عرض مشاركة واحدة
قديم 16-11-2013 ~ 05:35 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي مخالفة الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


- مظاهرها ،و آثارها ،و أسبابها –
- قراءة نقدية تكشف مخالفات هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن و ما ترتب عنها من آثار وخيمة-


الأستاذ الدكتور
خالد كبير علال
- دار المحتسب- الجزائر –
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ،و الصلاة و السلام على النبي الكريم محمد بن عبد الله ،و على آله و صحبه ،و من سار على نهجه إلى يوم الدين ، و بعد :
أفردتُ هذا الكتاب لموضوع مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم ، في مقابل أخذهم بطبيعيات اليونان . و قد عنونته ب : مخالفة الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم . قصد الكشف عن تفاصيل تلك المخالفات ، و ما ترتب عنها من آثار ،و معرفة الأسباب التي جعلتهم يرفضون طبيعيات القرآن ، و يتبنون طبيعيات اليونان .

و قصد الكشف أيضا عما قام به كثير من الباحثين المعاصرين من عمليات التحريف و التضليل و التدليس ، في غلوهم و مدحهم لهؤلاء الفلاسفة من جهة ؛ و تضخيم صوابهم القليل ،و إغفال أخطائهم و انحرافاتهم الكثيرة بالتستر و التهوين ،و التبرير و الاعتذار من جهة أخرى . باستخدام منهج الانتقاء و الإغفال ، و الغلو في المدح و التبجيل ،و النفخ و التجعيد لصوابهم القليل ،و الضرب صفحا عن أخطائهم و انحرافاتهم الكثيرة و الجسيمة .

و فيما يخص المنهج الذي سأتبعه في بحثي هذا ، فهو منهج تفرضه طبيعة البحث ؛ فبما أنه موضوع يتعلق بمخالفة الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن ،و أخذهم بطبيعيات اليونان ، فلا شك أن المنهج المُتبع سيكون منهجا نقديا تحليليا ، تمحيصا مُقارنا . و سأحتكم في ممارسة ذلك إلى الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح . و هذه المرجعية الثلاثية نص عليها الشرع ،و يقول بها العقل ، و هي مأخوذة من عدة آيات قرآنية ، منها قوله سبحانه : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }الحج8- .

و أما المصادر و المراجع التي اعتمدتُ عليها في كتابي هذا ، فهي كثيرة و متنوعة ، منها مصادر أساسية تتمثل في مصنفات الفلاسفة المسلمين الذين درسنا مواقفهم من طبيعيات القرآن الكريم ، و سنوردها كاملة في قائمة المصادر و المراجع بعد خاتمة الكتاب . منها كتب أبي نصر الفارابي ، ككتاب آراء أهل المدينة الفاضلة . و منها مصنفات ابن سينا ، ككتاب الشفاء ، و عيون الحكمة . و منها مؤلفات ابن رشد ، ككتاب الآثار العلوية ،و تلخيص الآثار العلوية ، و شرح السماء و العالم.

و منها مراجع متخصصة في فلسفة هؤلاء خاصة ، و في الفلسفة خلال العصر الإسلامي عامة . و قد اعتمدت عليها كمراجع مساعدة في أغلب الأحيان ، لكنني اعتمدت عليها كمراجع أساسية عندما لم أتمكن من الحصول على المصادر الأساسية .

و يُضاف إلى تلك المصادر و المراجع طائفة أخرى من المصنفات القديمة و الحديثة ، تطلب البحث الرجوع إليها ، للاستعانة بها أثناء الردود و المناقشات .

و أُشير هنا إلى أننا – في بحثنا هذا- لا نتطرق إلى مواقف كل الفلاسفة المسلمين ،و إنما سنركز في بحثنا هذا على مواقف هؤلاء حسب توفر المادة المتعلقة بالموضوع . و هم : يعقوب الكندي ،و أبو بكر الرازي ، و أبو نصر الفارابي ، و أبو علي بن سينا ، و ابن الهيثم ، و أبو الريحان البيروني ، و أبو بكر بن باجة ، و أبو الوليد بن رشد الحفيد.

و أخيرا أسأل الله سبحانه و تعالى التوفيق و السداد ،و الإخلاص في القول و العمل ، و هو الموفق لما يُحبه و يرضاه ، و على الله قصد السبيل .
أ ، د : خالد كبير علال
شوال 1432ه/ سبتمبر2011م – الجزائر-





الفصل الأول
نماذج من مخالفات الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم
أولا : قول الفلاسفة المسلمين بأزلية الكون و أبديته
ثانيا : موقف هؤلاء الفلاسفة من طبيعة العناصر المكونة للعالم
ثالثا : قول هؤلاء الفلاسفة بوجود عقول أزلية تحرك الأفلاك
رابعا: مخالفات تتعلق بحرارة الشمس و الكواكب
خامسا: قول هؤلاء الفلاسفة بأزلية أنواع الكائنات و حدوث أفرادها
سادسا: مخالفات تتعلق بظواهر أرضية
سابعا : خلود النفس




نماذج من مخالفات الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم
خالف الفلاسفة المسلمون طبيعيات القرآن الكريم مخالفات كثيرة و صريحة من جهة ؛ و انتصروا فيها لطبيعيات اليونان على حساب طبيعيات القرآن من جهة ثانية . و المباحث الآتية تُوضح ذلك و تُبينه بجلاء .

أولا : قول الفلاسفة المسلمين بأزلية الكون و أبديته:
يتضمن هذا المبحث خمسة نماذج من أقوال و مواقف للفلاسفة المسلمين خالفوا بها طبيعيات القرآن الكريم ،و تتعلق بالكون من جهة أزليته و أبديته، و حركته العلوية و الأرضية ، و طريقة ظهوره .

النموذج الأول يتعلق بقول هؤلاء بأزلية العالم و الحركة ، أولهم أبو نصر الفارابي ( ت 339 هجرية ) تابع أرسطو( ق: 4 ق م ) في قوله بأن (( الزمان يتعلق بالحركة، و أنه لا يتصور إلا معها )) . و (( حدد الزمان على أنه مقدار للحركة المستديرة من جهة المتقدم و المتأخر)) . و قرر أن (( هذه الحركة غير محدثة حدوثا زمانيا أيضا، إذ ليس قبلها سوى ذات المبدع قبلية بالذات لا بالزمان. و أن الزمان ليس له في نفسه أمل متقدم عليه أو شيء أول إلا ذات البارئ المبدع، و ذلك لا يكون للحركة ابتداء زماني إلا على جهة الإبداع ، ... فالزمان إذن كما يقرر الفارابي لا متناهي نظرا لتعلقه بالحركة التي لا ابتداء لها و لا نهاية "و لا يجوز أن يكون للحركة ابتداء زماني و لا آخر زماني فإذن يجب أن يوجد متحركا على هذا اللون و محركا لذلك ))[1].

و قد صنف الفارابي كتابا نص فيه على ((أن حركة الفلك سرمدية ))[2] و قال أيضا : (( و لا يجوز أن يكون للحركة ابتداء زماني ،و لا آخر زماني . فإذاً يجب أن يُوجد مُتحركا على هذا اللون ، و مُحركا لذلك . و إن كان المحرك أيضا مُتحركا احتاج إلى محرك ، إذ لا ينفك المتحرك من المحرك ، و لا يتحرك شيء من ذاته . فإذا يجب أن لا يكون بلا نهاية ، بل ينتهي إلى مُحرك لا يكون متحركا، و إلا أدى إلى وجود مُتحركين و محركين إلى ما لا نهاية و هذا مُحال ))[3].

