عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:27 AM
نور الإسلام متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 8
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


لم يكن مرقيون هو المتهم الوحيد . فتقريبا في الفترة ذاتها التي كان إيريناوس يعيش فيها ،عاش أسقف كورينثيا الأرثوذكسي المسمى "ديونيسيوس" الذي كثيرا ما جأر بالشكوى من أن المؤمنين الكاذبين قد حرَّفوا كتاباته من غير وازع من ضمير ، مثلما قد فعلوا مع كثير من النصوص المقدسة .
عندما دعاني رفاقي المسيحيون إلى أن أكتب رسائل إليهم فعلت ما طلبوه مني . رسل الشيطان هؤلاء مملؤون بالزوان © ، يحذفون أشياء و يضيفون أشياء . لهم العذاب مدَّخر . لا عجب إذن لو تجرأ بعضهم على تشويه أعمالي المتواضعة ماداموا يتآمرون على العبث حتى بكلمة الرب نفسه .

كانت الاتهامات من هذا النوع الموجه ضد "الهراطقة" ـ أي بخصوص قيامهم بتحريف نصوص الكتاب المقدس ليجعلوها تقول ما أرادوا منها أن تعنيه ـ أمر واسع الانتشار بين الكتّاب المسيحيين الأوائل . من الجدير بالملاحظة ، مع ذلك ، أن دراسات حديثة أظهرت أن الدليل المستمد من مخطوطاتنا الباقية يشير بأصابع الاتهام إلى الاتجاه المعاكس . فالنساخ الذين كانوا مؤمنين بالتقليد الأرثوذكسي كثيرا ما قاموا بتحريف النصوص ، أحيانا بهدف التخلص من احتمال أن " يسئ استخدامها " المسيحيون لتأكيد العقائد الهرطوقية وأحيانا ليجعلوها أكثر موافقة للعقائد التي يتبنّاها مسيحيو طائفتهم . (11)

الخطورة الحقيقية التي تمثلت في إمكانية تحريف النصوص حسب الرغبة ، بمعرفة نسّاخ لم يشعروا بالاستحسان تجاه الطريقة التي صيغت بها هذه النصوص ،هي أمر واضح بطرق أخرى كذلك . نحتاج دائما إلى أن نتذكُّر أنَّ نساخ الكتابات المسيحية المبكرة كانوا يعيدون إنتاج نصوصهم في عالمٍ لم يعرف ماكينات طباعة أو بيوت نشر فحسب وإنما أيضًا لم يكن فيه على الإطلاق أية قوانين تتعلق بحقوق النشر. فكيف يمكن للمؤلفين أن يضمنوا أن نصوصهم لم تكن تتعرض للتَّعديل عند توزيعها ؟ الإجابة المختصرة هي أنهم لم يكن لديهم أية ضمانة على الإطلاق . وهذا ما يوضِّح السبب الذي من أجله كان المؤلِّفون في أحايين كثيرة يبتهلون لكي تتنزَّل اللعنات على أي ناسخ يُدْخِلُ على نصوصهم أية تعديلات بغير إذن منهم . هذا النوع من اللعنات نجده في إحدى الكتابات المسيحية المبكرة التي نجحت في أن تصبح جزءا من العهد الجديد ، ألا وهي سفر الرؤيا ،التي يكتب مؤلفها ، قريبا من نهاية نصه ، تحذيرا رهيبًا :

لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هَذَا يَزِيدُ اللهُ عَلَيْهِ الضَّرَبَاتِ الْمَكْتُوبَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ يَحْذِفُ اللهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ الْمَكْتُوبِ فِي هَذَا الْكِتَابِ. (رؤيا 22 : 18 – 19 )

