عرض مشاركة واحدة
قديم 16-11-2013 ~ 05:41 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


و ثالثا إن في كلام هؤلاء تناقضا واضحا ، فهم يجمعون بين القول بأزلية العالم و بين صدوره بالحركة أو بالفيض !!!. و هذا لا يصح عقلا ، فإما أن الكون أزلي و لا صدور له بالحركة و لا بالفيض ، و إما أن له صدورا و ظهورا ،و هذا يعني أن له بداية و ليس أزليا . و لا يصح التعلق بحكاية دوام أفعال الله تعالى ، كما زعم الفارابي الذي زعم أن وجود الكون ضروري بسبب وجود الإله . لأن القول بها يحتاج إلى دليل إثباتها ،و هذا لا يُمكن الظفر به أبدا إلا عن طريق الوحي الإلهي الصحيح ، و هو موجود بيننا و قد نص على خلاف ما زعمه هؤلاء . بمعنى أنه ذكر لنا أن الله تعالى خلق العالم بعد أن لم يكن فهو مخلوق و ليس أزليا .

و من الناحية العقلية لا يصح افتراض ما زعمه هؤلاء من أن الكون صدر عن الإله بالضرورة ، لأن الإله فعال لما يريد ،و يفعل ما يشاء و يختار ،و لا يصح أن يُوجَب عليه أي شيء ، إلا إذا أوجبه هو على نفسه ، فيُخبرنا هو بذلك عن طريق وحيه ، أو نبيه ، أو بهما معا . و هذا ليس عند هؤلاء ،و قد اخبرنا الله تعالى بخلافه . و عليه فالله تعالى لا يصح أن يُفرض عليه أي شيء ، فهو سبحانه فعال لما يُريد ، يخلق و يتوقف ، أو لا يخلق كلية ، أو يخلق بلا توقف . و الصحيح أنه أختار أن يخلق و يتوقف ، ثم يخلق و يتوقف وفق حكمته و هذا ثابت بدليل الشرع و العلم .

و حتى إذا فرضنا جدلا صحة ذلك الزعم فإن الكون-مع ذلك- سيبقى مخلوقا بالضرورة . لأنه إما أن يكون أزليا كالإله و في هذه الحالة فهو أزلي ،و لا يحتاج إلى من يُظهره ،و لا يكون الإله هو الذي أظهره . و إما أنه ليس أزليا ، و هنا لابد له من موجد أوجده . و القول بأن الفعل الإلهي قديم ، هو رجم بالغيب و محاولة للهروب ، لأنه مهما تصورنا قِدمه فله بداية بالضرورة لأن الذات أسبق من الفعل .

و النموذج الأخير –الخامس- يتعلق بأبدية العالم و نهايته ، و مفاده أنه سبق أن أوردنا- في بداية المبحث- أقوال الفارابي ،و ابن سينا ،و ابن باجة ،و ابن رشد في قولهم بأزلية الكون ،و أنه لا يفسد و لا يفنى . و هذا يستلزم بالضرورة أنه ليست للكون نهاية أيضا . فالقول بأزلية العالم يستلزم أبديته و عدم فنائه[1] . فابن رشد مثلا ، وافق أرسطو في قوله بأن السماء لا مبدأ لها و لا منتهى في الدهر كله[2] . و قال : (( إنه قد تبين من الأقاويل السالفة كلها أن السماء كلها ليست بكائنة و لا فاسدة ،و لا يمكن أن تفسد كما قال قوم . لكنها دائمة لا مبدأ لها زمانيا و لا منتهى، بل هي علة الزمان و المحيطة به ))[3] .

و أقوال : ماذا أقول أمام هذه الضلالات و الانحرافات ، و المخالفات الشرعية الفادحة ؟؟!! . أليس قولهم بعدم نهاية العالم هو إنكار ليوم البعث و ما يترتب عنه من حساب ، و جزاء و عقاب ؟؟! ،و أليس موقفهم هذا هو إنكار لما هو معروف من الدين بالضرورة ؟؟!! . و هل من يُنكر ذلك يبقى له حض في الإسلام ؟! . و ماذا يبقى من الإسلام إذا أنكرنا ذلك ؟؟!! .

إنهم خالفوا القرآن الكريم مُخالفة صريحة لا تقبل التبرير و الاعتذار أبدا . إنهم خالفوه في أمر هو من أهم قطعيات طبيعيات القرآن الكريم التي أكدت صراحة على أن هذا العالم سينتهي ،و لا بد أن ينتهي . فأنكروا بموقفهم الدهري ما أكده القرآن الكريم ، و قال به العلم الحديث.

فأما النصوص القرآنية الدالة على نهاية العالم و المؤكدة عليه ، فهي كثيرة جدا لم تكن خافية على هؤلاء عندما أنكروا نهاية العالم . منها قوله سبحانه : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }- سورة التكوير: 1- 6. ،و(إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ }-الانفطار: 1-4-، و {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }الأنبياء104- .

و أما من الناحية العلمية فإن العلم الحديث فكما قال بأن الكون ليس أزليا ، وأن له بداية مُحددة في نشاته ؛ فإنه قال أيضا بأن هذا العالم سائر نحو الزوال ، و هو في تدهور مُستمر إلى أن يزول نهائيا . و للعلماء في كيفية حدوث ذلك توقعات و قراءات مُختلفة ، لكنها مُتفقة على أن هذا الكون سينتهي يوما ما[4] .

و يقول العلماء : (( إن جريان الشمس لن يستمر للأبد، بل هنالك أدلة قوية على وجود نهاية وأجل محدد تنتهي عنده حياة الشمس . والعجيب أن القرآن قد تحدث عن هذه الحقيقة العلمية قبل ذلك بقرون طويلة. يقول تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [لقمان: 29]. فقد وضع القرآن نهاية لجريان الشمس والقمر في قوله تعالى (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، أي إلى مدة محددة، وهذا ما يتحدث عنه علماء اليوم ))[5] .

و إنهاءً لما ذكرناه يتبين منه أن هؤلاء الفلاسفة قد خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم ، مخالفة صريحة لا لُبس فيها . ،و هذا موقف لا يصح شرعا و لا عقلا أن يصدر عن مسلم صادق الإيمان أبدا .. لأن الإسلام يفرض على كل مسلم الأخذ به من جهة ،و إن خالفه فهو قد انحرف عن الشرع ،و أخطأ بالضرورة في موقفه من جهة أخرى. و بما أنه فعل ذلك فهو قد أخطأ أيضا عقلا و علما . لأن من يُخالف الوحي الصحيح فهو بالضرورة يكون قد أخطأ و خالف العقل الصريح و العلم الصحيح معا .

ثانيا : موقف هؤلاء الفلاسفة من طبيعة العناصر المكونة للعالم:
اتفق معظم الفلاسفة المسلمين على القول بأن العناصر ألأساسية المُكونة للعالم هي عناصر ذات طبيعة خاصة لا تقبل الفساد و لا الفناء من جهة ،و فرّقوا بين العناصر الأربعة المكونة للكائنات الأرضية ،و العنصر الخامس المُكوّن للعالم السماوي من جهة أخرى . و فيما يأتي تفصيل أقوالهم ، ثم عرضها على ميزان الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

أولهم يعقوب الكندي ( ت ن : 260 للهجرة )) نص على أن طبيعة مادة الفلك مخالفة لطبيعة العناصر الأربعة، و إنما هو مكون من عنصر خامس . و قد صنف كتابا في ذلك ذكر فيه أن طبيعة الفلك مخالفة لطبائع العناصر وأنها طبيعة خامسة[6] .و لا يتصف بأية (( صفة من صفات العناصر الأربعة سواء في الكيفية و السرعة و الإبطاء ، و الخفة و الثقل ،و أنه ليس بخفيف و لا ثقيل ، و لا حار و لا بارد، و لا رطب و لا يابس ))[7].

و نص على أن الجرم الأقصى من العالم الموجود ما بين (( حضيض القمر إلى آخر نهاية جسم الفلك لا حار و لا بارد ،و لا رطب و لا يابس ... ))[8] .و أن العناصر الأربعة لا تقبل الفناء و التحول في عالم الكون و الفساد ، و الكائنات المُكونة منها هي التي تقبل التكون و الفساد . لكن عندما يحين وقت نهاية العالم سيفنيها الله تعالى . و أما العالم العلوي فلا يقبل الكون و الفساد مدة زمانه الذي قدّره الله له[9].

و الثاني أبو نصر الفارابي (ت 339 للهجرة ) ذكر أن الأجسام على نوعين : بسيطة و مركبة ، البسيطة كالسموات ، و الأرض، و الماء ، و النار ، و الهواء . و هي عناصر لا تقبل التحول و لا التغير ،و لا الكون و لا الفساد . و بالنسبة لعالم ما فوق القمر- عالم الأجرام السماوية – فهو مُكون من مادة الأثير –العنصر الخامس- و هو جسم لا ضد له ،و لا يقبل الفناء . و أما الأجسام المركبة ، فهي مُكونة من العناصر الأربعة الموجودة في عالم ما تحت فلك القمر- العالم الأرضي – كالمعادن ، و النباتات ،و الحيوانات،و هي تقبل التكوّن و الفساد[10] .

و ذكر أن مادة الأفلاك و الأجرام السماوية مخالفة لمادة العناصر الأربعة و الكائنات الأرضية[11] . و أن الأجرام العلوية بسيطة شريفة بعيدة عن الفساد ،و هي شريفة بعقولها غير المادية و بمعقولاتها المادية[12] . و ذكر أيضا أن العلماء و أصحاب المعرفة بالحقائق أجمعوا على أن (( الأجرام العلوية في ذواتها غير قابلة للتأثيرات ، و التكوينات ، و لا اختلاف في طباعها ))[13] .

و أشار إلى أن (( طبع الفلك طبع خامس ، لا حار و لا بارد ،و لا ثقيل و لا خفيف ، لا يخرقه شيء ،و ليس فيه مبدأ حركة مستقيمة ،و ليس لحركته ضد ))[14] . و نص على أن (( أقل ما يقع عليه التركيب و الانحلال شيئان ، لأن الشيء الواحد لا تركيب فيه و لا انحلال ))[15] .

و زعم أن الأجسام السماوية أفضل من الموجودات الأرضية ، لأن العلوية هي من الموجودات الإلهية ،و لا ضد لها ،و لا تقبل الكون و الفساد . و أفضل الموجودات الأرضية الإنسان ،و أخسها المادة الأولى المشتركة فيها . و أفضل السماوية : السماء الأولى ، ثم الثانية و أقلها فضلا كرة القمر[16] .

و الثالث هو أبو علي بن سينا ( ت 428 هجرية ) قال بأن العنصر المكون لعالم الفلك يختلف عن العنصر المكون للأجرام الكائنة الفاسدة. و نص على أن الكواكب الموجودة في الجسم السماوي هي (( لا محالة من جنس الجوهر الذي لا يتكون؛ بل من جنس الجوهر المبدع)) [17]. و أن (( البسائط هي الأجسام التي لا تنقسم إلى أجسام مختلفات الطبائع مثل السموات والأرض ، والماء والهواء والنار ))[18] . و أن الطبيعة السماوية مخالفة لطبائع مبادئ الحركات الأرضية . و أن الطبيعية الفلكية خارجة عن الطبائع العنصرية الموجودة في الأرض[19] .

و الرابع هو الحسن بن الهيثم (ت 430 هجرية ): إنه أثناء نقده لفلك بطليموس في كتابه الشكوك على بطليموس ، كان مما ذكره ابن الهيثم من كلام بطليموس قوله : (( فالقياس الطبيعي يُؤدينا إلى أن نقول : إن الأجسام الأثيرية لا تقبل الانفعال ،و لا تتغير )) . لكنه لم يُناقشه في هذه الموقف ،و ظهر منه ما يدل على موافقته له عندما قال: (( و يصح أن يكون موجودا في السماء ، و طبيعته طبيعة الأجرام السماوية )) [20] .

و الخامس هو أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة ( ت 533 هجرية ) ، كان يعتقد بوجود أجسام سرمدية ، و كائنات فاسدة مكوّنة من هيولى[21] . و هو هنا قد أهمل القرآن و أغفله و خالفه ، لكنه أكثر من الاستشهاد بأقوال أرسطو و الإشارة إلى كتبه[22] !! .
و آخرهم – السادس – أبو الوليد بن رشد الحفيد نص على أن المادة نوعان : مادة أزلية لا تفسد تتعلق بالأجسام العلوية ، و مادة قابلة للفساد تتعلق بعالم الكون و الفساد- الأرض- قال بهذا مسايرا لأرسطو ،و شارحا لكلامه و مُثبتا له . و نص أيضا على أن عملية الكون و الفساد في الأرض هي عملية أزلية[23] . و وافق رأي أرسطو في قوله بأن الجرم السماوي و مكوناته له طبيعة خاصة مخالفة لطبيعة الجرم الأرضي ، لذا فهو ليس ثقيلا و لا خفيفا ،و لا يحتاج إلى شيء يحمله[24] . و أكد على أن الجرم السماوي له طبيعة خامسة ،و أنه (( لا يلحقه الكون و الفساد ،و لا سائر اللاحقة من جهة الكون و الفساد ))[25] .
و أقول : أولا إن تلك الأقوال التي أكد هؤلاء الفلاسفة على صحتها هي أقوال مخالفة للقرآن الكريم مُخالفة صريحة ، و فيها تدليس و تلاعب بالألفاظ من جهة ، و هي باطلة جملة و تفصيلا من جهة أخرى. و مع أن حالها كذلك ، فهي أيضا أقوال خطيرة جدا ، تضمنت مخالفة ما قرره القرآن الكريم حول طبيعة الكواكب ، و ذكر ما يُخالفه صراحة عندما نصت على أزلية الكواكب و خصائصها الإلهية . و هذا كلام لا يصح أن يصدر من مسلم أبدا ، بل و لا يصح أن يصدر من إنسان عقلاني يحتكم في مواقفه إلى العقل الصريح و العلم الصحيح .
و قبل ذكر الرد القرآني و إهمال هؤلاء له و تقريرهم لما يُخالفه لابد من أن أذكر هنا معنى الجوهر عند أرسطو و أتباعه كابن سينا و ابن رشد و غيرهما من الفلاسفة المشائين ، ليتبين لنا معنى ذلك عندهم . فمن معانيه أنه يُطلق على الإله الأول ، فهو عندهم جوهر أزلي مفارق للمادة ، غير متحرك بالضرورة . و هو المبدأ الذي يتوقف عليه الكون ، و العقل الأول و المحرك الأول [26] . و منها أنه يُطلق أيضا على العقول المحركة للأجرام السماوية ، فهي جواهر و محركات ، و عقول أزلية مفارقة للمادة ،و ليست هيولانية . و قد وصف العقول بأنها آلهة ،وهي خارجة عن الزمان ،و لا يُؤثر فيها . و جعل عددها يُساوي عدد الحركات و الكواكب، آخرها العقل الفعال ، الذي يُحرك فلك القمر[27] . و هي محركات الأجرام السماوية و الطبيعية ، تحركها حركة أزلية دائمة[28].
و من معانيه أيضا أنه يُطلق على الأجرام السماوية و مكوناتها ، فقد كان أرسطو يُؤلّهها ، و يزعم أنها جواهر ،و موجودات إلهية . و قد أشاد أرسطو بأجداده اليونان الذين نسبوا الألوهية إلى الأجرام السماوية[29].

فواضح من ذلك أن معنى الجوهر الذي قصده هؤلاء بكلامهم السابق يصدق عليه المعنى الثالث الذي ذكرناه . و هو يتفق مع ما أوردناه عن طبيعة الأجرام السماوية و خصائصها عند أرسطو و هؤلاء الفلاسفة . فهي عندهم كواكب أزلية ذات طبيعة إلهية ، لها دور في تسيير العالم و إيجاد كائنات عالم الكون و الفساد . و هذا أشار إليه ابن سينا بقوله : (( لا محالة من جنس الجوهر الذي لا يتكون؛ بل من جنس الجوهر المبدع )) . فهو غير مخلوق ، و من الجواهر المُبدِعة المُكَوِنة . فابن سينا لم ينص هنا صراحة على أن الكواكب أزلية ذات طبيعة إلهية لكنه نص على ذلك عندما وصفها بأنها جواهر غير مُتكَونة ،و أنها من الجوهر المُبدع !!! . لكن الفارابي صرّح بذلك عندما قال : إن الأجسام العلوية هي من الموجودات الإلهية ،و لا ضد لها ،و لا تقبل الكون و الفساد .