و الثاني أبو علي بن سينا (ت 428 هجرية ) نص على أزلية العالم عندما قال بأزلية الحركة و الزمان . فذكر في الفصل الحادي عشر من المقالة الثالثة من السماع الطبيعي من كتاب الطبيعيات أنه : (( ليس للحركة والزمان شيء يتقدم عليهما إلا ذات البارئ تعالى وانه لا أول لهما من ذاتهما )) . و (( فلذلك لا يكون للحركة ابتداء زماني إلا على جهة الإبداع، ولا شيء يتقدم عليها إلا ذات المبدع ))[4] .

و الثالث أبو بكر بن باجة ( ت 533 هجرية ) قال: (( فتكونالعقولالإلهيةمعالدهرلامعالزمان،والأجرامالسماويةمعالزمانلافيزمان. وكذلكتقوم الأجراملأنهاالمحدثةللزمان،ومافيالكونوالفسادهوبحسبالزمانلأنهفيالزمانوالزمانمحيطلهبه، فيهأولوآخر))[5] .
و آخرهم- الرابع- أبو الوليد ابن رشد الحفيد (ت 595 هجرية ) ألف رسالة انتصر فيها لموقف شيخه أرسطو سماها : ((مقالة في فسخ شبهة من اعترض على الحكيم وبرهانه في وجود المادة الأولى، وتبيين أن برهان أرسطو طاليس هو الحق المبين ))[6] . و العالم عنده : ((أزلي ليس فيه قوة على الفساد و ذلك لأزلية الحركة الموجودة لهذا الجرم المستدير، و أنها واحدة بالعدد و الحركة الواحدة إنما توجد لموضوع واحد فهو إذن أزلي ، كما أن طبيعة هذا الجرم أنه غير مكون و لا فاسد لأنه لا ضد له،كما أن أسطقساته لا يمكن فيها أن تفسد بكليتها لأزلية المادة الأولى، و أنها لا يمكن أن تخلو من صوره... و إذا كان الأمر كذلك لم يمكن فسادها جميعا و لا يمكن فساد أسطقس واحد منها بأسره و ذلك لأن بقاءها إنما هو بالتعادل الذي بينها من جهة ما هي متضادة ))[7] . و قال أيضا : (( و قد بقي علينا من مطالب هذه المقالة أن نبين أن العالم بأسره أزلي ،و أنه مع ذلك ليس فيه قوة على الفساد ... لزم ضرورة أن يكون العالم بأسره أزليا ))[8] . و ساير أرسطو في قوله بأزلية السماء ، و أنها لا تقبل التغير ،و لا تقع تحت الفساد و الفناء[9] . و نص على أن حركات الأجرام أزلية ، لأن المحركين لها أزليين ،و هذا يُوجب أيضا أن تكون عملية الكون و الفساد في الأرض أزلية هي أيضا[10] .

و أقول: أولا إن هؤلاء خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم مُخالفة صريحة ،و هي مخالفة تتعلق بركن من أركان الإيمان ،و أصل من أصول دين الإسلام المعروفة منه بالضرورة . فقولهم بأزلية العالم و أبديته هو تعطيل للإسلام و هدم له ،و أقوالهم تلك هي أقوال خطيرة جدا ،و لا يصح أن تصدر أبدا عن مسلم صادق يعي ما يقول . فماذا يبقى من الإسلام إذا قلنا : إن الكون لا بداية له و لا نهاية ؟؟؟!!! . و لهذا فمن أساسيات طبيعيات القرآن الكريم ، أن العالم بأسره- مادة و مكانا ، زمانا و حركة- مخلوق لله تعالى ، له بداية و ستكون له نهاية . و الآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا في كتاب الله تعالى . فمن ذلك قوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم }-فصلت: 9- 12- ، و {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54- .

و من الأحاديث النبوية الدالة على خلق العالم قول النبي–عليه الصلاة و السلام- : (( كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ))[11] . و قوله- صلى الله عليه و سلم- : ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ... )) [12] .

و أُشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن هؤلاء القائلين بأزلية العالم قد خالفوا طبيعيات القرآن الكريم من جهتين ، هما : الخلق ، و الحركة . فالقرآن أكد على أن الله خلق العالم بعد أن لم يكن ، ثم أن هذا الخلق أوجد المخلوق بمادته و مكانه ، و زمانه و حركته . لكن هؤلاء ينطلقون من الحركة الأزلية المزعومة . و هذا يعني أن العالم كمادة جامدة كان موجودا ، ثم حدثت له الحركة ، فمن أين لهم هذه المزاعم و الأوهام و الأباطيل ؟! . و هذا مخالف للشرع و للعلم أيضا ، فقد أصبح من علميا أن الكون له بداية و ستكون له نهاية أيضا[13] .

و ثانيا إنه واضح من كلام هؤلاء أنهم يفكرون برغباتهم و ظنونهم و خلفياتهم المذهبية الأرسطية ،و لا يُفكرون بالوحي الصحيح،و لا بالعقل الصريح ، ولا بالعلم الصحيح . و إنما هم في ذلك على مذهب شيخهم أرسطو في قوله بأزلية العالم و أبديته[14] . فجعلوا الشرع وراء ظهورهم ،و عطلوا عقولهم انتصارا و تعصبا لمذهب أرسطو و أصحابه . حتى أن الجرأة الانهزامية السلبية بلغت بهؤلاء عامة و ابن رشد خاصة إلى التصريح بمخالفة الشرع ، و تحدي مشاعر المسلمين بكلام صريح في القول بأزلية العالم لا يحتمل التأويل . و ابن رشد لم يُصرّح بذلك في كتبه العامة التي وجهها للمسلمين ،و إنما صرّح به في كتبه الفلسفية التي أشرنا إلى بعضها سابقا . فَعجباً من هذا الرجل !! ، فكيف يكون قول القرآن في خلق العالم و نهايته ليس واضحا مبينا ،و يكون قول شيخه أرسطو هو الحق المبين ؟؟ !! ، فبئس قولك هذا يا ابن رشد الحفيد ، الذي انتصرت فيه لأرسطو شيخك الدهري المُشرك ،و جعلت ما قرره القرآن وراء ظهرك !!! .

و ثالثا إن إشارة بعضهم[15] إلى أزلية الحركة و الزمان ،و تفريقه بين الزمان و الحركة و المكان ، هو أمر لا يصح . لأن الحقيقة التي غابت عنه أو تناساها أنه انطلق من رغباته و ظنونه و خلفياته المذهبية و لم ينطلق من العلم ، فلو نظر إلى الموضوع نظرة صحيحة ما قال ذلك الكلام الذي وافق فيه أرسطو و أصحابه . لأنه لا يصح أبدا التفريق بين الحركة و الزمان و المكان و المادة . لأن الحقيقة – بدليل الشرع و العقل و العلم- هي أن الخلق أوجد المادة و المكان ، و الحركة و الزمان ، فالكل مخلوق لله تعالى و لا يصح التفريق بين هذه المخلوقات . و عليه فلا حاجة إلى تلك الأوهام و الشقشقات ، و التلاعبات و التدليسات ، و الأهواء و الظنون .

