عرض مشاركة واحدة
قديم 17-01-2012 ~ 06:39 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي موقف الأستاذ جمال البنا من عقيدة أهل السنة ومسألة الردة
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


ملخص الرسالة

موقف الأستاذ جمال البنا

من عقيدة أهل السنة ومسألة الردة

عرضا ونقدا

من خلال كتابيه "حرية الاعتقاد والفكر في الإسلام" و"جناية قبيلة حدثنا"

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
‏﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ[1].

وبعد:
فهذا عرض لبحث يدور حول (موقف الأستاذ جمال البنا من عقيدة أهل السنة ومسألة الردة عرضا ونقدا) وذلك من خلال كتابيه "حرية الاعتقاد والفكر في الإسلام"، "جناية قبيلة حدثنا"، مقدم لقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.

وقد قسمت هذا البحث كالتالي:
تمهيد
الفصل الأول: موقف الأستاذ جمال البنا من حرية العقيدة في الفكر الإسلامي
الفصل الثاني: موقفه من أهل السنة والجماعة وعقيدتهم
الخاتمة وأهم النتائج
المصادر والمراجع
الفهرس.

أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض هذه القضية، ومناقشتها علمياً بما يفيد، مع مراعاة الاختصار ما أمكن لعدم اقتضاء المقام لذلك، والحمد لله رب العالمين.
التمهيد

ذاعت آراء الأستاذ جمال البنا، وانتشرت ولاقت قبولا في أوساط العلمانيين، والليبراليين، وعوام المسلمين، ذلك لأنها في غالبها آراء شاذة، ترجع أصولها لبناء العلم على الثقافة العامة والمنهج العقلي، وليس على العلم الشرعي القائم على التسليم والقبول للنصوص، مع الاجتهاد في فهمها.

وكما راجت آراء الأستاذ البنا في أوساط كثيرة، إلا أن كثيرا من آرائه الشاذة لم تدخل على أهل العلم، وعوام المسلمين ذوي الفطر السليمة، ذلك أن أمورا كثيرة مما تكلم فيها لا توافق الفطرة، كقوله أن التدخين لا يفطر في رمضان، وأن التقبيل بين الفتيان والفتيات جائز، ورفضه لعلوم المسلمين، كالتفسير والحديث وغيرها من الآراء التي تنافي الفطرة والعقل والأدلة الشرعية.

ومن هنا أردت أن أرصد بعض هذه الآراء والقضايا التي تكلم فيها، وخصوصا موقفه من قضية الردة وحرية الاعتقاد، وموقفه من عقيدة أهل الحديث والملتزمين بالسنة، وبيان حيده عن الحق والمنهج الصحيح في الاستدلال، والتقول على أهل السنة والأثر، أهل الحديث، انطلاقا من منهاجه العقلي، وعدم تأصيله للعلم الشرعي وخلطه في كثير من الأمور، مما جعله لا يستطيع توجيه الأدلة الشرعية، وعدم الإنصاف في أحكامه على أهل السنة.
الفصل الأول

موقف الأستاذ جمال البنا من حرية العقيدة في الفكر الإسلامي

أولا: قوله أن الإيمان قضية شخصية وأنه لا حد دنيوي للردة:

أخذ الأستاذ جمال البنا في عرض شواهد الحرية الفكرية والعقدية في القرآن، وهذه الآيات لا سبيل لإنكارها، ولم ينكرها أهل السنة، فحرية اختيار الدين أمر مقرر في الشريعة الإسلامية وردت في كتاب الله جل وعلا، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ [يونس: 108].

إلا أنه قد استخدم هذه الأدلة ليؤكد على أمرين:
الأول: أن الإيمان والكفر قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها[2]، وأنه لا حد دنيوي عليها بقوله[3]، ويقول أيضا أن قضية الردة لا تستند في السنة على ما يتناسب مع وزنها[4].
والثاني: رفض حديث "من بدل دينه فاقتلوه"، وأنه ذكر أن الإمام مسلم قد رفض هذا الحديث[5].