و ثانيا إن طبيعيات القرآن الكريم- المتعلقة بمادة الكون- تشهد صراحة على بطلان مزاعم هؤلاء . فقد نصت على أن كل الأجسام السماوية و الأرضية لم تكن موجودة أصلا . فخلق الله تعالى أولا المادة الأولى ، و هي مادة واحدة ، ثم خلق منها العالم كله بما فيه السموات و الأرض ، و الماء و الهواء و النار من جهة . و أشار أيضا إلى أن كل الأجسام-العلوية و السفلية- قابلة للانقسام و التحول من دون استثناء من جهة ثانية،و أنها سائرة إلى الزوال لا محالة من جهة ثالثة . و الشاهد على ذلك قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }- سورة الأنبياء30- ،و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }-سورة فصلت11-، و { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }-سورة يونس61- ،و {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }الأنبياء104- .

فواضح من ذلك أن البسائط التي أشار إليها هؤلاء و زعموا أنها لا تقبل الانقسام ، و لا الفساد ، و الفناء لا وجود لها في القرآن الكريم ، و القول بها مُخالف له . و هي في الحقيقة لا تختلف في طبيعتها و مادتها عن الأرض و مكوناتها ، فكلها مخلوقة من عجينة واحدة ، و إن اختلفت أشكالها ،و تباينت في بعض عناصرها . فلماذا إذاً خالف هؤلاء ما نص عليه القرآن الكريم ؟! ، و لماذا هذا الإصرار على إهماله و إقصائه و مخالفته ؟؟ !! .

و أما من الناحية المنهجية فهم قد انحرفوا عن المنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال انحرافا كبيرا و فاحشا . لأنهم تكلموا في أمور لم يروها، و لا يُمكنهم رؤيتها ، و لا اعتمدوا على آثارها . فلم ينطلقوا من المعلوم لمحاولة الوصول إلى المجهول، و إنما انطلقوا من المجهول محاولة منهم لمعرفة المجهول . و هذا انحراف منهجي كبير في طريقة الاستدلال . فمن أين لهم بأن الأجرام السماوية لها طبيعة خاصة تختلف عن طبيعة العناصر المكونة للعالم الأرضي ؟! . واضح من أقوالهم السابقة أنهم جعلوا خلفياتهم المذهبية الأرسطية مُنطلقا لهم من جهة ، و جعلوا ظنونهم و رغباتهم و اجتهاداتهم مُقدمة لهم من جهة أخرى . . و هذا منهج استدلالي مرفوض ، و لا يصح عقلا ، و لا علما ،و لا شرعا.

فهؤلاء قرروا أمرا بلا دليل صحيح ، و لو أنهم ساروا في الأرض بحثا عن الأتربة و الصخور التي تسقط من السماء ، و فحصوها و قارنوها بالعناصر المكونة للأرض ، لتبين لهم أنهم كانوا مُخطئين في ما قالوه عن العناصر المكونة للعالم . لكنهم لم يفعلوا ذلك بسب غلبة النزعة النظرية التأملية عليهم على النزعة التجريبية العملية لديهم ، و هذا هو منهج شيخهم أرسطو كما هو معروف[30] . و هو منهج لا يقره الشرع ، و لا العقل ، و لا العلم . بل إن من طبيعيات القرآن الكريم أنه أمر بإتباع المنهج التجريبي في مجال الطبيعيات ، لكن هؤلاء أهملوه و خالفوه منهجا و معطيات . قال سبحانه : {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20- .

أما علميا فهؤلاء الفلاسفة كما خالفوا الشرع فيما قالوه فقد خالفوا العلم أيضا . فالعلم الحديث قرر ما ذكره القرآن الكريم من أن العالم كله مخلوق من مادة واحدة من جهة ،و أن عناصره مُتشابهة و يُمكن تحليلها و تفكيكها من جهة أخرى[31] . و مثال ذلك الماء ، فهو عنصر مركب و ليس بسيطا كما زعم هؤلاء ، فيتكون من عدة غازات أهمها : الأكسجين و الهيدروجين . و كذلك الهواء ، فهو ليس عنصرا بسيطا كما قال هؤلاء ؛ و إنما هو عنصر مكون من عناصر كثيرة من غازات و عوالق ، و يُمكن تفكيكه،و تحليل عناصره[32] .

و ثالثا إن قول الفارابي بأن الأجرام العلوية بسيطة شريفة بعيدة عن الفساد ،و هي شريفة بعقولها غير المادية و بمعقولاتها المادية[33]. فهو كلام بلا علم ، و رجم بالغيب ، و مخالف للشرع و العلم . لأنه من الثابت شرعا و علما أن الكون كله مخلوق من مادة واحدة ،و ستكون له نهاية . و لا فرق في هذا بين الأجرام السماوية و الكائنات الأرضية . و عليه فليست العلوية أشرف من السفلية ،و لا السفلية أشرف من العلوية . كما أنه لا يصح شرعا ، و لا عقلا ، و لا علما تقديس و تأليه العالم العلوي ، لأن الحقيقة هي أن العالم كله كون واحد من جهة ،و مُسخر لأهل الأرض عامة و الإنسان خاصة من جهة أخرى . لقوله سبحانه : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13-، و {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }لقمان20- . فالرجل خالف الشرع و العلم ،و تكلم بظنونه و رغباته و خلفيته المذهبية ، و لم يتكلم بالوحي الصحيح ،و لا بالعقل الصريح !!! .

و أما زعمه- أي الفارابي- بأن(( العلماء و أصحاب المعرفة بالحقائق أجمعوا على أن (( الأجرام العلوية في ذواتها غير قابلة للتأثيرات ، و التكوينات ، و لا اختلاف في طباعها ))[34] فهذا الإجماع المزعوم لم يحدث بين أهل العلم أبدا لا قبل الفارابي ، و لا في زمانه . لأنه لا شك أن علماء كثيرين من مختلف المذاهب قد قالوا بحدوث الكون و نهايته ،و أنه قابل للفساد . و يكفي أن نذكر منهم علماء الإسلام ، فهم كلهم يقولون بما قرره القرآن الكريم من أن الأجرام العلوية مخلوقة و قابلة للفساد و ستفسد قطعا . فلماذا أغفل الفارابي هذه الحقائق ؟؟!! .
و رابعا إن قولهم بأن الجرم السماوي ليس خفيفا و لا ثقيلا ، هو قول غير صحيح، و مخالف لللشرع و العلم معا . فلو تدبروا طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الكون و مادته لتبين لهم أنهم أخطأوا في موقفهم ،و أن السموات بأجرامها ثقيلة كالأرض . و الشاهد على ذلك ما يتبين من الآيتين الآتيتين : الأولى نصّت صراحة على أن مادة الأرض هي نفسها مادة السموات لأن أصلها واحد ، لقوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30- . و بما أن الأرض ثقيلة الوزن كما هو مُشاهد ، فهذا يعني أن الأجرام السماوية هي أيضا ثقيلة الوزن لأنها مخلوقة من نفس مادة الأرض .
و الثاني مفاده أنه لو تدبر هؤلاء في قوله تعالى : {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }الرعد 2-، لتبين لهم أن السماء ثقيلة و تحتاج إلى شيء يحملها هي و الأرض . لأن الآية نصت صراحة على أن الله تعالى رفع السموات بغير عمد نراها ، بصيغة الجمع : السموات و ليس السماء فقط ، ، فهذا يعني أن الكون بأسره مرفوع ، بما فيه الأرض . و بما أن الأرض محمولة و هي ثقيلة من دون شك ، فهذا يعني أن السماوات هي أيضا ثقيلة ،و إلا ما احتاجت إلى ما يحملها كالأرض . و بما أنها- السموات و الأرض- مرفوعة بعمد لا نراها ، فهذا يعني أنها كلها ثقيلة ، لأنها احتاجت إلى الرفع و العمد . فلو لم تكن الأجرام السماوية ثقيلة ما احتاجت إلى الرفع و العمد لرفعها .
و أما من الناحية العلمية فمن المعروف قديما و حديثا أن الرجوم التي تسقط من السماء ، هي مواد صلبة مختلفة الأحجام ، من بينها رجوم ثقيلة جدا تترك دمارا كبيرا على الأرض . و هي على نوعين : رجوم صخرية ،و رجوم حديدية . و مثال ذلك أنه (( ارتطم بالأرض في عام 1908م الرجم المشهور تونوغوسكا في منطقة سيبريا. وتمكنبعض الناس من رؤيته من مسافة 750كم في وضح النهار وسمعوا صوت انفجاره من مسافة 80كم. و قُدر وزن الرجم بمئات الأطنان [35]((.
و قد تمكن العلماء في العصر الحديث من قياس وزن كثير من الأجرام السماوية ، فوجودها ثقيلة جدا أكثر من وزن الأرض بمرات كثيرة . فالشمس مثلا تصل كتلتها (( إلى 99,8 % من كتلة المجموعة الشمسية وتبلغ ما يقرب من 1,047 مرةقدر كتلة المشتري أكبر الكواكب في المجموعة الشمسية، كما أنها تبلغ 333,000 مرة قدركتلة الأرض [36]((.
فواضح من ذلك أن هؤلاء الفلاسفة لو رجعوا إلى القرآن و تدبروا طبيعياته المتعلقة بطبيعة بالسموات و الأرض و أخذوا بها ما أخطئوا في موقفهم الذي سايروا فيه شيخهم أرسطو . و لو أنهم خرجوا إلى البراري و الصحاري بحثا عن الصخور التي تسقط من السماء ، أو سألوا عنها أهل الخبرة من الناس، ثم فحصوها لوجدوها تُشبه صخور الأرض في خصائص كثيرة ، و لها أحجام و أوزان مختلفة . و منها يتبين لهم خطأ أرسطو ، فينقدونه و يُخالفونه . لكن المؤسف أن هؤلاء لم يأخذوا بما في القرآن و لا خرجوا إلى الميدان ، و إنما سايروا شيخهم أرسطو في زعمه و خطئه !!! .
و خامسا إن قولهم بأن العالم السماوي لا تصيبه تغيرات مناخية ،و لا تحولات طبيعية ،و لا هو باليابس و لا باللين ،و لا بالحار و لا بالبارد ، و ... فهو قول بلا علم ، قالوه بالظن و التخمين ، و أخذوا به مُسايرة لشيخهم أرسطو . و لو تدبروا في القرآن جيدا لتبين لهم خلاف زعمهم من جهة ،و لو أخذوا به لجنبوا أنفسهم الخطأ و مخالفة القرآن من جهة أخرى . و الدليل على ما قلتُه الشواهد القرآنية الآتية :

الأول مفاده هو أنه بما أن مادة العالم الأرضي هي نفسها مادة العالم العلوي لقوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30- ، و بما أن الأرض فيها الحرارة و البرودة ،و الرطوبة و اليبوسة ، فلماذا لا يكون العالم العلوي فيه كل ذلك ؟؟ . بل إن فيه ذلك، على أساس منطق الجمع بين المتشابهين و التفريق بين المختلفين .

و الشاهد الثاني مفاده أن الله تعالى وصف العالم العلوي بأنه مملوء بالنجوم ،و أن الشمس من النجوم ،و هي مصدر مُشتعل و مصدر النور ،و أن من النجوم ما هو ثاقب ، و أن من كواكبه ما هو مُظلم . فهذا المعطيات تعني أن في العالم العلوي أجساما حارة و شديدة الحرارة ، و أخرى ما هي مُظلمة و باردة . و كل ذلك واضح من الآيات الآتية : {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13- ، و{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13-، و {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }نوح16-، و {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12-، و {النَّجْمُ الثَّاقِبُ }الطارق3- .

و الشاهد الثالث مفاده أن الله تعالى أخبرنا أنه أنزل من السماء الحديد و الحجارة ، كما في قوله سبحانه : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25-،و{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ }هود82- ، و {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ }الذاريات33- . ،و هذا يعني أنه يوجد في العالم العلوي اليابس و الصلب ، و الثقيل و الخفيف ، كما هو في العالم الأرضي .

و أما قولهم بأن العنصر الخامس- الأثير- المكوّن للعالم السماوي لا تكوّن فيه و لا فساد ؛ فهو كلام بلا علم ،و ظنون و تخمينات ، و هو مخالف للشرع و العلم معا . فأما شرعا فلو تدبر هؤلاء الفلاسفة آيات طبيعيات الفلك لوجدوا فيها إشارات و معطيات تدل على أن عالم الأجرام السماوية تجري فيه عمليات التكون و الفساد كما يحدث في العالم الأرضي على حد سواء ، و الشواهد الآتية تُثبت ذلك :

الأول مفاده هو أن المادة التي خُلقت منها السموات و الأرض هي مادة واحدة لقوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11- . و هذا يعني أنه بما أن الكل من مادة واحدة، و الأرض تتقبل عمليات التكوّن و الفساد فكذلك العالم السماوي يتقبل ذلك أيضا .

و الشاهد الثاني مفاده أن في القرآن الكريم آيات دلت على أن الله تعالى أنزل من السماء أجساما سماوية عاقب بها كثيرا من الأقوام بسبب كفرهم و فسادهم ، كقوله تعالى : {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ }هود82-، و {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }سبأ9- -و هذا يعني أن الأجرام السماوية تقبل التغير و التجزئة و الإنقاص .

و الشاهد الثالث مفاده أن الله تعالى أشار إلى أنه عندما بدأ خلق العالم لم يخلقه كله دفعة واحدة ،و إنما خلقه في ستة مراحل طويلة ،و أحدث فيه تغيرات، لقوله سبحانه : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }الفرقان59-،و {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }الحج47- ،و . و هذا يعني أن العالم كله بما فيه القسم العلوي استمر في التحول و التغير مدة طويلة، و ما يزال الأمر جاريا إلى يومنا هذا . فلو كان العالم العلوي كما زعم هؤلاء الفلاسفة ما حدث له ذلك أصلا .

و الشاهد الرابع مفاده أن القرآن الكريم أشار إلى أن من الأجرام السماوية ما حدث فيها تغير في طبيعتها ، و أخرى حدث فيها نقص و سقوط على الأرض ثم تفاعل مع مكوناتها و أصبح جزءاً منها . من ذلك ما حدث للقمر عندما كان مُضيئا ثم محاه الله تعالى و جعله مُعتما ، بدليل قوله سبحانه : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12- .
و من ذلك أيضا ما حدث للحديد ، فقال سبحانه : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25- . و معنى هذا أن الحديد بعدما تكوّن في العالم العلوي أنزله الله تعالى إلى الأرض . و هذا الأمر قالت به بعض الأبحاث العلمية الحديثة ، سنذكره قريبا بحول الله تعالى .

و الشاهد الخامس مفاده أن في القرآن إشارة إلى أن الأجرام السماوية هي أيضا تتعرض للفناء قبل يوم القيامة ، و لعل في قوله سبحانه إشارة ذلك : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى }النجم1- ، بمعنى يسقط و يهلك بعدما يفقد قدرته على الاستمرار في الحياة كما تشير إلى ذلك بعض الأبحاث العلمية الحديثة[37] .

