عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:23 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


إهداء إلى بروس ميتزجر


تمهــــــيد


كان موضوع هذا الكتاب يدور في عقلي ، ربما أكثر من أي شئ كتبت عنه ، خلال الثلاثين عامًا الماضية ، وذلك منذ أن كنت في أواخر سني مراهقتي ومنذ أن كنت أخطو خطواتي الأولى في دراسة العهد الجديد.ولأن هذا الموضوع كان جزءًا منِّي لفترة طويلة، فلقد رأيت أنه من الضروري أن أبدأ بإعطاء بيان شخصي للأسباب التي جعلت هذه المادة ،وما تزال،شديدة الأهمية بالنسبة إلي.
هذا الكتاب يدور حول مخطوطات الكتاب المقدس و الاختلافات الموجودة فيها،وحول النساخ الذين نسخوا الأسفار وحرفوها أحيانًا. ربما لا يبدو ذلك أمرًا متوقعًا كمدخل إلى السيرة الذاتية لشخص ما،لكنه كذلك في حالتي تلك. لا يملك الإنسان السيطرة التامةعلى مثل هذه الأمور.لكن قبل توضيح كيف ولماذا كانت مخطوطات العهد الجديد تمثل شيئا مختلفًا تمامًا عاطفيًًّا وفكريًّا بالنسبة إلي ،وإلى إدراكي لذاتي،وللعالم الذي أحيا فيه،ولأفكاري حول الإله،وحول الكتاب المقدس،ينبغي أن أحكي بعض الخلفيات عن شخصيتى. وُلدتُ وترعرعت في مكانٍ وزمانٍ محافظين ـــــ في قلب البلاد، وبداية منتصف الخمسينات.نشأتي لم تشهد شيئا غير عادي.كنا أسرة رائعة تقليدية مكونة من خمس أفراد،من المترددين على الكنيسة لكن من ذوي التدين العادي.بدءًا من العام الذي كنت فيه في الصف الدراسي الخامس انضممت إلى الكنيسة الأسقفية في لورنس،بولاية كينساس،التي كان يرأسها قسيس طيب وحكيم، تصادف أنه أيضًا كان جارًا لي ووالدًا لأحد أصدقائي(الذي تورطت فيما بعد معه في متاعب أثناء المدرسة العليا المتخصصة ـــ شئ متعلق بتدخين السجائر).

