عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:35 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 23
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الوثنيون ونصوص الكتاب المقدس
لقد رأينا حتى الآن كيف أثّرت النزاعات الداخلية حول كنه العقيدة الصحيحة أو إدارة الكنيسة (دور النساء) على النساخ المسيحيين الأوائل، وكذلك كان أيضًا للصراعات بين الكنيسة والكنيس اليهودي التأثير ذاته، فلقد لعبت مشاعر الكراهية لليهود دورا في الكيفية التي نقل هؤلاء النساخ النصوص التي أعلن في النهاية أنها العهد الجديد. لم يكن على المسيحيين في القرون الأولى أن يتجادلوا مع الهراطقة من داخل الكنيسة واليهود من خارجها فحسب، بل وجدوا أنفسهم في معركة مستعرة مع العالم أجمع، العالم الذي كان يتشكل في الغالب من الدخلاء الوثنيين. كلمة وثني في هذا السياق، أي حينما يستخدمها المؤرخون، لا تحمل أي مدلولات سلبيّة. فهي ببساطة تشير إلى أي شخص في العالم القديم يؤمن بأيٍّ من الديانات التعددية الكثيرة في هذا العصر. وبما أنَّ هذا كان يشمل أيَّ شخصٍ من غير المسيحيين أو اليهود، فإننا نتحدث عن قطاعٍ يشكل 90 – 93 في المائة من عدد سكان الإمبراطورية الرومانية. كان الوثنيون أحيانًا يقاومون المسيحيين بسبب شكل عباداتهم غير المعتاد وبسبب قبولهم يسوع باعتباره ابن الله الذي جلب موته على الصليب الخلاص؛ وأحيانا كانت هذه المقاومة تؤثر على النساخ المسيحيين الذين كانوا يعيدون كتابة نصوص الكتاب المقدس.
المقاومة الوثنية للمسيحية
تشير سجلاتنا المبكرة إلى أنَّ حشود الوثنيين وحدها أحيانًا، وهم إلى جانب السلطات في أحيان أخرى كانوا يقاومون المسيحيين بطرقٍ عنيفة (129). بولس الرسول، على سبيل المثال، في عدد من من العذابات التي تعرض لها من أجل المسيح، يحكي أنَه في ثلاث مناسبات «تعرَّض للضرب بالعصيّ» (2كور 11: 25)، الذي هو نوع من العقاب كانت السلطات المحلية الرومانية تستخدمه ضد المجرمين الذين حُكِم عليهم بأنهم خطرين على المجتمع. وكما رأينا، يكتب بولس في رسالته الأولى التي نجت من الضياع أنَّ كنيسة الأمم المسيحية التي تنتمي إليه في تسالونيكا قد «تَأَلَّمْوا هُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِهُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ (أي كنيسة اليهودية) أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ «(1 تسالونيكي 2: 14).
في الموقف الأخير، يبدو أن التعذيب الذي تعرض له لم يكن «رسميا» وإنما كان نتاجًا لنوع من العنف الجماهيري. في الحقيقة، معظم المعارضة الوثنية للمسيحيين أثناء القرنيين الأوليين من عمر الكنيسة حدثت على المستوى الجماهير أكثر من كونها جاءت نتيجة لاضطهاد روماني حكوميٍ منظَّم. فعلى خلاف ما يبدو أنَّ كثيرًا من الناس يعتقدونه، لم يكن ثمة في المسيحية ذاتها أي شيء «غير قانوني» في خلال هذه السنوات المبكرة. فالمسيحية ذاتها لم تكن محظورة، ولم يكن المسيحيون غالبا في حاجة إلى التخفِّي. وفكرة أنهم كان لزامًا عليهم أن يختفوا في المقابر الرومانية لتجنب الاضطهادات، وأن يحيِّي بعضهم البعض بإشارات سرية مثل رمز السمكة، ليست إلا مجموعة من الأساطير. لم يكن ثمة أيُّ خرقٍ للقانون في الإيمان بيسوع أو في عبادة إله اليهود، أو في تأليه يسوع، ولم يكن ثمة شيء غير شرعيٍّ (في معظم الأماكن) في إقامة الاجتماعات للصلاة أو الاجتماعات الأخوية، أو في إقناع الآخرين بأن يؤمنوا بأنَّ المسيح هو ابن الله.
