عرض مشاركة واحدة
قديم 02-06-2014 ~ 11:49 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
  مشاركة رقم 8
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الفصل الرابع
رزايا الإنسانية المعنوية
في عهد الاستعمار الأوربي
ليس من قصدنا الآن أن نبحث عن رزايا الأمم الشرقية الآسيوية في السياسة والاقتصاد والتجارة والصناعة ، وخسارتها في ممتلكاتها وانكسارها أمة بعد أمة وقطراً بعد قطر أمام قوة الغرب المادية ودهائه السياسي ، فلذلك حديث يطول ولا يسعه هذا المؤلف الصغير ، وقد طرق هذا الموضوع كثير من المؤلفين والمؤرخين في الشرق والغرب ، وألفوا فيه مؤلفات بين صغير وكبير ومتوسط وأشبعوا فيه الكلام .
ولكن الذي يهمنا – ونحن نتكلم في هذا الكتاب عن خسارة العالم بانحطاط المسلمين واستيلاء الأوربيين بالتبع – رزيئة العالم الإنساني وخطب المجتمع البشري في الروح والأخلاق والنفس ، ومعان أسمى من المادة وما يتصل بالجسم والأرض في عهد النفوذ الأوربي العام ، وسيل حضارته الجارف ، فتلك رزية لا تقبل العزاء ، وكسر لا ينجبر ، والذين أدركوه قليل ، والذين تحدثوا به أقل من أولئك القليل .
ولما كان نظام الحياة الإسلامي هو المنافس للنظام الجاهلي ، كان طبعاً رزء المسلمين في عهد انتصار الحكم الجاهلي أكبر ، وقسطهم في هذه المصيبة العالمية أوفر ، لأن الإسلام والجاهلية ككفتي ميزان ، كلما رجحت كفة طاشت الأخرى .
والآن نتحدث عن هذه الرزايا المعنوية رزيئة رزيئة .

بطلان الحاسة الدينية :
ما هي غاية هذا العالم التي ينتهي إليها ، ومصيره الذي يصير إليه ؟هل بعد هذه الحياة حياة أخرى ؟وما هو وضعها إذا كانت ؟ وهل لهذه الحياة الآخرة تعليمات وإرشادات في الحياة الدنيا ؟ ومن أي منبع تستقى هذه المعلومات ؟ وما هي الطرق والأسس التي إذا سار عليها الإنسان كانت حياته الآخرة راضية مرضية ؟ وما مصدر هذه الطرق ؟ وما هي الطريق المثلى للوصول بعد الموت إلى نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع ؟ ومن أين تستفاد هذه الطريق؟.
تلك أسئلة ورثها الشرقي أبًا عن جد ، وشغلت خاطره ، وأزعجت فكره طيلة قرون ولم يقدر أن يذهل عنها ويتناساها حتى في لهوه وزهوره ، وكانت هذه الأسئلة حافز نفسه ، ونداء ضميره ؛ ولم يستطيع أن يتصام عنه ويطوي دونه كشحًا , بل أصغى إليه في رغبة ونصيحة وإخلاص ، وأجل هذه الأسئلة من نفسه وحياته المحل الأول , وما زال منذ آلاف من السنين في أخذ ورد ونقض وإبرام في هذا الموضوع ,وليس ما نسميه ما وراء الطبيعة والفلسفة الإلهية , والإشراق والرياضة النفسية , والعلم والحكمة إلا محاولات ومغامرات في هذا الطريق الطويل المظلم ,وارتيادًا إثر ارتياد في مناطق مجهولة , ينئ عن اهتمام الشرق البليغ بهذا الموضوع ورغبته الملحة فيه.
