الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:44 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 9
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس السابع


في مقام التلقي لواجب بغض الشيطان واتخاذه عدوا


1- كلمات الابتلاء:


وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ(66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ(67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ(68)

2- البيان العام:

ههنا مشاهد رهيبة من أحوال الكفار في موقفهم بين يدي الله يوم القيامة. أحوال فيها من الفزع ما يناقض سكينة المؤمنين في جنات النعيم، بفروق ومباعدت لا تطويها مقاييس الأزمنة والمسافات! وقد كانت لنا في المجلس السابق مع المؤمنين مشاهدات. أما هؤلاء فيقال لهم على سبيل الزجر والانتهار: امتازوا أيها المجرمون! بمعنى تميزوا وانعزلوا! وهو امتياز حصار وإذلال؛ ليقفوا بعيدا بعيدا عن زُمَرِ المؤمنين، مُمَيَّزِينَ مفصولين، مبعدين كما يُبْعَدُ الجمل الأجرب عن الإبل! ويصفهم الرب - جل جلاله - بشر أوصافهم: "المجرمون"!

هذا يوم البطشة الكبرى! حيث يشتد غضب الله على الكفرة! فيوبخهم بهذا السؤال الإنكاري الشديد: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ؟ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ!؟) فذلك عهد الله للإنسان مذ كان في عالم الذر، وهو عهده الذي تواتر به البلاغ عبر كل الرسالات! إفراد الله تعالى بالعبودية، ومعاداة الشيطان بدل اتخاذه إلها من دون الله الواحد القهار! فالله جل جلاله لا يقبل من الدين إلا الخالص، الصافي من الشرك والشركاء، ولذلك قال تعالى بعدُ: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فلا عبادة لله إلا بتوحيد الله ومعاداة إبليس، ولا مهادنة للشيطان إلا بتمرد على الله! ولذلك أمر سبحانه العباد باتخاذ الشيطان عدوا؛ بما هو لهم عدو مبين! كما جاء في سورة فاطر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا!)(فاطر: 6) وجاء الأمر بفعل "اتخذوا"! والاتخاذ في العربية دال على الإرادة الواعية والقصد المصمم. وهذا من أهم مقاصد الدين في هذا السياق، ذلك أن الإنسان قد يغفل عن استحضار حقيقة الشيطان في ذهنه، وهو ماض في أعماله وأشغاله؛ ومن ثَمَّ تكون الغفلة ويضرب الشيطان ضربته! فالشيطان قد أعلن العداوة للإنسان منذ عهد آدم! (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ! ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ!)(الأعراف: 16-17) ولم يزل كذلك ولن يزال حتى تقوم الساعة! ولقد أضل من البشرية الْجِبِلَّ الكثير! بمعنى الجموع الغفيرة! لكن الكفار لا يعتبرون ولا يتعظون؛ لأن الله طبع على قلوبهم بذنوبهم فهم لا يعقلون! ومن هنا كان واجبا على المسلم أن يتخذ الشيطانَ عدوا، يحاربه في كل خطوة وخَطْرَةٍ! ويعقد لذلك عزمه وإرادته!

ثم يزيد الرب جل جلاله الكفار توبيخا وتقريعا، بما كذبوا باليوم الآخر والجنة والنار، فيقول: هذه هي جهنم الآن أمامكم! ويأمرهم بدخولها خاسئين! لِيَصْلَوْا حرها ويذوقوا عذابها، خالدين فيها والعياذ بالله!

ومن أبشع صور الإهانة والإذلال أن الله تعالى يختم على أفواههم، ويُلجمها بالْخَرَسِ، فلا تستطيع نطقا! ويأمر تعالى جوارحهم فتتكلم كاشفة عما اقترفته من آثام، وما بطشته من جرائم!

ثم يبين - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - أن قوته وعظمته أكبر مما يتوهمون! فلو شاء تعالى لعجل لهم عقوبة دنيوية، فختم على أبصارهم وطمس عليها طمسا! كلما سارعوا إلى التعرف على الطريق ضلوا! ثم لو شاء سبحانه لمسخ خلقتهم إلى أسوأ خلقة! كما فعل بكفرة بني إسرائيل من قبل. فيمسخ هؤلاء الكفرة الآن في أماكنهم التي هم واقفون بها، أو بناديهم الذي هم فيه جالسون، يجادلون في الحق ويستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام! ويجعلهم الجبار تعالى على هيئة مُقْعَدَةٍ غير قابلة للمشي، لا إلى أمام ولا إلى وراء!