و هذا الرجل-أي الفارابي- و أمثاله قرر أمورا من عنده و فرضها على نفسه و غيره. فلماذا لا يجوز أن تكون للحركة بداية و نهاية ؟؟! ، لا يُوجد مانع عقلي يمنع ذلك ؟؟!! . و لماذا الانطلاق من الحركة و الزمان و عدم الانطلاق من الخلق من عدم ؟؟!! . و هذا هو الصحيح ، فقد ثبت شرعا و علما ،و عقلا أن الكون كله له بداية . فهذا الرجل و أمثاله اخترعوا مقدمات ظنية وهمية بنوا عليها استنتاجاتهم و اختيارتهم الباطلة ، و خالفوا بها ما قرره الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

و أما قولهم بأن العالم كان في حاجة إلى من يُحركه ، لأنه لا يتحرك شيء من ذاته . فالأمر ليس كذلك ، لأن العالم لا يحتاج إلى من يُحركه ، و إنما يحتاج إلى من يخلقه ،و لا يصح الانطلاق من الحركة و الاعتماد عليها ، لأنه يُمكن طرح فرض مُغاير نتخلص به من الحركة كلية . و مفاده : لماذا لا تكون الحركة أزلية كما كانت المادة و أشكالها أزلية كما يزعم هؤلاء ؟؟!! . و من ثم لا يحتاج العالم إلى من يحركه ، فكما لم يحتج إلى وجوده بكائناته المادية فليكن أيضا ليس في حاجة إلى من يُحركه !! .

و من ذلك أيضا إذا كان المحرك الذي لا يتحرك هو الذي حرك العالم فهذا يعني أنه تحرك من ذاته . و إذا لم يكن هو الذي حرّكه من ذاته و إنما كان معشوقا للكون فتحرك العاشق في عشقه للمحرك الذي لا يتحرك-كما يزعم أرسطو و أصحابه- ، يعني أن الكون كان مُتحركا من جهتين : الأولى بما أنه هو العاشق ، فهذا يعني أنه كان حيا و الحي مُتحرك من ذاته بالضرورة ،و من ثم لا يحتاج إلى أن يُحركه المحرك الذي لا يتحرك ،و لا من غيره . و الجهة الثانية انه تحرك في عشقه للمحرك الذي لا يتحرك ،و هذا يعني أيضا أنه تحرك من ذاته من دون مشاركة و لا قصد من الطرف الآخر .

و أما قوله : ((و إلا أدى إلى وجود مُتحركين و محركين إلى ما لا نهاية و هذا محال )) . فهذا لا يلزم و فيه تحكم ، لأنه كما أن هؤلاء قالوا بأزلية الكون و الحركة ، فليكن هذا التأثير المزعوم أزليا و انتهى الأمر ، فيكون كل ذلك أزليا . و تبطل حكاية هؤلاء من أساسها ، و نتخلص من أوهامها و خرافاتها و تحكماتها !!! . و نحن هنا سايرنا هؤلاء في زعمهم هذا لنبين تهافته و بطلانه و تناقضه منطقيا و مخالفته للشرع ؛ و إلا فالأمر واضح-شرعا و علما- ، من أن العالم بكل ما فيه مخلوق له بداية و نهاية و من ثم تسقط مزاعمهم كلها .

و رابعا إنه لا يُوجد أي دليل عقلي صحيح يُثبت أزلية الحركة و الزمان ، و إنما خلاف ذلك هو الذي يقوله العقل الصريح على أساس النظرة البديهية إلى الإنسان و الكائنات الأخرى . بدليل الشواهد الآتية: الأول مفاده هو أن الواقع يشهد بأن الكائنات الحية التي نراها في الواقع منها الإنسان لها بداية و نهاية . و بما أن كل تلك الكائنات هي أفراد و ليست كائنات كلية ، فلا يُوجد كائن اسمه الإنسانية ،و لا الزواحفية ، و لا المجتراتية ،و لا ... إلخ ، فإن كل تلك الكائنات لها بداية و نهاية ،و من ثم فهي ليست أزلية في وجودها و لا في حركتها و لا في زمانها .

و الشاهد الثاني مفاده أنه بما أن الكائنات الحية التي نراها ليست أزلية ،و أنها تُشبه المخلوقات الأخرى غير الحية كالشمس ،و القمر ، و الأرض ، و التراب ، و الصخور ، تُشبهها مثلا في أنها من مادة ، و أنها مُسخرة لا تستطيع التصرف في نفسها ،و أنها في خدمة غيرها كما هو حال تلك الكائنات ، فهذا يعني أنها هي نفسها لها بداية و ستكون لها نهاية على أساس المبدأ العقلي الذي يجمع بين المتشابهين ،و يُفرق بين المختلفين . و هذا صحيح مع أننا لا نستطيع رؤية بداية و نهاية تلك الكائنات الشمس و الأرض ، لأنه لا يُمكننا رؤية ذلك لأن وجودها يجب أن يسبق وجود الكائنات الحية التي لا وجود لها قبل وجود الشمس و الأرض مثلا .

و الشاهد الأخير- الثالث- مفاده هو أن المتدبر في هذا الكون يجده قائما على الافتقار ، و الأسبقية ، و المرحلية ، و التدرج ، و هذا يعني أن مخلوقات هذا العالم ليست أزلية ،و إنما هي لها بدايات مختلفة و متنوعة ،و لو كانت أزلية ابتداء فليست في حاجة إلى غيرها ،و لا إلى المرحلية في الظهور. و تفصيل ذلك هو أنه لا يُمكن أن توجد البحار إلا إذا وُجدت الأرض . و لا يُمكن أن يُوجد النبات إلا إذا وجدت الأرض ،و الشمس ،و الهواء ،و الماء . و لا يُمكن أن توجد الكائنات الحية إلا إذا وجدت الأرض ،و الشمس ، و الهواء ،و الماء . و لا يُمكن أن يظهر الإنسان على وجه الأرض إلا إذا تهيأت له الظروف الطبيعية لحياته . فلما تهيأت خلقه الله تعالى ، كما في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30 - ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }الإنسان1- .

علماً بأن كلام ابن سينا- و أصحابه- فيه تناقض ، و هو كلام بلا علم ،و فيه نقض لمبدأ الألوهية ، أقامه على أساس حكاية دوام فاعلية الفعل الإلهي الذي قال به أرسطو و تابعه عليه أتباعه[16] . و تفصيل ذلك هو أن القول بأزلية الحركة و الزمان هو نقض لقوله بأن الله مُتقدم عليهما . فإما أنهما أزليان ، فهما ليسا في حاجة إلى خالق ،و لا معنى و لا فائدة من القول بوجوده من جهة ، وأن القول بوجوده أمر زائد ،و ليس ضروريا منطقا و لا فائدة من جهة أخرى . و إما أنهما غير أزليين بحكم أن الله متقدم عليهما فهما إذا ليسا أزليين . فهذا الموقف يتضمن تناقضا صارخا لا يُقبل عقلا ،و إنما هو من تحكمات هؤلاء و رغباتهم.