هذه طبيعة الشرقي وطبيعة أكثر أفراد البشر في الأقاليم المعتدلة قبل ظهور الغربيين ؛ وإن استعرنا لذلك لغة الفلاسفة وتعبيرهم قلنا : لم يزل في الناس _ عدا حواسهم الظاهرة الخمس _حاسة سادسة يسوغ أن نسميها بالحاسة الدينية , وكما أن الحواس الظاهرة لها دوائر عمل تحصل فيها محسوساتها الخاصة بها فللعين مبصرات وللأذن مسموعات الخ . كذلك هذه الحاسة الدينية لها ثمرات وتأثيرات هي من خواص هذه الحاسة التي لم تزل لأهل الشرق ضربة لازب , وكما أن من فقد حاسة من الحواس الظاهرة بطلت محسوساتها الخاصة بها , فلا تحصل له بحاسة أخرى إلا بطريق خرق العادة , ولا تحل حاسة مهما كانت قوية وصحيحة محل الحاسة الأخرى, كذلك من فقد الحاسة الدينية لطارئ مؤثر أو حرمها لنقص في الفطرة بطلت نتائجها الخاصة بها , وانعدمت في حقه , بحيث لا يستطيع أن يتصورها أو يصدقها , شأن الأعمى لا يبصر الألوان والأجرام المرئية , وقد يعاند ويكابر في إنكارها , وشأن الأصم الذي ليست الدنيا الصاخبة إلا مدينة الأموات عنده , ليس بها داع ولا مجيب ؛ كذلك من حرم الحاسة الدينية جحد الغيب , وكابر فيما هو وراء الطبيعة وعاند في المعاني الدينية , وقسا على الرقائق والقوارع التي تهز النفوس , وترقق القلوب وتذرف العيون .
* ما لجرح بميت إيلام *
أشد العقبات التي واجهها الأنبياء والدعاة الدينيون , واصطدمت بها خطبهم ومواعظهم ودعوتهم , هم أولئك الذين حرموا الحاسة الدينية أو فقدوها بتاتًا , والذين تحجرت قلوبهم وماتت نفوسهم في مسألة الدين, والذين آلوا على أنفسهم أنهم لا يفكرون في أمر الدين وأمور الآخرة , ولا يلقون السمع لهذا الموضوع أصلاً , والذين لما سمعوا كلام النبي الذين تجيش له الصدور وتلين له الصخور , ما زادوا أن قالوا في صمم وإعراض : {إِنْ هِيَ إِلّاحَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ولما انتهى النبي من كلامه السائغ المعقول الذي يفهمه الأطفال , والذين كان بلغتهم الفصيحة قالوا : { مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً }, {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .
لاشك أن هذه الأسئلة كانت موضوع دراسة العلماء والمفكرين في فجر النهضة الأوربية الجديدة , واستمروا يبحثون فيها ويؤلفون ويتناقشون , ولكن كلما قطعت المدنية الأوربية شوطًا تخلفت هذه المباحث والأسئلة شوطًا ؛ ولما ظهرت خواص هذه المدنية الباطنة وتجلت هي في مظهرها المادي خفت - في ضجتها – هذا الصوت الذي كان ينبع من أعماق القلب وقرارة الضمير الإنساني الحي , ولا ينكر أن هذه الأسئلة تدرس في قسم الفلسفة وعلوم ما وراء الطبيعة في المدارس والمجامع العلمية والمكاتب العامة , ويتباحث فيها العلماء المتخصصون وتظهر لهم في هذا الموضوع تأليفات بين آونة وأخرى ؛ ولكن الذي لاشك فيه أنها فقدت سلطانها على القلوب والأفكار وامحت علامة الاستفهام الواضحة النيرة التي كان يراها كل إنسان عاقل فيقف أمامها كما تقف القطر أمام الإشارات , وأصبحت هذه الاستفسارات لا تحيك في صدر الإنسان ولا تشغله كما كانت تشغل آباءه وتحيك في صدوهم , ولم يكن ذلك عن إيمان وانشراح صدر وطمأنينة قلب واقتناع بحل صحيح وارتياح إلى نتيجة حاسمة . كلا ! لم يكن ذلك إلا لأن هذه الأسئلة قد فقدت أهميتها وأخلت مكانها لأسئلة مادية أهم في أعين أبناء القرنين التاسع عشر والعشرين منها , ولأن رجل العصر قد لزم الحياد التام في هذه المسائل وصرف النظر عنها , فلا عليه إن كانت بعد هذه الحياة حياة ثانية وكانت الجنة والنار والثواب والعقاب والنجاة والهلاك أو لم تكن , فلا يهمه شيء من ذلك لا سلبًا ولا إيجابًا , لأن شيئاً من ذلك لا يمس مسائلة اليومية أو في آخر الشهر , ولا يتصل بشخصه ولا يترك عاجلاً بآجل ولا يتكلف ما لا يعنيه فيترك هذه المباحث (( الفارغة )) يبحث فيها معلم الفلسفة في الجامعة ويفضي فيها برأيه المؤلف في هذه الموضوع . أما هو فهو رجل جد وعمل ، لا يعرف إلا حياة المصانع والإدارات وسير الماكينات ولا يهتم إلا بتسلية النفس وترويحها في آخر النهار والنوم الهادئ في آخر الليل والأجرة في آخر الأسبوع أو الراتب في أواخر الشهور وحساب الأرباح في أخر السنة وإعادة الصحة والشباب في آخر العمر وأما ما بعد الحياة فهو عنده مجهول ووهم من الأوهام : {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ } .
إن هذا الضرب من الناس لا يزال يزداد عدداً وأهمية في كل أمة وبلاد بتأثير الحضارة الغربية ، ذلك الضرب من الناس لم يترك واشتغالهم بالحياة الدنيا والعكوف عليها فراغاً لدعوة دينية ، وإن الذين يدعوهم إلى الدين والحياة الأخروية ليتحير معهم كما يتحير السندباد البحري – كما تروي لنا حكاية ألف ليلة وليلة – مع بيضة العنقاء ، ظنها السندباد البحري بناء من رخام فدار حولها عدة مرات ليبحث عن باب يدخل منه فلم يجد ، كذلك الداعي الديني يدور حول رؤوسهم فلا يجد منفذاً يدخل منه إلى عقولهم ، ويدخل به دعوته الدينية إلى نفوسهم ، فقد أقفلت الحياة المادية ومسائلها جميع أبوابها وسدت جميع نوافذ فكرهم .
وكما أن رجلاً لم يحظ من الفطرة بالذوق الأدبي ، يسمع الألحان الجميلة والأبيات الرقيقة فلا يعدها إلا أصواتاً لا فن فيها ، كذلك الذي حرم الحاسة الدينية لا تؤثر فيه دعوة الأنبياء وخطب الوعاظ ، وحكمة العلماء وأمثال الصحف السماوية ، وتضيع فيه بلاغة البلغاء وإخلاص المخلصين ، ويصبح كل ذلك صيحة في واد ونفخة في رماد :
لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي
والذي مني بهذا الضرب من الناس يفهم السر في قوله تعالى : {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } ، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } وتظهر له حقيقة قوله : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ولم يلق في شرحها وتعليلها ما لقيه المفسرون الذين لم يشاهدوا هذا النوع من صعوبة .
داء هذا العصر الذي لا ينجح فيه الدواء ولا يؤثر فيه العلاج هو الاستغناء التام عن الدين ، ولم يلق رجال الدعوة الدينية من العنت والشدة في أحط أدوار الفسق والفجور وفي أحلك عهود المعصية والغفلة ، ما يلاقونه في دعوة هؤلاء الذين لزموا الإعراض التام في هذه المسائل ( الكلامية ) فلا تعنيهم سلباً ولا إيجاباً {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } .
وقد فطن لهذا الفرق الجوهري بين النفسية القديمة والجديدة أحد كبار معلمي الفلسفة وعلم النفس في إحدى جامعات أوربا الكبرى وشرحه في عبارة وجيزة . قال س م جود :
(( ثارت في قديم الزمن شكوك واعتراضات وأسئلة واستفسارات حول الدين ، لم يطمئن بعض أصحابها ولم يرتاحوا إلى جواب مقنع ، ولكن مما يمتاز به هذا الجيل أنه لا تزعجه الأسئلة رأساً ، ولا تحيك في صدره ولا تنشأ في هذا العصر أصلاً )) .

زوال العاطفة الدينية :
لما طغى بحر المادية في العالم الإسلام في العهد الأخير وفاض ، كون رجال الدين جزراً صغيرة في بحر المادية المحيط ، يلجأ إليها الفارون إلى الله والمتبرمون من الحياة المادية والغفلة ، كان فيها رجال هم كمنارات النور في البحر الظلمات يربون الناس التربية الدينية والخلقية ، ويزكون أنفسهم ويصقلون قلوبهم .