لكن الدنيا إلى زوال، فأخر الله عذابهم إلى الآخرة. وذلك أشد لو كانوا يعلمون! وفناء الدنيا حقيقة تشهد بها كل الكائنات، بدءا بجسد الإنسان نفسه، لو أنهم يتفكرون! فكلما كبر وطعن في السن ضعفت قواه العقلية والجسمانية، حتى يصير – إن عُمِّرَ - إلى أرذل العمر والعياذ بالله! فمن لاحظ ذلك أيقن بفناء الحياة، ولم يغتر بقوة ولا جاه، ولكن الكافرين لا يعقلون تنبيها ولا إرشادا.





3- الهدى المنهاجي:

وهو في أربع رسالات هي كالتالي:

- الرسالة الأولى:

في أنه ما مِنْ أحد لم يكن عابدا لله إلا وهو عابد للشيطان لا محالة! وإنما قد تختلف مظاهر عبادة الشيطان، وقد تتجلى في صور شتى. فما من كُفْرٍ أو ضلال أو فسق أو فجور إلا وهو عبادة للشيطان. وما من تَرْكٍ لعبادة من العبادات المفروضة - بغير عذر شرعي - إلا وهو عبادة للشيطان! والناس كثيرا ما يَزِلُّونَ في فهم هذه الحقيقة، فربما مدحوا المرء وأثنوا عليه بشتى أنواع المدح والثناء، ثم يقولون: "وإن كان لا يصلي!" فأي جريمة في الدين – بعد الكفر - أدهى من ترك الصلاة؟!

- الرسالة الثانية:

في أن الله عز وجل مسيطر على ملكه، قاهر لخلقه، لا شيء يكون في السماوات والأرض إلا بإذنه! فهو تعالى يملك رقاب الكفرة والطغاة، ويملك أسرار خِلْقَتِهِمْ مما لا يعلمه أحد إلا هو، فهو سبحانه وحده الخالق، فلو شاء لأهلك الظالمين بما شاء وكما شاء ومتى شاء! لكنه تعالى يمهلهم لإتمام مدة الابتلاء التي قدرها لهم في الدنيا. وإنه لا يأمن نقمة الله وغضبه إلا جاهل بالله مبين! والمؤمن التقي يتزود من هذا خشيةً ورهبةً تزيده عند الله تعالى رفعة وأمانا.

- الرسالة الثالثة:

في أن عقاب الله غير محصور في زمان ولا مكان، وأن خطابه - جل جلاله - بهذا الوعيد من الطمس والمسخ، والعياذ بالله، هو خطاب للكفرة والزنادقة في كل عصر ومَصْرٍ، إلى يوم القيامة! ومن الجهل بالله أن يعتقد المرء أن القذف كان عقوبة لقوم لوط ولن يتكرر أبدا، أو أن المسخ كان غضبا على زنادقة بني إسرائيل لن تحدث بعدهم أبدا! كلا! كلا! فعذاب الله معلق على رؤوس الظلمة والطغاة، فمتى أذن سبحانه وقع بهم! ولا قدرة لأحد ولا حَقَّ له في تحديد عقابه جل جلاله كيف يكون! وما حوادث عصرنا هذا عنا ببعيدة! فقد رأينا منها من القذف والخسف والأعاصير عجبا! مما يتجلى فيه غضب الرب تعالى ونقمته، تجليا واضحا لا يَعْمَى عنه إلا غَوِيٌّ مبين! فنعوذ برحمته تعالى من نقمته وغضبه! ولقد أنبأ النبي المعصوم – عليه الصلاة والسلام – من هذا بما ينذر القلوب! قال صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعةِ مَسْخٌ وخَسْفٌ وقَذْفٌ!)([1])

- الرسالة الرابعة:

في أن ملاحظة حركة الزمن في الإنسان وفي الأشياء، توقظ إحساس القلب بتصرم أيام العمر، وتوقفه على مشاهدة تساقطها تباعا، كما تتساقط أوراق الشجرة في آخر الخريف! الورقة تلو الورقة، حتى تَعْرَى أغصانها تماما، فلا غنى لها إلا بالله! فلكل جيل من الناس وقت محدود يقضيه على وجه الأرض، فما هي إلا سنوات حتى يشيخ فيهرم، ثم يلقى تحت غيابات الثرى! فكل جيل ينسخ ما قبله نسخا، ثم ينتظر هو بدوره أبناءَه ليكونوا له ناسخين! فلا بقاء لأحد على وجه الأرض! ألاَ ما أجهل الإنسان بنفسه وقَدْرِه! يتشبث بالوهم ويتترس بالضباب! فلا يزداد إلا عَمًى وجهالة!

فيا نفسي المغرورة! إلى متى وأنت خاملة الخطو؟ تُرْجِئِينَ عزائمَ الأعمال إلى غد ليس لك من ضمانه ولا شعرة! هذه حقائبك خاوية، وهذا جرابك فارغ من أي زاد، وبين يديك سفر طويل أنت لابد كادحة فيه كدحا! فإلى متى تلهوين عن المصير وإلى متى؟ ألا تكفيك سنوات ضاعت منك في تيه الشهوات والظلمات؟ ألاَ بُعْداً لقلب دَقَّ بابَه نذيرُ الزمن ثم لا يَرْعَوِي! ألاَ بُعداً وسحقا! فيا إلهي الرؤوف الرحيم! هذه نفسي الضعيفة تجأر إليك مستغيثة برحمتك! فما لي من شيء أستطيع عرضه بين يديك، سوى فقري وذلي وانكساري بين يديك، أنا عبدك المذنب العاصي عدت إليك تائبا فاغفر لي! فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت!

3-مسلك التخلق:

أما تحقيق عداوة العبد للشيطان وبغضه، هو وجنده من الإنس والجن، وإخلاص المحبة لله رب العالمين توحيدا وتفريدا، فإنما يتحقق بأمرين: أولهما معرفة العدو وطبيعته المجبولة على الشر! فمن لم يعرف عدوه حق المعرفة لم يأمن شره، ولم يستعد لكيده الاستعداد الذي يليق بخبثه، فتكون تلك ثغرة هزيمته! ومعرفة إبليس – نعوذ بالله منه - قد فصلها القرآن الكريم والسنة النبوية، فما على العبد إلا أن يتدبر نصوصهما المتعلقة به؛ ليعرف حجم الكيد الذي يكيده الملعون للإنسان، ويتأمل وجوه الشر التي ينفثها في الصدور، وصور الخراب والظلم والظلمات التي يثيرها في الأرض، وشتى أنواع الفجور التي يمليها على بني آدم إملاء! فكل الدمار الحاصل في الأرض وكل الشر المستطير هو من الشيطان يلقيه على شياطين الإنس فينفذونه تنفيذا!

ومن رأى الشر وقبحه أبغضه، ومن عرف خطره وتهديده الدائم للخير والجمال اتخذه عدوا!

أما الأمر الثاني: فهو التعرف على الله ذي الجلال والإكرام، وعلى فضله العظيم، وما أسبغه على عباده من نعم، ومشاهدة حِلمه الكبير على حماقاتهم، عندما يغفلون وينحرفون، مما يبثه إبليس في نفوسهم. وكذا ما شرعه لهم سبحانه من جمال التوبة، التوبة النصوح التي تمحو الخطايا وتمسح الذنوب! حيث يَمُنُّ سبحانه على عبده المذنب – أنى كانت ذنوبه – بالعفو والغفران! وترى كيف أنه تعالى يمد حبل المحبة إلى عباده، وكيف يتلبس الشيطان بالإنسان ليغريه بقطعه؛ حتى يلتحق بحزبه وجنده، ويكون من المفسدين! فأي شر بعد هذا وأي فساد؟!

فلابد لمن شاهد هذه الحقائق بقلب حي أن يبغض الشيطان، وأن يتخذه عدوا، وأن يحب الله جل ثناؤه وحده؛ فيكون له من العابدين المخلصين. ذلك وإنما الموفق من وفقه الله.

__________________________________________________ ___


[1]رواه ابن ماجه عنابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير. رقم: 2856، وكذا في السلسلة الصحيحة.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22