عرض مشاركة واحدة
قديم 16-08-2015 ~ 08:22 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: الهدي النبوي في الطب
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


فصل
في هديه r في علاج الأبدان بما اعتاده
من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده
هذا أصل عظيم من أصول العلاج، وأنفع شيء فيه، وإذا أخطأه الطبيب، أضر المريض من حيث يظن أنه ينفعه، ولا يعدل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الطب إلا طبيب جاهل، فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها، وهؤلاء أهل البوادي والأكارون وغيرهم لا ينجع فيهم شراب اللينوفر والورد الطري ولا المغلي، ولا يؤثر في طباعهم شيئاً، بل عامة أدوية أهل الحضر وأهل الرفاهية لا تجدي عليهم، والتجربة شاهدة بذلك، ومن تأمل ما ذكرناه من العلاج النبوي، رآه كله موافقاً لعادة العليل وأرضه، وما نشأ عليه، فهذا أصل عظيم من أصول العلاج يجب الاعتناء به، وقد صرح به أفاضل أهل الطب حتى قال طبيب العرب بل أطبهم الحارث بن كلدة، وكان فيهم كأبقراط في قومه: الحمية رأس الدواء، والمعدة بيت الداء، وعودوا كل بدن ما اعتاد. وفي لفظ عنه: الأزم دواء، والأزم: الإمساك عن الأكل يعني به الجوع، وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائية كلها بحيث إنه أفضل في علاجها من المستفرغات إذا لم يخفف من كثرة الامتلاء، وهيجان الأخلاط، وحدتها أو غليانها.
وقوله: المعدة بيت الداء، المعدة: عضو عصبي مجوف كالقرعة في شكلها، مركب من ثلاث طبقات، مؤلفة من شظايا دقيقة عصبية تسمى الليف، ويحيط بها لحم، وليف إحدى الطبقات بالطول، والأخرى بالعرض، والثالثة بالورب، وفم المعدة أكثر عصباً، وقعرها أكثر لحماً، وفي باطنها خمل، وهي محصورة في وسط البطن، وأميل إلى الجانب الأيمن قليلاً، خلقت على هذه الصفة لحكمة لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه، وهي بيت الداء، وكانت محلاً للهضم الأول، وفيها ينضج الغذاء وينحدر منها بعد ذلك إلى الكبد والأمعاء، ويتخلف منه فيها فضلات قد عجزت القوة الهاضمة عن تمام هضمها، إما لكثرة الغذاء، أو لرداءته، أو لسوء ترتيب في استعماله، أو لمجموع ذلك، وهذه الأشياء بعضها مما لا يتخلص الإنسان منه غالباً، فتكون المعدة بيت الداء لذلك، وكأنه يشير بذلك إلى الحث على تقليل الغذاء، ومنع النفس من اتباع الشهوات، والتحرز عن الفضلات.
وأما العادة فلأنها كالطبيعة للإنسان، ولذلك يقال: العادة طبع ثان، وهي قوة عظيمة في البدن، حتى إن أمراً واحداً إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات، كان مختلف النسبة إليها. وإن كانت تلك الأبدان متفقة في الوجوه الأخرى مثال ذلك أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب، أحدها: عود تناول الأشياء الحارة؛ والثاني: عود تناول الأشياء الباردة، والثالث: عود تناول الأشياء المتوسطة، فإن الأول متى تناول عسلاً لم يضر به، والثاني: متى تناوله، أضر به، والثالث: يضر به قليلاً، فالعادة ركن عظيم في حفظ الصحة، ومعالجة الأمراض، ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدن على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغير ذلك.

