عرض مشاركة واحدة
قديم 22-06-2014 ~ 07:21 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: الفوائد للامام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


[45] (فائدة)
هجر القرآن أنواع
أحدهما: هجر سماعه والايمان به والاصغاء اليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه, وان قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم اليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين,, وأن أدلته لفظية لا تحصّل العلم.
والرابع: هجر تدبّره وتفهّمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي في جميع أمراض القلوب وأدوائها, فيطلب شفاء دائه من غيره, ويهجر التداوي به, زكل هذا داخل في قوله :{ وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} الفرقان 30. وان كان بعض الهجر أهون من بعض.
وكذلك الحرج الذي في الصدر منه.
فانه تارّة يكون حرجا من انزاله وكونه حقا من عند الله.
وتارة يكون من جهة المتكلم به, أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته ألهم غيره أن تكلم به.
وتارة يكون من جهة كفايتها وعدمها وأنه لايكفي العباد, با هممحتاجون معه الى المعقولات والأقيسة, أو الآراء أو السياسات.
وتارة يكون من جهة دلالته, وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب, أو أريد بها تأويلها, واخراجها عن حقائقها الى تأويلات مستكرهة مشتركة.
وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وان كانت مرادة, فهي ثابتة في نفس الأمر, أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة.
فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن, وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم. ولا تجد مبتدعا في دينه قط الا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته. كما أنك لا تجد ظالما فاجرا الا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين ارادته.
تدبّر هذا المعنى ثم ارضى لنفسك بما تشاء.
[46] (فائدة)
كمال النفس المطلوب
كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين:
أحدهما: أن يصير هيئة راسخة وصفة لازمة لها.
الثاني: أن يكون صفة كمال في نفسه. فاذا لم يكن كذلك لم يكن كمالا, فلا يليق بمن يسعى في كمال نفسه المنافسة عليه, ولا الأسف على فوته, وذلك ليس الا معرفة بارئها وفاطرها ومعبودها والهها الحق الذي لا صلاح لها ولا نعيم ولا لذة الا بمعرفته, وارادة وجهه, وسلوك الطريق الموصلة اليه, والى رضاه وكرامته. وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة لازمة. وما عدا ذلك من العلوم والارادات والأعمال فهي بين ما لا ينفعها ولا يكملها, وما يعود بضررها ونقصها وألمها, ولا سيما اذا صار هيئة راسخة لها, فانها تتعذب وتألم به بحسب لزومه لها.
وأما الفضائل المنفصلة عنها كالملابس والمراكب والمساكن والجاه والمال, فتلك في الحقيقة عوار أعيرتها مدة, ثم يرجع فيها المعير, فتتألم وتتعذب برجوعه فيها بحسب تعلقها بها, ولا سيما اذا كانت هي في غاية كمالها, فاذا سلبتها أحضرت أعظم النقص والألم والحسرة فليتدبر من يريد سعادة نفسه ولذتها هذه النكتة, فأكثر هذا الخلق انما يسعون في حرمان نفوسهم وألمها وألمها وحسرتها ونقصها من حيث يظنون أنهم يريدون سعادتها ونعيمها.
فلذتها بحسب ما حصل لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك. وحسرتها بحسب ما فاتها من ذلك. ومتى عدم ذلك. ومتى عدم ذلك, وخلا منه, لم يبقى فيه الا القوى البدنية الفسانية, التي بها يأكل ويشرب, وينكح ويغضب, وينال شائر لذاته, ومرافق حياته. ولا يلحقه من جهتها شرف ولا فضيلة, بل خساسة ومنقصة. اذا كان انما يناسب بتلك القوى البهائم ويتصل بجنسها ويدخل في جملتها ويصير كأحدها. وربما زادت في تناولها عليها واختصت دونه بسلامة العاقبة, حقيق أن تهجره الى الكمال الحقيقي الذي لا كمال سواه, وبالله التوفيق.
[47] (فائدة جليلة)
من أصبح وليس همه الا الله تعالى
اذا أصبح العبد وأمسى وليس همه الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها, وحمل عنه كل ما أهمه, وفرغ قلبه لمحبته, ولسانه لذكره, وجوارحه لطاعته. وان أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها! ووكله الى نفسه, فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق, ولسانه عن ذكره بذكرهم, وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم, فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره, كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بل بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطانا فهو له قرين} الزخرف 36. قال سفيان بن عيينة: لا تأتون بمثل مشهور للعرب الا جئتكم به من القرآن. فقال له قائل: فأين في القرآن "أعط أخاك تمرة فان لم يقبل فأعطه جمرة؟" فقال في قوله: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطانا}.
[48] (فائدة)
العلم والعمل وما هما
العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج واثباتها في النفس.
والعمل: نقل صورة علمية من النفس واثباتها في الخارج. فان كان الثابت في النفس مطلقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح. وكثيرا ما يثبت ويتراءى في النفس صورة ليس لها وجود حقيقي, فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علما, وانما هي مقدرة لا حقيقة لها. وأكثر علوم الناس من هذا الباب. وما كان منها مطابقا للحقيقة في الخارج فهو نوعان: نوع تكمل النفس بادراكه والعلم به, وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه. ونوع لا يحصل للنفس به كمال, وهو كل علم لا يضر الجهل به فانه لا ينفع العلم به.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع, جزء من حديث أخرجه مسلم في الذكر والدعاء 4\2088(73),وأبو داود, والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد. وهذا أكثر حال العلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئا, كالعلم بالفلك ودقائقه ودرجاته, وعدد الكواكب ومقاديرها. والعلم بعدد الجبال وألوانها ومسحتها وما نحو ذلك.
فشرف العلم بجسب شرف معلومه وشدة الحاجة اليه. وليس ذلك الا العلم بالله وتوابع ذلك. وأما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه الله ويرضاه, ويكون ذلك من فساد العلم تارّة, ومن فساد الارادة تارّة. ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك, أو يعتقد أنه يقرّبه الى الله وان لم يكن مشروعا, فيظن أنه يتقرب الى الله بهذا العمل, وان لم يعلم أنه مشروع.
وأما فساده من جهة القصد فانه لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة, بل يقصد به الدنيا والخلق.
وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل الى السلامة منهما الا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وارادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والارادة. فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الارادة فسد علمه وعمله.
والايمان واليقين يورثان صحة المعرفة وصحة الارادة, وهما يورثان الايمان ويمدانه. ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الايمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الارادة.
ولا يتم الايمان الا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة, وتجريد الارادة عن شوائب الهوى وارادة الخلق, فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحي, وارادته لله والدار الآخرة, فهذا أصح الناس علما وعملا وهو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله ومن خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته.
[49] الايمان له ظاهر وباطن
الايمان له ظاهر وباطن, وظاهرة قول اللسان وعمل الجوارح. وباطنة تصديق القلب وانقياده ومحبته. فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء وعصم به المال والذريّة, ولا يجزىء باطن لا ظاهر له الا اذا تعذّر بعجز أو اكراه أو خوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوّه من الايمان, ونقصه دليل نقصه, وقوته دليل قوته.
فالايمان قلب الاسلام ولبه. واليقين قلب الايمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الايمان واليقين قوة فمدخول, وكل ايمان لا يبعث على العمل فمدخول. (فيه رد على المتصوفة الذين يقولون بالشريعة والحقيقة ويفصلون بينهما وفيه كذلك رد على الشيعة الذين يقولون بالتقية).
[50] (قاعدة)
التوكل على الله نوعان
أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية, أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني: التوكل على الله في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الايمان واليقين والجهاد والدعوة اليه.
وبين النوعين من الفضل مالا يحصيه الا الله. فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا, لكن لا يكون له علقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه.
فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية, وتجريد التوحيد, ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وجهاد أهل الباطل, فهذا توكل الرسل وخاصّة أتباعهم.
والتوكل تارة يكون توكل اضطرار والجاء, بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا أزرا الا التوكل, كما اذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ من الله الا اليه, وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة. وتارة يكون توكل اختيار, وذلك التوكل مع وجود السبب المفضى الى المراد, فان كان السبب مأمور به ذم على تركه. وان قام بالسبب, وترك التوكل, ذم على تركه أيضا, فانه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن, والواجب القيام بهما, والجمع بينهما. وان كان السبب محرما, حرم عليه مباشرته, وتوحد السبب في حقه في التوكل, فلم يبق سبب سواه, فان التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد, ودفع المكروه, بل هو أقوى الأسباب على الاطلاق.
وان كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فان أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى, وان لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب فلا تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها, ولا سيما اذا فعلته عبودية, فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل, وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. والذي يحقق التوكل القيام بالأسباب المأمور بها, فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية الى حصول الخير يحقق رجاءه, فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيّا, كما أن من عطّلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا.
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده, فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد والركون اليها, كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله, مع اعتماده على غيره وركونه اليه وثقته به, فتوكل السان شيء وتوكل القلب شيء آخر, كما أن توبة اللسان مع اصرار القلب شيء, وتوبة القلب وان لم ينطق اللسان شيء آخر. فقول العبد: توكلت على الله, مع اعتماد قلبه على غيره, مثل قوله: تبت الى الله, وهو مصر على معصيته مرتكب لها.
[51] (فائدة)
شكوى الجاهل من الله
الجاهل يشكو الله الى الناس, وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو اليه, فانه لو عرف ربه لما شكاه, ولو عرف الناس لما شكا اليهم. ورأى بعض السلف رجلا يشكو الى رجل فاقته وضرورته, فقال: يا هذا, والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك الى من لا يرحمك, وفي ذلك قيل:
واذا شكوت الى ابن آدم انما تشكو الرحيم الى الذي لا يرحم
والعارف انما يشكو الى الله وحده. وأعرف العارفين من جعل شكواه الى الله من نفسه لا من الناس, فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه, فهو ناظر الى قوله تعالى:{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} الشورى 30, وقوله:{وما أصابك من سيئة فمن نفسك} النساء 79, وقوله:{ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم} آل عمران 165.
فالمراتب ثلاثة: أخسها أن تشكو الله الى خلقه, وأعلاها أن تشكو نفسك الى الله, وأوسطها أن تشكو خلقه اليه.
[52] (قاعدة جليلة)
حول الآية الكريمة
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول}
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه اليه تحشرون} الأنفال 24, فتضمنت هذه الآية أمورا, أحدها: أن الحياة النافعة انما تحصل بالاستجابة له ورسوله, فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له, وان كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياةالحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء وان ماتوا, وغيرهم أموات وان كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة وأكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم, فان كل ما دعا اليه ففيه الحياة, فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة, وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال مجاهد: {لما يحييكم} يعني للحق, وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الاسلام أحياهم بعد موتهم بالكفر. وقال ابن اسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير: واللفظ له:{لما يحييكم} يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل, وقوّاكم بعد الضعف, ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. كلها من ابن كثير 2\297. وكل هذه عبارات عن حقيقة واحدة وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا.
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله:{ لما يحييكم} هو الجهاد. وهو قول ابن اسحاق واختيار أكثر أهل المعاني.
قال الفراء: اذا دعاكم الى احياء أمركم بجهاد عدوكم يريد انما يقوي بالحرب والجهاد, فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم.
قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد.
وأما في البرزخ فقد قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} آل عمران 169.
وأما في الآخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم. ولهذا قال تبن قتيبة: {لما يحييكم} يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين: { لما يحييكم} يعني الجنة. فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني.
والآية تناول هذا كله, فان الايمان والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة, والرسول داع الى الايمان والى الجنة, فهو داع الى الحياة في الدنيا والآخرة. والانسان مضطر الى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضرّه. ومتى نقصت فيه هذه ناله من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك. وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد والهوى والضلال, فيختار الحق على ضده. فتفيد هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والارادات والأعمال. وتفيد قوة الايمان والارادة والحب للحق, وقوة البغض والكراهة للباطل.
فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة, كما أن البدن الحي يكون شعوره واحساسه بالنافع والمؤلم أتم, ويكون ميله الى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم. فهذا بحسب حياة البدن, وذاك بحسب حياة القلب. فاذا بطلت حياته بطل تمييزه. وان كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار. كما أن الانسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك, الذي هو رسول الله (الملك الذي ينفخ الروح في الانسان بأمر الله), من روحه, فيصير حيا بذلك النفخ. وكان قبل ذلك من جملة الأموات. وكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى اليه, قال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} النحل2, وقال :{ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} غافر 15, وقال:{ وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} الشورى 52. فأخبر أن وحيه روح ونور, فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي, فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان.
ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له احدى الحياتين وفاتته الأخرى, قال تعالى:{ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}الأنعام 122, فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابن عباس وجميع المفسرين: كان كافرا ضالا فهديناه. تفسير ابن كثير 2\172.
وقوله:{ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} يتضمن أمورا:
أحدهما: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة, فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق. وآخر معه نور يمشي في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها.
وثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم الى النور.
وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط اذا بقي أهل الشرك والنفاق في الظلمات شركهم ونفاقهم.
وقوله:{ اعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} الأنفال 24. المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين الايمان. ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته, وبين أهل معصيته وبين طاعته, وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين.
وفي الآية قول آخر أن المعنى أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية, فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة, وكان هذا أنسب بالسياق, لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب, فان الله سبحانه بين العبد وبين قلبه فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه.
وعل القول الأول, فوجه المناسبة أنكم ان تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن يحول الله بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته, فيكون قوله:{ ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الأنعام 110. وقوله:{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} الصف 5. وقوله:{ فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل} الأعراف 101. ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وان استجاب بالجوارح.
وفي الآية سر آخر: وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به, وهو الاستجابة, وبين القدر والايمان به, فهي كقوله تعالى: { لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاءون الا أن يشاء الله رب العالمين} التكوير 28,29, وقوله:{ فمن شاء ذكره. وما يذكرون الا أن يشاء الله} المدثر55,56, والله أعلم.
[53] (فائدة جليلة)
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}
قوله تعالى:{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} البقرة 216, وقوله عزّ وجلّ:{ فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} النساء 19. فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية خشية على نفسه منه, والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية.
فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه, وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده, ويجب الموادعة والمتاركة, وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده.
وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في امساكها خير كثير لا يعرفه. ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله في امساكها شر كثير لا يعرفه. فالانسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول, فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضرّه وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه, بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.
فأنفع الأشياء له على الاطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه, وأضر الأشياء عليه على الاطلاق معصيته بظاهره وباطنه, فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكره يكون خيرا له, واذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له. فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته, علم يقينا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التيلا يحصيحا علمه وفكره, بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب.
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها, كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها. فانظر الى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والاصلاح حتى أثمرت أشجارها, فأقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليّت على حالها لم تطب ثمرتها, فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة, حتى اذا اتحدت بها والتحمت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها, ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها, لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك. ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت, بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا, ولا يترك عليها الماء دائما وان كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها. ثم يعمد الى تلك الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيرا منها, لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه. فهو يقطع أعضاءها بالحديد, ويلقي عنها كثيرا من زينتها, وذلك عين مصلحتها. فلو أنها ذات تمييز وادراك كالحيوان, لتوهمت أن ذلك افساد لها واضرار بها, وانما هو عين مصلحتها.
وكذلك الأب الشفيق على ولده العالم بمصلحته, اذا رأى مصلحته في اخراج الدم الفاسد عنه, بضع جلده وقطع عروقه وأذاقه الألم الشديد. وان رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه (أي قطعه), كل ذلك رحمة به وشفقة عليه. وان رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه, لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب الى فساده وهلاكه. وكذلك يمنعه كثيرا من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلا عليه.
فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين, الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم, اذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله بهم, نظرا منه لهم واحسانا اليهم ولطفا بهم, ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وارادة وعملا, لكنه سبحانه تعالى تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته, أحبوا أم كرهوا, فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه, وخفى ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته, فنازعوه تدبيره, وقدحوا في حكمته, ولم ينقادوا لحكمه, وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة, فلا لربهم عرفوا, ولا لمصالحهم حصلوا, والله الموفق.
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها الا نعيم جنة الآخرة, فانه لا يزال راضيا عن ربه, والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين, فانه طيب النفس بما يجري عليها من المقادير التى هي عين اختيار الله له, وطمأنينته الى أحكامه الدينية, وهذا هو الرضا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا. وما ذاق طعم الايمان من لم يحصل له ذلك. وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره, فكلما كان بذلك كان به أرضى. فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة, لا يخرج عن ذلك البتة كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " اللهم اني عبدك, ابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك, عدل في قضاؤك, أسألك بكل اسم هو لك, سميت به نفسك, أو أنزلته في كتابك, أو علّمته أحدا من خلقك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همي وغمي, ما قالها أحد قط الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجا". قالوا: أفلا نتعلمهن يا رسول الله؟ قال: " بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن.", أخرجه أحمد في المسند 1\391,452, وابن السني في عمل اليوم والليلة ص104 رقم 339,340, وغيرهم.
والمقصود قوله "عدل فيّ قضاؤك", وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك, فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب وهو عدل في هذا القضاء. وهذا القضاء خير للمؤمن كم قال صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء الا كان خيرا له, وليس ذلك الا للمؤمن." أحمد في المسند 3\117,184, عن أنس بن مالك.
قال العلامة ابن القيم: فسألت شيخنا "الامام الجليل ابن تيمية" هل يدخل في ذلك قضاء الذنب؟ فقال: نعم بشرطه, فأجمل في لفظة "بشرطه" ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك.
[54] (فائدة)
الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا
لا تتم الرغبة في الآخرة الا بالزهد في الدنيا, ولا يستقيم الزهد في الدنيا الا بعد نظرين صحيحين:
النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخسّتها, وألم المزاحمة عليها والحرص عليها, وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد, وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف, فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها, وهم في حال الظفر بها, وغم وحزن بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.
(النظر الثاني) في الآخرة واقبالها ومجيئها ولا بد, ودوامها وبقائها, وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ها هنا فهي كما قال سبحانه:{ والآخرة خير وأبقى} الأعلى 17. فهي خيرات كاملة دائمة, وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة. فاذا تم له هذين النظران آثر ما يقتضي العقل ايثاره, وزهد فيما يقتضي الزهد فيه. فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة الى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة, الا اذا تبين الفضل له, واما لعدم رغبته في الأفضل, وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الايمان وضعف العقل والبصيرة. فان الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها اما أن يصدّق بأن هناك أشرف وأفضل وأبقى, واما أن لا يصدّق, فان لم يصدق بذلك كان عادما للايمان رأسا, وان صدّق ذلك كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه. فايثار الدنيا على الآخرة اما من فساد الايمان, واما من فساد العقل. وما أكثر ما يكون منهما. ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم, واطرحوها ولم يألفوها, وهجروها ولم يميلوا اليها, وعدّوها سجنا لا جنّة. فزهدوا فيها حقيقة الزهد, ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولوصلوا منها الى كل مرغوب. فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردّها, وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها, وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر, وأنها دار عبور لا دار سرور, وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل, وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن الرحيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مالي وللدنيا, انما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها" أخرجه الترمذي في الزهد 4\508(2377), وابن ماجه وأحمد والسيوطي. وقال:" ما الدنيا في الآخرة الا كما يدخل أحدكم اصبعه في اليم فلينظر بما ترجع". أخرجه مسلم في الجنة 4\2193 رقم 55 [2858], والترمذي وابن ماجه.
وقال خالقها سبحانه: {انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى اذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكّرون * والله يدعو الى دار السلام ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم} يونس 24,25, فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها, وأخبر عن دار السلام ودعا اليها.
وقال تعالى:{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} الكهف 45,46.
وقال تعالى:{ اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور} الحديد 20.
وقال تعالى:{ زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} آل عمران 14,15.
وقال تعالى:{ وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة الا متاع} الرعد 26.
وقد توعّد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضى بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه, فقال:{ ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} يونس 7,8.
وعيّر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين, فقال: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم الى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الدنيا في الآخرة الا قليل} التوبة 38.
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة, ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى:{ أفرأيت ان متّعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتّعون} الشعراء 205-207.
وقوله:{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} يونس 45.
وقوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك الا القوم الفاسقون} الأحقاف 35.
وقوله تعالى:{ يسألونك عن الساعة أيّان مرساها . فيم أنت من ذكراها . الى ربك منتهاها . انما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها} النازعات 42-46.
وقوله:{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} الروم 55.
وقوله: { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين * قال ان لبثتم الا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون}المؤمنون 112-114.
وقوله:{ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم ان لبثتم الا عشرا * نحن أعلم بما يقولون اذ يقول أمثلهم طريقة ان لبثتم الا يوما} طه 102-104.
والله المستعان وعليه التكلان.
[55] (قاعدة)
أساس الخير أن تؤمن بما شاءه تعالى
أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن. فتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه, فتشكره عليها, وتتضرّع اليه أن لا يقطعها عنك, وأن السيئات من خذلانه وعقوبته, فتبتهل اليه أن يحول بينك وبينها, ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات الى نفسك. وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد, وكل شر فأصله خذلانه لعبده, وأجمعوا أن التوفيق أن لا يكللك الله الى نفسك, وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك, فاذا كان كل خير فأصله التوفيق, وهو بيد الله لا بيد العبد, فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة اليه. فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له, ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجا دونه.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اني لا أحمل هم الاجابة, ولكن هم الدعاء, فاذا ألهمت الدعاء فان الاجابة معه. وعلى قدر مية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه واعانته. فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم, والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك, فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين, يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به, وهو العليم الحكيم, وما أتي من أتى الا من قبل اضاعة الشكر واهمال الافتقار والدعاء, ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه الا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء. وملاك ذلك الصبر فانه من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد, فاذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد.
******
· ماضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.
· خلقت النار لاذابة القلوب القاسية.
· أبعد القلوب من الله القلب القاسي.
· اذا قسا القلب قحطت العين.
· قسوة القلب من أربعة أشياء اذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالطة. كما أن البدن اذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب, فكذلك القلب اذا مرض بالشهوات لم ينفع فيه المواعظ.
· من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته.
· القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.
· القلوب آنية الله في أرضه, فأحبها اليه أرقها وأصلبها وأصفاها.
· شغلوا قلوبهم بالدنيا, ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت الى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد.
· اذا غذي القلب بالتذكر, وسقي بالتفكّر, ونقي من الدغل, ورأى العجائب وألهم الحكمة.
· ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها, بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى. وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى, فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه.
· خراب القلب من الزمن والغفلة, وعمارته من الخشية والذكر.
· اذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة, واذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد.
· الشوق الى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيا.
· من وطّن قلبه عند ربه, سكن واستراح, من أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق.
· لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا الا كما يدخل الجمل في سم الابرة.
· اذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته.
[56] مرض القلب
القلب يمرض كما يمرض البدن, وشفاؤه في التوبة والحميّة, ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر, ويعرى كما يعرى الجسم, وزينته التقوى, ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن, وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والانابة والخدمة.
ايّاك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمدا ومن كل سواه بد ولا بد لك منه.
[57] ترك الاختيار
من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه أو في خوف نقصان أو في التخلص من عدو, توكلا على الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له, فألقى كنفه بين يديه, وسلم الأمر اليه, ورضي بما يقضيه له, استراح من الهموم والغموم والأحزان.
ومن أبى الا تدبيره لنفسه, وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب, فلا عيش يصفو, ولا قلب يفرح, ولا عمل يزكو, ولا أمل يقوم, ولا راحة تدوم.
والله سبحانه سهّل لخلقه السبيل اليه وحجبهم عنه بالتدبير, فمن رضي بتدبير الله له, وسكن الى اختياره, وسلّم لحكمه, أزال ذلك الحجاب, فأفضى القلب الى ربه, واطمأن اليه وسكن.
[58] المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد على الله ولا يدخر مع الله
· من شغل بنفسه شغل عن غيره, ومن شغل بربه شغل عن نفسه.
· الاخلاص هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه ولا عدو فيفسده ولا يعجب به صاحبه فيبطله.
· الرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام.
· الناس في الدنيا معذّبون على قدر هممهم بها.
· للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة, وثلاثة عالية.
فالسافلة: دنيا تتزين له, ونفس تحدثه, وعدو يوسوس له. فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول بها.
والثلاثة العالية: علم يتبين له, وعقل يرشده, واه يعبده. والقلوب جوّالة في هذه المواطن.
· اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد, فان اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدا, وطول الأمل ينسي الآخرة, ويصد عن الاستعداد لها.
· لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه, أو يداهن غيره.
· اذا أراد الله بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه, ممسكا عن ذنب غيره, جوّادا بما عنده, زاهدا فيما عند غيره, محتملا لأذى غيره, وان أراد به شرا عكس ذلك عليه.
· الهمّة العليّة لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء:
تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وارادة.
وملاحظة لمنة تزداد بتذكره توبة وخشية. فاذا تعلّقت الهمّة بسوى هذه الثلاثة جالت في أودية الوساوس والخطرات.
· من عشق الدنيا نظرت الى قدرها عند فصيرته من خدمها وعبيدها وأذلّته. ومن أعرض عنها نظرت الى كبر قدره فخدمته وذلّت له.
· انما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادّة وسير الليل, فاذا حاد المسافر عن الطريق, ونام الليل كله, فمتى يصل الى مقصده؟
[59] (فائدة جليلة)
قبول فتوى العابد الزاهد في دنياه
كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها, فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه, في خبره والزامه, لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس, ولا سيما أهل الرئاسة. والذين يتبعون الشهوات فانهم لا تتم لهم أغراضهم الا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا, فاذا كان العالم والحاكم محبين للرئاسة, متبعين للشهوات, لم يتم لهما ذلك الا بدفع ما يضاده من الحق, ولا سيما اذا قامت له شبهة, فتتفق الشبهة والشهوة, ويثور الهوى, فيخفى الصواب, وينطمس وجه الحق. وان كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبهة فيه, أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج من التوبة. وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} مريم 59.
وقال تعالى فيهم أيضا:{ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وان يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله الا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} الأعراف 169.
فأخبر سبحانه أنهم أخذوا الغرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا, وان عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك, وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق, فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن حكمه وشرعه ودينه خلاف ذلك, أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه؟ فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون, وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه, وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا, فلا يحملهم حب الرئاسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة. وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة, ويستعينوا بالصبر والصلاة, ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها, والآخرة اقبالها ودوامها, وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيختمع لهم الأمران, فان اتباع الهوى يعمى عين القلب, فلا يميز بين السنة والبدعة, أو ينكسه فيرى البدعة سنة, والسنة بدعة.
فهذه آفة العلماء اذا آثروا الدنيا, واتبعوا الرئاسات والشهوات. وهذه الآيات فيهم الي قوله: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} الأعراف 175-176. فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه.
وتأمّل ما تضمنته هذه الآية من ذمه, وذلك من وجوه:
أحدها: أنه ضل بعد العلم, واختار الكفر على الايمان عمدا لا جهلا.
