عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:35 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 22
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


اليهود ونصوص الكتاب المقدس
إلى هنا نكون قد تعرضنا بالدراسة للعديد من النزاعات الدينية التي نبعت من الداخل المسيحي في وقت مبكر من عمر الكنيسة – مثل النزاعات التي دارت حول قضايا ذات علاقة بطبيعة المسيح وعن دور النساء في الكنيسة – ورأينا كيف كان تأثير هذه النزاعات على النسَّاخ الذي أعادوا نسخ نصوصهم المقدسة.
مع ذلك، لم تكن هذه النزاعات هي النوع الوحيد الذي انخرط فيه المسيحيون. فكما كانت هذه النزاعات شاقة بالنسبة لمن أداروا رحاها، وذات أهمية بالنسبة لنقاشاتنا في هذا الكتاب، كذلك كانت الصراعات التي اندلعت مع هؤلاء الخارجين عن الإيمان، من يهودٍ ووثنيين، الذين وقفوا موقف المعارضة للمسيحيين واشتبكوا معهم في نزاعات جدليَّة. اضطلعت هذه النزاعات أيضًا بدورٍ ما في عملية نسخ نصوص الكتاب المقدس. يمكننا البدء بالتعرض للنزاعات التي كان مسيحيو القرون الأولى قد انخرطوا فيها مع اليهود غير المسيحيين.
اليهود والمسيحيون في حالة صراع
إحدى الأمور التي تبعث على السخرية فيما يتعلق بالمسيحية في عصورها المبكرة هي أنَّ يسوع نفسه كان يهوديًّا، عَبَدَ إله اليهود وحافظ على العادات اليهودية وفسَّر الشريعة اليهودية، وكان له تلاميذ من اليهود الذين اتبعوه على اعتبار أنه المسيح اليهوديَّ. على الرغم من ذلك، وفي غضون عشرات قليلة من السنوات فحسب بعد موته، كان أتباع يسوع قد كوَّنوا ديانة وقفت من اليهودية موقف النقيض. فكيف انتقلت المسيحية بهذه السرعة من كونها طائفة يهودية إلى ديانة معادية لليهود؟
إنه سؤال صعب، والإجابة عليه بصورة مرضية تستلزم أن نفرد له كتابًا كاملا (123). أما هنا، فبإمكاني على الأقل أن أكتفي بإعطاء وصفٍ تاريخي موجز لظهور معاداة اليهودية في المسيحية الأولى كوسيلة لإعطاء وصف معقول للمحيط الذي عاش فيه النسَّاخ المسيحيون الذين في بعض الأحيان قاموا بتحريف نصوص كتابهم المقدس على نحوٍ معادٍ لليهودية.
شهدت العشرون عامًا الأخيرة زيادة كبيرة ومفاجأة في مجال البحث عن يسوع التاريخي. نتج عن ذلك أنَّه قد توفَّر الآن عددٌ هائلٌ من الآراء التي تبحث في الكيفية المثلى لفهم حقيقة المسيح- هل كان معلمًا يهوديًّا، أم كان مصلحًا اجتماعيًّا؟ هل كان متمردًا سياسيًّا أم فيلسوفًا ساخرًا أم نبيًّا رؤَوِيًّا: تتزايد الخيارات إلى مالا نهاية. الشئ الوحيد الذي يتفق عليه كل العلماء تقريبًا، على الرغم من كل هذه الاختلافات، هو أنه بغض النظر عن الكيفية التي يمكن للمرء أن يفهم بها الدافع وراء رسالة يسوع، فإنه لابد أن يوضع في سياقه الحقيقي باعتباره يهوديًّا فلسطينيًّا عاش في القرن الأول الميلاديّ. أيًّا ما تكن السمات الأخرى التي كان عليها يسوع، فإنه كان يهوديًّا بكل ما في الكلمة من معنى، لقد كان يهوديًّا من كل الوجوه – كما هو الحال بالنسبة لتلاميذه أيضًا. في بعض اللحظات – قبل موته على الأرجح، وبعده