عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2012 ~ 11:05 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 3
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


و نمت إبان القرن الثامن عشر أسطورة أخرى تصور محمدا على أنه رجل حكيم من رجال التشريع العقلاني في إطار حركة التنوير الأوربية . وقد نشر الكونت هنري دى بولإنييه كتابه حياة محمد (في باريس عام 1730 ولدن عام 1731) الذي يصور النبي في صورة المبشر بعصر العقل. و كان بولانفييه يتفق مع القروسطيين في أن محمدا قد ابتدع دينه حتى يسود العالم ، ولو أنه قلب التقاليد كلها رأسا على عقب . وقال إن الإسلام يختلف عن المسيحية في أنه تراث “طبيعى” أي غير منزل ، وان ذلك مصدر روعته . ويضيف أن محمدا كان بطلا عسكريا مثل يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر، وذلك بطبيعة الحال وهم من الأوهام ، لم يكن محمد، قطعا، ممن اهتدوا بالعقل وحده إلى وجود الله ، ومع ذلك فكان الكتاب يمثل محاولة للنظر إلى النبي في ضوء إيجابي . وفى نهاية القرن ، أثنى إدوارد جيبون في الفصل الخمسين حمن كتابه “تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها” على عقيدة التوحيد السامية في الإسلام ، وبين أن الجهود الإسلامية جديرة بمكانة مرموقة في تاريخ الحضارة العالمية.
و لكن التعصب القديم كان راسخا إلى الحد الذي جعل الكثير من الكتاب يعجزون عن مقاومة التعريض ، دون مبرر، بالنبي من حين لآخر، مما يدل على أن الصورة التقليدية لم تمت . وهكذا نجد سايمون أوكلى يصف محمدا بأنه “رجل بارع الدهاء واسع الحيلة، إذ كان يتظاهر فحسب بالصفات الحميدة المنسوبة إليه ، أما دوافعه النفسية فهي الطموح والشهوة”[25]. ويقول جورج سيل في مقدمة ترجمته للقران : “إن أحد الأدلة المقنعة على أن العقيدة المحمدية لم تكن قطعا سوى ابتكار بشرى هو أنها تدين بنشوئها وتطورها إلى السيف وحده تقريبا”[26]. وينتهي فولتير في آخر مقاله عن أخلاق الأمم المذكور آنفا ، والذي يصف فيه الإسلام وصفا إيجابيا، إلى القول بأن محمدا كان “يعتبر رجلا عظيما، ولم يختلف على ذلك من كانوا يعرفون أنه دجال ، كما كان سائر الناس يبجلونه باعتباره نبيا”[27].
و في عام 1741 كتب فولتير مسرحية عنوانها محمد أو التعصب ، وفيها يستعين بالكراهية الشائعة لمحمد في جعله نموذجا لجميع الدجالين الذين أحالوا شعوبهم إلى”عبيد للدين متوسلين بالتحايل والأكاذيب . وعندما وجد أن بعض الأساطير القديمة لم تكن فاحشة إلى الحد الذي يرضيه ، عمد إلى ابتداع أساطير جديدة أفعمت قلبه فرحا. بل إن جيبون لم يشغل نفسه طويلا بشخصية محمد، فزعم أنه قد دفع العرب على اتباعه من خلال إغرائهم بالغنائم والجنس . أما عن اعتقاد المسلمين بأن القران قد أملاه الوحي المنزل على النبي، فقد اصطنع جيبون نبرة تعال وترفع قائلا إن الإنسان المتحضر حقا يرى ذلك من قبيل المحال:
إن تلك الحجة تخاطب ، بكل قوة، العربي المخلص الذي يقبل عقله منطق الإيمان والنشوة الدينية ، والذي تلتذ أذنه بموسيقى الأصوات ، والذي يعجز جيله عن عقد المقارنات بين ثمار قرائح العبقرية البشرية، فتناغم الأسلوب و جزالته لا يستطيعان التأثير، بعد الترجمة، في الكافر الأوربي ، الذي سوف يضيق ذرعا بمتابعة المعزوفة التى لا تنتهي، والتي تتسم بالنشاز، والحافلة بالأساطير و المفاهيم المجردة و النبرات الخطابية ، وآلتي نادرا ما تثير إحساسا أو توحي بفكرة، و آلتي أحيانا ما تزحف في التراب ، وأحيانا ما تضيع في ثنايا السحاب “[28]. وينم ذلك على أن الغرب قد اكتسب الثقة في ذاته ، إذ لم يعد الأوربيون يجفلون فرقا من الخطر الإسلامي، بل أصبحوا ينظرون إلى الدين الإسلامي نظرة المترفع الذي يجد فيه بعض التسلية والترفيه ، وأصبحوا بفترضون أننا إذا “نحن”، لم نفهم القرآن ، فلابد أنه ليس على شئ . وهكذا فعل توماس كارلايل عام 1841 في محاضرته عن النبي محمد وآلتي كان عنوانها “البطل باعتباره نبيا” إذ أعلن رفضه وازدراءه للقرآن . ومع ذلك فقد كانت تلك المحاضرة دفاعا مشبوبا عن محمد و إنكارا للوهم القروسطى القديم . لقد كان كارلايل ، ولأول مرة تقريبا في أوربا ، يحاول أن يرى محمدا باعتباره صاحب دين حقيقي، حتى في غضون استهانته بالقران و اعتباره أكثر كتاب يبعث على الملل في العالم ، إذ يقول إنه “خليط غير مترابط ، يرهق القارئ ، غليظ النسج ركيك التركيب ، غاص بالتكرار، و بالإسهاب والمعاظلات التى لا انتهى ، وباختصار، فهو بالغ الغلظة والركاكة . الغباء الذي لا يطاق “[29].