وكنت ترى في العالم الإسلامي حركة مستمرة إلى هذه الجزر ؛ فترى قوافل لرواد الروحانية ومنتجعي التربية الدينية غادية رائحة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، ومن أقصى شمال العالم الإسلامي إلى أقصى جنوبه ، متخطية الثغور السياسية مجتازة العقبات الجغرافية ، فترى هذه الجزر مستعمرات دينية ، قد أمحت فيها الفروق الجنسية والوطنية ، وترى متحفاً إنسانياً قد اجتمع فيه الشرقي مع الغربي والبخاري مع المغربي والأناضولي مع الأندنوسي ، قد فروا بدينهم من الفتن ورموا بأنفسهم على عتبة ربهم ، يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ويتلقون التربية الدينية ثم ينبثون في أنحاء العالم دعاة مصلحين ومعلمين مرشدين ، يلتقطون نصيب الله من بين نصيب الشيطان ويحيون أرضاً مواتاً من القلوب ، ويبذرون فيها بذور الدين .
وكذلك لم تزل في جنب أقوى الدول وأوسعها دول روحية يفوق سلطانها الروحي سلطان المادي ، فيها رجال تأتيهم الدنيا راغمة ويأتيهم الملوك والأمراء صاغرين ، ولهم نظام كنظام الدول ينصبون ويقرون وينقلون ويستخلفون ، ولهم (( قناصل وسفراء )) في كل دولة مادية وكأن خارطة العالم الإسلامي بين أيديهم ، فإذا خلا ثغر من ثغور الإسلام نصبوا فيه مرابطاً دينياً يحفظه من عادية الغفلة والمعصية ، ويحرسه من غاشية الجهل والطغيان(242) .
وكانت هذه الدول الروحية مستقلة في إدارتها ونظامها الداخلي ، لا يتداخل فيها الملوك والأمراء ولا تؤثر فيها التقلبات السياسية والحوادث المحلية ؛ ولضرب لذلك مثلاً بالمستعمرة الروحية المعروفة بغياث فور ، التي أنشأها الشيخ نظام الدين البداوني الهندي (( م 725 هـ)) في نفس عاصمة الهند وقد عاصر الشيخ ثمانية من الملوك الجبابرة (( من غياث الدين بلبن 664 – 686 إلى غياث الدين تغلق 720 – 725 )) وحافظت على استقلالها التام من غير أن تمسها يد الملوك ، وكنت ترى فيها رجالاً من سنجر في إيران إلى رجال من أوده في شرق الهند .
وقد كان لهذه المراكز ولأصحابها الفقراء من المهابة والحشمة والاحترام الفائق ما قد يحسدهم عليه أكبر ملوك العالم ، وقد يكون هذا سبب الوحشة بينهم ، وما ذاك إلا لإقبال الناس على رجال الدين واحتفائهم والخضوع للسلطان الروحي ، فكان السيد آدم البنوري الهندي ( م 1053 هـ ) دفين البقيع يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل ، ويمشي في ركابه ألوف الرجال ومئات من العلماء ، ولما دخل السيد في لاهور عام 1053 كان في معيته عشرة آلاف من الأشراف والمشايخ وغيرهم ، حتى توجس شاهجان ملك الهند منه خيفة ، فأرسل إليه بمبلغ من المال ، ثم قال له : قد فرض الله عليك الحج فعليك بالحجاز ، فعرف إيعاز الملك ، وسافر إلى الحرمين حيث مات(243) .
وهذا الشيخ محمد معصوم ( م 1079 ) ابن الشيخ الكبير أحمد السرهندي قد بايعه وتاب على يده تسعمائة ألف من الرجال ، واستخلف في دعاء الخلق إلى الله وإرشاد الناس وتربيتهم الدينية سبعة آلاف من الرجال(244) .
وهذه ابنه الشيخ سيف الدين السرهندي (م 1096) كان يأكل على مائدته ألف وأربعمائة ، ويقترحون الأطعمة ويتخيرونها(245) .
وهذا الشيخ محمد زبير السرهندي ( م 1151 ) كان إذا خرج من بيته ألقى له الأغنياء الشيلان والمناديل حتى لا يطأ الأرض ، وإذا خرج لعيادة مريض أو لبعض شأنه خرج في ركابه الأغنياء والأمراء فكان موكباً مثل مواكب الملوك(246) .