وعلى الرغم من ذلك كان المسيحيون أحيانا يتعرضون للاضطهاد. فلماذا حدث ذلك؟
لمعرفة السبب وراء ما تعرض له المسيحيون من اضطهاد، من المهم أن نعرف شيئا عن الديانات الوثنية في داخل الإمبراطورية الرومانية. هذه الديانات جميعا ـ وكان تعدُّ بالمئات ـ كانت تؤمن بتعدد الآلهة، وتتوجه بالعبادة إلى آلهة كثيرة؛ وكلها كان يؤكِّد على ضرورة عبادة هذه الآلهة عبر أفعال الصلاة والقرابين. في أغلب الأحيان، لم تكن هذه الآلهة تُعْبد لكي تضمن لعبَّادها السعادة في الحياة الآخرة؛ لقد كان الناس، في العادة، أكثر قلقا بخصوص الحياة الدنيا التي كانت بالنسبة للغالبية العظمى من الناس قاسية ومحفوفة بالمخاطر في أفضل الأحوال. لقد كانت الآلهة توفِّر للبشر ما كان يستحيل عليهم أن يوفروه لأنفسهم ـ فالمحصول توفر له النماء، والماشية توفر لها الغذاء وما يكفي من الأمطار وتوفر كذلك الصحة الشخصية والحياة الرغدة والقدرة على الإنجاب، وتحقيق النصر في الحرب والرخاء في السلم. كانت الآلهة تحمي الدولة وترفع من شأنها؛ وكان بمقدور الآلهة أن تتدخل لكي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش ولتجعل العمر مديدا وسعيدا. وهي تفعل كل ذلك في مقابل حركات بسيطة تمثل نوعًا من العبادة ـ عبادة على مستوى الدولة أثناء الأعياد القومية تمجيدا للآلهة، وعبادة على مستوى الجماهير في المجتمعات والعائلات.
وعندما تسوء الأمور بظهور نذر الحروب أو الجفاف، أو المجاعات، أو الأمراض، فإن هذا ربما يكون علامة على سخط الآلهة على الطريقة التي يكرمونها بها. في مثل هذه الأوقات، من كان يقع عليه اللوم بسبب الفشل في تمجيد الآلهة؟ بالتأكيد هؤلاء الذين رفضوا أن يخضعوا لها بالعبادة. إنهم المسيحيون.
واليهود بطبيعة الحال كانوا هم أيضا لا يعبدون آلهة الوثنيين، لكنهم كانوا ينظر إليهم على نطاق واسع باعتبارهم مستثنين من عبادة آلهة الوثنيين التي كانت أمرا ملزمًا لجميع البشر، حيث كان اليهود شعبًا مميزا بتقاليده الآبائية التي كانوا يتبعونها بإخلاص(130). وعندما ظهر المسيحيون على مسرح التاريخ لم يُعْتَرَفْ بهم باعتبارهم شعبًا منفصلا مميزا عن غيره، فلقد كانوا إما مرتدين عن اليهودية أو ضمن النطاق الواسع من الديانات الوثنية التي كانت لا توجد بين أفرادها أي روابط دم أو من أي رابط آخر فيما عدا مجموعة الاعتقادات والممارسات الدينية الخاصة بهم. بالإضافة إلى ذلك، كان معروفًا عن المسيحيين أنهم غير اجتماعيين، فهم يجتمعون معًا في كنائسهم، ويهجرون عائلاتهم وأصدقائهم القدامى، ولا يشاركون في أعياد العبادة التي يحتفل بها عامة الشعب.