و أما من الناحية العلمية فقد ثَبُت أن العالم السماوي توجد فيه عمليات التغير و الفناء و التولد كما في العالم الأرضي . و تبين أن العالم بأكمله سائر إلى التغير و الفناء . و قد دلت الصور التي التقطتها المراكب الفضائية ، أن العالم السماوي يحمل آثارا كثيرة تدل على أنه عالم مليء بالتغيرات و الظواهر المتنوعة ، من اصطدامات ،و تحولات تضاريسية و مناخية من جهة الحرارة و البرودة . و بعض أجزائه تنفصل منه و تسقط على الأرض بأحجام مختلفة[38] .
و من ذلك أيضا أن درجة الحرارة في القمر تصل في النهار - الجانب المضيء- إلى 100 درجة، وفي الليل - الجانب المظلم - تنخفض إلى 173 درجة تحت الصفر. و (( تُظهر الصور الملتقطة للقمر بأن على سطحه ملايين التشوهات التي نتجت عن نيازك اصطدمت بالقمر وشوهت سطحه فهو مليء بالضربات ))[39] .
و منها أيضا ما ذكره الجيولوجي زغلول النجار من أنه ((سادالاعتقادبأنالحديدالموجودفيالأرض- والذييشكل 35.9 % منكتلتهالابدوأنهقد تكوّنفيداخلعددمنالنجومالمستعرةمثلالعمالقةالحمروالعمالقةالفائقة،والتيانفجرتعليهيئة مستعراتعظميةفتناثرتأشلاؤهافيصفحةالكونونزلتإلىالأرضعلىهيئةوابلمنالنيازك الحديدية. و بذلكأصبحمنالثابتعلميًاأنحديدالأرضقدأُنزلإليهامنالسماء،وأنالحديدفيمجموعتنا الشمسيةكلهاقدأُنزلكذلكإليهامنالسماء. وهيحقيقةلميتوصلالعلماءإلىفهمهاإلافيأواخر الخمسينياتمنالقرنالعشرين ))[40] .
و سادسا إن قول الفارابي بأن الأجسام السماوية أفضل من الموجودات الأرضية ، لأن العلوية هي من الموجودات الإلهية ،و لا ضد لها ،و لا تقبل الكون و الفساد . و... فهو قول مخالف للشرع و العلم ،و كلام بلا علم ، و رجم بالغيب .
فأما شرعا فإن الله تعالى أخبرنا انه خلق كل العالم من مادة واحدة ، فلا يُوجد فرق بين مادة الموجودات السماوية و الموجودات الأرضية . كما أنه سبحانه أخبرنا أنه فضل بني آدم على كثير مما خلق من مخلوقات الأرض و السموات ،و سخّر له ما في السموات و الأرض، و أسجد له ملائكته ، قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70-،و {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }الحج65- ،و {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }البقرة34- .
و أما علمياً فالأمر واضح أيضا ، فالعالم كله مخلوق ،و مادته واحدة ، و بذلك تسقط حكاية التفضيل المزعومة من أساسها . و قد تبين علميا أن حكاية عدم وجود الأضداد كالحرارة و البرودة مثلا ، في الأجسام العلوية هي زعم باطل ،و خرافة من خرافات القوم . لأنه تبين أن في العالم العلوي توجد الحرارة كما توجد البرودة ،و توجد أيضا التفاعلات الكيميائية و النووية كما توجد في الأرض على حد سواء[41] .
و أخيرا – سابعا – أُشير هنا إلى ثلاثة انتقادات تخص مواقف بعض هؤلاء الفلاسفة . الأول يتعلق بقول الفارابي بأن (( أقل ما يقع عليه التركيب و الانحلال شيئان ، لأن الشيء الواحد لا تركيب فيه و لا انحلال ))[42]. و هذا غير صحيح شرعا و لا علما . و لو رجع إلى القرآن الكريم و تدبره جيدا لأمكنه أن يستنتج أن كل مخلوق-مها كان حجمه- يُمكن أن ينقسم إلى أقل منه و أنه سيفنى . و هذا واضح من قوله سبحانه : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }يونس61 - .
و أما علميا فمن الثابت أن العناصر التي زعم هؤلاء أنها بسيطة و غير مركبة سواء السماوية منها أو الأرضية ، فيمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية . فالماء يُفكك إلى غازين رئيسيين ، هما : الهيدروجين ، و الأكسجين ـ و كل واحد منهما يُمكن تفكيك ذرته إلى بروتونات و إلكترونات ،و العلماء الآن يتحدثون عن الكواركات ، كمكون آخر من مكونات الذرة[43] .
و الانتقاد الثاني يتعلق بيعقوب الكندي و مفاده أنه مع قوله برأي الفلاسفة الآخرين في موقفهم من مادة الأجرام السماوية ، فإنه لم يقل بقولهم في أزلية العالم . لكنه – من جهة أخرى- خالف طبيعيات القرآن المتعلقة بطبيعة المادة التي خُلق منها العالم ، فهي قد نصت صراحة على أن العالم في الأصل كله من مادة و احدة ،و من ثم فلا فرق بين مادة الأجرام السماوية و مادة العالم الأرضي . و هذا خلاف ما قاله الكندي .
و آخرها- الانتقاد الثالث- يتعلق بابن الهيثم ،فمع أنه صنف كتابه الشكوك على بطليموس لنقده في طائفة من الأخطاء كان قد وقع فيها ؛ فإنه قد فاته أن ينقده في موقفه من طبيعة الأجرام العلوية ، مع أنه موقف ظني وهمي لا دليل صحيح على صحته البتة من جهة ، و مخالف لما أشار إليه القرآن الكريم حول طبيعة الأجسام العلوية من جهة أخرى . فابن الهيثم أغفل ما ذكره القرآن الكريم-كما فعل أصحابه في معظم ما أوردناه- ،و فاته هذا الانتقاد ،و أخطأ في موقفه عندما وافق قول بطليموس ، فخالف بذلك الشرع و العلم معا . و لو أنه استعان بالقرآن الكريم في انتقاده لنظام بطليموس لربما أوصله هذا إلى هدم قسم كبير من نظام بطليموس أو هدمه كله .

و ختاما- لما ذكرناه- يتبين منه أن هؤلاء الفلاسفة خالفوا القرآن الكريم مخالفة صريحة فيما يتعلق بطبيعة المادة المكونة للكون بقسميه: العلوي و الأرضي . فقالوا بخلاف ما قرره القرآن ، و اتبعوا منهجا ظنيا وهميا مذهبيا غير مقبول شرعا و لا عقلا و لا علما. فأخطئوا في مواقفهم المتعلقة بطبيعة مادة العالم ،و خالفوا بها الشرع و العلم معا .

ثالثا : قول هؤلاء الفلاسفة بوجود عقول أزلية تحرك الأجرام السماوية:
قال الفلاسفة المسلمون المشاؤون بوجود عقول أزلية مفارقة للمادة ذات طبيعة إلهية ، توجد في الأجرام السماوية ، فكان لها دور كبير في ظهور الكون من جهة ؛ و هي التي تتولى تحريك الأجرام السماوية من جهة أخرى . فما حقيقة قولهم هذا ؟، و ما موقف الشرع و العقل و العلم من ذلك ؟ . و من هؤلاء الفلاسفة الذين قالوا به ؟ .
أولهم أبو نصر الفارابي إنه جعل العقول أحد عشرة عقلا ، أولها العقل الأول ، الذي هو الإله . و منه صدرت العقول العشرة الباقية ، و آخرها العقل الفعال الذي يُدبر عالم ما تحت فلك القمر ، و هي عقول و معقولات ، بمعنى أن لكل عقل جرمه ،و كل من العقول و معقولاتها تمثل الموجودات السماوية التي سماها الفارابي الموجودات الثواني بالنسبة للعقل الأول ، الذي هو الإله . حدثت كالآتي حسب زعمه : تلك العقول صدرت عن بعضها بالترتيب بالزوم ابتداءً من الأول و انتهاء بالأخير . و كل عقل لا يعقل إلا ذاته و العقل الأول ،و ليس في مادة و لا هو مُتجسم . و تلك العقول هي جواهر مُفارقة . و كل عقل له معقوله الذي يصدر عنه أيضا باللزوم ، و هو جرم مادي ، أولها السماء الأولى ، ثم الكواكب الثابتة ، ثم كوكب زحل ، و آخرها كرة القمر[44] .
و الثاني أبو علي بن سينا ذكر أن العقول هي جواهر مفارقة و ليست جسمانية ، و لكل (( فلكعقل مفارق نسبته إلى نفسه نسبة العقل الفعال إلى أنفسناوأنه مثال كلي عقليلنوع فعله فهو يتشبه به. و بالجملة فلا بد في كل متحرك منها لغرضعقلي من مبدأعقلي يعقل الخير الأول وتكون ذاته مفارقة فقد علمت أن كل ما يعقل فهومفارقالذات. ومن مبدأ للحركة جسماني أي مواصل للجسم فقد علمت أن الحركة السماويةنفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال بجزئيتها فيكون عددالعقول المفارقة بعد المبدأ الأول عدد الحركات ))[45]. و ذكر أن (( الحركة السماويةنفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال بجزئيتها فيكون عددالعقول المفارقة بعد المبدأ الأول عدد الحركات ))[46] .
و الثالث هو أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة قرر أن(( لكلجرمسمائيعقلونفس))[47] . و كان يعتقد بوجود العقل الفعال ،و اتصال الإنسان به ، فقد صنف في ذلك رسالة عنوانها (( اتصال الإنسان بالعقل الفعال))[48] .و زعم أن (( العقلالفعالبمعونةالأجرامالسماويةهوالفاعلالقريبفيجزئياتالكونوالفساد،والذيفطرهما علىذلكهوالفاعلأبداًبالحقيقة،وهوالشيءالذييستحقالحمد،وليسواحدمنهمايجهل[49] (( .
و آخرهم – الرابع - أبو الوليد بن رشد الحفيد قال : : (( بل الحق هو أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فقط ،و الإثنينية لا تصدر عنها إلا إثنينية فما دونها )) . ثم ذكر أن الكون صدر بالترتيب حسب مرتبة المبادئ- أي العقول أولها الإله- فقال : (( المبدأ الأول صدر عنه مُحرك الفلك المُكَوكب- ، و مُحرك الفلك المكوكب صدر عنه صورة الفلك المُكوكب ، و محرك فلك زحل صدر عنه نفس الكوكب ،و المحرك لفلك المشتري و محرك واحد فقط من المحركين الذين تلتئم بهم حركة كوكب زحل . و عن هذا المحرك صدرت عنه الثلاثة المتحركات الباقية من حركات هذا الكوكب على الترتيب أيضا ، ثم محرك فلك المشتري صدرت عنه ثلاثة أيضا : .... إلخ ))[50] .
و قد أخذ ابن رشد برأي بطليموس في عدد حركات الجرم السماوي ، فحددها ب: 39 حركة ، فوافقه و خالف أرسطو الذي قدرها ب: 47 ، أو 55 حركة[51] . و ذكر أن الذي أُتفق (( عليه من حركات الأجرام السماوية هي ثمان و ثلاثون حركة )) . و عليه يكون عدد المحركين بعدد تلك الحركات . و هذه المحركات هي عقول حسب ابن رشد ، و الأجرام السماوية ذات عقول بالضرورة . و هذه العقول هي التي تُحرك تلك الأجرام و تعطيها صورها أيضا[52] . و قد نص على أن عدد العقول يُساوي عدد حركات الكواكب،و طريق إحصاء هذه العقول المفارقة هو إحصاء حركات الكواكب[53] .

و من تلك العقول المفارقة – التي قال بها ابن رشد- : العقل الفعال . فهو عقل أزلي غير هيولي، و في إمكان العقل البشري الاتصال بالعقل الفعال[54] .

و أقول: أقوالهم هذه مخالفة للشرع و العلم معا ،و تضمنت خرافات و مزاعم و أباطيل ، و هي كلام بلا علم ، و رجم بالغيب ، و خروج سافر عن المنهج العلمي الصحيح في مجال البحث و الاستدلال .

فمن الناحية الشرعية أولا إن القول بوجود تلك العقول الإلهية المزعومة مخالف للقرآن الكريم مخالفة صريحة . لأن الله تعالى نص صراحة على أنه خلق الأجرام السماوية من دون عقول ،و لا ذكر أنه جعل لها عقولا لتحركها ، و إنما ذكر أنه خلقها و صخرها في أفلاكها بذاتها من دون عقول . قال سبحانه و تعالى : {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الأنعام102-،و{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-،و {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }السجدة4-، و {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13- ،و {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- .

و من ذلك أيضا أنه لا يُوجد في القرآن الكريم خطاب من الله تعالى لتلك العقول ،و لا يُوجد لها ذكر فيه . و عندما يتكلم عن الأجرام السماوية يُشير إليها مُباشرة كمخلوقات مُسخرة مُطيعة لله تعالى ، و لا يُشير إليها على أنها تابعة لتلك العقول المزعومة . كقوله سبحانه : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11- ،و {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }هود44- ،و{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- ،و {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }الإسراء44- .

و ثانيا إنهم خالفوا الشرع أيضا عندما زعموا أن تلك العقول أزلية ذات طبيعة إلهية ،و هذا باطل و شرك صريح ، فلا أزلي إلا الله تعالى ، فهو الأول و الآخر ،و المتقدم و الآخر ،و كل شيء هالك إلا وجهه ،و لا إله إلا هو سبحانه . فالله تعالى أكد –في آيات كثيرة- أنه هو الخالق لهذا الكون ،و لا خالق سواه ،و أن العالم بأسره مخلوق له . قال سبحانه : {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }الفرقان2-،و {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18- . فجاء هؤلاء الضالون المخرفون و قالوا بخرافة العقول المفارقة الأزلية الإلهية المُشاركة لله في صفاته و في خلقه للكون !!!!.

و رابعا إن زعمهم بأن تلك العقول هي التي تتولى تحريك الأجرام السماوية . فهذا لا يصح شرعا و لا علما ، فأما شرعا فمن طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الكون أن الأجرام السماوية – كالنجوم و الكواكب وغيرها- مُسخرة محكومة بقوانين إلهية لا تخرج عنها،و مرفوعة بعمد لا نراها ،ولا تحتاج إلى عقول إلهية تحملها و لا لتحركها . قال سبحانه : { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 - ،و {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }الرعد2- .

و أما علمياً فقد ثَبُت أن الأجرام السماوية – و الأرض أيضا- لا تحملها عقول ، و لا تحتاج إليها لتحملها و لا لتحريكها ،و إنما هي مخلوقة و مُسخرة تحكمها قوانين لا تخرج عنها من جهة ، و كلها خاضعة لقانون الجاذبية العام الذي يحكمها و يُمسكها[55] .

و خامسا من أين لهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ؟؟!! ، فهذه مقولة باطلة عقلا و شرعا ، بنوها على خلفيتهم الخرافية الأرسطية التي تنفي عن الله تعالى القدرة على الفعل و الاختيار ، من جهة ،و تزعم أن الإله كان علة غائية للكون و لم يكن علة فاعلة من جهة أخرى . بمعنى أن الإله-حسب زعمهم- ليس هو الذي حرّك محرك الفلك الأول ،و إنما هذا الأخير هو الذي تحرك من ذاته في عشقه للإله الذي هو المحرك الذي لا يتحرك[56] . هذه من الخرافات و الأباطيل التي خالفوا بها الوحي الصحيح و العقل الصريح ، أخذوها عن ديانة أرسطو الدهرية الشركية فخالفوا بها العقل و الشرع معا .

فهم بذلك خالفوا الوحي الصحيح و العقل الصريح ،و أضحكوا الناس على عقولهم . فأما شرعا فأن الله تعالى وصف نفسه في القرآن الكريم بالفعل و الحكمة و العزة ، و القدرة المطلقة على كل شيء ،و أنه سبحانه فعال لما يريد،و يخلق ما يشاء و يختار ،و أنه خلق كل ما في العالم من مخلوقات على تنوعها و كثرتها . قال سبحانه : {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }إبراهيم27- ،و{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107-، و {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }القصص68- ،و{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }النحل40- ،و {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }الفرقان2- . أفليس من الجهل و الضلال - بعد هذه الآيات الدامغات- أن يأتي هؤلاء الضالون المخرفون و يزعمون أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ؟؟!! .

و أما عقلا فلا يصح في المنطق الصحيح القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد . فهذا حكم باطل لا دليل على صدقه بهذه الصيغة . لأن الصواب هو أن الواحد قد لا يصدر عنه شيء ، و قد يصدر عنه شيء واحد، و قد تصدر عنه أشياء ، لكنها تبقى محدودة ، و قد تصدر عنه أشياء بلا حدود . و هذا الصدور متوقف على طبيعة هذا الواحد من جهة قدرته و علمه، و صفاته الأخرى ،و ليس متوقفا على أساس أنه واحد كما زعم هؤلاء . و بما أن العقل الصريح يُثبت للخالق عز و جل كل صفات الكمال و العظمة و التقديس ، فبالضرورة أنه لا حد لقدرته في الخلق و الإبداع ،و التنوع و الإكثار ،و بهذا يسقط زعم هؤلاء . فهو حكم باطل مُضحك ، لا يقوله إنسان عقلاني يحتكم إلى عقله البديهي و يلتزم بحكمه .

علماً بأن حكمهم هذا(( الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد )) هو حكم يُناقض قولهم بأزلية الكون ، لأن القول بالصدور يستلزم أن يكون ما صدر عن الإله ليس أزليا مهما تصورنا قدمه من جهة . كما أن القول بأزلية العالم يستلزم نفي حكاية الصدور من أساسها من جهة أخرى .