وهذه أمثلة قليلة لا نقصد منها إلا الاستدلال على ما كان للدين من مكانة وشرف في عيون الناس ، وعلى ما كان من احتفاء برجاله ومن يمثلونه ، وخضوعهم لسلطان الدين فوق سلطان القوة ، وتهافتهم على موارد الدين ومشارعه ، وهذه أمثلة التقطناها على عجل من تاريخ الهند الإسلامي ولمحات عابرة فيه ؛ ولو ذهبنا نستقصي أمثلته وشواهده من تاريخ الإسلام العام ومن تراجم الرجال الدينيين وسيرهم في بلاد الشام ومصر والمغرب الأقصى والعراق لكان مجلداً كبيراً – ونكتفي هنا بذكر الشيخ خالد الكردي ( م 1242 هـ ) الذي ازدحم الناس عليه في بغداد يتوبون على يديه ويستفيدون منه ، وقد أخبر شيخه في رسالة كتبها إليه أن مائة من العلماء الفحول قد تخرجوا عليه ، وأن خمسمائة من كبار العلماء قد دخلوا في بيعته ، وأما العوام والخواص فلا يأتي عليهم حصر(247) .
واستمر هذا الإقبال على الدين والهجرة في طلب العلم النافع والعمل الصالح ، وتجشم الأسفار والأخطار لزكية النفس وتهذيب الخلق والتوصل إلى معالم الرشد والاستعداد للآخرة إلى أول عهد الاستعمار الأوربي ؛ فترى في كل قطر إسلامي مراكز دينية وملاجئ روحية يأوي إليها أهل الطلب من سائر الآفاق ، وتخطبهم الدنيا والمناصب العالية في الحكومات فيأبون إلا فراراً ، ويلجأون إلى هذا المحيط الهادئ الروحي ، ويكبون على إصلاح باطنهم وسل حظ الشيطان منه .
وتتعدى في الحضارة إلى أواسط القرن الثالث عشر الهجري وقد احتل الإنجليز الهند ، ولما تؤثر حضارتهم وفلسفة حياتهم في مجتمع البلاد ، فترى بقايا من الحياة الدينية الأولى ، ويحدثنا مؤرخ(248) عن زاوية الشيخ غلام علي الدهلوي ، ( م 1240 هـ ) فيقول :
(( رأيت بعيني في هذه الزاوية رجالاً من الروم والشام وبغداد ومصر والحبشة قد بايعوا الشيخ ، وعدوا المثول بين يديه حسنة الدهر وسعادة العمر . أما الوافدون من البلاد القريبة كالهند وأفغانستان فكانوا كالجراد ، ولا يقل عدد المقيمين في هذه الزاوية عن خمسمائة رجل تقوم الزاوية بنفقاتهم (249))) .
ويجيل الشيخ رؤوف أحمد المجددي نظره في رجال هذه الزاوية اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى عام 1231 هـ فيجد رجالاً من سمرقند وبخارى وتاشقند وحصار وقندهار وكابل وبشاور وكشمير والملتان ولاهور وسرهند وأمروهه وسبنهل ورامبوا وبريلي ولكهنؤ وجائس وبهرائج وكوركهبور وعظيم آباد ودماكه ، وحيدر آباد ، وبونه وغيرها(250) .
وليعرف أن هذا كله في زمان لم تحدث فيه طرق النقل الحديثة فكان كله مشياً على الأقدام وسفراً في القوافل .
وتتجلى المناظر الأخيرة لهذا العهد الراحل في تاريخ مصلح الهند الكبير والمجاهد الشهير السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد ( 1246 هـ ) فإذا قرأت تاريخه وجولاته في الهند لأجل بث دعوته إلى التوحيد واتباع السنة والجهاد رأيت ألوفاً يتوبون من الذنوب والآثام والشرك والمحدثات ، حتى تقفر الحانات وتغص المساجد ، ويتسابقون في دعوته هو ورفقته الذين يعدون بالمئات إلى بيوتهم وصنع الولائم لهم ، ويستهينون في سبيل ذلك بالأموال ، ويسترخصون كل عزيز وغال حتى يتقارعوا بينهم أيهم يبدأ وأيهم يتقدم .