كان المسيحيون، من ثمَّ، عرضة للاضطهاد لأنهم كان ينظر إليهم يمثلون ضررًا لحياة المجتمع الصحية، لسببين أولهما أنهم يترفعون عن عبادة الآلهة التي تحمي المجتمع وثانيًا لأنهم يعيشون معًا بطرق بدت غير اجتماعية. وحينما تنزل بالناس الكوارث، أو حينما يخشى الناس أن تنزل بهم الكوارث، فمن يا ترى غير المسيحيين سيحمِّلونه إثم ما يقع؟
أما حكام الولايات المتعددة من الرومانيين، ناهيك عن الإمبراطور نفسه، فنادرًا ما يتدخلون في مثل هذه الشئون المحليّة. وعندما فعلوا، تعاملوا ببساطة مع المسيحيين كشريحة اجتماعية خطرة لابد من سحقها. كان المسيحيون في العادة يمنحون الفرصة لتخليص أنفسهم من خلال عبادة الآلهة بالطرق المطلوبة منهم (من خلال تقديم البخور إلى أحد الآلهة، على سبيل المثال)؛ فإذا رفضوا، كان ينظر إليهم باعتبارهم مثيري قلاقل ومتمردين وكانوا يعاملون على هذا الأساس.
باقتراب منتصف القرن الثاني الميلادي، بدأ المسيحيون يلفتون انتباه المفكرين الوثنيين الذين هاجموهم في مقالات كتبت خصيصًا للرد عليهم. هذه الأعمال لم ترسم صورة سلبية المسيحيين أنفسهم فحسب، وإنما أيضًا هاجمت المعتقدات المسيحية باعتبارها معتقدات مثيرة للسخرية (فهم على سبيل المثال يدعون عبادة إله اليهود في حين يرفضون الالتزام بالشريعة اليهودية!) وبدأوا في الغمز واللمز بالممارسات المسيحية باعتبارها ممارسات شائنة. بخصوص النقطة الأخيرة تلك، كان يلاحظ أحيانا أنَّ المسيحيين يجتمعون تحت حجب الظلام، وينادي أحدهم الآخر بالـ «أخ» و«الأخت» ويحيِّي أحدهم الآخر بتبادل القبلات؛ وكان يقال عنهم إنهم يعبدون إلههم من خلال أكلهم جسد ابنه وشربهم دمه. ماذا كان على المرء أن يفعل حيال مثل هذه الممارسات؟ لو أنَّه بإمكانك أن تتصور الاحتمال الأسوأ، فلن تكون قد أبعدت النجعة. خصوم المسيحيين من الوثنيين ادعوا أنَّ المسيحيين مارسوا زنا المحارم (أي علاقات جنسية بين الأخوة وأخواتهن)، ومارسوا قتل الأطفال (من الأبناء)، وأكل لحوم البشر (أكل الجسد وشرب دمه) في شكل طقوسيٍّ تعبُّدي. هذه الاتهامات ربما تبدو غير قابلة للتصديق في أيامنا هذه، لكنها في مجتمع كان يحترم الحشمة والصراحة، كانت مقبولة على نطاق واسع. لقد كان المسيحيون ينظر إليهم على أنهم صنف شرير.
في ميدان الهجمات الفكرية على المسيحيين، كان ثمّة اهتمام ملحوظ بيسوع(131). كمؤسس لهذا الإيمان الجديد سئ السمعة مجتمعيًّا. حيث أشار الكتاب الوثنيون إلى أصله الوضيع وانتمائه إلى الطبقة الدنيا تقريعًا للمسيحيين وسخرية بهم من أجل اعتقادهم بأنه كان مستحقا للعبادة ككائن إلهي. كان يقال إنَّ المسيحيين يعبدون مجرمًا مصلوبًا، ثم بغباء يؤكدون أنه كان بطريقة ما كائنا إلهيا.