على وجه اليقين - أصبح أتباع يسوع ينظرون إليه باعتباره المسيح اليهوديَّ. ورغم أن اليهود الآخرون كانوا يفهمون مصطلح المسيح بطرق مغايرة خلال القرن الأول، إلا أنَّ شيئا واحدًا بدى أنه كان محط إجماع كل اليهود عندما يفكرون في المسيح، وذلك أنه يجب أن يكون شخصية عظيمة وصاحبة سلطان وذلك حتى يقهر، بطريقة ما - ربما على سبيل المثال من خلال تكوين جيش يهوديٍّ أو إنزال ملائكة السماء - أعداء إسرائيل وليقيم دولة إسرائيل ذات السيادة التي يحكمها الله نفسه (ربما من خلال وسيط بشريّ). المسيحيون الذين أطلقوا على المسيح لقب المسيح من الواضح أنهم مرُّوا بأوقات عصيبة لكي يقنعوا الآخرين بزعمهم هذا، لأن يسوع، بدلا من أن يكون محاربًا عظيمًا أو حاكم بأمر السماء، كان معروفًا على نطاق واسع باعتباره واعظًا متجوِّلا هاجم الجانب السئ من الشريعة وصُلِب كمجرم أثيم.
إطلاق اسم المسيح على يسوع كان بالنسبة لغالبية اليهود أمرًا يجلب لقائله السخرية. لم يكن يسوع قائدًا لليهود مهاب الجانب. بل كان ضعيفًا وعاجزًا – فقد أعدم بأكثر طرق القتل إذلالا وإيلامًا من بين الطرق التي ابتكرها الرومان الذين هم أصحاب السلطة الحقيقية. رغم ذلك، أصرَّ المسيحيون على أنَّ يسوع هو المسيح وعلى أنَّ موته لم يكن إخفاقًا للعدالة بل حدثًا تنبأ به الكتاب المقدس وأنَّه وقع بترتيبٍ من الله، حيث جلب عن طريقه الخلاص للعالم.
ماذا كان على المسيحيين أن يفعلوا حيال حقيقة أنهم عانوا الأمرَّيْن لإقناع غالبية اليهود بصحة مزاعمهم عن يسوع؟ ما كانوا بطبيعة الحال ليعترفوا أنهم كانوا هم المخطئون. وإذا لم يكونوا هم، فمن؟ لابد وأن اليهود كانوا هم المخطئين. في وقت مبكر من تاريخهم، بدأ المسيحيون يصرُّون على أنَّ اليهود الذين رفضوا رسالة المسيحيين كانوا متمردين وعميانا، لأنهم برفضهم لرسالة يسوع، يرفضون الخلاص الذي قدمه الإله ذاته الذي يعبده اليهود. بعضٌ من هذه المزاعم كانت تصاغ بواسطة مؤلفنا المسيحي الأقدم، بولس الرسول. ففي رسالته الأولى التي كتبها لمسيحيي تسالونيكي، والمحفوظة حتى اليوم، يقول بولس:
فَإِنَّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ اللهِ الَّتِي هِيَ فِي الْيَهُودِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلَّهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ (1تسالونيكي 2: 14- 15)
أصبح بولس يؤمن بأن اليهود رفضوا يسوع لأنهم فهموا أن مقامهم الخاص عند الله كان عائدًا إلى أمرين اثنين: أنَّ لديهم الشريعة التي أعطاها الله إياها وأنهم يتمسكون بها (رومية 10: 34). مع ذلك، كان الخلاص حسب مفهوم بولس قد جاء لليهود وللأمم كذلك، ولكن ليس عبر الشريعة وإنما بالإيمان بموت يسوع وقيامته (رومية 3: 21 -22). لذلك، ليس للالتزام بالشريعة أي دور في وقوع الخلاص؛ ولأجل هذا علَّم بولس الوثنيين (أو الأمم) الذين أصبحوا أتباعًا ليسوع أن رفع قيمتهم أمام الله لا يحدث باتباعهم للشريعة. لقد كان على الأمميين أن يبقوا كما هم – أي ليس عليهم أن يتحولوا إلى اليهودية (غلاطية 2: 15 – 16).
