الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:41 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 5
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الثالث

في مقام التلقي لعزيمة البلاغ المبين شهادةً واستشهاداً


1- كلمات الابتلاء:

وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ(21) وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ(23) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ(24) إِنِّيَ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزِلِينَ(28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!(30)


2- البيان العام:

ههنا يبلغ القص القرآني لهذه الواقعة أوجه! ههنا تتدفق المحبة الخالصة دماءً تروي مقام المعرفة بالله توحيداً وإخلاصاً! ههنا تخرس كلمات الشراح والمفسرين، وتنجذب القلوب واجفة إلى مقام المشاهدة! حبيب النجار رجل من أهل أنطاكية، رجل من عامة الناس، لكنه رجل ليس كأي رجل، إنه فحل من فحول الإيمان! بلغته دعوة الرسل الثلاثة، فعرف الحق وآمن، ثم لبث يتلقى أنوار الهدى. كان يسكن بعيدا في أطراف المدينة. اشتغل بعبادة الله والتعرف إليه تعالى؛ حتى تجلت عليه أنوار الحكمة الربانية؛ فتدفقت على جنانه ولسانه. عرف ربَّه فأحبه! فسلك إليه عبر العبودية الخالصة، يَحْدُوهُ الخوفُ ويَشُوقُهُ الرجاء، وتؤرقه مواجيدُ المحبة!

بلغه خبر الجريمة الكبرى؛ من عزم طغاة أنطاكية على قتل رسل الله! فانتفض فزعا! وانطلق من هنالك، من أقصى المدينة، انطلق إلى مَلَئِهِمْ يُسرع الخطى بشجاعة نادرة، متوجها كالسهم إلى حيث اقتيد الرسل للقتل! ما كان أحد يتصور أن يتدخل امرؤ للدفاع عنهم، ولإعلان كلمة الحق! كيف وها السيف الفاجر مصلت؟ كيف وها الطغاة جبابرةٌ عتاة! ولكن جذوة الإيمان في قلب حبيب أشد التهابا! وحر المحبة في قلبه أشد من حر السيف ونار التعذيب! فلا صبر على المنكر إذا نادى منادي الشهادة! وما هي إلا لحظات حتى توسط الرجل ناديهم الظالم، وكانت المفاجأة الكبرى!.. ها هو ذا يكشف عن وجهه المتوهج بالنور، ناظرا مرة إلى ملأ الطغاة، وناظرا أخرى إلى الرسل الثلاثة، ثم إخرى إلى جموع المستضعفين! فما أعظمها من مناسبة أن يتركها كلمة خالدة في أذن الزمان، تمتد أنوارها إلى يوم القيامة! وما أعظمها من مناسبة أن يلقيها ذكرى في قلوب المستضعفين، يبلغها الشاهد للغائب؛ عسى أن تستيقظ القلوب الواجفة من غفلتها، وتخرج من خوفها الوهمي! وليكن دمُه - بعد ذلك - ثمنا لظهور الحق وانتصاره، ولانتشار الهدى بين الناس، وليهنأ هو بعدها بالمصير الكريم، شهادةً يَحْيَى بها ولا يموت أبداً!

وانطلق الشهيد يلقي خطبته الرفيعة ويعلن بلاغَه المبين، ويؤدي شهادتَه الملتهبة:

(قَالَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ! اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ! وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ! إِنِّيَ إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ! إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!)

