عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:35 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 21
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الفصل السابع
بيئات النص الاجتماعية
ربما من المأمون تمامًا أن نقول إن عملية نَسْخ النصوص المسيحية المبكرة كانت في العادة عملية «محافِظة». فقد كان النساخ -سواء أكانوا من هواة القرون الأولى أم كانوا من المحترفين في العصور الوسطى- عازمين على «المحافظة» على التقليد النصيِِّ الذي كانوا يقومون بنسخه. لم يكن اهتمامهم الأول منصبًّا على تعديل التقليد، بل على الحفاظ عليه لمصلحتهم الخاصة ولمصلحة من سيأتون بعدهم. معظم النساخ، بلا شك، حاولوا أن يؤدُّوا عملهم في التأكد من أن النص الذي يقومون بإعادة إنتاجه كان هو النص نفسه الذي ورثوه بنزاهة.
رغم ذلك، حدث وأن وقعت التغييرات في النصوص المسيحية المبكرة. فالنساخ سيقعون أحيانًا ـ بل في كثيرٍ من الأحيان ـ في الأخطاء غير المقصودة، من خطاء في تهجئة كلمة ما أو حذف لسطر أو ببساطة عبر إفساد الجُمَل التي كان من المفترض أن يقوموا بنسخها؛ وأحيانا قاموا بتغيير النص عمدًا مع سبق الإصرار والترصُّد حيث أدخلوا «تصحيحات» إلى النص اتضح في الواقع أنَّها تحريفٌ لما كان مؤلِّفُ النصِّ قد كتبه في الأصل. قمنا في الفصل السابق بدراسة أحد أنواعٍ التغييرات العمدية ـ وهي تلك المتصلة ببعض الصراعات اللاهوتية التي اضطرم أوارها في القرنين الثاني والثالث، أي في الوقت الذي وقعت فيه معظم التغييرات التي شهدها تقليدنا المحفوظ في شكل نصيّ. لكني لا أريد أن أؤكد صحة الانطباع الخاطئ أنَّ هذا النوع من التغييرات اللاهوتية للنص كان يقع في كل مرة يجلس فيها ناسخ لينسخ فقرة من الفقرات. كان هذا يحدث أحيانا. وعندما كان يقع، كان له تأثيرٌ بعيدُ الغور على النص.
في هذا الفصل، سنرصد عوامل أخرى تتعلق بالظروف والملابسات التي أدَّت، في بعض الأحيان، إلى تحريف النص. هناك ثلاثة أنواع، على وجه الخصوص، من النزاعات التي كانت ملحوظة جدًا في المجتمعات المسيحية المبكرة سنقوم بدراستها: نزاعٌ داخليٌّ حول دور النساء في الكنيسة ونزاعين آخرين خارجيين، أحدهما مع اليهود من غير المسيحيين والآخر مع الخصوم الوثنيين. وسنرى في كل نوع على حدى كيف أنَّ هذه النزاعات، في أحايين متفرقة، لعبت أيضا دورًا في تحريف النصوص التي كان يقوم بإعادة إنتاجها لمصلحة المجتمع نسَّاخٌ هم أنفسهم كانوا متورطين في هذه النزاعات.
النساء ونصوص الكتاب المقدس

لم تلعب النزاعات التي ثارت حول دور المرأة في الكنيسة دورا كبيرًا في تحريف نصوص العهد الجديد، لكنها لعبت بالفعل دورا وذلك في فقراتٍ طريفةٍ وهامَّة. نحتاج، لكي نفهم أنواع التغييرات التي وقعت للنص، أن نعرف بعض الخلفيات عن طبيعة هذه النزاعات(117).
النساء في الكنيسة الأولى
وصل العلماء المعاصرون إلى درجة الاعتراف بأنَّ النزاعات التي دارت حول دور المرأة في الكنيسة الأولى وقعت تحديدًا لأن النساء كان لهن دور، وكثيرا ما كان دورًا كبيرًا ومرموقًا لدى العامة.