فصل
في هديه r في معالجة المرضى بترك إعطائهم
ما يكرهونه من الطعام والشراب، وأنهم لا يكرهون
على تناولها
روى الترمذي في "جامعه"، وابن ماجة، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله r : "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم" ([100]).
قال بعض فضلاء الأطباء: ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حكم إلهية، لاسيما للأطباء، ولمن يعالج المرضى، وذلك أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض، أو لسقوط شهوته، أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها، وكيفما كان، فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة.
واعلم أن الجوع إنما هو طلب الأعضاء للغذاء لتخلف الطبيعة به عليها عوض ما يتحلل منها، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهي الجذب إلى المعدة، فيحس الإنسان بالجوع، فيطلب الغذاء، وإذا وجد المرض، اشتغلت الطبيعة بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء، أو الشراب، فإذا أكره المريض على استعمال شيء من ذلك، تعطلت به الطبيعة عن فعلها، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إيضاح مادة المرض ودفعه، فيكون ذلك سبباً لضرر المريض، ولاسيما في أوقات البحران ([101])، أو ضعف الحار الغريزي أو خموده فيكون ذلك زيادة في البلية، وتعجيل النازلة المتوقعة، ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يحفظ عليه قوته ويقويها من غير استعمال مزعج للطبيعة ألبتة، وذلك يكون بما لطف قوامه من الأشربة والأغذية، واعتدل مزاجه كشراب اللينوفر ([102])، والتفاح، والورد الطري، وما أشبه ذلك، ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط، وإنعاش قواه بالأراييح العطرة الموافقة، والأخبار السارة، فإن الطبيب خادم الطبيعة، ومعينها لا معيقها.
واعلم أن الدم الجيد هو المغذي للبدن، وأن البلغم دم فج ([103]) قد نضج بعض النضج، فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير، وعدم الغذاء، عطفت الطبيعة عليه، وطبخته، وأنضجته، وصيرته دماً، وغذت به الأعضاء، واكتفت به عما سواه، والطبيعة هي القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته، وحراسته مدة حياته.
واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب، وذلك في الأمراض التي يكون معه اختلاط العقل، وعلى هذا فيكون الحديث من العام المخصوص، أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل، ومعنى الحديث: أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياماً لا يعيش الصحيح في مثلها.
وفي قوله r : "فإن الله يطعمهم ويسقيهم" معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح، وتأثيرها على طبيعة البدن، وانفعال الطبيعة عنها، كما تنفعل هي كثيراً عن الطبيعة، ونحن نشير إليه إشارة، فنقول: النفس إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف، اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب، فلا تحس بجوع ولا عطش، بل ولا حر ولا برد، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم، فلا تحس به، وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئاً منه، وإذا اشتغلت النفس بما دهمها، وورد عليها، لم تحس بألم الجوع، فإن كان الوارد مفرحا قوي التفريح، قام لها مقام الغذاء، فشبعت به، وانتعشت قواها، وتضاعفت، وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه، فيشرق وجهه، وتظهر دمويته، فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب، فينبعث في العروق، فتمتلئ به، فلا تطلب الأعضاء حظها من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها، وإلى الطبيعة منه، والطبيعة إذا ظفرت بما تحب. آثرته على ما هو دونه.
وإن كان الوارد مؤلماً أو محزناً أو مخوفاً، اشتغلت بمحاربته ومقاومته ومدافعته عن طلب الغذاء، فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب. فإن ظفرت في هذه الحرب، انتعشت قواها، وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب، وإن كانت مغلوبة مقهورة، انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك، وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو سجالاً، فالقوة تظهر تارة وتختفي أخرى، وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين، والنصر للغالب، والمغلوب إما قتيل، وإما جريح، وإما أسير.
فالمريض: له مدد من الله تعالى يغذيه به زائداً على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل، فيحصل له من ذلك ما يوجب له قرباً من ربه، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه، ورحمة ربه عندئذ قريبة منه، فإن كان ولياً له، حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته، وتنتعش به قواه أعظم من قوتها، وانتعاشها بالأغذية البدنية، وكلما قوي إيمانه وحبه لربه، وأنسه به، وفرحه به، وقوي يقينه بربه، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه، وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر عنه، ولا يدركه وصف طبيب، ولا يناله علمه.

فصل
في هديه r في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود في "سننه" من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بالمحرم" ([104]).
وذكر البخاري في "صحيحه" عن ابن مسعود: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" ([105]).
وفي "السنن": عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله r عن الدواء الخبيث([106]).
وفي "صحيح مسلم" عن طارق بن سويد الجعفي، أنه سأل النبي r عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء" ([107]).
وفي "السنن" أنه r سئل عن الخمر يجعل في الدواء، فقال: "إنها داء وليست بالدواء"، رواه أبو داود، والترمذي ([108]).
وفي "صحيح مسلم" عن طارق بن سويد الحضرمي، قال: قلت: يا رسول الله! إن بأرضنا أعناباً نعتصرها فنشرب منها، قال": "لا" فراجعته، قلت: إنا نستشفي للمريض، قال:"إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء" ([109]).
وفي "سنن النسائي" أن طبيباً ذكر ضفدعاً في دواء عند رسول الله r ، فنهاه عن قتلها ([110]).
ويذكر عنه r أنه قال: "من تداوى بالخمر، فلا شفاه الله" ([111]).
المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعاً، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها، وأما العقل، فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها، كما حرمه على بني إسرائيل بقوله: }فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ{ [النساء: 160].
وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، وتحريمه له حمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثر في إزالتها، لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.
وأيضاً فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع، وأيضاً فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يتخذ دواء.
وأيضاً فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة خبيثة، لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالاً بيناً، فإذا كانت كيفيته خبيثة، اكتسبت الطبيعة منه خبثاً، فكيف إذا كان خبيثاً في ذاته، ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة، لما تكسب النفس من هيئة الخبث وصفته.
وأيضاً فإن في إباحة التداوي به، ولاسيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لاسيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها. فهذا أحب شيء إليها، والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله، وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً.
وأيضاً فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء، ولنفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط، فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء، وكثير من الفقهاء والمتكلمين. قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة: ضرر الخمرة بالرأس شديد. لأنه يسرع الارتفاع إليه. ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن، وهو كذلك يضر بالذهن.
وقال صاحب "الكامل" : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب.
وأما غيره من الأدوية المحرمة فنوعان:
أحدهما: تعافه النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به كالسموم، ولحوم الأفاعي وغيرها من المستقذرات، فيبقى كلاً على الطبيعة مثقلاً لها، فيصير حينئذ داء لا دواء.
والثاني: ما لا تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلاً، فهذا ضرره أكثر من نفعه، والعقل يقضي بتحريم ذلك، فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك.
وها هنا سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها، فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حسن ظنه بها، وتلقي طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً، كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال، كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها، وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء، والله أعلم.

