الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:38 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الأول
في مقام التلقي لأصول العمل الدعوي:
تعريف الداعية بمقامه، وبطبيعة رسالته، وأصناف مخاطَبيه


1- كلمات الابتلاء:

يَسِ(1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(4) تَنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ(8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ(9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12).


2- البيان العام:

"ياء" و"سين"، من ههنا يكون البدء في تلقي أنوار الحكمة! حرفان كريمان من حروف القرآن الكريم، يفيضان أنسا وجمالا! ويربطان قلب المؤمن بالعمق الغيـبي لهذا الكتاب العظيم! ولقد تضاربت أقوال المفسرين في معنى الأحرف المقطعة الواردة بفواتح بعض السور، وذهبت آراؤهم فيها مذاهب شتى، إلا أنه لم يصح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، فليس لنا أن نقرر في شأنها إلا ما يليق بخطاب العرب وبمقام القرآن العظيم.
أما الشيء الذي لا خلاف فيه، فهو أن هذه الأحرف قد بقيت لغزا من ألغاز القرآن الكريم! ولا أحد استطاع أن يأتي فيها بقول يكشف سرها، ثم يستقيم ومقاييسَ العلم روايةً أو درايةً! فكل ما قيل حولها تخمينات وظنون لا تغني عن الحق شيئا! وبعض المفسرين مال إلى ربطها بحساب الجمل، وهو أمر لم تعرفه العرب، ولم تفسر به خطابها قط. وكل ما ورد في ذلك من الروايات ينتهي أغلبه إلى الإسرائيليات! وفي بعضها من الباطل ما كشفه التاريخ! كتحديدهم عمر هذه الأمة بناء على جمعٍ لأعداد بعض تلك الحروف على حساب الجمل! ثم امتدت الأمة في الزمان أكثر بكثير مما عدوا لها!

الشيء الوحيد الذي بقي مقبولا في تفسير هذه الأحرف هو أنها - كما ذكرنا - من متشابه القرآن الذي لا يعلمه إلا الله! وهذا مُعْطَى علمي مهم جدا، نبني عليه بياننا - بحول الله - ههنا، وذلك بتسجيل الملحوظات التالية:

- أولا: أن هذه الأحرف لها في مواضعها من كتاب الله دلالتها الخاصة! وهي دلالات مختلفة؛ لاختلافها هي في نفسها، فـ "اَلَمِ" مثلا ليست هي "اَلَرَ"، ولا هي "اَلَمِرَ"، ولا هي "اَلَمِصَ"، ولا هي "كَهَيَعِصَ"، ولا هي "يَسِ" أو "صَ" أو "قَ" ...إلخ. فكل زيادة أو اختلاف في المبنى، يدل على زيادة أو اختلاف في المعنى.

- ثانيا: أن لها معاني خاصة عند الله تعالى، مرتبطة قطعا بسورها المذكورة في أوائلها من جهة، ومرتبطة – من جهة ثانية - بطبيعة هذا القرآن، الذي هو كلام الله جل جلاله. فالله تعالى لا يتكلم عبثا، بل لا يتكلم إلا بالحق، سبحانه جل جلاله!

- ثالثا: أن الله تعالى استأثر بحقائق تلك الأحرف في علم الغيب عنده، كما استأثر بكثير من أسمائه الحسنى وصفاته العلى عنده أيضا! وفي هذا دلالة عظيمة على ثمرة إيمانية كريمة، وهي كما يلي:

- رابعا: أن حقيقة هذا القرآن كله – ما علمنا منه وما لم نعلم - مرتبطة بعالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله! وأنه تعالى إنما بين لنا منه ما تقوم به حياتنا التعبدية، وتتوجه به التكاليف الشرعية العقدية والعملية، ويصلح به العمران البشري، وتقوم به الحجة على الناس! وذلك هو ما يُسِّر منه تيسيراً! كما قال جل جلاله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟)(القمر: 17). وإلا فمن ذا قدير على أن يتلقى كلام رب العالمين – المحيط بكل شيء في هذا الوجود العظيم - وأن يرتله ترتيلا!؟ ولقد صدق سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، إذ قال في هذا قولته الشهيرة: (لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل!)([1])

ومن هنا وردت هذه الحروف في كتاب الله من الغوامض التعبيرية؛ وفي ذلك إشارة إلى هذا الأصل الإعجازي العظيم! كأنها تقول للإنسان: انتبه! إن هذا الكتاب الذي يُسِّرَ لك أن تقرأه اليوم كتاب غير عاد تماما! إنه كتاب غريب عجيب! إنه بحار غير متناهية من الحقائق الغيبية والكونية مما لا يحيط بحقيقته إلا الله رب العالمين! فتأدب يا عبد! تأدب بأدب العبودية بين يدي الملك العظيم، وأنت تستفيد – فيما أُذِنَ لك - من نعمة تيسير القرآن المجيد تلاوةً وتدبراً!