فوق ذلك، كان هذا هو الوضع المألوف منذ بدايات المسيحية ذاتها، ابتداءً من خدمة يسوع. نعم كان التلاميذ الأكثر قربًا من يسوع ـ الحواريين الاثنى عشر ـ جميعهم من الرجال، وهو المتوقع من معلّم يهودي في فلسطين في القرن الأول. إلا أن أناجيلنا المبكرة تشير إلى أن يسوع أيضًا كان يرافقه نساء في أثناء رحلاته، وأن بعضًا من هؤلاء النسوة كنّ من الداعمات له ولتلاميذه من الناحية الماليَّة، حيث عملن كمساعدات له أثناء تجواله للقيام بعمله التبشيري (انظر مرقس 15: 40 -51، لوقا 8: 1-3). يقال لنا إن يسوع قد انخرط في حوار علني مع بعض النسوة وأنه بشَّرهن علانية (مرقس 7: 24 – 30؛ يوحنا 4: 1- 42). ويقال لنا، على وجه الخصوص، إن النسوة رافقن يسوع أثناء رحلته الأخيرة إلى أورشليم، حيث كنَّ حاضرات عند صلبه وحيث بقين، وحدهنّ، على ولائهنَّ له حتى النهاية في الوقت الذي فرّ فيه التلاميذ الذكور (متى 27: 55؛ مرقس 15: 40- 41). الأهم من هذا كله هو أنَّ كل إنجيلٍ من أناجيلنا يشير إلى أنَّ النسوة ـ مريم المجدلية وحدها، أو مع رفيقاتها الأخريات ـ هن اللاتي اكتشفن قبره الفارغ وهكذا كنّ أولَ من عرفن وشهِدن على قيامة يسوع من بين الأموات (متى 28: 1-10؛ مرقس 16: 1- 8؛ لوقا 23: 55 – 24: 10؛ ويوحنا 20: 1-2).
وإنه لأمر مثير أن نسأل عن ماهية الرسالة التي قدمها يسوع فجذبت النسوة على وجه الخصوص. معظم العلماء يعتقدون أن يسوع أعلن عن مملكة الله المزمع أن تأتي، والتي لن يكون ثمة ظلم فيها ولا معاناة ولا شرّ، والتي فيها كل الناس، الأغنياء منهم والفقراء، العبيد والأحرار، الرجال والنساء، سيكونون متساويين. يبدو جليًّا أنَّ هذا كان أمرا جذَّابًا على نحو مخصوص كرسالة أمل للذين كانوا محرومين ـ مثل الفقراء، المرضى، المنبوذين.... والنساء(118) في هذا العصر.
على أية حال، من الواضح أنه حتى بعد موته، استمرت رسالة يسوع في جذبها للنساء. بعض الخصوم القدماء للمسيحية من بين الوثنيين، بمن فيهم سيلزس، على سبيل المثال، الناقد الذي عاش في أواخر القرن الثاني والذي ذكرناه من قبل، انتقد الديانة المسيحية على خلفية أن أتباعها في الغالب كانوا من الأطفال والعبيد والنساء (أي من هؤلاء الذين لم يكونوا في الغالب يتمتعون بمركز اجتماعي داخل المجتمع). الغريب أنَّ أوريجانوس، الذي كتب الرد المسيحي على سيلزس، لم ينكر التهمة لكنَّه حاول أن يحوَِّلها ضد سيلزس في محاولة لإظهار أن الله يستطيع أن يأخذ ما هو ضعيف وأن يكسوه بالقوة.