مثل كثير من الكنائس الأسقفية،هذه الكنيسة كانت حسنة السمعة وموثوقًًا بها في نظر المجتمع .كانت تتعامل مع طقوس الكنيسة بشكل جاد ،وكان الكتاب المقدس جزءا من هذه الطقوس.لكن الكتاب المقدس لم يكن محط الاهتمام الكامل:لقد كان الكتاب المقدس آنذاك واحدًا من الطرق إلى الإيمان والعمل ،إلى جانب التقليد الكنسي و الفطرة السليمة .لم نكن نتكلم في الواقع عن الكتاب المقدس كثيرًا،ولم نكن نقرأه كثيرًا،حتى في فصول مدارس الأحد،التي كان تركيزها الأكبر على القضايا العملية والاجتماعية ،وعن الكيفية التي ينبغي أن نعيش بها في العالم.لكن الكتاب المقدس استحوذ على مكانة عظيمة في بيتنا،خاصة بالنسبة لأمي،التي كانت تقرأ لنا منه أحيانًا وتعمل على أن تتأكد من أننا نفهم قصصه وتعاليمه الأخلاقية(و"عقائده"بدرجة أقل) . حتى قبل سنوات دراستي في المدرسة الثانوية،أفترضُ أنني كنت أرى في الكتاب المقدس كتابًا غامضًا له بعض الأهمية بالنسبة للدين؛لكنه بالتأكيد لم يكن شيئا مستحقًا لأن يتم تعلمُه ومدارسته.لقد كان الكتاب المقدس يمثل للدين إحساسًا بالأصالة والقِدَم وكان بصورة أو بأخرى مرتبطًا بشكل لا يقبل الانفصام بالإله والكنيسة والعبادة . إلى الآن،لم أر أي مبرر يدفعني لقراءته من تلقاء نفسي أو لإتقانه.لكن الأمور تغيرت بصورة حادة بالنسبة إلي حينما كنت في السنة الثانية في المدرسة الثانوية.لقد حدث بعدها أن مررت بتجربة "الميلاد مرة ثانية" في محيطٍ شديدِ الاختلافِ عن محيط الكنيسة في مدينتي . لقد كنت نموذجًا للولد "المتزمت"ـــ فأنا طالب صالح،مهتم ومشارك في الرياضات المدرسية لكن ليس لدرجة النبوغ في واحدة منها ،مهتم ومشارك في الحياة الاجتماعية ولكني لست منتميًا إلى الطبقة العليا من النخبة ذات الشعبية في المدرسة. أتذكر شعورًا بنوع من الفراغ الداخلي بلغ درجةً لم يستطع أي شئ ملأه ـــ لا التسكع مع الأصدقاء (كنا بالفعل قد أدمنا جلسات جماعية للشراب في الحفلات)،ولا أخذ المواعيد الغرامية(بدأنا في دخول عالم الجنس شديدالغموض )، ولاالدراسة (كنت أذاكر بجد و أبليت بلاءا حسنًا لكن لم أكن نجمًا فوق العادة)، ولا العمل(كنت مندوبًا للمبيعات لحساب شركة تبيع المنتجات لفاقدي البصر)،ولا الكنيسة(كنت مساعدًا للكاهن وتقيًا وسيمًا ــــ أي كنت ذلك الشخص الذي يجب أن يكون في صباح كل أحد معترفًا بكل شئ حدث في ليلة كل سبت).كنت أشعر بنوع من الوحدة تزامن مع كوني شاب في مرحلة المراهقة ؛لكنني، بالطبع،لم أدرك أن الشعور بالوحدة جزء من كوني مراهق ــ ظننت أن شيئًا لابد وأنه ينقصني.حدث هذا عندما بدأت حضور لقاءات شبيبة الحياة الجامعية التابعة لنادي المسيح ؛ التي كانت تجري في بيوت الشباب ــــ أول لقاء حضرته كان حفلة في حديقة منزل (yard Party) لأحد الشباب وكان وسيمًا ومحبوبًا ،وهذا ما جعلني أظن أن المجموعة ستكون رائعة.قائد المجموعة كان في العشرينات من عمره يسمى "بروس" و كان يقيم هذا النوع من الحفلات لسبب حيوي – فقد حاولت أندية شباب من أجل المسيح التي يتم تنظيمها على النطاق المحلي أن تحول شباب المدارس الثانوية إلى "مولودين مرة أخرى" ثم بعد ذلك إشراكهم في دراسات جادة للكتاب المقدس،واجتماعات للصلاة،وما إلى ذلك . كان لبروس شخصية ساحرة – لقد كان أصغر سنًّا من آبائنا و أكثر خبرة منا ـــ ولديه رسالة قوية،وهي أن الفراغ الذي نحسه داخلنا (كنا مراهقين! كلنا نشعر بالفراغ) هو من عدم وجود "يسوع" في قلوبنا .ولو طلبنا فقط من "يسوع" أن يدخل،فسيدخل ويملأ حياتنا بالبهجة والسعادة التي يعرفها فقط "الحاصلون على الخلاص" . كان باستطاعة "بروس" أن يستحضر ما شاء من الاقتباسات من الكتاب المقدس في أي وقت،وكان يفعل ذلك بصورة مذهلة .ولشعوري بالتوقير تجاه الكتاب المقدس ،مع جهلي به، كان الأمر يبدو مقنعًا بكل ما في الكلمة من معنى.ولقد كان الأمر هنا مختلفًا عما كنت أشعر به تجاه الكنيسة التي كانت تستخدم طقوسًا قديمة ولذلك بدت ملائمة أكثر لبالغين عجائز وليس لشباب صغار يبحثون عن المتعة وروح المغامرة،وأيضًا يشعرون في ذواتهم بالفراغ.بالمختصر المفيد،تعرفت في النهاية ب"بروس"،و قبلت رسالته الخلاصية ،وطلبت من المسيح أن يدخل إلى قلبي، ومررت عن طيب خاطر بتجربة الميلاد مرة أخرى.لقد ولدت في الواقع قبل ذلك بخمسة عشر عامًا،لكن تلك التجربة كانت جديدة وممتعة في نظري. وجعلتني أبدأ رحلة إيمان مستمرة شهدت تحولات ومنعطفات كثيرة ،انتهت بنهاية مميتة برهَنَتَْ على أنها،في الواقع،طريق جديدة سلكتها في ذلك الوقت، تجاوزت الآن ما يزيد عن ثلاثين سنة.هؤلاء اللذين مروا بتجربة الولادة من جديد من بيننا يظنون أنفسهم المسيحيين"الوحيدين"ــــ عكس هؤلاء اللذين يذهبون إلى الكنيسة بشكل روتيني ،اللذين ليس لديهم المسيح حقًيقةً في قلوبهم ولذلك يذهبون إلى الكنيسة بشكل خالٍ من أي روح.إحدى الطرق التي تجعلنا مختلفين عن هؤلاء الآخرين هي التزامنا بدراسة الكتاب المقدس والصلاة . وخاصة دراسة الكتاب المقدس. بروس نفسه كان دارسًا للكتاب المقدس.فقد كان يدرس في معهد "مودي" للكتاب المقدس في شيكاغو وكان باستطاعته أن يقتبس جوابًا من الإنجيل لأي سؤال نفكر فيه(بل ولكثير من الأسئلة التي لم نكن لنفكر فيها على الإطلاق).أحسست سريعًا بالغيرة تجاه هذه القدرة على الاقتباس من الكتاب المقدس وانخرطت أنا أيضًا في حلقات لدراسة الكتاب المقدس ،درست بعض النصوص،فهمت مناسباتهم،وحتى حفظت الآيات الرئيسية .أقنعني بروس أنني يجب أن أهتم بأن أكون مسيحيًا "جادًا" وأن أكرس نفسي بالكامل للإيمان المسيحي.هذا كان يعني أن أدرس الكتاب المقدس بالكامل في معهد "مودي" للكتاب المقدس،الذي كان،من بين أمور أخرى عديدة،يمثل تغييرًا جذريًا لنمط حياتي.في معهد "مودي" هناك "قانون" أخلاقي يجب على الطلاب أن يمتثلوه:لا خمر،لا تدخين،لا رقص،لا قمار،لا أفلام.بل كثير بما فيه الكفاية من الكتاب المقدس . كنا معتادين على ترديد:"معهد مودي للكتاب المقدس ،حيث الكتاب المقدس هو ما يميزنا."أظن أنني نظرت إليه كمعسكر مسيحي تدريبي ذي نظامٍ قاسٍ.في كل مناسبة،قررت أن أتعامل مع إيماني بجدية كاملة؛تقدمت بطلب التحاق لمعهد "مودي"،التحقت به،وذهبت إلى هناك في خريف 1973.لقد كانت تجربة معهد "مودي" تجربة قوية.قررت أن أتخصص في اللاهوت الكتابي،وهو ما كان يعني الحصول على الكثير من دروس الكتاب المقدس ودورات اللاهوت النظامي.وجهة نظر واحدة كنا نتعلمها في هذه الدورات،صدق عليها كل الأساتذة(وكان عليهم أن يوقعوا إفادة بذلك)وكل الطلاب (وقد فعلنا الشئ ذاته):الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة.ليس به أية أخطاء.أوحاه الله وكل كلمة من كلماته ــــ "وحيًا شفويًا،كاملاً."