و سادسا إن حكاية العقل الفعال و إمكانية اتصال العقول البشرية به ، هي خرافة من خرافات الفلسفة اليونانية التي ورثها عنهم الفلاسفة المشاؤون المسلمون . فلا يُوجد أي دليل صحيح يُثبت زعمهم هذا. و بما أنه سبق أن بينا بطلان حكاية العقول المفارقة من أساسها ، فبلا شك ستنهار حكاية الاتصال بالعقل الفعال من أساسها أيضا . و هؤلاء يضحكون على أنفسهم و على غيرهم بهذه الحكاية الخرافية من جهة ،و يُضحكون الناس على أنفسهم أيضا من جهة أخرى . و نحن نطالبهم بالدليل الصحيح على زعمهم ، و لن يظفروا به أبدا . و لو أن كل واحد تدبر في نفسه و في غيره لتأكد له بطلان زعمهم هذا من جهتين : الأولى أنه لا يُوجد دليل ملموس موضوعي يُثبت زعمهم بحدوث الاتصال بالعقل الفعال أو امكانية حدوثه . فمن أين لهم إذاً بهذا القول المزعوم ؟؟!! . و لماذا يتكلمون بلا علم ؟! .

و الجهة الثانية مفادها إن المُتدبر في فكر أرسطو و أصحابه يتبن له أن معظم فكر هؤلاء باطل مُخالف للعقل و الشرع و العلم ،و هذا الأمر قد تأكدتُ منه يقينا ، حتى أني أحصيتُ لأرسطو أكثر من 337 خطأ و انحرافا منهجيا كانت من باب التمثيل لا الحصر[57]. فلو كان هؤلاء قد اتصلوا بذلك العقل الفعال الخرافي ما كان ذلك هو حال فكرهم المملوء بالخرافات و الأباطيل ،و الأخطاء و الشركيات ، و الضلالات و الكفريات ، و ليس فيه من الصحيح إلا القليل .

و ربما يقول بعض الناس : إن هؤلاء عندما قالوا بتلك العقول قصدوا بها الملائكة ، و هم مخلوقات نورانية يعترف الشرع بوجودهم و دورهم في الكون . فأقول: هذا التبرير لا يصح بدليل الشواهد الآتية :

أولها إنه على هؤلاء أن يُقيموا الدليل الصحيح -شرعا أو عقلا- على أن العقول المفارقة التي قالوا بها هي نفسها الملائكة الذين ذكرهم القرآن الكريم . و هذا الدليل غير موجود ، و لن يظفروا به . و عليه فإن قولهم ليس دليلا ، و إنما هو زعم ، و الزعم ليس دليلا ، و لا يعجز عنه أحد.

و الشاهد الثاني إن هؤلاء الفلاسفة وصفوا تلك العقول بأنها أزلية و إلهية الطبع ، و هذا مخالف لصفات الملائكة المذكورين في القرآن الكريم . فهم عباد لله تعالى ،و من مخلوقاته ،و ليسوا أزليين و لا آلهة .قال سبحانه: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }الزخرف19-، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }التحريم6- ،و {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }فاطر1- ،و {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ }الصافات150- ،و {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الزمر75- .

و الشاهد الثالث مفاده إن هؤلاء الفلاسفة زعموا أن تلك العقول المفارقة هي التي تولت عملية ظهور العالم . و هذا مخالف لما نص عليه القرآن الكريم من أن الله تعالى هو الذي خلق كل المخلوقات من بينها الملائكة و الأجرام السماوية ، و ليست الملائكة هي التي أوجدت ذلك ، فهو ربها و رب كل شيء ، قال سبحانه : ،{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الأنعام102- ،و {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }هود7- ، و {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30- ,

و الشاهد الأخير- الرابع - مفاده أن هؤلاء الفلاسفة قدروا عدد العقول المفارقة بعدد حركات الأجرام و حددوها ما بين :37- 55 عقلا مفارقا . و هذا مخالف لعدد الملائكة في القرآن الكريم ، و لا يصدق عليه . فعددهم كبير جدا ، حتى أنه سبحانه عندما أنزل الملائكة لمساعدة المؤمنين أنزل منهم طائفة بلغ عددهم : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }الأنفال9- .

و إنهاءً لهذا المبحث يتضح منه أن هؤلاء الفلاسفة خالفوا القرآن الكريم مخالفة صريحة في قولهم بخرافة العقول المفارقة الأزلية و دورها في تحريك الأجرام السماوية . علما بأن القول بتلك العقول هو شرك صريح ،و قول بتعدد الآلهة ،و نقض للتوحيد الإسلامي . فلو رجعوا إلى القرآن الكريم ، و تدبروه جيدا ، و أخذوا بما قاله لتبين لهم خلاف ما زعموه ، و لجنبوا أنفسهم القول بتلك الخرافة ،و مخالفة الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

رابعا: مخالفات تتعلق بالشمس و الكواكب:
تبني الفلاسفة المشاؤون المسلمون آراء تتعلق بالشمس و النجوم و الكواكب ، قالوا فيها بما يُخالف طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بالنجوم و الكواكب . فخالفوا الشرع و أخطئوا فيما قالوا به شرعاً و علماً . فما تفاصيل ذلك ؟، و من هؤلاء الفلاسفة الذين قالوا بتلك الآراء المخالفة للشرع ؟ .
منهم أبو نصر الفارابي حسب رأيه أن الشمس (( لا يُشاركها في وجودها شيء آخر من نوعها . و هي مُتفردة بوجودها ))[58] . و ذكر أن العلماء اتفقوا على أن الكواكب و الشمس ليست حارة و لا باردة في ذواتها ،و لا يابسة و لا رطبة أيضا[59] .
و الثاني هو أبو علي بن سينا قال: (( وأما سائر الكواكب فكثيراً ما يُظن أنها تقتبس النور من الشمس.
وأنا أحسب أنها مضيئة بأنفسها وإلا لتبدل شكل الضوء المقتبس فيها بحسب الأوضاع، وخصوصا في الزهرة، وعطارد، اللهم إلا أن نجعل ذلك الضوء نافذا فيها)). و (( و أما القمر فلا نشك في أن ضوءه ونوره مقتبسان من الشمس، وأنه في جوهره، ذو لون إلى العتمة المشبعة سوادا)) [60] .

و آخرهم- الثالث- أبو الوليد بن رشد إنه وافق رأي أرسطو في قوله : إن الكواكب و منها الشمس ليست ذات طبيعة نارية ،و أن حرارتها ليست من داخلها و إنما سببها حركة الكواكب و مماستها للهواء المحيط بها. و أضاف ابن رشد عامل الضوء أيضا[61] . و ذكر أن سبب سخونة الشمس و سائر الكواكب أمران ، هما : الحركة ،و انعكاس الضوء[62] .
و أقول: خالف هؤلاء الفلاسفة الشرع و العلم فيما ذهبوا إليه ، و لو أنهم التزموا بالمنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال بالاعتماد على الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح لتجنوا مخالفة الشرع و الوقوع في الخطأ . و تفصيل ذلك فيما يأتي :
أولا إن قول الفارابي بوجود شمس واحدة لا عدة شموس ، هو قول لا يصح ،و مُخالف للشرع و العلم معا . فأما شرعا فإن القرآن الكريم فرّق بين النجوم و الكواكب و لم يجعلها نوعا واحدا ، فقال سبحانه عن النجوم : {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ }المرسلات8- ،و {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }التكوير2- ، و{النَّجْمُ الثَّاقِبُ }الطارق3- ،و{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5- . و قال عن الكواكب : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }الصافات6 - ، و {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ }الانفطار2- . فواضح من ذلك أن الله تعالى وصف النجوم بصفات تدل على أنها مصدر الاشتعال و الضوء ، فهي نجم ثاقب ،و أنها تنطمس يوم القيامة ، أي أنها تنطفئ ،و أنها مصابيح ، أي أنها مصدر للضوء ،و أنها جُعلت رجوما للشياطين ، أي أنها مصدر لقذف الأجسام الملتهبة ،و هي التي وصفها الله تعالى بقوله : {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }الصافات10- . و بما أن النجوم كذلك فهي شموس ملتهبة ، و هذا يعني أن عدد الشموس كثير جدا ،و ليس واحدا .
و يُؤكد ذلك و يزيده توضيحا قوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }فصلت37- . فقوله سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) لا يخص الشمس والقمر في مجموعتنا الشمسية فقط، و إلا لقال (خلقهما) ، و بما أنه قال: (خَلَقَهُنَّ ) فهذا يدل على الجمع ،و يعني أنه توجد إذاً أكثر من شمس وأكثر من قمر!![63] .

و أما من الناحية العلمية ، فالعلم الحديث فأثبت ما أشار إليه القرآن الكريم ، و ذكر أن النجوم هي شموس ، و عددها كبير جدا ، و الشمس (( هي النجم الوحيد القريب للأرض بالقدر الكافي لتبدو ككرة. والبلايين الأخرى منالنجوم بعيدة جداً،لدرجة أنها تظهر في حجم رأس دبوس من الضوء حتى من خلال أقوى التلسكوبات ))[64] .
و (( يوجد هناك ما يزيد على 200 بليون بليون (200,000,000,000,000,000,000) من النجوم،ولو افترضنا أن كل شخص في العالم عليه أن يعد النجوم، فإن كل واحد يستطيع أن يعدما يزيد على 50 بليونًا من النجوم دون أن يعد أحدها مرتين))[65] .

(( فالنجوم بالرغم من مظهرها، أجرام ضخمة. فالشمس ليست إلا نجمًا متوسط الحجم، لكنقطرها يزيد 100 مرة على قطر الأرض. وأضخمالنجوم يزيد على ما يملأ الفراغ بين الأرض والشمس. ومثل هذه النجوم يكون قطرهاحوالي 1,000 مرة قدر قطر الشمس. وأصغرالنجوم تكون أصغر من الأرض ))[66] .
و فيما يلي مشهد سماوي رائع يُمثل النجوم المضيئة و الكواكب المعتمة:

[IMG]file:///C:\Users\Dell\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image002.jpg[/IMG]
و واضح منها أن (( المادة المظلمة تملأ الكون، ونسبة الجزء المضيء من الكون أقل بكثير، أما الجزء الذي تشغله النجوم (الشموس) أقل بكثير، ثم تأتي الأجسام الباردة في الكون وهي الأقل من حيث الحجم ... المرجع وكالة ناسا ))[67] .
و ثانيا إن ترجيح ابن سينا كون الكواكب مضيئة بنفسها ،و لا تقتبس النور من الشمس ما عدا القمر؛ هو ترجيح مخالف لطبيعيات القرآن المتعلقة بالكواكب من جهة ،و مخالف لما قرره العلم الحديث من جهة أخرى .
فمن جهة الشرع فقد سبق أن بينا أن القرآن الكريم فرّق بين النجوم و الكواكب ،و لم يجعلهما نوعا واحدا . فوصف النجوم بصفات الشمس، و و وصف الكواكب بصفات الأرض و القمر ،و هما كوكبان غير مُلتهبيّن.
و من ذلك أيضا أن الله تعالى فرّق بين الشمس و القمر بقوله : {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً }الفرقان61- ،و {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13- ، و {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12- . فالشمس جسم مشتعل مضيء ،و القمر جسم غير مشتعل- طافيء - يتلقى النور من الشمس .
و عندما وصف الله تعالى النجوم بقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ }المرسلات8- ، فإنه وصف الكواكب بقوله : {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ }الانفطار2 . و وصف النجوم بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5- ، فهي مصدر لقذف الأجسام الملتهبة ، لكنه سبحانه لم يصف الكواكب بذلك، لأنها ليست مُلتهبة . و عندما وصف سبحانه النجوم بقوله : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5- ، فإنه وصف الكواكب بقوله : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }الصافات6- ، فالنجوم مصابيح مصدر للضوء، و الكواكب زينة يأتيها النور من الشمس ،و غيرها من النجوم .
و أما من الناحية العلمية فمن الثابت علميا أن كواكب المجموعة الشمسية- كالزهرة ،و المريخ ، و زحل- كلها مُعتمة مُنطفئة يأتيها الضوء من الشمس[68] .
فواضح من ذلك أن طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بالنجوم و الكواكب فرقت بوضوح بين الكواكب و النجوم ،و حددت الصفات الأساسية لكل نوع . فلو أن ابن سينا و أمثاله عادوا إلى ذلك ،و أخذوا به ما خالفوا الشرع و العلم ، و لما أخطؤوا فيما قالوا به .
و ثالثا إن القول بأن الشمس ليست في ذاتها حارة و لا باردة ،و أن سبب حرارتها هو الحركة و انعكاس الضوء ، هو قول مخالف للشرع و العلم معا .
فأما شرعا فإن طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بالشمس أشارت صراحة إلى أن الشمس مُلتهبة مُشتعلة مضيئة بذاتها كباقي النجوم ،و أنها تختلف عن الكواكب الباردة المُعتمة . و هذا أمر سبق أن توسعنا فيه و بيناه فلا نعيده هنا، و تكفي بالإشارة إليه فقط .
و من الآيات التي نصت صراحة على أن الشمس مُشتعلة مُضيئة بذاتها قوله سبحانه : {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }نوح16- ، و {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13- ،و {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12-. فالشمس سراج وهاج ، و القمر لم يُوصف بذلك ، و إنما هو مُنير فقط ، و بما أن الشمس سراج وهاج فهذا يعني أنها مصدر مشتعل وقاد يتلألأ ،و هذا يقتضي الحرارة المرتفعة ، لأنه لا اشتعال و لا توقد و لا تلألؤ بلا حرارة مرتفعة . و السراج في اللغة هو المصباح الزاهر المتوقد المشتعل ، بسبب ما فيه من الزيت و الفتيل[69] .
و أما من الناحية العلمية فإن الشمس – كما وصفها العلم الحديث- نجم عظيم ملتهب شديد الحرارة يقذف بالحمم ، و تُقدر درجة حرارة سطحه بنحو 6آلاف درجة مئوية ، و أما جوفه فتُقدر حرارته بعشرين مليون درجة مئوية [70] . لكن الكواكب السيارة المعروفة الدائرة حول الشمس – كالمريخ ، و الزهرة ، و عطارد- فهي كلها مُعتمة ، فلا تشع الضوء و لا الحرارة ، و إنما يأتيها ذلك من الشمس[71] .

و فيما يأتي مشهد رائع و رهيب يُمثل صورة للشمس بالأشعة السينية[72]
1[IMG]file:///C:\Users\Dell\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image004.jpg[/IMG]
و هي صورة تُظهر الشمس و (( كأنها فرن نووي ملتهب، إنها تزن أكثر من 99 % من وزن المجموعة الشمسية، لذلك فهي تجذب الكواكب إليها وتجعلها تدور حولها، وتتحرك الشمس وتسبح مع كواكبها ومنها الأرض والقمر. وتبلغ درجة الحرارة على سطحها 6000 درجة مئوية، وهي تبث من الطاقة في ثانية واحدة ما يكفي العالم بأكمله لمدة مئة ألف سنة!! ))[73] .
و إنهاءً لما ذكرناه يتبين جليا أن هؤلاء الفلاسفة خالفوا القرآن الكريم فيما قالوه عن الشمس و الكواكب من جهة ،و أخطؤوا فيما ذهبوا إليه من آراء من جهة أخرى . فلوا أنهم أخذوا بطبيعياته المتعلقة بالشمس و النجوم و الكواكب ، ما خالفوا الشرع و لا العلم .
خامسا: قول هؤلاء الفلاسفة بأزلية أنواع الكائنات و حدوث أفرادها:
سبق أن ذكرنا أن الفلاسفة المشائين المسلمين قالوا بأزلية الكون و أبديته ، و عندما رأوا مولد و فناء كثير من كائناته الأرضية ، كالإنسان ، و الحيوان ؛ اخترعوا مقولة : أزلية الأنواع و فناء الأفراد . فقالوا مثلا : الإنسان فانً كفرد ، لكنه أزلي بنوعه المُتمثل في الإنسانية المتناسلة . و نفس الأمر ينطبق على الكائنات الأرضية الأخرى . . و قد عبّر ابن رشد عن مقولتهم بقوله : (( و كذلك الأمر في البحر مع ما ينصب فيه من الأنهار ،و تُصعِد منه الشمس ، و من أنه أُسطقس يظهر أيضا أنه أزلي بالنوع ، كائن فاسد بالحر على ما تبين من أمر الأسطقسات ... )) . و وصفه أيضا بأنه (( كان أبديا أزليا بالنوع ))[74].