لكننا لسنا بحاجة إلى الانتظار حتى قدوم أواخر القرن الثاني لكي نرى أنَّ النساء لعبن دورًا رئيسًا في الكنائس المسيحية المبكرة. لدينا بالفعل معرفة واضحة بهذا الأمر من الكاتب المسيحي القديم الذي نجت أعماله من الضياع، بولس الرسول. الرسائل البولسية التي يتضمنها العهد الجديد تقدم دليلا ثريًّا على أنَّ النساء تبوَّأْن مكانة مميَّزة في المجتمعات المسيحية الناهضة وذلك منذ أقدم الأزمنة. ربما ننظر، على سبيل المثال، إلى رسالة بولس إلى أهل رومية، التي يرسل في نهايتها تحياته إلى أعضاء عديدين من الكنيسة الرومانية (الفصل 16). على الرغم من أنَّ بولس يذكر هنا أسماء عدد أكبر من الرجال في مقابل النساء، إلا أنه من الواضح أنَّ النساء لم يكن ينظر إليهن على الإطلاق باعتبراهنَّ أدنى مرتبةً من نظرائهنَّ الذكور في داخل الكنيسة. من بين من يذكرهن بولس، على سبيل المثال، «فيبي» التي كانت شماسة (deacon) (أو قسيسة) فِي كَنْخَرِيَا، والمساعدة الخاصة لبولس، والتي أولاها ثقته في القيام بمهمة حمل رسالته إلى رومية (الأعداد 1-2). وهناك أيضا فريسكا التي كانت، مع زوجها أكيلا، مسئولة عن العمل التبشيري بين الأمم وكانا يدعمان كنيسة مسيحية في بيتهما (رومية 16: 3-4: ولاحظوا أنها ذكرت أولا وقبل زوجها). ثم هناك مريم، زميلة بولس التي تعمل بين الرومانيين (العدد 6)؛ وهناك أيضا النساء «تريفينا» و«تريفوسا»، و«برسيس»، اللاتي يطلق عليهن بولس «شركاء العمل» في الإنجيل (العددين 6، 12). وهناك جوليا وأم روفس وأخت نيريوس، وكلهنَّ فيما يبدو كان لهنَّ مكانةً عالية داخل الجماعة (العددين 13، 15). الأكثر إثارة للدهشة، وجود يونياس، المرأة التي يدعوها بولس «قبلي بين الرسل» (العدد 7). جماعة الرسل كانت كما هو واضح أوسع من قائمة الاثني عشر رجلا المشهورين لدى معظم الناس.
النساء، باختصار، يبدو أنهنَّ لعبن دورًا هامًّا في الكنائس في عصر بولس. هذه المكانة العالية إلى حد ما لم تكن بالأمر المألوف في العالم اليوناني الروماني. وربما تكون هذه المكانة قد ترسخَّت، كما أعتقد، بإعلان يسوع أنَّ المملكة المزمع أن تأتي ستعتمد المساواة بين الرجال والنساء. كانت هذه، فيما يبدو، هي كذلك رسالة بولس كما يمكن أن نلحظ، على سبيل المثال، في إعلانه الشهير لأهل غلاطية:
لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ (غلاطية 3: 27-28)
المساواة في المسيح ربما تجسدت في طقوس العبادة الفعلية للجماعات التي أقامها بولس. فبدلا من التزام الصمت كـ «سامعين للكلمة»، يبدو أن النساء شاركن بنشاط في اللقاءات الأسبوعية للجماعة، حيث شاركن، على سبيل المثال، بالصلاة والتنبؤ تمامًا كما كان الرجال يفعلون (1 كور 11-4 ,5).
في الوقت ذاته، بحسب المفسرين المعاصرين، يبدو أنَّ بولس لم يصل برؤيته للعلاقة بين الرجال والنساء في المسيح إلى الحد الذي يمكن أن نظنه كنتيجة منطقية لهذه العلاقة. فلقد أمر بالفعل، على سبيل المثال، أن تغطي النساء رؤوسهن عندما يتنبأن ويصلين في الكنيسةلكي يظهرن كـ «خاضعات لسلطان» (1كور 11: 3-16، خاصة العدد 10). بولس، بكلمات أخرى، لم يثر انقلابا اجتماعيًّا في العلاقة بين الرجال والنساء ـ مثلما لم يدع إلى إلغاء العبوديّة، على الرغم من أنه ادّعى أنه ليس ثمّ «عبدٌ ولا حرٌّ «في المسيح. بل أصرّ بدلا من ذلك على أنه ما دام «الوقت قليل «(قبل مجئ المملكة)، فإنَّ كل إنسان ينبغي أن يكون راضيًا عن الأوضاع المستقرة وأنه ينبغي أن لا يسعى أحدٌ ما إلى تغيير وضعه الاجتماعي ـ سواء أكان عبدًا أم حرًّا، متزوجا أم أعذبا، ذكرًا أم أنثى (1كور 7: 17 – 24).