بعض هؤلاء الكتَّاب، بدءًا من قرابة نهاية القرن الثاني، قرأ بالفعل كتابات الأدب المسيحيّ لكي يفهمهم على نحوٍ أفضل. فكما قال سيلزس الناقد الوثني ذات يوم، بخصوص أساس هجومه على المعتقدات المسيحية:
هذه الاعتراضات تأتي من داخل كتاباتكم، ولسنا في حاجة إلى شهود أخرين: فأنتم بأنفسكم تمنحوننا ما به نبطل إيمانكم (ضد سيلزس 2، 74)
هذه الكتابات كانت أحيانا شديدة التهكم والسخرية، مثل ما نجده في كلمات الوثني «بورفراي»: لقد كان كتبة الأناجيل كتَّابٌ مزيفون ـ لم يكونوا معاينين ولا شهود عيان لحياة يسوع. فكلُّ واحدٍ من المؤلفين الأربعة يناقض الآخر في روايته لأحداث معاناة يسوع وصلبه (ضد المسيحيين 2، 12-15)(132).
ردا على هذا النوع من الهجمات، وادعاءات الوثني سيلزس، حرَّف النُسَّاخ المسيحيون نصوصهم لكي يتخلصوا من المشكلات التي ينتبه إليها المتمرسون من الخصوم الخارجيين:
«بعض المؤمنين يتصرفون كما لو كانوا في مجلس لاحتساء الشراب، يذهبون بعيدا إلى درجة التناقض مع أنفسهم، فيغيرون النص الأصلي للإنجيل ثلاث مرات أو أربع أو عدد أكبر من ذلك من المرات، ويغيرون أسلوبه بما يمكّنهم من إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم «(ضد سيلزس 2. 27)
كما هو واضح، لسنا بحاجة للاستشهاد بخصوم المسيحية من الوثنيين لكي نجد دليلا على أن النساخ كانوا أحيانا يغيرون النصوص على ضوء المعارضة الوثنية للإيمان. فهناك مواضع داخل مخطوطات العهد الجديد المحفوظة إلى الآن تظهر هذا النوع من ميل النساخ إلى عمل ذلك(133).
قبل أن نبدأ في التعرض لبعض الفقرات المتعلقة بهذا الأمر، ينبغي أن أشير إلى أنَّ تلك الاتهامات الوثنية الموجهة للديانة المسيحية ومؤسسها لم تمر بلا رد من الجانب المسيحي. على العكس، فمع بداية تحول أصحاب الفكر للإيمان بالمسيحية، بداية من منتصف القرن الثاني الميلادي، بدأ عددٌ كبيرٌ من الدفاعات المنطقية، التي عرفت تحت اسم الدفاعيات، في الظهور من خلال أقلام المسيحيين. بعض هؤلاء الكتاب المسيحيين معروفون جيدًا لدارسي المسيحية الأولى، مثل جستينوس الشهيد، وترتليانوس، وأوريجانوس؛ والبعض الآخر أقل شهرة ولكنهم ليسوا أقل تميزا في دفاعهم عن العقيدة. من هؤلاء «أثيناجوراس، وأريستيدس، والمؤلف المجهول الذي كتب الخطاب الموجه إلى «ديوجنتس» (134). عمل هؤلاء العلماء كمجموعة على إظهار الضلال في حجج خصومهم الوثنيين، دافعين بأنه على خلاف الزعم القائل بخطورة المسيحية على المجتمع، فإنها هي الصمغ الذي يبقي المجتمع متماسكًا؛ مصرِّين ليس فقط على أن الديانة المسيحية هي ديانة عقلانية، بل أيضًا على أنها الديانة الحقة الوحيدة التي شهدها العالم؛ زاعمين أنَّ المسيح كان بالفعل الابن الحقيقي لله، الذي جلب موته الخلاص؛ مجتهدين في الدفاع عن طبيعة الكتابات المسيحية الأولى على أنها حقيقية وموحى بها.