و أشير هنا أيضا إلى أن قول ابن سينا و غيره بدوام فاعلية الفعل الإلهي المتعلق بهذا العالم مُخالف للقرآن صراحة ،و هو قول على الله بلا علم . و ُمسايرة لما قاله أرسطو . و تفصيل ذلك أولا هو أن القرآن الكريم نص صراحة على طلاقة الفعل الإلهي و أنه سبحانه فعال لما يُريد ،و أنه يفعل ما يشاء و يختار ، كما في قوله سبحانه : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }القصص68 -،و { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107- ،و {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82- .

و ثانيا إن قول ابن سينا و أخوانه من الأرسطيين مُخالف لفلسفة شيخهم أرسطو التي يتبعونها . لأن فلسفتة تنكر فعل الإله و إرادته أصلا[17] ، فكيف يكون له فعل دائم ، أوجد أزلية الحركة و الزمان ؟؟!! .

و ثالثا إن القول بدوام الفاعلية هو مجرد احتمال و ظن و ليس دليلا ، و هو يندرج ضمن احتمالات أخري ممكنة تتعلق بالفعل الإلهي . فالله تعالى بما أنه فعال لما يُريد ،و يفعل ما يشاء و يختار ، إما أنه يفعل بلا توقف بمحض إرادته ،و إما أنه يفعل و يتوقف بإرادته ،و إما أنه لا يفعل أصلا بمحض إرادته أيضا . فمن الناحية الشرعية فالله تعالى أخبرنا أنه سبحانه فعال لما يريد و أنه خلق الكون بعد أن لم يكن . و هذا يعني أنه سبحانه اختار الاحتمال الثاني . و به يسقط الاحتمال الأول الذي قال به ابن سينا و أصحابه ،و يسقط الثالث أيضا .

و أما من الناحية العلمية ، فبما أن العلم قال بخلق العالم ,،و أنه وُجد بعد أن لم يكن فهذا يعني- قطعا- أن خالقه فعال لما يريد ، و اختار فعله في وقت محدد بعدما كان متوقفا عن خلقه قبل الوقت المحدد له . و بهذا يسقط الاحتمال الثاني ،و الأول الذي قال به أبن سينا و أصحابه .


و قد حاول ابن سينا رفع التناقض الذي وقع فيه ، لكنه فشل في ذلك ،و لم يذكر دليلا صحيحا ،و إنما ذكر سفسطة و تلاعبا بالكلام ، محصلته انه لا يصح ، و مخالف للشرع الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، فقال : (( و ليس لقائل أن يقول: إنكم قد جعلتم الحركة واجبة الوجود، و واجب الوجود لا يحتاج إلى موجد، فالجواب أن واجب الوجود على نحوين:احدهما واجب الوجود مطلقا ولذاته والآخر واجب الوجود بشرط وبغيره، مثل كون الزوايا مساوية لقائمتين، وذلك ليس واجبا مطلقا، بل واجب إذا كان الشكل مثلثا وكذلك وجوب أن النهار مع طلوع الشمس فهو واجب بعلة، وليس وجوب النهار ولا طلوع الشمس واجبا بذاته.
ونحن أوجبنا وجوب قدم الحركة أن فرض للحركة ابتداء لا على نحو الإبداء وذلك محال.
فهذا شرط واجب ولم نوجب لها وجوب الوجود لذاته، وليس إذا جعل للشيء وجوب وجود مرسلا أو عند شرط ، فقد جعل له فائدة لذاته.
فقولنا: إنه يجب أن تكون حركة، لا يمنع أن يكون ذلك الوجود عن مبدأ، ولا قولنا: إنه يجب أن تكون الحركة دائمة الفيضان عن محرك، لو قلنا، يوجب أن تكون تلك الحركة واجبة الوجود لذاتها، بل إذا قلنا : لا يمكن أن لا تكون حركة ، تكون كأنا نقول:لا يمكن أن لا يكون محرك حرك.
فأنا إذا قلنا:لا يمكن أن تكون حركة تحدث في الزمان إلا وقد كان في القبل لذلك الزمان حركة ، نكون كأنا قلنا:لا يمكن أن يكون محرك حرك في الزمان إلا ويكون قد حرك قبله محرك هو أو غيره ))[18] .


و أقول : الرجل على طريقة أرسطو و أصحابه المشائين في الاعتماد على رغباتهم و التأكيد على صحتها دون دليل صحيح . و نحن لا نتوسع في الرد عليه هنا لأنه ثبت بطلان زعمه هذا شرعا و علما ، على أساس أنهما أكدا على عدم أزلية الكون ، و بذلك يسقط كل كلام ابن سينا و سفسطته . و الأمثلة التي ذكرها لا تصلح دليلا على زعمه ، لأن واجب الوجود المتعلق بالمخلوقات هو مخلوق ، و لا يصح مقارنتها بالخالق . و الحركة و الزمان، فهما إما أزليان لا يحتاجان إلى خالق ،و إما هما يحتاجان إليه فهما غير أزليتين . فهذا هو ما يقوله العقل الصريح ،و غيره فهو زعم باطل ،و تلاعب بالألفاظ .

و خامسا إنه كما بينا مخالفة هؤلاء لطبيعيات القرآن الكريم ، و لِما يقوله العقل الصريح ، فإنهم أيضا قد خالفوا ما يقوله العلم الصحيح في قولهم بأزلية الكون . فقد نص العلم الحديث على أن العالم ليس أزليا ، و أن له بداية قُدرت ب: 13 مليار سنة ، و أنه ستكون له نهاية حتمية[19] . و أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة أن العالم يسير إلى الانهيار و الفناء ، و أن الشمس – مثلا- في طريقها إلى الزوال بسبب ما تفقده من طاقتها تدريجيا . و أن النجوم في حالة ميلاد و فناء من القديم إلى يومنا هذا ، و لها آجال مُحددة تُولد فيها و تموت كبني آدم . و تبين من الحسابات العلمية أن الأرض عند تكوّنها كان يومها يُساوي 4 ساعات ، و هو اليوم يُساوي 24 ساعة ، بسبب تباطؤ سرعتها المحورية[20] .
و بذلك يتبين- مما ذكرناه- أن هؤلاء الفلاسفة تكلموا بلا علم فيما زعموه ، فأهملوا ما نص عليه القرآن الكريم و أغفلوه من جهة ، و قرروا خلافه فيما يتعلق بخلق الكون و الحركة، و أفعال الله تعالى من جهة ثانية . و تعلقوا بالظنون و الأوهام ، و انتصروا لمذهبيتهم الأرسطية الدهرية من جهة ثالثة .