كل الدورات العلمية التي حصلت عليها تفترض مسبقًا وتُعَلِّم وجهة النظر هذه؛وأيُّ وجهة نظر أخرى ماهي إلا وجهة نظر مضلِّلَة أو حتى هرطوقية.البعض،فيما أظن،سيسمي ذلك عملية غسيل مخ.بالنسبة إليَّ،كان ذلك"ارتقاءا" هائلاً عن وجهة النظر الخجولة تجاه الكتاب المقدس التي كنت أعتنقها باعتباري عضوًا تقليديٍّا في الكنيسة الأسقفية في ريعان شبابي. هذه هي المسيحية الواضحة ،التي تناسب الملتزمين التزامًا كاملاً. إلا أنه كان هناك إشكالية واضحةٌ تواجه هذا الزعم بأن الكتاب المقدس موحى به حرفيًا ــــ وفقا لكلماته نفسها . فكما تعلمنا في معهد "مودي" في واحدةٍ من الدورات الأولى للمنهج الدراسي،ليس لدينا بالفعل النصوص الأصلية للعهد الجديد.ما بحوذتنا هو نسخ من هذه الكتابات،كتبت بعد ذلك بسنين ـــ بل بعد ذلك بمئات السنين ،في الغالب الأعم. فوق ذلك،ليس بين هذه النسخ نسخة صحيحة بالكامل ،حيث قام النساخ اللذين أنتجوها بطريق السهو و/أو عن قصد بتغييرها عن مواضعها. كل النساخ فعلوا ذلك.ولذلك بدلا من امتلاك كلمات المخطوطات الموحى بها فعليًا(أي الأصول)،ما لدينا هو نسخ مليئة بالأخطاء (errorridden) من تلك الأصول. لذلك، كان التحقق مما قالته أصول الكتاب المقدس إحدى أكثر المهام إلحاحًا ، مع وضع الظروف التالية في الاعتبار (1) أنها موحى بها (2)أننا لا نمتلكها . يجب أن أذكر أن كثيرًا من أصدقائي في "مودي" لم يروا أن هذه المهمة تستحق كل هذه الاهتمام أو العناء.كانوا سعيدين بالركون إلى الزعم بأن الأصول كانت من الوحي،وبتجاهل أن الأصول ،إن بشكل أكبر أو أقل، لم يعُد لها وجود. بالنسبة إليَّ،على الرغم من ذلك،كانت هذه مشكلة قهرية .لقد كانت هذه هي كلمات الكتاب المقدس ذاتها التي كان الرب قد أوحاها.وبالتأكيد كان من الواجب أن نعرف ماهية هذه الكلمات لو كنا نريد أن نعرف كيف كان الله يريد أن يتواصل معنا،مادامت الكلمات ذاتها هي كلماته،ووجود بعض الكلمات التي كتبها الآخرون(أي التي أحدثها النساخ إن عرضيًا أو بشكل متعمد)لن تساعدنا كثيرًا لو أردنا أن نعرف كلماته . هذا ما جعلني مهتمًا بمخطوطات العهد الجديد في ذلك الوقت حينما كنت في الثامنة عشر من عمري. في معهد "مودي"،تعلمت الأساسيات في ميدان "النقد النصي" ـــ وهو مصطلح علمي يقصد به علم استعادة الكلمات "الأصلية" لنص ما من مخطوطاته التي تم العبث بها. إلا أنني حتى ذلك الوقت لم أكن مؤهلاً بعد للتعامل مع هذا العلم .أولاً كان عليَّ أن أتعلم اللغة اليونانية ،لغة العهد الجديد الأصلية،وربما لغات قديمة أخرى مثل العبرية(لغة العهد القديم حسب المصطلح المسيحي) واللاتينية، بالإضافة إلى اللغات الأوروبية الحديثة مثل الألمانية والفرنسية ،من أجل لاطلاع على ما قاله العلماء الآخرون بخصوص هذه القضايا . لقد كان الطريق أمامي طويلا . في نهاية الثلاث سنوات التي قضيتها في معهد "مودي"( كانت الدبلومة مدتها ثلاث سنوات)،كنت قد أبليت بلاءًا حسنًا في مقرراتي الدراسية وأصبحت أكثر جدية عن ذي قبل فيما يتعلق برغبتي أن أصبح عالمًا مسيحيًا.كان تصوري في ذلك الحين أنَّ ثمة وفرة في العلماء الحاصلين على تعليم عال بين المسيحيين الإنجليين،لذلك أردت أن أصبح "صوتًا" للإنجيليين داخل الدوائر العلمانية،عبر الحصول على درجات علمية تسمح لي أن أقوم بالتدريس في المحيطات العلمانية في الوقت الذي أحافظ فيه على التزاماتي الدينية الإنجيلية. أولاً ،كان يلزمني الحصول على درجة البكالوريوس،ولكي أفعل هذا فقد قررت أن التحق بكلية من الكليات الإنجيلية الأعلى مقامًا.وقع اختياري على "ويتون كوليدج"، الواقعة في إحدى ضواحي شيكاغو. في "مودي" تلقيت تحذيرات بخصوص أنه من الصعب العثور على مسيحيين حقيقيين في "ويتون" ــ وهو ما يكشف حجم التطرف في "مودي": فـ"ويتون" كانت مفتوحة فقط أمام المسيحيين الإنجيليين وقد تخرج منها بيلي جراهام ،على سبيل المثال . في البداية وجدتها أكثر تحررًا ولو قليلا بالمقارنة مع ما أؤمن به .كان الطلاب يتحدثون عن الأدب، والتاريخ،والفلسفة أكثر من الحديث عن الوحي الشفوي للكتاب المقدس. كانوا يفعلون ذلك من منظور مسيحي،ولكن بغض النظر عن ذلك:ألم يلاحظوا بالفعل أهمية هذا الأمر (أي الوحي الشفوي)؟

