الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:43 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 8
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس السادس

في مقام التلقي لمشهد فريد من مشاهد البعث،
وأحوال الفريقين من الكفار والمؤمنين



1- كلمات الابتلاء:

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ(53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ(55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ(56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ(57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ(58)


2 - البيان العام:

كانت صيحة العذاب وعيدا من الله الواحد القهار لمردة الكفار، فمنهم من سلطها عليه، ومنهم من أهلكه بما شاء وكما شاء. حتى إذا كانت الصيحة الأخيرة التي يصعق لها من في السماوات والأرض، والتي هي الإعلان الإلهي لنهاية الحياة في كل العالمين، فلم يَبْقَ من حي في الوجود إلا وجهه العظيم جل جلاله؛ كانت بعد ذلك صيحة البعث العظمى! وقد ورد التعبير عنها بفعل ماض مبني للمجهول؛ للدلالة على انحتام وقوعها وعلى شدة قربها، وأن الكفرة بمجرد ما يصعقون في الحياة الدنيا أو يهلكون، لا يكادون يشعرون بزمن إلا وقد فاجأتهم صيحة ثانية! لكنها صيحة أدهى وأمر! إنها باب العذاب الشديد!

ولقد صور القرآن الكريم مشهد البعث تصويرا عجيبا، فبمجرد انطلاق النفخة من الصور - وهو البوق الذي ينفخ فيه الملاك إسرافيل- تنفتق القبور عن أصحابها كما تنفتق الأرض عن النبتة النامية، فتخرج من تحت ظلمات الثرى، وتنشر أوراقها فوق الأرض! فالله جل جلاله يعيد خلق البشرية الهالكة خلقا جديدا، وينبتهم من تربتهم التي دفنوا فيها أنى كانت في البر أو في البحر، فلا يعجزه تعالى أن تكون أجسامهم قد صارت رميما وفنيت في التراب، فهو تعالى عليم بخلقه، قدير على كل شيء، فلكل إنسان يموت بذرة دقيقة، لا يهم في أي تربة وقعت، لكنها إذا نوديت من لدن الرحمن نبتت من جديد إنسانا سويا! (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)
وكل ذلك يقع في أقل من لحظة! ولذلك عبَّر بـ"إذا" الفجائية للدلالة على سرعة الاستجابة للنفخة! فقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ!) هكذا: "ينسلون" أي يمضون بسرعة نحو مكان الحشر، فترى البشرية كلها من آدم إلى آخر من يكون، تتقاطر خارجة من مقابرها في كل مكان على وجه الأرض، ماضية لا تلوي على شيء نحو مكان واحد، حيث الله رب العالمين يفصل بين العباد. هنالك يلتهب الفزع الشديد بقلوب الكفار! فهم إلى عهد قريب يقولون سخريةً بالمؤمنين واستهزاءً: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ؟) فَتَفْجَؤُهُمْ صعقة الموت ثم تفجؤهم صيحة البعث! فلا يملكون في رهبة الموقف إلا أن يدعوا على أنفسهم بالويل والثبور! (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟) فيأتيهم الجواب سريعا من ملائكة الرحمن: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ!) هذا هو الوعد الإلهي الذي جاءتكم به الرسل فكذبتموهم واتخذتموهم سخريا! ها هو ذا تشهدونه بأنفسكم في أنفسكم!

نعم، هذا هو يوم البعث الذي يقع بنفخة واحدة يوقعها الملاك في الصُّور، فتنتفض البشرية كلها في لحظة واحدة، وتحشرها الملائكة حشرا من كل مكان، فلا تشعر إلا وهي جاثية بين يدي ربها فَرَقاً، في مشهد يوم عظيم!ٍ هنالك يقضي الله بين العباد، (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والعدل الإلهي هو العدل! فلا تُظْلم نفس شيئًا بنقص حسناتها أو بزيادة سيئاتها، ولا يُجزى الإنسان إلا بما كان يعمله في الدنيا. فكل شيء مكتوب في صحيفته!

هذه المواقف الرهيبة من أحوال الفزع وترقب المصير المشؤوم، يكون المؤمنون آمنين منها يومئذ، وذلك فضلٌ من الله عظيم. ولذلك اختصر الرحمن مسيرتهم من البعث إلى الحشر؛ إذا لا يجدون في ذلك فزعا ولا عذابا، فيعرض مشهدهم في الجنة مباشرة! مشهد ينبض بهاءً وجمالا؛ لما فيه من نعم الخيرات والسلام! قال تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ!) إنهم مشغولون عن حال أهل العذاب بنعيمهم المقيم، مما يتفكهون به ويتلذذون، جالسون مع زوجاتهم وأهليهم على أرائك الجنة بما لها من بهاء وضياء، يتنفسون أنسام الظلال الممتدة عن الأشجار الوارفة والثمار البهية، ويتخيرون من فاكهة الجنة ما يشتهون، وينالون من كل ما يطلبون ويحبون! مشرفون على مشاهد خارقة الجمال، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، بعيدا بعيدا عن فحيح الجحيم ولهيبها!