و النموذج الثاني يتعلق بدلالة نوع حركة الأجرام السماوية و الأرضية على أزلية العالم ،و يتضمن طائفة من أقوال هؤلاء الفلاسفة . أولهم أبو نصر الفارابي ذكر أن الأجرام السماوية المكونة من مادة مُخالفة لمادة العناصر الأربعة حركتها مستديرة . و أما الكائنات الفاسدة المكونة من العناصر الأربعة فحركاتها مستقيمة[21] .
و الثاني أبو على بن سينا أخذ برأي أرسطو بأن الحركة المستديرة قديمة ،و أنها أشرف أنواع الحركات و أكملها ، فقال : (( فَبيّنٌ من هذا أن أقدم الحركات ما كان على الاستدارة ، فإنها أقدم الحركات المكانية والوضعية، وهذا الصنف من الحركات أقدم من سائر الحركات الأخرى بالشرف أيضا، لأنه لا يوجد إلا بعد استكمال الجوهر جوهرا بالفعل، ولا يخرجه عن جوهريته بوجه من الوجوه، ولا يزيل أمرا له في ذاته، بل يزيل نسبة له إلى أمر من خارج ، ويخص المستديرة بأنها تامة لا تقبل الزيادة، ولا يجب فيها الاشتداد والضعف، كما يجب في الطبيعة أن تشتد أخيرا في السرعة، و القسرية أن تشتد، كما يقال وسطا، ولا شك أنها تضعف أخيرا.
والجرم الذي له الحركة المستديرة بالطبع هو أقدم الأجرام، و به تتحدد جهات الحركات الطبيعية للأجرام الأخرى )) . و أكد على أن الجسم المتحرك بالاستدارة غير قابل للخرق[22] . و نص أيضا على أنه قد تبين (( أنه و لا جسم واحد يجتمع فيه مبدأ حركتي الاستقامة والاستدارة ))[23] .



و الثالث أبو الريحان البيروني ( ت 440 هجرية ) ذكر أن العالم العلوي يتحرك حركة مستديرة ،و العالم السفلي يتحرك حركة مستقيمة[24] . لكنه لم يقل بقول الآخرين بأزلية العالم العلوي المُتحرك حركة مُستديرة ، و لا بحدوث الكائنات الأرضية المتحركة حركة مُستقيمة حسب زعمهم.

و الرابع ابن رشد الحفيد قال : إن الجرم السماوي بما أنه مستدير الحركة فهو أزلي من طبيعة خامسة مُخالف لطبيعة الأجسام الأرضية المتحركة حركة مستقيمة . و هذا الجرم المستدير الحركة ليس له مُضاد، و لا هو بكائن و لا فاسد[25] .

و ردا عليهم أقول: سبق أن بينا بطلان قولهم بأزلية العالم : مادة و حركة ، لذا لا نكرر ردنا عليهم هنا .و الذي يهمنا في هذا الموضع هو نوع الحركة و علاقتها بالأزلية أو بالحدوث .
أولا إن قولهم بأن العالم العلوي أزلي لأن حركته مُستديرة ، و أن العالم الأرضي كائناته حادثة لأنه مُستقيم الحركة ، هو قول مُخالف للقرآن الكريم مُخالفة صريحة . فهم قد خالفوه مخالفة واضحة لا لُبس فيها ،و أغفلوا ما ذكره إغفالا تاما . فلوا رجعوا إليه و أخذوا بما قرره ، لانتفعوا به ،و لما خالفوه ،و لما أخطأوا فيما قالوا به . لأن من طبيعيات القرآن الأساسية أن العالم العلوي- و معه الأرض- مخلوق و يتحرك حركة مستديرة . و هذا يعني أن الاستدارة ليست دليلا أبدا على أزلية العالم كما زعم هؤلاء . و الشاهد على ذلك قوله سبحانه : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- ، و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5- .

و تفصيل ذلك هو أن من طبيعيات القرآن الأساسية أن الكون بحركاته و كائناته كله مخلوق لله تعالى . فهو حادث و ليس أزليا ،و لا توجد فيه حركات و لا جواهر قديمة كما يزعم أرسطو و أتباعه كابن سينا و أمثاله[26] . و الشاهد على ذلك قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم }-فصلت: 9- 12- .

و أشار أيضا-أي القرآن الكريم- إلى أنواع الحركة من دون تخصيص للحركة المستديرة بأنها قديمة ،و لا أنها أقدم من غيرها . بل نص على أنها مخلوقة كباقي كل الحركات بحكم أن العالم كله مخلوق . و وصف بها الشمس و القمر و الأرض مع أن الشمس أسبق في الوجود منهما . بل و أشار إلى أن الشمس تجمع بين الحركتين المستديرة و المستقيمة ،و مع ذلك فهي مخلوقة و ليس أقدم و لا أسبق الأجرام الكونية تكوناً . و الدليل على ذلك قوله سبحانه : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 -، و{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5-، و{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }الذاريات47-، و {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }يس38- .

و ليس صحيحا أن العالم الأرضي – ما تحت فلك القمر – حركاته مستقيمة فقط ، و إنما حركاته مُتعددة ، منها المستقيمة ، و المستديرة و المتعرجة ، و اللولبية ، و هذه الحركات بعضها من صنع الإنسان ، و بعضها طبيعية من خلق الله تعالى . منها حركة الأعاصير ، و التيارات البحرية و الهوائية ،و حركات الرياح و أنواعها ، و منها حركة الليل و النهار حول الأرض فهي كروية بشهادة القرآن الكريم في قوله سبحانه : لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 -، و{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5- . فالليل يسبح في فلك هو فلك الأرض ،و عليها يستدير .

و أشار أيضا إلى أن العالم بمختلف حركاته و كائناته تعرض للتكوّن و الخرق و الثلم عند تكوّنه ،و أنه سيتعرض أيضا للدمار و الفناء عند نهايته يوم يقوم القيامة . و لن تنجو من ذلك الأجرام السماوية ،و لا حركاتها المستديرة . قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }التكوير2-، و {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ }التكوير11 {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ }المرسلات8- .

و بما أن هؤلاء الفلاسفة قد خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بالحركة: منهجا و نتيجة ، فهم أيضا قد خالفوا العقل و العلم معا في موقفهم من الحركة في الطبيعة. لأن مخالفة الوحي الصحيح تستلزم مخالفة العقل و العلم.
فأما عقلا فهم لم يقدموا دليلا عقليا صحيحا يُثبت موقفهم ،و إنما اعتمدوا على ظنونهم و رغباتهم ، أكثر مما اعتمدوا على الدليل الصحيح . فلا يصح الاستدلال بالشرف ،و لا بحكاية الجوهر ، لأنه لا دخل هنا لحكاية الشرف ،و لا الفضل من جهة . كما أن القول بالجواهر العلوية هو من أوهام و خرافات أرسطو و أصحابه من جهة أخرى . فهم يزعمون أن الجواهر هي كائنات إلهية أزلية شريفة تختلف عن كائنات عالم الكون و الفساد[27] . و هذه كلها مزاعم باطلة ، لأن الكون كله مخلوق من مادة واحدة بحركاته و كائناته ،و هذا أمر ثابت شرعا و علما لا يحتاج على توثيق .
و أي شرف يُوجد في الحركة المستديرة لا يُوجد في أنواع الحركات ألأخرى ؟! ، و ما هو الدليل على وجدوه ؟ . لا جواب صحيح ، فهؤلاء على طريقة شيخهم أرسطو و أصحابه ينطلقون من ظنونهم و رغباتهم ، ثم يبنون عليهما أفكارههم. و هذا ليس من منطق البحث و الاستدلال العلمي في شيء،و إنما هو من باب المزاعم ،و المزاعم ليست دليلا ، و لا يعجز عنها أحد . و من أين لهم أن الحركة المستديرة تامة لا تقبل الزيادة ،و لا تخضع للشدة و الضعف خلاف أنواع الحركات الأخرى ؟!