قررت أن أتخصص في الأدب الإنجليزي في جامعة "ويتون"،حيث كانت القراءة إحدى هواياتي وخاصة منذ أن علمت أنه لكي أشق طريقي إلى الدوائر العلمية ، فسيكون عليَّ أن أصبح واسع الاطلاع في مجالٍ من مجالات العلم بخلاف الكتاب المقدس. قررت أيضًا أن ألزم نفسي بتعلم اليونانية. في ذلك الوقت ، وخلال فصلي الدراسي الأول في "ويتون" ،التقيت الدكتور "جيرالد هاوثورن" ،أستاذي في اللغة اليونانية و الذي أصبح أكثر الأشخاص تأثيرًا في حياتي كعالم ،وكأستاذ،و،أخيرًا ،كصديق . كان "هاوثورن" ،تماما مثل معظم أساتذتي في "ويتون"، مسيحيًا إنجيليًا ملتزمًا.لكنه كان لا يخشى من أن يُخْضِع إيمانه للأسئلة . في حينه، وجدت في ذلك علامة على الضعف (في الحقيقة،كنت أعتقد أنني تقريبًا أمتلك جميع الأجوبة عن أسئلته)؛في النهاية رأيت فيه التزامًا حقيقيًا بمقتضيات الحقيقة و رأيت فيه استعدادًا للانفتاح على إمكانية أن تكون أراء الإنسان في حاجة للمراجعة في ضوء اتساع المعرفة وخبرات الحياة. كان تعلم اليونانية تجربة مثيرة بالنسبة لي. وحينما انتهت دراستي ،كنت جيدًا للغاية في أساسيات اللغة وكنت على الدوام طامحًا إلى المزيد.وفي مرحلة أكثر عمقًا، أصبحت تجربة تعلم اللغة اليونانية إلى حدٍ ما مجهدة لي ولنظرتي للكتاب المقدس.ثم صرت أرى في مرحلة مبكرة أن المعنى الكامل للنص اليوناني للعهد الجديد لا يمكن التعرف عليه إلا عندما نقرأه وندرسه في لغته الأصلية (الأمر نفسه ينطبق على العهد القديم،كما عرفت فيما بعد عندما تعلمت العبرية).وكل هذا كان يدعم ، حسب ما كنت أعتقد ، اتجاهي لتعلم اللغة على نحوٍ أعمق . في الوقت ذاته،جعلني ذلك أشك في مفهومي عن الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المنزلة حرفيًّا. وإذا كان المعنى الكامل لكلمات الكتاب المقدس لا يمكن الحصول عليه إلا عبر دراسة الكتاب المقدس باللغة اليونانية(والعبرية)،ألا يعني ذلك أن معظم المسيحيين ،اللذين لا يعرفون اللغات القديمة،لن يصلوا أبدًا للطريق الصحيح إلى معرفة ما أراد الله منهم أن يعرفوه؟ ألا يجعل هذا من عقيدة الوحي مجرد عقيدة ملائمة فقط للنخبة واسعة الإطلاع ، ممن يمتلكون المهارات الفكرية و الفراغ اللازمين لتعلم اللغات ودراسة النصوص عبر قراءتها بلغتها الأصلية؟ما الفائدة التي نتحصل عليها من قولنا إن هذه الكلمات موحى بها من الله ما دام غالبية الناس لا يعرفون سبيلا إلى هذه الكلمات على الإطلاق ،وإنما بإمكانهم الاطلاع فحسب على ترجمات أكثر أو أقل إتقانًا لهذه الكلمات إلى لغة ليس لها أيُّ علاقة بالكلمات الأصلية،مثل الإنجليزية ؟ (1)

