الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:40 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 4
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012



المجلس الثاني

في مقام التلقي لوظيفة البلاغ المبين


1- كلمات الابتلاء:

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ(14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ(17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ(19)


2- البيان العام:

هذا يوم من أيام الله! وقصة من قصص القرآن البليغة! كان ذلك في مدينة أنطاكية الواقعة اليوم في شرق تركيا، وكان يحكمها آنئذ ملك طاغية يعبد الأصنام ويفرضها على قومه! كان ذلك زمان أنبياء بني إسرائل، وقيل زمن المسيح عليه السلام، والرسل الثلاثة المذكورون في القصة قيل: هم رسله – من الحواريين - إلى أهل أنطاكية بأمر الله. وقيل: بل هم رسل مباشرون من رسل بني إسرائيل، وهو الذي عليه جمهور المفسرين([1]) وهو الذي يؤيده سياق الآيات. وكل ذلك ههنا سواء، لا تعارض فيه من حيث الحكمة والمقصد الدعوي.
ونظرا لما تكتنـز به هذه القصة من حِكَمٍ بليغة، وسنن ربانية عظيمة، فقد ضربها الله مثلا لقوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبقيت - بعد ذلك - عبرة للبشرية، شاهدة على صراع الحق والباطل إلى يوم القيامة! بقيت - من حيث مقاصدها الدعوية والتربوية - قصة جديدة لا تبلى أبداً!

فقد أرسل الله - جل جلاله - إلى طاغوت أنطاكية وقومه رسولين اثنين، يعزز أحدهما الآخر ويؤيده. كانا يحملان رسالة واحدة، مدارها على الدعوة إلى توحيد الله رب العالمين، ونبذ عبادة الأصنام، وما دأب عليه أهل المدينة من الشرك! لكن الملأ من سدنة الكفر والضلال كذبوا الرسولين، فعززهما الله برسول ثالث! كل واحد منهم كان يتحدث بما آتاه الله من بلاغة وبيان، ويخاطب القوم بحجج تقوي حجج صاحبه وتبينها، فهذا يفصل مجمل ذاك، وذاك يفسر مبهم هذا؛ بما يجعل كل ردود الكفرة باطلة وحججهم داحضة، وينير طريق الإيمان أمام جموع المستضعفين؛ مما أفزع طغاة القوم، فعدلوا - عند الهزيمة - إلى إلغاء الحوار، والتجؤوا إلى لغة العنف والتنكيل بالرسل والتهديد بتعذيبهم وقتلهم؛ قصد إخراس كلمة الحق، وحرمان المستضعفين من تلقي رسالات الهدى! شأنَ سائر الطغاة في كل زمان ومكان!

كانت حجة الكفرة قائمة على رفض أن يرسل الله - جل جلاله - رسولا إلى الناس من جنسهم! وهي حجة راجعة إلى الرغبة في التعجيز، وإلى ما تنطوي عليه النفس المريضة من الكبرياء، لا إلى الجدل المثمر البناء الرامي إلى التحقق من صحة الرسالة وصدق حاملها. وتلك كانت نفس حجة كثير من الأمم الذين كذبوا رسلهم، كما كانت حجة قريش في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. حجة واحدة تحقق بطلانها مئات المرات عبر التاريخ! ومع ذلك لم يزل الكفار يلجؤون إليها؛ إذ لا محيص لهم عنها، فما من حجة لهم إلا وهي أَوْهَى وأوهن منها! (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ!)

وقد أجمل الحق - جل جلاله - خطاب الأنبياء الثلاثة في هذه القصة، وعرضه بأدوات التوكيد التي وردت في السياق، من مثل قولهم: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ!) بما يفيد أنهم أقاموا الحجج القوية الدامغة على أهل القرية؛ حتى لم يبق معها مجال للشك أو التردد في صدق الرسالة التي جاؤوا بها، وفي بطلان ما عليه القوم من الشرك وعبادة الأوثان. كما أن الخطاب اللاحق في السياق للرجل المؤمن، المتدخل في اللحظة الحاسمة، بما فيه من بيان قوي وتفصيل محكم، دالٌّ على مضمون خطاب الرسل الثلاثة وما أقاموه من حجج على قومهم. فلواحق السياق تبين سوابقَه. وهذا من جمال بلاغة القرآن العظيم!

