاذ البنا حول التسامح مع المخالفين كلام مجمل فضفاض، نحتاج منه أن نسأل: ما المراد من التسامح معهم، أهو ترك الحكم عليهم بأحكام الإسلام، أم الرضا بما هم عليه، أم غير ذلك؟!

إن التسامح ليس المراد منه اعتناق عقائد الآخرين، أو القبول بها، أو إرغامهم على تركها.

والذي يتقرر: أنه أداء ما أوجبه الشرع لهم من حقوق، فهذا هو التسامح الشرعي، وينبغي مراعاة عدم التقصير في جوانب أخرى.

أما إن كان المراد عذرهم وعدم الإنكار عليهم أو الحكم عليهم بما يستحقون، وإقامة الواجب الشرعي عليهم من قتال أو قتل إن قضى الشرع ذلك فيهم، فهذا غير مقبول، ذلك أن العبرة بالشرع، وليس بالأهواء، والقرآن والسنة ينفيان هذا الموقف الذي يحاول الأستاذ البنا نسبته إلى التسامح، وذلك من عدة أوجه نوجزها فيما يلي:
1- إثبات أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه سبب خيرية هذه الأمة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من النقد والإصلاح الذاتي، وتركهما يؤدي إلى فساد الأمة، فالثمرة الخبيثة تعدي الثمرة الطيبة، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران (110).

2- لعن تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ‏﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ المائدة (78 - 79)، ‏﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ البقرة (159).

3- إثبات القرآن لهجر أهل الأهواء، ومباينتهم وعدم الجلوس معهم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ الفرقان (72، 73)، وقال جل وعلا: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ النساء (140).

4- تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الأهواء والأمر بالحذر منهم، فقد روى الإمام البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنهم - أنها قالت: "تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات﴾، ثم قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم»"[78].

5- أن الصحابة رضوانا لله عليهم قد فهموا أنه لا يجوز التسامح في المخالفات الصريحة لنصوص الوحي، وذلك بخلاف الاجتهاد، حتى لو كان الخلاف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فطالما أن الأمر يمس دين الله، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما يقتضيه المقام، وليس التسامح المزعوم، وإلا ضاع دين الله، فقد روى الإمام البخاري شدة عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام حينما كان يقرأ سورة الفرقان على غير ما فرأها عمر - رضي الله عنهم -،فما كان منه إلا أن أمسك به وأخذه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعرض القراءتين عليه، فأقرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - على القراءتين[79].

6- هجر الصحابة لمخالفي الكتاب والسنة، فقد روى الإمام البخاري من حديث عبد الله بن مغفل: "أنه رأى رجلا يخذف، فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف وقال: «إنه لا يصاد به صيد ولا ينكى به عدو، ولكنها قد تكسر السن، وتفقأ العين» ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف، وأنت تخذف لا أكلمك كذا وكذا"[80].

7- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجر المبتدعة، وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على القدرية فقال: "الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ"[81].

8- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجر المخالفين، فقد روى الإمام البخاري في قصة الثلاثة الذين خلفوا من حديث كعب بن مالك أنه قال: "ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامي، وكلام صاحبي، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا، فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر، وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي ولا يسلم علي"[82]
الخلاصة:

والخلاصة، أنه لا يجوز إطلاق القول أن السلف كانوا يتسامحون مع المخالفين، دون تفصيل لمعنى المخالفة، من كونها داخلة في أمور الاجتهاد المعتبر، أم في أمور الاجتهاد غير المعتبر لعدم تحمل الأدلة لها، والتسامح لا يكون في أمور الدين، لأنه لا يملك أحد أن يتسامح فيه لأنه ليس حكم عليه، بل هوالحكم على الجميع، ومن يفتح هذا الباب فهة يفتح باب تمييع الدين ومسخه ومن ثم هدمه، ولم يكتفوا في هذا التسامح بالفرق المنتسبة للإسلام، بل تعداها للملل والنحل الغير مسلمة من الأديان السماوية والوضعية، فصار المسلمون يتنازلون عن شريعة شريعة من شرائع الإسلام حتى يقبل الغرب ويصفهم بالتسامح، فكل شريعة طعنوا فيها نفاها هؤلاء المنتسبون للإسلام، كقتل المرتد، والحرية الدينية لأهل الأديان الأخرى، وحقوقهم في الرئاسة للدولة المسلمة، فأن يكون التسامح هو التنازل عن شرائع الإسلام أمر مرفوض، وهو مراد من لم يؤصل دينه.

الفصل الثاني

موقفه من أهل السنة والجماعة وعقيدتهم

أولا: موقفه من أحاديث الآحاد والاستدلال بها:
1- ذهب الأستاذ البنا إلى عدم الأخذ بأحاديث الآحاد، وقد ورد ذلك ضمنيا في ثنايا بيانه لما يستدل به والأخذ بالمتواتر والحكم العقلي، يقول أنه رغم أن الفقهاء قرروا أن مرتبة العلم اليقيني والضروري والقطعي هو ما جاءت به نصوص القرآن والمتواتر من الحديث والحكم العقلي، إلا أنهم عادوا فقرروا أن هناك علما بغلبة الظن أو رجحان صدق القضية كما في حديث الآحاد، ولم يمنع المحدثون من قبوله رغم وجود احتمال ضئيل لعدم الثبوت[83].