كانت أسئلتى تتعقد أكثر وأكثر كلما بدأت التفكير على نحوٍ متزايد في المخطوطات التي تحوي الكلمات.كلما تعمقت في دراسة اليونانية،كلما صرت أكثر اهتمامًا بالمخطوطات التي تحتفظ لنا بالعهد الجديد،وبعلم النقد النصي،والذي من المحتمل أن يكون قادرًا على مساعدتنا في استعادة الكلمات الأصلية للعهد الجديد على صورتها التي كانت عليها . وكنت دئاما أعود إلى سؤالي الأساسي:كيف يمكن للقول إن إن الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة أن يساعدنا لو كنا في الواقع لا نمتلك تلك الكلمات المعصومة التي أوحاها الله ،وإنما الكلمات التي نسخها النساخ ــــ بطريقة صحيحة أحيانًا وبطريقة غير صحيحة أحيانًا أخرى(كثيرة)؟ ما الفائدة المرجوة من القول إن الأصول كانت موحى بها؟ نحن لا نمتلك الأصول! ما نمتلكه هو نسخ محرفة ،والأغلبية العظمى منها تفصلها مئات السنين عن الأصول وهي تختلف عنها،بوضوح،في آلاف المواضع . اجتاحتني هذه الشكوك ودفعتني إلى التنقيب بتعمق أكبر،بغية الوصول إلى فهم أوضح للحقيقة التي كان عليها الكتاب المقدس . أنهيت دراستي في "ويتون"في عامين وقررت،بتوجيهاتٍ من الأستاذ هاوثورن،أن أتخصص في النقد النصي للعهد الجديد بالاتجاه إلى الدراسة تحت إشراف الخبير ذي الشهرة العالمية في هذا الميدان ،العالم بروس .م. ميتزجر ، الذي كان يقوم بالتدريس في معهد "برينستون" اللاهوتي. مرة أخرى حذرني أصدقائي من الإنجيليين من الالتحاق بـمعهد "برينستون"،لأنه،كما قيل لي،سيكون من الصعب علي أن أجد مسيحيين "حقيقيين"هناك. لقد كان معهدبرينستون ،رغم هذا ،معهدًا مشيخيًا ،لكنه لم يكن بالتأكيد تربةً خصبةً لظهور المسيحيين المولودين مرة أخرى. كانت دراستي للأدب الإنجليزي،والفلسفة،والتاريخ ــــ ناهيك عن اليونانية ـــ قد وسعت آفاقي بشكل كبير ،وأصبحت أجد متعتي الآن في المعرفة ،المعرفة بكافة أشكالها،الدينية والدنيوية . ولو أن معرفة "الحقيقة"تعني أن لا أكون بعدُ من المسيحيين المولودين مرة أخرى مثل الذين عرفتهم في الثانوية ،فليكن ما يكون . كنت أنوي أن أواصل بحثي عن الحقيقة مهما كان الطريق الذي ستقودني إليه، وأنا على ثقة من أنَّ أيَّ حقيقة سأتعلَّمها لا يقلل من قيمتها كونها غير متوقعة أو كونها تتلائم بصعوبة مع التصنيفات التي تضعها خلفيتي الإنجيلية . عند وصولي إلى معهد "برينستون" اللاهوتي ،التحقت سريعًا بفصول السنة الأولى للتفسير باليونانية والعبرية،وشغلت جدولي بقدر ما أستطيع بمثل هذه الدروس.وجدت في هذه الفصول تحديًا ،على المستويين العلمي والشخصي . أما التحدي على المستوى العلمي فقد كنت مرحِّبًا به بشكل كامل،لكنَّ التحديات الشخصية التي واجهتها كانت على عكس ذلك مزعجة من الناحية العاطفية. فكما أشرت،كنت بالفعل قد بدأت في "ويتون" في الشك في بعض المظاهر الأساسية في التزامي نحو الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة من الخطأ.هذا الالتزام كان عرضة لتهديدات جدية خلال دراستي التفصيلية في "برينستون" . لقد قاومت كل محاولة لتغيير وجهات نظري،ووجدت عددًا من الأصدقاء،القادمين،مثلي، من مدارس إنجيلية محافظة وكانوا يحاولون أن "يحافظوا على الإيمان "(وهي طريقة مثيرة للضحك لوضع الإيمان في برنامج مسيحي لاهوتي ،أي التمسك بالماضي حيث كنا ، على الرغم من كل ما يتناقض مع ذلك من مؤشرات ). لكنَّني بدأت أنشغل بدراساتي . وجاءت نقطة التحول في الفصل الدراسي الثاني ،خلال دورة كنت أحضرها تحت إشراف أكثر الأساتذة تقديرا وتدينا وكان اسمه "كولين ستوري".وقد كانت الدورة حول تفسير إنجيل مرقس، وكان إنجيلي المفضل حينها (وما يزال). وقد كان يُشْتَرَطُ فينا لحضور هذه الدورة أن نكون قادرين على قراءة إنجيل مرقس كاملا باللغة اليونانية(حفظت كلمات الإنجيل اليونانية كاملةً قبل أسبوع واحدٍ من بداية الفصل الدراسي):كان علينا أن نحتفظ بدفتر ملاحظات تفسيرية نسجل فيها انطباعتنا حول تفسير الفقرات الرئيسية؛ وقد كنا نناقش المشكلات المتعلقة بتفسيرات النصوص،وكان ينبغي علينا أن نكتب مقالا في نهاية الفصل الدراسي حول إشكال تفسيري نختاره نحن . وقد اخترت الفقرة في مرقس 2 ،حيث يتصدى الفريسيون ليسوع لأن تلامذته كانوا يمشون عبر أحد الحقول،وكانوا يأكلون من السنابل في يوم السبت.كان يسوع يريد أن يبيِّن للفريسيين أن"السبت جعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت"ولذلك ذكَّرهم بما كان الملك داوود العظيم قد فعله عندما شعَرَ ورجاله بالجوع،و كيف أنهم قد دخلوا إلى الهيكل "حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر"وأكلوا من خبز التقدمة،الذي كان مخصصًا للكهنة فقط . إحدى الإشكاليات الشهيرة في الفقرة هي عندما ينظر الإنسان إلى الفقرة التي استشهد بها يسوع من العهد القديم (1 صمويل 21 : 6 )، يتضح أن داوود لم يفعل ذلك عندما كان أبيثار هو الكاهن الأعظم ،وإنما عندما كان أخيمالك والد أبيثار هو الكاهن . بطريقة أخرى ،هذه الفقرة هي واحدة من تلك الفقرات التي يشار إليها لبيان أن الكتاب المقدس ليس معصومًا من الخطأ على الإطلاق ، بل يحوي أخطاءًا. في ورقتي التي قدمتها إلى الأستاذ "ستوري"،طورت فكرة جدلية طويلة ومعقدة مفادها أنه حتى لو كان مرقس يشير إلى حدوث ذلك "حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر،" فإن هذا لا يعني في الحقيقة أن أبيثار كان هو الكاهن الأعظم ،وإنما المعنى هو أن هذا الحدث وقع في هذا الجزء من النص الكتابي الذي يعتبر فيه أبيثار واحدًا من الشخصيات الرئيسية .كانت فكرتي تتمركز حول أن معنى الكلمات اليونانية المشار إليها هو معنى معقد إلى حد ما. كنت على يقين لا يتزعزع أن الأستاذ"ستوري" سيثني على هذه الرؤية الجدلية ،حيث إنني أعلم أنه عالمٌ مسيحيٌّ صالحٌ وهو بالتأكيد (مثلي) لا يمكن أن يفكر مطلقًا في أنَّ شيئًا ما خطأ بالفعل داخل الكتاب المقدس. لكنه كتب في نهاية بحثي تعليقًأ بسيطًا من سطر واحدٍ أثر فيّ كثيرًا لأسباب عدة. فقد كتب يقول:"ربما مرقس وقع في خطأ."
بدأت أفكر في هذا التعليق،وفي كل العمل الذي قدمته في البحث،وفهمت أنني كان من المفترض أن أقوم ببعض المناورات التفسيرية الوهمية للالتفاف حول المشكلة ،وأن الحلَّ الذي اقترحته في الحقيقة كان ممطوطًا إلى حدٍ ما . في النهاية وصلت لنتيجة:"...ربما مرقس بالفعل قد ارتكب خطئًا."