وقولهم: (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ!) مفيد أنهم قد أدوه على أتم ما يكون الأداء، وأن القضية بعد ذلك إنما هي قضية هداية! وهذا أمر لا يملكونه ولا هم مكلفون به. فالهداية إنما هي بيد الله وحده. وذلك على غرار ما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ! وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ!)(سورة القَصص: 56)

وذكرت كتب التفسير أن الله - جل ثناؤه - قد ابتلى القرية بشتى ضروب البلاء، من حبس الغيث وضنك العيش والأوبئة؛ لعلهم يرجعون! لكن ذلك ما زادهم إلا طغيانا! بل اتهموا الرسل بأنهم هم سبب ما أصابهم من بلاء؛ بما سفَّهوا من عبادتهم لأصنامهم وأوثانهم! فكأنما تلك الأصنام قد غضبت فانتقمت من أهل القرية جميعا! وقد حكى القرآن مقالة الطغاة ههنا: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ!) وبهذا الجهل من اعتبار الرسل شؤما على القرية كلها، ثم تهديدهم بالرجم والتعذيب؛ قطع الطغاة كل أسباب الحوار! ومنعوا المستضعفين - ظلما وعدوانا - من سماع كلمة الحق!

لكن الرسل مكلفون بالاستمرار في أداء الرسالة، والثبات على بلاغها للناس أبداً، وعدم الرضوخ لتهديد الطغاة، مهما كلفهم ذلك من ثمن! فردوا عليهم ردا قويا حاسما! لا مجاملة فيه ولا رَهَب! (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ! أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ!) أي: إن كفركم وضلالكم من الإصرار على الشرك، وتكذيب رسل الله هو الشؤم عينه! ثم رموا الكفارَ بسؤال إنكاري شديد! مفاده: أبسبب أننا ذكَّرناكم بالله ربكم ورب العالمين، وبيَّنا لكم بطلان ما أنتم عليه من الشرك؛ حرصا على هداكم، وبلاغا من الله ربنا وربكم، أبسبب ذلكم قابلتمونا بالتهديد والوعيد؟ ألا إن هذا لهو الظلم والطغيان المبين!

فما كان من الطغاة آنئذ إلا أن أحاطوا بالرسل واقتادوهم للتعذيب والقتل!

وهنا ينتقل السياق القرآني إلى مفاجأة كبرى في إبراز مأساة هذه القصة العجيبة! وهي تَدَخُّلُ الرجل المؤمن - المسمى حبيب النجار - في اللحظة الحاسمة، تَدَخَّلَ بخطاب عجيب لخص فيه بيان الرسل الثلاثة، وأقام الحجة بطريقة أخرى، على شناعة ما أقدم عليه الطغاة من الهم بقتل رسلهم! فكان في قصته من العبر البليغة، ما نجعله مدار حديث المجلس الثالث إن شاء الله.


3- الهدى المنهاجي:

وهو ينقسم إلى الرسالات الثلاث التالية:

- الرسالة الأولى:

في أن تعاون الدعاة وتنسيقهم فيما بينهم، من أهم أسباب نجاحهم، وأقرب إلى مرضاة ربهم. فالتعاون على الخير والاجتماع عليه قوة له ونصرة. أما اختلافهم بَلْهَ تشاحنهم وتباغضهم فهو الخسران المبين! ولا يجوز اختلاف فيما الأصل فيه عدم الخلاف؛ إلا بسبب تدخل الأهواء! ولذلك كان الإخلاص أول عمل ذاتي، وجب تحقيقه لدى الداعية في نفسه قبل الانطلاق في دعوته. وما اختلف قوم مخلصون لربهم قط في أصول دعوة لا اجتهاد فيها. وإنما هي بلاغ لحقائق إيمانية معلومة من الدين بالضرورة.