لم يكن هذا تهديدًا للقارئ بأنه ينبغي أن يقبل أو أن يؤمن بكلِّ ما هو مكتوب في كتاب النبؤات هذا ، كما يتمُّ تفسيره في أحيان كثيرة ؛ بل هو تهديد تقليديٌّ لنسّاخ السفر بأنهم ينبغي أن لا يضيفوا أو يحذفوا أيًّا من كلماته . لعناتٌ مشابهةٌ يمكن رؤيتها متناثرة في ثنايا عدد من الكتابات المسيحية المبكرة . تأمَّلْ التهديدات الأكثر صرامة التي كتبها العالم المسيحي اللاتيني روفينوس بخصوص ترجمته لواحد من أعمال أوريجانوس :

أناشد كل إنسان ربما ينسخ أو يقرأ هذه الكتب، بإخلاص في حضرة الله الآب والابن والروح القدس ، وأستحلفه بحق إيمانه بالملكوت الآتي ، وبكنيسة القيامة من الأموات ، وبالنار الأبدية المُعدّة للشيطان وملائكته ، أن لا يضيف أيَّ شئ لما هو مكتوب و أن لا يحذف منه شيئا ، وأن لا يحدِثَ أي إدخال أو تحريف ،و أن يقارن بين منسوخ يده وبين النسخ التي قام بالنسخ منها، كي لا يرث إلى الأبد هذا المكان ، حيث العويل وصرير الأسنان وحيث النار التي لا تنطفئ والأرواح التي لا تموت .(12)

هذه التهديدات الرهيبة ـ جحيم وكبريت ـ هي ببساطة من أجل تحريف بعض الكلمات الواردة في نص . بعض المؤلفين ، رغم ذلك ، كانوا عازمين بكل ما في الكلمة من معنى على التأكد من أن تنسخ كلماتهم بصورة سليمة ، فليس ثمة تهديد يمكن أن يكون رادعًا على نحوٍ كافٍ في مواجهة نسّاخ يمكنهم تحريف النصوص حسب أهوائهم ، في عالم لم تكن فيه حقوق نشر وتأليف.

التغييرات التي تعرض لها النص

يخطئ ، مع ذلك ، من يفترض أن التغييرات الوحيدة التي كانت تحدث ، كانت تقع عن طريق نسَّاخٍ فعلوا ذلك بمخاطرة شخصية عبر تدخلهم المتعمَّد في صياغة النص. في الواقع ، غالبية التغييرات الموجودة في مخطوطاتنا المسيحية المبكرة ليس لها علاقة باللاهوت ولا بالأيديولوجيا . معظم التغييرات هي إلى حدٍ بعيدٍ نتاج أخطاء محضة وبسيطة ـ أخطاء القلم ، حذوفات عرضية ، إضافات ناتجة عن الإهمال ، أخطاء في التهجي ،أغلاط من هذا النوع أو ذاك . لقد كان النساخ غير مؤهلين : ومن المهم أن نتذكر أنَّ معظم النساخ في القرون الأولى لم يكونوا مدربين على القيام بهذا النوع من العمل بل كانوا ببساطة أفرادًا متعلمين من بين أعضاء كنائسهم وكانوا ( إن بصورة أكبر أو أقل) قادرين على القيام بذلك وراغبين فيه . بل حتى فيما بعد ، بدءا من القرنين الرابع والخامس ، عندما ظهر النساخ المسيحيون كطبقة محترفة داخل الكنيسة (13) ، وفيما بعد حينما كانت معظم المخطوطات تُنسخ بمعرفة رهبان مكرّسين لهذا النوع من العمل داخل الأديرة - حتى في ذلك الوقت ،كان بعض النساخ أقل براعة في النسخ من الآخرين. في هذه الأوقات كلها كانت المهمة شاقة ، كما يشار إلى ذلك في بعض الملاحظات التي أضيفت إلى بعض المخطوطاتٍ والتي يكتب فيها أحد النساخ نوعًا من صرخات الارتياح مثل ، " نهاية المخطوطة . لله الحمد " (14) . وقد يكون النساخ في بعض الأحيان مهملين بالفطرة ؛وأحيانا يكونون جوعى أو شاعرين بالنعاس ، وفي أحايين أخرى يكونون فحسب غير معنيين بتقديم أفضل ما عندهم.