وما أن كتبت هذا الاعتراف،حتى زالت السدود.لأنه لو كان ثمة خطأٌ واحدٌ صغيرٌ وتافهٌ في مرقس 2 ،فربما يوجد أخطاءأخرى في أماكن أخرى أيضًا. فعندما سيقول يسوع بعد ذلك في مرقس 4 إن بذرة الحنطة هي"أصغر كل بذور الأرض،"فربما ليس بي حاجة أن أوافق على تفسيرٍ وهميٍّ حول كيف أن حبة الحنطة هي الأصغر بين كل البذور ، في الوقت الذي أعلم تمامًا أنَّ هذا ليس صحيحًا .وربما ينطبق أمر هذه الأخطاء على قضايا أكثر أهمية. فمن المحتمل أنه حينما يقول مرقس إن يسوع صلب في اليوم التالي لتناوله عشاء الفصح(مرقس 14 : 12 ،15:25) وحينما يقول يوحنا إنه مات في اليوم السابق لتناوله إياه(يوحنا 19 :14)ــــ ربما كان ذلك تناقضًا حقيقيًّا . أو عندما يشير لوقا في حكايته لقصة ميلاد يسوع أن يوسف ومريم عادا إلى الناصرة بعد مايزيد عن شهر بالتمام من مقدمهم إلى بيت لحم (وتأديتهم لطقوس التطهير ؛لوقا 2 :39 )،في الوقت الذي يشير متى إلى أنهم هربوا بدلا من ذلك إلى مصر (متى 2: 19-22) ـــ ربما يكون هذا تناقضًا آخر . و حينما يقول بولس إنه بعد أن آمن على الطريق إلى دمشق لم يذهب إلى أورشاليم لكي يرى هؤلاء اللذين كانوا رسلاً من قبله(غلاطية 1 :16-17)،في الوقت الذي يقول سفر الأعمال أن ذلك كان عمله الأول بعد مغادرته دمشق (الأعمال 9 :26) ـــ فربما يكون هذا تناقضًا آخر.هذا النوع من الفهم تواكب مع المشكلات التي كنت أواجهها كلما درست بعناية أكبر مخطوطات العهد الجديد الموجودة.ليس أمامنا سوى أن نقول إن الأصول كانت منزلة من قبل الله ،لكنَّ الحقيقة هي أننا لا نملك هذه الأصول ـــــ ولذلك، القول إنها كانت موحى بها لا يساعدنا كثيرًا،إلا إذا استطعت إعادة بناء الأصول. زد على ذلك أن الغالبية الساحقة من المسيحيين لم يسمح لهم بالوصول إلى الأصول طوال تاريخ الكنيسة كاملا ولم يسمح لهم بوضع مسألة المصدر الإلهي لهذه الأصول موضع نقاش .بل إن الأمر لا يقتصر على فقدان الأصول، بل نحن لا نملك أيضًا النسخ الأولى من الأصول. بل نحن لا نملك أي نسخٍ حتى الجيل الثالث منها .ما نملكه هو نسخ كتبت في وقت متأخرـــ متأخر للغاية.على أحسن تقدير،كانت نسخًا كتبت بعد ذلك بقرون كثيرة . وهذه النسخ تختلف جميعها من واحدة لأخرى،في مواضع كثيرة تُعَدُّ بالآلاف. وهذه النسخ ، كما سنرى فيما بعد في هذا الكتاب، تختلف بعضها عن بعض في مواضع كثيرة للغاية إلى درجة أننا حتى لا نعرف عدد الاختلافات الموجودة . وللتسهيل يمكننا أن نضعها على هيئة مقارنات: عدد الاختلافات بين مخطوطاتنا كبيرٌ على نحوٍ يفوق عدد كلمات العهد الجديد . معظم هذه الاختلافات لاقيمة لها وغير ذات أهمية . وقسم كبير منها يبين لنا ببساطة أن النسَّاخ في القديم كانت مقدرتهم على الاستهجاء ليست بأفضل حالا من مقدرة الناس في أيامنا هذه (بل لم يكن لديهم حتى معاجم،ناهيك عن مصحِّحٍ إملائي). رغم ذلك،ما هو سبب كل هذه الاختلافات؟ لو أن شخصًا ما يزال يصرُّ على أن الرب بالفعل أوحى كلمات الكتاب المقدس ،فما الفائدة من ذلك إذا كنا لا نمتلك بالفعل كلمات الكتاب المقدس الأصلية ؟

في بعض المواضع ،كما سنرى، لا يمكننا أن نصل إلى درجة من اليقين تخولنا أن نقول إننا أعدنا بناء النص الأصلي على نحوٍ دقيق. إن معرفة ما تعنيه كلمات الكتاب المقدس لهو أمر عسير إذا كنا لا نعرف حتى ماهية هذه الكلمات !

تحول هذا الأمر إلى مشكلة في وجه ما كنت أتبناه من وجهات نظر فيما يتعلق بالوحي،لأنني وصلت إلى الاقتناع بأن حفظ كلمات الكتاب المقدس هو أسهل على الله من قدرته على الإيحاء بها بدايةً .ولو كان الله يريد أن تصل كلماته إلى شعبه ،فبالتأكيد سيعطيهم إياها(وربما سيعطيهم إياها في لغة يمكنهم فهمها،وليس في اللغة العبرية أو اليونانية). حقيقةُ أننا لا نمتلك هذه الكلمات يجب أن تؤكد لنا ،حسب ما كنت أعتقد ،أنه لم يحفظ هذه الكلمات من أجلنا. وإذا لم يكن قد صنع هذه المعجزة (أي حفظ الكتاب)،فيبدو أنه ليس هناك مبررٌ يجعلنا نعتقد أنه صنع المعجزة الأولى التي هي إنزال هذه الكلمات كوحي.