في أفضل الأحوال، إذن، يمكن النظر إلى هذا باعتباره موقفًا متضاربًا تجاه دور النساء: فلقد كنَّ متساويات في المسيح وكان مسموحًا لهنَّ أن يشاركن في حياة الجماعة، ولكن باعتبارهن نساءً، لا رجالا (فلم يكُنّ، على سبيل المثال، قادرات على نزع أغطية رؤوسهن ليتساوين مع الرجال، أي في أن رؤوس الرجال ليست خاضعة «لسلطان»). هذه الازدواجية من جانب بولس كان لها أثرٌ مثيرٌ للدهشة على دور النساء داخل الكنائس فيما تلى العصر الذي عاش فيه. ففي بعض الكنائس تمَّ التأكيد على المساواة في المسيح؛ في البعض الآخر كانت الضرورة تتطلب أن تظل النساء خاضعاتٍ للرجال. وهكذا في بعض الكنائس، اضطلعت النساء بأدوار قيادية شديدة الأهمية؛ وفي البعض الآخر، شحُبَت أدوارهن وأُخرِسَت أصواتُهنّ. إذا قرأنا الوثائق المتأخرة المرتبطة بالكنائس التي أقامها بولس، بعد موته، يمكننا أن نرى أنَّ النزاعات قد اندلعت حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه النساء؛ في النهاية كان ثمة جهود تبذل لقمع دور النساء في الكنائس تمامًا.
يتضح هذا من إحدى الرسائل التي نسبت إلى بولس. أصبح العلماء اليوم بشكل عام على قناعة من أنَّ الرسالة الأولى إلى تيموثاوس لم يكتبها بولس بل كتبها واحدٌ من أتباعه المتأخرين من الجيل الثاني من تلامذته (119). في هذه الرسالة، في فقرة من الفقرات غير المشهورة التي تتناول النساء في العهد الجديد، يقال لنا إنَّ النساء يجب أن لا يسمح لهنَّ أن يعلمن الرجال لأنهن خلقن أقل شأنا، كما أشار إلى ذلك الله ذاته في الشريعة، حيث خلق الله حواء الثانية في الترتيب من أجل الرجل؛ وأنَّ امرأة (في إشارة إلى حواء) يجب أن لا تتسلط على رجل (في إشارة إلى آدم) من خلال قيامها بالتعليم. علاوة على ذلك، وفقا لهذا المؤلف، كلُّ إنسانٍ يعرف ما يحدث عندما تتولى امرأة القيام بدور المعلم: يغويها (الشيطان) بلا شك وتقود الرجل إلى الضلال. لذلك فعلى النساء أن يبقين في المنزل وأن يحافظن على القيام بأعمال البر التي تناسب المرأة، من إنجاب الأطفال لأزواجهن والالتزام بالتعقل. أو كما يقول النص ذاته:
لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ. وَلَكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي التَّعَدِّي، وَلَكِنَّهَا سَتَخْلُصُ بِوِلاَدَةِ الأَوْلاَدِ، إِنْ ثَبَتْنَ فِي الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْقَدَاسَةِ مَعَ التَّعَقُّلِ (1تيموثاوس 2: 11 -15)
ياله من فرق شاسع بين هذا وبين رؤية بولس أنه «في المسيح... ليس ثمة ذكر أو أنثى» وكلما تحركنا باتجاه القرن الثاني، إذ بخطوط المعركة تبدو مرسومة على نحوٍ أوضح. فهناك بعض الجماعات المسيحية التي تؤكد على أهمية النساء وتسمح لهن بالاضطلاع بأدوار بارزة داخل الكنيسة، وهناك آخرون يؤمنون بأن النساء ينبغي أن يحافظن على صمتهن وخضوعهن لرجال الجماعة.