وحتى النساخ الذين اتسموا بالكفاءة ،و اليقظة و نالوا قسطًا من التدريب كانوا يقعون أحيانًا في الأخطاء . وفي بعض الأحيان قاموا بتغيير النص، كما رأينا ، لأنهم اعتقدوا أنه كان من المفترض أن يتم تغييره . إلا أن ذلك لم يكن نتيجة فحسب لأسباب لاهوتية معينة. لقد كانت هناك أسباب أخرى من وجهة نظر النسَّاخ تجعلهم يقومون بتغييرات عمدية - على سبيل المثال، عندما كانوا يأتون أمام فقرة بدت وكأنها تمثل خطئًا يجب تصحيحه ، أو ربما أمام تناقض موجود في النص ،أو إشارة جغرافية خاطئة ، أو إحالة إلى أحد نصوص الكتاب المقدس في غير محلها . لذا ، عندما أحدث النساخ تغييرات مقصودة ، كانت دوافعهم أحيانا نقية نقاء الثلج الأبيض . لكنّ التغييرات حدثت رغم ذلك ، وكلمات المؤلفين الأصلية ،نتيحة لذلك ،ربما قد حُرِّفت و ضاعت نهائيًّا. هناك صورة توضيحية طريفة للتغيير العمدي الذي وقع لنص موجود في واحدة من أنقى مخطوطاتنا القديمة ،ألا وهي المخطوطة الفاتيكانية ( يسميها البعض كذلك لأنها اكتشفت في المكتبة الفاتيكانية )،التي كتبت في القرن الرابع . ففي افتتاحية سفر العبرانيين هناك فقرة يقال لنا فيها ، وفقا لمعظم المخطوطات، إنَّ " المسيح يحمل (باليونانية : PHERON) كل الأشياء بكلمة قدرته"( عبرانيين 1 : 3 ). أما في المخطوطة الفاتيكانية ،فقد أحدث الناسخ الأصلي اختلافا دقيقا في النص ، باستخدامه أحد الأفعال المشابهة في اللغة اليونانية ؛ حيث يُقرأ النص في الفاتيكانية كالتالي:" المسيح يُظِهر ( باليونانية :PHANERON) كل الأشياء بكلمة قدرته." بعد ذلك بعدة قرون ، قرأ ناسخ ثان هذه الفقرة في المخطوطة (الفاتيكانية) وقرر أن يستبدل الكلمة الغريبة يُظهِِر ( manifests ) بالأكثر شيوعا يحمل (bears) - ماحيًا بذلك الكلمة الأولى وكاتبًا الأخرى. ثمّ قرأ المخطوطة ، بعد ذلك ببعض القرون ، ناسخ ثالث ولاحظ التحريف الذي فعله سلفه ؛ فمحى ، بدوره ،الكلمة يحمل وأعاد كتابة الفعل يظهر .ثم أضاف ملاحظة ناسخ في الهامش ليشير إلى ما دار في خلده عن الناسخ الثاني الذي سبقه . تقول الملاحظة :" أيها الوغد الأحمق ، دع القراءة القديمة ،لاتحرفها !"

أحتفظُ بنسخة من تلك الصفحة وقمتُ بوضعها داخل إطار وعلقتها على الحائط فوق مكتبي كوسيلة ثابتة تذكرني بالنساخ ونزوعهم إلى تغيير ، وإعادة تغيير ما لديهم من نصوص. من الواضح أنَّ هذا كان تغييرا لحق بكلمة واحدة : فلماذا كل هذا الاهتمام به ؟ إن مبعث الاهتمام بهذا التغيير هو أن الطريقة الوحيدة لفهم ما يريد المؤلف أن يقوله هي أن تعرف كيف كانت كلماته - كل كلماته - في الحقيقة .( فكّر في كل المواعظ التي تبنى على أساس كلمة واحدة موجودة في أحد النصوص: ماذا لو أن هذه الكلمة لم يكتبها المؤلف في الحقيقة ؟) إن القول إن المسيح كشف كل الأشياء بكلمة قدرته يختلف اختلافًا تامًّا عن قولنا إنه يمسك الكون كله بكلمته !