وثانيها: أنه فارق الايمان مفارقة من لا يعود اليه أبدا, فانه انسلخ من الآيات بالجملة, كما تنسلخ الحية من قشرها, ولو بقي معه منها شيء, لم ينسلخ منها.
وثالثها: أن الشيطان أدركه ولحقه, بحيث ظفر به وافترسه, ولهذا قال: {فأتبعه الشيطان}, ولم يقل تبعه, فان معنى أتبعه أدركه ولحقه, وهو أبلغ من تبعه لفظا ومعنى.
ورابعها: أنه غوي بعد الرشد. والغي: الضلال في العلم والقصد, وهوأخص بفساد القصد والعمل كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد. فاذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر, وان اقترنا فالفرق ما ذكر.
وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه, لأنه لم يرفع به فصار وبالا عليه, فلو لم يكن عالما لكان خيرا له وأخف لعذابه.
وسادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسة همته, وأن اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى.
وسابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس, ولكنه كان عن اخلاد الى الأرض, وميل بكليّته الى ما هناك, وأصل الاخلاد اللزوم على الدوام, كأنه قيل: لزم الميل الى الأرض, ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان اذا لزم الاقامة به, قال مالك بن نويرة (مرتد قتله ضرار بن الأزور):
بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
وعبّر عن ميله الى الدنيا باخلاده الى الأرض, لأن الدنيا هي الأرض وما فيها وما يستخرج منها من الزينة والمتاع.
وثامنها: أنه رغب عن هداه, واتبع هواه, فجعل هواه اماما له, يقتدي به ويتبعه.
وتاسعها: أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيواناتهمة, وأسقطها نفسا, وأبخلها وأشدها كلبا, ولهذا سمي كلبا.
وعاشرها: أنه شبه لهثه على الدنيا, وعدم صبره عنها, وجزعه لفقدها, وحرصه على تحصيلها, بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد, وهكذا. هذا ان ترك فهو لهثان على الدنيا, وان وعظ وزجر فهو كذلك. فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب.
قال ابن قتيبة: كل شيء يلهث فانما يلهث من اعياء أو عطش الا الكلب في حال الكلال (الأكل), وحال الراحة, وحال الري, وحال العطش, فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال: ان وعظته فهو ضال, وان تركته فهو ضال, وان تركته فهو ضال كالكلب ان طردته لهث, وان تركته على حاله لهث. وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب, وانما وقع بالكلب اللاهث, وذلك أخس ما يكون وأشنعه.
[60] احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد الجاهل
فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة, وأما العبد الجاهل فآفته من اعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه. ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: احذروا قتنة العالم الفاجر, وفتنة العابد الجاهل, فان فتنتهما فتنة لكل مفتون, فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه, وذاك بغيّه يدعو الى الفجور.
وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع الآخر بقوله: { كمثل الشيطان اذ قال للانسان أكفر فلما كفر قال اني بريء منك اني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} الحشر 16-17, وقصته معروفة, فانه بنى أساس أمره على عبادة الله بجهل, فأوقعه الشيطان بجهله, وكفّره بجهله. فهذا امام كل عابد جاهل يكفر ولا يدري, وذاك امام كل عالم فاجر, يختار الدنيا على الآخرة.
وقد جعل سبحانه رضى العبد بالدنيا, وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته, وتدبرها والعمل بها, سبب شقائه وهلاكه, ولا يجتمع هذان, أعني الرضا بالدنيا والغفلة عن آيات الرب الا في قلب من لا يؤمن بالمعاد, ولا يرجو لقاء رب العباد, والا فلو رسخ قدمه في الايمان بالمعاد, لما رضي الدنيا, ولا اطمأن اليها, ولا أعرض عن آيات الله.
وأنت اذا تأملت أحوال الناس وجدت هذا الضرب هو الغالب على الناس وهم عمّار الدنيا. وأقل الناس عددا من هو على خلاف ذلك, وهو من أشد الناس غربة بينهم, لهم شأن وله شأن, علمه غير علومهم, وارادته غير ارادتهم, وطريقه غير طريقهم, فهو في واد وهم في واد, قال تعالى: {ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون }يونس 8,7.
ثم ذكر وصف ضد هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله: {ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم }يونس 9.
فهؤلاء ايمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة اليها, ودوام ذكر آياته, فهذه مواريث الايمان بالمعاد, وتلك مواريث عدم الايمان به والغفلة عنه.
[61] (فائدة عظيمة)
العلم الايمان أفضل ما تكسبه النفس ويحصّله القلب
أفضل ما اكتسبته النفوس, وحصلته القلوب, ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة, هو العلم والايمان, ولهذا قرن الله سبحانه بينهما في قوله: { وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث فهذا يوم البعث}الروم 56. وقوله:{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}المجادلة 11, وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه, والمؤهلون للمراتب العالية, ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والايمان اللذين بهما السعادة والرفعة, وفي حقيقتهما. حتى أن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم والايمان هو هذا الذي به تنال السعادة, وليس كذلك بل أكثرهم ايس معهم ايمان ينجي ولا علم يرفع, بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والايمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا اليهما الأمة, وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم.
فكل طائفة اعتقدت أن العلم معها وفرحت به {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} المؤمنون53, وأكثر ما عندهم كلام وآراء وخرص, والعلم وراء الكلام كما قال حمّاد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدّم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر والعلم فيما تقدم أكثر!
ففرق هذا الراسخ بين العلم والكلام. فالكتب كثيرة جدا والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة, والعلم بمعزل عن أكثرها, وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه:{ فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم..} آل عمران 61, وقال:{ لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم..} البقرة 120, وقال في القرآن:{ أنزله بعلمه} النساء166, أي وفيه علمه.
ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس الى أن يتخذوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علما, ووضعوا فيها الكتب, وأنفقوا فيها الأنفاس, فضيعوا فيها الزمان, وملأوا بها الصحف مدادا, والقلوب سوادا, حتى صرح كثير من الناس منهم أنه ليس في القرآن والسنة علم, وأن أدلتهما لفظية لا تفيد يقينا ولا علما. وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم, وأذن بها بين أظهرهم, حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم, فانسلخت بها القلوب من العلم والايمان كانسلاخ الحية من قشرها, والثوب عن لابسه.
قال الامام العلامة شمس الدين ابن القيم: ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن, فقال له: لو حفظت القرآن أولا كان أولى, فقال: وهل في القرآن علم.
قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: اننا نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد منه العلم لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤونة فعمدتنا على ما فهموه وقرروه, ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبطحاء أبعد منزل
قال: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء:
انهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس الطلب, ويكفيك دليلا على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله, ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض, قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} النساء82, وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف, وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده, وكيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الأفكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله, سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخرّاصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري, قال: كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم اذا اجتمعوا انما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم, ليس بينهم رأي ولا قياس. ولقد أحسن القائل:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة, ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا, ولا جحد الصفات ونفيها حذرا من التمثيل والتشبيه
[62] الايمان المفصل معرفة وعلم واقرار ومحبة
وأما الايمان فأكثر الناس, أو كلهم, يدعونه: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} يوسف 103, وأكثر المؤمنين انما عندهم ايمان مجمل, وأما الايمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلما واقرارا ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه, فهذا ايمان خواص الأمة وخاصة الرسول, وهو ايمان صادق وحزبه.
وكثير من الناس حظهم من الايمان الاقرار بوجود الصانع, وأنه وحده هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما, وهذا لم يكن ينكره عبّاد الأصنام من قريش ونحوهم.
وآخرون الايمان عندهم هو التكلم بالشهادتين, سواء كان معه عمل أو لم يكن, وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.
وآخرون عندهم الايمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض وأن محمدا عبده ورسوله وان لم يقره باللسان ولم يعمل شيئا, بل ولو سب الله ورسوله وأتى بكل عظيمة, وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن.
وآخرون عندهم الايمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته ومتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وارادته وحبه وبغضه, وغير ذلك مما وصف به نفسه, ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالايمان عندهم انكار حقائق ذلك كله وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض وينقض بعضهم قول بعض, الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والامام أحمد:
"مختلفون فى الكتاب, مخالفون للكتاب, متفقون على مفارقة الكتاب".
وآخرون عندهم الايمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول.
وآخرون الايمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان, بل ايمانهم مبني على مقدمتين, احداهما: أن هذا قول أسلافنا وأبائنا. والثانية: أن ما قالوه فهو الحق.
وآخرون عندهم الايمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه واحسان الظن بكل أحد وتخلية الناس وغفلاتهم.
وآخرون عندهم الايمان التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها. فاذا رأوا رجلا هكذا جعلوه من سادات أهل الايمان, وان كان منسلخا من الايمان علما وعملا. وأعلى من هؤلاء من جعل الايمان هو مجرد العلم وان لم يقارنه عمل.
وكل هؤلاء لم يعرفوا حقائق الايمان ولا قاموا به ولا قام بهم, وهو أنواع: منهم من جعل الايمان ما يضاد الايمان, ومنهم من جعل الايمان ما لا يعتبر في الايمان, ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله, ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه ويضاده, ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.
والايمان وراء ذلك كله, وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, والتصديق به عقدا, والاقرار به نطقا, والانقياد له محبة وخضوعا, والعمل به باطنا وظاهرا, وتنفيده والدعوة اليه بحسب الامكان وكماله في الحب في الله والبغض في الله, والعطاء لله والمنع لله, وأن يكون الله وحده الهه ومعبوده. والطريق الى تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا, وتغميص عين القلب عن الالتفات الى سوى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وبالله التوفيق.
من اشتغل بالله عن نفسه, كفاه الله مؤونة نفسه, ومن اشتغل بالله عن الناس, كفاه الله مؤونة الناس, ومن اشتغل بنفسه عن الله, وكّله الله الى نفسه, ومن اشتغل بالناس عن الله, وكله الله اليهم.
[63] (فائدة جليلة)
لا مشقة في ترك المألوف ارضاء لله تعالى
انما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله. أما من تركها صادقا مخلصا في قلبه لله فانه لا يجد في تركها مشقة الا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب, فان صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة.
قال ابن سيرين: سمعت شريحا يحلف بالله ما ترك عبدالله شيئا فوجده فقده.
وقولهم:" من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه" حق, والعوض أنواع مختلفة, وأجلّ ما يعوض به الانس بالله ومحبته, وطمأنينة القلب به, وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى.
أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل.
العقول المؤيدة بالتوفيق ترى أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق للعقل والحكمة. والعقول المضروبة بالخذلان ترى المعارضة بين العقل والنقل والحكمة والشرع .
أقرب الوسائل الى الله ملازمة السنة, والوقوف معها في الظاهر والباطن, ودوام الافتقار الى الله, وارادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال, وما وصل أحد الى الله الا من هذه الثلاثة وما انقطع عنه أحد الا بانقطاعه عنها أو عن أحدها.
الأصول التي انبنى عليها سعادة العبد ثلاثة, ولكل واحد منهما ضد, فمن فقد ذلك الأصل حصل على ضده. التوحيد وضده الشرك, والسنة وضدها البدعة, والطاعة وضدها المعصية.
ولهذه الثلاثة ضد واحد: وهو خلو القلب من الرغبة في الله وفيما عنده, ومن الرهبة منه ومما عنده.
[64] (قاعدة جليلة)
قال تعالى:{ وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}الأنعام 55, وقال:{ ومن يشاقق الله والرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى} النساء115. والله نعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصّلة, وسبيل المجرمين مفصّلة, وعاقبة هؤلاء مفصّلة, وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وأولياء هؤلاء, وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء, والأسباب التي وفق بها هؤلاء, والأسباب التي خذل بها هؤلاء, وجلا سبحانه الامرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما, وبيّنهما غاية البيان, حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتاب ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة يفصيلية, وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية, فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل الى مقصوده, والطريق الموصل الى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم, وهم الأدلاء الهداة, وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم الى يوم القيامة.
فانهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة الى الهلاك وعرفوها مفصّلة, ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات الى سبيل الهدى, وصراط الله المستقيم, فخرجوا من الظلمة الشديدة الى النور التم, ومن الشرك الى التوحيد, ومن الجهل الى العلم, ومن الغي الى الرشاد, ومن الظلم الى العدل, ومن الحيرة والعمي الى الهدى والبصائر, فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به, ومقدار ما كانوا فيه. فان الضد يظهر حسنة الضد, وانما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه, ونفرا وبغضا لما انتقلوا عنه, وكانوا أحب الناس للتوحيد والايمان والاسلام وأبغض الناس لضده, عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء من بعد الصحابة, فمنهم من نشأ في الاسلام غير عالم تفصيل ضده, فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين, فان اللبس انما يقع اذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب :" انما تنتقض عرى الاسلام عروة عروة اذا نشأ في الاسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه, فانه اذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فانه من تاجاهلية, فانها منسوبة الى الجهل, وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل.
فمن لم يعرف سبيل المجرمين, ولم تستبن له, أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين, كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل, أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين, ودعا اليها, وكفّر من خالفها, واستحل منه ما حرمه الله ورسوله, كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية ولخوارج والروافض وأشياههم, ممن ابتدع بدعة, ودعا اليها, وكفّر من خالفها.
والناس في هذا الموقع أربع فرق:
الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا, وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام, وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر, ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته الى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة, وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل, بل اذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف عنه سمعه, ولم يشغل نفسه بفهمه, ومعرفة وجه بطلانه, وهو بمنزلة من سلمت نفسه من ارادت الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه اليها نفسه, بخلاف الفرقة الأولى, فانهم يعرفونها وتميل اليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.
وقد كتبوا الى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله, أو رجل نازعته اليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: ان الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من: { الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}, ذكره ابن كثير في التفسير 4\207 وعزّاه للامام أحمد في كتاب الزهد واسناده منقطع لأن مجاهد بن جبر لم يسمعه عن عمر بن الخطاب.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله, وحذرها وحذّر منها, ودفعها عن نفسه, ولم يدعها تخدش وجه ايمانه, ولا تورثه شبهة ولا شكا, بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له, وكراهة لها ونفرة عنها, أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. فانه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به, فيقوى ايمانه بها. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها الى ضدها وازداد محبة لضدها ورغبة فيه, وطلبا له وحرصا عليه, فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه اليها الا ليسوقه بها الى محبة ما هو أفضل منها, وخير له وأنفع وأدوم, وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه, فتورثه تلك المجاهدة الوصول الى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه الى تلك الشهوات واشتدت ارادته لها وشوقه اليها: صرف ذلك الشوق والمحبة والارادة الى النوع العالي الدائم, فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم, بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك, فانها وان كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى الى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى اليه راكبا على النجائب! فليس من آثر محبوبه على منازعه مع نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها الى غيره, فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات, اما حجابا له عنه, أو حاجبا له يوصله الى رضاه وقربه وكرامته.
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة, وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع, فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك, بل عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له بعض الأشياء. ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطريق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها, اذا تاب ورجع عنها الى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتتجنب وتبغض, كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه الا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه والهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه, والله أعلم.
أرباب الحوائج على باب الملك يسألون قضاء حوائجهم, وأولياؤه تامحبون له الذين هو همهم ومرادهم جلساؤه وخواصه, فاذا أراد قضاء حاجة واحد من أولئك أذن لبعض جلسائه وخاصته أن يشفع فيه رحمة له وكرامة للشافع, وسائر الناس مطرودون عن الباب مضروبون بسياط البعد.
[65] عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها
علم لا يعمل به, وعمل لا اخلاص فيه ولا اقتداء, ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا, ولا يقدمه أمامه الى الآخرة, وقلب فارغ من محبة الله والشوق اليه والأنس به, وبدن معطل من طاعته وخدمته, ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب, وامتثال أوامره, ووقت معطل عن استدراك فارط, أو اغتنام بر وقربة, وفكر يجول فيما لا ينفع, وخدمة من لا تقربك خدمته الى الله, ولا تعود عليك بصلاح دنياك وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله, وهوأسير في قبضته, ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا, سعي ضائع.
وأعظم هذه الاضاعات اضاعتان هما أصل كل اضاعة: اضاعة القلب واضاعة الوقت, فاضاعة القلب من ايثار الدنيا على الآخرة, واضاعة الوقت من طول الأمل, فاجتكع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل, والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء, والله المستعان.
العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها الى الله ليقضيها له ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والاعراض وشفائه من داء الشهوات والشبهات, ولكن اذا مات القلب لم يشعر بمعصيته.
[66] حقوق الله على العباد
لله سبحانه على عبده أمر أمره به, وقضاء يقضيه عليه, ونعمة ينعم بها عليه فلا ينفك من هذه الثلاثة.
والقضاء نوعان: اما مصائب واما معائب.
وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها, فأحب الخلق اليه من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها, فهذا أقرب الخلق اليه. وأبعدهم منه من جهل عبوديته في هذه المراتب فعطلها علما وعملا.
فعبوديته في الأمر امتثاله اخلاصا واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي النهي اجتنابه خوفا منه واجلالا ومحبة, وعبوديته في قضاء المصائب والصبر عليها ثم الرضا بها وهو أعلى منه, ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرضا, وهذا انما يتأتى مه اذا تمكن حبه من قلبه وعلم حسن اختياره له وبره ولطفه به واحسانه اليه بالمصيبة وان كره منها والتبرأ والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار, عالما بأنه لا يرفعها الا هو, ولا يقيه شرها سواه, وأنها ان استمرت أبعدته من قربه, وطردته من بابه, فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره, حتى انه ليراها أعظم من ضر البدن.
فهو عائذ برضاه من سخطه, وبعفوه من عقوبته, وبه منه مستجير, وملتجىء منه اليه, يعلم أنه اذا تخلى عنه وخلى بينه وبين نفسه فعنده أمثالها وشر منها, وأنه لا سبيل له الى الاقلاع والتوبة الا بتوفيقه واعانته, وأن ذلك بيده سبحانه لا بيد العبد, فهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه أ, يرضى بمرضاة سيده بدون اذنه ومشيئته واعانته, فهو ملتجىء اليه, متضرع ذليل مسكين, ملق نفسه بين يديه, طريح ببابه, مستخذ له, أذل شيء وأكسره له, وأفقره وأحوجه اليه, وأرغبه فيه, وأحبه له, بدنه متصرف في أشغاله, وقلبه ساجد بين يديه, يعلميقينا أنه لا خير فيه ولا له ولا به ولا منه, وأن الخير كله لله وفي يديه وبه ومنه, فهو ولي نعمته, ومبتدئه بها من غير استحقاق, ومجريها عليه مع تمقته اليه باعراضه وغفلته ومعصيته, فحظه سبحانه الحمد والشكر والثناء, وحظ العبد الذم والنقص والعيب, قد استأثر بالمحامد والمدح والثناء, وولى العبد الملامة والنقائص والعيوب, فالحمد كله له والخير كله في يديه, والفضل كله له والثناء كله له والمنة كلها له, فمنه الاحسان, ومن العبد الاساءة, ومنه التودد الى العبد بنعمه, ومن العبد التبغض اليه بمعاصيه, ومنه النصح لعبده, ومن العبد الغش له في معاملته.
وأما عبودية النعم فمعرفتها والاعتراف بها أولا, ثم العياذ به أن يقع في قلبه نسبتها واضافتها الى سواه. وان كان سببا من الأسباب فهو مسببه ومقيمه, فالنعمة منه وحده بكل وجه اعتبار, ثم الثناء بها عليه ومحبته عليها وشكره بأن يستعملها في طاعته.
ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه, ويستقل كثير شكره عليها, ويعلم أنها وصلت اليه من سيده من غير ثمن بذله فيها, ولا وسيلة منه توسل بها اليه, ولا استحقاق منه لها, وأنها في الحقيقة لله لا للعبد, فلا تزيده النعم الا انكسارا وذلا وتواضعا ومحبة للمنعم. وكلما جدد له نعمة أحدث لها عبودية ومحبة وخضوعا وذلا, كلما أحدث له قبضا أحدث له رضى, وكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة وانكسارا واعتذارا. فهذا هو العبد الكيّس والعاجز بمعزل عن ذلك, وبالله التوفيق.
[67] توكل على الله حق توكله
من ترك الاختيار والتدبير في رجاء زيادة أو خوف أو نقصان أو طلب صحة أو فرار من سقم, وعلم أن الله على كل كل شيء قليل , وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير, وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه, وأنه أعلم بمصلحته من العبد, وأقدر على على جلبها وتحصيلها منه, وأنصح للعبد منه لنفسه, وأرحم به منه لنفسه, وأبر به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أ، يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة, فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر, فألقى نفسه بين يديه, وسلم الأمر كله اليه, وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قوي قاهر, له لبتصرف في عبده بكل ما يشاء, وليس للعبد التصرف بوجه من الوجوه, فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات, وحمّل كله وحوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها, فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ولطفه واحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ولا اهتمام منه, لأنه قد صرف اهتمامه كله اليه وجعله وحده همه, فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه, وفرغ قلبه منها, فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه.
وان أبى الا تدبيره لنفسه, واختياره لها, واهتمامه بحظه, دون حق ربه, خلاه وما اختاره, وولاه ما تولى, فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب وكسف البال وسوء الحال, فلا قلب يصفو, ولا عمل يزكو, ولا أمل يحصل, ولا راحة يفوز بها, ولا لذة يهنأ بها, بل قد حيل حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه, فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش, ولا يظفر منها بأمل, ولا يتزود منها لمعاد.
والله سبحانه قد أمر العبد بأمر, وضمن له ضمانا, فان قام بأمره بالنصح والصدق والاخلاص والاجتهاد, قام الله سبحانه بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر وقضاء الحوائج, فانه سبحانه ضمن الرزق لمن عبده, والنصر لمن توكل عليه واستنصر به, والكفاية لمن كان هو همه ومراده, والمغفرة لمن استغفره, وقضاء الحوائج لمن صدقه في طلبها, ووثق به, وقوي رجاؤه وطمعه في فضله وجوده. فالفطن الكيّس انما يهتم بأمره واقامته وتوفيته لا بضمانه, فان الوفي الصادق, { ومن أوفى بعهده من الله} التوبة 111. فمن علامات السعادة صرف اهتمامه الى أمر الله دون ضمانه. ومن علا مات الحرمان فراغ قلبه من الاهتمام بأمره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه, والله المستعان.
قال بشر بن الحارث: أهل الآخرة ثلاثة: عابد وزاهد وصديق, فالعابد يعبد الله مع العلائق, والزاهد يعبده على ترك العلائق, والصديق يعبده على الرضا والموافقة, ان أراه أخذ الدنيا أخذها, وان أراه تركها تركها.
اذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر, فان كان ذلك يفضي الى المشاقة والمحادة, وهذا أصلها ومنه اشتقاقها, فان المشقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق, والمحادة أن تكون في حد ويكون هو في حد.
ولا تستسهل هذا فان مبادئه تجر الى غايته, وقليله يدعو الى كثيره.
وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وان كان الناس كلهم في الجانب الآخر, فان لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها, وليس للعبد شيء أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته, وأكثر الخلق انما يكونون في الجانب الآخر, ولا سيما اذا قويت الرغبة والرهبة, فهناك لا تكاد تجد أحدا في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, بل يعدّه الناس ناقص العقل سيىء الاختيار لنفسه, وربما نسبوه الى الجنون, وذلك من مواريث أعداء الرسل.
فانهم نسبوهم الى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر.
ولكن من وطّن نفسه على ذلك فانه يحتاج الى علم راسخ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يكون يقينا له لا ريب عنده فيه, والى صبر تام على معاداة من عاداه ولومة من لامه, ولا يتم ذلك الا برغبة قوية في الله والدار الآخرة, بحيث تكون الآخرة أحب اليه من الدنيا وآثر عنده منها, ويكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب اليه مما سواهما, وليس شيء أصعب على الانسان من ذلك في مبادىء الأمر, فان نفسه وهواه وطبعه وشيطانه واخوانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه الى العاجل, فاذا خالفهم تصدوا لحربه, فاذا صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلا, وذلك الألم لذة, فلا بد أن يزيقه لذة تحيزه الى الله ورسوله, ويريه كرامة ذلك, فيشتد به سروره وغبطته, ويبتهج به قلبه, ويظفر بقوته وفرحه وسروره, ويبقى من كان محاربا له -على ذلك- بين هائب له ومسالم له ومساعد وتارك, ويقوى جنده, ويضعف جند العدو.
ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز الى الله والرسول ولو كنت وحك, فان الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك, وانما امتحن يقينك وصبرك. وأعظم الأعوان لك على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع, فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز الى الله ورسوله, وكنت دائما في الجانب الذي فيه الله ورسوله, ومتى قام بك الطمع والفزع فلا تطمع في الأمر ولا تحدث نفسك به. فان قلت : فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع؟
قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله, وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات الا هو, ولا يذهب بالسيئات الا هو, وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء.
[68] (نصيحة)
هلم الى الدخول على الله ومجاورته في الجنة
هلم الى الدخول الى الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها, وذلك أنك في وقت بين وقتين, وهو في الحقيقة عمرك, وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل, فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار, وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب, ولا معاناة عمل شاق, انما هو عمل قلب, وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب, وامتناعك ترك وراحة وليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته, وانما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك, فما مضى تصلحه بالتوبة, وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية, وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب, ولمن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين فان أضعته أضعت سعادتك, ونجاتك, وان حفظته مع اصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم. وحفظه أشق من اصلاح ما قبله وما بعده, فان حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها. وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت, فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك, اما الى الجنة واما الى النار, فان اتخذت اليها سبيلا الى ربك بلغت السعاد العظمى, والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها الى الأبد, وان آثرت الشهوات والراحات, واللهو واللعب,انقضت عنك بسرعة, وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله, والصبر على طاعته, ومخالفة الهوى لأجله.
[69] علامة صحة الارادة
علامة صحة الارادة أن يكون هم المريض رضا ربه واستعداده للقائه, وحزنه على وقت مر في غير مرضاته, وأسفه على قربه والأنس به. وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره.
[70] استغن عن الناس بالله تعالى
اذا استغنى الناس بالدنيا استغن أنت بالله, واذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله, واذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله, واذا تعرفوا بملوكهم وكبرائهم وتقربوا اليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت الى الله, وتودد اليه تنل بذلك غاية والرفعة.
قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو بصلاة أو قراءة أو احسان. فقال له الرجل: اني أكثر البكاء. فقال: انك ان تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك, فان المدل لا يصعد عمله فوق رأسه. فقال: أوصني. فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها, وكن في الدنيا كالنحلة, ان أكلت طيبا, وان أطعمت أطعمت طيبا, وان سقطت على شيئ لم تكسره ولم تخدشه.
[71] أقسام الزهد
الزهد أقسام: زهد الرام؛ وهو فرض عين. وزهد في الشبهات؛ وهو بحسب مراتب الشبهة, فان قويت التحقت بالواجب, وان كان ضعيفا كان مستحبا. وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره. وزهد في الناس. وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله. وزهد جامع لذلك كله وهو الزهد فيما سوى الله, وفي كل ما شغلك عنه.