إنهم لم يقدموا دليلا صحيحا على زعمهم . و الواقع يشهد على أن الحركة المستديرة لا تختلف عن الحركات الأخرى في تمامها و شدتها و ضعفها . فكل أنواع الحركات ، هي تامة في مسارها الذي تتحرك فيه : ذهابا و إيابا . و الحركة المستقيمة يمكن تحويلها إلى حركة مستديرة ،و تحويل المستديرة إلى مستقيمة . و كل نوع من الحركات له بداية و نهاية ،و حركاتها مُتباينة شدة و قوة ،و يُمكن جعلها مُتساوية . فهذا هو الذي يُثبته الواقع و يقول به العقل . فمن أين لهؤلاء بزعمهم الذي خصّوا به الحركة المستديرة ؟!. و من أين لهم أن الأجرام المستديرة الحركة لا تنخرق ؟! ، فهل جرّبوها ؟! . فلماذا تركوا ما يُقرره الشرع و الواقع و العقل ، و تكلموا بلا علم ،و قرروا أمرا وهمياً ؟! .

و أما من الناحية العلمية فبما أنه ثبُت علميا أن الكون مخلوق ، فهذا يعني بالضرورة أن كل أنواع الحركات و الكائنات مخلوقة حادثة و ليست أزلية . و لا تختلف الحركة المستديرة عن الحركات الأخرى في طبيعتها و مميزاتها . و من الثابت علميا أن الشمس مثلا تتحرك في مدارها كما تتحرك عناصرها الأخرى التابعة لها ، كالأرض ، و المريخ مثلا . فهذه العناصر تدور حول نفسها و حول الشمس حركة دائرية مع أن الشمس هي أسبق ظهورا منها و تابعة لها أيضا . و قد ثبُت علميا أن حركات الشمس و مجموعتها ،و حركات الأجرام الأخرى- مع أنها حركات مستديرة- إلا أنها ذات حركات مختلفة جدا : شدة و ضعفا. و من الثابت أيضا أن الكتلة الأولى المكونة للعالم انفصلت منها كل الأجرام ،و ما تزال عمليات الانفصال و الانحراق مُستمرة بين الأجرام السماوية إلى يومنا هذا [28] .

و أما قول ابن سينا : (( إنه و لا جسم واحد يجتمع فيه مبدأ حركتي الاستقامة والاستدارة )) . فقوله هذا لا يصح من ناحية الإمكان العقلي ، فيمكن أن نتصور جسما يتحرك حركتين: مستقيمة و مُستديرة في وقت واحد . كأن نتصور جسما يتحرك حول نفسه دائريا و أثناء حركته المستديرة يتحرك في مسار مستقيم ذهابا و إيابا .

و لو أنه لم يُهمل طبيعيات القرآن و تدبر فيها جيدا لاستنتج خلاف ما ذهب إليه و تبين له إمكانية وجود ما نفاه ، بل خطأ ما قرره . لأن في القرآن ما يُشير إلى أن من الأجرام السماوية ما جمع بين الحركتين : المستديرة و المستقيمة أو شبهها . و هذا يتعلق بحركة الشمس ، فالله تعالى كما وصفها بأنها تتحرك دائريا في فلك خاص بها حركة سباحة ، فإنه أيضا وصفها بأنها تتحرك حركة أخرى هي حركة جريان في مسار لها ، يبدو أنه مسار مستقيم . قال سبحانه و تعالى- في وصفه لحركتي الشمس- : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40-، و {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }يس38- .
و أما من الناحية العلمية فقد وجد العلماء(( أن للشمس حركتين داخل المجرة: الأولى حركة دورانية حول مركز المجرة، والثانية حركة اهتزازية للأعلى وللأسفل، ولذلك فإن الشمس تبدو وكأنها تصعد وتنزل وتتقدم للأمام! وتتم الشمس دورة كاملة حول مركز المجرة خلال 250 مليون سنة! ويستغرق صعود الشمس وهبوطها بحدود 60 مليون سنة، وهكذا تصعد وتهبط وتتقدم مثل إنسان يجري )) . و هذه صورة توضيحية لحركتي الشمس [29] .
[IMG]file:///C:\Users\Dell\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image002.jpg[/IMG]
و منها يتضح أن (( الوصف القرآني دقيق جداً من الناحية العلمية للشمس في حركتها، فهي تجري جرياناً باتجاه نقطة محددة سماها القرآن (المستقر) وجاء العلماء في القرن الحادي والعشرين ليطلقوا التسمية ذاتها، فهل هنالك أبلغ من هذه المعجزة القرآنية؟ . و من ذلك أيضا أن (( الله تعالى لم يقل: والشمس تسير، أو تتحرك، أو تمشي، بل قال: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي)، وهذا يدل على وجود سرعة كبيرة للشمس، ووجود حركة اهتزازية وليست مستقيمة أو دائرية، ولذلك فإن كلمة (تجري) هي الأدق لوصف الحركة الفعلية للشمس ))[30] .

و النموذج الثالث يتعلق بحركة الأرض ، و يتضمن خمسة مواقف لهؤلاء الفلاسفة . أولهم يعقوب الكندي ذكر أن الأرض كرة ثابتة ،و هي مركز العالم[31] . و ثانيهم أبو نصر الفارابي قال بأن الأرض ثابتة و هي مركز العالم[32] .

و الثالث أبو علي بن سينا أشار إلى أن الأرض مُستقرة في الوسط ، ذكر ذلك في تلخيصه لكتاب المجسطي لبطليموس[33] . و أشار أيضا إلى أنه وُجد من قال من أهل العلم بأن الأرض تتحرك حركة مُستديرة ، فخطّأهم ، و نص على أن الصحيح هو أن الأرض ساكنة[34] .

و الرابع أبو الريحان البيروني كان متذبذبا في موضوع حركة الأرض ، فمرة نص صراحة في كتابه القانون المسعودي على ثباتها و انتصر لرأي بطليموس ؛ و مرة أخرى أظهر ميلا إلى القول بحركتها ، و في هذا يقول الباحث محمد عبد الحميد الحمد: (((( إن أبا الريحان رغم عبقريته الفذة، و تجاوزه لبعض معطيات عصره الفلكية إلا أنه ظل مخلصا لتصورات بطليموس، مما جعله يبدو مترددا في القول بدوران الأرض، و لم يكن جازما كما قال المؤرخ الفرنسي كلود كاهن" وضع أبو الريحان البيروني، موسوعة فلكية رائعة في مدينة غزنه، قال فيها بإمكان دوران الأرض حول الشمس إمكانا منطقيا، لأنه يساعد على تعليل بعض الحركات الظاهرة للكواكب ))[35] . لكن الصحيح أن البيروني قال بأن الأرض تقع في مركز السماء ، و أنها ثابتة في مركزها ،و خطّأ من قال بحركتها . و قد احتج بشواهد ظنية موافقا لما قاله بطليموس[36] .

و آخرهم – الرابع- أبو الوليد بن رشد الحفيد قال بأن الأرض ثابتة و هي مركز العالم ، مُسايرة لأرسطو ، و أنكر على من قال بحركتها[37].