الرد:
أولا: أن القول بأن الإيمان والكفر قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها تنافي النقل والعقل، فإن المرء لا يعيش بمعزل عن الجماعة التي ينتمي إليها، فالإسلام لا يجبر أهل الأديان الأخرى على اعتناقه، وهذا يفسح لهم المجال لدراسته قبل الدخول فيه، فلا يتسرع في الاعتناق، لأنه لا بد أن يكون اعتناقه للعقيدة الجديدة عن يقين جازم، أما عند الدخول فيه فقد صار ملزما به وبأحكامه التي يدخل فيها حد الردة، فالمرتد بخروجه من الإسلام يثير الشك والريبة في نفوس ضعاف المسلمين، لذلك قال رسول الله: " لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة"[6]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه"[7]، فالمروق من الدين سبب في ارتباك المعتنقين له، وزلزله لهذا الكيان الإسلامي، فمن كان شاكا قبل دخوله في الإسلام فليدرسه وليتريث قبل الاعتناق، أما أن يدخله ويخرج منه، ثم يشكك فيه، فهو الممنوع، والذي من أجله وضع حد الردة حتى لا يتلاعب غير المسلمين والمنافقين بالدين، فيدخلونه ثم يخرجون منه ليشككون فيه، فحد الردة وسيلة لحماية الدين، أكثر منه عقوبة للمرتد.

وهنا نقول: أن العلم ليس الأخذ بالأحوط، وطرح الأدلة، وإنما جمع الأدلة أولا، فإن تعثر وجب الترجيح بطرح أحدهما عند تعثر الجمع.

كذلك، لا يجوز أن نقبل أن يقال أنه لا يوجد في القرآن حدا للردة، إذ أن الشريعة الإسلامية لا تعتمد على القرآن فحسب، فعدد الصلوات والركعات وكيفيات الأحكام والميراث ثابتة بالسنة دون الكتاب.

ثانيا: قوله أن الإمام مسلم قد رفض حديث "من بدل دينه فاقتلوه" لا أعلمه عن الإمام مسلم، وإن سلمنا بذلك، فإن الحديث قد روي في غالب مصنفات أهل السنة، فرواه الإمام البخاري (6922)، وابن ماجه (2535)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، والنسائي (4060)، وابن حبان (4475)، والمعجم الكبير للطبراني (10638)، وسنن الدارقطني(1013)، والسنن الصغرى للبيهقي(3165)، وغيرها من الكتب، فلا أدري لماذا يقف الأستاذ البنا عند عدم تخريج الإمام مسلم للحديث، رغم أنه قد خرجه من هو أعلى منه مرتبة كالإمام البخاري، وذكره غالب أئمة السنة، فادعاء الإنكار وتجاهل تخريج الأئمة لحديث ليس من سبل البحث العلمي والتريث في الأحكام، وإنما بل هو من التعصب المذموم.

ثانيا: قوله أن الاختلاف في الدين رحمة، والردة أمر من قدر الله:
يقول الأستاذ البنا: "وأن الاختلاف والتعددية كلها مما أراده الله ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة وذكر الردة مرارا وبشكل صريح دون أن يفرض عقوبة دنيوية عليها وأكد مرارا أنه هو الذي يفصل يوم القيامة فيما فيه يختلفون"[8]

الرد:
هذا من الجهل بالفارق بين الإرادة الكونية والشرعية، فالإرادة الشرعية هي ما تدل على ما يحبه الله ويرضاه، والله يحب الاجتماع والاعتصام بالحق، وينهي عن الفرقة، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ آل عمران(103- 104).

ويقول جل وعلا في أن الاختلاف ليس رحمة: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: 118، 119]، فأهل الاختلاف والشقاق ليسوا أهل الرحمة، وأهل الرحمة هم أصحاب الدين الصحيح، لذلك ذهب ابن أبي زمنين في تفسيره إلى أن أهل الاختلاف المذكورين في الآية هم الكفار[9]، وذكر ابن كثير عن عكرمة أن المرحومين هم أتباع الرسل[10].

كما نقول: لو كان الاختلاف رحمة، فماذا يعد الاتفاق والاجتماع الذي أمر الله جل وعلا به بقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ آل عمران (103)، وقد قال الإمام ابن حزم في ذلك: "وقد غلط قوم فقالوا الاختلاف رحمة واحتجوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) قال أبو محمد وهذا من أفسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا هذا ما لا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف وليس إلا رحمة أو سخط وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل الفسق"[11].