ويكفيك دلالة على هذا التأصيل الأصيل، قول الله تعالى عن كلامه جل جلاله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ!)(لقمان: 27) ولقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تفرد كل حرف من حروف القرآن العظيم بقيمة ذاتية، لكن ليس بما هو حرف عربي؛ ولكن بما هو جزء من كلام الله جل جلاله! ولذلك رتب الأجر للقارئ على عدد ما قرأ من حروف! رغم أن الحرف في اللغة البشرية وحدة صوتية لا معنى لها! لكنه ههنا شيء آخر، إنه حرف مختلف عن أي حرف في أي لغة، إنه حرف قرآني! ويكفيه ذلك ليضرب بجذوره في عمق الغيب! ذلك هو مقتضى الحديث النبوي المشهور، من قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)([2]).

ومن هنا أيضا وردت أغلب الأحرف المقطعة في أوائل السور مرتبطة بالإشارة إلى عظمة القرآن، أو مصدريته، أو في سياق قَسَمِ الله جل جلاله به! كما في قوله تعالى من فاتحة البقرة: (اَلَمِ. ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ!) وقوله سبحانه في الأعراف: (اَلَمِصَ، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ). وفي يونس: (اَلَرَ. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) وفي هود: (الَرَ. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وفي الرعد: (اَلَمِرَ. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ!) وفي إبراهيم: (اَلَرَ. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ!) وقال هنا في "يس" مُقْسِماً: (يَسِ. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ!) كما قال بعدُ في "ق": (قَ. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ!) وغير هذا وذاك في القرآن كثير.

وعليه؛ فقوله تعالى: "يس" بمفتتح هذه السورة العظيمة إشارة منه - جل جلاله - إلى عمقها الرباني الممتد في بحار الغيب! وإلى أنها تزخر بنفائس الأسرار وكرائم الأنوار! فهي محملة بنور خاص من قوله تعالى العام في القرآن كله: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً!)(الفرقان:6) فلها أسرارها التي تخصها من ذلك، كما أن لكل سورة في كتاب الله أسرارها التي تخصها.

لكن الافتتاح بهذين الحرفين ههنا على الخصوص "ياء" و"سين"، بما لهما - على المستوى الصوتي - من لطف وجمال، ثم القَسَم بعدهما مباشرة بالقرآن موصوفا بالحكمة؛ يجعل من ذلك كله إشارة إلى أن هذه السورة مكتنـزةٌ بالحِكَم الربانية، ذات اللطف الخفي والجمال البهي! وهي حِكَمٌ لها من الخصوص ما يربط القلب بكرامات الغيب مباشرة، ويجعله محفوظا بالله، لا يرى إلا بنور الله! على ما سنبينه بحول الله عند تلقي رسالات الهدى الواردة بالآيات.

فنأخذ ههنا في هذا البيان العام أن المقسَم عليه، المقصود بالخطاب أصالةً، هو أن هذا النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم - رسولٌ من رب العالمين حقيق، رسول ماض على سَنَنِ المرسلين، يتلقى الوحي كما تلقوه من رب العالمين. (يَسِ. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ! عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. تَنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ!) وقد يتساءل المرء بادئ النظر: لماذا هذا التوكيد الشديد من الله - جل جلاله – في خطابه الموجه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم – قصد إثبات قضية هي من أولى المسلَّمات بينهما ابتداءً؟!

إنها توكيدات متتالية متضافرة! بدءاً بالقَسَمِ ثم جعلِ جوابه مسلحا بالحرف الناسخ: "إنَّ"، وبلام التوكيد، ثم جعل السياق كله متعاضدا بجمل اسمية متتابعة! كل ذلك من أجل القول: إنك - أيها الرسول - لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده، على طريق مستقيم، وهو الإسلام الذي هو مسلك كل الأنبياء والرسل قبلك. تنـزيل العزيز في انتقامه من أهل الكفر والمعاصي، الرحيم بمن تاب من عباده وعمل صالحا. إن التوكيد المتضافر ههنا هو مدد من الله لرسوله! صحيح أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه رسول الله، ولكنه الآن في خضم معركة! معركة الدعوة إلى الله ومواجهة طغاة الكفار الذين يكذبون الرسول ويحمون الباطل بقوتهم وجبروتهم! فيثيرون ضده - عليه الصلاة والسلام - وضد دعوته الشبه والتلبيسات، مما يفتن الناس ويحزن الرسول! على غرار ما جاء في قوله تعالى من سورة الأنعام: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ!)(الأنعام: 33) ومثل هذا في القرآن كثير. ومن ثَمَّ كان الرسول في حاجة إلى دعم إلهي ومدد رباني، وهو يخوض معركة الحق ضد الباطل. فتتنـزل عليه هذه الآيات مسلحة بهذه التوكيدات؛ لتمده بقوة جديدة، وتزيده ثباتا وصبراً في مواجهة الباطل! فَتُذَكِّرُهُ بأنه بشر غير عاد، بل هو بشر مرسل من رب العالمين إلى كل العالمين! بشر نعم، ولكنه من نوع آخر، إنه من نوع المرسلين الموصولين بالله أبداً، الممدودين منه تعالى بروح القدس، يحمل راية الإسلام ويجدد دعوته! حجته هذا القرآن العظيم، الذي هو كلام الله رب العالمين! هكذا تتنـزل عليه هذه الحقائق القرآنية مدداً عظيما في ساعة الشدة! وفي لحظة الضيق والحرج؛ فتضاعف قوته وعزيمته؛ بما يجعله من أولي العزم من الرسل، بل يجعله سيدهم وسيد المرسلين أجمعين! عليهم وعلى نبينا أفضل الصلوات والتسليم. فأي تسلية هذه وأي تثبيت!؟ وأي مدد هذا وأي عطاء!؟