وأفضل الزهد اخفاء الزهد, وأصعبه الزهد في الحظوظ. والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة, والورع ترك ما يخشى ضرره من الآخرة. والقلب معلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
قال يحي بن معاذ: عجبت من ثلاث: رجل يرائي بعمله مخلوقا مثله ويترك أن يعمله لله, ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فلا يقرضه منه شيئا, ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم, والله يدعوه الى صحبته ومودته.
[72] (فائدة جليلة)
ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي
قال سهل بن عبدالله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي, لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه, وابليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه.
قلت هي مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي, وذلك من وجوه عديدة:
(الوجه الأول): ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله ابليس.
(الوجه الثاني): ان ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة, وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة, و "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر", ويدخلها من مات على التوحيد وان زنى وسرق.
(الوجه الثالث): ان فعل المأمور أحب الى الله من ترك المنهي, كما دل على ذلك النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم:" أحب الأعمال الى الله الصلاة على وقتها" أخرجه البخاري في المواقيت 2\12 رقم 527, ومسلم في الايمان 1\89 90 رقم 137-140. وقوله: ألا أنبئكم بخير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من انفاق الذهب والورق, وخير لكم من أن تلقو عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "ذكر الله" ,أخرجه الترمذي في الدعوات 5\428 (3377), وابن ماجه في الأدب 2\1245 (3790) ومالك في الموطأ كتاب القرآن 11\211(24). وقوله: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة", أخرجه ابن ماجه برقم (277) والدرامي برقم661, وأحمد 2\276 277. وغير ذلك من النصوص.
وترك المناهي عمل فانه كف النفس عن الفعل, ولهذا علّق سبحانه المحبة بفعل الأوامر كقوله: { ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا}, الصف 4, {والله يحب المحسنين}آل عمران 134, وقوله:{ وأقسطوا ان الله يحب المقسطين}الحجرات 9, {والله يحب الصابرين} آل عمران 146.
أما في جانب المنهي فأكثر ما جاء النفي للمحبة كقوله:{ والله لا بحب الفساد}البقرة 205, وقوله: { والله لا يحب كل مختال فخور} الحديد23, وقوله: { ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين} البقرة 190, وقوله:{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم }النساء 148,وقوله:{ ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا} النساء 36 .
وأخبر في موقع آخر أنه يكرهها ويسخطها, كقوله: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} الاسراء 38, وقوله:{ ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله} محمد 28.
اذا عرف هذا ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات. ولهذا يقدر ما يكرهه ويسخطه لافضائه الى ما يحب, كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء. وحصول التوبة من العبد والتضرّع اليه والاستكانة واظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه. وحصول الموالاة والمعاداة لأجله, وغير ذلك من الآثار التي وجودها بسبب تقديره لما يكره أحب اليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها, وهو سبحانه لا يقد ما يحب لافضائه الى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لافضائه الى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لافضائه الى ما يحبه, فعلم أن فعل ما يحبه أحب اليه مما يكرههه.
يوضحه الوجه الرابع: ان فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور, فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه وينقصه, كما نبه سبحانه على ذلك في النهي عن الخمر والميسر بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة كما قال تعالى في الآية 91 من سورة المائدة , فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات أو عن كمالها, فالنهي عنها من باب المقصود لغيره, والأمر بالواجبات من باب المقصود لنفسه.
يوضحه الوجه الخامس: ان فعل المأمورات من باب حفظ قوة الايمان وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الايمان ويخرجها عن الاعتدال, وحفظ القوة مقدم على الحمية, فان القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة واذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة, فالحمية مرادة لغيرها وهي حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها, ولهذا كلما قويت قوة الايمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها, واذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة. فتأمل هذا الوجه.
الوجه السادس: ان فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه, وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيء من ذلك, فانه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالايمان والأعمال المأمور بها ولم ينفعه ذلك الترك شيئا وكان خالدا مخلدا في النار.
وهذا يتبين بالوجه السابع: ان من فعل المأمورات والمنهيات فهو اما ناج ان غلبت حسناته سيئاته, واما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته فمآله الى النجاة وذلك بفعل المأمور.
ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج ولا ينجو الا بفعل المأمور وهو التوحيد.
فان قيل: فهو انما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك, قيل: يكفي في الهلاك ترك نفس التوحيد المأمور به وان لم يأت بضد وجودي في الشرك, بل متى خلا قلبه من التوحيد رأسا فلم يوحد الله فهو هالك وان لم يعبد معه غيره, فاذا انضاف اليه عبادة غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به وفعل الشرك المنهي عنه.
يوضحه الوجه الثامن: أن المدعو الى الايمان اذا قال: لا أصدق ولا أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره, كان كافرا بمجرد الترك والاعراض, بخلاف ما اذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرني, ولكن شهوتي وارادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني الله عنه وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي ولكن لا صبر لي عنه, فهذا لا يعد بذلك كافرا, ولا حكمه حكم الأول؛ فان هذا مطيع من وجه, وتارك المأمور جملة لا يعد مطيعا بوجه.
يوضحه الوجه التاسع: ان الطاعة والمعصية انما تتعلق بالأمر أصلا, وبالنهي تبعا, فالمطيع ممتثل المأمور, والعاصي تارك المأمور, قال تعالى:{لا يعصون الله ما أمرهم} التحريم 6, وقال موسى لأخيه: {ما منعك اذ رأيتهم ضلوا * ألاّ تتبعن أفعصيت أمري} طه 92 93.
وقال عمرو بن العاص عند موته: أنا الذي أمرتني فعصيت, ولكن لا اله الا أنت.
وقال الشاعر:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني
والمقصود من ارسال الرسل اطاعة المرسل ولا تحصل الا بامتثال أوامره, واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه. ولهذا لو اجتنب المناهي ولم يفعل ما أمر به لم يكن مطيعا وكان عاصيا, بخلاف ما لو أتى المأمورات وارتكب المناهي. فانه وان عد عاصيا مذنبا فانه مطيع بامتثال الأمر, عاص بارتكاب النهي بخلاف الأمر فانه لا يعد مطيعا باجتناب المنهيات خاصة.
الوجه العاشر: أن امتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة, وتلك العبادة التي خلق لأجلها الخلق كما قال تعالى: { وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون} الذاريات56,فأخبر سبحانه أنه انما خلقهم للعبادة , وكذلك انما أرسل اليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه. فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك فانه أمر عدمي لا كمالفيه من حيث هو عدم, بخلاف امتثال المأمور فانه أمر وجودي مطلوب الحصول.
وهذا يتبين بالوجه الحادي عشر: وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل وهو أمر عدمي, والمطلوب بالأمر ايجاد فعل وهو أمر وجودي, فمتعلق الأمر بالايجاد, ومتعلق النهي الاعدام أو العدم وهو أمر لا كمال فيه الا اذا تضمّن أمرا وجوديا, فان العدم من حيث هو عدم لا كمال فيه ولا مصلحة الا اذا تضمن أمرا وجوديا مطلقا, وذلك الأمر الوجودي مطلوب مأمور به فعادت حقيقة النهي الى الأمر, وأن المطلوب به ما في ضمن النهي من الأمر الوجودي المطلوب به.
وهذا يتضح بالوجه الثاني عشر: وهو أن الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال:
أحدها: أن المطلوب به كف النفس عن الفعل, وحبسها عنه, وهو أمر وجودي. قالوا: لأن التكليف انما يتعلق بالمقدور, والعدم المحض غير مقدور. وهذا قول الجمهور.
وقال أبو هاشم وغيره: بل المطلوب عدم الفعل, ولهذا يحصل المقصود من بقائه على العدم, وان لم يخطر بباله فعل, فضلا أن يقصد الكف عنه, ولو كان المطلوب الكف لكان عاصيا اذ لم يأت به, ولأن الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يخطر بباله فعله والكف عنه. وهذا أحد قولي القاضي أبي بكر( صاحب كتاب اعجاز القرآن) ولأجله التزم ان عدم الفعل مقدور للعبد وداخل تحت الكسب, قال: والمقصود بالنهي الابقاء على العدم الأصلي وهو مقدور.
وقالت طائفة: المطلوب بالنهي فعل الضد فانه هو المقدور وهو المقصود للناهي, فانه انما نهاه عن الفاحشة طلبا للعفة وهي المأمور بها, ونهاه عن الظلم طلبا للعدل المأمور به, وعن الكذب طلبا للصدوق المأمور به وهكذا جميع المنهيات. فعند هؤلاء أن حقيقة النهي الطلب لضد المنهي عنه, فعاد الأمر الى أن الطلب انما تعلق بفعل المأمور.
والتحقيق أن المطلوب نوعان: مطلوب لنفسه وهو المأمور به, ومطلوب اعدامه لمضدته المأمور به وهو المنهي عنه, لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به. فاذا لم يخطر بباله المكلف ولا دعته نفسه اليه بل استمر على العدم الأصلي لم يثب على تركه, وان خطر بباله وكف نفسه عنه لله وتركه اختيارا أثيب على كف نفسه وامتناعه, فانه فعل وجودي.
والثواب انما يقع على الأمر الوجودي دون العدم المحض وان تركه مع عزمه الجازم على فعله لكن تركه عجزا, فهذا وان لم يعاقب عقوبة الفاعل لكن يعاقب على عزمه وارادته الجازمة التي انما تخلف مرادها عجزا.
وقد دلت على ذلك النصوص الكثيرة فلا يلتفت الى ما خالفه, كقوله تعالى:{ وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} البقرة 284.
وقوله في كاتم الشهادة:{ فانه آثم قلبه} البقرة283, وقوله:{ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} البقرة225, وقوله:{ يوم تبلى السرائر} الطارق 9.
وقوله صلى الله عليه وسلم: { اذا تواجه المسلمان في سيفهما فالقاتل والمقتول في النار}, قالوا: هذا القاتل, فما بال المقتول؟ قال: "انه أراد قتل صاحبه" البخاري في الايمان 1\106 رقم 31, ومسلم في الفتن 4\2213 رقم 14-15.
وقوله في الحديث الآخر:" ورجل قال: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء" الترمذي في الزهد رقم 2326, وابن ماجه وأحمد.
وقول من قال: ان المطلوب بالنهي فعل الضد ليس كذلك, فان المقصود عدم الفعل والتلبس بالضد, فان مالا يتم الواجب الا به فهو غير مقصود بالقصد الأول, وان كان المقصود بالقصد الأول المأمور الذي نهى عما يمنعه ويضعفه, فالمنهي عنه مطلوب اعدامه طلب الوسائل والذرائع, والمأمور به مطلوب ايجاده طلب المقاصد والغايات.
وقول أبي هاشم: ان تارك القبائح يحمد وان لم يخطر بباله كف النفس. فان أراد بحمده أن لا يذم فصحيح, وان أراد أن يثني عليه بذلك ويجب عليه واستحق الثواب فغير صحيح. فان الناس لا يحمدون المجبوب (أي مقطوع الذكر) على ترك الزنا ولا الأخرس على عدم الغيبة والسب, وانما يحمدون القادر الممتنع عن قدرة وداع الى الفعل.
وقول القاضي الابقاء على العدم الأصلي مقدور, فان أراد به كف النفس ومنعها فصحيح, وان أراد مجرّد العدم فلبس كذلك.
وهذا يتبين بالوجه الثالث عشر: وهو ان الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللزوم العقلي لا القصد الطلبي, فان الأمر انما مقصوده فعل المأمور. فاذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره, وهذا هو الصواب في مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا؟
فهو نهي عنه من جهة اللزوم لا من جهة القصد والطلب. وكذلك النهي عن الشيء, مقصود الناهي بالقصد الأول الانتهاء عن المنهى عنه وكونه مشتغلا بضده جاء من جهة اللزوم العقلي, لكن انما نهى عما يضاد ما أمر به كما تقدم, فكان المأمور هو المقصود بالقصد الأول في الموضعين.
وحرف المسألة: أن طلب الشيء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم, والنهي عن الشيء طلب لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللزوم, والمطلوب في الموضعين فعل وكف, وكلاهما أمر وجودي.
الوجه الرابع عشر: ان الأمر والنهي في باب الطلب نظير النفي والاثبات في باب الخبر, والمدح والثناء لا يحصلان بالنفي المحض ان لم يتضمن ثبوتا, فان النفي كاسمه عدم لا كمال فيه ولا مدح, فاذا تضمن ثبوتا صح المدح فيه كنفي النسيان المستلزم لكمال العلم وبيانه. ونفي اللغوب والاعياء والتعب المستلزم لكمال القدرة والقوة. ونفي السنة والنوم المستلزم لكمال الحياة والقيّوميّة, ونفي الولد والصاحبة المستلزم لكمال الغنى والملك والربوبية. ونفي الشريك والولي والشفيع بدون الاذن المستلزم لكمال التوحيد والتفرّد بالكمال والالهية والملك ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل. ونفي ادراك الأبصار له المتضمن لعظمته وأنه أجلّ من أن يدرك وان رأته الأبصار, والا فليس في كونه لا يرى مدح بوجه من الوجوه, فان العدم المحض كذلك.
واذ عرف هذا, فالمنهي عنه ان لم يتضمن أمرا وجوديا ثبوتيا لم يمدح بتركه, ولم يستحق الثواب والثناء بمجرد الترك, كما لا يستحق المدح والثناء بمجرد الوصف العدمي.
الوجه الخامس عشر: ان الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرة أمثال فعلها, وجزاء المنهيات مثل واحد وهذا يدل على أن فعل ما أمر به أحب اليه من ترك ما نهى عنه. ولو كان الأمر بالعكس لكانت السيئة بعشرة أمثالها والحسنة بواحدة أو تساويا.
الوجه السادس عشر: ان المنهي عنه المقصود اعدامه, وأن لا يدخل في الوجود, سواء نوى ذلك أو لم ينوه, وسواء خطر بباله أو لم يخطر. فالمقصود أن لا يكون. وأما المأمور به فالمقصود كونه وايجاده والتقرب به نية وفعلا.
وسر المسألة أن وجود ما طلب ايجاده أحب اليه من عدم ما طلب اعدامه, وعدم ما أحبه أكره اليه من وجود ما يبغضه, فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من كراهته لفعل ما نهى عنه.
يوضحه الوجه السابع عشر: ان فعل ما يحبه والاعانة عليه وجزاءه وما يترتب عليه من المدح والثناء من رحمته. وفعل ما يكرهه وجزاءه وما يترتب عليه من الذم والألم والعقاب من غضبه. ورحمته سابقة على غضبه غالبة له, وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب, فانه لا يكون الا رحيما, ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره واحسانه, فيستحيل أن يكون على خلاف ذلك. وليس كذلك غضبه, فانه ليس من لوازم ذاته ولا يكون غضبان دائما غضبا لا يتصور انفكاكه, بل يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة: "ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله" جزء من حديث أخرجه البخاري في تاب الأنبياء باب قول الله عز وجل {ولقد أرسلنا نوحا الى قومه} 6\428 رقم 3340, ومسلم في الايمان 1\184 رقم 327 من حديث أبو هريرة عن الرسول . ورحمته وسعت كل شيء, وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب, ووسع كل شيء رحمة وعلما ولم يسع كل شيء غضبا وانتقاما.
فالرحمة وما كان بها ولوازمها وآثارها غالبة على الغضب وما كان منه وآثاره. فوجود ما كان بالرحمة أحب اليه من وجود ما كان من لوازم الغضب. ولهذا كانت الرحمة أحب اليه من العذاب, والعفو أحب اليه من الانتقام. فوجود محبوبه أحب اليه من فوات مكروهه, ولا سيما اذا كان في فوات المكروه فوات ما يحبه من لوازمه, فانه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكره وجود ذلك الملزوم المكره.
الوجه الثامن عشر: ان آثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه, فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز, وتزول بالتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب المكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن السيئات, ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا, ثم لقيه لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة وهو سبحانه يغفر الذنوب وان تعاظمت ولا يبالي, فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعي من العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل, وما ذاك الا لوجود ما يحبه من توبة العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل, وما ذاك الا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده, فدلّ على أن وجود ذلك أحب اليه وأرضى له.
يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أنه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات. فانه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد, والعقيم الوالد, والظمآن الوارد. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرحته لتوبة العبد مثلا (في صحيح مسلم في كتاب التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بها 4\2104 رقم (7) عن أنس بن مالك " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب اليه..." وهو في صحيح البخاري بلفظ آخر.) ليس في المفروح به أبلغ منه, وهذا الفرح انما بفعل المأمور به وهو التوبة, فقدر الذنب لما يترتب عليه من هذا الفرح العظيم الذي وجوده أحب اليه من فوات ما يكره. ولبس المراد بذلك أن كل فرد من أفراد ما يحب أحب اليه من فوات كل فرد مما يكره حتى تكون ركعتي الضحى أحب اليه من فوات قتل المسلم, وانما المراد أن جنس فعل المأمورات أفضل من جنس ترك المحظورات, كما اذا فضل الذكر على الأنثى والانس على الملك, فالمراد الجنس لا عموم الأعيان.
والمقصود أن هذا الفرح الذي لا فرح يشبهه بفعل مأمور التوبة يدل على أن هذا المأمور أحب اليه من فوات المحظور الذي تفوت به التوبة وأثرها ومقتضاها.
فان قيل: انما الفرح بالتوبة لأنها ترك المنهى فكان الفرح بالترك, قيل: ليس كذلك, فان الترك المحض لا يوجب هذا الفرح بل ولا الثواب ولا المدح. وليست التوبة تركا, وان كان الترك من لوازمها, وانما هي فعل وجودي يتضمن اقبال التائب على ربه وانابته اليه والتزام طاعته. ومن لوازم ذلك ترك ما نهى عنه, ولهذا قال الله تعالى:{ وأن استغفروا ربّكم ثم توبوا اليه} هود3. فالتوبة رجوع عما يكره الىما يحب, فان من ترك الذنب تركا مجردا ولم يرجع عنه الى ما يحبه الرب تعالى لم يكن تائبا, فالتوبة رجوع واقبال وانابة لا ترك محض.
الوجه العشرون: ان المأمور به اذا فات فاتت الحياة المطلوبة للعبد, وهي التي قال الله تعالى فيها:{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم}الأنفال 24, وقال: { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلتا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} الأنعام 122, وقال في حق الكفار:{ أموات غير أحياء} النحل 21, وقال: { انك لا تسمع الموتى}النحل 8.
وأما المنهي عنه فاذا وجد فغايته أن يوجد المرض, وحياة مع السقم خير من موت.
فان قيل: ومن المنهي عنه ما يوجب الهلاك وهو الشرك.
قيل: الهلاك انما حصل بعدم التوحيد المأمور به الذي به الحياة, فلما فقد حصل الهلاك, فما هلك الا من عدم اتيانه بالمأمور به.
وهذا وجه حاد وعشرون في المسألة: وهو أن في المأمورات ما يوجب فواته الهلاك والشقاء الدائم, وليس في المنهيات ما يقتضي ذلك.
الوجه الثاني والعشرون: ان فعل المأمور يقتضي ترك المنهي عنه اذا فعل على وجهه من الاخلاص والمتابعة والنصح لله فيه, قال تعالى:{ ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}العنكبوت 45. ومجرد ترك المنهي لا يقتضي فعل المأمور ولا يستلزمه.
الوجه الثالث والعشرون: ان ما يحبه من المأمورات فهو متعلّق بصفاته, وما يكرهه من المنهيات فمتعلق بمفعولاته, وهذا وجه دقيق يحتاج الى بيان فنقول:
المنهيات شرور وتفضي الى الشرور, والمأمورات خير وتفضي الى الخيرات, والخير بيديه سبحانه والشر ليس اليه, فان الشر لا يدخل في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه, وانما هو في المفعولات مع أنه شر بالاضافة والنسبة الى العبد, والا من حيث اضافته ونسبته الى الخالق سبحانه فليس بشر من هذه الجهة. فغاية ارتكاب المنهي أن يوجب شرا بالاضافة الى العبد مع أنه في نفسه ليس بشر. وأما فوات المأمور فيفوت به الخير الذي بفواته يحصل ضده من الشر, وكلما كان المأمور أحب الى الله سبحانه كان الشر الحاصل بفواته أعظم كالتوحيد والايمان.
وسر هذه الوجوه: أن المأمور به محبوبه, والمنهي مكروهه, ووقوع محبوبه أحب اليه من فوات مكروهه, وفوات محبوبه أكره اليه من وقوع مكروهه, والله أعلم.
[73] مبني الشكر على قاعدتين الذكر والشكر
مبني الدين على قاعدتين: الذكر والشكر, وقال تعالى:{ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}البقرة 152. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" والله اني لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" أخرجه أبو داود في الصلاة 2\86 رقم (1522), والنسائي وأحمد.
وليس المراد بالذكر مجردالذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني. وذكره يتضمن ذكر اسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكر كلامه, وذلك يستلزم معرفته والايمان به وبصفاته كمال ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح. وذلك لا يتم الا بتوحيده. فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه واحسانه الى خلقه.
وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب اليه بأنواع المحبة ظاهرا وباطنا, وهذان الأمران هما جماع الدين, فذكره مستلزم لمعرفته, وشكره متضمن لطاعته, وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والانس والسموات والأرض, ووضع لأجلها الثواب والعقاب, وأنزل الكتاب, وأرسل الرسل, وهي الحق الذي به خلقت السموات والأرض وما بينهما, وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه, وهو ظن أعدائه به.
قال تعالى:{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} ص27, وقال:{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما الا بالحق} الدخان 38 39, وقال:{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية}الحجر 85, وقال بعد ذكر آياته في أول سورة يونس:{ وما خلق الله ذلك الا بالحق} يونس 5, وقال:{ أيحسب الانسان أن يترك سدى} القيامة 36, وقال:{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون} المؤمنون 115, وقال:{ وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} الذاريات 56, وقال:{ الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} الطلاق 12, وقال:{ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} المائدة 97.
فثبت بما ذكره أن غاية الخلق والأمر* أن يذكر وأن يشكر. يذكر فلا ينسى, ويشكر فلا يكفر. وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره, شاكر لمن شكره, فذكره سبب لذكره, وشكره سبب لزيادته من فضله.
· يشير الى قوله تعالى:{ ألا له الخلق والأمر} الأعراف 54, وصدق الله في خبره فله الخلق والأمر, خلقهم وأمرهم بما أحب, وهذا الأمر يقتضي النهي. تفسير القرطبي 7\142.
فالذكر للقلب واللسان, والشكر للقلب محبة وانابة, وللسان ثناء وحمد, وللجوارح طاعة وخدمة.
[74] من سار نحو الهداية يسر الله له سبلها
تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارج سبب الهداية والاضلال, فيقوم القلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثرة أثره. وكذلك الضلال, فأعمال البر تثمر الهدى, وكلما ازداد منها ازداد هدى. وأعمال الفجور بالضد, وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح, ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء.
وأيضا فانه البر ويحب أهل البر فيقرب قلوبهم منهبحسب ما قاموا به من البر, ويبغض الفجور وأهله فيبعد قلوبهم منه بحسب ما اتصفوا به من الفجور, فمن الأصل الأول قوله تعال: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} البقرة 1- 2, وهذا يتضمن أمرين:
الأمر الأول: أنه يهدي من اتقى مساخطه قبل نزول الكتاب, فان الناس على اختلاف مللهم ونحلهم قد استقر عندهم أن الله سبحانه يكره الظلم والفواحش والفساد في الأرض ويمقت فاعل ذلك, ويحب العدل والاحسان والجود والصدق والاصلاح في الأرض, ويحب فاعل ذلك. فلما نزل الكتاب, أثاب سبحانه أهل البر بأن وفقهم للايمان به جزاء لهم على برهم وطاعتهم, وخذل أهل الفجور والفحش والظلم بأن حال بينهم وبين الاهتداء به.
والأمر الثاني: أن العبد آمن بالكتاب واهتدى به مجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره, وكان ذلك سببا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل. فان الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ, ففوق هدايته هداية أخرى وفوق تلك الهداية هداية أخرى الى غير غاية. فكلما اتقى العبد ربه ارتقى الى هداية أخرى, فهو من مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى. وكلما فوّت حظا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه, فكلما اتقى زاد هداه, وكلما اهتدى زادت تقواه. قال تعالى:{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم} المائدة 16,15, وقال تعالى:{ الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب} الشورى 13, وقال تعالى:{ سيذّكّر من يخشى} الأعلى 10, وقال:{ وما يتذكّر الا من ينيب} غافر 13, وقال:{ ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم} يونس 9.
فهداهم أولا للايمان, فلما آمنوا هداهم للايمان هداية بعد هداية, ونظير هذا قوله تعالى:{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى}مريم 76, وقوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقاناْ الأنفال 29, ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل, والنصر والعز الذي يتمكنون به من اقامة الحق وكسر الباطل, فسر القرآن هذا بهذا. وقال تعالى:{ ان في ذلك لآية لكل عبد منيب} سبأ9, وقال:{ ان في ذلك لآيات لكل صبّار شكور}31 من سورة لقمان, والأية 5من سورة ابراهيم, والآية 19 من سورة سبأ و33من سورة الشورى.
فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها انما ينتفع بها أهل الصبر الشكر, كما أخبر عن آياته الايمانية القرآنية أنها انما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والانابة ومن كان قصده اتباع رضوانه, وأنها انما يتذكر بها من يخشاه سبحانه كما قال:{ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى الا تذكرة لمن يخشى}طه 1-3, وقال في الساعة:{ انما أنت منذر من يخشاها} النازعات 45.
وأما من لا يؤمن بها ولا يرجوها ولا يخشاها فلا تنفعه الآيات العيانية ولا القرآنية. ولهذا ذكر الله سبحانه في سورة هود عقوبات الأمم المكذبين للرسل وما حل بهم في الدنيا من الخزي, قال بعد ذلك:{ ان في ذلك لآية لمن خاف عذاب} هود 103, فأخبر أن في عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب الآخرة.
وأما من لا يؤمن بها ولا يخاف عذابها فلا يكون ذلك عبرة وآية في حقه, واذا سمع ذلك قال: لم يزل في الدهر الخير والشر, والنعيم والبؤس, والسعادة والشقاوة. وربما أحال ذلك على أسباب فلكية وقوى نفسانية. وانما كان الصبر والشكر سببا لانتفاع صاحبهما بالآيات, لأن الايمان يبني على الصبر والشكر, فنصفه صبر ونصفه شكر, فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة ايمانه. وآيات الله انما ينتفع بها من آمن بالله وآياته, ولا يتم له الايمان الا بالصبر والشكر, فان رأس الشكر التوحيد, ورأس الصبر ترك اجابة داعي الهوى. فاذا كان مشركا متبعا هواه لم يكن صابرا ولا شكورا, فلا تكون الآيات نافعة له ولا مؤثرة فيه ايمانا.
وأما الأصل الثاني: وهواقتضاء الفجور والكبر والكذب للضلال فكثير أيضا للقرآن كقوله تعالى:{ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} البقرة 26-27, وقال تعالى:{ يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} ابراهيم 27, وقال تعالى:{ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا} النساء88, وقال تعالى: { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} البقرة88, وقال تعالى:{ ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرّة} الأنعام110.