كانت الكلمات من القوة بحيث تربك الطغاة إرباكا، وتفتح بصائر المستضعفين على الحقيقة بَيِّنَةً ناصعة! فهؤلاء الطغاة الذين يهمون الآن بقتل الرسل، يسمعون نداءً شديداً وأمراً قويا باتباع الهدى الذي جاء به المرسلون! بدل البوء بجريمة قتلهم، وهم رسل الله رب العالمين! فهؤلاء هم المهتدون وهم الذين على الحق! يبلغون رسالات الله ولا يتقاضون على ذلك أجراً إلا أجر الآخرة! ويلتفت حبيب النجار إلى نفسه ليجعلها مَثَلاً – وقد كان من أول المؤمنين – ويوجه إليها سؤالا إنكاريا شديداً، القصد به أن يقرع قلوب الطغاة الكفرة، ويكسر أغلال المستضعفين: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟) وإنه لحجاج قوي مبين! كيف لا أعبد الذي خلقني أول مرة؟ وعلى غير مثال سابق! أي أنه - جل جلاله - أبدع خلقي إبداعاً! وذلك معنى الفطر. وحجة الخالقية هي أعظم حجة رحمانية على الخليقة كلها! ولذلك فقد توجه الداعية حبيب إلى الملأ مناديا: فمن منكم له مثل هذه الخاصية المعجزة؟ وأَيٌّ من هذه الأحجار الصماء البكماء يصنع مثل ذلك؟ ثم إنكم أيها الملأ جميعا لميتون! فمن لم يمت اليوم مات غدا! وإلى الله وحده المرجع والمصير الذي لا محيد عنه أبداً! فتلك حقيقة يوم الحساب الذي ينتظركم أيها الكفرة الظلمة! ثم كيف لي أن أتخذ من دون هذا الخالق العظيم آلهة زور وبهتان؟ أي جهل هذا وأي سفه؟! كيف؟ ولو قضى الله عليَّ بضر فإن أصنامكم لا تستطيع كشف شيء منه عني أبداً! لا بذاتها ولا بشفاعتها عند الله! لأنما هي أحجار صماء، غدا ستكون هي نفسها حطبا لجهنم! فالفاعل في هذا الكون إنما هو الله رب العالمين وحده! هو الخالق له، وهو المدبر له، وهو الراعي له، هو الحي القيوم، القائم على كل نفس وعلى كل مخلوق في السماوات والأرض! لا يغيب عنه شيء ولا يعجزه شيء سبحانه جل جلاله! ولو أنني اتخذت آلهة من دون رب العالمين، فمعنى ذلك إذن أنني في ضلال مبين! وأي ضلال أبين من العدول عن توحيد خالق كل شيء إلى ظلمات الشرك ومتاهاته، واتخاذ الأوثان والأصنام - الحجرية أو البشرية - أربابا من دون الله الواحد القهار!؟ ألا ذلك هو الضلال المبين حقا! كلا! كلا! بل أنا مؤمن بالله مصدِّق بما جاء به رُسُلُ الله! ثم التفت الرجل بقوة إلى الرسل الثلاثة وهو يعلن بصوت عال في الملأ كلهم: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) كلمة أَشْهَدَ الرسلَ عليها؛ توثيقا لإيمانه – وهو يرى خناجر الغدر تمتد إليه بسرعة - فأعلنها كلمة حق في العالمين!

كانت الكلمات أقوى مما تطيقه آذان الطغاة الكفرة! وكانت أشد مما يتحمله كبرياؤهم العنيد! فما استطاعوا سماع المزيد! أما حبيب فقد كفى وشفى! وبَلَّغَ على أتم ما يكون البلاغ، وألقى في الجموع ما يكون ذِكْرَى: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(سورة ق: 37) ولذلك ما أن وصل الرجل قمة بيانه وأوج استدلاله، فتبين الحق أبلج لذي عينين؛ حتى انقض عليه الطغاة طعنا فأردوه على التو قتيلا! كلا! بل شهيداً يحلق من لحظته تلك في فضاءات الرضى الرباني الكريم! وكانت البشرى عظيمة! وكان المقام رفيعا! فالله أكبر ولله الحمد!

وما أن فاضت روحه الطاهرة حتى سَمِعَ الإذن الإلهي الكريم، تبشره به الملائكة أن: "اُدْخُلِ الجنَّة!" فدخلها مباشرة! ولا رأى بعدها من كرب أو ضنك، ولا حتى ذاق عنت لحظة انتظار! بل طار على التو بين أشجار الجنان وأنهارها، يسرح حيث يشاء، حيا كريما، يرزق بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!([1])


فلله دره من رجل! كان كريما في حياته الأولى، وكان كريما في حياته الآخرة! فلم ينس قومَه وهو في الجنة، ولا ترك الشفقة عليهم، حتى ولو أنهم قتلوه ظلما وعدوانا! فبدل أن ينتقم منهم بالدعاء عليهم تَأَوَّهَ متحسرا عليهم! وتَمَنَّى: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ!) وكأن في نفسه شيئا من تتمة خطابه الذي ألقاه فيهم قبل لحظات، يريد إتمامه الآن..! الله أكبر! أي رجل هذا؟ بل أي مؤمن صِدِّيق هو؟ وأي مخلص لله على أتم ما يكون الإخلاص!؟ يا ليت! يا ليت! نداء تمن وحسرة! يا ليت قومي يعلمون بما صرتُ إليه من رحمة الله، غفرانا شاملا لما تقدم من ذنبي وما تأخر، وكرما فياضا من لدن رب غفور رحيم! آه لو علموا لتبرؤوا من شركهم ولصاروا مؤمنين! عسى أن يغفر لهم الله كما غفر لي، وعسى أن يكرمهم كما أكرمني! فنلتقي ههنا أجمعون! فيا ليتهم يعلمون!