و ذكر أيضا أن الأجسام الأرضية المتحركة حركة استقامة فهي لها (( البقاء في كليتها لا في أجزائها . فهي حافظة لصورها النوعية و فاسدة بأجزائها ... و إنما اتفق لها البقاء بالنوع و حفظ صورها عن حركة الجرم السماوي ))[75] . و كلامه هذا ينطبق على كل الكائنات الأرضية المتحركة منها الإنسان .
و أقول : قوله هذا زعم باطل ، مُخالف للشرع و العلم معا . و يتضمن أمرا خطيرا يتمثل في أن ابن رشد و أصاحبه أنكروا ما هو معروف من دين الإسلام بالضرورة فيما يتعلق بظهور الكائنات الأرضية عامة ، و الإنسان خاصة .
و تفصيل ذلك أولا إنه واضح من كلامه أنه خالف طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق كائنات الأرض مخالفة صريحة .لأن القرآن الكريم أكد على أن الأرض مخلوقة ، كما في قوله سبحانه : {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }طه4- ، و {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ }فصلت9- . و هذا يعني بالضرورة أن كل من عليها مخلوق له بداية ظهر بها ، و أن مقولتهم: أزلية الأنواع و فناء الأفراد ، باطلة ،وما هي إلا خرافة من خرافاتهم .
و الشاهد الثاني مفاده أن القرآن الكريم نص صراحة على أن كل ما في الأرض من كائنات هي مخلوقة لله تعالى ، منها البحار طبعا . قال سبحانه : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }البقرة29- ، و {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }النور45- . و هذا يعني أن كل الكائنات التي على وجه الأرض ، منها البحار و الحيوانات هي كائنات مخلوقة حادثة ،و ليست أزلية ،و لا تخضع لمقولة : أزلية الأنواع و فناء الأفراد ، التي لا وجود لها أصلا .
و ثانيا إن قوله بأن الكائنات الأرضية المتحركة أزلية بأنواعها و حادثة بأفرادها ، تعني بالضرورة أن الإنسان ، هو أيضا خاضع لهذا القانون المزعوم . بمعنى أن الإنسان ليست له بداية محددة تبدأ عند أول إنسان مخلوق ،و أنه لا أول له بحكم أزلية الكون ،و من ثم أزلية التوالد الإنساني . و هذا القول مخالف لطبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الإنسان مخالفة صريحة من جهة ،و هو هدم لدين الإسلام من جهة أخرى . لأن زعمه هذا يستلزم إنكار كل ما ذكره القرآن الكريم عن خلق آدم و ما يتصل به عندما كان في الجنة ، و عندما أنزله الله تعالى و زوجه إلى الأرض ... . فلا وجود لقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ{27} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ{29} فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{30} إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{31} قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{32} قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{33} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ{34} وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ{35}- الحجر: 27- 35- . و لا وجود لقوله سبحانه : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30- . و لا وجود لقوله سبحانه : {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة38- . فهل يُقبل شرعا و عقلا أن يصدر هذا الكلام عن مسلمين ؟؟!! ، و هل يُعقل شرعا و عقلا أن يقول هذا الكلام قوم مسلمون ؟؟!! .
و ثالثا إنه مما يُبطل تلك المقولة هو أنه من الثابت علميا أن الكائنات الأرضية ليست أزلية ، و إنما هي حادثة من جهتين : الأولى هي أن الأرض لها بدية ظهرت فيها ،و قد قدّر العلم عمرها بنحو 3000 مليون سنة على الأكثر[76] . و الثانية هي أنه من الثابت علميا أن الكائنات الأرضية ظهرت بالتدريج ، و في أزمنة متباعدة ، كان الإنسان هو آخرها في الظهور[77] . فمعنى هذا أن حكاية أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها هي من أوهام و خرافات هؤلاء الفلاسفة .
و رابعا إن تلك المقولة (أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها )) كما أنها غير صحيحة شرعا و علماً ، فإنها غير صحيحة أيضا من الناحية المنطقية المحضة . فهي مُغالطة سُفسطائية ، قال بها هؤلاء الفلاسفة تأييدا لقولهم بأزلية العلم ، و إلا فإن تصوّرها يكفي لإبطالها . و مفاده أنه لا يُوجد في الواقع كائن كلي يُمثل نوعا من الأنواع كالإنسانية مثلا ، و إنما الموجود في الواقع هو الوجود الفردي فقط ، كالإنسان مثلا . و بما أن الأمر كذلك فهذا يعني أن مولد الأفراد و موتهم يستلزم حتما مولد كل أفراد النوع و موتهم ، و لا يخلد واحد منه من جهة ، و هذا يعني أن لنوع الإنسان بداية بالضرورة من جهة أخرى . و بما أن الكائنات الأرضية يقوم وجودها على الافتقار إلي بعضها بالضرورة ، فهذا يعني أن ظهورها كان مرحليا تدريجيا ، و أنها مخلوقة لها بداية تدريجية ظهرت فيها . و مثال ذلك أنه لا يُمكن أن توجد البحار قبل وجود الأرض . و لا يُمكن أن تُوجد النباتات دون وجود الأرض ، و الهواء ،و الأمطار . و لا يُمكن أن يُوجد الإنسان دون وجود الأرض ، و الهواء ،و الأمطار ،و الحيوانات .
لكن الغريب من أمر هؤلاء الفلاسفة ، أنهم كيف سمحوا لأنفسهم و أفكارهم بأن توصلهم إلى القول بمقولة : أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها . مع أنها تتناقض مع دين الإسلام جملة و تفصيلا ، و القول بها يُؤدي إلى هدمه كلية ؟؟!! .
و خامسا أُشير هنا إلى أنه إذا كان ابن رشد قد عبّر عن موقف أخوانه الفلاسفة المشائين من ظهور الكائنات على وجه الأرض بمقولته السابقة ؛ فإن الفارابي قد عبّر عن موقفهم أيضا عن السبب في وجود النفوس الأرضية . فقال: إن العقل الأخير من العقول- العقل الفعال- هو سبب وجود الأنفس الأرضية ، منها النفس الناطقة- النفس الإنسانية-[78].
و أقول : هذا كلام بلا علم ، و رجم بالغيب ، و هو مخالف لطبيعيات القرآن المتعلقة بخلق الكائنات بنفوسها و أجسادها من جهة . و هو قول بوجود إله شريك مع الله تعالى تولى إيجاد النفوس الأرضية من جهة أخرى . و لا شك أن زعمه هذا باطل جملة و تفصيلا ، لأن الله تعالى نصّ في آيات كثيرة جدا من القرآن الكريم أنه سبحانه لا إله إلا هو ، و أنه لا خالق إلا هو ، و أنه لا شريك معه في ذاته ، و لا في صفاته ، و لا في مخلوقاته ،و أنه سبحانه هو خالق كل شيء . كقوله سبحانه : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }غافر62-، و{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ }الدخان8-، و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }فاطر3- ،و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4}- الإخلاص:1-4- .
ثم بعد ذلك يأتي هذا الضال – و أصحابه- و يزعم أن العقل الفعال هو الذي أوجد النفوس الأرضية ، من دون ان يذكر أي دليل صحيح من العقل ، و لا من الشرع ، و لا من العلم !!!! . فمن أين جاء بهذه الخرافة ؟؟!! . و لماذا سمح لنفسه أن يتكلم في أمر لا يُمكنه معرفته بذاته ،و لا بصفاته و لا بآثاره ؟! . و لماذا قدّم ظنونه و أوهامه و خرافاته على ما قرره الشرع و جعله من أساسيات الدين ؟؟!! . و لماذا ... ، و لماذا ... ؟؟ !! .
و أخيرا – سادسا- إن قولهم –الفارابي و أصحابه- بأزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها من جهة ،و قولهم بأن العقل الفعال هو السبب في إيجاد الكائنات الأرضية من جهة أخرى. فهو قول – كما أنه لم يصح مضمونا – فإنه يحمل تناقضا صارخا . و مفاده أنه إذا كانت أنواع الكائنات الأرضية أزلية ، فهذا يعني أنها لا تحتاج إلى تدخل العقل الفعال ليُوجدها ، لأنها أزلية الوجود . و إذا كان العقل الفعال هو السبب في وجودها ، فهذا يعني أنها مخلوقة لها بداية و ليست أزلية ، و أن مقولة: أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها ، غير صحيحة ،و لا وجود لها ،و لا يصح القول بها أصلا !!! .
و يتبين مما ذكرناه أن مقولة هؤلاء : أزلية الأنواع حدوث أفرادها و فنائها . هي مقولة مخالفة للشرع الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح . و ما هي إلا وهم و خرافة أوصلهم إلى القول بها قولهم بأزلية الكون ، فاخترعوها ليُفسروا بها ظاهرة حدوث الكائنات الأرضية.
سادسا: مخالفات تتعلق بظواهر طبيعية متنوعة :
نُخصص هذا المبحث لطائفة من الظواهر الطبيعية الأرضية اتخذ منها بعض الفلاسفة المسلمين مواقف تندرج ضمن الطبيعيات المشائية السائدة في زمانهم من جهة ؛ و قد أخطؤوا في معظمها ،و خالفوا بها الشرع و العلم من جهة أخرى . و سنذكر منها سبعة نماذج متنوعة تشمل عدة مواضيع من الطبيعيات .

أولها يتعلق بسبب تعاقب الليل و النهار ، و مفاده أن الطبيب المتفلسف أبا بكر الرازي ( ت 311 هجرية ) : ذكر أن سبب غروب الشمس و طلوعها ليس هو حركة الأرض ،و إنما هو حركة الفلك . و قد صنف في ذلك رسالة في (( أن غروب الشمس وسائر الكواكب عنا وطلوعها علينا ليس من أجل حركة الأرض بل من حركة الفلك ))[79] .

و أقول : أخطأ الرجل في تفسيره لظاهرة غروب الشمس و الكواكب و ظهورها من جديد . فقد جانب الصواب شرعا و علما ، فأما شرعا فلو تدبر طبيعيات القرآن المتعلقة بالأرض لوجد فيها إشارات تدل على أن الأرض تتحرك ،و ينتج عنها تعاقب الليل و النهار ، فينتفع بها ،و لا يُخالفها ،و لا يقع في الخطأ . منها قوله سبحانه : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }النمل88- ،و {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- ، و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5 .

و أما من الناحية العلمية فمن الثابت أن الأرض لها حركتان : الأولى حول نفسها تتمها في ظرف 24 ساعة ،و الثانية حول الشمس تتمها في مدة 12 شهرا . و ينتج عن حركتها حول نفسها تعاقب الليل و النهار[80] .
و النموذج الثاني يتعلق بالجبال ،و مفاده أن أبا علي بن سينا عقد فصلا لمنافع الجبال من كتابه الطبيعيات[81] ، فأشار إلى أنها كثيرة ،و ذكر طائفة منها[82] . لكنه أهمل طبيعيات الجبال المذكورة في القرآن الكريم ، إهمالا تاما ، فلم يذكرها و لا انتفع بها . فحرم نفسه من لانتفاع بها ، و إثراء موضوعه بها . علماً بأن القرآن الكريم قد تكلم كثيرا عن الجبال : تكونا و فائدة ، و ذكرها نحو 29 مرة ، حاملة دلالات متعددة و عميقة ، منها أنها أوتاد الأرض ،و الرواسي الثابتة ، و تضمن بعض تلك الآيات إشارات إعجازية رائعة[83] . و قد كتب بعض العلماء المختصين في الجيولوجيا و الإعجاز العلمي أبحاثا حول الجبال في القرآن الكريم[84] .
فمن تلك الآيات قوله تعالى : {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }النحل15- ،و {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }فاطر27- ، و {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً }النبأ7- ،و {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }النمل88- . فلماذا أهمل ابن سينا هذه الآيات و أغفلها، و هي في متناوله ،و تتعلق بموضوعه ، و سينتفع بها و لن يخسر شيئا لو رجع إليها و وظفها في بحثه ؟؟!!. فلماذا أهمل هذا الكنز العظيم ، و صرب عنه صفحا ؟! ، فلو اهتم به و أفرده بالتأليف لاستفاد و أفاد ،و لفتح به أفاقا للعلم ،و لربما ساعده على اكتشاف أمور جديدة .
و النموذج الثالث يتعلق بالأمطار و مفاده أن أبا علي بن سينا : أفرد فصلا للأمطار في كتابه الطبيعيات من جهة تكوّنها و العوامل المؤثرة في سقوطها[85] . لكنه أهمل تماما طبيعيات الأمطار المذكورة في القرآن الكريم ، فلا أشار إليها و لا اهتم بها ، و لا وظفها ، مع أن القرآن قد تكلم كثيرا عن الأمطار من عدة جوانب ،و تضمن إشارات إعجازية رائعة تتعلق بالأمطار[86] .

من ذلك أن القرآن الكريم أشار إلى دور الرياح في تلقيح السحاب لينضج و يتحول إلى مطر ، في قوله سبحانه : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }النور43- ، و {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }الحجر22- .

و أشار إلى المطر التضاريسي الذي يسقط بسبب الجبال العالية ، في قوله سبحانه : {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً }المرسلات27- ٢٧ .

و أشار أيضا إلى نزول البَرَد من جبال السحب المتراكمة في السماء ، في قوله سبحانه : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }النور43- . و هذه الجبال هي جبال حقيقية مُكونة من السحاب يراها راكب الطائرة في طبقات الجو العالية ،و شكلها رائع جدا يأخذ بالألباب .

فواضح من تلك الآيات- و غيرها – أن ابن سينا حرم نفسه من الاستفادة منها ، فلو رجع إليها و وظفها لكان عملا هاما جدا . فيُفيد العلم إثراء و تطويرا ، و ينقد بها أراء كثيرة ،و قد يبني عليها أراء و اجتهادات جديدة تساعده في اكتشاف أشياء جديدة . لكن للأسف ، إنه أهمل الآيات المتعلقة بالأمطار ، و ضرب عنها صفحا . مع أن كلا من العلم و الشرع يُطالبانه بالرجوع إليها ، كما يرجع إلى أراء و مصنفات أهل العلم المتعلقة بالطبيعيات. فلماذا لم يرجع إليها ؟! .

و أُشير هنا إلى أن هؤلاء الفلاسفة كانوا يجمعون بين إهمال القرآن و مخالفته في كل النماذج التي سبق ذكرها في هذا الكتاب . لكن في النموذجين الأخيرين- المتعلقين بالجبال و الأمطار- وجدنا ابن سينا لم يخالف القرآن ، لكنه أهمله و لم يُشر إليه أصلا ، ففاته علم كثير !! .

و النموذج الرابع يتعلق بمصدر العيون و الينابيع ، و مفاده أن أبا علي بن سينا ذكر أن الأبخرة الموجودة على سطح الأرض إذا احتبست في الأرض ،و لم تتحلل تفجّرت عيونا[87] .
و أقول: أخطأ ابن سينا في تفسيره لظاهرة تكوّن العيون و الينابيع ،و خالف القرآن و العلم معا . فأما شرعا فلو رجع ابن سينا إلى القرآن الكريم و تدبره ، و أخذ بما ذكره عن تكوّن الينابيع لما أخطأ في مصدرها و طريقة تكوّنها . قال سبحانه و تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ }الزمر21-. و هذا الماء النازل من السماء يشمل كل أنواع التساقط من مطر ،و بَرد، و ثلج . و الماء الذي يتسرب في الأرض هو الذي تتكون منه الينابيع . و قد أمرنا الله تعالى بأن ننظر إلى فعله سبحانه في تكوينه للينابيع ،و ما يترتب عنها من آثار على سطح الأرض . لكن ابن سينا أبى أن يسمع لهذا الأمر ، فلو سمعه و طبقه و نظر فيه بفهم و تدبر ما أخطأ فيما قال به . إنه مُصر على موقفه المُهمل و المُغفل و المُخالف لطبيعيات القرآن الكريم !!. فلماذا الإصرار على ذلك ؟!! .
و أما من الناحية العلمية ، فقد ثبت علميا أن مصدر الينابيع هو مياه الأمطار و الثلوج التي تتسرب إلى باطن الأرض ، فترشح (( خلال مسام وشقوق التربة، ثم منها إلى الطبقات الصخرية،ويصل الماء في النهاية إلى طبقة لا يستطيع المرور منها. ويسمى هذا الماء المحتجز تحتالأرضالمياه الجوفية . وربما تتسبب الجاذبية الأرضية في دفع الماء إلى أعلى حتى يجد منفذًا إلى السطحمكونًا ينبوعًا (([88] .
و النموذج الخامس يتعلق بالجنين : تكوّنا و نوعاً ، و يتضمن ثلاثة أمثلة من مواقف بعض هؤلاء الفلاسفة المتعلقة بالجنين . الأول مفاده أن ابن سينا : عندما تكلم عن تكوّن الجنين أشار إلى قول أرسطو بأن الرجل يُشارك بالمني في تكوين الجنين و المرأة تشارك بدم الطمث في تكوينه ، و أشار إلى بعض اللذين خالفوه من جهة المرأة ، فذكر منهم الطبيب جالينوس ، الذي قال بأن للمرأة مني تشارك به كالرجل . فخالفه ابن سينا بكلام غير صحيح منتصرا لشيخه أرسطو . ثم علّق على ذلك بقوله : (( و نبين فيه أن ليس للمرأة بالحقيقة مني، وأن مادة المرأة التي تسمى منيا ليس فيها قوة مولدة، بل متولدة ))، ثم تكلم عن السبب في نوع الجنين فقال : (( إن السبب في التذكير هو استيلاء المزاج الذكورى الحار وأسباب ذلك الاستيلاء أما في المادة الرجلية واما في المادة الأنوثية، و أما في مكان الجنين.
والذي في المادة الرجلية وهو الذي في المنى، فأن يكون حارا قهارا، فإنه إذا كان حار المزاج كان الولد ذكرا لما يفيده المنى من الحرارة.
وإذا كان المنى العالق هو الذي أتى من جهة البيضة[89] اليمنى فهو أولى بذلك، لأن اليمنى بالجملة أسخن، والدم الذي يأتيها أنضج، وهو إلى المبدأ أقرب، لأنه يأتي من عرق تحت الكلية من حيث تتصفي عنه المائية كما يعلم ذلك من التشريح.
ولما كان المنى يندفق اندفاقا بعد اندفاق، فليس بمستنكر أن يكون بعضه يمينيا وبعضه شماليا، وبعضه عالقا نافذا، وبعضه ضالا لا ينفذ إلى المعدن.
ولذلك ما قد يكون المنى الآتي من اليسرى مؤنثا لبرد ذلك الموضع ))[90].