فصل
في هديه r في حفظ الصحة
لما كان اعتدال البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة، فالرطوبة مادته، والحرارة تنضجها، وتدفع فضلاتها، وتصلحها، وتلطفها، وإلا أفسدت البدن ولم يمكن قيامه، وكذلك الرطوبة هي غذاء الحرارة، فلولا الرطوبة، لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته، فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها، وقوام البدن بهما جميعاً. وكل منهما مادة للأخرى، فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة، والرطوبة مادة للحرارة تغذوها وتحملها، ومتى مالت إحداهما إلى الزيادة على الأخرى، حصل لمزاج البدن الانحراف بحسب ذلك، فالحرارة دائماً تحلل الرطوبة، فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة - لضرورة بقائه - وهو الطعام والشراب، ومتى زاد على مقدار التحلل، ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته، فاستحالت مواد رديئة، فعاثت في البدن، وأفسدت، فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها وقبول الأعضاء واستعدادها، وهذا كله مستفاد من قوله تعالى: }وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا{ [الأعراف: 31]، فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفية، فمتى جاوز ذلك كان إسرافاً، وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض، أعني عدم الأكل والشرب، أو الإسراف فيه.
فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين، ولا ريب أن البدن دائماً في التحلل والاستخلاف، كلما كثر التحلل ضعفت الحرارة لفناء مادتها، فإن ضعفت الحرارة، ضعف الهضم، ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة، وتنطفئ الحرارة جملة، فيستكمل العبد الأجل الذي كتب الله له أن يصل إليه.
فغاية علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة، لا أنه يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللتين بقاء الشباب والصحة والقوة بهما، فإن هذا مما لم يحصل لبشر في هذه الدار، وإنما غاية الطبيب أن يحمي الرطوبة عن مفسداتها من العفونة وغيرها، ويحمي الحرارة عن مضعفاتها، ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الإنسان، كما أن به قامت السموات والأرض وسائر المخلوقات، إنما قوامها بالعدل، ومن تأمل هدي النبي r وجده أفضل هدي يمكن حفظ الصحة به، فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب، والملبس والمسكن، والهواء والنوم، واليقظة والحركة، والسكون والمنكح، والاستفراغ والاحتباس، فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسن والعادة، كان أقرب إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل.
ولما كانت الصحة والعافية من أجل نعم الله على عبده، وأجزل عطاياه، وأوفر منحه، بل العافية المطلقة أجل النعم على الإطلاق، فحقيق لمن رزق حظاً من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عما يضادها، وقد روى البخاري في "صحيحه" من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله r : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" ([112]).
وفي الترمذي وغيره من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري. قال: قال رسول الله r : "من أصبح معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا" ([113]).
وفي الترمذي أيضاً من حديث أبي هريرة، عن النبي r أنه قال: "أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم، أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء والبارد" ([114]).
ومن ها هنا قال من قال من السلف في قوله تعالى: }ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ{ [التكاثر: 8]، قال: عن الصحة.
وفي "مسند الإمام أحمد" أن النبي r قال للعباس: "يا عباس، يا عم رسول الله! سل الله العافية في الدنيا والآخرة" ([115]).
وفيه عن أبي بكر الصديق، قال: سمعت رسول الله r يقول: "سلوا الله اليقين والمعافاة، فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من العافية"([116])، فجمع بين عافيتي الدين والدنيا، ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه.
وفي "سنن النسائي" من حديث أبي هريرة يرفعه: "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة، فما أوتي أحد بعد يقين خيراً من معافاة"([117]). وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية بالعفو، والحاضرة بالعافية، والمستقبلة بالمعافاة، فإنها تتضمن المداومة والاستمرار على العافية.
وفي الترمذي مرفوعاً: "ما سئل الله شيئاً أحب إليه من العافية"([118]).
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: عن أبي الدرداء، قلت: يا رسول الله! لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر، فقال رسول الله r : "ورسول الله يحب معك العافية".
ويذكر عن ابن عباس أن أعرابياً جاء إلى رسول الله r ، فقال له: ما أسأل الله بعد الصلوات الخمس؟ فقال: "سل الله العافية"، فأعاد عليه، فقال له في الثالثة: "سل الله العافية في الدنيا والآخرة".
وإذا كان هذا شأن العافية والصحة، فنذكر من هديه r في مراعاة هذه الأمور ما يتبين لمن نظر فيه أنه أكمل هدي على الإطلاق ينال به حفظ وراحة البدن والقلب، وحياة الدنيا والآخرة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