المسيحيون الأوائل الآخرون، بطبيعة الحال، كان لهم رأي آخرـ كما هو حالهم مع كل قضية تقريبا من قضايا هذا العصر! فالقديس متَّى، على سبيل المثال، يبدو وكأنه يفترض مقدمًا أنه على الرغم من أنَّ موت يسوع وقيامته هما اللذان جلبا الخلاص، فإن تلاميذه سيلتزمان بطبيعة الحال بأحكام الشريعة، كما فعل يسوع نفسه (انظر متى 5: 17-20). في النهاية، مع ذلك، أصبح من المسلم به على نطاق واسع أنَّ المسيحيين كانوا مختلفين مع اليهود حول قضية اتِّباع الشريعة اليهودية وعدم ارتباطها بقضية الخلاص، وحول أن الانضمام إلى الشعب اليهودي سيعني الارتباط بالشعب الذي رفض مسيحه، والذي، في حقيقة الأمر، رفض الإيمان بإلهه الخاص.
وعندما ننتقل إلى القرن الثاني نجد أنَّ المسيحية واليهودية قد أصبحتا ديانتين منفصلتين كليةً إلا أنَّ كلَّ واحدةٍ منهما لديها، رغم ذلك، الكثير لتقوله عن الأخرى. وجد المسيحيون أنفسهم، في الواقع، وقد شكلوا نوعا من الرابطة. لأنهم كانوا يؤمنون بأنَّ يسوع كان هو المسيح الذي تنبأت به الكتب اليهودية المقدسة؛ ولكي تحصل على المصداقية في عالمٍ يعتزُّ بكل ما هو قديم ويرتاب في كلِّ «جديد» باعتباره بدعة مشكوكا بها، فقد صار لزامًا على المسيحيين أن يواصلوا الاستشهاد بالكتب المقدسة ـ باعتبارها أساسا لمعتقداتهم الخاصة. كان هذا يعني أنَّ المسيحيين ادَّعوا أنَّ الكتاب المقدس اليهودي هو كتابهم هم أيضًا المقدس. ولكن أليس الكتاب المقدس اليهودي هو لليهود؟ بدأ المسيحيون يصرّون على أنَّ اليهود لم ينكروا فحسب مسيحهم، وإنما هم بذلك قد أنكروا إلههم، وأساؤوا فهم كتابهم المقدس أيضا. ولذلك نجد أنَّ الكتابات المسيحية مثل ما عرف باسم رسالة برنابا، وهو الكتاب الذي اعتبره بعض المسيحيين الأوائل جزءا من قائمة العهد الجديد الرسمية، قد أكَّد أن اليهودية كانت دائمًا ولا تزال ديانة باطلة، وأنَّ ملاكا شريرًا أضلَّ اليهود ليفهموا الشريعة التي أعطاها الله لموسى بأنها تعاليم حرفية تشرح كيف ينبغي أن يعيش الإنسان، في حين أنها كانت من المفترض أن تفسر في الحقيقة على نحوٍ رمزيٍّ(124).
في النهاية نجد المسيحيين يعاقبون اليهود بأقسى العقوبات الممكنة لعدم قبولهم يسوع باعتباره المسيح. فمع وجود مؤلفين، جوستينوس الشهيد الذي عاش في القرن الثاني كمثال، يدِّعون أنَّ السبب الذي دعا الله أن يفرض الختان على اليهود كان ليميزهم باعتبارهم شعبًا مخصوصًا جديرًا بالاضطهاد. هناك أيضا مؤلفون، مثل ترتليانوس وأوريجانوس، يزعمون أنَّ أورشاليم دمرها الجيش الروماني في عام 70 ميلاديا كعقوبة لليهود الذين قتلوا مسيحهم، ومؤلفون مثل مليتو أسقف سرديس يجادلون حول أنَّ اليهود بقتلهم المسيح، كانوا في الواقع مدانين بقتل الله.