النساخ الذين كانوا يقومون بنسخ النصوص التي أصبحت فيما بعد الكتاب المقدس كانوا بصورة واضحة مشاركين في هذه الصراعات. وأحيانا كانت هذه الصراعات تترك أثرا على النص الذي ينسخ، حيث غُيِّرَت فقرات لكي تعكس وجهات نظر النساخ الذين كانوا يعيدون إنتاجها. تقريبا في كل موضع يحدث فيه تغير من هذا النوع، يتعرض النص للتغيير لكي يحد من دور المرأة ولتقليل أهميتها بالنسبة للحركة المسيحية.
في هذا الجزء يمكننا أن نرصد بعض الأمثلة القليلة.
التحريفات النصية المتعلقة بالنساء
واحدة من أهم الفقرات التي تتعلق بالنقاش الحالي حول دور النساء في الكنيسة نجده في 1 كورنثيوس الإصحاح 14. كما هو الحال في معظم ترجماتنا الإنجليزية الحديثة، تُقرأ الفقرة على النحو التالي:
لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلَهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلَهُ سَلاَمٍ كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ. لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا. وَلَكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئًا فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي الْبَيْتِ لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ. أَمْ مِنْكُمْ خَرَجَتْ كَلِمَةُ اللهِ؟ أَمْ إِلَيْكُمْ وَحْدَكُمُ انْتَهَتْ؟
تبدو الفقرة كأمر واضح وصريح للنساء بأن لا يتكلمن (فضلا عن أن يعلِّمن!) داخل الكنيسة، تماما مثلما هو الحال مع الفقرة الموجودة في 1تيموثي الإصحاح 2. معظم العلماء، كما رأينا، على قناعة بأن بولس لم يكتب هذه الفقرة الواردة في 1 تيموثي وذلك لأنها جزء من رسالة تبدو وكأنها قد كتبت بمعرفة أحد أتباع بولس من الجيل الثاني ثمَّ نسبت إلى بولس. ورغم أنَّ أحدًا لا يشك أنَّ بولس، مع ذلك، قد كتب الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. إلا أنَّ ثمة شكوكًا تحوم حول هذه الفقرة فحسب. لأنَّ العددين موضع البحث (أعني العددين 34، 35)، كما سيتضح، تغيَّر موضعهما في بعض من شواهدنا النصية الهامة. ففي مخطوطات يونانية ثلاث وشاهدين اثنين لاتينيين، نجدهما لا في هذا الموضع، بعد العدد 33، وإنما في موضع مـتأخر بعد العدد 40. هذا ما دعا بعض العلماء للافتراض بأنَّ هذه الأعداد لم يكتبها بولس وإنما كانت في الأصل نوعًا من الهوامش أضيفت بمعرفة أحد النساخ، ربما تحت تأثير الأعداد في 1 تيموثي الإصحاح 2. بعد ذلك أدخل هذا الهامش في مواضع مختلفة من النص عبر نسَّاخٍ متعددين ـ البعض يضع هذا الهامش بعد العدد 33 والآخرون بعد العدد 40.
هناك أسباب معقولة تجعلنا نعتقد أنَّ بولس لم يكتب هذه الأعداد أصلا. فأولا، هذه الأعداد غير منسجمة مع سياقها المباشر. ففي هذا الجزء من الإصحاح 14 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، يشير بولس إلى قضية التنبُّوء في الكنيسة ويعطي تعليمات للأنبياء المسيحيين بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها سلوكهم أثناء طقوس العبادة المسيحية. هذا هو موضوع الأعداد من 26 إلى 33، وهو مرة أخرى موضوع الأعداد من 36 إلى 40. فلو أننا حذفنا العددين 34 و35 من سياقهما، فإن تدفق الفقرة سيبدو سلسًا باعتباره حديثًا عن دور الأنبياء المسيحيين. وحينها يبدو الحديث عن النساء وكأنه حشر في سياق النص المباشر يقطع التعاليم التي يعطيها بولس بخصوص قضية أخرى مختلفة.