باختصار،تعلُّمي للغة اليونانية ودراستي للمخطوطات اليونانية،أدت بي إلى إعادة النظر بصورة جذرية في مفهومي لماهية الكتاب المقدس.كان ذلك تغييرًا مزلزلا بالنسبة إلي . قبل ذلك ـــ منذ بداية تجربة الميلاد مرة ثانية التي مررت بها في المدرسة العليا،مرورًا بأيام تزمتي الديني في معهد "مودي"،و الذي استمرَّ وصولا إلى أيامي التي عشتها كإنجيليٍّ في معهد "ويتون"ـــ كان إيماني مبنيًا بالكامل على نظرة يقينية إلى الكتاب المقدس باعتباره كلمة الرب الموحى بها والمعصومة تماما من الخطأ . الآن ما عدتُ أرى الكتاب المقدس على هذا النحو . بدأ الكتاب المقدس يبدو لي ككتاب بشري تماما .فكما دوَّن النساخون المنتمون إلى بني البشر نصوص الكتاب المقدس و حرَّفوها ،فكذلك وبالطريقة ذاتها دونت نصوص الكتاب المقدس منذ البداية بمعرفة مؤلفين من بني البشر. لقد كان كتابًا بشريًا من البداية وإلى النهاية.كتبه مؤلفون متنوعون من البشر في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة تلبيةً لحاجات مختلفة. كثيرٌ من هؤلاء المؤلفين بلا شك كانوا يشعرون أنهم يوحى إليهم من قبل الله لقول ما حدث ،لكنهم كان لهم آراؤهم ،ومعتقداتهم ،ورؤاهم ،وحاجاتهم ،و رغباتهم و،مفاهيمهم ،وعقائدهم اللاهوتية الخاصة. وهذه الآراء،والعقائد،ووجهات النظر،والحاجات،والرغبات،والمفاهيم ،والعقائد اللاهوتية أملت عليهم كلَّ شئ قالوه. لقد كانوا مختلفين في كل هذه الأمور.ومن بين أمور أخرى، كان هذا يعني أن مرقس لم يقل الشئ ذاته الذي قاله لوقا ، وذلك لأنه لم يكن يقصد الشئ ذاته الذي يقصده لوقا. يوحنا يختلف عن متى ــــ ليسوا سواءًا . بولس في رسائله يختلف عن بولس الموجود في الأعمال.ويعقوب يختلف عن بولس. كلُّ مؤلفٍ هو كائنٌ بشريٌّ ، وهو بحاجة إلى أن يقرأ الناس ما يكتبه (على فرض أنهم جميعًا من البشر)من أجل ما يجب عليه أن يقوله ،وليس عبر الافتراض أن ما يكتبه هو الشئ ذاته،أو متطابق مع،ملائم لما يجب أن يكتبه كلُّ مؤلف آخر. الكتاب المقدس ،في النهاية، هو كتابٌ بشريٌّ. كانت هذه الرؤية جديدة عليّ ،ومن الواضح أنها لم تكن الرؤية ذاتها التي كنت أعتنقها أبَّان كوني مسيحيًا إنجيليًا ـــ ولا هي الرؤية التي يعتنقها الغالبية من المسيحيين الإنجيليين اليوم. اسمحوا لي أن أقدم مثالا للتباين الذي اتسمت به رؤيتي المغايرة للكتاب المقدس. عندما كنت في معهد "مودي"،كان كتاب ،كوكب الأرض العظيم الراحل،لهال ليندسيي Hal Lindsey عن التخطيط الرؤوي apocalyptic لمستقبلنا واحدًا من أكثر الكتب رواجًا في الجامعة. كان كتاب ليندسي هو الأكثر رواجًا ليس فقط في "مودي"،بل إنه كان ،في الحقيقة،العمل الأكثر مبيعًا بين الأعمال المنبنية على حقائقwork of nonfiction (بالإضافة إلى الكتاب المقدس؛واستخدام مصطلح "المنبني على حقائق" هو استخدام فضفاض بعض الشئ) المكتوبة باللغة الإنجليزية في السبعينات.كان ليندسي يؤمن ،مثلنا حينما كنا في مودي، بأن الكتاب المقدس معصومٌ بشكل مطلق من الخطأ في كل كلمة من كلماته،إلى درجة أنك تستطيع أن تقرأ العهد الجديد وأن تعرف الكيفية التي يريدك الرب أن تعيش من خلالها ،و ليس ذلك فحسب ،بل ما يريدك أن تؤمن به،بل و أن تعرف أيضًا ما كان الله ذاته يخطط لأن يفعله في المستقبل وكيف كان سيفعله. كان العالم متجهًا نحو أزمة رؤوية ذات أبعاد كارثية ،وكانت كلمات الكتاب المقدس المنزهة عن الخطأ يمكن قراءتها لإظهار ماهية ،وكيفية و توقيت حدوث كل ذلك. لقد كنت متيمًا بشكل خاص بال"توقيت". أشار ليندسي إلى مثل شجرة التين الذي ضربه يسوع كعلامة على التوقيت الذي يمكننا أن ننتظر عنده حدوث معركة هرمجدون المستقبلية . كان تلاميذ يسوع يريدون أن يعرفوا متى ستحين لحظة "النهاية" ويسوع يجيبهم:

فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ.(متى 24 :32-34).
ماذا يعني هذا المثل؟ يحلل ليندسي رسالتها،معتقدًا أنها كلمة الرب ذاته المعصومة من الخطأ، عبر الإشارة إلى أن "شجرة التين" في الكتاب المقدس كثيرًا ما استخدمت كرمز لشعب إسرائيل. ماذا يعني أن تخرج أغصانها؟ هذا سيعني أن الشعب بعد أن يدخل في بيات فَصْلِيّ (شِتوي) ،سيعود مرة أخرى للحياة.ومتى ستعود إسرائيل مرة أخرى إلى الحياة؟ في 1948، حينما أصبحت إسرائيل أمة ذات سيادة مرة أخرى،يشير يسوع إلى أن النهاية ستأتي في خلال الجيل ذاته الذي سيقع له ذلك .وما هو عمر الجيل وفقًا للكتاب المقدس؟ أربعون سنة.من هنا فإنه حسب التعليم الإلهي الموحى به مباشرة من بين شفاه يسوع: ستحل نهاية العالم في وقت ما قبل عام 1988،أي بعد أربعين سنة من ظهور إسرائيل مرة أخرى.كانت هذه الرسالة آنذاك مقنعة لنا تمامًا .ربما يبدو الأمر غريبًا الآن ــــ مع الأخذ في الاعتبار أن العام 1988 قد جاء وذهب من دون أن تقع هرمجدون ـــ لكن،من ناحية أخرى،هناك ملايين المسيحيين اللذين لا يزالون يعتقدون أنَّ الكتاب المقدس يمكن قراءته حرفيًا ككتاب موحى به في تنبؤاته عمَّا هو مزمع أن يقع وصولا إلى نهاية التاريخ كما نعرفه . انظر إلى آخر صيحة في هذه الأيام وهي سلسلة (Left Behind) للكاتبين "تيم لاهاي" و"جيري جينكينز"،التي هي رؤية رؤوية أخرى لمستقبلنا مبنية على القراءة الحَرْفِية للكتاب المقدس،وهي سلسلة بيع منها ما يزيد عن ستة ملايين نسخة في يومنا الحاضر.إنها لتحول عظيم من قراءة الكتاب المقدس كتخطيط معصوم لإيماننا ،وحياتنا،و مستقبلنا إلى رؤيته ككتاب بشري إلى حد بعيد،يحمل وجهات نظر بشرية ،كثيرٌ منها تختلف الواحدة عن الأخرى ، ولا تمثل واحدة منها دليلاً معصومًا من الخطأ يرشدنا إلى الكيفية التي ينبغي أن نحيا على هديها . هذا هو التغيير الذي انتهيت ،حسب وجهة نظري ، من صياغته،والذي أؤمن به الآن بصورة مطلقة. كثيرٌ من المسيحيين ،بالطبع،لم يؤمنوا أبدًا من البداية بالكتاب المقدس وفقًا لتلك الرؤية الحَرفِيَّة،وبالنسبة لهم مثل هذه الرؤية ربما بدت متحيزة وغير دقيقة(ناهيك عن غرابتها و عدم ارتباطها بقضايا الإيمان) . وهناك ،على الرغم من ذلك، عددٌ كبير من الناس هنا وهناك ما يزالون ينظرون إلى الكتاب المقدس على هذا النحو.أحيانًا،أرى ملصقًا على سيارة يقول:"الرب قاله،أنا أؤمن به،وهو حل مشاكلنا ." ودائما ما يكون جوابي ،ماذا لو كان الرب لم يقله؟ ماذا لو كان الكتاب الذي تعتبره يقدم لك كلمة الرب، يحتوي بدلا من ذلك على كلمات بشرية؟ ماذا لو كان الكتاب المقدس لا يقدم لك جوابًا أكيدًا للأسئلة المعاصرة ــــ الإجهاض،حقوق المرأة،حقوق الشواذ،التفوق الديني،الديموقراطية الغربية،وما أشبه؟ ماذا إن كان من المتحتم علينا أن نستكشف بأنفسنا كيف نعيش وبماذا نؤمن،بدون تنصيب الكتاب المقدس كوثن زائف ــ أو كوسيط يهدينا إلى الطريق المباشر للاتصال بالخالق؟