كما أن العقلاء لا يتصورون أن الاختلاف والشقاق رحمة، والخلاف الذي فيه رحمة ما يتحمل فيه الدليل التأويل، ويعين على المجتهدين والعاملين رؤية الأوجه المختلفة وعدم الإلزام ابتداء بقول واحد، فمن خالف الحق باجتهاد فهو معذور له أجر واحد، وليس المراد قبول كل اختلاف.

والاحتجاج بحديث: "اختلاف أمتى رحمة" فهو من الأحاديث الموضوعة التي يردها أدلة الاعتصام وعدم التفرق.

وقال الشيخ الألباني في حكمه على الحديث: "لا أصل له"، وأشار إلى قول ابن حزم السابق ذكره، وأنه قال في هذا الحديث أنه باطل مكذوب[12].

وقد قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ النساء (82)، وهذا دليل على أن الاختلاف ليس من عند الله، فكيف يسوغ إذن جعل الاختلاف سنة متبعة ورحمة منزلة؟![13]

والله جل وعلا يحذر من الخلاف المؤدي إلا التنازع فيقول: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الأنفال(46)

ويقول الإمام الزركشي نقلا عن الإمام الْمُزَنِيّ أن الله قَدْ ذَمَّ الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ حُكْمِهِ مَا رَدَّهُ إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا أَمَرَ بِإِمْضَاءِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا هُمَا بِهِ، وَمَا حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّتَهُ مِنْ الْفُرْقَةِ وَأَمَرَهَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، ثم قَالَ الإمام الزركشي أنه َلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ رَحْمَةً، لَكَانَ الِاجْتِمَاعُ عَذَابًا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ خِلَافُ الرَّحْمَةِ[14].

ثالثا: استدلاله بقصة كاتب الوحي الذي ارتد:
وقد ذكر الأستاذ البنا أن أحد كتاب الوحي قد ارتد، ولم يقتله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من قال: "ما يدري محمد ما كتبت له"[15].

الرد:
أما قوله في حديث الرجل الذي كان يكتب للنبي، فإن أصل الحديث في صحيح البخاري من حديث أنس - رضي الله عنهم - أنه قال: "كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ "[16].

ولفهم الحديث وما يدور حوله لا بد من جمع الروايات المتعلقة به، وأهمها في هذا الموطن ما رواه الإمام مسلم من حديث أنس أنه قال: "كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَرَفَعُوهُ، قَالُوا: هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ فَأُعْجِبُوا بِهِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا "[17]

والحديثان السابقان يدلان على أمرين:
الأول: أن هذا المرتد قد هرب ولحق بقومه من النصارى، وليس الأمر أنه تنصر وظل كما هو بين المسلمين.
الثاني: أنه لم يكن يشعر بالأمن مع ردته، لذلك فر هاربا، وهذا يؤيد استقرار أمر في الشريعة الإسلامية تجعله يهرب حال ردته، والتفسير لذلك هو حد الردة.

رابعا: استدلاله بقصة ارتداد عبيد الله ابن جحش:
كما ذكر قصة ارتداد عبيد الله بن جحش[18] حينما كان بالحبشة، فما أهدر دمه ولم يأمر بقتله.

الرد:
كان عبيد الله بن جحش قد أسلم، وهاجر إلى الحبشة مع زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم تنصر بها، ومات هناك، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلبها للزواج[19]، وذكر ابن هشام أنه: "أَقَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الِالْتِبَاسِ حَتَّى أَسْلَمَ، ثُمَّ هَاجَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحَبَشَةِ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْلِمَةً، فَلَمَّا قَدِمَهَا تَنَصَّرَ، وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ، حَتَّى هَلَكَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيًّا"[20]، وقد روى الإمام أبو داود هذه القصة في سننه من حديث أم حبيبة[21].