- الرسالة الثانية:

في أن الحق قوي بذاته، فإذا بلَّغه الداعية الحكيم بما يليق به من بيان، كان منتصرا بمجرد الكلمة! وذلك كان هو أساس دعوة جميع الأنبياء والرسل، قال تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ!)(سورة النحل: 35) فلا يستهينن أحد بقوة الكلمة وخطورتها في الخير والشر! فأما كلمة الحق والهدى في الدعوة إلى الله فهي الغالبة بإذن الله أبداً! فما ينبغي أن تقدم عليها وسيلة من الوسائل مهما كانت براقة! بل يجب أن توظف وسائل العصر الإعلامية، والتقنيات الجديدة كلها؛ لإعلاء كلمة الحق ونشر الهدى؛ بيانا للناس وبلاغا. ولو تيسر هذا الأمر بغير موانعَ ولا مَقَامِعَ، لكانت الأمة اليوم في نهضة دينية جديدة! وإنَّ صُبْحَهَا بإذن الله لقريب!

- الرسالة الثالثة:

في أن أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان، إزاء كلمة الحق إنما هو القمع الهمجي والمنع التعسفي لحرية الكلام! ثم التنكيل بالدعاة وتقتيلهم! ولذلك وجب على الدعاة إلى الله تجنب أسباب الفتنة، والحرص على عدم استفزاز الطغاة ما أمكن؛ لأن الحق هو المستفيد الأول من أجواء الحرية والأمن العام، وهو المنتصر في النهاية على كل خطاب، وعلى كل إعلام، مهما بلغت قدرته المهنية ودهاؤه التضليلي! فالحق يعلو ولا يعلى عليه! وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحصول على هدنة من قريش في صلح الحديبية، بعَقد فيه ما فيه من شروط مجحفة بالمؤمنين ظالمة! لأن الحصول على فترة من حرية الكلام والأمان للمسلمين، كانت كفيلة بإسلام أغلب الناس بمكة! ولذلك كان بعدها الفتح المبين!


4- مسلك التخلق:

أما مسلك التخلق في هذا الابتلاء ههنا فقضيته - كل قضيته - في التحقق بحكمة البلاغ المبين! كيف يتمكن الداعية من خُلُقِ الْحِلْمِ، ومن امتلاك البيان الرباني الكريم؟! حتى إذا تكلم وجد الناسُ صدقَه الخالصَ في كل سيماه! وتدفق نور الخشية من وجهه وعلى لسانه، هُدًى يفتح أبواب القلوب على مصاريعها! فكيف السبيل إلى ذلك وكيف الطريق؟

لابد للداعية أن يديم النظر في شمائل سيد الخلق محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة والتسليم، فلا أحد أبلغ منه في الحلم! ومطالعة مواقفه - صلى الله عليه وسلم - في اللحظات الحرجة! كيف كان أقوى على ضبط نفسه عليه الصلاة والسلام، وكيف كان أعظم في الحلم على جهل الجاهلين! بما يُعجز حكماء الزمان وفلاسفة الأخلاق! انظر إليه هنالك وتعلم! فهو القائل عليه الصلاة والسلام: (إنما العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإنما الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ! ومَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ.)([2])

وأما المسلك العملي للتمكن من بيان دعوي بليغ، فإنما هو المدارسة المتواصلة للقرآن الكريم، خاصة في مساقات البيانات الربانية التي حكاها الله - جل ثناؤه - عن أنبيائه، في مواطن البلاغ المبين لأقوامهم، ففي تلك المواطن من قوة البيان الدعوي المقصود ههنا ما كان في مقام الإعجاز. وإن كثيرا من الدعاة الناجحين قديما وحديثا، إنما امتلكوا جمال تعبيرهم، وقوة حجتهم، ونصاعة بيانهم، من الإدمان على كتاب الله، تلاوةً ومدارسةً. وخُطبة حبيب النجار الآتية في المجلس الثالث نموذج لذلك البلاغ المبين. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خُلُقُهُ القرآن في خطابه وبيانه، كما كان خُلُقَهُ في كل شيء([3]).



[1] ن. تفصيل ذلك في تفسيري الطبري وابن كثير.

[2] رواه الدارقطني في الأفراد، و الخطيب في التاريخ عن أبي هريرة. كما رواه الخطيب في التاريخ عن أبي الدرداء أيضا. وقد حسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. حديث رقم : 2328.

[3]مشهور حديث عائشة - رضي الله عنها - في حقه صلى الله عليه وسلم أنه: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22