وتنتهي قصة حبيب النجار ببيان سُنَّةٍ ربانية ثابة! هي عبرة للمؤمن وحسرة وندامة للكافر! وذلك قوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزِلِينَ. إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ! يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!)

لكنَّ الأسف الكبير أن الإنسان قلما يتعظ بسنن الله في التاريخ! ويظن أن ما مضى لم يكن ليتكرر أبدا! بينما الحياة اليومية تشهد أن سنن الله في الاجتماع البشري ثابتة لا تتبدل ولا تتحول! والإنسان الضال أعمى لا يبصر منها شيئا! فيا لخسارة البشرية! ها هي ذي تضرب في تيه الظلمات، ومنادي الرحمن على رأسها ينادي أنْ: هذا نور الله فوق رأسكِ على مد ذراع؛ فَاقْدَحِي زِنَادَ الإيمان تَسْتَنِرْ لك الطريقُ، محجةً بيضاء ليلها كنهارها! ولكنْ وَا أسفاه! أين من يمد يده!؟ فالمؤمنون هم القليل أبداً! (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ!)( سبأ: 13)

فما من رسول أرسله الله إلا كذَّبه قومُه، ولقي منهم عنتا! وما من قوم غلب كفارهم على مؤمنيهم إلا أهلكهم الله وقطع دابرهم! سنة الله التي لا تتبدل أبداً! (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا!)(الفرقان: 39)

والتتبير هو الإبادة الشاملة التي تقطع دابر القوم ونسلهم إلى الأبد! وتلك كانت عاقبة أهل القرية الذين قتلوا حبيب النجار الصديق الشهيد! فكان ذلك يوما من أيام الله! قال جل جلاله: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ. إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ!) أي: وما أنزلنا ملائكة القتال من السماء لتعذيب هؤلاء الطغاة، وما كنا منـزلين لها على الأمم التي قضينا عليها بالهلاك العام، بل نبعث عليهم عذابًا شاملا يدمرهم ويقطع دابرهم! فما كان هلاك هؤلاء إلا بصيحة واحدة، فإذا هم موتى هالكون! والخمود: انقطاعُ النفَس وانعدام الحركة!

وهذا من عجيب أمر الله وحكمته البالغة. فهو - جل جلاله - قد أنزل ملائكة القتال نصرةً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ تخويفا لكفار قريش وتثبيتا للمؤمنين! وقد عَلِم سبحانه أن بعضا ممن قاتل رسولَه في بدر من الكفار، سيسلم قريبا ويقاتل معه يوم أحد! وأن كثيرا ممن قاتله في أُحُدٍ سوف يسلم في نهاية المطاف – بعد الفتح أو قبله - وينصر الله به الدين في مواطن عديدة، في عهد النبوة وبعدها! فكانت الملائكة لذلك لا تقتل إلا من قَدَّر الله ألا يسلم أبدا! وربما لم تقتل أحدا وإنما أفزعت القوم إفزاعا؛ فيكون النصر بذلك للمؤمنين. فهي لا تنـزل إذن للإبادة الجماعية. بل إذا أراد الله أن يقطع دابر قوم فإنه - جل جلاله - إنما يرسل عليهم عذابا سريعا – وربما امتد أياما - يفنيهم عن آخرهم! كما وقع لقوم نوح، ولعاد، وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وغيرهم كثير، نعوذ بالله من عذابه وعقابه! قال جل جلاله: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا! وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ!)(العنكبوت: 40).