2- الطب في القرآن الكريم
قال الله تعالى: }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ{ [الإسراء: 82]، والصحيح: أن "من" ها هنا، لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ{ [يونس: 57].
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبداً.
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال، لصدعها، أو على الأرض، لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه، وقد تقدم في أول الكلام على الطب بيان إرشاد القرآن العظيم إلى أصوله ومجامعه التي هي حفظ الصحة والحمية، واستفراغ المؤذي، والاستدلال بذلك على سائر أفراد هذه الأنواع.
وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مفصلة، ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها. قال: }أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ{ [العنكبوت: 51]، فمن لم يشفه القرآن، فلا شفاه الله، ومن لم يكفه، فلا كفاه الله.
(فاتحة الكتاب) وأم القرآن، والسبع المثاني، والشفاء التام، والدواء النافع، والرقية التامة، ومفتاح الغنى والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها، وأحسن تنزيلها على دائه، وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها، والسر الذي لأجله كانت كذلك.
ولما وقع بعض الصحابة على ذلك، رقى بها اللديغ، فبرأ لوقته، فقال له النبي r : "وما أدراك أنها رقية" ([119]).
ومن ساعده التوفيق، وأعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة، وما اشتملت عليه من التوحيد، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثبات الشرع والقدر والمعاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين، وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما، ودفع مفاسدهما، وأن العاقبة المطلقة التامة، والنعمة الكاملة منوطة بها، موقوفة على التحقق بها، أغنته عن كثير من الأدوية والرقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابه.
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته. قال تعالى: }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ{ [الإسراء: 82] و "من" ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصح القولين، كقوله تعالى: }وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ [الفتح: 29] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها، المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها، وهي الله، والرب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته - بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليفة مع تضمنها لإثبات القدر، والشرع، والأسماء والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل.

فصل
في هديه r في العلاج بشرب العسل
في "الصحيحين" : من حديث أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلاً أتى النبي r ، فقال: إن أخي يشتكي بطنه: وفي رواية: استطلق بطنه، فقال: "اسقه عسلاً"، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيته، فلم يغن عنه شيئاً. وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقاً مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول له: "اسقه عسلاً"، فقال له في الثالثة أو الرابعة: صدق الله، وكذب بطن أخيك" ([120]).
وفي "صحيح مسلم" في لفظ له: "إن أخي عرب بطنه"، أي فسد هضمه، واعتلت معدته، والاسم العرب بفتح الراء، والذرب أيضاً.
والعسل فيه منافع عظيمة، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها، محلل للرطوبات أكلاً وطلاء، نافع للمشايخ وأصحاب البلغم، ومن كان مزاجه بارداً رطباً، وهو مغذ ملين للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه، مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة، منق للكبد والصدر، مدر للبول، موافق للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شرب حاراً بدهن الورد، نفع من نهش الهوام، وشرب الأفيون، وإن شرب وحده ممزوجاً بماء نفع من عضة الكلب، وأكل الفطر ([121]) القتال، وإذا جعل فيه اللحم الطري، حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك إن جعل فيه القثاء، والخيار، والقرع، والباذنجان، ويحفظ كثيراً من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويسمى الحافظ الأمين، وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر، قتل قمله وصئبانه، وطول الشعر، وحسنه، ونعمه، وإن اكتحل به، جلا ظلمة البصر، وإن استن به، بيض الأسنان وصقلها، وحفظ صحتها، وصحة اللثة، ويفتح أفواه العروق، ويدر الطمث، ولعقه على الريق يذهب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويدفع الفضلات عنها، ويسخنها تسخيناً معتدلاً، ويفتح سددها، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة، وهو أقل ضرراً لسدد الكبد والطحال من كل حلو.
وهو مع هذا كله مأمون الغائلة، قليل المضار، مضر بالعرض للصفراويين، ودفعها بالخل ونحوه، فيعود حينئذ نافعاً له جداً.
وهو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، ومفرح مع المفرحات، فما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه، ولا مثله، ولا قريباً منه، ولم يكن معول القدماء إلا عليه، وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر ألبتة، ولا يعرفونه، فإنه حديث العهد حدث قريباً، وكان النبي r يشربه بالماء على الريق، وفي ذلك سر بدع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل، وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة.
وفي "سنن ابن ماجة" مرفوعاً من حديث أبي هريرة: "من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر، لم يصبه عظيم من البلاء" ([122])، وفي أثر آخر: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن ([123])" فجمع بين الطب الشرعي والإلهي، وبين طب الأبدان، وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي.
إذا عرف هذا، فهذا الذي وصف له النبي r العسل، كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء، فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء، فإن العسل فيه جلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة، تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها، فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة، أفسدتها وأفسدت الغذاء، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط، والعسل جلاء، والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء، لاسيما إن مزج بالماء الحار.
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يزله بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوى، بأحدث ضرراً آخر، فلما أمره أن يسقيه العسل، سقاه مقداراً لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر تردده إلى النبي r ، أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء، برأ، بإذن الله، واعتبار مقادير الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب.
وفي قوله r : "صدق الله وكذب بطن أخيك"، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكذب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طبه r كطب الأطباء، فإن طب النبي r متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة، وكمال العقل. وطب غيره، أكثره حدس وظنون، وتجارب، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور - إن لم يتلق هذا التلقي - لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها، بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم، وأين يقع طب الأبدان منه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله.
(الحبة السوداء) ثبت في "الصحيحين": من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله r قال: "عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام". والسام: الموت ([124]).
الحبة السوداء: هي الشونيز في لغة الفرس، وهي الكمون الاسود، وتسمى الكمون الهندي، قال الحربي، عن الحسن: إنها الخردل، وحكى الهروي: أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم، وكلاهما وهم، والصواب: أنها الشونيز.
وهي كثيرة المنافع جداً، وقوله: "شفاء من كل داء"، مثل قوله تعالى: }تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا{ [الأحقاف: 25].
أي: كل شيء يقبل التدمير ونظائره، وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة، وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض، فتوصل قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها.
وقد نص صاحب "القانون" وغيره، على الزعفران في قرص الكافور لسرعة تنفيذه وإيصاله قوته، وله نظائر يعرفها حذاق الصناعة، ولا تستبعد منفعة الحار في أمراض حارة بالخاصية، فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة، منها: الأنزروت وما يركب معه من أدوية الرمد، كالسكر وغيره من المفردات الحارة، والرمد ورم حار باتفاق الأطباء، وكذلك نفع الكبريت الحار جداً من الجرب.
والشونيز حار يابس في الثالثة، مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص وحمى الربع ([125]) والبلغمية مفتح للسدد، ومحلل للرياح، مجفف لبلة المعدة ورطوبتها. وإن دق وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار، أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة، ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياماً، وإن سخن بالخل، وطلي على البطن، قتل حب القرع، فإن عجن بماء الحنظل الرطب، أو المطبوخ، كان فعله في إخراج الدود أقوى، ويجلو ويقطع، ويحلل، ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة، واشتم دائماً، أذهبه.
ودهنه نافع لداء الحية، ومن الثاليل والخيلان ([126])، وإذا شرب منه مثقال بماء، نفع من البهر وضيق النفس، والضماد به ينفع من الصداع البارد، وإذا نقع منه سبع حبات عدداً في لبن امرأة، وسعط به صاحب اليرقان، نفعه نفعاً بليغاً.
وإذا طبخ بخل، وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان عن برد، وإذا استعط به مسحوقاً، نفع من ابتداء الماء العارض في العين، وإن ضمد به مع الخل، قلع البثور والجرب المتقرح، وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة، وينفع من اللقوة إذا تسعط بدهنه، وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال، نفع من لسع الرتيلاء ([127])، وإن سحق ناعماً وخلط بدهن الحبة الخضراء، وقطر منه في الأذان ثلاث قطرات، نفع من البرد العارض فيها والريح والسدد.
وإن قلي، ثم دق ناعماً، ثم نقع في زيت، وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع، نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير.
وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن، أو دهن الحناء، وطلي به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل، نفعها وأزال القروح.
وإذا سحق بخل، وطلي به البرص والبهق الأسود، والحزاز ([128]) الغليظ، نفعها وأبرأها.
وإذا سحق ناعماً، واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب قبل أن يفرغ من الماء، نفعه نفعاً بليغاً، وأمن على نفسه من الهلاك. وإذا استعط بدهنه، نفع من الفالج والكزاز ([129])، وقطع موادهما، وإذا دخن به، طرد الهوام.
وإذا أذيب الأنزروت بماء، ولطخ على داخل الحلقة، ثم ذر عليها الشونيز، كان من الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير، ومنافعه أضعاف ما ذكرنا، والشربة منه درهمان، وزعم قوم أن الإكثار منه قاتل.
(ماء زمزم): سيد المياه وأشرفها وأجلها قدراً، وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمناً، وأنفسها عند الناس، وهو هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل ([130]).
وثبت في "الصحيح": عن النبي r ، أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة، ليس له طعام غيره؛ فقال النبي r : "إنها طعام طعم" ([131]). وزاد غير مسلم بإسناده: "وشفاء سقم" ([132]).
وفي "سنن ابن ماجة". من حديث جابر بن عبد الله، عن النبي r أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له" ([133]). وقد ضعف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمل رواية عن محمد بن المنكدر. وقد روينا عن عبد الله بن المبارك، أنه لما حج، أتى زمزم، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، عن نبيك r أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له"، وإني أشربه لظمإ يوم القيامة، وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذاً حسن، وقد صححه بعضهم، وجعله بعضهم موضوعاً، وكلا القولين فيه مجازفة.
قال ابن القيم: وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض، فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر، أو أكثر، ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة يجامع بها أهله، ويصوم ويطوف مراراً.