وترى في المسلمين شهامة في سبيل الدين وعلو همة وسماحة نفس وأريحية لا تعهدها بعد ذلك ، فلما خرج السيد للحج عام 1236 هـ ورفقته أكثر من سبعمائة رجل ضيف المسلمون هذا الركب في كل محل يمر به ، من راي بريلي مسقط رأسه إلى كلكته حيث ركبوا السفن ، ولما نزل بالله آباد ضيَّفه الشيخ غلام علي ، وأقام هذا الركب ضيفاً عليه خمسة عشر يوماً ، واجتمع الناس من القرى والضواحي وكلهم يأكلون على مائدة الشيخ الطعام الفاخر ، هذا عدا الهدايا التي أهداها إلى أهل الركب والكسوة والزاد الذي قدمه ، وفي أثناء الرجوع لما حلت القافلة قريباً من مدينة مرشد آباد في طريقها من كلكته إلى راي بريلي قام ديوان غلام مرتضى بضيافتهم وأعلن في السوق أن كل من يشتري من أهل القافلة أو يستأجر منهم أهل الصناعة فهو يؤدي الثمن من عنده ، وكلمه السيد في هذا فقال : حسبي من الفخر والشكر أني أقوم بخدمة الحجاج .
وترى في الناس رقة في القلوب وانقياداً للحق وخضوعاً للشرع ، فقد تشرف بالبيعة والتوبة مئات ألوف من المسلمين في هذا السفر ، وكان الناس ينهالون من كل صقع ويدخلون في الخير أفواجاً ، حتى إن المرضى في مستشفى مدينة بنارس أرسلوا إلى السيد يقولون : إنا رهائن الفراش وأحلاس الدار فلا نستطيع أن نحضر فلو رأى السيد أن يتفضل مرة حتى نتوب على يديه لفعل ، وذهب السيد وبايعهم .
وأقام في كلكته شهرين ، ويقدر أن الذين كانوا يدخلون في البيعة لا يقل عددهم عن ألف نسمة يومياً ، وتستمر البيعة إلى نصف الليل ، وكان من شدة الزحام لا يتمكن من مبايعتهم واحداً واحداً فكان يمد سبعة أو ثمانية من العمائم والناس يمسكونها ويتوبون ويعاهدون الله ، وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثماني عشرة مرة .
وخطب السيد في الناس في كلكته خمسة عشر أو عشرين يوماً ، وكان يحضر هذه المواعظ نحو ألفين من وجهاء البلد والعلماء والشيوخ فضلاً عن عامة الناس والدهماء ، وكذلك رفيقه الشيخ عبد الحي البرهانوي كان يذكر كل يوم جمعة ويوم الثلاثاء بعد صلاة الظهر إلى العصر ، والناس يتساقطون عليه كالفراش ؛ ويسلم كل يوم عشرة أو خمسة عشر رجلاً من الكفار .
وكان من تأثير هذه المواعظ ودخول الناس في الدين وانقيادهم للشرع أن تعطلت تجارة الخمر في كلكته وهي كبرى مدن الهند ومركز الإنجليز , وكسدت سوقها و أقفزت الحانات واعتذار الخمارون عن دفع ضرائب الحكومة متعللين بكساد السوق وتعطيل تجارة الخمر .
ولما دعا السيد الإمام إلى الجهاد لبى الناس من كل طبقة دعوته في نشاط وحماسة ولحقوا به , وترك الفلاحون سكتهم وأقفل التجارة دكاكينهم وغادر الناس أوطانهم وتغربوا في دين الله ولم يتلفتوا إلى ما وراءهم ولم يلووا على شيء حتى قتلوا في سبيل الله في وادي بالا كوت عام 1246هـ في الثغور , ورجع فلهم إلى قلل الجبال فاعتصموا بها وقضوا نحبهم في الجهاد.
هذا كله والحضارة الإسلامية في الهند في الاحتضار والحكومة الإسلامية في انهيار , ولكن لم يزل في الناس بقية من الأنفة الإسلامية والحمية الدينية والإنابة إلى الله والفرار إليه وسرعة الإجابة للداعي إلى الله , والاستهانة بالحياة الدنيا وبذل النفوس والنفائس في سبيل الله .
ورسخت قدم الإنجليز وأصبح نظامهم التعليمي – وهو من أكبر جنودهم – يؤتي أكله حين ، وتسربت في الناس أفكارهم وميولهم ، فصارت تقلب نظام الحياة ونظام الفكر في الهند رأساً على عقب من حيث لا يشعر أهلها فتقاصرت الهمم في الدين وخمدت جذوة القلوب وانطفأت شعلة الحياة الدينية ، وانصرفت الرغبات والأهواء والتنافس الطبيعي – الذي هو الدافع الأكبر إلى التقدم والإبداع – من الدين والروحانية إلى المعاش والمادة ، وقلت مرغبات الجهد في الدين والعلم وما يتصل بالروح والقلب ، وتوافرت المزهدات والمثبطات عنه ، وكثرت الدواعي والحافزات إلى ضده ، واتجه تيار الذي والنبوغ والعبقرية – الذي كان متجهاً من قبل إلى الدين – من صنوف الدين وأقسام العلم الديني والروحي ، إلى الإنتاج والإبداع في أنواع علوم المعاش ومرافق الحياة .