والصيحة نزلت بهؤلاء القوم كما نزلت بمدين قوم شعيب، وبثمود قوم صالح، ونزلت أيضا بقوم لوط مع الخسف والرجم بالحجارة! والعياذ بالله!
والصيحة صوت عظيم يقع على القوم الظَّلَمة من السماء كالصاعقة، فيزلزل الأسماع بما لا تطيقه الأعصاب؛ حتى يهلكوا عن آخرهم! قال ابن كثير رحمه الله: (قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم! لم يبق فيهم روح تتردد في جسد!)([2])

سُنَّةَ الله في الذين طغوا في الأرض وسخِروا من أمر الله العظيم! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!) وإنه لتعبير قرآني عجيب! إنه يحكي شعور المؤمن العالم بالله وبأمره؛ إذ يرى إصرار البشرية على الضلال والتيه! ويرى المآل المأساوي الرهيب الذي ينتظرها؛ فلا يملك إلا أن يتأسف ويتحسر! كما يجوز أن يكون المعنى أنه يحكي حسرة الكفار على أنفسهم وندمهم على ما سخروا من الرسل وكذبَّوا؛ لَمَّا عاينوا عذاب الله يوم القيامة!([3]) والأول أنسب للسياق، فهو تعبير دال على الأسف على هلاك القوم وخسرانهم، تتميما لقول حبيب النجار: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) فهو أسف وحسرة محكية عن المؤمن المتدبر لحالهم، الناظر في مصيرهم! كما في قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ! إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ!)(فاطر: 8) فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأسف ويتحسر على إصرار الكفار على كفرهم؛ لِمَا جعل الله في قلبه – عليه الصلاة والسلام - من الرحمة والشفقة الشديدة. فأرشده الله تعالى إلى أن أمثال هؤلاء لا يستحقون ذلك! وكذلك قال تعالى - من قبل - في حق إبراهيم عليه السلام: (فَلَمَّاذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ! إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ!)(هود: 74-75)

تلك كانت قصة حبيب النجار ومآلاتها الجليلة، وما حكم الله به بينه وبين قومه! إنها قصة رجل أدمن الإيمان حتى تعلق قلبه بالله، ثم تدفقت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه! فكان مثلا ربانيا لِخُلَّصِ الدعاة المؤمنين، وصارت قصته قرآنا يتلى إلى يوم القيامة! وإنها لقصة تنبض بما لا ينحصر من رسالات الهدى، ما يضيء ظلمات هذا العالم كله لو أشعلت البشرية منها قنديلا واحدا!


3-الهدى المنهاجي:

وهو ينقسم إلى إحدى عشرة رسالة هي كالتالي:


- الرسالة الأولى:


في أن البلاغ المبين ليس في زخرف القول، ولا في ترصيف الجمل وتنميق العبارات، وإنما هو في إصدار الكلام الصادق الذي ينبض بالحياة، الكلام الذي ينبع من أعماق القلب، فلا تفارقه حرارة الوجدان ومواجيد المحبة والإخلاص، حتى يقع في قلوب السامعين غضا طريا! فالبلاغ المبين هو تعبير عن حرارة الإيمان ومكابدة القرآن، في زمن التيه والضلال! حرصا صادقا، وإشفاقا خالصا، على جموع التائهين، وقوافل الضالين، وقياما بحق رب العالمين!


- الرسالة الثانية:


في أن البلاغ المبين – بهذا المعنى - هبة من الله تعالى، هبة يتلقاها الداعية على قدر إخلاصه وعلى درجة إيمانه! وليس صناعة كسبية يستدعيها متى شاء! فإن كان فيها شيء من هذا فبالتبع لا بالأصالة! وقد حدث ذات يوم أن قُدِّمَ رجلٌ صالح لوعظ الناس في مجمع، لكنه لم يكن قد تعلم من بلاغة الخطاب شيئا، حتى إذا استجاب بعد إلحاح شديد عليه من بعضهم؛ نظر في الجمع لحظة، ثم بكى حتى بلغ الناسَ نشيجُه، ولم ينبس بكلمة! فبكى الجمع كله ببكائه! وكان ذلك أبلغ خطاب وأنصع بيان! وبالمقابل قد نرى آخرين يتصدرون المجالس، ويعتلون الكراسي، يرصفون الكلام ترصيفا، وينمقون التعبير تنميقا، لكنهم لا يَلقون قبولا ولا ترحيبا؛ لأن مفاتيح القلوب بيد الله وحده، لا يفتحها إلا للصادقين!