فصل
في هديه r في علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا في "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أن رسول الله r كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم" ([134]).
وفي "جامع الترمذي" عن أنس، أن رسول الله r ، كان إذا حزنه أمر، قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" ([135]).
وفيه: عن أبي هريرة، أن النبي r ، كان إذا أهمه الأمر، رفع طرفه إلى السماء فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: " يا حي يا قيوم" ([136]).
وفي "سنن أبي داود" عن أبي بكر، أن رسول الله r قال: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" ([137]).
وفيها أيضاً عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله r: "ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب، أو في الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئاً" ([138]). وفي رواية أنها تقال سبع مرات ([139]).
وفي "مسند الإمام أحمد" عن ابن مسعود، عن النبي r قال: "ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً" ([140]).
وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله r: "دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" ([141]).
وفي رواية "إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه: كلمة أخي يونس".
وفي "سنن أبي داود" عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل رسول الله r ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟" فقال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، فقال: "ألا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك؟" قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني ([142]).
وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس، قال: قال رسول الله r : "من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب" ([143]).
وفي "المسند" أن النبي r كان إذا حزنه أمر، فزع إلى الصلاة([144])، وقد قال تعالى: }وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ{ [البقرة: 45].
وفي "السنن" : "عليكم بالجهاد، فإنه باب من أبواب الجنة، يدفع الله به عن النفوس الهم والغم" ([145]).
وثبت في "الصحيحين" أنها كنز من كنوز الجنة ([146]).
وفي الترمذي: "أنها باب من أبواب الجنة" ([147]).
هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدواء، فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن، فهو داء قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كلي.
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمي الاعتقادي.
الرابع: تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات: الحي القيوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيق التوكل عليه، والتفويض إليه، والاعتراف له بأن ناصيته في يده، يصرفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات، وأن يتسلى به عن كل فائت، ويتعزى به عن كل مصيبة، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه، وشفاء همه وغمه.
الحادي عشر: الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده.

