الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:41 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 6
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الرابع

في مقام التلقي لمشاهَدات اليقين، سياحةً في عالم الملك والملكوت!


1- كلمات الابتلاء:

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ(31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32).وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ(34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ(36) وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ(37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ(42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ(43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ(44)


2- البيان العام:


هذه طبقة أعلى من البيان! طبقة لا يبلغها رسولٌ ولا صِدِّيقٌ ولا أي داعية! لأن هؤلاء جميعا يصدر بيانهم من موقع العبدية الخاضعة لله رب العالمين، ولو تفاوتت طبقاتهم في ذاتهم وبيانهم. أما البيان ههنا فهو صادر عن الذات العلية! والمتكلم ههنا – بلا حكاية – هو الله رب العالمين خالق الأكوان والناس أجمعين! يتكلم جل جلاله من عَلُ، عارضا لهيمنته على مُلْكِهِ ورعايته لخلقه؛ ولذلك فقد جاء الحجاج صادرا عن شؤون الربوبية مباشرة! بيانا لا يستطيعه مَلَكٌ ولا بشر، مهما بلغت منـزلته عند ربه! فكانت الآيات هي بيان حقائق القدرة الإلهية والعظمة الربانية، من مشاهد الْمُلْك والملكوت!

أجل، ههنا استأنف الحق تعالى تسفيه إصرار الكفار على تكذيب الرسل، وإنكار حقيقة البعث، وبدأ سبحانه بعرض الآيات البينات على بطلان أوهامهم! قال جل جلاله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟! وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ!) ألا ينظر هؤلاء المستهزئون إلى من قبلهم من الأجيال التي أهلكناها، أنهم لا يرجعون إلى هذه الدنيا؟ لكنهم جميعا سيحشرون مع البشرية كلها - أولها وآخرها - ليوم البعث، حيث سيتم إحضار كل نفس للمثول يوم الحساب بين يدي رب العالمين!

قال المفسرون: وفي الآية رد على الدهريين القائلين بالتناسخ والدَّوْرِ، الزاعمين أن الموتى سوف يبعثون في هذه الدنيا مرة أخرى ولا وجود للآخرة!([1]) فبين الحق أن البعث إنما هو بعث واحد لا موت بعده، وهو يوم الجزاء! الذي تتفرق فيه البشرية – بعد قضاء الحق بين العباد - إلى مصيرين اثنين لا ثالث لهما: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير!)(الشورى: 7). جعلنا الله من أهل النجاة برحمته!

ثم شرع سبحانه في عرض مشاهد عظيمة من شؤون ربوبيته، تدل بقوة على قدرته تعالى على البعث والإحياء؛ بما يقطع شك المترددين ويخرس ألسنة الجاحدين! قال جل جلاله: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟)

وآيةٌ لهم! والآية: هي العلامة الواضحة الدالة على أمر بقوة. وكما أن القرآن علامات، فإن الكون كله علامات على طريق البشرية.. فمن ذا يفتح بصيرته على مَشَاهِدِهِ ويقرأ؟

والإحياء آية من أعظم آيات الله في هذا الوجود! وهو سر من أدق أسرار الخلق، وله تجليات شتى لا تكاد تنحصر. والإنسان عاجز عن إدراك كنه الحياة وجوهرها، رغم أنه يتنفسها صباح مساء! وإنما الذي نعرفه هو بعض تجلياتها فقط، كالحركة والنمو وما شابه هذا وذاك؛ لأن الحياة سر من أسرار الحي الذي لا يموت! يهبه لمن يشاء وينـزعه ممن يشاء. ومن ثَم يفتح القرآن عيوننا على هذه الحقيقة العجيبة، التي ينكرها الكافر بجهله وطغيانه، فينكر البعث والنشور! ويضرب لنا إحياء الأرض الموات مثلاً.