«انتبهوا يا كل عائلات الأمم وترقبوا! جريمة قتل استثنائية حدثت في قلب أورشاليم، في المدينة المكرسة لشريعة الله، في مدينة العبرانيين، في مدينة الأنبياء، في المدينة المعروفة بالعادلة. ومن يا ترى الذي قُتِل؟ ومن القاتل؟ أشعر بالعار من إجابة هذا السؤال، لكنَّ الإجابة عليه واجبة.... الذي علّق السماء في الفضاء هو نفسه من عُلِّق؛ الذي سمَّّر السموات في مكانها، دُقَّ بالمسامير؛ الذي ثبت كل الأشياء هو نفسه ثُبِّتَ إلى شجرة. السيد قد أُهِين، الرب قد قُتِل، ملك إسرائيل أبيد بيد إسرائيل اليمنى» (عظة الفصح 94-96)(125).
من الواضح أننا قطعنا شوطا طويلا في الابتعاد عن نموذج يسوع، ذلك اليهودي الفلسطيني الذي التزم التقاليد اليهودية ومارس التبشير بين أبناء وطنه وعلَّم تلاميذه اليهود المعنى الحقيقي للشريعة اليهودية. باقتراب القرن الثاني وعندما كان النسَّاخ المسيحيون يقومون بإعادة كتابة النصوص التي أصبحت في النهاية جزءًا من العهد الجديد، كان غالبية المسيحيين من الوثنيين السابقين، أي من غير اليهود ممن تحولوا إلى الإيمان بالمسيحية والذين فهموا أنه على الرغم من أنَّ هذا الدين كان مبنيًّا، في الأساس، على الإيمان بإله اليهود كما ذُكِرَ نعته في الكتاب المقدس اليهودي، إلا أنه كان ذا توجه معاد لليهود تماما.
تحريفات النص المناهضة لليهود
معاداة اليهودية التي كان يكنها بعض النساخ المسيحيين في القرنين الثاني والثالث كان لها دورٌ هام في الطريقة التي بها نسخت النصوص. واحد من أوضح الأمثلة نجده في رواية لوقا لحادثة الصلب، التي يقال فيها إن يسوع نطق بصلاة من أجل هؤلاء المسئولين عن صلبه:
وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا (لوقا 23: 33-34)
صلاة يسوع هذه كما سيتضح لا يمكن أن نجدها، مع ذلك، في كل ما لدينا من مخطوطات: فهي مفقودة في أقدم شاهد يوناني لدينا (وهي البردية p75، التي يرجع تاريخها إلى وقت قريب من عام 200 ميلادية) وشواهد أخرى عديدة عالية القيمة من القرن الرابع والقرون التي تلته؛ في الوقت ذاته، هذه الصلاة موجودة في المخطوطة السينائية وفي عدد كبير من المخطوطات، بما في ذلك معظم المخطوطات التي تمت كتابتها في العصور الوسطى. ولذلك فالسؤال الملح الآن هو: هل قام ناسخ أو عدد من النساخ بحذف هذه الصلاة من مخطوطة كانت تحتوي عليها في الأصل؟ أم هل أضيفت من خلال أحد النساخ (أو عدد من النساخ) إلى مخطوطة هي في الأصل كانت خالية منها؟
انقسمت آراء العلماء لفترة طويلة عند الرد على هذا السؤال. فلأن الصلاة مفقودة في العديد من الشواهد المبكرة، ولأنها شديدة الأهمية، فلم يقصِّر كثيرٌ من العلماء في الادِّعاء بأنها غير أصلية داخل النصّ. أحيانا يميلون إلى حجة مبنية على دليل داخليّ. كما أوضحت من قبل، مؤلف إنجيل لوقا هو نفسه من كتب سفر أعمال الرسل. في سفر الأعمال نجد فقرة شبيهة بفقرتنا هذه في قصة ستيفانوس، شهيد المسيحية الأول والإنسان الوحيد الذي ذُكِرَ في سفر الأعمال أنَّ أمرًا قد صدر بقتله. ولأن اسطيفانوس كان متَّهمًا بالتجديف، فقد نُفِّذَ في حقه الرجم حتى الموت عبر جمهور يهوديٍّ غاضب؛ وقبل أن يموت صلى قائلا: «يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أعمال 7: 60).
