الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:42 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 7
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الخامس

في مقام التلقي لبيان غِلَظِ جحود الكفار وتعنتهم، وما تنطوي عليه

نفسياتهم من استعلاء واستكبار، وبيان سنة الله فيهم


1- كلمات الابتلاء:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ(49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ(50)


2- البيان العام:
كانت الآيات التكوينية من أمر الملك والملكوت، مما عرضه الله - جل جلاله - في الآيات السابقة، على أعلى مقامات البيان قوةً ووضوحا؛ بحيث تخضع لها أعناق العباد خشية من ربهم العظيم! فأي جريمة نكراء يرتكبها الطغاة الكفرة إذ يُعرضون عن هذا كله فيجحدون نعمة خالقهم! ولذلك نعى عليهم الحقُّ تعالى ضلالهم المبين في تتمة السياق، فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ!) فرغم ما بُيِّن لهم من قواطع البراهين وآيات الأنفس والآفاق؛ فإنهم مع ذلك إذا قيل لهم: احذروا المصير الأخروي، واتقوا أهوال القيامة والبعث والنشور، مما هو بين أيديكم واقع قريبا لا محالة! واحذروا تقلبات الدنيا التي هي خلفكم فأنتم مودعوها يقينا! واتقوا ما ينـزله الله فيها على الظَّلَمَةِ من عذاب وعقاب؛ فلعل الله عز وجل يتدارككم برحمته؛ كلما قيل لهم ذلك أعرضوا، وأصروا على كفرهم وضلالهم!

وفي الآية الأولى حذف بليغ لجواب "إذا"، وهو الجحود والإعراض؛ وذلك لدلالة الآية الثانية عليه، فاستُغني عنه ليكر اللاحق على السابق بالبيان. والقرآن العظيم إنما يخاطب بمثل هذا أولي الألباب.

ومن هنا فإن هؤلاء الكفار اتخذوا مواعظ المؤمنين هزءا وسخرية! فكلما نصحوهم بالإيمان والإنفاق مما رزقهم الله من فضله أجابوهم بعبارة ظاهرها الإيمان بالله، وباطنها الكفر المبين، والاستهزاء بآياته والسخرية من المؤمنين! (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ!) هكذا بهذا العنت البغيض يجيبون المؤمنين، فيقلبون عليهم الحقائق ويصفونهم بما هو من محض كفرهم هم: الضلال المبين! ثم يظهرون أنفسهم أنهم أكثر معرفة بالله؛ إذ هو الذي يوزع مقادير الأرزاق، فلو شاء لأطعم هؤلاء الفقراء والمساكين، فلماذا نخالف إرادة الله بإطعامهم؟ حجاج شيطاني مبين! إنه يستبطن السخرية بالمؤمنين حيث إنهم هم الذين يقولون بأن الرزق مقادير مقدرة من الله؛ فينكر الكفار عليهم: لماذا إذن تأمروننا بالإنفاق على الفقراء والمساكين؟!

ثم يبلغ جحودهم مداه فينكرون حقيقة البعث، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ؟) تساؤل خبيث عن ميقاته، على سبيل الاستبعاد والإنكار لوجوده! ولذلك جاءهم الجواب من الحق جل جلاله قويا قاطعا لكل جدل عقيم! (مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ! فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ!) فالجواب هو ما سترون لا ما تسمعون! صيحة عذاب وهلاك! كصيحة مدين وثمود!([1]) يصعقهم بها ملَك من ملائكة الرحمن، تأخذهم على غرة، وهم لاهون في متاهات حياتهم، منهمكون في شؤون معاشهم، غارقون في فتن أسواقهم، مما يتشاحون فيه ويتنازعون ويختصمون. فتبهتهم الصيحة وهم على تلك الحال، فلا يجدون فرصة لوصية تحفظ أموالهم، ولا مهلة للرجوع إلى بيوتهم وأهليهم! بل يصعقون في مواطن فتنتهم، ونوادي شهواتهم، فبئس المصير!


3- الهدى المنهاجي:

وهو منقسم إلى ثلاث رسالات:

- الرسالة الأولى:
في أن قلب الكافر مغلق بأقفال صدئة، ترسبت عليها أوساخ الهوى والكبرياء! فلا يسمع نذارة ولا بشارة، ولا موعظة ولا نصيحة، إلا إذا حلت به صيحة العذاب أو صيحة الفزع الأكبر؛ فيكون آنئذ من السامعين! وهيهات هيهات أن ينفعه إيمان بعد فوات الأوان!

- الرسالة الثانية:
في أن المال ومتاعه هو المعبود الأول للكفار، يتكالبون على جمعه بهلع شديد! ولذلك فهم لا يستطيعون إنفاق شيء منه مهما قل! إلا إذا وجدوا لهم منفعة مادية في ذلك، من جاه دنيوي، أو ربح مادي، ولو على أمد بعيد! ومن هنا فإنه لا يتحقق إيمان المؤمن بالله إلا بالإنفاق في سبيله، وإهلاك المال في وجوه البر. فبذلك يتطهر قلبه من الشرك الخفي، الذي يورثه حب الشهوات من الأموال والتعلق الأعمى بمتاعها.

- الرسالة الثالثة:
في أن الله منتقم من الكفار حتما، فإما أن يسلط عليهم عذابا في الدنيا قبل الآخرة، وإما أن يمهلهم إلى يوم الحساب. وهما أمران أحلاهما مر! وفي هذه العقيدة راحة للمؤمن المتغيظ من ضروب الظلم وأشكال الطغيان. فكلما استحضر العبد هذا المعنى استراح قلبه من الغم، الذي قد يصيبه في فترات الضعف والإعياء من مشاق الطريق.


4- مسلك التخلق:

الثمرة العملية لهذه الآيات هي في وجوب تحقيق اليقين بأن الله - جل جلاله - هو مالك لأمر مملكته كله، قاهر لعباده أجمعين. فمهما أبدى الكفار من التمرد على الله، فإنهم لا يُعجزون رب العالمين. وإنما هو ابتلاء لهم، هم خاسرون فيه لا محالة! وبهذا يُنتزع الخوف المرَضي من قلوب المؤمنين، والفزع من جبروت الطغاة مهما استكبروا في الأرض واستعلوا، ولا يبقى بأفئدتهم إلا خوف الله العظيم.

ويتحقق ذلك للعبد بمداومة النظر في الآيات المعرفة بالله وأيامه، مما انتقم به من الأمم الظالمة عبر التاريخ! ومشاهدة حوادث العصر وكوارثه، مما يقع هنا وهناك، على ذلك الوزان، وكذا بالمطالعة التفكرية في عوالم الْمُلْكِ والملكوت. كل ذلك مورث لهذا اليقين. فمن عرف الله به لم يخش أحدا سواه!


[1] قد تكون الصيحة بمعنى نفخة الفزع الأكبر ليوم القيامة، كما ذهب إليه ابن كثير وغيره المفسرين، لكن السياق أقوى في الدلالة على ما رجحنا والله أعلم.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22