و قد وقعت حادثة في آخر القرن الثامن عشر، كان لها مغزاها، إذ بينت السبيل الذي بدأت الثقة الأوربية الجديدة تسير فيه . ففي عام 1798 أبحرت نابليون قاصدا مصر، بصحبة العشرات من المستشرقين العاملين في معهد ،الدراسات المصرية الذي كان قد أنشأه . وكان قد بيت العزم على الانتفاع بالتقدم العلمي الذي أحرزوه ، وقدرتهم على تفهم الشرق ، في إخضاع العالم الإسلامي وتحدى السيطرة البريطانية على الهند وما إن رست السفن حتى أرسل نابليون هؤلاء العلماء في مهمة محددة، مما نطلق عليه اليوم “بعثة لتقصى الحقائق ” ، وأصدر الأوامر الصارمة إلى جنوده بألا يعصوا أوامر العلماء . والواضح أن هؤلاء العلماء قد درسوا الموضوع دراسة مستفيضة . وكان نابليون قد استهل خطابه إلى جماهير المصريين في الإسكندرية قائلا “إننا نحن المسلمون حقا” على ما في هذا القول من سخرية مريرة، ثم استدعى ستين شيخا من شيوخ الأزهر، وهو المسجد العظيم في القاهرة، فجاءوه تحفهم أسمى مراسم التكريم العسكرية، ومن ثم انطلق في الحديث فامتدح النبي بعبارات توخى فيها الحرص الشديد، وناقش معهم كتاب محمد الذي وضعه فولتير، ويبدو أنه نجح في حواره مع كبار العلماء . والواقع أن الناس لم تصدق زعم نابليون ، أنه مسلم ، ولكن فهمه وتعاطفه للإسلام خفف من حدة عداء السكان تخفيفا كبيرا. ولم تتمخض حملة نابليون عن أي شئ ، إذ كان مالها الهزيمة على أيدي الجيوش البريطانية والتركية ، ومن ثم أبحر عائدا إلى أوربا.
أما القرن التاسع عشر، فقد اتسم بالروح الاستعمارية التى أوحت للأوربيين بعقيدة سقيمة هي تفوقهم على الأجناس الأخرى وشعورهم بأن من واجبهم إنقاذ العالم الهمجي في إفريقيا وآسيا، والقيام في هذا الطريق بحمل رسالة الحضارة إليهم . وقد أدى ذلك حتما إلى التأثير في النظرة الغربية إلى الإسلام ، خصوصا بسبب أطماع الفرنسيين والبريطانيين في الإمبراطورية العثمانية المضمحلة . وهكذا نجد في كتابات أحد أنصار المسيحية في فرنسا وهو “فرانسوا رينيه دى شاتوبريان “، على سبيل المثال ، إحياء للمثل الصليبي الأعلى، مع تطويعه لمواءمة الأحوال الجديدة، بعد أن بهرته حملة نابليون ، ورأى فيه سمات الحجاج الصليبيين . فكتب يقول إن الصليبيين حاولوا نشر المسيحية في الشرق ، وهى أقرب الأديان إلى “إذكاء روح الحرية” ، ولكنهم اصطدموا في جهودهم الصليبية بالإسلام ، وهو “عقيدة معادية للحضارة ، وهى تشجع بانتظام على انتشار الجهل والاستبداد و الرق”[30]. وهكذا أصبح الإسلام من جديد، إبان التهور الذي أعقب الثورة الفرنسية، نقيضا لما “نحن ” عليه . وكان بعض نقاد الإسلام ، أيام الفكر الطبقي الذي ساد العصور الوسطى، يهاجمون محمدا لأسنه منح الطبقات الدنيا سلطات أكثر مما ينبغى – مثل العبيد والنساء . وقد انعكس بعد الثورة الفرنسية هذا الوضع ، لا بسبب زيادة معرفة الناس بالإسلام ، بل لأنه أصبح ملائما لما نحتاج “نحن ” إليه ، ولأنه أصبح “الآخر” الذي يمكن أن نحكم على إنجازاتنا بالقياس إليه.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22