و أما أبو الوليد بن رشد الحفيد فيرى على أن مَني الرجل وحده هو السبب الأساسي الفاعل في تكوّن الجنين ، موافقا لأرسطو و منتصرا لرأيه[91] .
و أقول : إنهما أخطآ فيما قالاه عن تكوّن نوع الجنين من جهة ، و خالفا القرآن و العلم معا من جهة أخرى . فمن الناحية الشرعية أولا فلو أنهما عادا إلى القرآن الكريم و تدبرا في الآيات المتعلقة بالجنين تدبراً صحيحا لوجدا فيها ما يُشير إلى خطأ الرأي الذي تبنياه ،و لدلتهما على الصواب . لكنه و للأسف فالرجلان قد اتخذا موقفا إقصائياً من طبيعيات القرآن الكريم ، فأوقعهما ا في أخطاء و مخالفات شرعية كثيرة ، دفعا ثمنها غاليا . فأخطآ فيما قالا به ،و خالفا كتاب الله تعالى من جهة ، و انتصرا بالباطل لرأيهما و موقف شيخهما أرسطو من جهة أخرى .
ففيما يخص دور المرأة في تكوّن الجنين فقد أشار القرآن الكريم إلى أن كلا من الرجل و المرأة له نُطاف يُساهم به في تكوّن الجنين ، فيُكوّن الاثنان نطفة مُختلطة. و هذا يُمكن استنتاجه من قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }الإنسان2-. و النطفة الأمشاج هي النطفة المختلطة المُمتزجة ، كما هو معروف في كتب التفسير [92] .
و مما يُؤكد ذلك و يُوضحه أكثر ، أنه قد صح الحديث عن نبينا محمد – عليه الصلاة و السلام أنه قال : ((ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثى بإذن الله ...))[93] . فالحديث نصّ صراحة على أن كلا من المرأة يُساهم في نوع الجنين من حيث الذكورة و الأنوثة ،و ماء المرأة هذا ليس هو دم الطمث ، لأنه أصفر اللون ،و دم الطمث أحمر كما هو معروف .
و أما فيما يتعلق بنوع الجنين فتوجد في القرآن الكريم آية كريمة من تدبرها جيدا فيجد فيها إشارة رائعة إلى أن الرجل هو المسئول الأول عن نوع الجنين ، و هي قوله سبحانه : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } النجم: ٤٥ - ٤٦ . فالذكورة و الأنوثة سببها النطفة التي تُمنى و هي نطفة مني الرجل ، و الله أعلم .
و ثانيا إنه ثبُت عليما أن المرأة تشارك مشاركة أساسية في تكّون الجنين ، فللرجل ماء يحمل الحيوانات المنوية ،و للمرأة ماء يحمل البويضات . و يحدث التلقيح عندما يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة و يخترقها ، و لا دخل لدم الطمث أبدا في حدوث الحمل . بل الثابت علميا أن نزول دم الطمث هو دليل على عدم حدوث الحمل ،و ليس العكس . و هذا أمر معروف لا يحتاج إلى توثيق .
و أما فيما يخص نوع الجنين فقد ثبُت علميا أيضا أن الرجل هو المسئول الأول عنه ، و لا دخل في ذلك لجهة الحر و لا البرد ،و لا يمين الخصية و لا يسارها . و تفصيل ذلك هو أن الحيوان المنوي للرجل يحتوي بداخله على الصبغي : x ،أو y، . لكن بويضة المرأة تحتوي على الصبغي : x فقط . فإذا اتحد عند الإخصاب : yx فالجنين ذكر ،و إذا اتحد : xx فالجنين أنثى[94] .
و المثال الثاني مفاده أن أبا نصر الفارابي نص على أن أول ما يتكون من أعضاء الجنين هو القلب ، ثم الدماغ ، ثم الكبد ، ثم الطحال ، ثم تتبعها سائر الأعضاء[95] .
و ذكر ابن سينا- في الطبيعيات من كتابه الشفاء- أن أول ما يتكون من الجنين هو جوهر الروح و وعاؤه ، و هذا الجوهر (( مركب من القوى النفسانية، فانه يجب أن يكون أول متكون هو الشيء الذي يجتمع فيه أمران: السهولة والحاجة، وتكوّن الروح أسهل من تكوّن العضو، والحاجة إلى نمو الروح لانبعاث القوة و اشتدادها أمس من الحاج إلى تكوّن الأعضاء؛ أعنى التامة ...)) ، و (( حركة هذه الروح من مبدأ، فيكون لا محالة المبدأ لها هو لقلب )) [96] .
و أشار إلى تحولات المني فقال : ((فأول الأحوال زبدية المنى، وهو من فعل القوة المصورة.
والحال الأخرى ظهور النقطة الدموية في الصفاق، وامتدادها في الصفاق امتدادا ما.
وثالث الأحوال استحالة المنى إلى العلقة، وبعدها استحالته إلى المضغة، وبعدها استحالته إلى تكون القلب والأعضاء الأولى وأوعيتها، وبعدها تكون الأطراف .
ولكل استحالة أو استحالتين معا مدة موقوف عليها ))[97] .

و أقول: أولا إنهما ذكرا بعض مراحل تكوّن الجنين ، لكنهما لم يذكرا أن القرآن الكريم أشار إليها و إلى غيرها . فكان عليهما أن يُشيرا إلى ذلك خاصة و أن ابن سينا استخدم نفس مصطلحات طبيعيات الجنين القرآنية ، كالعلقة و المضغة . فأهملا الإشارة إلى ذلك ، و حرما نفسيهما من الانتفاع الكامل و الصحيح مما ذكره القرآن عن طبيعيات الجنين من جهة ،و أخطآ في جانب مما ذهبا إليه ،و خالفا به القرآن العلم من جهة أخرى . علما بأن القرآن الكريم حدد مراحل نمو الجنين بدقة تضمنت إشارات إعجازية مُذهلة ، تكشفت في عصرنا هذا بجلاء . منها قوله سبحانه : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }المؤمنون14- ، و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }الحج5.
و ثانيا لم يذكر ابن سينا أي دليل صحيح يُثبت بأن الروح و وعاءه هما أول ما يتكون من الجنين . و الصحيح شرعا و علما خلاف ذلك . فأما شرعا فإن المتدبر في الآيات السابقة يتبين له أن الروح و القلب ليسا هما أول ما يتكون من أعضاء الجنين . فقبل أن تنفخ فيه الروح يكون علقة ، ثم مضغة ، ثم تظهر العظام و اللحم . ثم بعدها تُنفخ الروح لقوله سبحانه ((ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) . كما أنه صح قد الحديث النبوي ،و اتفق علماء الشريعة على أن نفخ الروح يكون بعد أربعة أشهر من تكوّن الجنين[98] .
و أما من الناحية العلمية فقد بينت الأبحاث الحديثة ، أن أجنة الحيوانات تكون مُتشابهة في مراحل تكوينها الأولي ، مما يُشير إلى أن الروح لم تُنفخ بعد ، ثم تتغير تدريجيا حسب نوعها و جنسها . و تبين من جهة أخرى أن بداية تكوّن أعضاء الجنين ليست كما ذكرها ابن سينا ،و إنما هي تبدأ في الظهور بوضوح في اليوم الثامن و العشرين من الحمل ، فيبدأ العمود الفقري و المعدة في التشكل ، و تظهر براعم الذراع و الساق . و يتم تشكل أعضائه الرئيسة في اليوم التاسع و الخمسين من الحمل. و أما عملية تكوّن أعضاء الجنين الداخلية و الخارجية فهي كلها تتم في وقت واحد [99].
و المثال الأخير- الثالث - يتعلق بغذاء الجنين في بطن أمه ، و مفاده أن ابن سينا جعل قسما من دم الطمث غذاءً للجنين ، فقال : (( اعلم أن دم الطمث ينقسم ثلاثة أقسام: قسم ينصرف في الغذاء، وقسم يصعد إلى الثدي ، وقسم هو فضل يتوقف إلى وقت النفاس فينتفض )) . و (( والحامل لا تطمث إلا في الندرة، لأن الطمث يتصرف إلى غذاء الجنين، فان طمثت أضعفت الولد ))[100] .
و أقول : أولا قبل انتقاده و التعليق عليه يجب تحديد معنى دم الطمث عنده . يتبين من قوله السابق أن معنى دم الطمث واسع ، و دم الدورة الشهرية عند المرأة - الذي هو دم الحيض - هو نوع من دم الطمث أيضا بدليل قوله : (( والحامل لا تطمث إلا في الندرة، لأن الطمث يتصرف إلى غذاء الجنين، فان طمثت أضعفت الولد ) . و بدليل الشواهد الآتية أيضا : منها أنه وصف دورة الحيض بالطمث في قوله : ((وقد تطمث الرماك طمثا يسيرا في مدد متقاربة ما بين شهرين وأربعة أشهر، وربما تمادى تأخره إلى ستة أشهر )) . و منها قوله: (( والبغلة لا تطمث البتة ... و الكلبة تطمث في كل أسبوع )). و (( والنساء يدركن بالطمث، وحينئذ تظهر أثداؤهن ))، و (( والطمث في أول الأمر دم كدم الذبيح )) . و (( وربما طمثت المرأة بعد ثلاثين ))[101]. فواضح من هذه الأقوال أن دم الحيض هو نفسه دم الطمث ،و إن تنوعت مهامه حسب ما ذكره ابن سينا .
و ثانيا إنه بناء على ذلك فإن ابن سينا قد أخطأ خطأ فاحشا فيما قاله عن دم الطمث ،و هو قول يُثير التقزز و الاشمئزاز . لأن دم الطمث ليس غذاء للجنين ،و لا هو يصعد إلى الثديين ، و لا الدم عامة هو غذاء الجنين . لأنه من الثابت علميا أن الدم ليس هو الغذاء ،و إنما هو يحمل الغذاء و الهواء إلى كل أجزاء الجسم من جهة ،و يحميه و يُنقيه و يُثبت درجة حرارته من جهة أخرى[102] . و دم الطمث ليس دما نقيا ، و إنما هو دم فاسد طرحه الرحم ليتخلص منه عندما لم يحدث الحمل . فهو دم مملوء بالجراثيم و البقايا التي كونت بطانة الرحم لاستقبال الجنين ، فلما لم يحدث الحمل تخلّص منه الرحم[103] . فهذا هو دم الطمث ، و الرجل لم يتكلم بعلم و برهان ،و إنما تكلم بظن و خلفية مذهبية أرسطية .
و ثالثا إن الذي يهمنا هنا أكثر هو أن ابن سينا لو رجع إلى ما ذكره القرآن الكريم حول دم الحيض- الطمث – و تدبّره و تفحّصه جيدا ،و استخدم القياس الصحيح ،لانتفع به ،و جنب نفسه الخطأ ،و لتبين له خطأ موقفه و من وافقه عليه . و تفصيل ذلك هو أن الله تعالى قال في كتابه الحكيم : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }البقرة222- . فواضح من الآية أن دم الحيض – الطمث- أذى ، فهو فاسد مُؤذي و يجب تجنبه،و على الرجل أن لا يُجامع زوجته حتى تطهر و تتطهر . و دم هذا حاله لا يُمكن أن يكون غذاء للجنين ، و لا حليبا للمولود كما زعم ابن سينا !! . لكن الرجل أهمل ما ذكره القرآن ، و أغفله ، و لم ينتفع به فلماذا فعل هذا ؟؟!! .
و النموذج السادس يتعلق بإحساس الجلد ، و مفاده أن ابن سينا نقل قول أرسطو حول إحساس الجلد ، ثم عقّب عليه ،و أهمل ما ذكره القرآن حول إحساس الجلد !! . فذكر أن أرسطو قال : (( قال: والجلد لا حس له إلا أن يكون لحما، وخاصة جلد الرأس لا حس له البتة)) ثم عقّب عليه بقوله: (( والحق أن الجلد إذا خالطه اللحم والعصب كان حساسا، ويشبه أن لا يكون سطحه الظاهر حساسا، لأنه عرى عن العصب ))[104] .
و أقول: أخطأ أرسطو و ابن سينا عندما نفيا أن يكون للجلد وحده إحساس . و أخطأ ابن سينا عندما نفى أن يكون لسطح الجلد إحساس و عصب . لأن الثابت علميا أن الأعصاب بشعيراتها الكثيرة و الدقيقة تغطي كل جسم الإنسان و أطرافها تنتهي عند الجلد بما فيها جلد الرأس الذي أكد أرسطو أنه لا إحساس له , بتلك الشبكة من الأعصاب يحس الإنسان بكل جلده الذي يغطي كامل جسمه[105] .
و ثانيا إن الذي يهمنا هنا هو أن ابن سينا أهمل و أغفل ما ذكره القرآن الكريم حول إحساس الجلد ، و خالفه في جانب مما أكد عليه . قال سبحانه و تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }النساء56- . فواضح من هذا أن ما ذكره القرآن الكريم عن إحساس الجلد يتضمن إشارة إعجازية رائعة من جهة ،و مُخالفة صريحة لجانب أساسي لما ذكره ابن سينا من جهة أخرى ! . فلماذا ذكر موقف أرسطو ، و موقفه هو ، و أغفل ما ذكره القرآن الكريم ،و لا أخذ به ؟! .
و النموذج الأخير- السابع - يتعلق بمصدر تكوّن اللبَن ، و مفاده أن ابن سينا قال عن تكوّن اللبن : (( و أما اللبن فهو فضل من الدم الذي في الروق، و له مائية و جبنية و دسومة ))[106].

و أقول : أولا إن الرجل جانب الصواب في قوله هذا ، لأن اللبن- أو الحليب- ليس دما و لا فضلة منه ،و إن كان طرفا في تكوّنه، و هذا ثابت علميا ،و مكوناته تختلف عن مكونات الدم طبعا . و تفصيل ذلك أنه عندما تقدم (( علم التشريح والأجهزة المكبرة في الآونة الأخيرة ، تتبع العلماء سير الطعام في الأنعام و بحثوا عن كيفية تكون اللبن فوجدوا أن الإنزيمات الهاضمة ، تحوّل الطعام إلى فرث يسير في الأمعاء الدقيقة، حيث تمتص العروق الدموية (الخملات) المواد الغذائية الذائبة من بين ذلك الفرث فيسري الغذاء في الدم، حتى يصل إلى الغدد اللبنية ؛ وهناك تمتص الغدد اللبنية المواد اللبنية (التي سيكون منها اللبن) من بين الدم فيتكون اللبن الذي أخرج من بين فرث أولاً، ومن بين دم ثانياً ))[107] .

و الغدد الثديية هي التي تفرز مكونات اللبن . و تتغذى هذه الغدد ،إذا جاز القول ، بمُنتجات هضم الأغذية التي تأتي إليها بواسطة الدم الدائر . الدم إذا يلعب دور المُحصل و الناقل للمواد المُستخرجة من الأغذية و مُغذي الغدد الثديية مُنتجة اللبن ، مثلما يُغذي أي عضو آخر ))[108] .