2- يقول أن الظن المذكور في القرآن يدل على الظن الباطل، واستدل ببعض الآيات منها: "وقد استخدم القرآن طن ومشتقاتها بمعنى يغلب عليه الظن بالباطل"[84]، ثم ذكر مجموعة من الآيات الدالة على ذلك.

الرد على موقفه من قضية أحاديث الآحاد:
أما موقف منكري الاستدلال بأحاديث الآحاد فهو موقف مخالف لنصوص الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة من أوجه:
1- القول بِأَن حديث الآحاد لا يفيد إلا الظن ليس على إطلاقه، بل في أخبار الآحاد ما يفيد اليقين إذا دلت القرائن على صِدْقه، كما إذا تلقته الأمة بالقبول، مثل حديث عمر بين الخطاب - رضي الله عنه -: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" فإنه خبر آحاد، ومع ذلك فإننا نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، وهذا ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وغيرهما.

2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الآحاد بأصول العقيدة - شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - وإرساله حُجَّة مُلْزِمة، كما بعث مُعَاذاً إلى اليمن، واعتبر بَعْثَه حُجَّةً مُلْزِمَةً لأهل اليمن بقبوله.

3- إذا قلنا بأن العقيدة لا تثبت بأخبار الآحاد، أمكن أن يُقال: والأحكام العملية لا تثبت بأخبار الآحاد، لأن الأحكام العملية يصحبها عقيدة أن الله تعالى أمر بهذا أو نهى عن هذا، وإذا قُبل هذا القول تعطَل كثير من أحكام الشريعة، وإذا رُدّ هذا القول فليردّ القول بأن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد إذ لا فرق كما بيّنا.

والحاصل: أن خبر الآحاد إذا دلت القرائن على صِدْقه أفاد العلمَ، وثبت به الأحكام العَملية والعِلمية، ولا دليل على التفريق بينهما، ومَنْ نَسَبَ إلى أحدٍ من الأئمِة التفريقَ بينهما فعليه إثباتُ ذلك بالسند الصحيح عنه. ثم بيان دليله المستَند إليه.

4- أن الله تعالى أمر بالرجوع إلى قول أهل العلم لمن كان جاهلاً فيما هو من أعظم مسائل العقيدة فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْقَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْكُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ النحل (43-44)

5- أن الله تعالى أمر بالتثبت من خبر الفاسق دون العدل الضابط بقوله: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا (الحجرات:6)، فهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد العدل الضابط.

6- استحالة التواتر في كل خبر بنص القرآن في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍمِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَارَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة: 122)، والطائفة تقع علىالواحد فما فوقه فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم والإنذار الإعلام بما يفيد العلم.

7- قوله تعالى: ﴿وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (الإسراء: 36)، أي: لا تتبعه ولا تعمل به ولميزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بهاالصفات فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهمقد قفوا ما ليس لهم به علم.

8- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُمِرَ بالتبليغ، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: "أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت"، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالبلاغ بقوله: "بلغوا عني ولو آية"، ولا شك أن هذا البلاغ لا يكون إلا في صورة آحاد.

فكل ما قيل في حديث الآحاد محض تشغيب، فإنه ما من ممارس للشعائر إلا وقد تيقن من ثبوت الحكم بأحد طرق حصول العلم، لا فرق بين الآحاد أو المتواتر أو المشهور، ولو كان هذا الفرق موجودا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استجاب الصحابة في وسط الصلاة لخبر آحاد، فيغيروا القبلة، فالتمييز بين الاعتقاد والعمل أيضا من الشغب.

ولا يعيب ذلك أنه بعد أن ثبت لديك دليل، ثم اجتهدت فرأيت خلافه، أو رأيته منسوخا أو ضعيفا أن يكون ما كنت فيه يقينا، وإنما علم، لأنك لا تعمل وأنت مذبب في وجهتك ورأيك، فما بالك في دينك.

أما البغدادي فيفرق بين المتواتر والمشهور والآحاد على ثلاثة مراتب[85]: المتواتر: يفيد العلم الاضطراري، المشهور: يفيد العلم المكتسب النظري، الآحاد: يفيد العلم دون العمل.

ويقول الجصاص أن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد له حكم التواتر، لذا فهو يفيد العلم ويجوز تخصيص القرآن به[86]، وقد ذكر في مقام آخر وجوب قبول حديث الآحاد وأنه يفيد العلم وجواز نسخ القرآن به.[87]

فإن كان المراد التقسيم للآخبار، فلماذا لا نكتفي بالآحاد والمشهور والمتواتر، دون القول بأن هذا ظني وهذا قطعي بما يلبس على الناس ويحرف مذاهبهم؟!