بعض العلماء جادلوا بالقول إنَّ أحد النساخ لم يرغب في أن يبدو يسوع أقلَّ تسامحًا بأيِّ حالٍ من شهيده الأول، إسطيفانوس، فأضاف الصلاة إلى إنجيل لوقا حتى يدعو يسوع أيضا بالمغفرة لقاتليه. إنه دفاعٌ مقنعٌ لكنه ليس مقنعًا تمامًا لأسباب عدَّة. أشدُّ هذه الأسباب إقناعا هو الآتي: في كلِّ مرة يحاول النساخ أن يوفقوا بين النصوص بعضها البعض، كانوا يميلون إلى فعل ذلك عبر تكرار الكلمات ذاتها في الفقرتين كلتيهما. في حالتنا هذه، لا نجد الصياغة متطابقة بل جلُّ ما نجده مجرد صلاتين متشابهتين. ليس هذا هو نوع «التوافق» الذي كان نمطًا يكرره النساخ.
الأمر المفاجئ أيضا بخصوص هذه النقطة هو أنَّ لوقا، أي المؤلف نفسه، في عددٍ من المناسبات ينحرف عن أسلوبه لكي يظهر التشابه بين ما حدث ليسوع في الإنجيل وما حدث لتلاميذه في سفر الأعمال: يسوع وتلاميذه يعمَّدون، كلا الجانبين يقبلان الروح القدس عند لحظة العماد، كلاهما يبشِّرُ بالأخبار السارة، وكلاهما يرفضان من قبل الناس بسببها، كلا الجانبين يتألمان بأيدي الزعماء اليهود... إلى آخره. ما يحدث ليسوع في الكتاب المقدس يحدث لتلاميذه في سفر الأعمال. ومن هنا فليس ثمة أي مفاجأة ـ بل الأمر بالأحرى متوقع ـ في أنَّ واحدا من تلاميذ يسوع الذين أعدموا مثله تماما بمعرفة السلطات الحانقة، سيصلِّي إلى الله ليغفر لقاتليه.
هناك أسباب أخرى تدفعنا للارتياب في كون صلاة يسوع من أجل الغفران هي جزء أصلي من الإصحاح 23 من إنجيل لوقا. ففي كل مكان إنجيل لوقا وسفر الأعمال يتم التأكيد، على سبيل المثال، على أنَّه رغم براءة يسوع (مثلما هو حال تلاميذه)، فإن هؤلاء الذين قتلوه فعلوا ذلك لعدم معرفتهم بحقيقة ما يقومون به. فها هو بطرس في سفر الأعمال إصحاح 3 يقول: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ» (العدد 27)؛ أو كما يقول بولس في سفر الأعمال الإصحاح 17: «فَاللَّهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (العدد 30 *). وهذه هي تحديدا الملاحظة المتوافقة مع صلاة يسوع: «لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون».
يبدو، إذن، أنَّ لوقا 23: 34 كانت جزءا من نص لوقا الأصلي. فلماذا، رغم ذلك، يريد ناسخ (أو عدد من النساخ) حذف هذا الجزء؟ هنا يصير الوعي بالسياق التاريخي الذي كان النساخ يعملون ضمنه أمرًا حاسمًا. ربما يتساءل القرَّاء المعاصرون عن حقيقة الشخص الذي كان المسيح يصلي من أجله. فهل هم الرومان الذين قتلوه عن جهل؟أم هم اليهود الذين كانوا مسئولين عن تسليمه للرومان في المقام الأول؟ مهما تكن الطريقة التي يمكن أن نجيب بها على هذا التساؤل في محاولة لتفسير هذه الفقرة اليوم، يبدو أنَّ الكيفية التي كانوا في الكنيسة الأولى يفسرونها بها هي من الوضوح بمكان. تقريبا في كل حالة نوقشت فيه الصلاة في كتابات الآباء الأوائل للكنيسة، يبدو جليًّا أنهم كانوا يفسرونها بأن المقصود بها اليهود وليس الرومان(126). لقد كان يسوع يطلب من الله أن يسامح الشعب اليهودي (أو القادة اليهود) الذين كانوا مسئولين عن موته.