والأرض تموت نعم، يغور ماؤها ويُحْتَطَبُ شجرها، وينقرض نباتها فتذروه الرياح، فلا يبقى بها أثر لخضرة، ثم تتصحر ويهجرها أهلها! وترحل عنها الحيوانات البرية والطيور! فلا يبقى بها أثر لحياة! لقد ماتت! وقد تبقى كذلك عدة أجيال! وربما مر بها عابر سبيل فيقول: أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها!؟ حتى إذا أراد الله إحياءها أنزل عليها ماءها غيثا متواترا، لا يدعها حتى يبعث فيها الحياة من جديد غضة طرية! فتنهض كأجمل وأقوى ما يكون ريعان الشباب حيوية وجمالا! ثم يعود إليها أهلها بعد هجرة طويلة، يُجْرُونَ عيونها المتدفقة، وأنهارها المترقرقة، ثم يزرعون ويغرسون، فإذا بالحقول ممتلئة حَبا وبركة، وإذا بالجنات والبساتين تتدلى أغصانها بمختلف الفواكه والثمار، وإذا بالطيور تملأ الفضاء هديلا وتغريدا! وإذا بالروابي تستعيد صيدَها ومرعاها.. ويمر عابر السبيل مرة أخرى فيقول: كأن الموت ما مر من هنا قط!

كل ذلك؛ إنما هو تسخير للعباد من الرحمن، ورزقٌ لهم من فيض رحمته جل جلاله، لا حول لهم فيه ولا قوة! عساهم يشكرون ويعتبرون، ويشهدون أن الله الذي أحيى هذه الأرض، قدير على إحياء كل موات متى شاء. بما في ذلك الإنسان وسائر الحيوان! ولذلك فالمؤمن العالم بالله، المتدبر لأحوال الأرض واختلاف تجلياتها بين موتها وحياتها، لا يملك إلا أن يسبح بحمد ربه! ومن ثَم جاءت تتمة السياق - تعليقا على هذا المشهد العجيب - قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ!)

والتسبيح تنـزيه، فهو تعالى تنـزه عن العجز الذي يصفه به الكفرة، حيث يقولون باستحالة البعث! بل هو تعالى الذي خلق الأزواج كلها، من النبات والإنسان وسائر الحيوان، ومما لا يعلم وجوده أو طبيعته إلا الله! فهو سبحانه الذي جعل الحياة في كل تلك الخلائق والأنواع، وأودع فيها سر استمرارها بالتزاوج والتناسل. وقد انفرد سبحانه بالخلق؛ فأنَّى يوصف بالعجز، وأنَّى يكون له شريك؟ ألاَ سبحانه وتعالى عما يصفون!

ثم يلفت الحق تعالى نظر الإنسان إلى الفَلك الدائر به وفيه، وما حوله من كواكب ونجوم، سخرها له تسخيرا. لولا وجودها لاستحالت حياته في الأرض! قال جل جلاله: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!)

والتعبير بالسلخ هنا تعبير عجيب، فهو نزع غشاء أو غطاء، كما يُسلخ جلد الدابة عن جسدها! مما يدل على أن الليل هو الأصل، وأن هذا الكون وجود مظلم! وإنما يشرق ما يشرق منه؛ بما جعل الله فيه من أجرام نارية وسُرُجٍ مشتعلة، قال تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا!)(نوح: 16) وقال: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا!)(النبأ: 13) ولولا ذلك لظلت الأرض في ظلام دامس رهيب! قال سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ؟)(القصص: 71) وما من نور أو ضياء إلا وهو مستمد من نور الله العظيم، إذ هو: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ!)(النور: 35)

وكما أن النهار نعمة لا تقدر بثمن، فكذلك الليل نعمة لا تقدر بثمن! ولا يمكن للمؤمن المتدبر لتعاقبهما إلا أن يستجيب لله بديع السماوات والأرض بالتوحيد والتفريد؛ حمداً لآلائه وشكراً لنعمائه!