هناك أسباب واضحة تدفعنا للاعتقاد أن الكتاب المقدس،في الواقع،ليس من ذلك النوع من الهداة المنزهين عن الخطأ لحياتنا :فبين أمور أخرى ، كما كنت أوضح ، في مواضع كثيرة لا نعرف حتى(كعلماء،أو كقراء منتظمين فحسب)كيف كانت أصول كتاب المقدس . لقد تغيرت معتقداتي الشخصية بشكل عنيف من خلال إدراكي لهذا، لتسوقني إلى طرق مختلفة تمامًا عن تلك التي مررت بها في أواخر سني مراهقتي وبواكير العشرينات من عمري. واصلت تقديري للكتاب المقدس وللرسائل الكثيرة والمتنوعة التي يحتويها ــ بقدر ما أصبحت أقدر كتابات المسيحيين الأوائل الأخرى التي كتبت قريبا من الفترة ذاتها وبعد ذلك بقليل ، كتابات الشخصيات الأقل شهرة مثل إجناتيوس الأنطاكي ،كليمنت الروماني (نسبة إلى روما)،وبرنابا السكندري،وأصبحت حتى أقدِّر كتابات الشخصيات الذين ينطلقون من معتقدات أخرى ، في الوقت نفسه تقريبًا،مثل كتابات يوسيفوس ،ولوسيان السمساطي،وبلوتارخ . كلُّ هؤلاء المؤلفين كانوا يحاولون أن يتصوروا العالم وموقعهم فيه، وفي كل عمل من أعمالهم يوجد أشياء قيِّمة يمكننا تعلمها. من المهم أن نعرف كلمات هؤلاء المؤلفين، حتى نستطيع أن نرى ما كان ينبغي أن تكون عليه أقوالهم أو أحكامهم ،ثم،بالنسبة لنا ماذا نعتقد وكيف نعيش في ضوء هذه الكلمات . إن هذا يعود بي إلى اهتمامي بمخطوطات العهد الجديد ودراسة هذه المخطوطات من خلال الميدان العلمي الذي يعرف بالنقد النصي . ما أعتقده حول النقد النصي هو أن هذا هو ميدانُ دراسةٍ ضروريٌّ وجذابٌ ، وهو ذو أهمية ليس فقط بالنسبة إلى العلماء ولكن بالنسبة إلى المهتمين بالكتاب المقدس كلِّهم (سواء أكانوا ممن لا يزالون من أنصار التفسير الحرفي،أو ممن كانوا أنصارا للتفسير الحرفي سابقًا ،أو حتى ممن لم يكونوا يومًا من أنصار التفسير الحرفي، ولأيِّ شخص له اهتمام ولو من بعيد بالكتاب المقدس كظاهرة تاريخية وثقافية). الأمر المثير للصدمة،بالرغم من ذلك،هو أن غالبية القراء ـ حتى هؤلاء اللذين يهتمون بالمسيحية ،وبالكتاب المقدس،وبالدراسات الكتابية،و هؤلاء اللذين يؤمنون بالكتاب المقدس ككتاب معصوم من الخطأ والآخرون اللذين لا يؤمنون بذلك ــ لا يعرفون تقريبًا أي شئ عن النقد النصي.وليس من الصعب معرفة أسباب هذا .وعلى الرغم من حقيقة أن النقد النصي كان موضوعًا لعلم عمره الآن ما يزيد عن ثلاثمائة عام،فإن هناك بالكاد كتابًا واحدًا يدور حول هذا العلم يخاطب الجمهور العلماني ـــأي للذين لا يعلمون شيئا عنه، أي للجمهور الذي لا يعرف اليونانية ولا اللغات الأخرى اللازمة لدراساته الأكثر تعمقًا ،وللذين لا يعلمون حتى أن هناك "مشكلة" في النصوص،ولكنهم في الوقت ذاته لديهم الفضول لمعرفة جواب السؤالين التاليين كليهما: ما هي هذه المشاكل و كيف باشر العلماء التعامل معها؟(2) . هذا الكتاب الذي نحن بصدده هو من هذه النوعية ــ و حسب علمي ، هو الأول من نوعه . كتبته لمن لا يعرفون شيئا من الناس عن النقد النصي ولكنهم ربما يحبون أن يتعلموا شيئا عن الكيفية التي كان النساخ يغيرون من خلالها الكتاب المقدس والكيفية التي نعرف بها مواضع هذا التغيير. كتبتها معتمدًا على تفكير دام ثلاثين عامًا حول هذا الموضوع، وصدورًا عن الرؤية التي أعتنقها الآن،مرورًا بهذه التحولات العنيفة لرؤيتي حول الكتاب المقدس. كتبته من أجل كل من يجد في نفسه اهتمامًا بمعرفة الكيفية التي وصل إلينا بها العهد الجديد،وبمعرفة كيف أننا في بعض المواقف لا نعرف حتى الصورة التي كانت عليها الكلمات الأصلية التي خطتها يدُ المؤلف،وبمعرفة الطريقة الطريفة التي تم تغيير هذه الكلمات أحيانًا من خلالها ،ومعرفة كيف أننا ربما ،عبر تطبيق بعض مناهج التحليل الأكثر صرامة، أعدنا بناء هذه الكلمات الأصلية كما كانت .
لأسباب كثيرة،من هنا ، يعتبر لهذا الكتاب وضع خاص بالنسبة إلي،وهو ومحصلة نهائية لرحلة طويلة. وقد يكون ،بالنسبة للآخرين،جزءا من رحلتهم الشخصية.


يتبع.........................

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22