فأخبر أنه عاقبهم على تخلفهم عن الايمان لما جاءهم وعرفوه وأعرضوا عنه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم وحال بينهم وبين الايمان, كما قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} الأنفال 24, فأمرهم بالاستجابة له ولرسوله حين يدعوهم الى ما فيه حياتهم, ثم حذّرهم من التخلف والتأخر عن الاستجابة الذي يكون سببا لأن يحول بينهم وبين قلوبهم. قال تعالى:{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} الصف5, وقال تعالى:{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}المطففين 8, فأخبر سبحانه أن كسبهم غطى على قلوبهم وحال بينها وبين الايمان بآياته, فقالوا:{ أساطير الأولين}.
وقال تعالى في المنافقين:{ نسوا الله فنسيهم} التوبه 67, فجازاهم على نسيانهم له أن نسيهم فلم يذكرهم بالهدى والرحمة, وأخبر أنه أنساهم أنفسهم فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق, فأنساهم طلب ذلك ومحبته ومعرفته والحرص عليه عقوبة لنسيانهم له, وقال تعالى في حقّهم:{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتّبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} محمد16\17, فجمع لهم بين اتباع الهوى والضلال الذي هو ثمرته وموجبه كما جمع للمهتدين بين التقوى والهدى.
[75] (فصل)
بين الهدى والرحمة- والضلال والشقاء
وكما يقرن سبحانه بين الهدى والتقى والضلال والغي, فكذلك يقرن بين الهدى والرحمة والضلال والشقاء, فمن الأول قوله:{ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} البقرة5, وقال أيضا:{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}البقرة 157.
وقال عن المؤمنين:{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك انك أنت الوهاب} آل عمران 8.
وقال عن أهل الكهف:{ ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا} الكهف 10, وقال:{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}يوسف 111, وقال:{ وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} النحل 64, وقال:{ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين }, وقال:{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} يونس 57.
ثم أعاد سبحانه ذكرهما فقال:{ قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا} يونس 58.
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة, والصحيح أنهما الهدى والنعمة, ففضله هداه, ورحمته نعمته ( وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن, ورحمته الاسلام, وعنهما أيضا: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله, وعن الحسن, والضحّاك, ومجاهد وقتادة فضل الله:الايمان, ورحمته القرآن. تفسير القرطبي 8\226) ولذلك يقرن بين الهدى والنعمة كقوله في سورة الفاتحة:{ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم}5-6.
ومن قوله لنبيهيذكره بنعمته عليه:{ ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى}الضحى 6-8, فجمع له بين هدايته له وانعامه عليه بايوائه واغنائه.
ومن ذلك قول نوح:{ يا قوم أرأيتم ان كنت على بيّنة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا} هود88, وقال عن الخضر:{ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما} الكهف 65.
وقال لرسوله صلى الله عليه وسلّم:{ انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا} الفتح1-3, وقال:{ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}النساء 113, وقال:{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} النور21, ففضله هدايته, ورحمته انعامه واحسانه اليهم وبره بهم.
وقال:{ فامّا يأتينّكم مني هدى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى} طه 123, والهدى منعه من الضلال, والرحمة منعته من الشقاء, وهذا هو الذي ذكره في أوّل السورة في قوله:{ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}طه 1-2, فجمع له بين انزال القرآن عليه ونفى الشقاء عنه, كما قال في آخرها في حق أتباعه:{ فلا يضل ولا يشقى} طه 123.
فالهدى والفضل والنعمة والرحمة متلازمات لا ينفك بعضها عن بعض, كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر, قال تعالى:{ انّ المجرمين في ضلال وسعر} القمر 47, والسعر جمع سعير وهو العذاب الذي في غاية الشقاء. وقال تعالى:{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} الأعراف 179, وقال تعالى عنهم:{ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} الملك 10.
ومن هذا أنه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيّبة وبين الضلال وضيق الصدر والمعيشة الضنك, قال تعالى:{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيّقا حرجا} الأنعام 125, وقال:{ أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه}الزمر22.
وكذلك يجمع بين الهدى والانابة والضلال وقسوة القلب, قال تعال:{ الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب}الشورى13, وقال تعالى:{ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} الزمر 22.
[76] الهدى والرحمة وتوابعهما من صفة العطاء
والهدى والرحمة, وتوابعهما من الفضل والانعام, كله من صفة العطاء, والاضلال والعذاب, وتوابعهما من صفة المنع, وهو سبحانه يصرف خلقه بين عطائه ومنعه, وذلك كله صادر عن حكمة بالغة, وملك تام, وحمد تام, فلا اله الا الله.
[77] التعلق في المطالب العليا
اذا رأيت النفوس المبطلة الفارغة من الارادة والطلب لهذا الشأن قد تشبث بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها اليه, فانه اللائق بها لفساد تركيبها, ولا تنقش عليها ذلك فانه سريع الانحلال عنها, ويبقى تشبثها به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعلّق, قتبقى شهوتها وارادتها فيها, وقد حيل بينها وبين ما تشتهي على وجه يئست معه من حصول شهوتها ولذتها. فلو تصوّر العاقل ما في ذلك من الألم والحسرة لبادر الى قطع هذا التعلق كما يبادر الى حسم مواد الفساد, ومع هذا فانه ينال نصيبه من ذلك وقلبه وهمه متعلق بالمطلب الأعلى, والله المستعان.
[78] ايّاك والكذب
ايّاك والكذب فانه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه, ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس, فان الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما, والحق باطلا, والباطل حقا, والخير شرا, والشر خيرا, فيفسد عليه تصوره وعلمه. ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة الى العدم مؤثرة للباطل. واذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل
فعلى ارادي, فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب اليها فصار صدورها عنه كصدور الكذب على اللسان, فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله.
ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:{ ان الكذب يهدي الى الفجور وان الفجور يهدي الى النار} البخاري في الأدب 10\507 رقم 6094 ومسلم , وأبو داود وأحمد. وأول ما يسري الكذب من النفس الى اللسان فيفسده, ثم يسري الى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله, فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله, فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه الى الهلكة ان لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها.
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق, وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب. فكل عمل ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب. والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه, ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته, فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق, ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب. قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} التوبة119, وقال:{ هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} المائدة 119, وقال:{ فاذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} محمد21, وقال:{ وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} التوبة 90.
[79] في ظلال الآية الكريمة
في قوله تعالى:{ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون}.
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد, فان العبد اذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب, والمحبوب قد يأتي بالمكروه, لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرّة, ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب, فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد أوجب له ذلك أمورا:
منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وان شق عليه في الابتداء, لأم عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وان كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضرعليه من ارتكاب النهي وان هويته نفسه ومالت اليه, فان عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب, وخاصية العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير, واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل. فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ الى غاياتها, والعاقل الكيّس دائما ينظر الى الغايات من وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط به سم قاتل, فكلما دعته لذته الى تناوله نهاه ما فيه من السم. ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفضى الى العافية والشفاء, وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول. ولكن هذا يحتاج الى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها, وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمّا مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية, فاذل فقد اليقين والصبر تعذّر عليه ذلك, واذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض الى من يعلم عواقب الأمور, والرضا بما يختاره له ويقضيه له, لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم, فلعل مضرّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم, فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه اذا فوَّض أمره الى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر, وصرف عنه الآفات, التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه, وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل الى بعضه, بما يختاره هو لنفسه.
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات, ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى, ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه, فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه, والا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه. لأنه مع اختياره لنفسه, ومتى صح تفويضه ورضاه, اكتنفه في المقدور والعطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه, فعطفه يقيه ما يحذره, ولطفه يهوّن عليه ما قدره.
اذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده, فلا أنفع له من الاستسلام والقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة, فان السبع لا يرضى بأكل الجيف.
[ 80] شروط الانتفاع بالايمان والعلم

لا ينتفع بنعمة الله بالايمان والعلم الا من عرف نفسه, ووقف بها عند قدرها, ولم يتجاوزه الى ما ليس له, ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي, وتيقّن أنه لله ومن الله وبالله, فهو المان به ابتداء وادامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه, فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا البتّة, وأن الخير الذي وصل اليه فهو لله وبه ومنه, فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه.
فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا ومحبة وخوف ورجاء, وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه وكماله وبره وغناه وجوده واحسانه ورحمته, وأن الخير كله في يديه, وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع من يشاء. وله الحمد على هذا, وهذا أكمل حمد وأتمه. وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها, وأنها لا خير فيها البتة ولا لها ولا بها ولا منها, وأنها ليس لها من ذاتها الا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص, فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس اليها ولا بها.
فاذا صار هذان العلمان صبغة لها لا صبغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله, والأمر كله له والخير كله في يديه, وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها, وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد الى الصراط المستقيم الموصل له الى الله.
فايصال العبد تحقيق هاتين المعرفتين علما وحالا, وانقطاعه بفواتهما. وهذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه, فانه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم, عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها, وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله, وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وانابته وتوكله اليه وحده, وكان أحب شيء اليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له, وهذا هو حقيقة العبودية, والله المستعان.
ويحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته: انه لن ينتفع بحكمتنا الا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها, فمن كان كذلك فليدخل والا فليرجع حتى يكون بهذه الصفة.
[81] الصبر عن الشهوة أسهل من ألم عقوبتها
الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة, فانها اما ان توجب ألما وعقوبة, واما أن تقطع لذة أكمل منها, واما أ، تضيع وقتا اضاعته حسرة وندامة, واما أن تلثم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه, واما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه, واما أن تضع قدرا وجاها قيامه خير وضعه, واما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة, واما أ، تطرق لوضيع اليك طريقا لم يك يجدها قبل ذلك, واما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة, واما أن تنسي علما ذكره ألذ من نيل الشهوة, واما أن تشمت عدوا وتحزن وليا, واما أ، تقطع الطريق على نعمة مقبلة, واما أ، تحدث عيبا يبقى صفة لا تزول, فان الأعمال تورث الصفات والأخلاق.
[82] حدود الأخلاق
للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا, ومتى قصّرت عنه كان نقصا ومهانة, فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة, والأنفة من الرذائل والنقائص, وهذا كماله. فاذا جاوز حده, تعدى صاحبه وجار, وان نقص عنه, جبن ولم يأنف من الرذائل.
وللحرص حد, وهو الكفاية في أمور الدنيا, وحصول البلاغ منها, فمتى نقص من ذلك كان مهانة واضاعة, ومتى زاذ عليه, كان شرها ورغبة فيما لا تحمد الرغبة فيه.
وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال, والأنفة أن يتقدم عايه نظيره, فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود, ويحرص على ايذائه, ومتى نقص عن ذلك, كان دناءة وضعف همة وصغر نفس. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا حسد الا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق, ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس" البخاري في العلم 1\165 (73) , وفي الزكاة 3\276 (1409) ومسلم, فهذا حسد منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود, لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود.
وللشهوة حد, وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك, فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقا والتحق صاحبها بدرجة الحيوانات, ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفا وعجزا ومهانة.
وللراحة حد وهو اجمام النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها, فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا واضاعة, وفات به أكثر مصالح العبد, ومى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
والجود له حد بين طرفين, فمتى جاوز حده صار اسرافا وتبذيرا, ومتى نقص عنه كان بخلا وتقتيرا.
وللشجاعة حد متى جاوزته صار تهوّرا, ومتى نقصت عنه صار جبنا وخورا, وحدها الاقدام في مواضع الاقدام, والاحجام في مواضع الاحجام, كما قال معاوية لعمرو بن العاص: أعياني أن أعرف أشجاعا أنت أم جبانا تقدم حتى أقول من أشجع الناس, وتجبن حتى أقول من أجبن الناس, فقال:
شجاع اذا أمكنتني فرصة فان لم تكن لي فرصة فجبان
والغيرة لها حد اذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبرئ, واذا قصّرت عنه كانت تغاقلا ومبادئ دياثة.
وللواضع حد اذا جاوزه كان ذلا ومهانة, ومن قصر عنه انحرف الى الكبر والفخر.
وللعز حد اذا جاوزه كان كبرا وخلقا مذموما, وان قصر عنه انحرف الى الذل والمهانة.
وضابط هذا كله العدل, وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الافراط والتفريط, وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة, بل لا تقوم مصلحة البدن الا به. فانه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك. وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك, اذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وان انحرفت الى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا.
فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود, ولا سيما حدود الشرع المأمور والمنهي. فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود, حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخل فيها. قال تعالى:{ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله}التوبة 97. فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلا, وبالله التوفيق.
[83] (فصل)
قال أبو الدرداء رضي الله عنه:" يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم, والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترّين". وهذا من جواهر الكلام, وأدله على كمال فقه الصحابة, وتقدمهم على من بعدهم في كل خير, رضي الله عنهم.
فاعلم أن العبد انما قطع منازل السير الى الله بقلبه وهمته لا ببدنه. والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح. قال تعالى:{ ذلك ومن يعظّم شعائر الله فانها من تقوى القلوب} الحج32, وقال:{ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينالها التقوى منكم}الحج37, وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" التقوى هاهنا" وأشار الى صدره, مسلم في كتاب البر والصلة والآداب 4\1986 رقم32. فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة, وعلو الهمة, وتجريد القصد, وصحة النية مع العمل القليل, أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق. فان العزيمة والمحبة تذهب المشقة, وتطيب السير, والتقدم والسبق الى الله سبحانه انما هو بالهمم, وصدق الرغبة والعزيمة, فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل, فان ساواه في همته تقدم عليه بعمله, وهذا موضع يحتاج الى تفصيل يوافق فيه الاسلام الاحسان.
فأكمل الهدي هدي رسول الله, وكان موفيا كل واحد منهما حقه, فكان مع كماله وارادته وأحواله مع الله يقوم حتى ترم قدماه, ويصوم حتى يقال لا يفطر, ويجاهد في سبيل الله, ويخالط أصحابه ولا يحتجب عنهم, ولا يترك شيئا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر.
والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الاسلام على ظواهرهم وحقائق الايمان على بواطنهم, ولا يقبل واحدا منهما الا بصاحبه وقرينه. وفي المسند مرفوعا:" الاسلام علانية والايمان في القلب"3\134. فكل اسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه الى حقيقة الايمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الايمان الباطن, وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الاسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت. فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبّد الأمر وظاهر الشرع لم ينجّه ذلك من النار. كما أنه لو قام بظواهر الاسلام ولي في باطنه حقيقة الايمان ولم ينجّه من النار.
واذا عرف هذا, فالصادقون السائرون الى الله والدار الآخرة قسمان:
قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض الى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازل أحكامها, وان لم يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة الى الاستكثار من الأعمال.
وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسنن الى الاهتمام بصلاح قلوبهم وعكوفها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر والارادات معه. وجعلوا قوة تعبّدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة, والخوف والرجاء والتوكل والانابة ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلوبهم من الله أحب اليهم من كثير من التطوعات البدنية, فاذا حصل لأحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل, لم يستبدل به شيئا سواه البتة, الا أن يجيء الأمر فيبادر اليه بذلك الوارد ان أمكنه, والا بادر الى الأمر ولو ذهب الوارد.
فاذا جاءت النوافل فهاهنا معترك التردد, فان أمكن القيام اليها به فذاك, والا نظر في الأرجح والأحي الى الله, هل هو القيام الى تلك النافلة ولو ذهب وارده كاغاثة الملهوف وارشاد ضال وجبر مكسور واستفادة وايمان ونحو ذلك, فهاهنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة, ومتى قدمها لله رغبة فيه وتقرّبا اليه فانه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر, وان كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فانه يفوت والنافلة لا تفوت.
وهذا موضع يحتاج الى فضل فقه في الطريق ومراتب الأعمال وتقديم الأهم منها فالأهم, والله الموفق لذلك لا اله غيره ولا رب سواه.
[84] الأخلاق المحمودة والأخلاق المذمومة
أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة, وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة. فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والاعراض واباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك, كلها ناشئة من الكبر, وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك, فانها من المهانة والدناءة وصغر النفس.
وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحلم والعفو والصفح والاحتمال والايثار. وعزة النفس عن الدناءات والتواضع والقناعة والصدق والاخلاص والمكافأة والاحسان بمثله أ, أفضل, والتغافل عن زلات الناس وترك الاشتغال بما لا يعنيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك, فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتأخذ زينتها وبهجتها (يشير الى سورة فصلت آية 39), فكذلك المخلوق منها اذا أصابه حظه من التوفيق.
وأما النار فطبعها العلو والافساد ثم تخمد فتصير أحقر شيء وأذله وكذلك المخلوق منها. فهي دائما بين العلو اذا هاجت واضطربت, وبين الخسة والدناءة اذا خمدت وسكنت.
والأخلاق المذمومة تابعة للنار والمخلوق منها, والأخلاق الفاضلة تابعة للأرض والمخلوق منها. فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل, ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل.
[85] المطلب الأعلى يحتاج الى همة عالية ونية صحيحة
المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة, فمن فقدهما تعذّر عليه الوصول اليه, فان الهمة اذا مانت عالية تعلقت به وحده دون غيره. واذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة اليه, فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب, فاذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة اليه كان الوصول غايته. واذا كانت همته سافلة تعلّقت بالسفليات ولم تتعلّق بالمطلب الأعلى. واذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة اليه. فمدار الشأن على همة العبد ونيته هما مطلوبه وطريقه لا يتم الا بترك ثلاثة أشياء:
(الأول): العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس.
(الثاني): هجر العوائق التي تعوقه عن افراد مطلوبه وطريقه وقطعها.
(الثالث): قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعليق بالمطلوب (وكأنه يشير رحمه الله الى تجرد المسلم عن كل عوائق الدنيا, وعلائق القلب وقبل ذلك بعه عن كل البدع والخرافاتالتي أحدثها الناس, وما أكثرها في زماننا) والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية, والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة, فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه, والله المستعان.
[86] (فصل)
من حكم ابن مسعود رضي الله عنه
من كلام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه, قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين, أحب أن أكون من المقربين, فقال عبدالله: لكن هاهنا رجل ودّ أنه اذا مات لم يبعث. يعني نفسه.
وخرج ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا لا, ولكن أردنا أن نمشي معك, قال: ارجعوا, فانه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وقال: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب. قال: حبذا المكروهان: الموت والفقر, وأيم الله ان هو الا الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت, أرجو الله في كل واحد منهما, ان كان الغنى ان فيه للعطف, وان كان الفقر ان فيه للصبر.
وقال: انكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة, وأعمال محفوظة, والموت يأتي بغتة, فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد ندامة, ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطىء بحظه, ولا يدرك حريص ما لم يقدر له. من أعطى خيرا فالله أعطاه, ومن وقى شرا فالله وقاه.
المتقون سادة, والفقهاء قادة, ومجالستهم زيادة, انما هما اثنتان: الهدى والكلام, فأفضل الكلام كلام الله, وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة, فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فان كل ما هو آت قريب, ألا وان البعيد ما ليس آتيا, ألا وان الشقي من شقي في بطن أمه, وان السعيد من وعظ بغيره.
ألا وان قتال المسلم كفر وسبابه فسوق, ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلّم عليه اذا لقيه, ويجيبه اذا دعاه, ويعوده اذا مرض, ألا وان شرّ الروايا روايا الكذب, الا وان الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه, ألا وان الكذب يهدي الى الفجور, والفجور يهدي الى النار, والصدق يهدي الى البر, والبر يهدي الى الجنة, وانه يقال للصادق صدق وبر, ويقال للكاذب كذب وفجر, وان محمدا صلى الله عليه وسلم حدثنا أن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا ويكذب حتى يكتب عند الله كذّابا.
ان أصدق الحديث كتاب الله, وأوثق العرى كلمة التقوى, وخير الملل ملة ابراهيم, وأحسن النن سنة محمد, وخير الهدي هدي الأنبياء, وأشرف الحديث ذكر الله, وخير القصص القرآن, وخير الأمور عوازمها, وشر الأمور محدثاتها, وما قل وكفى خير مما كثر وألهى, ونفس تنجيها خيرمن امارة لا تحصيها, وشر المعذرة حين يحضر الموت, وشر الندامة ندامة يوم القيامة, وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى, وخير الغنى غنى النفس, وخير الزاد التقوى, وخير ما وقر في القلب اليقين, والريب من الكفر, وشر العمى عمى القلب, والخمر جماع الاثم, والنساء حبائل الشيطان, الشباب شعبة من الجنون, والنوح من عمل الجاهلية.
ومن الناس من لا يأتي الجمعة الا دبرا ولا يذكر الله الا هجرا, ومن أعظم الخطايا اللسان الكذّاب, ومن يعف يعف الله عنه, ومن يكظم الغيظ يأجره الله, ومن يغفر يغفر له, ومن يصبر على الرزية يعقبه الله, وشر المكاسب كسب الربا, وشر المأكل مال اليتيم, وانما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه, وانما يصير الى أربعة أذرع والأمر الى آخرة, وملاك العمل خواتمه, وأشرف الموت قتل الشهداء, ومن يستكبر يضعه الله, ومن يعص الله يطع الشيطان.
ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله اذا الناس نائمون, وبنهاره اذا الناس مفطرون, وبحزنه اذا الناس يفرحون, وببكائه اذا الناس يضحكون, وبصمته اذا الناس يخوضون, وبخشوعه اذا الناس يختالون.
وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا سخابا ولا صياحا ولا حديدا.
من تطاول تعظّما حطّه الله, ومن تواضع تخشّعا رفعه الله, وان للملك لمة وللشيطان لمة, فلمة الملك ايعاد بالخير, وتصديق بالحق, فاذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله. ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق, فاذا رأيتم ذلك فتعوّذوا بالله. ان الناس قد أحسنوا القول, فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظّه, ومن خالف قوله فعله فذاك انما يوبخ نفسه.
لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب(دويبة) نهار, اني لأبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة, ومن لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله الا بعدا.
من اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله, ولا تحمد أحدا على رزق الله, ولا تلوم أحدا على ما لم يؤتك الله. فان رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره, وان الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا, وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك, ومن يقرع باب الملك يفتح له. اني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها.
كونوا ينابيع العلم, مصابيح الهدى, أحلاس البيوت, سرج الليل, جدد القلوب, خلقان الثياب, تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض.
ان للقلوب شهوة وادبارا فاغتنموها عند شهوتها واقبالها, ودعوها عند فترتها وادبارها.
ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم بالخشية.
انكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضهم قلبا, وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضهم جسما, وأيم والله, لو مرضت قلوبكم وصحّت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان.
لا يبلغ العبد حقيقة الايمان حتى يحل بذروته, ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب اليه من الغنى, والتواضع أحب اليه من الشرف وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء, وان الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه منه شيء, يأتي الرجل ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفقعا, فيقسم له بالله انك لذيت وذيت, فيرجع وما حبى من حاجته بشيء وبسخط الله عليه.
لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا.
الاثم حوّاز القلوب.
مع كل فرحة ترحة وما ملىء بيت حبرة الا ملىء عبرة- وما منكم الا ضيف وماله عارية, فالضيف مرتحل, والعارية مؤداة الى أهلها.
يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان اذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه فلؤت الى الناس الذي يحب أن يؤتى اليه.
الحق ثقيل مريء, والباطل خفيف وبيء, رب شهوة تورث حزنا طويلا.
ما على وجه الأرض شيء أحوج الى طول سجن من لسان.
اذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن في هلاكها.
من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل, فان قلب الرجل مع كنزه.
لا يقلدن أحدكم في دينه رجلا, فا آمن أمن وان كفر كفر, وان كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت, فان الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
لا يكن أحدكم امعة, قالوا وما الأمعة؟ قال: يقول أنا مع الناس ان اهتدوا اهتديت وان ضلوا ضللت, ألا ليطن أحدكم نفسه على أنه ان كفر الناس لا يكفر.
وقال له رجل: علمني كلمات جوامع نوافع, فقال: اعبد الله لا تشرك به شيئا, وزل مع القرآن حيث زال, ومن جاءك بالحق فاقبل منه وان كان بعيدا بغيضا, ومن جاءك بالبطل فاردد عليه وان كان حبيبا قريبا. يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أد أمانتك, فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فتمثل على هيئتها يوم أخذها في قعر جهنم, فينزل ويأخذها فيضعها على عاتقه فيصعد بها, حتى اذا ظن أنه خارج بها هوت وهوى في أثرها أبد الآبدين.
أطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن, وفي مجال الذكر, وفي أوقات الخلوة. فان لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب, فانه لا قلب لك.
قال الجنيد: دخلت على شاب فسألني عن التوبة فأجبته, فسألني عن حقيقتها, فقلت: أن تنصب ذنبك بين عينيك حتى يأتيك الموت. فقال لي: مه, ما هذه حقيقة التوبة, فقلت له: فما حقيقة التوبة عندك يا فتى؟ قال: أن تنسى ذنبك. وتركني ومضى, فكيف هو عندك يا أبا القاسم؟ فقلت: القول ما قال الفتى. قال: كيف, قلت: اذا كنت معه في حال ثم نقلني من حال الجفاء الى حال الوفاء, فذكري للجفاء في حال الوفاء جفاء.
[87] الاخلاص ومحبة المدح لا يجتمعان في قلب
لا يجتمع الاخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس الا كما يجتمع الماء والنار والنصب والحوت. فاذا حدثتك نفسك بطلب الاخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشّاق الدنيا في الآخرة, فاذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الاخلاص.
فان قلت: وما الذي يسهّل علي ذبح الطمع والزهد في المدح والثناء؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه الا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في المدح والثناء فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين, ويضر ذمه ويشين الا الله وحده, كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: ان مدحي زين وشتمي شين, فقال:" ذاك الله عز وجل" الترمذي في السنن رقم 3263, وأحمد في المسند 3\488, 6\393 394. فازهد في مدح من لا يزينك مدحه, وفي ذم من لا يشينك ذمه, وارغب في مدح من كل الزين في مدحه, وكل الشين في ذمه, ولن يقدر على ذلك الا بالصبر واليقين, فمتى فقدت البصر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب, قال الله تعالى:{ فاصبر انّ وعد الله حق ولا يستخفّنّك الذين لا يوقنون} الروم60, وقال تعالى:{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} السجدة24.
[88] أشرف الناس من كانت لذته في معرفة الله تعالى ومحبته
لذة كل أحد على حسب قدره وهمّته وشرف نفسه, فأشرف الناس نفسا وأعلاهم همّا وأرفعهم قدرا من لذّته في معرفة الله ومحبته والشوق الى لقائه والتودد اليه بما يحبه ويرضاه. فلذته في اقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها الا الله, حتى تنتهي الى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال. فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا التفت اليه وربما تألمت من ذلك, كما أن الأول اذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت اليه ونفرت نفسه منه.
وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن. فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه. فهذا ممن قال تعالى فيه:{ قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} الأعراف32, وأبخسهم حظا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة, فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات:{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} الأحقاف20. فهؤلاء تمتعوا بالطيبات, وأولئك تمتعوا بالطيبات, وافترقوا في وجه التمتع, فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أذن لهم فيه, فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة, وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم اليه الهوى والشهوة, وسواء أذن لهم فيه أم لا, فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة, فلا لذة الدنيا دامت لهم, ولا لذة الآخرة حصلت لهم. فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيّب فليجعل لذة الدنيا موصلا له الى لذة الآخرة, بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله في ارادته وعبادته, فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى.
وان كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة, ويجم نفسه هاهنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك. فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله و الدار الآخرة وكانت همته لما هناك, وبئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهمته, وحولها يدندن, وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة, وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة. فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعا والا خسرهما جميعا.
سبحان الله رب العالمين. لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي ولا اقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواما لمصالح الدنيا والآخرة, ومحبة الخلق وجواز القول بينهم وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر, والأمن من مخاوف الفساق والفجار, وقلة الهم والغم والحزن, وعز النفس عن احتمال الذل, وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية, وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار, وتيسير عليه الرزق من حيث لا يحتسب, وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي, وتسهيل الطاعات عليه, وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس, وكثرة الدعاء له, والحلاوة التي يكتسبها وجهه, والمهابة الي تلقى له في قلوب الناس, وانتصارهم وحميتهم له اذا أوذي وظلم, وذبهم عن عرضه اذا اغتابه مغتاب, وسرعة اجابة دعائه, وزوال الوحشة التي بينه وبين الله, وقرب الملائكة منه, وبعد شياطين الأنس والجن منه, وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه, وخطبتهم لمودته وصحبته, وعدم خوفه من الموت, بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره اليه, وصغر الدنيا في قلبه, وكبر الآخرة عنده وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها, وذوق حلاوة الطاعة, ووجد حلاوة الايمان, ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له, وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت, والزيادة في عقله وفهمه وايمانه ومعرفته, وحصول محبة الله له واقباله عليه, وفرحه بتوبته, وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له الى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه.
فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا. فاذا مات تلتقه الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة, وبأنه لا خوف عليه ولا حزن, وينتقل من سجن الدنيا وضيقها الى روضة من رياض الجنة ينعم فيها الى يوم القيامة. فاذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق, وهو في ظل العرش. فاذا انصرفوا بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين:و{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} الحديد 21.
[89] من مزايا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز
ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز أنه كان اذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطعه. واذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه, ويقول: اللهم اني أعوذ بك من شر نفسي. طبقات ابن سعد 5\330.
اعلم أن العبد اذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه به وتوفيقه له فيه وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته, بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن. فالذي منّ عليه بذلك هو الذي منّ عليه بالقول والفعل, فاذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منّة ربه وتوفيقه واعانته. فاذا غاب من تلك الملاحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى, فوقع العجب ففسد عليه القول والعمل, فتارة يحال بينه وبين تمامه ويقطع عليه ويكون ذلك رحمة به حتى لا يغيب عن مشاهدة المنّة والتوفيق. وتارة يتم له ولكن لا يكون له ثمرة, وان أثمر أثمر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود. وتارة يكون ضرره عليه أعظم من انتفاعه, ويتولد له منه مفاسد شتّى بحسب غيبته عن ملاحظة التوفيق والمنّة ورؤية نفسه وأن القول والفعل به.
ومن هذا الموضع يصلح الله سبحانه أقوال عبده وأعماله ويعظم له ثمرتها أو يفسدها عليه ويمنعه ثمرتها. فلا شيء أفسد للأغعمال من العجب ورؤية النفس, فاذا أراد الله بعبده خيرا أشهده منّته وتوفيقه واعانته له في كل ما يقوله ويفعله فلا يعجب به. ثم أشهده تقصيره فيه وأنه لا يرضى لربه به فيتوب اليه منه ويستغفره, ويستحيي أن يطلب عليه أجرا. واذا لم يشهده ذلك وغيّبه عنه فرأى نفسه في العمل ورآه بعين الكمال والرضا, لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرضا والمحبة. فالعارف يعمل العمل لوجهه مشاهدا فيه منّته وفضله وتوفيقه, معتذرا منه اليه, مستحييا منه اذ لم يوفقه حقه. والجاهل يعمل العمل لحظه وهواه ناظرا فيه الى نفسه, يمنّ به على ربه راضيا بعمله, فهذا لون وذاك لون آخر.
[90] من الحكم والمواعظ
الوصول الى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق. فالعوائد السكون الى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتّبع, بل هي عندهم أعظم من الشرع. فانهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع. وربما كفّروه أو بدّعوه وضلّلوه, أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم, وأماتوا لها السنن, ونصبوها أندادا للرسول صلى الله عليه وسلم يوالون عليها ويعادون. فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها.
وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت عليها طوائف من بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء, والمطوعين والعامة. فربي فيها الصغير ونشأ عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند أصحابها من السنن. والواقف معها محبوس والمتقيّد بها منقطع. عمّ بها المصاب, وهجر لأجلها السنة والكتاب.
من استنصر بها فهو عند الله مخذول, ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسول الله فهو عند الله غير مقبول. وهذا أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين النفوذ الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم.
[91] من العوائق
وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها, فانها تعوق القلب عن سيره الى الله وتقطع عليه طريقه, وهي ثلاثة أمور: شرك وبدعة ومعصية, فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد, وعائق البدعة بتحقيق السنة, وعائق المعصية بتصحيح التوبة. وهذه العوائق لا تتبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير الى الله والدار الآخرة. فحينئذ تظهر له هذه العوائق يحسس بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرّده للسفر, والا فما دام قاعدا لا تظهر له كوامنها وقواطعها.
[92] من العلائق
وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورئاستها وصحبة الناس والتعلق بهم, ولا سبيل له الى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها الا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى, والا فقطعها عليه بدون تعلّقه بمطلوبه ممتنع. فان النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها الا لمحبوب هو أحب اليها منه آثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره. وكذا بالعكس والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه. وذلك على قدر معرفته به وشرفه وفضله على ما سواه.
[93] حاجة الناس الى الرسول صلى الله عليه وسلم
لما كمل للرسول صلى الله عليه وسلم مقام الافتقار الى الله سبحانه أحوج الخلائق كلهم اليه في الدنيا والآخرة. أما حاجتهم اليه في الدنيا فأشد من حاجتهم الى الكعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم. وأما حاجتهم اليه في الآخرة فانهم يستشفعون بالرسل الى الله حتى يريحوهم من ضيق مقامهم. فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع لهم, وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة. في صحيح مسلم كتاب الايمان حديث عن أنس بن مالك عن رسول الله أنه قال:" آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أ،ت, فأقول محمد. فيقول: لك أمرت لا أفتح لأحد قبلك" 1\188رقم(333).
[94] من علامات السعادة والفلاح
من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته. وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره. وكلما زيد في عمره نقص من حرصه. وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله. وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.
وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه, وكلما زيد في عمل زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه, وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه. وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام.
وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء, كالملك والسلطان والمال.
قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس:{ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} النمل40. فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور. كما أن المحن بلوى منه سبحانه, فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب, قال تعال:{ فأمّا الانسان اذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن * وأمّا اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا..} الفجر 15-17, أي ليس كل ما وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك اكراما مني له, ولا كل من ضيّقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك اهانة مني له. ( أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا فان الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ويضيق على من يحب ومن لا يحب, وانما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين اذا كان غنيّا بأن يشكر الله على ذلك وان كان فقيرا بأن يصبرأنظر تفسير ابن كثير 4\509).
[95] الأعمال درجات وأساسها الايمان
من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه واحكامه وشدة الاعتناء به. فان علو البنيان على قدر توثيق الأساس واحكامه. فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الأيمان, ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه. واذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه, واذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت, واذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد. فالعارف همّته تصحيح الأساس واحكامه, والجاهل يرفع في البناء من غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط. قال تعال:{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم} التوبة 109.
فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الأنسان, فاذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من الآفات, واذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات اليه أسرع شيء, فاحمل بنيانك على قوة أساس الايمان, فاذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس.
وهذا الأساس أمران: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته. والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه, فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه بنيانه, وبحسبه يعتلي البنيان ما شاء. فاحكم الأساس, واحفظ القوة, ودم على الحمية, واستفرغ اذا زاد بك الخلط, والقصد القصد وقد بلغت المراد, والا فما دامت القوة ضعيفة والمادة الفاسدة موجودة والاستفراغ معدوما:
فاقر السلام على الحياة فانها قد آذنتك بسرعة التوديع
فاذا كمل البناء فبيضه بحسن الخلق والاحسان الى الناس, ثم حطه بسور من الحذر, لا يقتحمه عدو, ولا تبدو منه العورة, ثم أرخ الستور على أبوابه, ثم أقفل الباب الأعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته, ثم ركب له مفتاحا من ذكر الله به تفتحه وتغلقه, فان فتحت فتحت بالمفتاح وان أغلقت الباب أغلقته به, فتكون حينئذ قد بنيت حصنا تحصنت فيه من أعدائك اذا طاف به العدو لم يجد منه مدخلا فييأس منك. ثم تعاهد بناء الحصن كل وقت, فان العدو اذا لم يطمع في الدخول من الباب نقّب عليك النقوب من بعيد بمعاول الذنوب, فان أهملت أمره وصل اليك النقب, فاذا العدو معك في داخل الحصن فيصعب عليك اخراجه, وتكون معه على ثلاث خلال:
اما أم يغلبك على الحصن, ويستولي عليه, واما أن يساكنك فيه, واما أن يشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك, وتعود الى سد النقب ولم شعث الحصن.
واذا دخل نقبه اليك نالك منه ثلاث آفات: افساد الحصن, والاغارة على حواصله وذخائره, ودلالة السراق من بني جنسه على عورته. فلا تزال تبتلي منه بغارة بعد غارة حتى يضعفوا قواك ويوهنوا عزمك فتتخلى عن الحصن وتخلي بينهم وبينه.
وهذه حال أكثر النفوس مع هذا العدو, ولهذا تراهم يسخطون ربهم برضا أنفسهم, بل برضا مخلوق مثلهم لا يملك لهم ضرا ولا نفعا, ويضيعون كسب الدين بكسب الأموال, ويهلكون أنفسهم بما لا يبقى لهم, ويحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم, ويزهدون في الآخرة وقد هجمت عليهم, ويخالفون ربهم باتباع أهوائهم, ويتكلون على الحياة ولا يذكرون الموت, ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون ما عهد الله اليهم, ويهتمون بما ضمنه الله لهم ولا يهتمون بما أمرهم به, ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها ولا يفرحون بالايمان فرحهم بالدرهم والدينار, ويفسدون حقهم بباطلهم وهداهم بضلالهم ومعروفهم بمنكرهم, ويلبسون ايمانهم بظنونهم, ويخلطون حلالهم بحرامهم, ويترددون في حيرة آبائهم وأفكارهم, ويتركون هدى الله الذي أهداه اليهم. ومن العجب أن هذا العدو يستعمل صاحب الحصن في هدم حصنه بيديه.
[96] أركان الكفر
أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة.
فالكبر يمنعه الانقياد, والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها, والغضب يمنعه العدل, والشهوة تمنعه التفرّغ للعبادة. فاذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد, واذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله, واذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع, واذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة.
وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن ابتلي بها, ولا سيما اذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة, فانه لا يستقيم له معها عمل البتة ولا تزكو نفسه مع قيامها بها. وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة, وكل الآفات متولدة منها. واذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق, والحق في صورة الباطل, والمعروف في صورة المنكر, والمنكر في صورة المعروف, وقربت منه الدنيا, وبعدت عنه الآخرة, واذا تأملت كفر الأمم رأيته ناشئا منها, وعليها يقع العذاب, وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها. فمن فتحها على نفسه فتح عليه أبواب الشرور كلها عاجلا وآجلا, ومن أغلقها على نفسه أغلق عنه أبواب الشرور, فانها تمنع الانقياد والاخلاص والتوبة والانابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه.
ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه, فانه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال, وعرف نفسه بالنقائص والآفات, لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدا على ما أتاه الله, فانه الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله, فانه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله, ويحب زوالها عنه ويكره الله ذلك. فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته, ولذلك كان ابليس عدوه حقيقة لأن ذنبه كان عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده, والرضا به وعنه, والانابة اليه, وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها, فان ذلك ايثار لها بالغضب والرضا على خالقها وفاطرها, وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعوّدها أن تغضب له سبحانه وترضى له, فكلما دخلها شيء من الغضب والرضا له خرج منها مقابله من الغضب والرضا لها, وكذا بالعكس.
وأما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن اعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها اياها ومنعها منها. وحميتها أعظم أسباب اتصالها اليها, فكلما فتحت عليك باب الشهوات منت ساعيا في حرمانها اياها, وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعيا في ايصالها على أكمل الوجوه.
فالغضب مثل السبع اذا أفلته صاحبه بدأ بأكله, والشهوة مثل النار اذا أضرمها صاحبها بدأت بحرقه, والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه فان لم يهلكك طردك عنه, والحسد بمنزلة معاداة من هو أقد منك, والذي يغلب شهوته وغضبه يفرق الشيطان من ظله. ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله (أي يخاف).
[97] (فصل عظيم النفع)
الجهال بأسماء الله وصفاته
الجهال بأسماء الله وصفاته المعطلون لحقائقها يبغضون الله الى خلقه, ويقطعون عليهم طريق محبته والتودد اليه بطاعته من حيث لا يعلمون. ونحن نذكر من ذلك أمثلة تحتذى عليها:
فمنها أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة, وان طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه. وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكروه, بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب الى الماخور, ومن التوحيد والمسبحة الى الشرك والمزمار. ويقلب قلبه من الايمان الخالص الى الكفر. ويروون في ذلك آثارا صحيحة لم يفهموها, وباطلة لم يقلها المعصوم, ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد, ويتلون على ذلك قوله تعالى:{ ولا يسأل عما يفعل} الأنبياء 23, وقوله:{ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون}الأعراف99, وقوله:{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}الأنفال 24, ويقيمون ابليس حجة لهم على هذه المعرفة وأنه كان طاووس الملائكة, وأنه لم يترك في السماء رقعة, ولا في الأرض بقعة الا وله فيها سجدة أو ركعة, لكن جنى عليه جاني القدر, وسطا عليه الحكم, فقلب عينه الطيبة, وجعلها أخبث شيء, حتى قال بعض عارفيهم: انك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الذي يثب عليك بغير جرم منك ولا ذنب أتيته اليه. ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" البخاري في بدء الخلق 6\303 رقم (3208) ومسلم في القدر 4\2036 رقم (1) وفي غير مواقع. ويروون عن بعض السلف: أكبر الكبائر الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله.
وذكر الامام أحمد عن عون بن عبد الله أو غيره أنه سمع رجلا يدعو: اللهم تؤمني مكرك, فأنكر ذلك وقال: اللهم لا تجعلني ممن يأمن مكرك. وبنوا هذا على أصلهم الباطل وهو انكار الحكمة والتعليل والأسباب, فلا يفعل لشيء ولا بشيء, وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب, وينعّم أعدائه وأهل معصيته بجزيل الثواب, وأن الأمرين بالنسبة اليه سواء, ولا يعلم امتناع ذلك الا بخبر من الصادق أنه لا يفعله. فحينئذ يعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنه لا يكون, لا لأنه في نفسه باطل وظلم, فان الظلم في نفسه مستحيل, فانه غير ممكن. بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد. فهذا حقيقة الظلم عندهم. فاذا رجع العالم الى نفسه قال: من لا يستقر له أمر, ولا يؤمن له مكر, كيف يوثق بالتقرّب اليه؟ وكيف يعول على طاعته واتباع أوامره, وليس بنا سوى هذه المدة اليسيرة؟ فاذا هجرنا فيها اللذات وتركنا الشهوات وتكلفنا أثقال العبادات, وكنا مع ذلك على غير ثقة منه أن يقلب علينا الايمان كفرا, والتوحيد شركا, والطاعة معصية, والبر فجورا, ويديم علينا العقوبات, كنا خاسرين في الدنيا والآخرة.
فاذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم, وتخمّر في نفوسهم, صاروا اذا مروا بالطاعات وهجر اللذات بمنزلة انسان جعل يقول لولده: معلمك ان كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربما أقام لك حجة وعاقبك, وان كسلت وبطلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربما قربك وكرمك, فيودع بهذا القول قلب الصبي ما لا يثق بعده الى وعيد المعلم على الاساءة, ولا وعده على الاحسان, وان كبر الصبي وصلح للمعاملات والمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس فيجعله وزيرا أميرا, ويأخذ الكيّس المحسن فيخلّده في الحبس ويقتله ويصلبه. فاذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه, وجعله على غير ثقة من وعد ووعيده, وأزال محبته من قلبه, وجعله يخافه مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة, والبريء بالعذاب, فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة, فلا بفعل الخير يستأنس, ولا بفعل الشر يستوحش, وهل هو تنفير عن الله وتبغيضه الى عباده أكثر من هذا؟ ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.
وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر, ويرد على أهل البدع وينصر الدين, ولعمر الله العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل. وكتب الله المنزلة كلها ورسله كلهم شاهدة بضد ذلك ولا سيما القرآن. فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس لصلح العالم صلاحا لا فساد معه, فالله سبحانه أخبر وهو الصادق الوفي: أنه انما يعمل الناس بكسبهم ويجازيهم بأعماللهم ولا يخاف المحسن لديه ظلما ولا هضما, ولا يخاف بخسا ولا رهقا, ولا يضيع عمل محسن أبدا, ولا يضيع على العبد مثقال ذرة, ولا يظلمها, وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما, وان كان مثقالحبة من خردل جازاه بها ولا يضيعها عليه. وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويحبطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب, ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ويضاعفها الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة.
وهو الذي أصلح المفسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين, وهدى الضالين, وأنقذ الهالكين, وعلم الجاهلين, وبصّر المتحيرين, وذكر الغافلين, وآوى الشاردين. واذا أوقع عقابا أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه, ودعوة العبد الى الرجوع اليه والاقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة, حتى اذا أيس من استجابته, والاقرار بربوبيته ووحدانيته, أخذه ببعض كفره وعتوّه وتمرّده, بحيث يعذر العبد من نفسه, ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه, وأنه هو الظالم لنفسه, كما قال تعالى:{ فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} الملك11, وقال عمن أهلكهم في الدنيا انهم لما رأوا آياته, وأحسوا بعذابه:{ قلوا يا ويلنا لنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين} الأنبياء 14,15, وقال أصحاب الجنة (وهم أصحاب الحديقة أو البستان التي حكى القرآن قصتهم في سورة القلم وكانت الجنة لرجل يؤدي حق الله تعالى منها فلما مات صار الى بنيه فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها فأهلكها الله. الجامع لأحكام القرآن 18\156, وتفسير ابن كثير 4\406) التي أفسدها عليهم لما رأوها قالوا:{ سبحان ربنا انا كنا ظالمين}القلم29, وقال الحسن: لقد دخلوا النار وانّ حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا. ولهذا قال تعالى:{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} الأنعام 45.
فهذه الجملة في موضع الحال أي قطع دابرهم كونه سبحانه محمودا على ذلك, فقطع دابرهم قطعا مصاحبا لحمده, فهو قطع واهلاك يحمد عليه الرب تعالى لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها. فوضعها في الموقع الذي يقول من علم الحال: لا تليق العقوبة الا بهذا المحل, ولا يليق به الا العقوبة. ولهذا قال عقيب اخباره عن الحكم بين عباده, ومصير أهل السعادة الى الخنة, وأهل الشقاء الى النار:{ قضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} الزمر75, فحذف فاعل القول اشعارا بالعموم وأن الكون كله قال:{ الحمد لله رب العالمين} لما شاهدوا من حكمة الحق وعدله وفضله. ولهذا قال في حق أهل النار:{ قيل ادخلوا أبواب جهنم}الزمر 72, كأن الكون كله يقول ذلك حتى تقوله أعضاءهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم, وهو سبحانه يخبر أنه اذا أهلك أعداءه نجّى أولياءه ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة.
ولما سأله نوح نجاة ابنه أخبره أنه يغرقه بسوء أعماله وكفره, ولم يقل اني أغرقه بمحض مشيئتي وارادتي بلا سبب ولا ذنب. وقد ضمن سبحانه زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم.
وكذلك ضمن زيادة الهداية للكتقين الذين يتبعون رضوانه, وأخبر أنه لا يضل الا الفاسقيت الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه, وأنه انما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى, فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه, وانه يقلب قلب من لم يرض بهداه اذا جاءه ولم يؤمن به, ودفعه وردّه, فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه لما تحققه وعرفه, وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيرا لأفهمها وهداها, ولكنها لا تصلح لنعمته ولا تليق بها كرامته.
وقد أزاح سبحانه العلل, وأقام الحجج, ومكّن من أسباب الهداية, وأنه لا يضل الا الفاسقين الضالين الظالمين, ولا يطبع الا على قلوب المعتدين, ولا يركس في الفتنة الا المنافقين بكسبهم, وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال:{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} المطففين 14, وقال عن أعدائه اليهود:{ وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم} النساء 155, وأخبر أنه لا يضل من هداه حتى يتبين له ما يتقى, فيختار لشقوته وسوء طبيعة الضلال على الهدى والغي على الرشاد, ويكون مع نفسه وشيطانه وعدو ربه عليه.
وأما المكر الذي وصف به نفسه, فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله, فيقابل مكرهم السيء بمكره الحسن, فيكون المكر منهم أقبح شيء, ومنه أحسن شيء لأنه عدل ومجازاة. وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه, فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر.
وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب, فان عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس, ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه ولم يبطله عليه.
وقوله:" لم يبق بينه وبينها الا ذراع" يشكل على هذا التأويل, فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له, بل كان فيه آفة كامنة, ونكتة خذل بها في آخر عمره, فخانته تلك الآفة الداهية الباطنة في وقت الحاجة, فرجع الى موجبها وعملت عملها, ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله ايمانه, لقد أورده مع صدقه فيه واخلاصه بغير سبب منه يقتضي افساده عليه, والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.
وأما شأن ابليس: فان الله سبحانه قال للملائكة:{ اني أعلم ما لا تعلمون} البقرة30, فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب ابليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة, فلما أمروا بالسجود, ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد, فبادروا الى الامتثال, وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد, فأبى واستكبر, وكان من الكافرين.
وأما خوف أوليائه من مكره فحق, فانهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون الى الشقاء, فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته, وقوله:{ أفأمنوا مكر الله} الأعراف 99, انما هو حق الفجار والكفار.
ومعنى الآية: فلا يعصي ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره الا القوم الخاسرون. والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع اغترار, فيأنسوا بالذنوب, فيجيئهم العذاب على غرّة وفترة.
وأمر آخر: وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم اذا تخلوا عن ذكره وطاعته, فيسرع اليهم البلاء والفتنة فيكون مكره بهم تخليه عنهم.
وأمر آخر: أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم, فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.
وأمر آخر: أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه, فيفتنون به, وذلك مكر.
[98] التوحيد والسنة شجرة في القلب فروعها الأعمال
السنة شجرة, والشهور فروعها, والأيام أغصانها, والساعات أوراقها, والأنفاس ثمرها. فمن كانت أنفاسه في طاعة, فثمرة شجرته طيبة, ومن كانت في معصية فثمرته حنظل. وانما يكون الجذاذ يوم المعاد, فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرّها.
والاخلاص والتوحيد شجرة في القلب, فروعها الأعمال, وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة. وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة, فثمرة التوحيد والاخلاص في الدنيا كذلك. والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب, ثمرها في الدنيا الخوف والهمم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب, وثمرها في الآخرة الزقّوم والعذاب المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة ابراهيم.
اذا بلغ العبد أعطى عهده الذي عهده اليه خالقه ومالكه, فاذا أخذ عهده بقوة وقبول, وعزم على تنفيذ ما فيه, صلح للمراتب والمناصب التي يصلح لها الموفون بعهودهم, فاذا هز نفسه عند أخذ العهد, وانتخاها وقال: قد أهّلت لعهد ربي, فمن أولى بقبوله وفهمه وتنفيذه مني؟ فحرص أولا على فهم عهده وتدبره ومعرفة وصايا سيده له, ثم وطّن نفسه على امتثال ما في عهده, والعمل به, وتنفيذه حسبما تضمّن عهده, فأبصر بقلبه حقيقة العهد وما تضمنه, فاستحدث همة أخرى, وعزيمة غير العزيمة التي كان فيها وقت الصبا, قبل وصول العهد, فاستقال من ظلمة غرة الصبا والانقياد للعادة والمنشأ, وصبر على شرف الهمة وهتك ستر الظلمة الى نةر اليقين, فأدرك بقدر صبره وصدق اجتهاده ما وهبه الله له من فضله.
فأول مراتب سعادته أن تكون له أذن واعية, وقلب يعقل ما تعيه الأذن. فاذا سمع وعقل, واستبانت له الجادة, ورأى عليها تلك الأعلام, ورأى أكثر الناس منحرفين عنها يمينا وشمالا فلزمها, ولم ينحرف مع المنحرفين الذين كان سبب انحرافهم عدم قبول العهد, أو قبلوه بكره, ولم يأخذوه بقوة ولا عزيمة, ولا حدثوا أنفسهم بفهمه وتدبره, والعمل بما فيه, وتنفيذ وصاياه, بل عرض عليهم العهد ومعهم ضراوة الصبا ودين العادة, وما ألفوا عليه الآباء والأمهات, فتلقوا العهد تلقي من هو مكتف بما وجد عليه آباءه وسلفه, وعادته لا تكفي من يجمع همه وقلبه على فهم العهد والعمل به, حتى كأن ذلك العهد أتاه وحده, وقيل له: تأمل ما فيه ثم اعمل بموجبه, فاذا لم يتلق عهده هذا التلقي أخلد الى سيرة القرابة, وما استمرت عليه عادة أهله وأصحابه وجيرانه وأهل بلده, فان علت همته أخلد الى ما عليه سلفه ومن تقدمه من غير التفات الى تدبر العهد وفهمه, فرضي لنفسه أن يكون دينه دين العادة.
فاذا شامه الشيطان ورأى هذا مبلغ همته وعزيمته, رماه بالعصبية والحمية للآباء وسلفه, وزيّن له أن هذا هو الحق وما خالفه باطل, ومثل له الهدى في صورة الضلال, والضلال في صورة الهدى, بتلك العصبية والحمية التي أسست على غير علم, فرضاه أن يكون مع عشيرته وقومه, له ما لهم, وعليه ما عليهم, فخذل عن الهدى وولاه الله ما تولّى, فلو جاءه كل هدى يخالف قومه وعشيرته لم يره الا ضلالة. واذا كانت همته أعلى من ذلك وأشرف وقدره أعلى, أقبل على حفظ عهده وفهمه وتدبره, وعلم أن لصاحب العهد شأنا ليس كشأ، غيره, فأخذ نفسه بمعرفته من العهد نفسه, فوجده قد تعرف اليه وعرفه نفسه وصفاته وأسماءه وأفعاله وأحكامه, فعرف من ذلك العهد قيوما بنفسه, مقيما لغيره, غنيا عن كل ما سواه, وكل ما سواه فقير اليه, مستو على عرشه فوق جميع خلقه, يرى ويسمع, ويرضى ويغضب, ويحب ويبغض, ويدبر أمر مملكته, وهو فوق عرشه متكلم, آمر ناه, يرسل رسله الى أقطار مملكته بكلامه الذي يسمعه من يشاء من خلقه, وأنه قائم بالقسط, مجاز بالاحسان والاساءة, وأ،ه حليم غفور, شكور جواد محسن, موصوف بكل كمال, منزّه عن كل عيب ونقص, وأنه لا مثل له.