كيف أثَّرت هذه الحركة الدفاعية(عن الإيمان) خلال العصور الأولى للمسيحية على نسّاخ القرنين الثاني والثالث الذين كانوا ينسخون نصوص العقيدة؟
التحريفات التي تعرض لها النص لأسباب دفاعيّة
رغم أنني لم أذكر ذلك في حينه، إلا أننا رأينا بالفعل نصًّا يبدو أنه قد تعرض للتعديل على أيدي النسّاخ لأسباب دفاعيّة. فكما رأينا في الفصل الخامس، كان العدد 1: 41 من إنجيل مرقس يشير في الأصل إلى أنه عندما اقترب مجزومٌ من يسوع طلبا للشفاء، غضب يسوع ومد يده ليلمسه، وقال «فلتطهر». وجد النسَّاخ صعوبة في نسبة شعور الغضب ليسوع في هذا السياق، فعدَّلوا النص ليقول، بدلا من ذلك، إن يسوع تحنن على الرجل.
من الممكن أن يكون ما دفع النسّاخ لتغيير النص شيء أكثر من مجرد رغبة بسيطة في تسهيل فهم مقطع صعب. أحد نقاط الخلاف الدائمة بين منتقدي المسيحية من الوثنيين وبين مفكريها المدافعين عنها تتعلق بسلوك المسيح، وما إذا كان قد تصرف على نحوٍ يليق بشخص ادَّعى أنه ابن الله. يجب أن أؤكد أنَّ ذلك لم يكن خلافًا حول إمكانية تصور أنَّ كائنًا بشريًّا يمكن أيضًا أن تكون له طبيعة إلهية بشكل ما. فتلك نقطة كانت محل اتفاق بين الوثنيين والمسيحيين بشكل تام، حيث يعرف الوثنيون أيضًا قصصًا تحول فيها كائنٌّ إلهيٌّ إلى بشريِّ وتعامل مع الآخرين هنا على الأرض. القضية كانت هل تصرف يسوع بهذا الشكل الذي يبرر الاعتقاد بأنَّه واحد من هذا النوع، أم، على العكس من ذلك، كان لمواقفه وتصرفاته دورًا في استبعاد إمكانية أن يكون بالفعل ابنا لله (135).
في تلك الفترة كان الاعتقاد السائد بين الوثنيين هو أن الآلهة لا تعتريها المشاعر التافهة والنزوات التي تعتري الإنسان الفاني، وأنهم في الحقيقة أسمى من تلك الأشياء(136). كيف يمكن للمرء، إذن، أن يحدد ما إذا كان شخصٌ ما له طبيعة إلهية أم لا؟ من البديهي أن هذا الشخص سيكون عليه إظهار قدرات (مادية أو فكرية) فوق طاقة البشر؛ ولكنه يحتاج أيضًا لأن يتصرف بشكل يتواءم مع الزعم بأنه قد نشأ في العالم الإلهي.
لدينا عددٌ من الكُتَّاب من تلك الفترة يصرون على أن الآلهة لا «تغضب» لأن الغضب عاطفة إنسانية تنشأ عن الإحباط من الآخرين أو عن الإحساس بالخطأ، أو عن سبب وضيع آخر. يستطيع المسيحيون بالطبع أن يدفعوا بأن الإله قد غضب على خلقه بسبب سوء تصرفهم. إلا أن الإله المسيحي هو الآخر منزه عن أي سلوك ينم عن سرعة الغضب. ففي تلك القصة عن يسوع والمجذوم لا يوجد سبب بيِّن لأن يغضب يسوع. فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ النص تم تعديله خلال الفترة التي كان الوثنيون والمسيحيون يتجادلون فيها حول ما إذا كان يسوع قد حرص على التصرف بطريقة تتسق مع طبيعته الإلهية، فمن المحتمل بقوة أن يكون أحد النساخ قد غيَّر النص على ضوء ذلك الخلاف. هذا، بعبارة أخرى، من الممكن أن يكون قراءة متباينة وقعت لأسباب دفاعية.