الآن أصبح السبب الذي من أجله أراد بعض النُسَّاخ أن يحذفوا العدد واضحًا. أيصلِّي يسوع من أجل المغفرة لليهود؟ كيف ذلك؟ بالنسبة للمسيحيين الأوائل كان ثمة مشكلتان تواجهان هذا العدد في حال النظر إليه على هذا النحو. أولا، تسائل المسيحيون: ما الذي يجعل يسوع يصلي لمغفرة ذنوب هذا الشعب المتمرد الذي رفض اللهََ نفسهَ عن عمد؟ هذا الأمر كان نادر التصور عند كثيرٍ من المسيحيين. بل أكثر من ذلك، نقول: إنه قريبًا من القرن الثاني كان كثيرٌ من المسيحيين على قناعة تامة بأنَّ الله لم يغفر لليهود لأنهم، كما ذكرت من قبل، اعتقدوا أن الله سمح بتدمير أورشليم كعقوبة لليهود على قتلهم يسوع. يقول أوريجانوس أحد آباء الكنيسة: «صحيحٌ أنَّ المدينة التي مر فيها يسوع بمثل هذه الآلام ينبغي أن تدمر بالكامل، وأنَّ الأمة اليهودية ينبغي أن تباد» (ضد سيلزس 4، 22)(127)
كان اليهود يعرفون جيدا ما كانوا يفعلونه، ومن الواضح أن الله لم يسامحهم. انطلاقًا من وجهة النظر هذه، ليس لدعاء يسوع بالمغفرة من أجلهم أيَّ معنى في وقت لم يكن ثمة غفران ممكن في حقهم. ماذا كان على النساخ أن يفعلوا، إذن، مع هذا النص الذي يصلي فيه يسوع «أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون»؟ تعاملوا مع النص ببساطة من خلال اقتطاع النص لكي لا يواصل يسوع طلب المغفرة لهم.
هناك فقرات أخرى تركت فيها المشاعر المعادية لليهود التي كان النساخ الأوائل يكنونها في صدورهم أثرها على النصوص التي كانوا ينسخونها. واحدة من أبرز الفقرات التي تشير إلى الظهور النهائي للمعاداة للسامية هي في مشهد محاكمة يسوع في إنجيل متَّى. فوفقًا لهذه الحادثة، يعلن بيلاطس براءة يسوع، حيث يغسل يده لكي يظهر أنه: «بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!»
ثم يطلق الحشد اليهودي صرخة كان مقدَّرًا لها أن تلعب هذا الدور الرهيب في اندلاع العنف ضد اليهود خلال القرون الوسطى، حيث يبدو أنهم يعلنون فيها مسئوليتهم عن موت يسوع: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا «(متى 27: 24 -25).
التباين النصّي موضع اهتمامنا يحدث في العدد التالي. يقال في هذا العدد إن بيلاطس جلد يسوع ثم «أَسْلَمَهُ لِيُصْلَبـ «. أي شخص يقرأ هذا النص سيفترض في البداية أنه سلم يسوع لجنوده (الرومان) لكي يصلبوه. ما يجعل الأمر أكثر إحداثا للصدمة هو أنه في بعض الشواهد المبكرة ـ بما في ذلك واحدة من التصحيحات التي أدخلها النساخ إلى المخطوطة السينائية ـ تم إدخال تغيير إلى النص لكي يقوِّي إلى مدى أبعد التورط اليهودي في موت يسوع. وفقا لهذه المخطوطات، قام بيلاطس «بتسليمه إليهم (أي إلى اليهود) لكي يقوموا هم بصلبه». الآن مسئولية اليهود عن مقتل يسوع هي مسئولية كاملة، وفي الوقت نفسه هذا تغيير كان الباعث إليه شعورٌ معادٍ لليهود كان منتشرًا بين المسيحيين الأوائل.