ويشهد حكمته في تدبير مملكته, وكيف يقدّر مقاديره بمشيئته, غير مضادة لعدله وحكمته, وتظاهر عنده العقل والشرع والفطرة, فصدق كل منهما صاحبيه, وفهم عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه التي نزل بها الكتاب, وبها نطق, ولها أثبت وحقق, وبها تعرف الى عباده, حتى أقرّت به العقول, وشهدت به الفطر.
فاذا عرف بقلبه وتيقن صفات صاحب العهد, أشرقت أنوارها على قلبه, فصارت له كالمعاينة, فرأى حينئذ تعلقها بالخلق والأمر,وارتباطهما بها, وسريان آثارها في العالم الحسي والعالم الروحي, ورأى تصرفها في الخلائق, كيف عمّت وخصّت, وقرّبت وأبعدت, وأعطت ومنعت, فشهد بقلبه مواقع عدله سبحانه وقسطه وفضله ورحمته, واجتمع له الايمان بلزوم حجته, مع نفوذ أقضيته, وكمال قدرته, مع كمال عدله وحكمته, ونهاية علوّه على جميع خلقه,مع احاطته ومعيّته, وعظمته وجلاله, وكبريائه وبطشه وانتقامه, مع رحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه, ورأى لزوم الحجة مع قهر المقادير التي لا خروج لمخلوق عنها. وكيف اصطحاب الصفات وتوافقها, وشهادة بعضها لبعض, وانعطاف الحمة التي هي نهاية وغاية على المقادير التي هي أول وبداية. ورجوع فروعها الى اصولها, ومبادئها الى غاياتها, حتى كأنه يشاهد مبادىء الحكمة, وتأسيس القضايا على وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة والاحسان, لا تخرج قضية عن ذلك الا انقضاء الأكوان, وانفصال الأحكام يوم الفصل بين العباد, وظهور عدله وحكمته, وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة, انسها وجنّها, مؤمنها وكافرها.
وحينئذ يتبين من صفات جلاله ونعوت كماله للخلق ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك, حتى ان أعرف خلقه به في الدنيا يثني عليه يومئذ من صفات كماله ونعوت جلاله ما لم يكن يحسنه في الدنيا, وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم الأسباب التي زاغ بها الزائغون, وضلّ الضالّون, وانقطع المنقطعون, فيكون الفرق بين العلم يومئذ بحقائق الصفات والعلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنار ومشاهدتهما أعظم من ذلك.
وكذلك يفهم من العهد كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع وأن لا يترك خلقه سدى, وكيف اقتضت كا تضمّنته من الأوامر والنواهي, وكيف اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد, وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته, بحيث ينزّه عما زعم أعداؤه من انكار ذلك, ويرى شمول القدرة, واحاطتها بجميع الكائنات, حتى لا يشذّ عنها مقال ذرة, ويرى أنه لو كان معه اله آخر لفسد هذا العالم, فكانت تفسد السموات والأرض ومن فيهن.
وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدك هذا العالم بأسره, ولم يثبت طرفة عين. ويرى مع ذلك الاسلام والايمان الذين تعبّد بهما جميع عباده, كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة, وكيف اقتضيا الثواب والعقاب عاجلا وآجلا. ويرى مع ذلك أنه لا يستقيم قبول هذا العهد والتزامه لمن جحد صفاته, وأنكر علوه على خلقه وتكلمه بكتبه وعهوده, كما لا يستقيم قبوله لمن أنكر حقيقة سمعه وبصره وحياه وارادته وقدرته, وأن هؤلاء هم الذين ردوا عهده وأبوا قبوله, وأن من قبله منهم لم يقبله بجميع ما فيه, وبالله التوفيق.
[99] خلق بدن آدم من الأرض وروحه من ملكوت السماء
خلق بدن آدم من الأرض وروحه من ملكوت السماء, وقرن بينهما. فاذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة, وجدت روحه خفة وراحة, فتاقت الى الموضع الذي خلقت منه, واشتاقت الى عالمها العلوي. واذا أشبعه ونعّمه ونومه واشتغل بخدمته وراحته, أخلد البدن الى الموضع الذي خلق منه, فانجذبت الروح معه, فصارت في السجن, فلولا أنها ألفت السجن لاستغاثت من ألم مفرقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه كما يستغيث المعذّب.
وبالجملة, فكلما خف البدن لطفت الروح, وخفت وطلبت عالمها العلوي.
وكلما ثقل وأخلد الى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها وصارت أرضية سفليّة, فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك, فيكون نائما على فراشه وروحه عند سدرة المنهى تجولحول العرش, وآخر واقف في الخدمة ببدنه وروحه في السفل تجول حول السفليات. فاذا فارقت الروح البدن, التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى, فعند الرفيق الأعلى كل قرّة عين, وكل نعيم وسرور, وبهجة ولذة, وحياة طيبة, وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم, وضيق وحزن, وحياة نكدة, ومعيشة ضنك, قال تعالى:{ ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا } طه 124.
فذكره كلامه الذي أنزله على رسوله, والأعراض عنه ترك تدبره والعمل به. والمعيشة الضنك, فأكثر ما جاء في التفسير أنهاعذاب القبر, قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس. وفيه حديث مرفوع. ( ذكره ابن كثير في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل:{ فان له معيشة ضنكا} قال:" ضمّة القبر له". تفسير ابن كثير 3\169.
وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة, وكل ما ضاق فهو ضنك, يقال: منزل ضنك وعيش ضنك, فهذه المعيشة الضنك, في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة. فان النفس كلما وسعت عليها ضيّقت على القلب حتى تعيش معيشة ضنكا, وكلما ضيّقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسح. فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة, وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة, فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومها.
فأشق البدن بنعيم الروح ولا تشق الروح بنعيم البدن, فان نعيم الروح وشقاءها أدوم وأعظم, ونعيم البدن وشقاءه أقصر وأهون, والله المستعان.
العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فانهم لا يقدرون على تركها, ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع اقامتهم على دنياهم, فترك الدنيا فضيلة, وترك الذنوب فريضة. فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة! فان صعب عليهم ترك الذنوب, فاجتهد أن تحبب الله اليهم بذكر آلائه وانعامه واحسانه وصفات كماله ونعوت جلاله, فان القلوب مفطورة على محبته. فاذا تعلقت بحبه هان عليك ترك الذنوب, والاصرار عليها, والاستقلال منها, وقد قال يحي بن معاذ:" طلب العاقل لدنيا خير من ترك الجاهل لها".
العارف يدعو الناس الى الله من دنياهم, فتسهل عليهم الاجابة, والزاهد يدعوهم الى الله بترك الدنيا, فتشق عليهم الاجابة. فان الفطام عن الثدي الذي ما عقل الانسان نفسه الا وهو يرتضع منه شديد, ولكن تخير من المرضعات أزكاهن وأفضلهن, فان للبن تأثيرا في طبيعة المرتضع, ورضاع المرأة الحمقى يعود بحمق الولد. وأنفع الرضاعة ما كان من المجاعة, فان قويت على مرارة الفطام والا فارتضع بقدر, فان من البشم ما يقتل.
[100] رعاية الحقوق مع الضر ورعايتها مع العافية
ان عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه:{ يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} الأنفال45. ليس العجب من صحيح فارغ واقف مع الخدمة, انما العجب من ضعيف سقيم تعتوره الأشغال, وتختلف عليه الأحوال, وقلبه في الخدمة, غير متخلف بما يقدر عليه.
[101] معرفة الله تعالى نوعان
النوع الأول: معرفة واقرار, وهي التي اشترك فيها الناس, البر والفاجر, والمطيع والعاصي.
النوع الثاني: معرفة توجب الحياء منه, والمحبة له, وتعلق القلب به, والشوق الى لقائه, وخشيته, والانابة اليه, والأنس به, والفرار من الخلق اليه. وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم, وتفاوتهم فيما لا يحصيه الا الذي عرفهم بنفسه, وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم, وكل أشار الى هذه المعرفة بحسب مقامه وما كشف له منها. وقد قال أعرف الخلق به:" لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك" مسلم في الصلاة 1\352 رقم222. وأخبر انه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن.
ولهذه المعرفة بابان واسعان: باب التفكّر والتأمّل في آيات القرآن كلها, والفهم الخاص عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والباب الثاني: التفكّر في آياته المشهودة, وتأمل حكمته فيها, وقدرته ولطفه, واحسانه وعدله, وقيامه بالقسط على خلقه. وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى, وجلالها وكمالها, وتفرّده بذلك, وتعلّقها بالخلق والأمر, فيكون فقيها في أوامره ونواهيه, فقيها في قضائه وقدره, فقيها في أسمائه وصفاته, فقيها في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري, و:{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} الحديد21.
[102] أنواع الكسب
الدراهم أربعة: درهم اكتسب بطاعة الله, وأخرج في حق الله, فذاك خير الدراهم, ودرهم اكتسب بمعصية, وأخرج في معصية الله, فذاك شر الدراهم, ودرهم اكتسب في أذى مسلم, وأخرج في أذى مسلم فهو كذلك, ودرهم اكتسب بمباح, وأنفق في شهوة فذاك لا له ولا عليه.
هذه أصول الدراهم ويتفرّع عليها دراهم أخر: منها درهم اكتسب بحق وأنفق في باطل, ودرهم اكتسب بباطل وأنفق في حق فانفاقه كفّارته, ودرهم اكتسب من شبهة فكفّارته أن ينفق في طاعة الله.
وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم باخراج الدرهم فكذلك يتعلق باكتسابه. وكذلك يسأل عن مستخرجه ومصروفه من أين اكتسبه وفيما أنفقه.
[103] مواساة المؤمن وأنواعها
المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال, ومواساة بالجاه, ومواساة بالبدن والخدمة, ومواساة بالنصيحة والارشاد, ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم, ومواساة بالتوجع لهم. وعلى قدر الايمان تكون هذه المواساة. فكلما ضعف الايمان ضعفت المواساة, وكلما قوى قويت, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مواساة لأصحابه بذلك كله, فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له.
ودخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض, فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم, فأحببت أن أواسيهم في بردهم.
[104] الجهل بالطريق يورث التعب
الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة, فان صاحبه اما أن يجتهد في نافلة مع اضاعة الفرض, أو في عمل الجوارح لم يواطئه عمل القلب, أو عمل بالباطن والظاهر لم يتقيد بالاقتداء, أو همة الى عمل لم ترق صاحبها الى ملاحظة المقصود, أو عمل لم يحترز من آفاته المفسدة له حال العمل وبعده, أ, عمل غفل فيه عن مشاهدة المنّة, فلم يتجرّد عن مشاركة النفس فيه, أو عمل لم يشهد تقصيره فيه, فيقوم بعده في مقام الاعتذارمنه, أو عمل لم يوفّه حقه من النصح والاحسان, وهويظن أنّه وفّاه, فهذا كله مما ينقض الثمرة مع كثرة التعب, والله الموفّق.
[105] الرحلة الى الله تعالى وما يكتنفها من الخوادع والقواطع
اذا عزم العبد على السفر الى الله تعالى وارادته, عرضت له الخوادع والقواطع, فيتخدع أولا بالشهوات والرئاسات, والملاذ والمناكح والملابس, فان وقف معها انقطع, وان رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتلي بوطء عقبه(كثير الأتباع), وتقبيل يده, والتوسعة له في المجلس, والاشارة اليه بالدعاء, ورجاء بركته, ونحو ذلك. فان وقف معه انقطع به عن الله وكان حظه منه, وان قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات والكشوفات, فان وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظّه, وان لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الةحدة والفراغ من الدنيا. فان وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود, وان لم يقف معه, وسار ناظرا الى مراد الله منه, وما يحبه منه, بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت وكيف كانت, تعب بها أو استراح, تنعّم أو تألّم, أخرجته الى الناس أو عزلته عنهم, لا يختار لنفسه غير ما يختاره له سيده ووليه, واقف مع أمره ينفذ بحسب الامكان, ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره. فهذا هو العبد الذي قد وصل, ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيء البتة, وبالله التوفيق.
[106] نعم الله تعالى وأنواعها
النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد, ونعمة منتظرة يرجوها, ونعمة هو فيها لا يشعر بها, فاذا أراد الله اتمام نعمته على عبده عرّفه نعمته الحاضرة وأعطاه من شكره قيدا يقيّدها به حتى لا تشرد, فانها تشرد بالمعصية, وتقيّد بالشكر. ووفقه لعمل يستجلب النعمة المنتظرة, وبصّره بالطرق الي تسدها وتقطع طريقها, ووفقه لاجتنابها. واذا بها قد وافت اليه على أتم الوجوه, وعرّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.
ويحكى أن أعرابيا دخل على الرشيد, فقال يا أمير المؤمنين ثبّت الله عليك النعم التي أنت فيها بادامة شكرها, وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته, وعرّفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسن تقسيمه.
(قاعدة جليلة)
الخواطر والأفكار مبدأ كل علم نظري
مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار, فانها توجب التصورات, والتصورات تدعو الى الارادات, والارادات تقتضي وقوع الفعل, وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار, وفسادها بفسادها. فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها والهها صاعدة اليه, دائرة على مرضاته ومحابه, فانه سبحانه به كل صلاح, ومن عنده كل هدى, ومن توفيقه كل رشد, ومن تولّيه واعراضه عنه كل ضلال وشقاء. فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد, بقدر اثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده, وطرق معرفته, وطرق عبوديته, وانزاله اياه حاضرا معه, مشاهدا له, ناظرا اليه, رقيبا عليه, مطّلعا على خواطره وارادته وهمّه فحينئذ يستحيي منه, ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله, أو يرى في نفسه خاطرا يمقته عليه.
فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقرّبه منه, وأكرمه واجتباه ووالاه, وبقدر ذلك يبعد عنه الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة. كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار, ويقطع عنه جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص.
فالانسان خير المخلوقات, اذا تقرّب من بارئه, والتزم أوامره ونواهيه, وعمل بمرضاته, وآثره على هواه. وشرّ المخلوقات اذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته. فمتى اختار التقرّب اليه, وآثره على نفسه وهواه, فقد حكّم قلبه وعقله وايمانه على نفسه وشيطانه, وحكّم رشده على غيّه, وهداه على هواه. ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده.
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها الى الفكر, فيأخذها الفكر فيؤديها الى التذكر. فيأخذها الذكر فيؤديها الى الارادة, فتأخذها الارادة فتؤديها الى الجوارح والعمل, فتستحكم فتصير عادة, فرّدها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. فانها تهجم عليه هجوم النفس, الا ان قوة الايمان والعقل تعينه على قبول أحسنها, ورضاه به, ومساكنته له, وعلى دفع أقبحها, وكراهته له, ونفرته منه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: يا رسول الله, ان أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب اليه من أن يتكلم به, فقال:"أوقد وجدتموه؟" قالوا: نعم, قال: "ذاك صريح الايمان" مسلم في الايمان 1\119 رقم209. وفي لفظ "الحمد لله الذي رد كيده الى الوسوسة". أبو داود في الأدب باب رد الوسوسة 4\329 330 رقم 5112.
وفيه قولان: أحدهما: أن رده وكراهته صريح الايمان. والثاني: أن وجوده والقاء الشيطان له في النفس صريح الايمان, فانه انما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الايمان وازالته به.
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه, فان وضع فيها حب طحنته, وان وضع فيها تراب أو حصى طحنته. فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى, ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط, بل لا بد من شيء يوضع فيها, فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره, وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك, فاذا جاء وقت تاعجن والخبز تبيّن له حقيقة طحينه.
فاذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده, وان قبلته صار فكرا جوّالا, فاستخدم الارادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح, قان تعذّر استخدامها رجعا الى القلب بالتمني والشهوة, وتوجههوالى جهة المراد. ومن المعلوم أن اصلاح الخواطر أسهل من اصلاح الأفكار, واصلاح الأفكار أسهل من اصلاح الارادات, واصلاح الارادات أسهل من تدارك فساد العمل, وتداركه أسهل من قطع العوائد. فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك, فالفكر في ما لا يعني باب كل شر, ومن فكّر فيما لا يعنيه, فاته ما يعنيه, واشتغل عن أنفع الأشياء له بما ما لا منفعة له فيه, فالفكر والخواطر, والارادة والهمة أحق شيء باصلاحه من نفسك, فان هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب بها من الهك ومعبودك الذي لا سعادة لك الا في قربه ورضاه عنك, وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك, ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره الا كذلك.
وايّاك أ، تمكّن الشيطان من بيت أفكارك واراداتك, فانه يفسدها عليك فسدا يصعب تداركه, ويلقي اليك أنواع الوساوس والأفكار المضرّة, ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك, وأنت الذي أعنته على نفسك, بتمكينه من قلبك وخوطرك فملكها عليك. فمثلك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيّد الحبوب, فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر فحم وغثاء ليطحنه في طاحونه, فان طرده ولم يمكنه من القاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه, وان مكّنه من القاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك, وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون. أ, فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام, أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها أو في باطل, أو فيما لا سبيل الى ادراكه من أنواع ما طوى عنه علمه, فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية, ولا يقف منها على نهاية, فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح همّه.
وجماع اصلاح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه, وفي الموت وما بعده الى دخول الجنة والنار. وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها. وفي باب الارادات والعزوم أن تشغل نفسك بارادة ما ينفعك ارادته, وطرح ارادة ما يضرك ارادته. وعند العارفين أن تمنّى الخيانة واشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة, ولا سيما اذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها, فان تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده.
وأنت تجد في الشاهد أن الملك في البشر اذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلىء منها, وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله, فاذا اطّلع على سره وقصده, مقته غاية المقت, وأبغضه, وقابله بما يستحقّه, وكان أبغض اليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسره مع الملك غير منطو على تمنّي الخيانة ومحبتها والحرص عليها, فالأوّل يتركها عجزا واشتغالا بما هو فيه وقلبه ممنلىء بها, والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه اضمار الخيانة ولا الاصرار عليها, فهذا أحسن حالا وأسلم علقبة من الأول.
وبالجملة, فالقلب لا يخلو قط من الفكر اما في واجب آخرته ومصالحها, واما في مصالح دنياه ومعاشه, واما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقى فيها, فان ألقيت فيها حبا دارت به, وان ألقيت فيها حصى وزجاجا وبعرا دارت به, والله سبحانه هو قيّم تلك الرحى ومالكها ومصرّفها وقد أقام لها ملكا يلقي فيها ما ينفعها فتدور به, وشيطانا يلقي فيها ما يضر فتدور به, فالملك يلم مرة والشيطان يلم بها مرة, فالحب الذي يلقيه الملك ايعاد بالخير وتصديق بالوعد, والحب الذي يلقيه الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالوعد. والطحين على قدر الحب, وصاحب الحب المضر لا يتمكن من القائه الا اذا وجد الرحى فارغة من الحب وقيّمها قد أهملها وأعرض عنها, فحينئذ يبادر الى القاء ما معه فيها.
وبالجملة, فقيّم الرحى اذا تخلى عنها وعن اصلاحها وعن القاء الحب النافع فيها وجد العدو السبيل الى افسادها وادارتها بما معه. وأصل صلاح هذه الرحى بالاشتغال بما يعنيك, وفاسدها كله الاشتغال بما لا يعنيك, وما أحسن ما قال بعض العقلاء: لما وجدت أنواع الذخائر منصوبة غرضا للمتالف, ورأيت الزوال حاكما عليها مدركا لها, انصرفت عن جميعها الى ما لا ينازع فيه ذو الحجا أنه أنفع الذخائر وأفضل المكاسب وأربح المتاجر, والله المستعان.
[108] من أقوال شفيق البلخي
قال شفيق بن ابرهيم: أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها. ورغبتهم في العلم, وتركهم العمل. والمسارعة الى الذنب وتأخير التوبة. والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم. وادبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها. واقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها.
قلت: وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة, وأصله ضعف اليقين, وأصله ضعف البصيرة, وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدالها بالذي هو خير. والا فلو مانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون. فأصل الخير كله- بتوفيق الله ومشيئته- وشرف النفس وكبرها ونبلها. وأصل الشر خستها ودناءتها وصغرها, قال تعال:{ قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها} الشمس 9 10 , أي أفلح من كبّرها وكثّرها ونمّاها بطاعة الله, وخاب من صغّرها وحقّرها بمعاصي الله.
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء الا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة, والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار. فالنفس الشريفة العليّة لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة, لأنها أكبر من ذلك وأجل. والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك. فكل نفس تميل الى ما يناسبها ويشاكلها, وهذا معنى قوله تعالى:{ قل كل يعمل على شاكلته} الاسراء 84, أي على ما يشاكله ويناسبه, فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته, وكل انسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته الي ألفها وجبل عليها. فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي, والاعراض عن المنعم, والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر النعم, ومحبته والثناء عليه, والتودد اليه والحياء منه, والمراقبة له, وتعظيمه واجلاله.
[109] اعرف نفسك تعرف ربك
من لم يعرف نفسه, كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن اللع تعالى قد خلق في صدرك بيتا وهو القلب, ووضع في صدره عرشا لمعرفته, يستوي عليه المثل الأعلى, فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه, والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستو على سرير القلب, وعلى السرير بساط من الرضا. ووضع عن يمينه وعن شماله مرافق شرائعه وأوامره, وفتح اليه بابا من جنة رحمته, والأنس به, والشوق الى لقائه, وأمطره من وابل كلامه. ما أنبت فيه أصناف الرياحين, والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات, والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس وجعل في وسط البستان شجرة معرفة, فهي:{ تؤتي أكلها كل حين باذن ربها} ابراهيم 25, من المحبة والانابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه. وأجرى الى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبّر كلامه وفهمه والعمل بوصاياه. وعلّق في ذلك البيت قنديلا, أسرجه بضياء معرفته, والايمان به وتوحيده. فهو يستمد من: {شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} النور 35. ثم أحاط عليه حائطا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان, فلا يلحقه أذاهم, وأقام عليه حرسا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه, ثم أ‘لم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائما همه اصلاح السكن ولم شعثه, ليرضاه السكن منزلا. واذا أحس بأدنى شعث في السكن, بادر الى اصلاحه, ولمّه خشية انتقال السكن منه, فنعم السكن ونعم المسكن.
فسبحان الله رب العالمين, كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب, وصار مأوى للحشرات والهوام, ومحلا لالقاء الأنتان والقاذورات فيه. فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها, ولا حافظ لها, وهي معدة لقضاء الحاجة, مظلمة الأرجاء, منتنة الرائحة, قد عمّها الخراب, وملأتها القاذورات, فلا يأنس بها, ولا ينزل فيها الا من يناسبه سكنها من الحشرات, والديدان والهوام. الشيطان جالس على سريرها, وعلى السرير بساط من الجهل, وتخفق فيه الأهواء, وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات, وقد فتح اليه باب من حقل الخذلان والوحشة, والركون الى الدنيا, والطمأنينة بها, والزهد في الآخرة, وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل, والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات, من الزوائد والتنديبات , والنوادر والهزليات والمضحكات, والأشعار الغزليات, والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات, وتزهد في الطاعات. وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والاعراض عنه, فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي, واللهو واللعب, والمجون والذهاب مع كل ريح, واتباع كل شهوة. ومن ثمرها الهموم والغموم والأحزان والآلام. ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها, فاذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم, وحزن وقلق, ومعيشة ضنك, وأجرى الى تلك الشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى وطول الأمل والغرور.
ثم ترك ذلك البيت وظلماته, وخراب حيطانه, بحيث لا يمنع منه مفسدة, ولا حيوان ولا مؤذ ولا قذر, فسبحان خالق هذا البيتوذاك البيت, فمن عرف بيته وقدّر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه, ومن جهل ذلك جهل نفسه وأضاع سعادته, وبالله التوفيق.
سئل سهل التستري: الرجل يأكل في اليوم أكلة؟ قال: أكل الصديقين, قيل له: فأكلتين؟ قال: أكل المؤمنين, قيل له ثلاث أكلات؟ فقال: قل لأهله يبنوا له معلفا.
قال الأسود بن سالم: ركعتين اصليه لله أحب الي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ, فقال: دعونا من كلامكم, الجنة رضى نفسي, والركعتان رضى ربي, ورضى ربي أحب الي من رضى نفسي.
العارف في الأرض ريحانة من رياحين الجنة, اذا شمها المريد اشتاقت نفسه الى الجنة.
قلب المحب موضوع بين جلال محبوبه وجماله, فاذا لاحظ جلاله هابه وعظّمه, واذ لاحظ جماله أحبه واشتاق اليه.
[110] من أنواع معرفة الله تعالى
من الناس من يعرف الله بالجود والافضال والاحسان, ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز, ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام, ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة, ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء, ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر واللطف, ومنهم من يعرفه بالقهر والملك, ومنهم من يعرفه باجابة دعوته واغاثة لهفته وقضاء حاجته.
واعلم هؤلاء معرفة من عرف من كلامه, فانه يعرف ربا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال, منزّه عن المثال, بريء من النقائص والعيوب, له كل اسم حسن وكل وصف كمال, فعّال لما يريد, فوق كل شيء ومع كل شيء, وقادر على كل شيء, ومقيم لكل شيء, آمر ناه متكلم بكلماته الدينية والكونية, أكبر من كل شيء, وأجمل من كل شيء, أرحم الراحمين, وأقدر القادرين, وأحكم الحاكمين. فالقرآن أنزل لتعريف عباده به, وبصراطه الموصل اليه, وبحال السالكين بعد الوصول اليه.
[111] حول قوله تعالى:
{ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}
من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له, فيملها العبد ويطلب الانتقال منها الى ما يزعم لجهله أنه خير له منها, وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة, ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه, حتى اذا ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها وتبرّم بها واستحكم ملله لها سلبه الله ايّاها. فاذا انتقل الى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وصار اليه, اشتد قلقه وندمه وطلب العودة الى ما كان فيه, فاذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه به, وأوزعه شكره عليه, فاذا حدثته نفسه بالانتقال عنه, استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها, مفوض الى الله طالب منه حسن اختياره له.
وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله, فانه لا يراها نعمة, ولا يشكره عليها, ولا يفرح بها, بل يسخطها, ويشكو ويعدّها مصيبة. هذا وهي من أعظم نعم الله عليه, فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم, ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمه, وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلما. فكم سعت الى أحدهم من نعمة, وهو ساع في ردها بجهده, وكم وصلت اليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله, قال تعالى:{ ذلك بأن الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}الأنفال 53, وقال تعالى:{ ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم} الرعد11.