تحريفٌ آخر مشابه يأتي بعد ذلك بعدة إصحاحات في إنجيل مرقس، ففي حادثة مشهورة يتعجب فيها سكان المدينة التي يعيش فيها يسوع أنفسهم من قدرته على التفوُّه بتلك التعاليم العجيبة، والقيام بتلك المعجزات. أو كما يعبرون عن دهشتهم, «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأَخَا يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هَهُنَا عِنْدَنَا؟ (مرقس 6: 3). كيف يمكن، يتساءلون هم، لشخص تربى كواحد منهم وأسرته معروفة لديهم، أن يكون قادرًا على القيام بمثل هذه الأشياء؟
هذه هي الفقرة الأولى والوحيدة في العهد الجديد التي يطلق فيها على يسوع أنه نجار. اللفظة المستخدمة (tekton) تنطبق في النصوص اليونانية الأخرى بصورة نمطية على أيِّ شخصٍ يعمل بيديه؛ أمَّا في الكتابات المسيحية المتأخرة، على سبيل المثال، يقال عن يسوع إنه صنع «محاريث وبوابات»(137). فلا ينبغي أن نفكر فيه على أنه كان شخصا يصنع أثاثًا فاخرًا. يحتمل أن تكون الطريقة الفضلى لكي «نشعر» بما تعنيه تلك الكلمة هو أن نشبهها بشيء لدينا خبرة كبيرة به؛ فالأمر أشبه بأن نقول على يسوع أنه عامل بناء. فكيف يمكن لشخص هذه خلفيته أن يكون ابنا لله؟
لقد كان هذا سؤالًا يأخذه خصوم المسيحية من الوثنيين مأخذ الجد؛ فهم، في الحقيقة، فهموا المسألة على نحوٍ منطقيٍّ: يسوع لا يمكن أن يكون ابنا لله إن كان مجرد نجار. الناقد الوثني «سيلزس» سخر من المسيحيين من أجل هذه النقطة تحديدًا، حيث ربط بين الزعم بأن المسيح كان «نجارًا» وبين كونه قد صلب (على وتد من الخشب) وبين الإيمان المسيحي بـ «شجرة» الحياة.
وكلما تحدثوا في كتاباتهم عن شجرة الحياة.. أتخيل أن سبب ذلك هو أن سيدهم قد تم تثبيته على الصليب بالمسامير، وأنه كان يعمل نجارًا. فلو تصادف أنه ألقي به من على منحدر أو إلى حفرة أو تعرض للشنق، أو لو كان إسكافيًا أو بناءًا أو حدادًا، لكان ثمة منحدر للحياة فوق السماوات، أو حفرة للقيامة، أو حبل للخلود، أو حجر مبارك، أو حديد للمحبة، أو جِلد مقدس. لو كان ثمة امرأة عجوز تغني حكاية قبل النوم لطفلها، أما كانت لتخجل من الهمس بمثل هذه القصص؟ (ضد سيلزس 6، 34).
أوريجانوس، الخصم المسيحي لسيلزس، كان ينبغي عليه أن يأخذ تلك التهمة - أن يسوع كان مجرد «نجار» – على محمل الجدِّ، لكنَّ العجيب أنه لم يتعامل معها من خلال بيان خطئها (وهو الإجراء المعتاد منه)، بل أنكرها تمامًا:
«عجز سيلزس عن إدراك أنه لا يوجد في أي من الأناجيل الموجودة في الكنائس الآن وصف ليسوع نفسه على أنه نجار». (ضد سيلزس 6، 36).