فالبلاغ المبين قبل أن يكون خطابا هو شعور! والشعور لا يُكْتَسَبُ، ولكنه يُتَلّقَّى من الله، على قدر تفاني العبد في محبته تعالى وطلب رضاه! وذلك هو أساس الطريق إلى القلوب.


- الرسالة الثالثة:


في أن المحبة الخالصة من أهم أسباب القوة والشجاعة، فعلى قدرها تكون عزيمة المرء في خوض غمار البلاء! وقديما قالوا:"من عرف ما قصد هان عليه ما وجد!" وقال آخر مناجيا ربَّه عز وجل:


لقد وَضَحَ الطريقُ إليكَ قَصْداً *** فما أحدٌ أرادكَ يَسْتَدِلُّ
فإنْ وَرَدَ الشتاءُ ففيكَ صَيْفٌ *** وإنْ وَرَدَ الْمَصِيفُ فَفِيكَ ظِلُّ!

فمن عرف ربَّه حق المعرفة، تعلق به قلبُه رَغَباً وَرَهَباً، وسعى إليه محبةً وإجلالا! فالله جل جلاله رب كريم! له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، تجمَّلَ سبحانه بخصال الكمال، وتنَـزَّهَ عن النقص والمثال! وأفاض على عباده بالنعم خَلْقاً ورزقاً ورعايةً، ثم أرسل رُسُلَهُ الكرام بالهدى والنور؛ لبيان الطريق إلى تفريد جماله وجلاله! (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ!)(الأنعام: 102)



فمن نظر إلى ذلك ببوارق الصدق، وسعى إليه عبر منازل الإخلاص؛ امتلأ قلبه محبة ويقينا، فباع نفسه لله، وصار له عبدا حقا! ثم أكرمه الله تعالى بعزيمة الصِّدِّيقِينَ!


ولقد أكرم الله عددا من الصحابة الكرام بهذا المقام العظيم، منهم الصحابي الجليل خُبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من أصحابه إلى قريش، فغدروا بهم وقتلوهم من بعد ما أعطوهم الأمان! فلما رأى خبيب أنهم قاتلوه أنشد:


وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ([4])

ومنهم أيضا: حَبيب بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه، الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسيلمة الكذاب، فغدر به وقتله! فقد روى الإمام الطبري بسنده أنَّ كعب الأحبار - رضي الله عنه - لما (ذُكِرَ له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار، الذي كان مسيلمةُ الكذابُ قَطَّعَهُ باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم! ثم يقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع! فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول: نعم! فجعل يُقَطِّعُهُ عُضْواً عُضْواً، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه! فقال كعب: - حين قيل له: اسمه حَبيب – "وكان والله صاحبُ يس اسمه حَبيب!")([5])


ما كان لهؤلاء جميعا أن يهرقوا أرواحهم بهذه الطرق الشجاعة، ولا أن يشهدوا تعذيبهم وتقتيلهم البطيء على ثبات عجيب، ولا أن يتفانوا في نثر أشلائهم شلوا شلوا على بساط استشهادهم الطاهر، لولا ما سكن قلوبَهم من وهج الإيمان التحقيقي، ونور المحبة الكاشف لهم عن جلال المقام الإلهي العظيم وجماله! فأولئك هم الأولياء صدقا، وأولئك هم السادة حقا! (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ!)(البقرة: 165)


- الرسالة الرابعة:


في أن الدعوة إلى الخير، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، تقتضي المسارعة والمبادرة. وذلك هو مقتضى الإيمان الصادق، فالمحب السائر إلى محبوبه لا يعرف التثاقل في طريقه ولا التراخي، بل يقطع المسافات سعيا! وكيف لا؟ والقلب قد التهبت مواجيده بأشواق الوصول، وتعلقت آماله بنيل الرضى والقبول..! وقد جاء حبيب النجار من أقصى المدينة يسعى! والسعي: سير سريع أقرب إلى العَدْوِ! جاء يسعى غيرةً على محبوبه، ودفاعا عن حماه حتى نال ما نال من كرم الشهادة!


ومن ثَمَّ فالداعية الصادق لا يتأخر في طريق دعوته، ولا يتوانى عن إجابة داعي الخير كلما دعا، بل يبادر إليه ويسارع، ويجعل تلبية ندائه أول همه ومسعاه. فتلك صفة الصالحين حقا التيبها نالوا مقام القبول عند الملك الكريم: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ!)(آل عمران: 114).