فصل
في هديه r في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
روى أبو داود في "سننه": من حديث أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله r يقول: "من اشتكى منكم شيئاً، أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ بإذن الله ([148]).
وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد الخدري، أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي r فقال: يا محمد! أشتكيت؟ فقال: "نعم" ، فقال جبريل - عليه السلام -: "باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك" ([149]).
فإن قيل: فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود: "لا رقية إلا من عين، أو حمة، والحمة: ذوات السموم كلها.
فالجواب أنه r لم يرد به نفي جواز الرقية في غيرها، بل المراد به: لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة، ويدل عليه سياق الحديث، فإن سهل بن حنيف قال له لما أصابته العين: أو في الرقى خير؟ فقال: "لا رقية إلا في نفس أو حمة" ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال: قال رسول الله r : "لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقا" ([150]).
وفي "صحيح مسلم" عنه أيضاً: رخص رسول الله r في الرقية من العين والحمة النملة.

فصل
في هديه r في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في "صحيحه" عن عثمان بن أبي العاص، أنه شكى إلى رسول الله r وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبي r : "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" ([151]) ففي هذا العلاج من ذكر الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يهذب به، وتكراره ليكون أنجع وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها وفي "الصحيحين": أن النبي r ، كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً" ([152]). ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته، وكمال رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته.

(من تطبب ولم يعلم منه طب، فهو ضامن)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله r قال: "من تطبب ولم يعلم منه طب، فهو ضامن".
رواه أبو داود والنسائي.
هذا الحديث يدل بلفظه وفحواه على: أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها، سواء كان طباً أو غيره، وأن من تجرأ على ذلك، فهو آثم. وما ترتب على عمله من تلف نفس أو عضو أو نحوهما، فهو ضامن له، وما أخذه من المال في مقابلة تلك الصناعة التي لا يحسنها، فهو مردود على باذله؛ لأنه لم يبذله إلا بتغريره وإيهامه أنه يحسن، فيدخل في الغش، و "من غشنا فليس منا".
ومثل هذا البناء والنجار والحداد والخراز والنساج ونحوهم ممن نصب نفسه لذلك، موهما أنه يحسن الصنعة، وهو كاذب.
ومفهوم الحديث: أن الطبيب الحاذق ونحوه إذا باشر ولم تجن يده، وترتب على ذلك تلف، فليس بضامن؛ لأنه مأذون فيه من المكلف أو وليه. فكل ما ترتب على المأذون فيه، فهو غير مضمون. وما ترتب على غير ذلك المأذون فيه، فإنه مضمون.
ويستدل بهذا على: أن صناعة الطب من العلوم النافعة المطلوبة شرعاً وعقلاً. والله أعلم ([153]).
"ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" ([154])
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء". رواه البخاري.
الإنزال هنا بمعنى: التقدير.
ففي هذا الحديث: إثبات القضاء والقدر، وإثبات الأسباب.
وقد تقدم أن هذا الأصل العظيم ثابت بالكتاب والسنة، ويؤيده العقل والفطرة، فالمنافع الدينية والدنيوية والمضار كلها بقضاء الله وتقديره، قد أحاط بها علماً، وجرى بها قلمه، ونفذت بها مشيئته، ويسر العباد لفعل الأسباب التي توصلهم إلى المنافع والمضار، فكل ميسر لما خلق له: من مصالح الدين والدنيا، ومضارهما. والسعيد من يسره الله لأيسر الأمور وأقربها إلى رضوان الله، وأصلحها لدينه ودنياه، والشقي من انعكس عليه الأمر.
وعموم هذا الحديث يقتضي: أن جميع الأمراض الباطنة والظاهرة لها أدوية تقاومها، تدفع ما لم ينزل، وترفع ما نزل بالكلية، أو تخففه.
وفي هذا: الترغيب في تعلم طب الأبدان، كما يتعلم طب القلوب، وأن ذلك من جملة الأسباب النافعة. وجميع أصول الطب وتفاصيله، وشرح لهذا الحديث، لأن الشارع أخبرنا أن جميع الأدواء لها أدوية. فينبغي لنا أن نسعى إلى تعلمها، وبعد ذلك إلى العمل بها وتنفيذها.
وقد كان يظن كثير من الناس أن بعض الأمراض ليس له دواء، كالسل ونحوه، وعندما ارتقى علم الطب، ووصل الناس على ما وصلوا إليه من علمه، عرف الناس مصداق هذا الحديث، وأنه على عمومه. وأصول الطب: تدبير الغذاء، بأن لا يأكل حتى تصدق الشهوة وينهضم الطعام السابق انهضاماً تاماً، ويتحرى الأنفع من الأغذية، وذلك بحسب حالة الأقطار والأشخاص والأحوال، ولا يمتلئ من الطعام امتلاء يضره مزاولته، والسعي في تهضيمه، بل الميزان قوله تعالى: }وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا{
[الأعراف: 31].