مشكلات التعرف على "النص الأصلي"

وهكذا ، وقعت كل أنواع التغيير في المخطوطات عبر النساخ الذين قاموا بنسخها . ولعلنا نقوم بدراسة أنواع التغييرات بتعمق أكبر في أحد الفصول الأخيرة من هذا الكتاب . أما الآن ، يكفي أن نعرف أن هناك تغييراتٍ كانت تحدثُ ،و أنها كانت تحدث على نطاق واسع ، خاصة خلال المائتي عامًا الأولى التي كانت تنسخ فيهما النصوص ،عندما كان معظم النساخ من الهواة . أحد القضايا الرئيسية التي ينبغي أن يتعامل معها النقاد النصيين هي الطريقة التي سيستخدمونها في استرجاع النص الأصلي ـ أي النص كما كتبه المؤلف أول مرة - مع الوضع في الاعتبار أن مخطوطاتنا مليئة على نحوٍ بالغ بالأخطاء . هذه المشكلة تتفاقم وذلك لأنه ما أن يقعَ خطأٌ ،فمن الجائز أن يتحول إلى جزءٍ ثابتٍ من التقليد النصيِّ ، بل أكثر ثباتًا ،في الواقع ، من النص الأصلي نفسه . بطريقة أخرى ،أقول إنه بمجرد أن يغير ناسخٌ من النساخ نصًا ـ سواءٌ أكان ذلك بشكل عارض أو بصورة متعمدة - فإن هذه التغييرات تصبح باقـية في مخطوطته (ما لم يظهر ،بطبيعة الحال، ناسخ آخر ليصحح الخطأ). الناسخ التالي الذي ينسخ هذه المخطوطة ينسخ هذه الأخطاء (ظنًّا منه أنها هي ما يقوله النص )، و يضيف أخطاءا من عنده . الناسخ الذي يليه والذي سينسخ بعدئذ تلك المخطوطة سيقوم بنسخ الأخطاء التي تخص الناسخين السابقين له كليهما ويضيف أخطاءًا من عنديات نفسه ، وهكذا دواليك . الطريقة الوحيدة التي ستتكفل بتصحيح الأخطاء هي أن يعترف ناسخٌ بأنَّ ناسخًا سابقًا له قد وقع في خطأ ويحاول هو أن يصحِّحَ المشكلة . ليس هناك ضمانة ،رغم ذلك ، أن يقوم هذا الناسخ ،الذي يحاول تصحيح هذا الخطأ ،بالأمر بطريقة صحيحة . بطريقة أخرى ،هذا الناسخ ربما في الواقع يغيّر النص بطريقة غير صحيحة عندما كان كل ما يفكر فيه هو أن يصحح الخطأ، لذلك ينتج عندنا الآن ثلاثة أشكال من النص :النص الأصلي ،النص الخطأ ، النص الناتج عن المحاولة الخاطئة لتصحيح الخطأ. وتتعدد الأخطاء و تتكرر ؛ أحيانا يتم تصحيحها و أحيانا تتفاقم المشكلة .وهكذا تسير الأمور لقرون . أحيانا ، بالطبع ، يكون لدى ناسخ أكثر من مخطوطة واحدة بين يديه ، و يستطيع تصحيح الأخطاء في المخطوطة الأولى من خلال القراءات الصحيحة في المخطوطة الأخرى .هذا فعليًّا ، في حقيقة الأمر ، يؤدي إلى تحسين الموقف بصورة ملحوظة . من ناحية أخرى ، من المحتمل أحيانا أيضًا أن يقوم ناسخ بتصحيح المخطوطة الصحيحة في ضوء النص الخاص بمخطوطة غير صحيحة . والاحتمالات تبدو بلا نهاية . مع وضع هذه المشكلات في الاعتبار ، كيف يمكننا أن نأمل في استعادة نصٍّ أصليٍّ ما ، أي النص الذي كتبه المؤلف بالفعل ؟ إنها مشكلة هائلة . في الواقع ، إنها مشكلة ضخمة إلى درجة أنَّ عددًا من نقاد النصوص بدأوا في الادعاء أننا ربما سنتوقف أيضًا عن مناقشة أي شئ يتعلق بالنص " الأصلي" ، لأن النص الأصلي بالنسبة إلينا لا يمكن الوصول إليه . ربما يكون في هذا القول نوعٌ من المبالغة ، لكنَّ مثالا واقعيًّا أو مثالين مأخوذين من كتابات العهد الجديد ربما يكشف لنا حقيقة هذه المشكلات.