- الرسالة الخامسة:


في أن من تمام الحكمة أن تدخر الكلمة المناسبة للموقف المناسب زمانا ومكانا! وأن مواجهة الباطل بالقوة قد تكون جهادا واستشهادا وقد تكون فتنة وتهورا! والضابط في ذلك أمران اثنان هما:


- أولا: التحقق من إخلاص العمل لله نيةً وقصدا، فكثير من التهورات المدمرة المسماة اليوم (جهادا) إنما تكون مدخولةً بهوى خفي وعُجْبٍ شقي؛ فتنقلب فتنةً على صاحبها وعلى الناس!


- ثانيا: تحري الحكم الشرعي الصحيح في العمل! ولا يكون ذلك إلا بمراجعة أهل العلم، ممن اشتهر بتخصصه الشرعي، وورعه الديني وفضله الخُلقي، من العلماء الأتقياء الناصحين الفضلاء، فهم أهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور. ولا يُرَاعَى في ذلك صاحب الرأي الشاذ، ولا قول من لم يتمرس بفقه النصوص واستنباط أحكامها، ولو كان من حفاظ المتون! فإنما العلم فَهْمٌ عن الله ورسوله. وهذا أمر يلتبس على كثير من الناس! وهو واضح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ! وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً!)(النساء: 83).


- الرسالة السادسة:


في أن التعريف بالله من أهم عوامل نجاح الخطاب الدعوي. وإنما الغفلة تقع للناس بسبب نسيانهم ربَّهم الذي خلقهم، فبدل أن يعبدوه يعبدون أهواءهم! (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ!)(سورة الحشر: 19) فالتعريف بالله - جل جلاله - وبحقوقه على العباد، وما له عليهم من حق الإخلاص والتوحيد؛ بما خَلَقَ ورَزَقَ ورَعَى وهَدَى، هو أساس خطاب الأنبياء جميعهم. وأن له سبحانه يوما – هو اليوم الآخِر بمآلاته - لعرض ذلك كله جميعا. فمن عَرَفَ اللهَ خاف مقامَه! وذلك هو مضمون خطبة حبيب النجار.


- الرسالة السابعة:


في أن نصرة المؤمنين المستضعفين - متى ما تبين صدقهم وإخلاصهم - واجبة على المسلمين عامة، وعلى الدعاة منهم خاصة! فلربما تعرض المسلمون أو الدعاة، إلى الأذى في الله، بهذا البلد أو ذاك، فإذا تبين أنهم أهل صدق في سيرهم وعملهم، وتحققت مظلمتهم، بمعنى أنهم ليسوا أهل فتنة وأهواء؛ فقد وجبت نصرتهم! ولو كلفت ما كلفت من المشقة! هذا هو الأصل الجاري في الدين، والأمر العام المستمر فيه. اللهم إلا إذا تبين لأهل العلم أمر آخر؛ لفقهٍ خاص بنازلة معينة، فيتصرفون على غير الأصل؛ مراعاةً للمآل والمصلحة الشرعية الراجحة في تلك المسألة. لكنهم لا يخرجون عن إحدى المراتب الثلاث من مراتب النصرة: النصرة باليد أو باللسان أو بالقلب. سواء كان ذلك سرا أو علنا، على حسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية، التي يحددها العلماء الحكماء.


- الرسالة الثامنة:


في أن إعلان الإيمان والالتزام بالدين - حيث يكون الإعلان دعوةً إلى الله وتترجح حكمته - من أهم أسباب التقرب إلى الله، ولو أدى ذلك إلى ما أدى إليه من المشقة؛ لما فيه من مصلحة انتشار الهدى وانتصار الحق. وقد سنَّها حبيب النجار كلمةً باقية في عقبه إلى يوم القيامة، عندما صاح في الملأ: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) فإعلان الدين هو الأصل.


وقد شرع الإسلام بعض الشعائر على هذا الأساس مثل الأذان، وصلاة الجماعة بالمساجد، والحج، وغيرها من الشعائر الإعلانية، فالأمر المعلن أقرب إلى الحفظ والاستمرار. ولذلك كان إعلان المرء إسلامه والاعتزاز به أصلا بذاته؛ لما فيه من نصرة الدين وتكثير سواد المسلمين. خاصة في الظروف الحرجة حيث يكون الاضطهاد والظلم لاحقا بالمسلمين عامة، وبالمؤمنين المتدينين منهم خاصة! كما هو واقع بعض البلدان اليوم.