وكل ذلك - أجراما وأفلاكا وحركات - مخلوق إلى أجل معلوم بِقَدْرٍ معلوم! مُحْكَمٌ بعلم الله ومحكوم بقدرته، لا يعزب عنه تعالى شيء، ولا يخرج عن قبضة سلطانه وجلال عزته شيء! فالشمس، هذا النجم الكبير الضخم المتفجر الملتهب، الذي يفوق حجم الأرض أضعافا مضاعفة، هي أيضا تجري في فلكها العظيم، سابحة في فضاء الله الفسيح، إلى قَدَرِها الذي قدره الله لها، وميقاتها الذي جعله الله لها! والقمر هذا الكوكب المنير، الذي يستمد نوره من الشمس، يتنقل في دورته عبر منازل مُقَدَّرَةٍ بعلم الله ودقة صنعه البديع! بدراً كاملا ثم أهِلَّةً تختلف أشكالها وأحجامها منازل، ما بين لحظة الولادة ولحظة الأفول، حيث ينتهي إلى ما يشبه شكل عرجون النخلة القديم؛ يما يبدو عليه من شحوب وذبول!

وكما يتعاقب الليل والنهار في تداولهما على حياة الأرض؛ تتعاقب الشمس والقمر في إنارتهما للأرض أيضا، تعاقبا يجعل لكل منهما دوره الخاص به، نورا أو ضياء، فلا أحد منهما يُفسد دور الآخر أو يبطله، بل لكل منهما منـزله أو فلكه الخاص به. وهما يجريان في أفلاك متباعدة مستقلة ولذلك قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!) فالشمس المشتعلة تمد القمر، وتجعله كالمرآة يعكس ضوءَها نورا هادئا جميلا، ثم يرسله إلى الأرض ليلاً عبر منازل معلومة، في دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. فالشمس تخدمه ولا تزاحمه، بل إنه يؤدي وظيفته كاملة بالمقادير والمنازل التي جعلها الله له. وكما أن للقمر وظيفته المكفولة بتقدير الله العزيز العليم، فإن للشمس أيضا وظيفتها المكفولة بتقديره تعالى؛ حتى إذا استدارت الأرض نحو الشمس، انفجر ضوؤها على صفحتها الأخرى، فَجْراً يسوق بين يديه النهار قهراً بإذن الله! أي أن ظلام الليل ينقشع بين يدي ضوء الشمس انقشاعا حتميا، ولا حيلة له في التخلص منه والانفلات! بل إنه يندثر قَسْراً! وذلك لما جعل الله من سلطة عجيبة للضياء على الظلام! وهو معنى قوله تعالى: (وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ!) فالسبق هنا بمعنى: الغلبة والتخلص والانفلات. وهو من معانيه في العربية، على غرار قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ!)(الأنفال: 59)، وكذا قوله سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا؟ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ!)(العنكبوت: 4)([2]).

وكل ذلك حقائق كونية عجيبة، لم يبلغ العلم البشري الحديث منها - رغم تطوره الهائل بالنسبة إلى ماضيه - إلاَّ بعض الظواهر وبعض النِّسَبِ ليس إلا! ولم تزل حقائقها الكونية تضرب في عمق المجهول من عالم الغيب، الخاضع لعلم الله المحيط بكل شيء؛ ما يجعل المؤمن المتدبر لذلك كله لا يملك إلا أن يسبح خالقَ هذا النظام الفَلكي الجميل الجليل؛ تسخيراً للإنسان ساكن هذه الأرض، وابتلاءً له في الوقت نفسه!

ثم ينتقل التعبير القرآني - بعد ذلك - لعرض آية أخرى من معجزات الله جل جلاله، وعظمة قدرته وسلطانه، وحكمة تدبيره لشؤون العالمين، وهي هذه المراكب الصناعية والحيوانية، المسخرة للإنسان في البحر والبر والجو، التي كان ابتداؤها الصناعي سفينةَ نوح عليه السلام، والتي كانت معجزة ربانية عجيبة، وحقيقة تاريخية غريبة، لا يملك معها الإنسان إلا الحمد لله رب العالمين. فلولاها لما كان للوجود البشري اليوم في الأرض من أثر! ولكن الله قدر أن يستمر النسل الإنساني إلى ما شاء الله. فالمفسرون يجمعون على أن المقصود في هذا السياق "بالفْلُكِ المشحون" إنما هو سفينة نوح عليه السلام. ولذلك قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ.) فكل الروايات عن ابن عباس وكثير من التابعين مجمعة على ذلك([3]) والسياق يؤيده. ومعنى المشحون: المملوءُ الْمُثَقَّلُ! وذلك بما حمل فيها نوح – عليه السلام - من أزواج الحيوانات والطيور، إضافة إلى الطائفة المؤمنة من قومه وما معها من متاع. ثم سارت مع ذلك آمنة محفوظة بأمر الله في محيط الأمواج الهائلة الضخمة!