أمثلة لهذه المشكلات


بالنسبة للمثال الأول ، دعونا نأخذ رسالة بولس إلى أهل غلاطية . الصعوبات العديدة التي يتحتم علينا التعامل معها ، حتى بخصوص الكتابة الأصلية للرسالة ، ربما ستجعلنا متعاطفين أكثر مع هؤلاء الذين يريدون أن نتخلى عن التفكير في الشكل الذي كان عليه النص " الأصلي ". لم تكن غلاطية مدينة منعزلة بها كنيسة منعزلة ؛ بل كانت منطقة في آسيا الصغرى (تركيا المعاصرة ) كان بولس قد أنشأ فيها كنائس. عندما يكتب إلى أهل غلاطية ، فهل كان يكتب لواحدة من الكنائس أم لها جميعا ؟ كان بولس ،على ما يبدو ، بما أنه لا يحدد أي مدينة على وجه الخصوص ، يقصد أن تصل الرسالة إليها جميعا . هل هذا يعني أنه كتب نسخا متعددة من الرسالة نفسها ، أم أنه أراد أن يتم تمرير الرسالة الواحدة على كل كنائس المنطقة ؟ ليس لدينا معلومات بخصوص هذا الأمر . لنفترض أنه كتب نسخا متعددة . فكيف فعل ذلك ؟ في البدء ، يبدو أن هذه الرسالة ، مثل رسائل بولس الأخرى ،لم تكتب بخط يده وإنما بيد أمين سر للنسخ . الدليل على ذلك يأتي من نهاية الرسالة ، حيث أضاف بولس حاشية في مخطوطته الخاصة ، لكي يعرف المرسل إليهم أنه شخصيا هو المسئول عن الرسالة ( وهو أسلوب شائع مستخدم في الرسائل المكتوبة بطريق الإملاء في العصور القديمة ):" اُنْظُرُوا، بأي أحرف كبيرة أكتب إِلَيْكُمْ بِيَدِي!"(غلاطية 6 : 11). رسالته المكتوبة بخط يده ، بكلمات أخرى ، كانت أكبر حجما و ربما أقل احترافية من ناحية الشكل من تلك التي كتبها الناسخ الذي كان قد أمليت عليه الرسالة (15) .

الآن ، لو أملى بولس الرسالة ، فهل أملاها كلمة بكلمة ؟ أم هل قام بتوضيح النقاط الرئيسية وترك للناسخ الحرية في تسويد ما تبقى ؟