وكان لا يزال بالعهد الراحل رمق وبقية من حياة تنازع الموت وتحاول البقاء ، فكان لا يزال في الناس رجال يدعون إلى الدين وإصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق وتصفيتها وهم تذكار لسلفهم في زهدهم في الدنيا والإقبال على الآخرة والإخلاص واتباع السنة ، وكانت لا تزال لهم دعوة في الناس ، والمسلمون يعدون الاتصال بهؤلاء والتمسك بأهدابهم حقاً من حقوق الدين وواجباً من واجبات الحياة ، وكان بعض الأغنياء والأمراء وأرباب الدنيا ، لهم اهتمام زائد بحسن الخاتمة وأمور الآخرة وصلاح القلب وعمارة الباطن ، ولكن كان هذا كله أشبه بالتهاب السراج قبل الانطفاء ، فقد ذوى أصل الشجرة الدينية ، وانقطعت عنها مادة الحياة ، وهبَّ عليها إعصار فيه نار .
سرى الشك وسوء الظن في الأوساط الدينية والبيوت العريقة في الدين والعلم بتأثير المحيط وبتأثير التعاليم الإفرنجية وضعفت الثقة بالله وبصفاته وبمواعيده ، فأصبح الآباء يضنون بأولادهم على الدين ، ولا يخاطرون بأوقاتهم وقواهم في سبيل الدين وعلوم الدين ، وأصبحوا يعلمونهم العلوم المعاشية واللغات الإفرنجية ، لا رغبة في تحصيل المفيد النافع ولا دفاعاً عن الإسلام بل زهداً في الدين وفراراً من خطر المستقبل وخوفاً على أفلاذ أكبادهم من الضياع واستسلاماً للدهر المتقلب ، وتسلط عليهم خوف الفقر حتى أصبحوا من خوف الموت في الموت .
وهكذا انقرض هذا الجيل وطوي هذا البساط ، ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الأخير ، وتلاه عهد المادة ، وأصبحت الدنيا سوقاً ليس فيها إلا البيع والشراء .

طغيان المادية والمعدة :
رووا أن شاعرة جاهلية هي (( كبشة بنت معد يكرب )) عاتبت أخاها عمرو بن معد يكرب ، وعيرته بميله إلى قبول دية أخيه المقتول فقالت :
ودع عنك عمْراً إن عمْراً مسالم *** وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم ؟
ما تتصور المرأة الجاهلية البسيطة أن بطن إنسان يتجاوز مقدار شبر فكيف لو رأت معدة الإنسان الحاضر ابن القرن العشرين ؛ تضخمت وكبرت حتى وسعت الأرض وتجاوزت حتى أصبحت لا يملؤها إلا التراب .