ماذا يمكننا أن نستنتج من هذا الإنكار؟ إما أن أوريجانوس نسي كل ما يتعلق بالعدد مرقس 6: 3 أو أنه كانت لديه نسخة من النص لا تشير إلى يسوع باعتباره نجارًا. وكما سيتضح، يوجد لدينا مخطوطات تحتوي على هذا القراءة البديلة تحديدًا. ففي أقدم مخطوطاتنا لإنجيل مرقس، المسماة p45، والتي يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الثالث (أي العصر الذي عاش فيه أوريجانوس)، وفي شواهد لاحقة كثيرة، نجد أنَّ هذا النص له قراءة مختلفة. ففيه يسأل مواطنو البلد الذي يعيش فيه يسوع: «أليس هذا هو ابن النجار»؟ الآن، بدلًا من كون يسوع نفسه نجارًا، فإنه ابن النجار فحسب(138).
ومثلما كما كان لدى أوريجانوس أسبابًا دفاعية دفعته إلى إنكار أن يكون يسوع قد وصف بأنه نجار في أيِّ موضعٍ من الكتاب المقدس، فمن المحتمل أن يكون أحد النسّاخ قد عدَّل النص -جاعلًا إياه أكثر اتفاقًا مع النص الموازي له في متى 13: 55 - بهدف إبطال تهمة الوثني القائلة إن يسوع لا يمكن أن يكون ابنا لله لأنه كان، أولا وأخيرًا، مجرد حرفي (tekton) من الطبقة الدنيا.
فقرة أخرى تناقش صلب يسوع يبدو أنها قد تعرضت للتغيير لأسباب دفاعيّة هي لوقا 23: 32. الترجمة الإنجليزية للفقرة في النسخة القياسية المنقحة الجديدة من العهد الجديد تـُقرأ كالتالي: «شخصان آخران أيضًا، وقد كانا مجرمَين، تم اقتيادهما ليعدما معه» ولكن الطريقة التي صيغت بها الفقرة في اليونانية يمكن ترجمتها أيضا كالتالي: «شخصان آخران، كانا مجرمين أيضا، تم اقتيادهما ليعدما معه». وإذا أخذنا الالتباس الموجود في النص اليوناني في الاعتبار، فليس من المفاجئ أن يكون بعض النساخ قد وجدوا أنه من الضروري، لأسباب دفاعيّة، إعادة ترتيب الكلمات لتقرر بدون التباس أن الآخرّيْن فحسب، وليس يسوع أيضًا، هما المجرمان.
توجد تغييرات أخرى في التقليد المكتوب يبدو أنَّ الدافع إلى وقوعها هو الرغبة في إظهار أنَّ يسوع، باعتباره ابنا حقيقيًّا لله، لا يمكن أن يكون مخطئًا في أيٍّ من أقواله، خاصة ما كان منها متعلقًا بالمستقبل (حيث إن ابن الله، أولًا وأخيرًا، ينبغي له أن يعرف ما هو مزمع أن يحدث). ربما كان ذلك هو ما أدَّى إلى وقوع التغيير الذي تعرضنا له بالفعل في متَّى 24: 36، حيث يقرر يسوع صراحةً أنه لا أحد يعرف اليوم ولا الساعة التي تأتي فيها النهاية، «ولا حتى ملائكة السماء، ولا الابن، إلا الأب». عدد لا بأس به من مخطوطاتنا يقوم بإسقاط «ولا حتى الابن». وليس من الصعب تخمين السبب؛ فإن كان يسوع لا يعرف الغيب، فإنَّ الزعم المسيحي بألوهيَّته يتعرض إلى قدر لا يستهان به من التشكيك.