المنهجان كلاهما كانا شائعا الاستخدام لدى كتَبَة الرسائل في العصر القديم (16) . لو أكمل الناسخ بقية الرسالة ، فهل يمكننا التيقن من أنه قد أكملها تماما على الصورة التي أرادها بولس ؟ فإذا لم يفعل ، فهل لدينا في الواقع كلمات بولس ، أم هي كلمات بعض النساخ المجهولين ؟ لكن دعونا نفترض أن بولس أملى الرسالة كلمة بكلمة . فهل من الممكن أن يكون الناسخ في بعض المواضع قد كتب الكلمات الخاطئة ؟ أغرب من ذلك قد حدث . في هذه الحالة ، فمخطوطة الرسالة ( أي النص الأصلي ) فيها من البداية " خطأ" ، لذا فجميع النسخ اللاحقة لن تكون من كلمات بولس ( في المواضع التي أخطأ فيها ناسخه ).
فلنفترض ، مع ذلك ، أن الناسخ كتب الكلمات صحيحة بنسبة مائة بالمائة . لو صدرت نسخ عديدة من الرسالة ، فهل يمكننا أن نتأكد من أن كل النسخ كانت أيضًا صحيحة مائة بالمائة ؟ من المحتمل ، على الأقل ، أنه حتى لو نسخت جميعا في حضور بولس ، فكلمة أو اثنين هنا أو هناك ستتغير في نسخة أو في أخرى من النسخ. لوكان الأمر كذلك ،ماذا لو أن واحدة من تلك النسخ كانت هي التي صنعت منها كل النسخ اللاحقة ـ بدءا من القرن الأول ،وصولا إلى القرنين الثاني والثالث،وهلم جرًّا؟
في هذه الحالة ، النسخة الأقدم التي مثلت الأساس لكل النسخ اللاحقة من الرسالة لم تكن بالتمام ما كتبه بولس ،أو الذي أراده أن يُكتب. وبمجرد أن تنتشر النسخة ـ أي بمجرد أن تصل إلى غايتها في إحدى مدن غلاطية ـ فهي ،بطبيعة الحال ،ستنسخ ، وستحدث الأخطاء . في بعض الأحيان ربما سيغير النساخ النص بصورة عمدية ؛وأحيانا تقع الأخطاءعن طريق السهو . هذه النسخ المشتملة على الأخطاء يتم نسخها ؛وهكذا ،سيحدث الأمر ذاته في المستقبل. في مكان ما وسط هذا كله ، النسخة الأصلية ( أو كل من النسخ الأصلية ) ينتهي بها الحال إلى الضياع، أو البِلى ، أو إلى التلف. في بعض الأحيان ، لا يعود ممكنا مقارنة نسخة بالأصل للتأكد من أنها "صحيحة" ، حتى لو وُجِد شخص ما لديه الرغبة في فعل ذلك.
ما ظل باقيا اليوم ، إذن ، ليس هو النسخة الأصلية من الرسالة ، ولا واحدة من النسخ الأولى التي كان بولس نفسها قد كتبها ، ولا أيًا من النسخ التي أنتجت في أيٍّ من مدن غلاطيا التي أرسلت إليها تلك الرسالة ، ولا أيًا من النسخ المنسوخة بناءا على هذه النسخة . النسخة الأولى الكاملة إلى حد ما التي نملكها من الرسالة إلى أهل غلاطية (مخطوطة مؤلفة من كِسَر ،أي أن فيها عددا من الأجزاء المفقودة ) هي ورقة بردي تعرف باسم (P46)( حيث أنها كانت البردية رقم ستة وأربعين من برديات العهد الجديد وضعا في الفهارس أو الكشوف الخاصة بذلك)، والتي يرجع تاريخها إلى 200 ميلاديا تقريبا (17) . أي تقريبا بعد مرور 150 عاما من كتابة بولس للرسالة . لقد كانت متداولة ، ويتم نسخها أحيانا بشكل صحيح وأحيانا بشكل غير صحيح ، لخمسة عشر عَقْدًا قبل أن يتم إنتاج أيٍ من النسخ التي بقيت إلى الوقت الحاضر. لا يمكننا إعادة بناء نسخة من تلك النسخ التي أنتجت منها البردية " P46 ". فهل كانت هي ذاتها نسخة دقيقة ؟ لو كان الأمر كذلك ،فإلى أي درجة كانت دقتها (how accurate)؟ لقد كانت بالتأكيد تحوي أخطاءا من نوعا ما ، كما كان الحال مع النسخة ذاتها التي نُسِخَت منها ، والنسخة التي نسخت منها تلك النسخة ، وهلم جرا.