ومن هذه الأدلة المذكورة يتبين لنا ما يلي:
أ‌- أن الدولة الإسلامية لم تكن قد قامت بعد، فالمسلمون كانوا مستضعفين يطلبون النصرة عند أهل الكتاب في الحبشة.
ب‌- أن انتقاله للنصرانية كان في ديار غير ديار الإسلام، ولم يرجع مطلقا لديار الإسلام، فلا يمكن الاحتجاج بهذه الحالة.
ت‌- أن ردته كانت للدين الذي استنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهله، فبتنصره صار ذا قوة، بينما كان أهل الإسلام مستضعفين فارين من قومهم إلى أهل الحبشة، وكان ذلك جليا في قوله لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحبشة بعد تنصره: "فَقَّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ، أَيْ أَبْصَرْنَا وَأَنْتَمِ تَلْتَمِسُونَ الْبَصَرَ وَلَمْ تُبْصِرُوا بَعْدُ"[22]
ث‌- أنه لم يكن تحت أهل الإسلام في هذا الوقت، فضلا عن أن المسلمين لم تكن لهم دوله قائمة حينئذ.

خامسا: استدلاله بقصة ارتداد اثنا عشر شخصا في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -:
قوله أنه قد ارتد اثنا عشر شخصا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم خرجوا من المدينة إلى مكة، ومنهم الحارث بن سويد الأنصاري، فما أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمهم.

الرد:
أقول: إنه من العجب أن يعتمد الأستاذ البنا في أدلته على مرويات التفسير التي يسخر منها في سياق، ويستدل بها في آخر، فبينما يطعن فيها بقوله: "ملأت قبيلة حدثنا التفسير بالمأثور بالإسرائيليات وفي كتب التفسير طامات وظلمات"[23]، إلا أنه يذهب فيستدل بها على صحة مذهبه.

أما عن القصة التي ذكرها فهي في كتب التفسير في تفسير آية ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ آل عمران (86) عند البغوي والطبري، وابن عطية والخازن، وأبو حيان الأندلسي في البحر المحيط في التفسير.

وقد ذكر أبو حيان الأندلسي في قصة ردة الحارث أنه قد نَدِمَ وَرَجَعَ، فإنه لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَتَلَ الْمُجَدَّرَ بْنَ زِيَادٍ بِدَمٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ زَيْدَ بْنَ قَيْسٍ، وَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ ظَفَرَ بِهِ، فَفَاتَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أَخِيهِ مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ، فَنَزَلَتْ الآية، فَرَجَعَ تَائِبًا[24] وبمثله قال السيوطي، وأبو نعيم.

وهنا نرى: أنه قد ارتد ثم هرب في غزوة أحد، ثم لحق بأهل الشرك في مكة، وأرسل يستفتي: أله توبة؟ فلما علم أن له توبة عاد مسلما. ومن المعلوم أن الهرب شأنه كما مر معنا أن يكون الهارب عالما بالحد الذي عليه، والذي من أجله يترك هذه الديار، فضلا عن أن الحارث كان قد قتل رجلا غيلة في غزوة أحد كما مر معنا، وكان الأمر أمر حرب بين أهل الإسلام والكفر، ثم كان صلح الحديبية، الذي يقضي بأن من خرج من أهل الإسلام لأهل الشرك فقد أبعده الله، فلما كان فتح مكة قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمجذر بالرجل الذي قتله[25].

سادسا: استدلاله بقصة ارتداد شابين شكاهما أبوهما للنبي:
كما ذكر أن هناك شابان اعتنقا النصرانية فشكاهما أبوهما إلى الرسول قائلا: "يا رسول الله أدع ولداي يدخلون النار"، ثم قال: "فلم يقل له الرسول مثلا اقتلهما أو دعني أقتلهما"[26]

الرد:
أما الرد على قضية الشابين اللذين اعتنقا النصرانية فنقول:
أ‌- أن الأستاذ البنا دائما يحاول طمس الأدلة وراءه، بمعنى أنه لا يذكر لك الدليل حتى يمكن تتبعه، فلم يذكر مصدر هذا الحديث حتى يمكن للناقد أن يقف عليه ويحكم عليه بالصحة والضعف.

ب‌- أن الأستاذ البنا يعتقد قبل أن يستدل، ثم ينظر في كل المرويات، فما وافق عقيدته وإن كان شاذا قليلا أخذ به، وما خالف عقيدته طرحه أرضا وإن كان صحيحا كثيرا، وهذا جلي في هذه القضية، وذلك جلي أنه رغم طعنه في مرويات التفسير، إلا أنه يعتمدها حين تؤيد مذهبه.