ثم يحدد القرآن للرسول الوظيفة الأساس التي هي مناط رسالته: (لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ!) وأفرد النذارة بالذكر – في هذا السياق - دون البشارة؛ لضخامة حجم الضلال، وشدة قتامة التيه الذي كانت تتخبط فيه البشرية زمن الرسالة، عربا وعجما! ثم لخطورة النبأ العظيم الذي نزل به هذا القرآن نذيراً للناس! والناس يومئذ قد تعاقبت عليهم الأجيال دون ورود خبر من السماء نبوةً أو رسالة، إلا ما كان من بقايا صحف أهل الكتاب التي اختلط حقها بباطلها، فلم تعد تغني من الحق شيئا! فاشتدت وطأة الجاهلية في الأرض واشتد ليلها وضلالها! إنها غفلة شديدة مديدة، طالت حتى استحكمت الأهواء في الأنفس وأُشْرِبَتْ طغيانَها! فعُبِدت الطواغيتُ الحجرية والبشرية من دون الله الواحد القهار! وسيطرت شريعة الغاب على العالمين! وصار للظلم والظلمات سَدَنَةٌ غلاظ شداد يحمونهما! فلا رغبة لديهم لسماع كلمة الحق والاستجابة لنداء الهدى! (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ!) فقد صار ما أُشْرِبُوا من حب الكفر والضلال، أغلالاً تربط أيديهم إلى أعناقهم؛ فهم بذلك مُقْمَحُونَ أي مُشَكَّلو الرؤوس والوجوه إلى أعلى، لا يستطيعون عن هذا الوضع تحولا! فلا قدرة لهم على إبصار مواضع أقدامهم، ولا على إبصار علامات الهدى المنصوبة على الطريق من الآيات البينات! ولذلك لا يصدقون مما يقال لهم عنها شيئا! ولقد صوَّرهم الحقُّ تعالى – بهذا الانقماح العجيب – تماما على صورة ما يكونون عليه فعلا من هيأة، عندما يغشون النوادي برؤوس مرفوعة إلى السماء تكبرا وغطرسة وطغيانا! ولذلك فقد أحاط بهم كبرياؤهم الجاهلي، وانتصب سدودا منيعة من بين أيديهم ومن خلفهم، فوقعت بذلك الغشاوة على أبصارهم؛ فأنى يهتدون؟

ثم يلتفت الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – من بعدما بيَّن له حجمَ الضلال الذي تعاني منه البشرية في زمانه، منبها إياه إلى أن هذا الضرب من الكفار، ممن انتصب كبرياؤه طاغوتا في الأرض، لن يهتدي أبدا ولن يصدق من خبر السماء شيئا، سواء بلغته نذارتك أم لم تبلغه؛ إذ كشف الحقُّ - جل جلاله - ارتباطهم الشديد بكفرهم وكبريائهم! فلا استعداد لديهم للخير ولا للهدى أبدا!

وإنما سيستجيب لدعوتك - أيها الرسول – من أنصت لهذا القرآن بتواضع، صادق الرغبة في معرفة الحق! والقرآن هو كلام الله المعرف بالله؛ ولذلك ما قرأه أحد بهذا المنهج إلا انفتحت بصيرته على الحق، فتجلت له عظمة الله جل جلاله! وامتلأ قلبه خشية وتعظيما وكان من المؤمنين. أما هذا فبشره بمغفرة لما كان عليه من كفر وضلال، وبشره بأجر كريم على ما استأنف من حياة إيمانية مباركة!

ثم يقرر القرآن بعد ذلك حقيقة النبأ العظيم، وهو البعث بعد الموت! تلك الحقيقة التي رفضها مَرَدَةُ الكفار قديما وحديثا؛ سخرية منهم بالحق واستكباراً! فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍَ) فلا شيء من عمل ابن آدم يضيع أو ينسى، خيرا كان أم شرا، سواء في ذلك ما عمله في دنياه فانقطع بموته أو ما خلفه متوارثا بعده! كل شيء يثبته الحق تعالى في أُمِّ الكتاب! وسماه ههنا "إماما" لأنه ما أمَّهُ أحد – بمعنى قصده - لمعرفة شيء إلا وجده فيه! فهو إمام مبين في كل شيء! ولذلك قال تعالى في سورة الكهف: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا!)(سورة الكهف:49)

تلك إذن قصة هذه النذارة، وذلك هو مناط هذه الرسالة، وإنه لِمَنْ مَلَكَ البصيرةَ لنبأٌ عظيم! إليه يصير الوجود البشري كله!


[1] تفسير ابن كثير: 4/337.

[2]رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح. انظر سنن الترمذي، (كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر). كما رواه الحاكم أيضا في المستدرك.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22