فليس للنعم أعدى من نفس العبد, فهو مع عدوه ظهير على نفسه, فعدوه يطرح النار في نعمه وهو ينفخ فيها, فهو الذي مكّنه من طرح النار ثم أعانه بالنفخ, فاذا اشتدّ ضرامها استغاث من الحريق وكان غايته معاتبة الأقدار:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى اذا فات أمر عاتب القدرا
[112] معرفة الله سبحانه وتعالى بالجمال
من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه وتعالى بالجمال, وهي معرفة خواص الخلق, وكلهم عرفه بصفة من صفاته, وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله, وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته, لو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة, ونسبت جمالهم الظاهر والباطن الى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف الى قرص الشمس.
ويكفي في جماله "أنه لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته ما انتهى اليه بصره من خلقه" أخرجه مسلم في كتاب الايمان 1\161. ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آُثار صنعته, فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال.
ويكفي في جماله أن له العزة جميعا, والقوة جميعا, والجود كله, والاحسان كله, والعالم كله, والفضل كله, ولنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة". الهيثمي في مجمع الزوائد 6\35.
وقال عبد الله بن مسعود: ليس عند ربكم ليل ولا نهار, نور السموات والأ{ض من نور وجهه, فهو سبحانه نور السموات والأرض, ويوم القيامة اذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره. ومن أسمائه الحسنى "الجميل". وفي الصحيحعنه صلى الله عليه وسلم:" ان الله جميل يحب الجمال". أبو داود كتاب اللباس باب ما جاء في الكبر 4\59 رقم 4091.
وجماله سبحانه على أربعة مراتب: جمال الذات, وجمال الصفات, وجمال الأفعال, وجمال الأسماء. فأسماؤه كلها حسنى, وصفاته كلها صفات كمال, وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة. وأما جمال الذات وما هو عليه, فأمر لا يدركه سواه, ولا يعلمه غيره, وليس عند المخلوقين منه الا تعريفات تعرّف بها الى من أكرمه من عباده, فان ذلك الجمال مصون عن الأغيار, محجوب بستر الرداء والازار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الكبرياء ردائي والعظمة ازاري" أبو داود كتاب اللباس بال ما جاء في الكبر 4\59 رقم 409. ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء, فانه سبحانه الكبير المتعال فهو سبحانه العلي العظيم.
قال ابن عباس: حجب الذات بالصفات, وحجب الصفات بالأفعال, فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال, وستر بنعوت العظمة والجلال.
ومن هذا المعنى يفهم البعض معاني جال ذاته, فانه العبد يترقّى من معرفة الأفعال الى معرفة الصفات, ومن معرفة الصفات الى معرفة الذات فاذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن هاهنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله, وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه, وأنه يستحق أن يعبد لذاته, ويشكر لذاته, وأنه سبحانه يحب نفسه, ويثني على نفسه, ويحمد نفسه, وأن محبته لنفسه, وحمده لنفسه, وثناءه على نفسه, وتوحيده لنفسه, هو في الحقيقة الحمد والثناء والحب والتوحيد, فهو سبحانه كما أثنى على نفسه, وفوق كا يثني به عليه خلقه, وهو سبحانه كما يحب ذاته يحب صفاته وأفعاله, فكل أفعاله حسن محبوب وان كان في مفعولاته ما يبغضه ويكرهه, فليس في أفعاله ما هو مكروه مسخوط, وليس في الوجود ما يحب لذاته, ويحمد لذاته الا هو سبحانه وتعالى, وكل ما يحب سواه فان كانت محبته تابعة لمحبته سبحانه بحيث يحب لأجله, فمحبته صحيحة, والا فهي محبة باطلة, وهذا هو حقيقة الالهية, فان الله الحق هو الذي يحب لذاته ويحمد لذاته. فكيف اذا انضاف الى ذلك احسانه وانعامه, وحلمه وتجاوزه وعفوه وبرّه ورحمته؟
فعلى العبد أن يعلم أنه لا اله الا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله, وأن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة الا هو, فيحبه لاحسانه وانعامه, ويحمده على ذلك, فيحبه من الوجهين جميعا. وكما أمه ليس كمثله شيء فليس كمحبته محبة. والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق لأجلها, فانها غاية الحب بغاية الذل, ولا يصلح ذلك الا له سبحانه. والاشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملا.
وحمده يتضمن أصلين: الاخبار بمحامده وصفات كماله, والمحبة له عليها, فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامدا. ومن أحبّه من غير اخبار بمحاسنه لم يكن حامدا حتى يجمع الأمرين, وهو سبحانه يحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبائه ورسله وعباده المؤمنين, فهو الحامد لنفسه بهذا وهذا, فان حمدهم له بمشيئته واذنه وتكوينه, فانه هو الذي جعل الحامد حامدا والمسلم مسلما والمصلي مصليا والتائب تائبا, فمنه ابتدأت النعم واليه انتهت, فابتدأت بحمده وانتهت الى حمده, وهو الذي ألأهم عبده التوبة وفرح بها أعظم فرح, وهي من فضله وجوده. وهو سبحانه غني عن كل ما سواه بكل وجه, وما سواه فقير اليه بكل وجه, والعبد مفتقر اليه لذاته في الأسباب والغايات, فان ما لا يكون به لا يكون, وما لا يكون له لا ينفع.
[113] ان الله جميل يحب الجمال
وقوله في الحديث "ان الله جميل يحب الجمال" الترمذي باب ما جاء في النظافة, يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث. ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء كما في الحديث الآخر:" ان الله نظيف يحب النظافة" 5\111رقم2799.
وفي الصحيح:" ان الله طيب لا يقبل الا طيبا"مسلم كتاب الزكاة 2\703 رقم65.
وفي السنن:" ان الله يحب أ، يرى أثر نعمته على عبده" الترمذي في الأدب 5\123 رقم 2819.
وفيها عن أبي الأحوص الجشمي, قال:" رآني النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أطمار, فقال:" هل لك من مال؟" قلت نعم, قال: من أي مال؟ قلت: من كل مل أتى الله من الابل والشاء, قال:" فلتر نعمته وكرامته عليك".أبوداود في اللباس 4\51 رقم 4063.
فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده, فانه من الجمال الذي يحبه, وذلك من شكره على نعمه, وهو جمال باطن فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها. ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباسا وزينة تجمّل ظواهرهم, وتقوى تجمّل بواطنهم فقال:{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير}الأعراف 26, وقال في أهل الجنة:{ ولقّاهم نضرة وسرورا. وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا}الانسان 11-12, فجمّل وجوههم بالنضرة, وبواطنهم بالسرور, وأبدانهم بالحرير.
وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة, يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة, فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال وأهله. ولكن ضل في هذا الموضوع فريقان: فريق قالوا كل ما خلقه جميل, فهو يحب كل ما خلقه, ونحن نحب جميع ما خلقه فلا نبغض منه شيئا, قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة. وأنشد منشدهم:
واذا رأيت الكائنات بعينهم فجميع ما يحوي الوجود مليح
واحتجوا بقول الله تعال:{ الذي أحسن كل شيء خلقه} السجدة7, وقوله:{ صنع الله الذي أتقن كل شيء} النمل 88, وقوله:{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} الملك3, والعارف عندهم هو الذي يصرح باطلاق الجمال, ولا يرى في الوجود قبيحا.
وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله في قلوبهم, والبغض في الله, والمعاداة فيه, وانكار المنكر, والجهاد في سبيله, واقامة حدوده! ويرى جمال الصور من الذكور والاناث من الجمال الذي يحبه الله, فيتعبدون بفسقهم, وربما غلا بعضهم حتى يزعم أن معبوده يظهر في تلك الصورة ويحل فيها. وان كان اتحاديا ( ومعناه من يقول أن الخالق هو عين المخلوق) قال: هي مظهر من مظاهر الحق, ويسميها المظاهر الجمالية.
[114] نظرات في الجمال
وقابلهم الفريق الثاني فقالوا: قد ذم الله سبحانه وتعالى جمال الصور, وتمام القامة والخلقة, فقال عن المنافقين:{ واذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} المنافقون4, وقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن أحسن أثاثا ورءيا}مريم74, أي أموالا ومناظر. قال الحسن: هو الصور تفسير ابن كثير 3\134. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم :" ان الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم وانما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم" كتاب البر والصلة 4\1986. قالوا: ومعلوم أنه لم ينف نظر الادراك, وانما نفى نظر المحبة قالوا: وقد حرّم علينا لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة, وذلك من أعظم جمال الدنيا, وقال: [ولا تمدّن عينيك الى ما متّعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه} طه 131, وفي الحديث "البذاذة من الايمان" النهاية في غريب الحديث 1\110. وقد ذم الله المسرفين. والسرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس.
وفصل النزاع أن يال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد, ومنه ما يذم, ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه ما كان لله, وأعان على طاعة الله, وتنفيذ أوامره, والاستجابة له, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمّل للوفود. وهو نظير آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه. فان ذلك محمود اذا تضمّن اعلاء كلمة الله, ونصر دينه, وغيظ عدوّه. والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل الى الشهوات, وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. فان كثيرا من النفوس ليس لها همّة في سوى ذلك. وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين, وتجرّد عن الوصفين.
والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة, وآخره سلوك. فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شسء, ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق. فيحب من عبده أن يحمل لسانه بالصدق, وقلبه بالاخلاص والمحبة والانابة والتوكل, وجوارحه بالطاعة, وبدنه باظهار نعمه عليه في لباسه, وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظافر, فيعرفه بصفات الجمال الذي هو وصفه, ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه, فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك.
[115] صدق العبد مع ربه
ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة, فيصدقه في عزمه وفي فعله, قال تعالى:{ فاذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خير لهم} محمد 21, فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل, فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوّم. فاذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل, وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه, وأن لا يتخلّف عنه بشيء من ظاهره وباطنه, فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الارادة والهمّة, وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور. ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره. وهذا الصدق معنى يلتئم من صحّة الاخلاص وصدق التوكّل, فأصدق الناس من صحّ اخلاصه وتوكّله.
[116] في القدر
رب ذو ارادة أمر عبدا ذا ارادة, فان وفّقه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به. وان خذله وخلاه وارادته ونفسه, وهو من هذه الحيثية لا يختار الا ما تهواه نفسه وطبعه, فهو من حيث هو انسان لا يريد الا ذلك. ولذلك ذمّه الله في كتابه من هذه الحيثية ولم يمدحه الا بأمر زائد على تلك الحيثية, وهو كونه مسلما ومؤمنا وصابرا ومحسنا وشكورا وتقيا وبرا, ونحو ذلك. وهذا أمر زائد على مجرّد كونه انسانا وارادته صالحة, ولكن لا يكفي مجرّد صلاحيتها ان لم تؤيد بقدر زائد على ذلك وهو النوفيق, كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرّد صلاحية العين للادراك ان لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها.
[117] أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم لتفسك وقلبك خال من تعظّم الله تعالى
من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره, فانك توقّر المخلوق وتجلّه أن يراك في حال لا توقّر الله أن يراك عليها, قال تعالى:{ مالكم لا ترجون لله وقارا}نوح13, أي لا تعاملونه معاملة من توقّرونه, والتوقير: العظمة. ومنه قوله تعالى:{ وتوقّروه} الفتح من الآية9, قال الحسن: ما لكم لا تعرفون الله حقا ولا تشكرونه؟ وقال مجاهد: لا تبالون فظمة ربكم. وقال ابن زيد: لا ترون لله طاعة. وقال ابن عباس: لا تعرفون حق عظمته. الجامع لأحكام القرآن 18\196.
وهذه الأقوال ترجع الى معنى واحد, وهو أنهم لو عظّموا الله وعرفوا حق عظمته وحّدوه وأطاعوه وشكروه, فطاعته سبحانه, واجتناب معاصيه, والحياء منه, بحسب وقاره في القلب. ولهذا قال بعض السلف: ليعظم وقار الله في قلب أحدكم أ، يذكره حين يستحي من ذكره, فيقرن اسمه به كما تقول: قبّح الله الكلب والخنزير والنتن ونحوذلك, فهذا من وقار الله.
ومن وقاره أن لا تعدل به شيئا من خلقه, لا في اللفظ, بحيث تقول: والله وحياتك, مالي الا الله وأنت, وما شاء الله وشئت, ولا في الحب والتعظيم والاجلال, ولا في الطاعة, فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله, بل أعظم, كما عليه أكثر الظامة والفجرة, ولا في الخوف والرجاء. ويجعله أهون الناظرين اليه, ولا يستهين بحقه ويقول: هو مبني على المسامحة, ولا يجعله على الفضلة, ويقدّم حق المخلوق عليه, ولا يكون الله ورسوله في حد وناحية, والناس في ناحية وحد, ويكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله ورسوله, ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه ويعطي الله في خدمته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه, ولا يجعل مراد نفسه مقدما على مراد ربه.
فهذا كله من عدم وقار الله في القلب, ومن كان كذلك فان الله لا يلقي في قلوب الناس وقارا ولا هيبة, بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم, وان وقّروه مخافة شرّه فذاك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم, ومن وقار الله أن يستحي من اطلاعه على سره وضميره فيرى فيه ما يكره. ومن وقاره أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس.
والمقصود أن من لا يوقّر الله وكلامه, وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره.
القرآن وتاعلم وكلام الرسول صلى الله عليه وسلّم صلات من الحق, وتنبيهات وروادع وزواجر واردة اليك, والشيب رادع وموقظ قائم بك, فلا ما ورد اليك وعظك! ولا ما قام بك نصحك! ومع هذا تطلب التوقير والتعظيم من غيرك! فأنت مصاب لم تؤثّر فيه مصيبته وعظا وانزجارا, وهو يطلب من غيره أ، يتّعظ وينزجر بالنظر الى مصابه. فالضرب لم يؤثر فيه جزرا, وهو يريد الانزجار ممن نظر الى ضربه.
من سمع بالمثلات والعقوبات والآيات في حق غيره ليس كمن رآها عيانا في غيره, فكيف بمن وجدها في نفسه؟:{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} فصلت 53, فآياته في الآفاق مسموعة معلومة, وآياته في النفس مشهودة مرئيّة, فعياذا بالله من الخذلان. قال تعالى:{ ان الذين حقّت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون . ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأيم} يونس 96,97, وقال:{ ولو أنّنا أنزلنا اليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا الا أن يشاء الله} الأنعام 111.
والعاقل المؤيد بالتوفيق يعتبر بدون هذا, ويتمم نقائص خلقته بفضائل أخلاقه وأعماله, فكلما امتحى من جثمانه أثر, زاد ايمانه أثر, وكلما نقص من قوى بدنه, زاد في قوة ايمانه ويقينه ورغبته في الله والدار الآخرة, وان لم يكن هكذا فالموت خير له؛ لأنه لا يقف به على حد معين من الألم والفساد, بخلاف العيوب والنقائص مع طول العمر, فانها زيادة في ألمه وهمّه وغمّه وحسرته, وانما حسن طول العمر ونفع ليحصل التذكّر والاستدراك واغتنام الغرض والتوبة النصوح كما قال تعالى:{ أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر} فاطر 37, فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء اصلاح معائبه, وتدارك فارطه, واغتنام بقيّة أنفاسه, فيعمل على حياة قلبه, وحصول النعيم المقيم, والا فلا خير له في حياته.
فان العبد على جناح سفر اما الى الجنة واما الى النار. فاذا طال عمره, وحسن عمله, كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة, فانه كلما طال السفر اليها كانت الصبابة أجلّ وأفضل, واذا طال عمره, وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه, ونزولا له الى أسفل: فالمسافر اما صاعد واما نازل, وفي الحديث المرفوع:" خيركم من طال عمره وحسن عمله, وشرّكم من طال عمره وقبح عمله" الترمذي في السنن 4\566 رقم 2330.
فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته, جعله عمارة لقلبه وروحه, وكلما نقص شيء من دنياه, جعله زيادة في آخرته, وكلما منع شيئا من لذّات دنياه, جعله زيادة في لذّات آخرته. فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته ان زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده, كان رحمة به وخيرا له, والا كان حرمانا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة, أو ترك واجب أو باطن, فن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتّب على هذه الأربعة, وبالله التوفيق.
(فائدة)
[118] مثل المرء في الحياة الدنيا كمثل مسافر
الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين, وليس لهم حط رحالهم الا في الجنة أو في النار. والعاقل يعلم أ، السفر مبني على المشقّة وركوب الأخطار. ومن المحال عادة أ، يطلب فيه نعيم ولذّة وراحة, انما ذلك بعد انتهاء السفر. ومن المعلوم أن كل وطأة قدم, أ, كل آ، من آنات السفر غير واقفة, ولا المكلف واقف, وقد ثبت أ،ه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل, واذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
[119] (فائدة)
الاشتغال بالمشاهدة
عند العارفين أن الاشتغال بالمشاهدة عن الجد في السير في السر وقوفه, لأنه في زمن المشاهدة لو كان صاحب عمل ظاهر أ, باطن أو ازدياد من معرفة وايمان مفصّل كان أولى به, فان اللطيفة الانسانية تحشر على صورة عملها ومعرفتها وهمّتها وارادتها, والبدن يحشر على صورة عمله الحسن أو القبيح. واذا انتقلت من هذه الدار شاهدت حقيقة ذلك. وعلى قدر قرب قلبك من الله تبعد من الأنس بالناس ومساكنتهم, وعلى قدر صيانتك لسرّك وارادتك يكون حفظه. وملا ذلك صحة التوحيد, ثم صحّة العلم بالطريق, ثم صحة الارادة, ثم صحة العمل. والحذر كل الحذر من قصد الناس لك واقبالهم عليك وأن يعثروا على موضع غرضك؛ فانها الآفة العظمى.
[120] (فائدة)
الحذر من طريق الشيطان
كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه الا من ثلاث جهات:
أحدها: التزيّد والاسراف, فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله الى القلب, وطريق الاحتراز منه [عدم] اعطاء النفس تمام مطلبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة. فمتى أغلقت هذه الأبواب حصل الأمان من دخول العدو منه.
الثانبة: الغفلة, فان الذاكر في حصن الذكر, فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب اخراجه.
الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء.
[121] (فائدة)
طلب النفوذ الى الله والدار الآخرة
طالب النفوذ الى الله والدار الآخرة بل والى كل علم وصناعة ورئاسة بحيث يكون رأسا في ذلك مقتدى به فيه, يحتاج أن يكون شجاعا مقداما حاكما على وهمه, غير مقهور تحت سلطان تخيّله, زاهدا في كل ما سوى مطلوبه, عاشقا لما توجه اليه, عارفا بطريق الوصول اليه والطرق والقواطع عنه, مقدام المهمة, ثلبت الجأش, لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم, ولا عذل عاذل, كثير السكون, دائم الفكر, غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم, قائما بما يحتاج اليه من أسباب معونته, لا تستفزه المعارضات, شعاره الصبر, وراحته التعب, محبا لمكارم الأخلاق, حافظا لوقته, لا يخالط الناس الا على حذر, كالطائر الذي يلتقط الحب بينهم, قائما على نفسه بالرغبة والرهبة, طامعا في نتائج الاختصاص على بني جنسه, غير مرسل شيئا من حواسه عبثا, ولا مسرحا خواطره في مراتب الكون. وملاك ذلك هجر العوائد, وقطع العلائق الحائلة بينك وبين المطلوب, وعند العوام أ، لزوم الأدب مع الحجاب, خير من اطرح الأدب مع الكشف.
[122] (فائدة)
تواطؤ اللسان والقلب على ذكر الله
من الذاكرين من يبتديء بذكر اللسان وان كان على غفلة, ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطأ على الذكر. ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتديء على غفلة بل يسكن حتى حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه, فاذا قوي استتبع لسانه فتواطآ جميعا. فالأول ينتقل الذكر من لسانه الى قلبه. والثاني ينتقل من قلبه الى لسانه, من غير أن يخلو قلبه منه, بل يسكن أولا حتى يحس بظهور الناطق فيه. فاذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي الى الذكر اللساني ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذكرا, وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده.
[123] فصل
أنفع الناس لك
أنفع الناس لك رجل مكّنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا, أو تصنع اليه معروفا, فانه نعم العون لك على منفعتك وكمالك. فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر. وأضر الناس عليك من مكّن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فانه عون لك على مضرّتك ونقصك.
فصل
[124] اللذة المحرّمة ممزوجة بالقبح
اللذة المحرّمة ممزوجة بالقبح حال تناولها, مثمرة للألم بعد انقضائها, فاذا اشتدّت الداعية منك اليها, ففكر في انقطاعها, وبقاء قبحها وألمها, ثم وازن بين الأمرين, وانظر ما بينهما من التفاوت, والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن, مثمر للذة والراحة, فاذا ثقلت على النفس, ففكر في انقطاع تعبها, وبقاء حسنها ولذتها وسرورها, ووازن بين الأمرين, وآثر الراجح على المرجوح, فان تألّمت بالسبب, فانظر الى ما في السبب من الفرحة والسرور واللذة, يهن عليك مقاساته, وان تألمت بترك اللذة المحرمة, فانظر الى الألم الذي يعقبه, ووازن بين الألمين, وخاصيّة العقل تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما.
وهذا يحتاج الى علم بالأسباب ومقتضياتها, والى عقل يختار به الأولى والأنفع له منها, فمن وفّر قسمه من العقل العلم اختار الأفضل وآثره, ومن نقص حظه منهما أو من أحدهما اختار خلافه, ومن فكّر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدا منهما الا بمشّقة, فليتحمّل المشقّة لخيرهما وأبقاهما.
فصل
[125] لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر, وله عليه فيه نهي, وله فيه نعمة, وله به منفعة ولذة. فان قام لله في ذلك العضو بأمره, واجتنب فيه نهيه, فقد أدّى شكر نعمته عليه فيه, وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به, وان عطّل أمر الله ونهيه فيه, عطّله الله من انتفاعه بذلك العضو, وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرّته.
وله عليه في كل وقت من أوقاتته عبوديّة تقدمه اليه, وتقرّبه منه, فان شغل وقته بعبودية الوقت, تقدم تاى ربه, وان شغله بهوى أو راحة وبطالة تأخّر, فالعبد لا يزال في تقدّم أو تأخّر, ولا وقوف على الطريق البتّة. قال تعالى:{ لمن شاء منكم أن يتقدّم أو يتأخّر} المدثر 37.
فصل
[126] {فريق في الجنة وفريق في السعير}
أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي, والعطاء والمنع. فافترقوا فرقتين:
فرقة قابلت أمره بالترك, ونهيه بالارتكاب, وعطاءه بالغفلة عن الشكر ومنعه بالسخط, وهؤلاء أعداؤه, وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.
وقسم قالوا: انما نحن عبيدك, فان أمرتنا سارعنا الى الاجابة, وان نهيتنا أمسكنا نفسنا, وكففناها عمّا نهيتنا عنه, وان أعطيتنا حمدناك وشكرناك, وان منعتنا تضرّعنا اليك وذكرناك. فليس بين هؤلاء وبين الجنة الا ستر الحياة الدنيا, فاذا مزّقه عليه الموت, صاروا الى الحسرة والألم.
فاذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك, وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت, فانظر مع من تميل منهما, ومع من تقاتل, اذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين, فأنت مع أحدهما لا محالة. فالفريق الأول استغشوا الهوى فخالفوه, واستنصحوا بالعقل فشاوروه, وفرّغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له, وجوارحهم للعمل بما أمروا به, وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة, واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة الى الأعمال, وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها, واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم اليها, واهتموا بالله على قدر حاجتهم اليه, وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها, فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها أن آنسهم بنفسه, وأقبل بقلوبهم اليه, وجمعها على محبته, وشوقهم الى لقائه, ونعمهم بقربه, وفرغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوقها, والغم من خوف ذهابها, فاستلانوا ما استرعوه المترفون, وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون, صحبوا الدنيا بأبدانهم, والملأ الأعلى بأرواحهم.
فصل
[127] صفات التوحيد
التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه, فأدنى شيء يخدشه ويدنّسه ويؤثّر فيه, فهو كأبيض ثوب يكون, يؤثّر فيه أدنى أثر, وكالمرآة الصافية جدا, أدنى شيء يؤثر فيها. ولهذا تشوشه الحظة واللفظة والشهوة الخفية, فان بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده, والا اساحكم وصار طبعا يتعسّر عليه قلعه.
وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه: منها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال, ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال, ومنا ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال. ولكن من الناس ما يكون توحيده كبيرا عظيما, ينغمر فيه كثير من تلك الآثار, ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ, فيغتر به صاحب التوحيد الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده, فيظهر من تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير. وأيضا فان المحل الصافي جدا يظهر لصاحبه مما يدنّسه ما لا يظهر في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه, فيتداركه بالزالة دون هذا فانه لا يشعر به أيضا فان قوة الايمان والتوحيد اذا كانت قوية جدا أحالت المواد الرديئة وقهرتها, بخلاف القوة الضعيفة, وأيضا فان صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثل المحاسن, كما قيل:
واذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وأيضا فان صدق الطلب, وقوة الارادة, وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة الى مقتضاه وموجبه, كما أن الكذب, وفساد القصد, وضعف الانقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة الى مقتضاه وموجبه, كما يشاهد ذلك في الأخلاط الغالبة, واحالتها لصالج الأغذية الى طبعها.
[128] (فائدة)
ترك الشهوات لله
ترك الشهوات لله وان أنجى من عذاب الله وأوجب الفوز برحمته, فذخائر الله, وكنوز البر, ولذة الأنس, والشوق اليه, والفرح والابتهاج به, لا تحصل في قلب فيه غيره, وان كان من أهل العبادة والزهد والعلم, فان الله سبحانه أبى أ، يجعل ذخائره في قلب فيه سواه, وهمّته متعلّقة بغيره, وانما يودع ذخائره في قلب يرى الفقر غنى مع الله, والغنى فقرا دون الله والعز ذلا دونه, والذل عزا معه, وبالجملة, فلا يرى الحياة الا به ومعه, والموت والألم والهم والغم والحزن, اذا لم يكن معه, فهذا له جنتان جنة في الدنيا معجلة, وجنة يوم القيامة مؤجلة.
[129] (فائدة)
الانابة اليه تعالى
الانابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه. وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبّته, وذكره بالاجلال والتعظيم, وعكوف الجوارح على طاعته, بالاخلاص له, والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم, ومن لم يعكف قلبه على الله وحده, عكف على التمائيل المتنوعة, كما قال امام الحنفاء لقومه:{ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} آل عمران 67. فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف, فكان حظ قومه العكوف على التماثيل, وكان حظه العكوف على الرب الجليل. والتماثيل جمع تمثال, وهي الصور الممثلة. فتعلق القلب بغير الله, واشتغاله به, والركون اليه, عكوف منه على التمائيل التي قامت بقلبه, وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام, ولهذا كان شرك عبادة الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وارادتهم على تماثيلهم, فاذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها, فهو نظير عكوف الأصنام عليها, ولهذا سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لها ودعا عليه بالتعس والنكس فقال:" تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش" البخاري في كتاب الجهاد 6\81 رقم (2887).
والناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم, وكل مسافر فهو ظاعن مقصده ونازل على من يسرّ بالنزول عليه, وطالب الله والدار الآخرة انما هو ظاعن الى الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه, فهذه همته في سفره وفي انقضائه:{ يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي الى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنّتي}الفجر 27 -30. وقالت امرأة فرعون:{ رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} التحريم 11, فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة, فان الجار قبل الدار.
[130] من كلام أحد الصالحين
قيل لي في نوم كاليقظة أو يقظة كالنوم.
لا تبد فاقة الى غيري فأضاعفها عليك مكافأة لخروجك عن حدك في عبوديتك.
ابتليتك بالقر لتصير ذهبا خالصا فلا تزيفن بعد السبك.
حكمت لك بالفقر ولنفسي الغنى, فان وصلتها بي وصلتك بالغنى, وان وصلتها بغيري حسمت عنك مواد معونتي طردا لك عن بابي.
لا تركنن الى شيء دوننا فانه وبال عليك, وقاتل لك. وان ركنت الى العمل ردنناه عليك, وان ركنت الى المعرفة نكرناها عليك, وان ركنت الى الوجد استدرجناك فيه, وان ركنت الى العمل أوقفناك معه, وان ركنت الى المخلوقين وكلناك اليهم, ارضنا لك ربا نرضاك لنا عبدا.
[131] (فائدة)
الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره
لها أسباب:
أحدها: أن يلوح له عند السماع درجة ليست له, فيرتاح اليها, فتحدث الشهقة, فهذه شهقة شوق.
وثانيها: أنيلوح له ذنب ارتكبه, فيشهق خوفا وحزنا على نفسه, وهذه شهقة خشية.
وثالثها: أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه عنه, فيحدث له ذلك حزنا. فيشهق شهقة حزن.
ورابعها: أن يلوح له كمال محبوبه, ويرى الطريق اليه مسدودة عنه, فيحدث ذلك شهقة أسف وحزن.
وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبه, واشتغل بغيره, فذكره السماع محبوبه, فلاح له جماله, ورأى الباب مفتوحا والطريق ظاهرة, فشهق فرحا وسرورا بما لاح له.
وبكل حال فسبب الشهقة قوة الوارد, وضعف المحل عند الاحتمال. والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلا ولا يظهر عليه, وذلك أقوى له وأدوم, فانه اذا أظهره ضعف أثره وأوشك انقطاعه. هذا حكم الشهقة من الصادق, فان الشاهق اما صادق واما سارق واما منافق.
[132] (قاعدة نافعة)
الفكر مبدأ الارادة وهو أصل الخير والشر
أصل الخير والشر من قبل التفكّر, فن الفكر مبدأ الارادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض. وأنفع الناس الفكر الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها, فهذه أربعة أفكار من أجل الأفكار. ويليها أربعة: فكّر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها, وفكّر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها, فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء. ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه, وأمره ونهيه, وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما والاهما, وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة. فاذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها, وفي الدنيا خستها وفنائها, أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة, والزهد في الدنيا, وكلما فكّر في قصر الأمل, وضيق الوقت, أورثه ذلك الجد والاجتهاد, وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
وهذه الأفكار تعلي همّته, وتحييها بعد موتها, وسفولها, وتجعله في واد والناس في واد. وبازاء هذه الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق, كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه, ولا أعطى الاحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع, كالفكرفي كيفية ذات الرب وصفاته, مما لا سبيل للعقول الى ادراكه, ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر, كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير.
ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالا ولا شرفا, كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي, وأكثر علوم الفلاسفة التي لو بلغ الانسان غاياتها لم يكمل بذل ولم يزك بنفسه.
ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها, وهذا وان كان للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة له, ومضرّته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرّته. ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون, كالفكر فيما اذا صار ملكا, أو وجد كنزا, أو ملك ضيعة, ماذا يصنع؟ وكيف يتصرّف, ويأخذ, ويعطي, وينتقم؟ نحو ذلك من أفكار السفل. ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة. ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها, فانه يشغل الانسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة. ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة اليها البتة, وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب, فكل هذه الأفكار مضرّتها أرجح من منفعتها ويكفي في مضرّتها شغلها عن الفكر فيما هو أولى به وأعود عليه بالنفع عاجلا وآجلا.
[133] (قاعدة)
الطلب لقاح الايمان
الطلب لقاح الايمان, فاذا اجتمع الايمان والطلب أثمرا العمل الصالح. وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار اليه, فاذا اجتمعا أثمرا اجابة الدعاء. والخشية لقاح المحبة, فاذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهي. والصبر لقاح اليقين, فاذا اجتمعا أورثا الامامة في الدين, قال تعالى:{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} السجدة24. وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الاخلاص, فاذا اجتمعا أثمرا قبول العمل والاعتداد به.
والعمل لقاح العلم, فاذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة, وان انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئا. والحلم لقاح العلم, فاذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة حصل الانتفاع بعلم العالم, وان انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع. والعزيمة لقاح البصيرة, فاذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة وبلغت به همّته من العلياء كل مكان.
فتخلف الكمالات اما عن عدم البصيرة واما عن عدم العزيمة.
وحسن القصد لقاح لصحة الذهن, فاذا فقدا فقد الخير كله واذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات. وصحة الرأي لقاح الشجاعة, فاذا اجتمعا كان النصر والظفر, وان فقدا فالخذلان والخيبة, وان وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز, وان حصلت الشجاعة بلا رأي فالتهوّر والعطب. والصبر لقاح البصيرة, فاذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما.
قال الحسن: اذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته, واذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته, فاذا رأيت صابرا بصيرا فذاك.
والنصيحة لقاح العقل, فكلما قويت النصيحة قوي العقل واستنار. والتذكّر والتفكّر كل منهما لقاح الآخر, اذا اجتمعا أنتجا الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. والتقوى لقاح التوكل, فاذا اجتمعا استقام القلب. ولقاح أخذ الهبة الاستعداد لقصر الأمل, فاذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما والشر في فرقتهما. ولقاح الهمّة العالية النيّة الصحيحة, فاذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد.
[134] (قاعدة)
موقفان للعبد بين يدي الله تعالى
للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة, وموقف بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف الأول هوّن عليه الموقف الآخر, ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفّه حقّه, شدّد عليه ذلك الموقف. قال تعالى:{ ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا . انّ هؤلاء يحبّون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} الانسان 26_27.
[135] (قاعدة)
قاعدة اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان بل ولكل حي فلا تذم من جهة كونها لذة وإنما تذم ويكون تركها خيرا من نيلها وانفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل أو أعقبت ألما حصوله اعظم من ألم فواتها فههنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل ضمن عرف العقل بين فمتى علاف التفاوت بين اللذتين والألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم ولذة الدنيا أصغر واقصر وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا والمعول في ذلك على الإيمان واليقين فإذا قوى اليقين وباشر القلب آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة واحتمل الألم الأسهل على الأصعب والله المستعان .
[136] (فائدة)
في قصّة أيّوب
فائدة قوله تعالى:{ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} الأنبياء 83.جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في المتملق له والإقرار له بصفة الرحمة وإنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته وهو فقره ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره .
[137] (فائدة جليلة)
في قصة يوسف
فائدة قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال:{ أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين} يوسف 101, جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستلام للرب وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه وكون الوفاة على الإسلام اجل غايات العبد وان ذلك بيد الله لا بيد العبد والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء.
[138] (فائدة)
قوله الله تعالى:{ وان من شيء الا عندنا خزائنه} الحجر 21, متضمن لكنز من الكنوز وهو أن يطلب كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه وقوله وإن إلى ربك المنتهى متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه فهو غاية كل مطلوب وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه فاجتمع ما يراد منه كله في قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه واجتمع ما يراد له كله في قوله وان إلى ربك المنتهى فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى.

وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد
العبد دائما متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف ظاهرا وباطنا وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن.
فإن قلت وما اللطف الباطن فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع فيستخذى بين يدي سيده ذليلا له مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضى أو سخط فإن رضى نال الرضا وإن سخط فحظه السخط فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها.
[139] (فائدة جليلة)
محبة الله تعالى والاتصال به
لا يزال منقطعا عن الله حتى تتصل إرادته ومحبته بوجه الأعلى والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده فلا يحجبها شيء دونه وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه فيفعل الطاعة لا أنه أمر بها وأحبها ويترك المناهي لكونه نهى عنها وابغضها فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه وحقيقة زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة ويتصل التوكل والحب به بحيث يصير واثقا به سبحانه مطمئنا إليه راضيا بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال.
ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون سواه ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح ولا يسر به غاية السرور وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته.
وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها وأمر بالفرح بفضله ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون.
والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه ملبس عليه في معرفته وإرادته وسلوكه.
[140](قاعدة جليلة)
نعم الطاعات واللذات كلها من عند الله تعالى
قد فكرت في هذا الأمر فإذا أصله أن تعلم أن النعمكلها من الله وحده نعم الطاعات ونعم اللذات فترغب إليه أن يلهمك ويوزعك شكرها قال تعالى:{ وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} النحل 53, وقال:{فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} الأعراف 69,وقال:{واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} النحل 114, وكما أن تلك النعم منه ومن ومجرد فضله فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده وتخليته بينه وبين نفسه وإن لم يكشف ذلك عن عبده فلا سبيل له الى كشفه عن نفسه فإذا هو مضطر إلى التضرع والابتهال إليه أن تدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه وإذا وقعت بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها فلا ينفك عن العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة ولا فلاح له إلا بها الشكر وطلب العافية والتوبة النصوح.
ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة وليسا بيد العبد بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء فإن وفق عبده اقبل بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة وأن خذله له تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن.
ثم فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشية لا سبب لهما فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان وكذلك النوعان كل منهما متفاوت في القبول فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول لكن ليس بين النوع الواحد م ن التفاوت كما بين النوع الإنساني فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها وخطرها ويشكر المنعم بها ويثني عليه بها ويعظمه عليها ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة من غير أن يكون هو مستحقا لها ولا هي له ولا به وإنما هي لله وحده وبه وحده فوحده بنعمته إخلاصا وصرفها في محبته شكرا وشهدها من محض جوده منه وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجز أو ضعفا وتفريطا وعلم أنه أن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له.
وكلما زاده من نعمه ازداد زلالة وانكسارا وخضوعا بين يديه وقياما بشكره وخشيته له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيته شكرها كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يلق أن يقابل به سلبه إياها ولا بد قال تعالى:{ وكذلك فتنا بعضهم ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين}الأنعام 53, وهم الذين عرفوا قدر النعمة وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره وقال تعالى:{ وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته} الأنعام 124.
[141] (فصل)
في بيان سبب الخذلان
وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال تعالى:{ قال إنما أوتيته على علم عندي} القصص 78. أي على علم علمه عندي استحق به ذلك وأستوجبه واستأهله قالالفراء أي على فضل عندي إني كنت أهله ومستحقا له إذ أعطيته وقال مقاتل يقول على خير علمه الله عندي.
وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمان بن داود فيما أوتي من الملك ثم قرأ قوله تعالى:{ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} النمل 40, ولم يقل هذا من كرامتي ثم ذكر قارون وقوله:{ إنما أوتيته على علم عنديْ القصص 78, يعني أن سليمان رأى ما أوتيته من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلى به شكره وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه وكذلك قوله سبحانه:{ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي} فصلت 50, أي أنا أهله وحقيق به فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه.
والمؤمن يري ذلك ملكا لربه وفضلا منه من به على عبده من غير استحقاق منه بل صدقة تصدق بها على عبده وله أن لا يتصدق بها فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئا هو له يستحقه عليه فإذا لم يشهد ذلك رأي فيه أهلا ومستحقا فأعجبه نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها فكان حظها منها الفرح والفخر كما قال تعالى:{ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعتاها منه إنه ليؤس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} هو\ 9-10.
فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البلاء قوله:{ ذهب السيئات عني} لو أنه قال اذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على ذلك بل كان محمودا عليه ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها فرح وافتخر.
فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال تعالى:{ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} الأنفال 22-23, فاخبر سبحانه أن محلهم غير قابل لنعمته ومع عدم القبول ففيهم مانع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها.
ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خلقت عليه في الأصل وإهمالها وتخليتها فأسباب الخذلان منها وفيها وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة فأسباب التوفيق منه ومن فضله وهو الخالق لهذه وهذه كما خلق أجزاء الأرض هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له وخلق الشجر هذه تقبل الثمرة وهذه لا تقبلها وخلق النحلة قابلة لأن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه والزنبور غير قابل لذلك وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وحجته وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضده وهو الحكيم العليم قال معناه شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس احمد بن تيمية رحمه الله.
[142] حول قوله تعالى
قال الله تعالى:{ألم .أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين. أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون. من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم احسن الذي كانوا يعملون. ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين. ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين. وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} العنكبوت 1-11.
وقال الله تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} البقرة 214.
وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله:{ من كفر بالله من بعد إيمانه} النحل 106, قال بعد ذلك:{ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} النحل 110.
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول أحدهم آمنا وإما أن لا يقول آمنا بل يستمر على عمل السيئات فمن قال آمنا امتحنه الرب عز وجل وابتلاه وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته فإن أحدا لن يعجز الله تعالى هذه سنته تعالى يرسل الرسل إلى الخلق فيكذبهم الناس ويؤذنهم قال تعالى:{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الأنس والجن} الأنعام 112, وقال تعالى:{ كذلك ما أتي الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} الذاريات 52, وقال تعالى:{ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} فصلت 43.
ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه فابتلى بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في بد من الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة والآخرة والكافر تحصل له النعمة ابتداء ثم يصير في الألم.
سأل رجل الشافعي فقال يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلي فقال الشافعي لا يمكن حتى يبتلي فإن الله ابتلي نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة.
وهذا اصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له من أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقوهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتاره من غيرهم ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئا كثيرا كقوم يريدون الفواحش والظلم, ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى:{ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} الأعراف 33. وهم في مكان مشترك كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم وهم لا يتمكنون مما لا يريدون إلا بموافقة ألئك أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم فيطلبون من أولئك الموافقه أو السكوت فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كما أولئك يخافونه ابتداء كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل إما في الخبر وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم فإن لم يجبهم آذوه وعادوه وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه وإلا عذب بغيرهم.
فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية ويروي موقوفا ومرفوعا:" من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس" وفي لفظ:" رضي الله عنه وأرضي عنه الناس ومن أرضي الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" وفي لفظ:" عاد حامده من الناس ذاما" الترمذي في السنن كتاب الزهد باب (64) 4\609 رقم 2414.

وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم ثم تكون العاقبة في الدنيا والآخرة كما جرى للرسل واتباعهم مع من آذاهم وعاداهم مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاته.
ا وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة كالمكره على الكفر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا أنه لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس فلا خلاص لأحد مما يؤذيه البتة ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع انه لا بد أن يبتلي الناس والابتلاء يكون بالسراء والضراء ولا بد أن يبتلى الإنسان بما يسره وبما يسوؤه فهو محتاج إلى أن يكون صابرا شكورا.
قال تعالى:{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا] الكهف 7, وقال تعالى:{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} الأعراف 168, وقال تعالى:{ فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} طه 123-124, وقال تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} هذا في آل عمران 142.
وقد قال قبل ذلك في البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب} البقرة 214.
وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كبر الامتحان إذ كانت النفس جاهلة ظالمة وهي منشأ كل شر يحصل للعبد فلا يحصل له شر إلا منها.
قال تعالى:{ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} النساء 79, وقال تعالى:{أو لما أصابتكم مصيبة من مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} آل عمران 165,وقال:{وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير} الشورى 30, وقال تعالى:{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} الأنفال 53.
وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت وفي كل ذلك يقول إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون وأول من اعترف بذلك أبواهم قالا:{ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين] الأعراف 23, وقال لإبليس:{ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ص 85, وإبليس إنما اتبعه الغواة منهم كما قال:{بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} الحجر 39- 40, وقال تعالى:{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} الحجر 42, والغي اتباع هوى النفس.
وما زال السلف معترفون بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود أقول فيها برأبي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه.
وفي الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي يرويه الرسول عن ربه عز وجل:" يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" مسلم في الصحيح 4\1994 رقم 2577, وفي الحديث الصحيح حديث:" سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا آله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة" البخاري في الدعوات 11\100 رقم 6306.
وفي حديث أبي بكر الصديق من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو:" أن رسول الله علمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه اشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وان أقترف على نفسي سوأ أو أجرة إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك" الترمذي في الدعوات رقم 3389.
وكان النبي يقول في خطبته:" الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" أبو داود في النكاح رقم 2118. وقد قال النبي:" إني أخذ بحجركم عن النار وأنتم تهافتون تهافت الفراش" البخاري في الرقاق 11\323 رقم 6483, شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته وهي صغيرة النفس فإنها جاهلة سريعة الحركة.
وفي الحديث:" مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة" ابن ماجه في المقدمة رقم 88. وفي حديث آخر:" للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليان" أحمد في المسند 6\24.ا ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه أنه استخفه. قال عن فرعون إنه:{فاستخف قومه فأطاعوه} الزخرف 54, وقال تعالى:{ فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} الروم 60. فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش. وصاحب اليقين ثابت يقال أيقن إذا كان مستقرا واليقين واستقرار لإيمان في القلب علما وعملا فقد يكون علم العبد جيدا لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش.
قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك. قال تعالى:{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} السجدة 24, ولهذا تشبه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها وغضبها وشهوتها من النار والشيطان من النار.
وفي السنن عن النبي أنه قال:" الغضب من الشيطان والشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" أبو داود في الأدب 4784. وفي الحديث الآخر:" الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم" الترمذي في الفتن 2192, ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام.
وفي الحديث المتفق على صحته:" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" البخاري في الاعتكاف 4\326 رقم 2035, وفي الصحيحين أن رجلين استبا عند النبي وقد اشتد غضب أحدهما فقال النبي:" إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" البخاري في الأدب 10\535 رقم 6115 وسلم في السلام 4\1712 رقم 23-24, وقد قال تعالى:{ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} فصلت 34-36. وقال تعالى:{ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} . وقال تعالى:{ ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون} المؤمنون 96-98.
تم الكتاب والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على رسولنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وتابعيه والمقتدين بآثارهم إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الفهرس :
الانتفاع بالقرآن و شروطه............................................. ................................3
سورة (ق) جامعة لأصول الإيمان........................................... .........................4
براهين المعاد في القرآن مبنيٌة على أصول ثلاث.............................................. .....5
القيامة قيامتان : صغرى و كبرى.............................................. .......................7
الصفات الأربع لأهل الجنٌة............................................ .................................8
فضيلة أهل بدر............................................... ............................................9
نظرة صائبة في تفسير قوله تعالى :
{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور}الملك51
……………………………………………………………………….11
نظرة الى سورة الفاتحة........................................... ......................................11
لمعرفته تعالى طريقان............................................ ......................................12
كيف يفعل من أصابه هم أو غم................................................ ........................13
من معاني العبوديّة......................................... ..............................................14
القضاء والحكم والفرق بينهما............................................ ..............................15
أنزه الموجودات وأشرفها عرش الرحمن جلّ جلاله............................................. ..17
عظمته سبحانه وتعالى............................................ ......................................17
لا بد من قبول المحل لما يوضع فيه أن يفرغ من ضدّه............................................18
الكلام قي ألهاكم التكائر........................................... ......................................19
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه............................................. ...........................19
من معاني الانصاف له تعالى............................................. .............................20
الغيرة نوعان............................................. ................................................21
ايّاك والمعاصي.......................................... .................................................. 22
سلمان منا آل البيت (حديث شريف)............................................. .......................22
المحب الصادق من وجد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة...................................24
مثل الدنيا............................................ .................................................. .......26
فائدة............................................. .................................................. ............26
الأسباب المشهودة والأسباب الغائبة........................................... ..........................29
التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه.......................................... ...................................30
اللذة تابعة للمحبة............................................ ................................................30
حبسان منجيان............................................ .................................................. .31
(فائدة جليلة)-1-.................................................. ...........................................31
(فائدة جليلة)-2-.................................................. ...........................................31
تأثير شهادة أن لا اله الا الله عند الموت في تكفير السيئات........................................... 32
فاتقوا الله وأجملوا الطلب............................................. ......................................33
(فائدة)........................................... .................................................. ............34
العداوة بين الخير والشر............................................. ......................................34
صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتصاره.......................................... ...............35
يا مغرور بالأماني.......................................... ................................................36
العمل بآخره والعمل بخاتمته*.......................................... ..................................36
لماذا كان أول المخلوقات القلم وآخرها آدم عليه السلام............................................ ..37
كتابة عذر آدم قبل هبوطه الى الأرض............................................. ....................37
فائدة الايمان بالله وحده.............................................. ......................................38
الله يتجلى لعباده بصفاته في كلامه............................................. .........................40
"لا تحزن ان الله معنا" تقوى القلب............................................. ........................42
(تنبيه)اجتناب من يعادي أهل كتاب الله وسنة رسوله............................................. ....43
من المواعظ والحكم............................................ .............................................43
هجر القرآن أنواع............................................. ..............................................48
كمال النفس المطلوب........................................... ............................................49
من أصبح وليس همه الا الله تعالى............................................. ..........................49
العلم والعمل وما هما............................................... ........................................49
الايمان له ظاهر وباطن.....................................................................................50
التوكل على الله نوعان............................................. ..........................................50
شكوى الجاهل من الله.............................................. .....................................51
حول الآية الكريمة
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول}.......................................... ..................52
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}.............................................. ...................54
الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا........................................... ........................55
أساس الخير أن تؤمن بما شاءه تعالى............................................. .....................57
مرض القلب............................................. .....................................................58
ترك الاختيار.......................................... ....................................................58
قبول فتوى العابد الزاهد في دنياه..........................................................................59
احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد الجاهل............................................ ..............60
العلم الايمان أفضل ما تكسبه النفس ويحصّله القلب............................................. .......61
الايمان المفصل معرفة وعلم واقرار ومحبة............................................. ................62
لا مشقة في ترك المألوف ارضاء لله تعالى............................................. .................63
(قاعدة جليلة)............................................ .................................................. ...64
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها............................................... ............................65
حقوق الله على العباد............................................ .............................................66
توكل على الله حق توكله............................................. .......................................67
هلم الى الدخول على الله ومجاورته في الجنة............................................. ..............68
علامة صحة الارادة........................................... .............................................69
استغن عن الناس بالله تعالى............................................. ..................................69
أقسام الزهد............................................. .................................................. ....69
ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي............................................. ...............69
مبني الشكر على قاعدتين الذكر والشكر............................................ ....................75
من سار نحو الهداية يسر الله له سبلها............................................. ......................76
بين الهدى والرحمة- والضلال والشقاء........................................... ......................77
الهدى والرحمة وتوابعهما من صفة العطاء............................................ ................79
التعلق في المطالب العليا............................................ .......................................79
ايّاك والكذب............................................ .................................................. ...79
في ظلال الآية الكريمة{ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون}. .................................................. .......................80
شروط الانتفاع بالايمان والعلم............................................ .............................80
الصبر عن الشهوة أسهل من ألم عقوبتها........................................... ..................81
حدود الأخلاق........................................... .................................................8 1
(فصل)............................................. .................................................. .....82
الأخلاق المحمودة والأخلاق المذمومة.......................................... .....................84
المطلب الأعلى يحتاج الى همة عالية ونية صحيحة............................................. ..84
من حكم ابن مسعود رضي الله عنه............................................... ....................84
الاخلاص ومحبة المدح لا يجتمعان في قلب............................................... ..........87
أشرف الناس من كانت لذته في معرفة الله تعالى ومحبته..........................................87
من مزايا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز............................................ ............88
من الحكم والمواعظ.......................................... ............................................89
من العوائق........................................... .................................................. ...89
من العلائق........................................... ......................................................90
حاجة الناس الى الرسول صلى الله عليه وسلم.........................................................90
من علامات السعادة والفلاح........................................... ...................................90
الأعمال درجات وأساسها الايمان........................................... .............................90
أركان الكفر............................................. .....................................................91
الجهال بأسماء الله وصفاته............................................ ....................................92
التوحيد والسنة شجرة في القلب فروعها الأعمال.....................................................95
خلق بدن آدم من الأرض وروحه من ملكوت السماء................................................97
رعاية الحقوق مع الضر ورعايتها مع العافية........................................................98
معرفة الله تعالى نوعان............................................. .....................................98
أنواع الكسب............................................. ..................................................98
مواساة المؤمن وأنواعها.......................................... .......................................98
الجهل بالطريق يورث التعب............................................................................99
الرحلة الى الله تعالى وما يكتنفها من الخوادع والقواطع............................................99
نعم الله تعالى وأنواعها.......................................... ..........................................99
الخواطر والأفكار مبدأ كل علم نظري.............................................. ..................99
من أقوال شفيق البلخي............................................ .......................................101
اعرف نفسك تعرف ربك.................................................................................102
من أنواع معرفة الله تعالى............................................. ..................................103
حول قوله تعالى:
{ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.......................................... ........103
معرفة الله سبحانه وتعالى بالجمال........................................... .........................103
ان الله جميل يحب الجمال............................................ ..................................105
نظرات في الجمال............................................ ...........................................106
صدق العبد مع ربه............................................... .......................................106
في القدر............................................. .................................................. ....106
مثل المرء في الحياة الدنيا كمثل مسافر............................................. .................108
الاشتغال بالمشاهدة......................................... .............................................108
الحذر من طريق الشيطان........................................... ...................................108
طلب النفوذ الى الله والدار الآخرة............................................ ........................109
تواطؤ اللسان والقلب على ذكر الله.............................................. .....................109
أنفع الناس لك................................................ ............................................109
اللذة المحرّمة ممزوجة بالقبح............................................ .............................109
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر............................................... ........110
{فريق في الجنة وفريق في السعير}........................................... .....................110
صفات التوحيد........................................... ................................................11 0
ترك الشهوات لله............................................... ..........................................111
من كلام أحد الصالحين.......................................... .......................................112
الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره.............................................. .......112
الفكر مبدأ الارادة وهو أصل الخير والشر............................................. .............112
الطلب لقاح الايمان........................................... ..........................................113

موقفان للعبد بين يدي الله تعالى............................................. ........................114
(قاعدة)........................................... .................................................. ....114
في قصّة أيّوب............................................. ...........................................114

في قصة يوسف.............................................. ........................................114
(فائدة)........................................... .................................................. ....115
محبة الله تعالى والاتصال به................................................ .....................115
نعم الطاعات واللذات كلها من عند الله تعالى............................................. ......116
في بيان سبب الخذلان........................................... ..................................116
حول قوله تعالى
{ ألم .أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا... } العنكبوت 1-11.......................117

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22