هذان العددان لا يبدو أنهما فقط محشوران في سياق الإصحاح 14، بل إنهما يبدوان أيضا غريبين عن ما يقوله بولس بوضوح في كل موضع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. فبولس في موضعٍ سابق خلال هذا السفر، كما ذكرنا بالفعل من قبل، يعطي تعليمات للنساء اللائي يتكلمن داخل الكنيسة: فوفقا للإصحاح 11، فإنهن عندما يصلين ويتنبأن ـ وهي الأعمال التي كانت دائما ما تتمُ بصوتٍ عالٍ خلال إقامة طقوس العبادة المسيحية ـ فإنه يتوجَب عليهن أن يكنَّ متأكداتٍ من ارتدائهن للحجاب على رؤوسهن (11: 2-16). في هذه الفقرة، التي لا يرتاب أحدٌ في صحة نسبتها إلى بولس، من الواضح أنَّ بولس يدرك أنَّ النساء يستطعن أن يتكلمن، بل ويمارسن الكلام بالفعل داخل الكنيسة. في الفقرة المتنازع عليها في الإصحاح 14، مع ذلك، من الواضح أن «بولس» * يحرِّم على النساء أن يتكلمن مطلقًا. من الصعب التوفيق بين وجهتيِّ النظر المختلفتين هاتين ـ فإما أن بولس يسمح للنساء بالكلام (مع تغطية رؤوسهن، كما في الإصحاح 11) أو لا يسمح بذلك (الإصحاح 14). وكما يبدو التفكير بأن بولس سيناقض نفسه سريعا خلال مساحة قصيرة تتكون من ثلاث فصول أمرًا غير منطقي، فيبدو أنَّ بولس ليس هو مصدر هذه الأعداد محل البحث.
وهكذا على أساس جمع الأدلة، العديد من المخطوطات التي تختلف فيها مواضع الأعداد والسياق الأدبي القريب والسياق ضمن الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ككل، يتضح أنَّ بولس لم يكتب الأعداد 1كورنثوس 14: 34-35. كان لزاما على المرء أن يفترض من ثمّ أنَّ هذه الأعداد التي هي تحريف للنص قام به أحد النساخ، كان تحريفها في الأصل في صورة، ربما، ملاحظة مكتوبة في الهامش ثم في النهاية وفي مرحلة مبكرة من مراحل نسخ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، ألحقت بالنص ذاته. التحريف تمَّ بلا شك بمعرفة ناسخ كان معنيًّا بتأكيد أنه لا ينبغي أن يكون ثمة دور عامٌّ تضطلع به النساء داخل الكنيسة، وأنهن ينبغي أن يصمتن وأن يطِعْنَ أزواجهن. وجهة النظر هذه إذن حدث وأن أصبحت جزءًا من النص ذاته عبر تحريف النصوص (120).