مثال آخر أقل وضوحًا نجده بعد ذلك بثلاثة فصول في مشهد الصلب عند متى. يقال لنا في متَّى 27: 34 إنَّ يسوع عندما كان معلقا على الصليب، أُعْطِيَ نبيذًا ممزوجا بالمُر ليشربه. إلا أنَّ عددًا كبيرًا من المخطوطات يشير، مع ذلك، إلى أنه أعطي خَلا لا نبيذًا. من الممكن أن يكون التغيير قد أدخل بهدف جعل النص متفقا على نحوٍ أفضل مع العبارة الموجودة في العهد القديم والتي تم اقتباسها لشرح الحدث. لكنَّ المرء بإمكانه أن يتساءل ما إذا كان شيء آخر قد مثَّل حافزًا للنسَّاخ أيضا. من الطريف أن نلاحظ أنَّه في العشاء الأخير، في متى 26: 29، بعد أن يوزع يسوع كأس الخمر على أتباعه، يقرر بوضوح أنه لن يشرب النبيذ مرة أخرى إلا حينما يشربها في مملكة أبيه. فهل كان المقصود من التغيير في 27: 34 من النبيذ إلى الخل هو حماية تلك النبوءة، بحيث تكون الحقيقة الثابتة أنه لم يذق النبيذ بعد أن ادعى أنه لن يفعل؟
أو ربما نلقي الضوء على التحريف الذي وقع لنبوءة يسوع أمام كبير الكهنة اليهودي أثناء محاكمته في مرقس 14: 62. عندما سُئِل عما إذا كان هو المسيح، ابن المبارك، أجاب يسوع: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ» والتي يرى العلماء المعاصرون على نطاق واسع أنها تعتبر تجسيدا، أو تكاد، لقول نسبته ليسوع صحيحة، هذه الكلمات شكلت مصدرًا لعدم الارتياح لدى الكثيرين من المسيحيين منذ وقت قريب من نهاية القرن الأول. لأن ابن الإنسان لم يأت أبدًا على سحب السماء. فلماذا إذن تنبأ يسوع أنَّ كبير الكهنة نفسه سيراه قادمًا؟ الجواب التاريخي ربما كان أن يسوع بالفعل ظن أن كبير الكهنة سيراه، أي أنَّ ذلك سيحدث في أثناء حياته. إلا أنَّه من الواضح، وذلك من سياق الكتابات الدفاعية من القرن الثاني، أن هذا الأمر كان من الممكن أن يؤخذ على أنه نبوءة كاذبة. ليس عجيبًا إذن أنَّ أقدم شاهد لدينا لإنجيل مرقس يتم فيه تعديل هذه الفقرة من خلال التخلص من الكلمات المزعجة، لكي يصير قول يسوع الآن إنَّ كبير الكهنة سوف يرى ابن الإنسان جالسًا على يمين القوة مع سحب السماء. وهكذا لم يبق أي ذكر للظهور الوشيك للشخص الذي، في واقع الأمر، لم يأت أبدًا.
في المجمل، يبدو أنَّ عددًا من فقرات المخطوطات المحفوظة لدينا تجسد المشكلات الدفاعية التي واجهها المسيحيون الأوائل، خاصة تلك التي تتعلق بيسوع نفسه مؤسس الإيمان. وكما هو الحال مع النزاعات اللاهوتية التي وقعت في الكنيسة الأولى، ومسألة دور المرأة، والنزاعات مع اليهود، فكذلك كان الحال فيما يخص النزاعات التي اشتعلت بين المسيحيين وبين شانئيهم من الوثنيين المثقفين: كل تلك الخلافات كان لها تأثير في النصوص التي كان مقدرًا لها أن تكون في النهاية جزءًا من الكتاب الذي نسميه الآن العهد الجديد وذلك لأنَّ هذا الكتاب – أو بالأحرى مجموعة الكتب تلك – تمَّ نسخه اعتمادًا على مجموعة من النسّاخ غير المحترفين في القرنين الثاني والثالث، وبين الفينة والفينة تعرض، في ضوء الظروف المحيطة بهم في هذا العصر، للتحريف.


نهاية الفصل السابع ويليه هوامش الفصل بإذن الله

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22