ويستعمل الحمية عن جميع المؤذيات في مقدارها، أو في ذاتها، أو في وقتها، ثم إن أمكن الاستفراغ، وحصل به المقصود، من دون مباشرة الأدوية، فهو الأولى والأنفع. فإن اضطر إلى الدواء، استعمله بمقدار. وينبغي أن لا يتولى ذلك إلا عارف وطبيب حاذق.
واعلم أن طيب الهواء، ونظافة البدن والثياب، والبعد عن الروائح الكريهة الخبيثة، خير عون على الصحة. وكذلك الرياضة المتوسطة. فإنها تقوي الأعضاء والأعصاب والأوتار، وتزيل الفضلات، وتهضم الأغذية الثقيلة، وتفاصيل الطب معروفة عند الأطباء. ولكن هذه الأصول التي ذكرناها يحتاج إليها كل أحد.
وصح عنه r "الشفاء في ثلاث: شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار" ([155])، (وفي الحبة السوداء شفاء من كل داء) ([156]). "العود الهندي فيه سبعة أشفية"([157])، "يسعط من العذرة، ويلد من ذات الجنب" ([158])، "الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء" ([159])، "رخص في الرقية من العين والحمة والنملة ([160])، و "إذا استغسلتم من العين فاغسلوا" ([161])، "ونهى عن الدواء الخبيث" ([162])، "وأمر بخضاب الرجلين لوجعهما" ([163]).

الاعتدال باستعمال العلاجات
الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، ومن طلب الشفاء منه شفاه، ومن عمل بالأسباب النافعة صلح دينه ودنياه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب سواه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله في جميع الأوقات، وتوبوا إلى ربكم من الذنوب والهفوات، واعلموا أن التوسط في الأمور هو العدل والخير المرغوب، وأن التطرف شذوذ وانحراف عن المطلوب، فما ندم من توسط في أموره ولا خاب، ولا سلم من شذ وتطرف فغلا أو قصر من سوء المآب. قال تعالى: }وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ{([164]) وقال تعالى: }وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا{([165]).
فقد حث المولى على الاقتصاد في الأكل والشرب والإنفاق. وكل ما كان في معنى ذلك ففي ذلك الخير والبركة والارتفاق. وراعوا رحمكم الله صحة أبدانكم وقلوبكم براحة القلب وحسن الغذاء، واستعملوا النظافة والرياضة ([166]) تسلموا من كثير من الأدواء، واعتمدوا على ربكم ولا تستعملوا العلاج إلا عند الحاجة إلى الدواء، فما أنزل الله داء إلا جعل له شفاء، ولكن الأمور كلها بقصد وحكمة وميزان، فكما أن ترك التداوي مع الضرورة نقص وتهور من الإنسان، فكثرة العلاجات مع الصحة أو المرض البسيط نقص وضرر على القلب والأبدان، لقد ابتلي كثير من الناس بكثرة الخيالات والتوهمات وصار الخوف نصب أعينهم في كل الحالات يعتقدون أن الأمراض البسيطة ثقيلة وربما توهموا وجود المرض وليس لذلك حقيقة وسبب ذلك ضعف القلب وعدم التوكل وكثرة الأوهام، فأمراض القلوب وخوفها وضعفها جالب لكثرة الأسقام. قال تعالى: }وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ{([167])، كافيه أمور دينه ودنياه وقال: }وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُّرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{([168])، فاحذروا أن تنقطع صلتكم بالله وتضعف قلوبكم فإنه المتكفل بجميع حاجاتكم وهو إلهكم ومطلوبكم. فمن توكل على ربه في دفع ما نزل به كفاه ولطف به وشفاه وعافاه وأذهب عنه ضعف القلب وخوفه الذي هو الداء وجلب له الأسباب النافعة والدواء. ألم تعلموا أن ضعف القلب وكثرة أوهامه هو الداء العضال، وقوة القلب مع التوكل على الله صفة أقوياء الرجال؟ فكم من أمراض ضعيفة صيرتها الأوهام شديدة؟ وكم من معافى لعبت به الأوهام فلازمه المرض مدة مديدة؟ وكم ملئت المستشفيات من أمراض الأوهام والخيالات؟ وكم أثرت على قلوب كثير من الأقوياء فضلاً عن الضعفاء في كل الحالات؟ وكم أدت إلى الحمق والجنون، والمعافى من عافاه من يقول للشيء كن فيكون. فصحة القلوب هي الأساس لصحة الأبدان. ومرض القلوب هو المرض الحقيقي والله المستعان. فسلوا ربكم أن يعافيكم من الأمراض الباطنة والظاهرة،وأن يتم عليكم نعم الدين والدنيا والآخرة. قال تعالى }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{([169])، ([170]).