و أقول : يلاحظ على هؤلاء جميعا أنهم قرروا ذلك بعيدا أن القرآن الكريم ،و لم يُشيروا إليه أصلا . فلو عادوا إليه و تدبروه جيدا و أخذوا به لانتفعوا به ،و لما خالفوه ،و لما أخطئوا في قولهم بسكون الأرض ،و نفيهم لحركتها المستديرة التي قال بها بعض أهل العلم . و قد جاء العلم الحديث و أثبت صحة قولهم . فقد قام الدليل العلمي الصحيح على حركة الأرض ، عندما تمكن الإنسان من ارتياد الفضاء و تصوير الأرض و هي سابحة في الفضاء .

لكن الذي نركز عليه هنا هو أن هؤلاء أهملوا طبيعيات القرآن المتعلقة بشكل الأرض و حركتها ، فلا هم أشاروا إليها ،و لا هم اجتهدوا في فهمها للاستفادة منها . فأهملوها ذكرا و استفادة ، و خالفوها تقريرا و نتيجة . فلو تدبروها جيدا لتبين لهم خطأ موقفهم الذي قالوا به . لأن في القرآن الكريم إشارات تدل على أن الأرض تتحرك حركة مستديرة ، أشارت إليها بطريقة خفية حكيمة مُتضمنة في الآيات يستنتجها من تدبر فيها بطريقة صحيحة ، علما بأنه لا توجد في القرآن الكريم آية نصت على ثبات الأرض .

و من تلك الآيات- الدالة على حركة الأرض- قوله سبحانه : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 -، و {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }النمل88 -، و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5- .

واضح من الآية الأولى أنها أشارت إلى حركة الأرض و كرويتها عندما ألحقت الليل و النهار بصيغة الجمع بأنهما في فلك يسبحان كالشمس و القمر ،و هذا لا يتحقق إلا بكونهما يسبحان مع الأرض في فلكها المتحرك المستدير .

و كذلك الآية الثانية فهي تتضمن حركة الأرض ، لأن الجبال لا يُمكنها أن تتحرك لوحدها حركة مستقلة عن الأرض من جهة ، و هي جزء من الأرض من جهة أخرى ، فتحركها يستلزم تحرك الأرض بالضرورة . كما أن الآية لم تجعل حركة الجبال حركة ذاتية صادرة منها ،و إنما شبهت حركتها بحركة السحاب الذي لا يتحرك من ذاته ،و إنما الرياح هي التي تحركها ، فكذلك حركة الجبال ليس من ذاتها و إنما هي أصلها الأرض ككل ، التي عندما تتحرك ، فستتحرك معها الجبال .

و أشير هنا إلى رأي للباحثة زينب عفيفي مفاده أنه لم يكن في إمكان الفلاسفة العرب سبق عصرهم بقرون عديدة في القول بحركة الأرض، لأن هذا العمل تطلب مجهودات كبيرة استغرقت كثيرا من الوقت لكي تم إثباته في العصر الحديث[38] .

و أقول : هذا تبرير لا يكفي و لا يعفيهم من المسؤولية ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إنه وُجد من أهل العلم من قال بحركة الأرض مقابل رأيهم على ما حكاه ابن سينا سابقا . و الثاني مفاده أن قولهم بثبات الأرض لا يتناقض بالقول بحركتها . لأن قولهم بثباتها هو قول مأخوذ من حركة الشمس الظاهرية ، و وجودنا على الأرض . و هذا ليس دليلا قطعيا على ثبات الأرض ، فكان يُمكنهم أن يتوصلوا إلى القول بحركتها لو اتبعوا منهجا صحيحا ،و لم يأخذوا برأي أرسطو و أصحابه . و الشاهد الثالث مفاده أنهم لو رجعوا إلى القرآن الكريم و تدبروه جيدا لوجدوا فيه ما يدلهم على حركتها . و هذا سبق أن بيناه فلا نعيده هنا . فهم يتحملون مسؤولية خطأهم ، بسب سلبيتهم و جمودهم ، و إهمالهم و إغفالهم لما ذكره القرآن الكريم و مخالفتهم له .

و النموذج الرابع يتعلق طريقة ظهور العالم : بين الحتمية و الاختيار . و مفاده أن الفلاسفة المشاؤون المسلمون اتفقوا على أن العالم ظهر عن الإله- العقل الأول عندهم ،وهو المحرك الذي لا يتحرك- لزوما أزليا من دون فعل مقصود منه . فكان الإله علة غائية للعالم و لم يكن له علة خالقة ، ولا فاعلة ،و لا موجهة ،و لا مهيمنة[39] . ثم منهم من قال صدر عنه بالحركة ، و منهم من قال صدر عنه بالفيض. فابن رشد من القائلين بالحركة ، زعم أن المبدأ الأول-الله- صدر عنه محرك فلك المكوكب ، و عنه صدرت صورة الفلك المكوكب ، ثم توالى الصدور عن المبادئ الأخرى- و هي العقول-[40] .

و الذين قالوا منهم بالفيض اتبعوا في ذلك الفيلسوف أفلوطين (ت 270 م ) قالوا بنظرية الفيض منهم الفارابي . فهم يقولون : إن الكون أزلي ،و أنه صدر عن الإله –السبب الأول- بفعل الفيض ، بمعنى أنه فاض عنه[41] . و زعم الفارابي أن وجود الأول-أي الإله- (( لزم ضرورة أن يُوجد عنه سائر الموجودات )) ، و قد صدرت عنه بالفيض[42] . و تفصيل ذلك عند الفارابي أن العقول أحد عشرة عقلا ، أولها العقل الأول ، الذي هو الإله . و منه صدرت العقول العشرة الباقية ، و آخرها العقل الفعال الذي يُدبر عالم ما تحت فلك القمر ، و هي عقول و معقولات ، بمعنى أن لكل عقل جرمه ،و كل من العقول و معقولاتها تمثل الموجودات السماوية التي سماها الفارابي الموجودات الثواني بالنسبة للعقل الأول ، الذي هو الإله . حدثت كالآتي حسب زعمه : تلك العقول صدرت عن بعضها بالترتيب بالزوم ابتداءً من الأول و انتهاء بالأخير . و كل عقل لا يعقل إلا ذاته و العقل الأول ،و ليس في مادة و لا هو مُتجسم . و تلك العقول هي جواهر مُفارقة. و كل عقل له معقوله الذي يصدر عنه أيضا باللزوم ، و هو جرم مادي ، أولها السماء الأولى ، ثم الكواكب الثابتة ، ثم كوكب زحل، و ... ، و آخرها كرة القمر[43] .

و منهم أيضا الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن باجة( ت 533 هجرية ) عبّر عن حكاية الفيض بقوله : عن الأول-أي الله- ((فاضتجميعالموجودات ))[44] .

و أقول: فواضح من أقوالهم أن الكون أزلي صدر أزلا و لزوما عن الإله- العقل الأول- ابتداءً من دون قصد منه ، ثم تولت العقول الأخرى عملية إصدار الكائنات الأخرى لزوما اضطراريا . و كلامهم هذا مخالف للشرع ،و العلم ، و هو رجم بالغيب ،و قول بلا علم ،و تعلّق بالظنون و الأوهام ،و و الأهواء و الخرافات من جهة . و يتضمن بداخله تناقضا صارخا من جهة أخرى.