و ثانيا إن ابن سينا أهمل ما ذكره القرآن الكريم حول اللبن من جهة مصدر تكوينه و صفاته ، فقال سبحانه : {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }النحل66- ، و {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }المؤمنون21- . فواضح من ذلك أن القرآن الكريم حدد بدقة مصدر تكوّن اللبن من بين الفرث و الدم ، و هذه إشارة إعجازية مُذهلة جعلت الطبيب الفرنسي موريس بوكاي يقول : (( هذه المعلومة المُحددة تُعد اليوم من مُكتسبات الكيمياء و فسيولوجيا الهضم . و كانت غير معروفة مُطلقا في عصر النبي محمد – صلى الله عليه و سلم - . إن معرفتها ترجع إلى العصر الحديث . أما اكتشاف الدورة الدموية فهو من عمل هارفي ،و قد تم هذا الاكتشاف بعد عشرة قرون تقريبا من تنزيل القرآن . إني اعتقد أن وجود الآية القرآنية التي تُشير إلى تلك المعلومات لا يُمكن تفسيره وضعيا،و ذلك بالنظر إلى بعد العصر الذي صيغت فيه هذه المعلومات ))[109] .
فواضح من ذلك أن ابن سينا أهمل ما ذكره القرآن و أغفله و خالفه ، و ما كان له أن يفعل ذلك ، فأخطأ في موقفه الذي تبناه ، و حرَم نفسه من الاستفادة مما ذكره القرآن ، و لم يُجنبها الوقوع في الخطأ . فلماذا فعل ذلك ؟! .
و إنهاءً لهذا المبحث يُستنتج منه أن هؤلاء الفلاسفة – الذين ذكرناهم – كانت لهم آراء و مواقف تتعلق بظواهر طبيعة متنوعة ذكرنا منها سبعة نماذج مُتفرقة ؛ تبين منها أنهم أهملوا طبيعيات القرآن المتعلقة بها من جهة. و أخطؤوا في مواقفهم منها ، و خالفوا بها القرآن و العلم من جهة أخرى .
سابعا : خلود النفس :
نُفرد هذا المبحث- الأخير من الفصل الأول- لموقف الفلاسفة المشائين المسلمين من خلود النفس الإنسانية ، انطلاقا من فلسفتهم من جهة ، و مقارنة بأحوال النفس في القرآن الكريم ،و مدى موافقتهم أو مخالفتهم له من جهة أخرى . و قد جعلتُ هذا المبحث ختاما لهذا الفصل لاعتبارين : الأول هو أن هذا الموضوع له علاقة بما سبق أن ذكرناه عن قول هؤلاء الفلاسفة بأزلية الأنواع و حدوث أفرادها و فنائها . و الثاني هو أني أردتُ أن ألفت نظر القراء إلى أن هؤلاء الفلاسفة كما أنهم خالفوا طبيعيات القرآن الكريم في أصولها و فروعها ، فإنهم أيضا قد خالفوا إلهيات القرآن في أصولها و جزئياتها . ثم بعدها يتساءلون : ماذا بقي لهؤلاء من الإسلام الذي انتسبوا إليه ؟؟!! . و قد اخترتُ منها موضوع خلود النفس كنموذج لذلك من باب التمثيل لا الحصر . و سنورد مواقف هؤلاء الفلاسفة حسب الترتيب الآتي :
أولهم يعقوب الكندي ، تأثر كثيرا بآراء أفلاطون و أرسطو المتعلقة بالنفس: طبيعة و مصيرا[110] ، و بها خالف ما قرره القرآن الكريم مخالفة صريحة . فمن ذلك أنه نصّ على أن النفس جوهرها جوهر من البارئ عز وجل ، كقياس ضياء الشمس من الشمس ،و أنها جوهر إلهي روحاني[111] .

و زعم أن النفس إذا ماتت و فارقت البدن (( علمت كل ما في العالم ، و لم يخف عنها خافية )) . بدليل ما قاله أفلاطون من أن كثيرا من الفلاسفة المتطهرين الذين تركوا شهوات الدنيا ،و تفرغوا للتأمل و البحث في حقائق الأشياء ، انكشف (( لهم علم الغيب ،و علموا بما يُخفيه الناس في نفوسهم ،و اطلعوا على سرائر الخلق )). و هو قد ذكر قول أفلاطون و غيره من دون معارضة ،و إنما قرره و وافق عليه، و مدحه و أثنى عليه [112].

و قال عن النفس أيضا : (( وإذا تجردت وفارقت هذا البدن وصارت في عالم العقل فوق الفلك، صارت في نور الباري، ورأت الباري عز وجل، وطابقت نوره، وجلّت في ملكوته، فانكشفت لها علم كل شيء، وصارت الأشياء كلها بارزة لها، كمثل ما هي بارزة للباري عز وجل؛ لأنا إذا كنا، ونحن في هذا العالم الدنس، قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس، فكيف إذا تجردت نفوسنا، وصارت مطابقة لعالم الديمومية، وصارت تنظر بنور الباري ! فهي لا محالة ترى بنور الباري كل ظاهر وخفي، وتقف على كل سر وعلانية ))[113] .
ثم ذكر قول أفلاطون عن خلود النفس ، و مفاده أن النفس التي تكون في غاية النقاء عندما تموت تلتحق بالعالم الشريف . و التي فيها دنس و خبث تبقى مدة في كل فلك من الأفلاك ابتداء من فلك القمر ، فتتهذب و تتنقى ، و ترتفع من فلك إلى آخر إلى أن تتنقى تماما و تصبح في غاية النقاء ، فترتفع إلى عالم العقل ، و تُطابق نور الباري ، وهناك تصبح تعلم كل شيء ، و يُفوض لها أشياء من سياسة العالم تلتذ بفعلها و التدبير لها . فهو هنا ذكر قول أفلاطون ، من دون انتقاد و لا اعتراض ،و لا إشارة للشرع . بل إنه علّق على كلامه بالمدح و الموافقة و التبجيل بقوله : (( و لعمري لقد وصف أفلاطون ،و أوجز و جمع في هذا الاختصار معاني كثيرة ))[114] .
و رداً عليه أقول: أولا إنه تكلم بلا علم ،و لم يذكر دليلا صحيحا على كل ما قاله ،و خاض في موضوع لا يُمكنه أن يبت فيه بدليل صحيح إثباتا و لا نفيا . فلم يلتزم بمنطق الاستدلال العلمي ،و تجاوزه بظنونه و أهوائه ، و خرج من إطار العلم و تكلم من دونه . و من جهة أخرى أُشير هنا إلى أن موضوع خلود النفس لا يمكن لأي إنسان أن يتكلم فيه بحق و يقين إلا من تكلّم فيه بالوحي الصحيح . و هذا الرجل أغفل الوحي تماما و اعتمد على أوهام و ظنون و خرافات أفلاطون و أرسطو من جهة ، و قال صراحة بما ما يُخالف الوحي من جهة أخرى !! .
و من مخالفاته الصريحة للشرع أنه وصف النفس بأنها جوهر إلهي ، و هذا وصف لا يصح شرعا لأمرين : الأول انه لا يُوجد نص قرآني ،و لا حديثي صحيح وصف النفس بذلك الوصف ، و إنما وصفها بأنها مخلوقة لله تعالى . و الثاني هو أن النفس هي من مخلوقات الله ، و كل ما عدا الله تعالى فهو مخلوق و ليس أزليا ،و لا هو من جوهر إلهي ، و إنما هو من صنع الله و فعله و مخلوقاته . و هذا أمر نصّ عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة جدا ، كقوله سبحانه : {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11- ، و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4} -الإخلاص: ٤-،و{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1- ، و {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ }الزخرف15- .

و منها أنه لا يصح التمثيل الذي ضربه بين الله و النفس و بين الشمس و ضيائها ، لأن العلاقة تختلف ، فهي بين الله و النفس و مخلوقاته الأخرى هي علاقة مخلوق بخالق ، و مفعول بفاعل ، وأما مثاله الذي ذكره فعلاقته هي علاقة مخلوق بمخلوق ،و جزء من كل ، و نتيجة عن مقدمة .

و منها أيضا زعمه بأن النفس حين تموت تعلم كل ما في العالم ،و يُمكنها أن تعلم سرائر الخلق في الدنيا . و هذا زعم باطل ،و كلام بلا علم ، لأن الله تعالى أخبرنا أنه يمسك النفس التي تموت ،و أنه لا أحد من البشر يعلم الغيب ،و وصفهم بعدم علمهم له وصفا مُطلقا و لم يُعلقه بالدنيا ،و لا بالآخرة ، فهو نفي عام يشمل عدم علمهم له مُطلقا في الدنيا و الآخرة معا . قال سبحانه : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42- ، و {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }النحل74- ، و {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }لقمان34- ، و {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }الأعراف188- ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216- ، و {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }النمل65- .

و منها انه قال : إن النفس حين تفارق البدن ترى الله ،و تصبح ترى بنوره ، و هذا قول مخالف للشرع ، لأنه كلام عام غير مُخصص . و الثابت شرعا أن ذلك لن يفوز به إلا المسلمون الأتقياء بعد المعاد الأخروي ،و لا يحصل ذلك لكل نفس تموت ،و لا مباشرة بعد موتها كما زعم الرجل . قال سبحانه : (({كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }المطففين15- ، {21} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{23}- القيامة: 21- 23- . و قد صح الحديث عن النبي –عليه الصلاة و السلام – أن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة[115] .

و ثانيا إن الكندي احتج بكلام لأفلاطون في أمر غيبي من جهة ،و بقول لغيره يتعلق بعالم الدنيا لا يصلح الاعتماد عليه فيما يتعلق بحياة ما بعد الموت من جهة أخرى . فهو ليس إلهَاً و لا نبيا لكي يصح الاحتجاج بقوله . فهو كغيره من أهل العلم يجتهدون بوسائلهم و قدراتهم البشرية محاولة منهم للوصول إلى الحقيقة ، فيجمعون بين الخطأ و الصواب ،و بين الظنون و الأوهام ،و بين الرغبات و التطلعات . و معروف أن أفلاطون مع انه كان مُهتما بالرياضيات إلا أنه كثيرا ما تكلم بلا علم ،و خاض بظنونه و أوهامه في أمور غيبية لا يُمكنه الخوض فيها بحق و يقين أبدا ،و ليس له فيها دليل صحيح من المنطق و لا من العلم . كقوله بعالم المُثل الُخرافي ، و قوله بخرافة بتناسخ الأرواح[116] . و عليه فلا يصح أبدا الاستشهاد بكلام أفلاطون ، و لا بكلام غيره من أهل العلم فيما يتعلق بخلود النفس و أحوالها . فهو أمر غيبي لن يقول فيه كلمة الحق و اليقين إلا الوحي الصحيح .

و ثالثا إنه ليس صحيحا أن الزهد و التطهر و البعد عن شهوات الدنيا توصل صاحبها إلى علم الغيب . فهذا كلام باطل ، نعم إن تلك الصفات قد تسمو ببعض المشاعر الوجدانية ،و تُلطف من حدة المادية في الإنسان ، لكن مع ذلك فلن يستطيع صاحبها أن يعلم الغيب ،ولا أن يأتيه النور الإلهي . بدليل أن الأنبياء-عليهم السلام- الذين هم أرقى البشر روحيا و أخلاقيا ، لكنهم - مع ذلك-لم يكونوا يعلمون الغيب ، لقوله سبحانه : {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }الأعراف188- ، و {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }الأنعام50- ،و. و المُشاهد في أحوال الزهاد و العُباد - قديما و حديثا- يراهم كغيرهم من البشر يُخطئون و يُصيبون ،و لا يعلمون الغيب أبدا .

و رابعا إن هذا الرجل- الكندي- بلغ به ضلاله إلى مخالفة الشرع صراحة ، و اختراع مَعادٍ حسب هواه و رغباته . و كلامه حول مصير النفس بعد مماتها هو مزاعم باطلة لا دليل عليها من العقل ، و لا من الشرع . لكن الغريب من أمر هذا الرجل أنه كيف سمح لنفسه أن يغفل المعاد الأخروي الشرعي و يُخالفه ، ثم يخترع من هواه معادا مزعوما خلفا للمعاد الشرعي ؟؟!! . فماذا بقي له من الإسلام ؟؟ّ ، و ماذا يبقى من الإسلام إذا عطلنا معاده الأخروي ؟ ، فأين الحساب و العقاب ؟!، و أين الجنة و النار التي تحدث عنمها الشرع ؟! . و أين خلود الكفار في النار ؟؟!! . و على أي أساس سمح لنفسه أن يتكلم بلا علم ؟؟! ،و كيف سمح لنفسه أن يخترع و يُلفق معادا مزيفا ضاهى به المعاد الشرعي ؟؟!! . و لماذا هذا الإصرار على مخالفة الشرع ؟! ،و هل مزاعمه من الشرع ، أو من العقل ، أو من العلم ؟؟! ، كلا و ألف كلا ، إنها من ظنونه ، و أهوائه ، و خرافاته !! .

و لماذا لم يُفرق بين المؤمن و الكافر كما فرّق الله تعالى بين عباده ، فجعل الجنة للمؤمنين ، و جهنم للكافرين ؟! . واضح من أقوال هذا الرجل أنه لا اعتبار عنده لهذا المقياس الشرعي ، و إنما الأمر عنده يتوقف على تطهير النفس حتى و إن كانت كافرة مشركة ، بل حتى و إن كانت ملحدة !! .

و واضح من أقوال الكندي أنه جعل الشرع وراء ظهره ، و تكلم بلا عقل صريح و لا علم صحيح ، و استدل برغباته و ظنونه على مزاعمه ، و لم يستدل بشرع ، و لا بعقل ، و لا بعلم . و من الذي قال له : إن النفس إذا تطهرت تصبح لا محالة ترى بنور الله ،وسترى كل ظاهر و خفي ،و تقف على كل سر و علانية ؟؟!! . فمن أين له هذه المزاعم ؟؟! . و من أين له أن النفس المتطهرة أصبحت نفسا إلهية ؟؟!! ، إن هذا هذا افتراء على الشرع و العقل ،و على الناس . لأن الله تعالى نص صراحة على أن الذين يرون بنور الله في الدنيا ليس كل من تطهرت نفسه من الدنس ،و إنما هم المسلمون المؤمنون الصالحون فقط ،و لن ينال ذلك غيرهم في الدنيا و لا في الآخرة . قال سبحانه : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ }النور40- ، و {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }الأنعام125- ،و {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }الحجرات7- ، و {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة257- .

كما أن الله تعالى عندما رزق المؤمنين بالإيمان و أنواره و حلاوته ، فإنه مع ذلك لم يقل : إنهم سيصبحون مثله لهم جوهر إلهي ،و أنهم يعلمون كل شيء ، و إنما نفى ذلك عنهم قطعا . لكن هذا الرجل المريض المحرف يتكلم بلا علم ،و يتعمد التحريف و التضليل ،و مُخالفة ما نص عليه القرآن الكريم .

و الثاني أبو نصر الفارابي ذكر أن (( للنفس بعد موت البدن سعادات و شقاوات ،و هذه الأحوال مُتفاوتة للنفوس ))[117] . و زعم أن النفوس عندما تموت هي على ثلاثة أنواع : الأولى نفس خالدة فاضلة سعيدة بعد موتها، و هي التي عرفت المعقولات السماوية ،و عملت بالفضيلة. و الثانية نفس خالدة شقية ،و هي التي عرفت المعقولات السماوية ،و لم تعمل بالفضيلة . الأخيرة- الثالثة- نفس هالكة فانية ، و هي التي لم تعرف المعقولات و لا الفضيلة[118] .

و أقول : هذا الرجل كالذي سبقه ، تكلم بلا علم ،و خاض في موضوع لا يُمكنه إدراكه ،و لا التثبت منه ، و لا إقامة الدليل الصحيح على وجوده و صدقه . و هذا ليس من الشرع ،و لا من العقل ،و لا العلم . فمن أين له بتلك الأوهام و الظنون التي ذكرها ؟ ، و لو احترم عقله و عقول غيره ما نطق بهذه الأوهام و الخيالات . و هو قد خالف الشرع مخالفات صريحة واضحة ، فتركه وراء ظهره و شرّع بهواه و ظنونه و خلفياته المذهبية خلودا باطلا . فتكلم و كأنه إله له خلوده الخاص به !!!.