خاتمة
قال ابن القيم رحمه الله:
قد أتينا على جمل نافعة من أجزاء الطب العلمي لعل الناظر فيها لا يظفر بكثير منها إلا في هذا الكتاب وأريناك قرب ما بينها وبين الشريعة وأن الطب النبوي نسبة طب الأطباء إليه أقل من نسبة طب العجائز إلى طبهم والأمر فوق ما ذكرناه وأعظم من ما وصفناه بكثير ولكن فيما ذكرناه تنبيه باليسير على ما وراءه ومن لم يرزقه الله بصيرة على التفصيل فليعلم ما بين القوة المؤيدة بالوحي من عند الله والعلوم التي رزقها الله الأنبياء والعقول والبصائر التي منحهم الله إياها وبين ما عند غيرهم ولعل قائلاً يقول ما لهدي الرسول r وما لهذا الباب وذكر قوى الأدوية وقوانين العلاج وتدبير أمر الصحة وهذا من تقصير هذا القائل في فهم ما جاء به r فإن هذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من فهم بعض ما جاء به وإرشاده إليه ودلالته عليه وحسن الفهم عن الله ورسوله من يمن الله به على من يشاء من عباده فقد أوجدناك أصول الطب الثلاثة في القرآن وكيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملة على صلاح الأبدان كاشتمالها على صلاح القلوب وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها ودفع آفاتها بطرق كلية قد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيحاء كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه ولا تكن ممن إذا جهل شيئاً عاداه ولو رزق العبد تضلعاً من كتاب الله وسنة رسوله وفهماً تاماً في النصوص ولوازمها لاستغنى بذلك عن كل كلام سواه ولاستنبط جميع العلوم الصحيحة منه. فمدار العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخلقه وذلك مسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فهم أعلم الخلق بالله وأمره وخلقه وحكمته في خلقه وأمره وطب أتباعهم أصح وأنفع من طب غيرهم وطب أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أكمل الطب وأصحه وأنفعه ولا يعرف هذا إلا من عرف طب الناس سواهم وطبهم ثم قارن بينهما فحينئذ يظهر له التفاوت وهم أصح الأمم عقولاً وفطراً وأعظمهم علماً وأقربهم في كل شيء إلى الحق لأنهم خيرة الله في الأمم كما أن رسولهم خيرته من الرسل والعلم الذي وهبهم الله إياه والحلم والحكمة أمر لا يدانيهم فيه غيرهم وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله r "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" ([171]) فظهر أثر كرامتها على الله سبحانه في علومهم وعقولهم وأحلامهم وفطرهم وهم الذين عرضت عليهم علوم الأمم قبلهم وعقولهم وأعمالهم ودرجاتهم فازدادوا بذلك علماً وحلماً وعقولاً إلى ما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من علمه وحلمه ولذلك كانت الطبيعة الدموية لهم والصفراوية لليهود والبلغمية للنصارى ولذلك غلب على النصارى البلادة وقلة الفهم والفطنة وغلب على اليهود الحزن والغم والصغار وغلب على المسلمين العقل والشجاعة والفهم والنجدة والفرح والسرور وهذه أسرار وحقائق إنما يعرف مقدارها من حسن فهمه ولطف ذهنه وغزر علمه وعرف ما عند الناس وبالله التوفيق انتهى.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً.

مراجع كتاب (الهدي النبوي في الطب)
1-مصابيح السنة للبغوي.
2-مشكاة المصابيح لمحمد بن عبد الله الخطيب التبريزي بتحقيق ناصر الألباني.
3-الطب النبوي لابن القيم.
4-زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم بتحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط جـ 4.
5-بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار بشرح جوامع الأخبار للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
6-الخطب المنبرية على المناسبات للشيخ عبد الرحمن السعدي.
7-مختصر الطب النبوي للشيخ عبد الله بن سفر البشر.


فهرس كتاب (الهدي النبوي في الطب)

مقدمة............................................. ....... 3
رسالة إلى الأطباء.......................................... 5
كتاب الطب والرقى........................................ 7
الفصل الأول............................................. . 7
الفصل الثاني............................................ 11
الفصل الثالث........................................... 20
الطب النبوي............................................ 23
فصل............................................... .... 34
(في الأحاديث الدالة على مشروعية التداوي)................ 34
فصل في هديه r في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين....... 40
فصل في هديه r في تضمين من طب الناس،................ 44
وهو جاهل بالطب....................................... 44
فصل: في هديه r في علاج المرضى بتطييب نفوسهم......... 58
وتقوية قلوبهم............................................ . 58
فصل في هديه r في علاج الأبدان بما اعتاده................ 60
من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده........................ 60
فصل في هديه r في معالجة المرضى بترك إعطائهم............ 63
ما يكرهونه من الطعام والشراب، وأنهم لا يكرهون............ 63
على تناولها........................................... ... 63
فصل في هديه r في المنع من التداوي بالمحرمات.............. 68
فصل في هديه r في حفظ الصحة......................... 73
الطب في القرآن الكريم................................... 78
فصل في هديه r في العلاج بشرب العسل.................. 82
فصل في هديه r في علاج الكرب والهم والغم والحزن......... 92
فصل في هديه r في العلاج العام لكل شكوى بالرقية
الإلهية........................................... .......
98
فصل في هديه r في علاج الوجع بالرقية................... 100
(من تطبب ولم يعلم منه طب، فهو ضامن)................. 101
"ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" ....................... 102
الاعتدال باستعمال العلاجات............................ 105
خاتمة............................................. .... 108
مراجع كتاب (الهدي النبوي في الطب).................... 111
فهرس كتاب (الهدي النبوي في الطب)..................... 112

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22