ت‌- أن هذه الرواية هي من مرويات التفسير، يقول الإمام الطبري عن الإمام السدي في تفسير الآية: "نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال: "لا إكراه في الدين" "[27]، وبمثله في تفسير ابن عطية إلا أنه قال أنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث من يتبعهما فلم يفعل.

ث‌- أن هناك مرويات تذكر أن هؤلاء الأبناء كانوا على النصرانية قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام سأل هذا الصحابي النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يردهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا إكراه في الدين"[28].

ج‌- أن من المرويات من قالت أن الرجل كان مسلما، وكان ابناه نصرانيان، دون ذكر خبر الردة[29].

ح‌- أن غالب المرويات تثبت أنه لم يكن قد أمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " أبعدهُمَا الله هما أول من كفر"[30]، وهذا مثل ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية: "إنه من ذهب منا إليهم، فأبعده الله. ومن جاءنا منهم، سيجعل الله له فرجا ومخرجا[31].

خ‌- وقد وقفت على عدة روايات تحمل نفس المعنى من حيث ترك الأبناء لدى المشركين، كلها تدور حول ترك الأولاد في بلاد الكفر أثناء إجلاء بني النضير، حيث كانت المرأة التي لا يعيش لها ولد، تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله آية "لا إكراه في الدين"[32]، والمراد أنه كانت الأمهات تلتمس طول أعمار الأبناء بأن ينسبوا الأولاد لليهود، فلما جاء الإسلام وأجلي بنو النضير سألوا عن أبنائهم، فكان هذا هو رد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث له شاهد أيضا عند الطبري في تفسيره.

د‌- أنهم قد هربوا بالشام، فلا سبيل إلى إدراكهم، ولا يجوز اتباعهم لدخولهم في سلطان دولة أخرى، وفرق بين طلب المرتد في ديار المسلمين، حيث السلطان لهم، وبين أن يكون المشرك قد تحول لسلطان آخر خارج بلاد الإسلام، وهذا ما نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره في صلح الحديبية.

سابعا: استدلاله بقصة العرنيين:
يذكر من هذه الأحاديث حديث العرنيين، ثم يقول: "الحديث رواه البخاري ومسلم وبقية كتب الحديث وليس فيه ما ينم عن حد الردة، بل ليس في أغلب الروايات ما ينم عن ردتهم"[33]

الرد:
إن قول الأستاذ البنا أن هذا الحديث لا يوجد به ما يدل على ردتهم في كل رواياته محض افتراء، فإن غالب الروايات تدل على ردتهم، ففي صحيح البخاري بعدما انتهى الحديث نجد أبو قلابة الذي روى الحديث عن أنس يقول: "فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ"[34]، وذكر مثله ابن حبان وأبو داود والبغوي والشوكاني والطبري.

أما رواية مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "...فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ..."[35]

وفي سنن النسائي من حديث أنس "...فَلَمَّا صَحُّوا، قَامُوا إِلَى رَاعِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَتَلُوهُ، وَرَجَعُوا كُفَّارًا، وَاسْتَاقُوا ذَوْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "[36]، وأما رواية الإمام ابن ماجة من حديث أنس: "...فَفَعَلُوا. فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَاسْتَاقُوا ذَوْدَهُ..."[37]

فكل الأدلة المذكورة تفيد أن لفظ العرنيين في غالب الروايات عند غالب أهل السنن قد أثبت لفظ الردة لهم، وهذا بخلاف ما ادعاه الأستاذ البنا، لينفي أن يكون الحد قد وقع على الردة.

ثم نقول من باب الإنصاف: إن قيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قتلهم لأنهم قتلوا وأشاعوا الفتن، فصاروا كالمحاربين، فينبغي تطبيق حد الحرابة فيهم، فنقول إن هذا الحد يختلط فيه الأمرين الردة والحرابة، فلا يجوز الاستشهاد فيه بنفي حد الردة، وإنما يضم لما سبق من الأدلة، وترجح ثباته ووجوده في الشريعة.