و منها إنه أغفل و أبعد الشرط القرآني الذي على أساسه يكون النجاة أو الخسران في الدنيا و الآخرة ، هو: الإيمان بدين الإسلام و العمل بشريعته . لكن الرجل أغفل ذلك ،و جعل محله معرفة المعقولات السماوية ،و العمل بالفضيلة من دون تحديد لها .

و من تلك المخالفات أن من أركان دين الإسلام وجود المعاد الأخروي ، الذي يتم فيه الحساب و العقاب ، ثم بعده يكون الخلود إما في الجنة ، أو في النار . لكن هذا الرجل أغفل كل ذلك ، فلا حشر للأجساد ، و لا معاد و لا حساب يوم القيامة ، و لا جنة و لا نار كما هما في الشرع !!!!! . و إنما اخترع بهواه حياة سعيدة للنفس الأولى ،و حياة شقية للنفس الثانية ، و إعدام و فناء للنفس الثالثة .

و منها إن الشرع جعل الخلود على كل بني آدم بعد مماتهم و بعثهم يوم القيامة . لكن الرجل جعل الخلود مُكتسبا حسب المعرفة و العمل . فصنفان من النفوس يكتسبان الخلود ، و صنف ثالث لا يكتسبه . و هذه مُخالفة صريحة للشرع الذي جعل الخلود أبديا في الجنة ، أو في النار .

و منها أن الشرع نص في عشرات الآيات على وجود النعيم و الشقاء الماديين ، لكن الرجل أغفل كل ذلك ، و ضرب عنه صفحا . علما بأنه أغفل الجانب المادي كلية من جهة نهاية العالم ، و حشر الأجساد ، و من جهة وجوده في الجزاء و العقاب .

و الثالث أبو علي بن سينا ذكر أنه (( لا تعلق للنفس في الوجود بالبدن، بل تعلقها في الوجود بالمبادئ الأخرى التي لا تستحيل ولا تبطل ))[119] . و في كتابه النجاة أشار إلى موقف الشرع من المعاد و حشر الأبدان ، و مدحه . ثم عاد و احتقر اللذات المادية ،و فضل عليها اللذات الروحية . ثم أيد رأيا ينكر المعاد و حشر الأبدان[120] .

و قال أيضا : (( فالمادة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتة، بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذي به كان موضوعا للنفس، أو تخلف النفس فيها صورة تستبقي المادة بالفعل على طبيعتها، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعي كما كان، بل تكون صورة وأعراض أخرى.
ويكون أيضا قد تبدل بعض أجزائها وفارق مع تغير الكل في الجوهر، فلا تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس، والآن هي موضوعة لغيرها ))[121] . و أكد أن النفس لا تموت بموت البدن، و أنه قد (( بَانَ إذن أن النفس الإنسانية لا تفسد البتة ))[122] .


و أقول : إن قوله السابق غير صحيح في معظمه ، و فيه كلام كثير بلا علم ، و مُخالف لما نص عليه القرآن الكريم من أمر النفس مخالفة صريحة ترتبت عنها نتائج خطيرة جدا .

لأنه أولا إن الرجل قرر أمرا مخالفا للشرع بلا دليل صحيح من العقل و لا من العلم ،و إنما قرره انطلاقا من ظنونه و رغبته و خلفيته المذهبية . و هذا ليس دليلا ، و إنما هو زعم و الزعم ليس برهانا و لا يعجز عنه أحد . فمن أين له بأنه لا تعلق للنفس بالبدن ، و إنما تعلقها بالمبادئ الأزلية ؟! ،و نحن نرى في الواقع أنه لا إنسان حي دون بدن و نفس ، فهي مُتعلقة به دون شك . فإذا مات الإنسان غابت عنا نفسه و تحلل جسده ، و لا يُوجد أي دليل عقلي و لا علمي يُثبت قطعا أن نفسه فنيت ، أو لم تفن . فالأمر يحتمل أحد الاحتمالين من دون قطع بأحدهما . فلا يصح له أن ينفي تعلق النفس بالبدن ،و لا أن ينص على أنها مُتعلقة بالمبادئ الأزلية . و لن يُعطي لنا الجواب اليقيني القطعي المتعلق بمصير النفس و أحوالها إلا الوحي الصحيح . و يبقى كلام البشر كلاما ظنيا يحتمل النفي و الإثبات معا ، لأنه لا يُوجد دليل قطعي صحيح – من دون دليل الوحي الصحيح- يُمكنه أن يبت في مصير النفس بعد موتها.


[1] سبق توثيق ذلك في بداية هذا المبحث .

[2] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ص: 4 و ما بعدها .

[3] ابن رشد : تلخيص السماء و العالم ، حققه جمال الدين العلوي ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بفاس ، ص: 188 .

[4] أنظر مثلا ما ذكره الباحث عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 84 و ما بعدها . و فرنكل كلوز : النهاية ، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، 1994 ، ص: 291 و ما بعدها .

[5] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية .

[6] جمال الدين القفطي : : أخبار العلماء بأخيار الحكماء ، ص: 159 . و ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، ج 1 ص: 202 .

[7] عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية ، ص: 178 .

[8] الكندي : الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون و الفساد ، ملحق ، بكتاب الكندي – فلسفته ، مُنتخبات - ص : 169 .

[9] الكندي : الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون و الفساد ، ملحق ، بكتاب الكندي – فلسفته ، مُنتخبات - ص : 169 ، 72 . و زينب عفيفي : نفس المرجع ، ص: 201 .

[10] زينب عفيفي : عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، دار الوفاء، الإسكندرية ، 2002 ، ص: 195 .

[11] الفارابي : رسائل الفارابي ، 136 .

[12] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 ، 131 و ما بعدها . و رسالتان فلسفيتان للفارابي ، تحقيق جعفر آل ياسين ، ط1 ، دار المناهل ، بيروت ، 1987 ، ص: 59 .

[13] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 61 .

[14] الفارابي : رسائل الفارابي ، ص: 139 .

[15] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 84 .

[16] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 66 ، 67 .

[17] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 185 ، 188 .

[18] ابن سينا : عيون الحكمة ، حققه عبد الرحمن بدوي ، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ـ 1980 ، ص: 32 .

[19] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 177 ، و ما بعدها ، 180 .

[20] الشكوك على بطليموس ، ص: 45 ، 46 .

[21] ابن باجة : رسائل جديدة لابن باجة ، نشرها عبد الرحمن بدوي ، ص: 51 .

[22] ابن باجة : رسائل جديدة لابن باجة ، نشرها عبد الرحمن بدوي ، ص: 52 و ما بعدها .

[23] ابن رشد : جوامع الكون و الفساد ، حققه أبو الوفاء التفتزاني ، و يعيد زايد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ،1991 ، ص: 29 .

[24] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، تحقيق أسعد جمعة ، ص: 17 و ما بعدها ، 238 ، و ما بعدها .

[25] ابن رشد : رسالة السماء و العالم و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم و جيرار جهامي ، ص: 34 .

[26] أرسطو : كتاب الطبيعة ، حققه عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة ، القاهرة ، 1965 ، ج 2 ص: 845 و ما بعدها. و ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 125 ، 131 ، 132 . و ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1958 ، ص: 84، 99 . أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحقة بكتاب أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 ، ص: 3 ، 4 . و أرسطو : مقالة الجما من كتاب ما بعد الطبيعة ،، ملحقة بكتاب الميتافيزيقا لإمام عبد الفتاح إمام ، ص: 267 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، د ت ، ج 2 ص: 192 .

[27]أرسطو : مقالة اللام ، ص : 3 ، 4 . و ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 352، 353 ، و تلخيص ما بعد الطبيعة ، حققه عثمان أمين ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ،1958 ، ص: 154 . . و ماجد فخري: أرسطو المعلم الأول ، ص: 56، 57 ، 98، 99 ، 84 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 114 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 205 .

[28] ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 56 ، 57 ، 98 ، 99 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 119 ، 120 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 175 .

[29] أرسطو : مقالة الدال ، ص: 356 . ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 356 ، 357 .و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 55 ، 100 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ،ج 2 ، ص: 240 .

[30] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[31] أنظر مثلا : عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 64 و ما بعدها .

[32] أنظر: الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الماء ، و الهواء ، و الغاز .

[33] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 ، 131 و ما بعدها . و رسالتان فلسفيتان للفارابي ، تحقيق جعفر آل ياسين ، ط1 ، دار المناهل ، بيروت ، 1987 ، ص: 59 .

[34] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 61 .

[35] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الشهاب .

[36] نفس المرجع ، مادة : الشمس .

[37] أنظر مثلا : عبد المجيد الزنداني: علم الإيمان ، ص : 24 .

[38] فرانك كلوز : النهاية ، ص: 46 و ما بعدها ، 86 ، و ما بعدها ، 214 و ما بعدها ، 227 و ما بعدها .

[39] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية ، موجودة في الأقراص ،و في موقعها على الشبكة المعلوماتية .

[40] زغلول النجار : إنزال الحديد ، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة ، موقع : www.55a.net

[41] فرنكل كلوز : النهاية ، ص: 48 ، 183 .

[42] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 84 .

[43] أنظر : سام تريمان : من الذرة إلى الكوارك ، ترجمة أحمد فؤاد باشا ، عالم المعرفة ، الكويت ، رقم 327 ، سنة 2006 .

[44] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 .

[45] ابن سينا : النجاة ، ص: 224 و ما بعدها .

[46] ابن سينا : النجاة ، ص: 224 و ما بعدها .

[47].: ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص : 46 .

[48] ابن باجة : رسائل ابن باجة ، ص: 36 . عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية ، ص: 90 .

[49] ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص : 50 .

[50] ابن رشد : ما بعد الطبيعة ، تحقيق رفيق العجم ، ص: 163 ، 164 .

[51] ابن رش: تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو ، ط 1 ، دار إدريس ، دمشق ، 2007 ، ج 3 ص: 348 زينب عفيفي : العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية ، ص: 82 ، 83 .

[52] ابن رشد : ، ما بعد الطبيعة ، ط1 ،، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 142، 143 ، 147 ، 148 .

[53] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 353 .

[54] ابن رشد : تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو ، ملحق قسم منه بكتاب تاريخ الفلسفة العربية ، لجميل صليبا ، ص: 530 و ما بعدها .

[55] أنظر : عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 36 و ما بعدها .

[56] للتوسع فذي ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[57] للوقوف على ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[58] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 69 .

[59] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 64 .

[60] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 188 .

[61] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ص: 240، 241، 242 و ما بعدها ، و هامش : 5 من ص: 243 .

[62] ابن رشد : الآثار العلوية ، ص: 16 .

[63] عبد الدائم الكحيل : برنامج موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية ، و البرنامج موجود على الشبكة ، و موجود أيضا في موقع عبد الدائم الكحيل : www.kaheel7.com . و أُشير هنا إلى أن السيد عبد الدائم الكحيل هو رجل مُتخصص في مجال الإعجاز العلمي ، و له في ذلك أبحاث قيمة ، و هو مهندس في الهندسة الميكانيكية . أنظر سيرته الذاتية في الموقع .

[64] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : النجمة .

[65] نفسه .

[66] نفسه .

[67] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية .

[68] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 27 و ما بعدها .

[69]انظر : ابن منظور الإفريقي: لسان العرب ، ط1 ، بيروت ، دار صادر ، ، ج 2 ص: 279 . و أبو بكر الرازي: مختار الصحاح ، ط4 ، الجزائر ، دار الهدى ، 1990 ، ص: 124، 131 . و القرطبي : تفسير القرطبي ،حققه احمد البردوني ، ط2 ، القاهرة ، دار الشعب ، 1372 ، ج 13 ، ص 65 ، ج 19 ص: 172 . و الطبري : تفسير الطبري ،بيروت ، دار الفكر ، 1405 ، ج 30 ص : 4 . البيضاوي: تفسير البيضاوي، ج5 ص: 439 .

[70] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط3، القاهرة ، دار الشروق ، ص : 98 . و عبد العليم خضر : المنهج الإيماني في الدراسات الكونية ، ط1، الرياض، الدار السعودية ، 1404 ، ص: 8-9 . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة الشمس .

[71] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 29 .

[72] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية . و الصورة بالألوان تظهر الشمس مُسعرة مُلتهبة.

[73] نفسه .

[74] ابن رشد : الآثار العلوية ، حققه سهير فضل الله ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1994 ، ص: 29 . و : رسالة السماء و العالم و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 35 .

[75] رسالة السماء و العالم ، و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 47-48 .

[76] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 75 .

[77] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الأرض .

[78] الفارابي: رسائل الفارابي ، سلسلة مكتبة الأسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2007 ، ص: 135 .

[79] ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج 1 ص: 283 .

[80] أنظر مثلا : عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 11 و ما بعدها . و آن هوايت : النجوم ، ترجمة إسماعيل حقي ، دار المعارف ، القاهرة ، 1992 ، ص: 14 و ما بعدها .

[81] هو قسم من كتابه الشفاء .

[82] ج 1 ص: 269 و ما بعدها .

[83] أنظر : عبد العليم عبد الرحمن خضر : المنهج الإيماني للدراسات الكونية في القرآن الكريم ، ط1 ، الدار السعودية ، الرياض ، 1984 ، ص: 441 و ما بعدها .

[84] منهم العالم الجيولوجي زغلول النجار ، و كتابه منشور و متداول بين أهل العلم .

[85] ج 1 ص: 278 و ما بعدها .

[86] أنظر مثلا : عبد العليم عبد الرحمن خضر : الظواهر الجغرافية بين العلم و القرآن ، ط1 ، الدار السعودية ، الرياض ، 1984 ، ص: 19 و ما بعدها .

[87] ابن سينا : عيون الحكمة ، ص: 34 .

[88] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الينبوع .

[89] يقصد الخصية .

[90] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 466 .

[91] نقلا عن محمد عابد الجابري: ابن رشد : سيرة و فكر ، ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2001، ص: 235، 236 .

[92] أنظر مثلا : ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، : دار طيبة للنشر والتوزيع ، السعودية ، 1999 ، ج 6 ص: 594 ، ج 8 ص: 285 .

[93] مسلم : الجامع الصحيح ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي – بيروت ، رقم الحديث : 315 ج 1 ص: 252 .

[94] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الوراثة .

[95] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 96 ، 98 .

[96] ص: 469 .

[97] نفسه ، ص: 473 .

[98] ابن حجر : فتح الباري ، ط 2 ، دار المعرفة ، بيروت ، ج 6 ، ص: 343 ، 344 ، 347 .

[99] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : التكاثر البشري .

[100] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 474 ، 459 .

[101] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 442 ، 459 ، 460 .

[102] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الدم ، القلب .

[103] أنظر مثلا : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الحيض ، الحمل .

[104] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 426 .

[105] أنظر : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الجلد ، الأعصاب ، الإدراك .

[106] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 428 .

[107] عبد المجيد الزنداني : توحيد الخالق ، ص: 271 .

[108] موريس بوكاي : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ، ط 4 ، دار المعارف ، لبنان ، 1977 ، ص: 223 .

[109] نفسه ، ص: 223 -224 .

[110] عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية ، ص: 183 ، و ما بعدها. و على أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص: 229 و ما بعدها .

[111] الكندي : رسالة الكندي في النفس المختصرة من كاب أرسطو و أفلاطون و غيرهما ، ملحقة بكتاب الكندي ، لعبد الرحمن مرحبا ، ص: 182 .

[112] الكندي : رسالة الكندي في النفس المختصرة من كاب أرسطو و أفلاطون و غيرهما ، ملحقة بكتاب الكندي ، لعبد الرحمن مرحبا ، ص: 183 ، و ما بعدها .

[113] الكندي : رسالة الكندي في النفس المختصرة من كاب أرسطو و أفلاطون و غيرهما ، ملحقة بكتاب الكندي ، لعبد الرحمن مرحبا ، ص: 187 .

[114] نفسه ، ص: 187 . و على أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص: 229 و ما بعدها . عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية ، ص: 183، و ما بعدها

[115] البخاري : الصحيح ، ج 6 ص: 44 .

[116] أنظر: الموسوعة العربية العالمية ، مادة : أفلاطون .

[117] الفارابي : رسائل الفارابي ، ص: 142 .

[118] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 131 و ما بعدها ، 135 و ما بعدها ، 142 و ما بعدها ، 146 و ما بعدها . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص : 235 و ما بعدها .

[119] ابن سينا: الطبيعيات ، ص: 246 .

[120] ابن سينا : النجاة ، ص: 239 و ما بعدها .

[121] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 306 .

[122] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 247 ، 389 .

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22