ذلك، ولكنَّ تمام النعمة وكمال الرضى، يشرق عليهم بعد ذلك؛ إذ يتجلى لهم ربهم الرحيم فيلقي عليهم السلام! فينعمون آنئذ بالأمان التام والسلام الكامل، بشرى خلود في الجنة أبداً، يتلقونها من ربهم الكريم مباشرة! الله أكبر! أي إحسان هذا وأي عطاء!؟ ذلك مشهد لا تستوعبه العبارات، وتقف اللغة البشرية عاجزة عن بيان حقيقته الرحمانية! فلا إمكان أبدا لتفسير هذه الكلمات القرآنية الجليلة، وإنما جهدنا أن ندعو الله أن يجعلنا من أهل ذلك المقام!


3- الهدى المنهاجي:

وهو يتجلى في أربع رسالات، هي كما يلي:


- الرسالة الأولى:

في أن الأجل غيب لا يعلمه إلا الله، وأن من الجهل بالله أن يغتر الإنسان بقوته وسلامة صحته؛ فيطول به الأمل؛ بما يبطئه عن المسارعة إلى التوبة، والمبادرة إلى العمل الصالح. فاستبطان هذه الحقيقة في القلب، كفيل بتنشيط السير إلى الله والتزام مسالك التقوى، وانكفاف الجوارح عن اقتراف الخطايا، والاقتراب من مواطن السوء. وهي أمان حافظ للداعية من أن تزيغ به الأهواء إلى ابتغاء ما سوى الله والدار الآخرة.


- الرسالة الثانية:

في أن العدل الإلهي الفاصل بين العباد بمحكمة الآخرة، دواء للقلوب الجريحة في الدنيا، وبلسم لها، يزودها بالصبر الجميل، والاحتساب الخالص. وإنما على المؤمن أن يَكِلَ المظالم إلى ذلك اليوم؛ فيرتاح من القلق والأسى. فمهما طغى الظالم في الأرض وتجبر؛ فإنه في يوم قريب سيموت! وسيقف قطعا يوم الجزاء، هو وخصومه من المستضعفين، بين يدي الله الواحد القهار!


- الرسالة الثالثة:

في أن العمل هو رأسمال العبد في الآخرة، وهو باب النجاة من العذاب. وأن الفوز لا يُنال إلا بكد ومجاهدة. فالطريق شاقة، ولا وصول لمن لا زاد له! قال جل جلاله: (وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)(البقرة: 197). وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ خَافَ أدْلَجَ، ومَنْ أدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْـزِلَ، ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ! ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ!)([1])


- الرسالة الرابعة:


في أن التعرف على الجنة ونعيمها واجب شرعي؛ ولذلك تضافرت الآيات في كتاب الله على بيان خيراتها وملذاتها. فمن تعرف عليها زَهِدَ في متاع الحياة الدنيا، ونجا من فتنة الشهوات المهلكات بإذن الله. وعلى المؤمن أن يتدبر معارض نعمها في القرآن؛ حتى تصبح حقيقتها أملا حيا في قلبه، وشوقا يحدوه بقوة إلى الرقي بمعارج الروح.



3-مسلك التخلق:

قضية هذا المجلس في مسلك التخلق هي: العمل! كيف السبيل إلى التزام جادته، ومحبة مكابدته؟ إن الحامل الأكبر على الدخول تحت ربقة العمل، والارتقاء إلى مقامه صفةً لازمةً، خاصة في بداية الطريق، إنما هو الخوف! خوف مقام الله العظيم. كما سبق في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَافَ أدْلَجَ!) والخوف متبوع بالرجاء تلقائيا. لكن الأول هو السائق الحادي. وإنما يتحقق ذلك للمؤمن بمداومة التدبر للآيات المعرفة بالله في القرآن الكريم، والتفكر في أحوال الآخرة، ثم الدخول في خلوات للنظر في النفس وفي الزمن، ومشاهدة تعاقب الليل والنهار وما يصرمانه من العمر الفاني!
فإذا تم ذلك للعبد تعلق قلبه بما ينتج عن الأعمال من أحوال! وارتقى إلى مقام المحبة، فلا يجد راحته الكاملة ولا لذته التامة إلا بالدخول في حرم العبادات والأعمال الصالحات. وإذن لا يخشى على نفسه - بعد ذلك - انقطاعا أبداً إن شاء الله!




[1] رواه الترمذي والحاكم. وصححه الألباني في صحيح الجامع.









  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22