ثانيا: أقواله في موقف أهل الحديث من الأسماء والصفات:
1- ثم يقول: "الغريب في الأمر أنهم ينكرون التفويض، أي الذين يقولون نؤمن بالصفات الواردة في النصوص، لكن لا نثبت المعنى الذي يدل عليه لفظ الصفة، وإنما نفوض علم معناه إلى الله تعالى، فقد قالوا هذا مذهب حادث بعد القرون المفضلة والسلف بريئون منه، فقد تواترت الأقوال عن السلف بإثبات معاني الصفات وتفويضهم الكيفية إلى علم الله" [88]

2- ويقول في إنكار الرؤية: " فحملت قبيلة حدثنا العقيدة برؤية الله تعالى في الآخرة، والله تعالى يقول لا تدركه الأبصار، وحملت العقيدة الإيمان بعذاب القبر، وحددت طريقة الميزان ذي الكفتين واللسان"[89]

الرد:
1- أن إنكار السلف للتفويض أمر معقول عقلا وشرعا، إذ أن الله كلمنا بخطاب مفهوم، وبلغة مفهومة، والألفاظ قوالب المعاني، فكيف نفرغ اللفظ من معناه، فهو أمر مرفوض عقلا وشرعا.

2- أن قول السلف أن مذهب التفويض مذهب حادث هو القول الحق، فالصحابة كانوا عربا أقحاحا، وكل خطاب نزل بلغتهم لم يفرغوه من معناه، ولم يسألوا عن ذلك، وتداولت هذه المعاني والصفات بين الصحابة، حتى كانت الإماء في البيوت يعلمون هذه العقيدة كما ورد في حديث الجارية عن مسلم حينما أراد الصحابي أن يعتقها، فكان امتحانها في علو الله على عرشه، فحتى الجارية كانت تحمل الأسماء والصفات على حقيقتها، وإلا لما أقرها النبي على الباطل.

3- أن عقيدة أهل السنة في رؤية الله في الآخرة أمر ثابت بالكتاب والسنة، فحينما أراد موسى عليه السلام النظر إلى رب العالمين، لم يقل الرب أنه لا يُرَى، وإنما علقه بشرط، وهو قادر على تحقيق الشرط في الآخرة، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143]، كما أن الأحاديث في الرؤية كثيرة، منها قول النبي حينما سأله أناس فقالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم «نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ضوء ليس فيها سحاب»، قالوا: لا، قال «وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ضوء ليس فيها سحاب؟»: قالوا: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تضارون في رؤية الله عز وجل يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما"[90].

ثالثا: إنكاره على أهل الحديث مذهبهم في عذاب القبر:
1- يذهب الأستاذ البنا إلى أن أهل الحديث قد وضعوا مئات الأحاديث في عذاب القبر، وكان ذلك سببا في قهر النفوس، ثم يقول: "ومئات الأحاديث عن الغيب هي قطع من الخرافة جعلت عقلية المسلمين عقلية غبية نقلية"[91].

2- ثم يسخر من الأحاديث النبوية الواردة في عذاب القبر فيقول: "وانظر إلى براعة الإخراج، وقد صور للميت شجاعا أقرع يضربه ضربة يسمعها كل الثقلين إلا الإنسان! أو كيف يضغط القبر على شاغله ضغطة يتحول بها جنبه الأيمن إلى الأيسر والأيسر إلى الأيمن..إلخ، هذا أقرب إلى الإخراج الفني من الرواية النبوية"[92]

3- ويقول مستنكرا عليهم إدخالهم مسألة عذاب القبر في العقيدة: "وعدوا من هذا: الإيمان بعذاب القبر، فجاء في الإحياء أن الإيمان بلا إله إلا الله لا يكتمل ما لم تقترن بها شهادة الرسول، وإلزام الخلق تصديقه في جميع ما أخبر عنه من أمور الدنيا والآخرة، وأنه لا يتقبل إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبر عنه بعد الموت، وأوله سؤال منكر ونكير"[93]، وذكر مثله عن شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية أنه قال: "ومن الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وبعذابه ونعيمه"[94]

الرد:
أن عذاب القبر من الأمور الغيبية التي لا تقاس بمنطق ولا ترد بالعقل، بل الواجب فيها تلقيها من النصوص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة، ففي القرآن الكريم أثبت الله تعالى العذاب لآل فرعون قبل يوم القيامة بقوله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، فهو عذاب حاصل قبل قيام الساعة.

وفي السنة، كان النبي يتعوذ من عذاب القبر[95]، وأثبت أن هناك من يعذب في القبور: " مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"[96]

والعقل لا يرفض ذلك، فإذا كان الله جل وعلا قد عذب أقواما في الدنيا، وسيعذب أقواما في الآخرة، فما يمنع أن يعذب أناسا ممن يستحقون العذاب في البرزخ؟!




  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22