وأما حمل الذرية ههنا فهو بمعنى حمل النسل، وهو الذي وقع في سفينة نوح، فقد أمر الله نوحا أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، من الإنسان والحيوان. وكان المؤمنون من قومه فقط، هم وحدهم من سُمح لهم بركوبها رجالاً ونساء، وأغرق الله الباقين! وهو عهد قديم من عهود البشرية، حيث لم يكن في الأرض يومئذ من الإنس غير قوم نوح! فلم يستمر النسل البشري بعد ذلك على وجه الأرض إلا بمن نجا من أهل السفينة! وكل من وُجِدَ بعد ذلك في التاريخ إلى يومنا هذا، من ملايير البشر، إنما كانوا من أصلاب تلك الثلة القليلة من أصحاب السفينة! فالذرية ههنا بمعنى النسل الذي لم يزل في عالم الذر. وهو تعبير استعمله القرآن، كما في قول الله تعالى عن آدم عليه السلام: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى!)(الأعراف: 172). فالذرية ههنا هي النسمات البشرية التي جعلها الله في ظهر آدم([4]). ولذلك لقب المؤرخون نوحا عليه السلام بآدم الثاني! وهي قصة لمن تأملها غريبة رهيبة! تدل على رعاية الله البالغة للإنسان ونعمته عليه وفضله!
فهذه السفينة الأولى في تاريخ البشرية، رغم ما يتصور من بدائيتها من حيث الصنع، فإنها لم تغرق بإذن الله، رغم أن كل أسباب الغرق كانت متوفرة فيها! فقد كانت مشحونة مثقلة بكل أنواع الكائنات الحية مما كان على وجه الأرض يومئذ ومما قدر الله استمرار نسله فيها، إضافة إلى الطائفة المؤمنة من الرجال والنساء والأطفال، ثم ظروف الطوفان الرهيب، وما كان عليه من هيجان شديد! مما وصفه القرآن أبدع تصوير في قوله تعالى من سورة هود: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ!)(هود: 42). بينما ها هي ذي السفن اليوم تتمتع بأحدث الأجهزة الميكانيكية والإلكترونية لضمان سلامتها، ولكن عندما يقدر الله إغراقها يجعلها وأهلها من الهالكين! مما يُعْلَمُ معه ألا عاصم من أمر الله إلا هو! وذلك قوله تعالى في تتمة السياق: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ! إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ!) والصريخ: المنقذ الذي يستنجد به! فلا شيء من تقنيات العصر، ولا من تطورات التكنولوجيا تنفع الإنسان إذا حضر أجله! إلا إذا تجلت عليه رحمة الله، ورحمة الله وحده! والإنسان الأعمى اليوم يثق في تقنيات الحفظ والسلامة المعاصرة، ثقة تحجبه عن الله، فيعبد العلم البشري ومنتجاته منها ومن غيرها! وينسى أنما هي تسخير من رحمة الله، إذا قضى أمره عطلها تعطيلا! وحوادث العصر دالة على هذا أوضح دلالة! وما استمرار الحياة البشرية على الأرض إلا متاع قريب، له أجل معلوم وينتهى، ثم يُبعث الناس لرب العالمين! تلك هي خلاصة القصة البشرية (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(ق: 37)


3- الهدى المنهاجي:

وهو يتضمن الرسالات السبع التالية:

- الرسالة الأولى:

في أن الموت والحياة سر من أسرار الله في الملك والملكوت! وألا شيء من الخلق إلا وهو مبتلى بهما! والموت حقيقة يقينية لا يستطيع أحد إنكارها، ولا أن يتحداها. ولكن ماهيته لغز مغلق لا يدرك الإنسان منه إلا ظواهره، وأما حقيقته فلا يعرفها إلا بعد أن يذوقه! وكذلك الحياة، بما في ذلك هذه التي بها نحيا ونعيش في الأرض، فإننا لا نعرف منها إلا أعراضها، أما حقيقتها فهي مرتبطة بالروح، والروح من أمر الله المحجوب عن الخلق إلى يوم القيامة! الموت والحياة ابتلاءان يحكمان عمر الإنسان وأجله، فلا محيص له من الرضوخ لقدرهما! والمؤمن الكيِّس الفطِن هو من يتزود من هذه الحقيقة حياتَه كلَّها، فلا يخطو خطوة إلا على هداها، عابدا ربه حتى يأتيه اليقين!


- الرسالة الثانية:

في أن البعث حشرٌ شامل للبشرية جميعها، أولها وآخرها، بين يدي الله رب العالمين؛ لتنال جزاءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر! فهذه حقيقة تملأ القلب رهبا! وهي دواء للغفلة الملمة بالقلوب؛ إذ تجعلها تراجع نفسها وتنظر في سوابق أعمالها ولواحقها. وإنَّ اتخاذها وِردا للقلب يتغذى به يوميا؛ لكفيل بترقية العبد إلى منـزلة المحاسبة، صفةً كريمةً لا تزول بإذن الله.


- الرسالة الثالثة:

في أن زخرف الحياة الدنيا جناتها وبساتينها وعمرانها، كل ذلك إلى فناء! وأن التعلق الكامل بها غرور وجهل فظيع بطبيعتها الابتلائية! ثم إن إدمان النظر إليها معزولة عن عمقها الأخروي يورث القلب العمى! فيتعلق بها تعلقا يحجبه عن الله. فلا تزال تخدره بشهواتها حتى تقوده إلى الخسران المبين! والمؤمن البصير يبني صرح العمران الدنيوي - استخلافا في الأرض وإصلاحا - على أساس أخروي، فلا يزال على هدى من ربه حتى يلقاه رَضِيّاً!


- الرسالة الرابعة:

في أن الرزق تقدير إلهي محض، وما من عبد إلا وينال منه ما قُدِّر له، وإنما جعل الله تعالى أسباب الكسب ابتلاء للعباد؛ إذ بها تتعلق أحكام الشريعة من حلال وحرام. وأهل البصائر يرون في الأسباب حكمة الله العزيز الحكيم، فيعبدون الله بها، بينما أهل الغفلة يفتتنون بها؛ فتكون لهم حجبا عن الله، ثم يعبدونها من دون الله! ومن فهم عن الله حقيقة الرزق، وتلقَّى تجليات اسمه تعالى: "الرزاق" نجا من الهلع، وحلت بقلبه القناعة والسكينة. وإن من جهل ذلك من أرباب الدنيا لفي شقاء شديد!


- الرسالة الخامسة:

في أن الشكر حق الله على العباد؛ بما خلق ورزق وهدى! وأن التمرد عن عبادته كفران شنيع لأنعمه! فلا عجب أن كانت أول كلمة نطق بها آدم عليه السلام حمداً([5])، وكانت أول آية افتتح بها القرآن الكريم: "الحمد لله رب العالمين"! ولقد امتن الله بنعمه - التي لا تحصى - على عباده وفصل ذلك في القرآن تفصيلا. وها هو الإنسان غارق في بحارها الكوثرية لا يستطيع منها فكاكا! أفلا يكون من الشاكرين؟ من هنا وجب على العبد أن يتخذ شكر الله - جل جلاله - وردا دائما يعبد الله به ذِكْراً وعملاً، فيستجيب لنداء ربه كلما دعاه، ويلزم حدوده ويتقي محارمه.


- الرسالة السادسة:

في أن التسخير نعمة من نعم الله الكبرى، وجب ملاحظتها بالتفكر في حركة الكواكب والنجوم والأفلاك، وما يستفيده الإنسان منها – تسخيرا من الرحمن - من ليل ونهار، ونور وضياء، وفصول وأمطار...إلخ. فمتى داوم العبد على هذا الضرب من التفكر التعبدي ازداد معرفة بالله وعلما به تعالى، فيرتقي إلى درجة خشيته على قدر مقامه تعالى؛ فلا يخاف بعد ذلك زيغا ولا ضلالا بإذن الله!