ثامنا: تأويله لحديث "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث":
1- يذكر الأستاذ البنا حديث الردة المشهور ونصه: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزان، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة"[38]، ثم يقول: "وقد قلنا إن ظاهر "المفارق للجماعة" يفسح مجال الاحتمال، فليس هناك افتيات أو حذف للظاهر، وما جاز فيه الاحتمال بطل به الاستدلال"[39].

2- ثم تكلم على الحديث في أحد رواياته قائلا: "أما السند فإن الروايات المتكررة تنتهي إلى عكرمة عن ابن عباس، ومع أن عكرمة من أفضل رواة ابن عباس، فقد استبعده مسلم ولم يخرج له إلا حديثا واحدا في الحج مقرونا بسعيد بن جبير، وإنما تركه لطعن طائفة من العلماء فيه بأنه كذاب وبأنه كان يرى رأي الخوارج وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء"[40]، وبين أن الذهبي قد ترجم له وذكر أنه كذاب لا يحتج بحديثه.

الرد:
1- أن حصره للفظ "التارك لدينه" في مفارقة الجماعة أمر يفتح مجال الاحتمال، وليس معنى الاحتمال الشك، وإنما الاجتهاد في التأويل، والاجتهاد يستلزم جمع النصوص بعضها إلى بعض، فقد يكون مفارقة الجماعة في عقيدتهم، أو بإشهار السيف عليهم، لذلك يقول الإمام ابن حجر عن النووي أن التَّارِكُ لِدِينِهِ لفظ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ ارْتَدَّ بِأَيِّ رِدَّةٍ كَانَتْ فَيَجِبُ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ خَارِجٍ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِبِدْعَةٍ أَوْ نَفْيِ إِجْمَاعٍ كَالرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ[41]، إلا أن الأحاديث الأخرى توضح ذلك وتجليه، من ذلك: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث، أن يزني بعد ما أحصن، أو يقتل إنسانا فيقتل، أو يكفر بعد إسلامه فيقتل"[42]

2- أن الحديث قد ورد في روايات أخرى، مثل رواية الإمام الترمذي والتي صححه الألباني من حديث أبي أمامة: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَشْرَفَ يَوْمَ الدَّارِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ ارْتِدَادٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقُتِلَ بِهِ "[43]، وكأنما يشير أنه لم يصدر منه ما يوقعه في الردة ليقتل عليها.

3- وأما قوله أن مدار الحديث على عكرمة فهو خطأ، فقد ورد من طريق آخر عن قتادة عن الحسن أنه قال: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ عَبَّادٍ» [44]"، وطريق أخر من رواية قتادة عن أنس: "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»"[45]

4- أن قوله أن عكرمة متهم بالكذب مع كونه من الخوارج، فهو قول الذهبي، وهذا القول مردود، لأن الخوارج لا يرون الكذب، لأنه عندهم كفر مخرج من الدين.

5- كما أن أخذ تجريح الذهبي فقط وطرح توثيق الأئمة له، فقد وثَّقَهُ الحافظ المزي[46]، ويقول الإمام ابن حجر العسقلاني: أن ابن مندة قال عن عكرمة أنه عدول الأمة من نبلاء التابعين فمن بعدهم عدلوه وحدثوا عنه، واحتجوا بمفاريده في الصفات والسنن والأحكام روى عنه زهاء ثلاثمائة رجل من البلدان منهم زيادة على سبعين رجلا من خيار التابعين ورفعائهم وهذه منزلة لا تكاد توجد لكثير أحد من التابعين على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك من الرواية عنه ولم يستغنوا عن حديثه وكان يتلقى حديثه بالقبول ويحتج به قرنا بعد قرن وإماما بعد إمام إلى وقت الأئمة الأربعة الذين اخرجوا الصحيح وميزوا ثابتة من سقيمه وخطأه من صوابه واخرجوا روايته وهم البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي فأجمعوا على إخراج حديثه واحتجوا به على أن مسلما كان أسوأهم رأيا فيه وقد أخرج عنه مقرونا وعدله بعدما جرحه وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي قد أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا منهم أحمد بن حنبل وابن راهويه ويحيى بن معين وأبو ثور ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال عكرمة عندنا إمام الدنيا تعجب من سؤالي إياه وحدثنا غير واحد أنهم شهدوا يحيى بن معين[47].







المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22