لأنه أولا إن هؤلاء تعمدوا إهمال و إغفال و مخالفة طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بنشأة الكون . فالله تعالى أخبرنا أنه سبحانه حكيم عزيز ، و عليم قدير ، و فعال لما يريد ،و يفعل ما يشاء و يختار، قال سبحانه : { وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران62- ٢٠،و {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107-،و {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }القصص68- . و أنه سبحانه خالق كل شيء ،{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الأنعام102- . و أنه خلق الكون من عدم عن قصد و أمر، و فعل و لغاية {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-،و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11- ، و {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ }الأنبياء16- . و أنه سبحانه إنما أمره {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82- .

فتلك الآيات الكريمات- و غيرها كثير- أدلة قاطعة دامغة على بطلان مزاعم هؤلاء الضالون ، إنهم تركوها وراء ظهورهم ،و تعلقوا بأهواء و خرافات و ضلالات أرسطو و أفلوطين المتعلقة بظهور العالم !!! . . فلماذا هذا الإهمال و الإغفال و المخالفة لما ذكره القرآن الكريم ؟؟!! . و لماذا الكلام بلا علم ، و الخوض فيما لا يُدركه العقل ؟؟!! ، و لماذا هذا الإصرار على مخالفة طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق الكون ؟؟!! .

ثم أنهم بعد ذلك جعلوا مع الله تعالى آلهة أخرى شاركته في عملية ظهور العالم . فزعموا أن العقول المفارقة هي التي تولت خلق مختلف مظاهر العالم بعد صدور العقل الثاني . و هذه مخالفة أخرى صريحة لطبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم ،و هي- من جهة أخرى- إنكار صريح لما نص عليه القرآن الكريم من أن الله تعالى هو الإله الذي لا شريك له في ذاته ، و لا في أفعاله ، و لا في خلقه . قال سبحانه : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }غافر62-، و{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ }الدخان8-، و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }فاطر3- ،و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4}- الإخلاص:1-4- .

فهؤلاء خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم من جهتين : الأولى إنهم نفوا أن يكون الله تعالى خلق الكون من عدم ، و أنه خلقه عن قصد و إرادة و اختيار . و الثانية جعلوا مع الله شركاء أزليين صدر عنهم العالم . و هذا ضلال كبير ، و انحراف خطير عن الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح !!! .

[1] زينب عفيفي: الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 158 .

[2] جمال الدين القفطي:أخبار العلماء بأخيار الحكماء ، ص: 119 .

[3] الفارابي: رسائل الفارابي ، 137 .

[4] ابن سينا : الطبيعيات ، من كتاب الشفاء ، ص: 94 ، 124 و ما بعدها .

[5] ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص: 49 .

[6] ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، ج 1، ص: 352 .

[7] زينب عفيفي: العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية ، ص: 80 .

[8] ابن رشد : رسالة السماء و العالم ، و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 47 .

[9] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، حققه أسعد جمعة ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، 2002 ، ص: 4 و ما بعدها .

[10] ابن رشد : جوامع الكون و الفساد ، حققه أبو الوفاء التفتزاني ، و يعيد زايد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991 ص:32.

[11] البخاري : الجامع الصحيح ، رقم الحديث ، 6982 ، ج 6 ص: 2699 .

[12] نفس المصدر ، ج 4 ص: 107 .

[13] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط 3 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980 ، ص: 71، و ما بعدها ، 84 و ما بعدها .

[14] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ،و هو منشور إلكترونيا ، أنظر مثلا : موقع صيد الفوائد .

[15] المقصود هنا الفارابي ، لكن الآخرين كلهم يقولون برأيه ، لأنه من أساسيات مذهب أرسطو .

[16] للتوسع في موضوع دوام فاعلية الفعل الإلهي أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[17] للتوسع في ذلك أنظر الفصل الأول من كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[18] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 127 .

[19] دافيد برجاميني : الكون ، دار الترجمة ، بيروت ، ص: 98 . و منصور حسب النبي : الزمان بين العلم و القرآن ، ص: 108، 122 .

[20] دافيد برجاميني : الكون ، ص: 50، 91، 98 . و آن تري هوايت : النجوم ، ترجمة إسماعيل حقي ، ط7 ، دار المعارف ، مصر ، 1992 ، ص: 20 ، 21 . و روبرت أغروس و جورج ستانسيو : العلم في منظوره الجديد ، المجلس الوطني للثقافة ، الكويت ، ص: 9 ، 60 ، 61 . و منصور حسب النبي : نفس المرجع ، ص: 89 ، 100 .

[21] زينب عفيفي : الفلسفة و الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 202 .

[22] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 159 ، 184 .

[23] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 194 .

[24] البيروني: القانون المسعودي ، ط1 ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، الهند ، 1954 ، ج 1 ص: 21 ، 22 .

[25] ابن رشد : رسالة السماء و العالم و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ط 1 ، دار الفكر اللبناني، بيروت ، 1994 ، ص: 26 و ما بعدها ، 32 ، و ما بعدها .

[26] أشار ابن سينا على ذلك في كلامه السابق . و أما عن موقف أرسطو من ذلك فقد فصلتُ فيه في كتابنا: جنايات أرسطو في حق العقل و العلم . و الكتاب منشور إلكترونيا .

[27] ابن رشد : جوامع الكون و الفساد ، حققه أبو الوفاء التفتازاني ، و سعيد زايد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991 ص:32. و تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ، ص: 352 . و أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ، الفصل الأول :

[28] أنظر : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الشمس ، الحركة ، الفلك ، الأرض ، النيازك ، و الشهب ، الانفجار العظيم . و عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط 3 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980 ، ص: 25 ، 27 ، 71 و ما بعدها ، 84 و ما بعدها .

[29] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية .

[30] نفسه .

[31] علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، 1992 ، ص: 227 . و محمد عبد الرحمن مرحبا : الكندي - فلسفته مُنتخبات – عويدات ، بيروت ، باريس ، 1985 ص: 71 .

[32] زينب عفيفي: الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 233 .

[33] ابن سينل : علم الهيئة ، المقالة الأولى ، ص: 4 .

[34] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 194 ، 195 .

[35] محمد عبد الحميد الحمد : حياة البيروني ، دار المدى ، دمشق ، 2000 ، ص: 94 .

[36] البيروني: القانون المسعودي ، ج 1 ص: 37 ، 52 ، 53 .

[37] ابن رشد : تلخيص السماء و العالم ، حققه جمال الدين العلوي ، ص: 268 ، 269 و ما بعدها . و زينب عفيفي : العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1993 ، ص: 70 .

[38] زينب عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 234 .

[39] قولهم هذا بنوه على حكاية العاشق و المعشوق التي قال بها أرسطو . و للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ،و الكتاب منشور إلكترونيا .

[40] ابن رشد : ما بعد الطبيعة ، حققه رفيق العجم و زميله ، ص: 164 .

[41] زينب عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 205 .

[42] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، حققه ألبير نادر ، دار المشرق ، بيروت ، 200 ، ص: 55 ، 61 .

[43] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 .

[44] ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص: 47 .
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22