وقد كان الصحابي الجليل بلال رضي الله عنه – كما هو مشهور في السيرة – يُعَذَّبُ بالحجر الصلد في الرمضاء بمكة؛ رجاء أن يتراجع عن دينه، لكنه يعلنها أمام جلاديه بقوة: "أحَدٌ أحَدٌ!" تلك هي العزيمة. وللرخصة محالها المعروفة في مثل قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(النحل: 106). ولا خلاف في أن الأجر على قدر المشقة! اللهم إلا أن تدعو المصلحة الشرعية إلى خلافه استثناء من الأصل. فتلك مقادير يقدرها أهل العلم. وإنما العبرة ههنا بالأصول التربوية الكلية الجارية على العموم.


والمشكلة أنه ربما أخفى بعضُهم دينَه أو صلاتَه؛ خوفا من مجرد السخرية – فقط - اللاحقة بالمتدينين في بعض البيئات المغتربة والأوساط العلمانية الفاجرة! وهو قطعا خلاف الأَوْلَى. بل وجب أن يعلنها بقوله وسلوكه، كما أعلنها حبيب: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) وإلا فلو تَخَفَّى كل ذي دين بدينه لاندثر الهدى والصلاح في المجتمع! وتلك أسوء مفسدة قد تلحق بالأمة! ولذلك قال الله جل جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ!)(فصلت:30). فقوله تعالى: (قَالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي: صرحوا بتوحيده والتبرء مما سواه، كما هو في أغلب كتب التفسير. والأصل في القول الإعلان. ويشهد لذلك أحوال الصحابة الذين أوذوا في الله في المرحلة المكية وبعدها. فقد كانوا يعلنونها وسط نوادي قريش إعلانا! فهم إذن قد أعلنوا إيمانهم بالله وتوحيدهم له جل علاه وأظهروه إظهارا! وهو من مقتضيات قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنتُ بالله ثم استقم!)([6]).


- الرسالة التاسعة:


في أن على الداعية أن يتخذ الشفقة على الناس، والرحمة بهم، والحرص على نجاتهم، مسلكا لخطابه ومعاملته لهم. فقد كان أول خطاب حبيب النجار في ملأ الطغاة قوله: (يَا قَومِ!) بما في هذا النداء من الاحتضان العاطفي، واللطف والعطف والإيناس. وقد بقي ذلك هو شعوره حتى بعد قتلهم إياه كما تبين من قبل! فكان نداؤه المتأسف المتمني: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا آذاه قومه قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ!) ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ!)([7]) وهو مقتضى قول الله تعالى في محكم كتابه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة: 128). وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران: 159).


- الرسالة العاشرة:


في أن على الداعية أن يحرص على التبرؤ من شهوات الحياة الدنيا والتقلل من متاعها، وألا يجعل لنفسه حظا دنيويا يجنيه من دعوته! فالدعوة الصادقة إنما هي الخالصة لله! لا مطمع فيها ولا مغنم، ولا غاية إلا ابتغاء وجه الله ورضاه، والاجتهاد في أداء حقه العظيم، دعوةً وبلاغاً. وقد كانت أول حجة حبيب النجار على قومه قوله: (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ!) كما أن الله - جل ثناؤه – قال لرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً!)(الفرقان: 57) فمعنى ذلك أن هذا يجب أن يكون واضحا في ذهن الداعية والمدعويين على السواء! فهي سبيل واحدة ترتقي مدارجها عبر منازل الزهد والإخلاص، سيرا إلى الله وحده دون سواه. وأن أي انحراف عنها فمعناه خسران الداعية حالا ومآلا؛ إلا أن يتغمده الله برحمته!


- الرسالة الحادية عشر:


في أن الله - جل جلاله - مطلع على عباده كلهم، يشكر لمحسنهم، ويمهل مسيئهم حتى تقوم عليه الحجة، فإذا تمادى في طغيانه أخذه أخذ عزيز مقتدر! فَمُدَبِّرُ أمرِ الهدى والضلال إنما هو الله تعالى، وأما الدعاة إليه سبحانه فإنما يقومون بوظيفة البلاغ. فلا يظنن أحد أنه هو الصانع لصلاح الناس والمانع لفسادهم! وإنما أسند الله الدعوة والبلاغ للمؤمنين ليبتلي الناسَ بعضهم ببعض. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً!)(الفرقان: 20).