باختصار ، إن الحديث عن النص "الأصلي" للرسالة إلى أهل غلاطية هو أمرٌ شديد التعقيد . فالنص ليس لدينا . وأفضل ما يمكننا فعله هو أن نعود إلى مرحلة نسخه المبكرة ، وأن نأمل ببساطة في أن ما نعيد بناءه فيما يتعلق بالنسخ التي أنتجت في هذه المرحلة ـ بناءا على النسخ التي حدث وأن نجت من الضياع ( بعدد متزايد كلما اتجهنا إلى العصور الوسطى ) ـ يعكس بصورة معقولة ما كتبه بالفعل بولس نفسُه ، أو على الأقل ما كان ينوي أن يكتبه حينما قام بإملاء الرسالة .
بالنسبة للمثال الثاني لهذه المشكلات، دعونا نأخذه من إنجيل يوحنا . هذا الإنجيل يختلف بشدة عن غيره من الأناجيل الموجودة في ثنايا العهد الجديد ،فهو يخبرنا بعدد من القصص التي تختلف عن مثيلاتها في الأناجيل الأخرى و يستخدم أسلوب كتابة شديد الاختلاف . هنا ،في يوحنا ، أقوال المسيح هي عبارة عن حورات مطولة كبديل عن الأقوال المباشرة والفصيحة ؛ لا يقول يسوع في يوحنا ، على سبيل المثال ،أمثالا أبدا وهو ما يختلف مع الأناجيل الثلاثة الأخرى . فوق ذلك ، الأحداث المحكية في يوحنا غالبا ما لا يكون لها وجود إلا في هذا الإنجيل فحسب : فعلى سبيل المثال ، حوارات المسيح مع نيقوديموس (في الفصل 3 ) ومع المرأة السامرية (الفصل 4) أو معجزاته الخاصة بتحويل الماء إلى خمر (الفصل 2) و إقامة أليعازر من الأموات (الفصل10). إن الصورة التي يرسمها المؤلف ليسوع هي صورة مختلفة اختلافًا تامًّا أيضًا ؛ فيسوع يقضي كثيرا من وقته ،وهو ما يختلف مع الأناجيل الثلاثة الأخرى ، في شرح من يكون هو (باعتباره المرسل من السماء )و في صنع " المعجزات" لكي يثبت أن ما يقوله عن نفسه صحيح .
لقد كان ليوحنا بلا شك مصادره الخاصة التي بنى عليها روايته ـ مصدر ربما كان يحكي معجزات يسوع ، على سبيل المثال ، ومصادر كانت تصف حواراته (18) . لقد جمع هذه المصادر معا ليحصل على سرده المتدفق لحياة يسوع ، ومهمته التبشيرية ، وموته و قيامته. من المحتمل ، مع ذلك ، أن يكون يوحنا في الواقع قد أنتج عددا مختلفا من النسخ لإنجيله . لقد لاحظ القراء طويلا ،على سبيل المثال، أن الفصل 21 يبدو وكأنه إضافة متأخرة . يبدو الإنجيل بالتأكيد أنه قد انتهى عند العدد 20 : 30 – 31 ؛ وأن الأحداث الواردة في الفصل 21 تبدو كنوع من الأفكار التي تخطر على البال في وقت متأخر ، ويحتمل أن تكون قد أضيفت لكي تكمل قصص ظهورات ما بعد القيامة ولتشرح أنه عندما مات "التلميذ الحبيب" المسئول عن حكاية التقاليد في الإنجيل ، لم يكن ذلك عكس النبوءة (قارن مع 21 : 22 – 23 ). فقرات أخرى من الإنجيل أيضًا غير مترابطة تماما مع الفقرات الباقية . حتى الفقرات الافتتاحية 1 : 1 – 18 ، التي تشكل نوعا من المقدمات الاستهلالية للإنجيل ، تبدو وكأنها مختلفة عن باقي