- الرسالة السابعة:

في أن الرعاية نعمة أخرى من نعم الله الكبرى، فلا نجاة للإنسان ولا حفظ له ولا أمان إلا برعاية الله له. فهو تعالى الذي يرعى وجوده وشؤونه كلها، رزقا وحفظا وسلامة وشفاء. وإن مطالعة هذا المعنى العظيم تورث القلب التعلق بحب الله، وتكسبة الشوق إلى لقائه. فينشط في سيره إليه، ويصير محمولا بعبادته لا حاملا لها، بمعنى أنه لا يجد فيها مشقة ولا عنتا، بل يجدها لذة وجمالاً! كما أن هذا الضرب من التفكر يمنح القلب أيضا الشعور بالسكينة والطمأنينة والأمان.


4- مسلك التخلق:

لقد كان القرآن واضحا في الدلالة على مسلك التخلق بحقائق هذه الرسالات الإيمانية، وهو إحياء عبادة التفكر في الآيات الكونية! هذه العبادة التي تركها كثير من الناس في هذا الزمان! ولم يزل القرآن يردد: "وآيَةٌ لهم.. وآيَةٌ لهم"! وهو يلفت نظر الإنسان إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض.

ومن ثَمَّ كان على المؤمن أن يجتهد في فتح بصيرة التفكر في كل شيء حوله، حتى يصبح لا يرى شيئا إلا بعين التفكر! وأما المسلك العملي لذلك فهو أن يبدأ بتدريب نفسه على اتخاذ ساعات معلومة لممارسة التفكر، فردا أو مع صاحب له. ويستعين بآيات التفكر في القرآن، فهي ترشد إلى الصورة العملية الناجعة في اكتساب مقام التفكر، والوصول إلى حقيقته ونتيجته. ذلك أن الله - جل جلاله – أرشد الناس إلى أن التفكر الناجع هو ما كان فرديا أو ثنائيا، فإذا تعدى ذلك صار تدارسا. لأن التفكر عملية وجدانية بالأساس، العقل عينها نعم، ولكن القلب هو لسانها المتذوق لها والمتمتع بلذتها! قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)(سبأ: 46). وقال سبحانه في صفة أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران: 191). وهذه الآية قد يظن المرء – بادئ النظر - أن التفكر واقع فيها بفعل الجماعة، لكن السياق يدل على أنه عمل فردي، ففعل الجماعة ههنا إنما يصف مجتمع المؤمنين في أحوالهم الخاصة، قياما وقعودا وعلى جنوبهم. والتفكر على كل حال تأمل قلبي صامت، لا يتصور فيه الاشتراك الجماعي. ومعنى هذا أن تطبيقه يحتاج إلى لحظات من الخلوة الهادئة، بعيدا عن المؤثرات الخارجية والعلاقات الاجتماعية، التي تقطع الواردات وتتلف المشاهدات!



[1]قال ابن كثير رحمه الله: (ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفَجَرتهم من قولهم: "إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا" "المؤمنون: 37"، وهم القائلون بالدور من الدهرية، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، فرد الله تعالى عليهم باطلهم، فقال: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ". تفسير ابن كثير: 6/574.

[2]
ن. تفسير الآية في "التحرير والتنوير" لابن عاشور.

[3]
ن. تفسير الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والسيوطي وغيرهم، ومن المعاصرين: ابن عاشور وسيد قطب.

[4]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ؛ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ! الحديث...) رواه الترمذي والحاكم،قَالَ أَبُو عِيسَى: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". كما صححه الألباني في صحيح الجامع. وفي رواية الحاكم: (فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِثْلَ الذَّرِّ!) والذَّرُّ: دقيق الغبار المتناثر في الفضاء.

[5]
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروحَ عَطِسَ فقال: "الحمد لله!" فَحَمِدَ اللهَ بإذنه؛ فقال لهربه: "يرحمك الله يا آدم!"... الحديث) رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع. رقم: 5209.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22