وعليه؛ فمن أخلص العمل لله في الدعوة إليه تعالى، ليكن على يقين من أن الله - جل ثناؤه – يقربه وينصره! فهو تعالى رب شكور، لا يخذل عبده أبدا! فوجب على الداعية المخلص السَّعْيُ لتحصيل اليقين في معية الله تعالى له، فلا يفقد المشاهدة في أن الله إنما يسوقه للتي هي أحسن؛ ما دام قد صدق اللهَ، واجتهد وُسْعَهُ، واتخذ جميع الأسباب الشرعية في عمله. فليوقن أن كل ما يحدث له ولدعوته - بعد ذلك – من عسر أو يسر، إنما هو مراد الله، وأن الخير - كل الخير - هو في مراد الله. فلا يسيئن الظنَّ بالله أبداً!


4- مسلك التخلق:


البلاغ المبين إنما هو عزيمة! وأما مسلك الدخول في ابتلاءاته فهو راجع إلى تدشين سير تعبدي عميق، يفضي بصاحبه إلى مقام المشاهدة، الذي عنه تتولد منـزلةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وهي أعلى منـزلة إيمانية بعد النبوة. كذلك جاءت رتبتها – ذِكْراً - في قول الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)(النساء: 69)


وقد كان حبيب النجار صِدِّيقاً شهيداً. فالشهادةُ كانت مآلَه، والصدِّيقيةُ كانت حالَه ومقالَه. وكثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كذلك. وفيهم نزل قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(الأَحزاب: 23)


والصِّدِّيقِيَّةُ في ذاتها منازل ومراتب. وأبو بكر الصديق – رضي الله عنه – كان إمامَ الصِّدِّيقِينَ في هذه الأمة! وعلى الداعية أن يجعل هؤلاء الفحول نماذج يقتدي بها في دعوته؛ عسى أن ينال من صفاتهم ما يجعله على طريقهم، وإن لم يصعد إلى قممهم العالية([8]). فجبال الإيمان مدارج، كلما اجتهد العبد في مكابدتها ازداد رفعة وعلوا؛ حتى يكون من أهل العزائم بإذن الله؛ فَيُجْرِيَ الله على لسانه عزيمةَ البلاغ المبين!


وإن الطريق العملي لذلك إنما هو الصدق مع الله في القول والعمل، فلا يصدر المؤمن في شيء من ذلك إلا عن خالص الصدق، يتحراه تحريا في كل شيء. فلو صلى أو صام أو تصدق أو جاهد، لم يخط خطوة واحدة في فعله حتى يُخَلِّصَها تخليصا لله! فلا يتصرف في شيء من أمره إلا لله وبه! وذلك هو الصِّديق. فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ! فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً! وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ! فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا!)([9])



[1] عن أبن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة تحت العرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل! فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ فيفعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لم يُتْرَكُوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نرجع إلى الدنيا؛ فنُقْتَلَ في سبيلك مرة أخرى! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكُوا!) رواه مسلم.

[2]تفسير ابن كثير: 6/573.

[3] وهو الذي رجحه جمهور المفسرين. وقال القرطبي: (قال ابن عباس: " يا حسرة على العباد " أي يا ويلا على العباد! وعنه أيضا: حل هؤلاء محلَّ مَنْ يتحسر عليهم! وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد ههنا الرسل، وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: " يا حسرة على العباد!" فتحسروا على قتلهم وترك الإيمان بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان. وقال مجاهد وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل! وقيل: " يا حسرة على العباد " من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم لقتله. وقيل: إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قَتل القومُ ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحل بالقوم العذاب: يا حسرة على هؤلاء...) تفسير القرطبي: 15/23.

[4] رواه البخاري

[5] تفسير الطبري بتحقيق أحمد شاكر: 20/505. والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: 1/ 95.

[6] رواه مسلم.

[7] متفق عليه.

[8]عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ! لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ! فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ! يَعْنِي أَصْحَابَهُ. وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ! يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ! الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ! إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ! قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ! وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ! فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ! قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: "مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه"، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَالَ: إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا! فَرَضُوا بِالْأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ!") متفق عليه، واللفظ للبخاري.

[9] متفق عليه.


  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22