الأعداد . هذه القصيدة المشهورة التي تتحدث عن "كلمة" الله الذي كان موجودا مع الله منذ البدء وكان نفسه الله ، والذي "صار جسدا " في المسيح يسوع . هذه الفقرة مكتوبة بأسلوبٍ شعريٍ رفيع ليس له وجود في بقية الإنجيل ؛ فوق ذلك ،وبينما تتكرر موضوعاته الحيوية في بقية القصة ، بعض كلماته الأكثر أهمية لم تتكرر مرة أخرى. لذا ، يسوع قد رسمت له صورة في أنحاء القصة باعتباره الشخص الذي جاء من فوق ، لكنه لم يُدْعَ "الكلمة" مرة أخرى في الإنجيل. هل يمكن أن تكون هذه الفقرة الاستهلالية قد أخذت من مصدر مختلف عن بقية الرواية ، وأنها أضيفت كبداية لائقة بمعرفة المؤلف بعد أن كانت نسخة أقدم من كتابه قد تم بالفعل نشرها ؟
افترض جدلا ، لمدة ثانية ، أن الفصل 21 و الأعداد 1 : 1- 18 لم يكونوا عناصر أصلية من الإنجيل . ماذا سيقدم ذلك من نفع لناقد نصيّ يريد أن يعيد بناء النص "الأصلي"؟ وأي أصل يعاد بناؤه ؟ كل مخطوطاتنا اليونانية تحتوي على هذه الفقرة موضع الدراسة . لذا فهل يعيد الناقد النصيّ بناء شكل من الإنجيل كان يحتوي هذه الفقرات في الأصل باعتباره النص الأصلي ؟ لكن أليس من الأولى أن نعتبر أن الشكل " الأصلي " المفترض أن يكون هو النسخة الأقدم ، هو ذلك الذي لا يحتويها ؟ لو أن شخصا أراد أن يعيد بناء الشكل الأقدم ،فهل من العدل أن يتوقف عند إعادة بناء ، فلنقل ، النسخة الأولى من إنجيل يوحنا ؟ لماذا لا يذهب حتى أبعد من ذلك و يحاول أن يعيد بناء المصادر التي تقف وراء الإنجيل ، مثل مصادر الآيات و مصادر الحوارات ، أو حتى التقاليد الشفهية التي تقف وراءها ؟
هذه أسئلة تؤرق النقاد النصيين ، والتي أدت بالبعض إلى أن يجادلوا حول ضرورة إهمال أي سعي وراء النص الأصلي ـ حيث إننا حتى لا يمكننا أن نتفق حول ما يحتمل أن يعنيه الحديث عن النص "الأصلي" ، فلنقل ،للرسالة إلى أهل غلاطية و إنجيل يوحنا . من ناحيتي ،مع ذلك ، ما زلت أفكر في أننا حتى لو لم نكن قادرين على الوصول إلى اليقين التام بخصوص ما يمكننا أن نحصل عليه ، إلا أننا نستطيع على الأقل أن نصل إلى التأكد من أن كل المخطوطات الباقية قد نسخت من مخطوطات أخرى ، والتي كانت بدورها منسوخة من مخطوطات أخرى ، وأننا على الأقل قادرين على العودة إلى المرحلة المبكرة و الأكثر قدما لكل تقليد مخطوط لأيٍ من كتب العهد الجديد . كل مخطوطاتنا لرسالة الغلاطيين ،على سبيل المثال ،تعود بشكل واضح إلى نص ما كان ينسخ ؛ كل مخطوطاتنا الخاصة بإنجيل يوحنا تعود بوضوح إلى نسخة من إنجيل يوحنا كانت تضم المقدمة الاستهلالية و الفصل 21 . وهكذا ينبغي أن نبقى راضين عن معرفتنا أن العودة إلى أقدم نسخة يمكن الحصول عليها هو أفضل ما يمكننا فعله ، سواء أستعدنا النص " الأصلي " أم لا . هذا الشكل الأكثر قدما من النص هو بلا شك متصل بشكل وثيق ( وثيق للغاية ) بما كتبه المؤلف في الأصل ، و لذلك فهو بمثابة الأساس لتفسيرنا لتعاليمه الخاصة .

يتبــــــــــــــــــع بإذن الله

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22