يمكننا أن ندرس مثالا آخر للتغييرات التي لحقت بالنص من النوع ذاته ولكن بصورة مختصرة. أحد التغييرات يقع في فقرة ذكرتها من قبل بالفعل، ألا وهي الرسالة إلى أهل رومية الإصحاح 16، حيث يتكلم بولس فيها عن إحدى النسوة، جونيا، ورجل كان فيما يبدو زوجا لها، أندرونيكوس، وكلاهما قال بولس عنهما إنهما «مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ» (العدد 7). هذا العدد شديد الأهمية، لأنه هو الموضع الوحيد في العهد الجديد الذي يشار فيه إلى امرأة باعتبارها واحدة من الرسل. ولقد كان لهذه الفقرة تأثيرًا كبيرًا على المفسرين إلى درجة أنَّ عددًا كبيرًا منهم أصرَّ على أنَّ ما تقوله الفقرة ليس هو معناها الحقيقي، لذلك ترجموا الفقرة باعتبارها تشير لا إلى امرأة تدعى جونيا وإنما إلى رجل يسمى جونياس، الذي أُثنِي عليه جنبا إلى جنب مع رفيقه أندرونيكوس باعتباره رسولا (apostle). العقبة التي تقف أمام هذه الترجمة هي أنه في الوقت الذي كانت فيه جونيا اسما نسويًّا شائعًا، فإن «جونياس» لا دليل في العالم القديم على أنه كان اسمًا لرجل. إنَّ بولس يشير إلى امرأة تدعى جونيا، وذلك على الرغم من أنه في بعض الترجمات الحديثة الإنجليزية للكتاب المقدس (ربما تريدون أن ترجعوا إلى نسختكم الخاصة للتأكد!) يواصل المترجمون الإشارة إلى هذه المرأة التي كانت من بين الرسل كما لو أنها كانت رجلا يدعى جونياس (121).
بعض النساخ أيضا كان لديهم صعوبة في وصف هذه المرأة المجهولة بالرسولة، ولذلك قاموا بإحداث تغيير بسيط للغاية في النص للتحايل على المشكلة. في بعض مخطوطاتنا، بدلا من أن تقول «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي، «نجد أن النص قد تغير لكي تسهل ترجمته أكثر: «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ؛ وأيضا على الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي». مع وجود هذا التغيير الذي تعرض له النص، لم يعد المرء في حاجة إلى أن يقلق بشأن المرأة التي ذكرت بين العصبة الرسولية المكونة من الذكور!
تغيير مشابه وقع بمعرفة بعض النساخ الذين قاموا بنسخ سفر الأعمال. ففي الإصحاح رقم 17 نحاط علمًا بأن بولس ورفيقه في التبشير «سيلا» قضوا وقتا في تسالونيكي يدعون اليهود الموجودين في المعبد المحلي إلى الإيمان بإنجيل المسيح. يقال لنا في العدد 4 إن الاثنين لاقا بعضًا من النجاح الباهر في تحويل الناس إلى الإيمان: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
فكرة أن هؤلاء النسوة كن متقدمات، ناهيك عن التحولات الهامة إلى الإيمان التي حدثت على أيديهما، كانت أكثر مما يحتمل بالنسبة لبعض النساخ، ولذلك حدث وأن تعرض النص للتغيير في بعض المخطوطات، لكي يقال لنا الآن: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ زوجات الرجال الْمُتَقَدِّمين عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ» الآن أصبح الرجال هم المتقدمون، وليس النسوة اللاتي تحولن إلى الإيمان.
من بين رفاق بولس في سفر الأعمال كان ثمة زوج وامرأته يسميان «أكيلا» و«بريسكلا»؛ وهماعند ذكرهما في بعض الأحيان، يقدم المؤلف اسم الزوجة أولا، كما لو كانت تتمتع برتبة أعلى سواء من ناحية القرابة أو داخل المهمة التبشيريَّة المسيحية (كما يحدث في رومية 16: 3 كذلك، حيث يطلق عليها اسم بريسكا). ليس أمرًا مثيرًا للاستغراب إذن أن يبدي النساخ أحيانًا امتعاضهم بسبب هذا الترتيب ومن ثمَّ يقومون بعكسه حتى يحصل الرجل على ما يستحقه من مكانة عبر ذكر اسمه أولا: أكيلا وبريسكلا بدلا من بريسكلا وأكيلا (122).
باختصار، كان ثمة نزاعات في القرون الأولى للكنيسة حول دور النساء، وعند اللزوم كانت هذه النزاعات تتسلل إلى عملية نسخ نصوص العهد الجديد ذاته، حيث غيَّر النساخ أحيانًا نصوصهم ليجعلوها تتوافق بصورة أكبر مع مفهومهم الخاص عن الدور (المحدود) للنساء داخل الكنيسة.

يتــــبع بإذن الله

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22