أحيانا تكون القراءات المتباينة المعادية لليهود دقيقة للغاية ولا تلفت انتباه الإنسان إليها إلى أن يبذل أحدهم بعض الفكر حول المسألة. على سبيل المثال، في قصة الميلاد الواردة في إنجيل متى، يقال إنَّ يوسف دعى ابن مريم المولود حديثًا يسوع (التي تعني «الخلاص») «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم «(متى 1: 21). من العجيب أنه في واحدة من المخطوطات التي حفظتها لنا الترجمة السوريانية، يقول النص بدلا عن ذلك: «لأنه سيخلص العالم من خطاياه». هنا مرة أخرى يبدو أنَّ ناسخًا كان يشعر بعدم الراحة من تصوُّر أنَّ اليهود يمكنهم أن يحصلوا على الخلاص.
تغييرٌ مشابهٌ آخر يحدث في إنجيل يوحنا. ففي الإصحاح الرابع، يتحدث يسوع مع المرأة السامريّة ويقول لها، «أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ». (العدد 22). في بعض المخطوطات السوريانية واللاتينية تغير النص فأصبح يقول الآن إنَّ: «الخلاص يأتي من أرض يهودا». بكلمات أخرى، ليس الشعب اليهوديُّ هو من جلب الخلاص إلى العالم؛ بل موت يسوع في أرض يهودا هو الذي فعل ذلك. مرة أخرى ربما نرتاب في أنَّ شعورًا معاديًا لليهود هو ما كان باعثًا على التحريف الذي قام به النساخ.
المثال الأخير الذي سأسوقه في هذا التعرض المختصر يأتي من مخطوطة بيزا التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وهي نفسها المخطوطة التي تحوي قراءات متباينة طريفة ومثيرة للدهشة عن أيِّ مخطوطة أخرى. في الإصحاح السادس من لوقا، حيث يتهم الفرِّيسيون يسوع وتلاميذه بانتهاك حرمة يوم السبت (6: 1-4)، نجد قصة إضافية في مخطوطة بيزا تتكون من عددٍ واحد: «في اليوم ذاته رأى رجلا يعمل في السبت، وقال له، «يا إنسان، لو كنت تعلم ما تفعله، فأنت مبارك، لكن لو لم يكن عندك علم، فأنت ملعون ومنتهك للشريعة». إن تفسيرا كاملا لهذه الفقرة غير المتوقعة وغير العادية يتطلب قدرا كبيرا من البحث(128). بالنسبة لأهدافنا في هذا الفصل يكفي أن نلاحظ أنَّ يسوعَ واضحٌ للغاية في هذه الفقرة على نحوٍ لم يحدث أبدا في أي مكان آخر في الأناجيل. في مواقف أخرى، عندما يتهم يسوع بانتهاك السبت، يدافع عن أفعاله، لكنه أبدا لا يشير إلى أن أحكام الشريعة الواردة في حق يوم السبت يجب أن تُنْتَهَك. أمَّا في هذا العدد، يصرِّحُ يسوع بوضوح أنَّ أيَّ إنسانٍ يعرف أنَّ انتهاك السبت هو أمر شرعيٌّ لا غبار عليه هو إنسان مبارك إن فعل ذلك؛ هؤلاء الذين لا يفهمون سبب شرعية انتهاك السبت هم فحسب المخطئون. مرة أخرى، هذه قراءة متباينة يبدو أنها ذات علاقة بظهور الروح المعادية لليهودية في الكنيسة المبكرة.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22