نعم تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا يشبعها مقدار من المال ، وتولد في الناس غليل لا يُرْوى وأُوارٌ لا يُشفى ، وأصبح كل واحد يحمل في قلبه جهنم لا تزال تبتلع وتستزيد ، ولا تزال تنادي هل من مزيد ؟ هل من مزيد ؟ تسلط على الناس – أفراداً وأمماً – شيطان الجشع والحرص فكأن بهم مساً من الجنون ، وأصبح الإنسان نهما يلتهم الدنيا التهاماً ، ويستنزف موارده حلالاً وحراماً ، ثم لا يرى أنه قضى لبانته وشفى نفسه ، والعهدة في ذلك على وضع الحياة الحاضرة وطبيعتها وكونها مادية صرفة لا تؤمن بالآخرة . وخليق بمن لا يعتد إلا بحياته الدنيا ولا يرى وراءها عالما آخر وحياة ثانية أن تكون هذه الحياة بضاعته ورأس ماله وأكبر همه وغاية رغبته ومبلغ علمه ، وأن لا يؤخر من حظوظها وطيباتها ولذائذها شيئاً وأن لا يضيع فرصة من فرصها ، ولأي عالم يدخر وهو لا يؤمن بعالم وراء هذا العالم ، ولا بحياة بعد هذه الحياة ؟
وقد عبر عن هذه النفسية الجاهلية الشاعر الجاهلي الشاب طرفة بن العبد في صراحة وبساطة فقال :
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي *** فدعني أبادرْها بما ملكت يدي
كريم يروِّي نفسه في حياته *** ستعلم إن متنا غداً أينا الصَّدِي
وكل إنسان متمدن اليوم – إلا من عصمه الله بالإيمان – يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب في الحياة ، إلا أنه قد يجرؤ على أن يصرح به ، وقد لا يملك ذلك اللسان البليغ الذي يعبر عن ضميره ؛ والسبب الثاني : - هو الأدب العصري – بمعناه الواسع – الذي لا يتحدث إلا عن المادة وأصحابها ، ويخنع لأهل الثراء وأصحاب الاحتكار وأصحاب الإنتاج ، الخنوع الذي لا يليق بالأدب الشريف العالي ، فيكتب دقائق حياتهم في تفصيل ، وينشر ألقابهم وأسماءهم بقلم عريض وكل نفس من أنفاس مدحه وتقريظه وكل فصل من فصول روايته ينتهي إلى نتيجة مادية أو إلى بطل من أبطال المادة ، ويزين للقارئ المذهب الأبيقوري تارة بالتلميح وتارة بالتصريح ، ويحث الشباب على التهام الحياة وانتهاب المسرات نثراً وشعراً وفلسفة ورواية وتحليلاً وتصويراً ، فلا ينتهون منه إلا بالروح المادية والتقديس لرجال المادة .
وكذلك المجتمع الذي لا يقدر إلا الغني الظريف متناسياً كل ما فيه من رذيلة ولؤم أصل وسوء خلق ، ويتجنى على الإنسان الذي لا يترجح في ميزانه مهما كثرت مواهبه وطاب عنصره وسما جوهره ، ويلمِّح وقد يصرح بأن الفقير لا يستحق الحياة ، ويعامله معاملة الدواب والحمير والكلاب ، فيرغم الإنسان – إذا لم يكن ثائراً على المجتمع – على أن يخضع لشريعة مجتمعه ، وأن يتجمل ويتظرف لمجتمعه ، فلا يلبس إلا لغيره ولا يتأنق إلا لغيره .
وهذا المجتمع لا تزال مقاييسه للشرف والظرافة تتغير ومعاييره للإنسانية تتبدل وتتحول ومطالبه تتنوع وتتكثر ، حتى يضيق الإنسان بها ذرعاً ويلجأ إلى طرق غير شريفة لتحصيل المال وإلى كدح وكد في الحياة ، وهناك هموم تتوالى ولا تنتهي ومتاعب تتسلسل ولا تنقطع .
وزاد الطين بلة تنافس المصانع والمنتجين والصناع ؛ ففي كل صباح يتدفق على المدينة سيل جديد من أحدث المنتجات وأحدث طراز من السيارات والسجائر والأزياء والقبعات والأحذية والأدهان والأطلية وأسباب الزينة والزخارف والأجهزة ولا يجلب منها شيء قياماً بالواجب وسدّاً للعوز ، بل كله في سبيل الاستغلال الصناعي والاحتكار التجاري ، ولا تلبث هذه المنتجات التي هي من فضول الحياة أن تدخل في أصول المعاش ولوازم المدينة ، والذي لا يتحلى بها لا يعد من الأحياء .
ولهذه الأسباب ولغيرها ارتفعت قيمة المال في عيون الناس ارتفاعاً لم تبلغه في الزمن السابق ، وبلغ من الأهمية والمكانة مبلغاً لم يبلغه – على ما نعرفه – في دور من أدوار التاريخ المدون ، وأصبح المال هو الروح الساري في جسم المجتمع البشري والحافز الأكبر للناس على أعمالهم ونشاطهم المدني ، وقد يدفع المخترع إلى الاختراع والصانع إلى صناعته والسياسي إلى مقالته والمرشح إلى انتخابه والعالم إلى تأليفه ، حتى القادة إلى الحرب ، فهو القطب الذي تدور حوله رحى الحياة العصرية كما يقول الأستاذ (( جود )) معلم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن: ((إن النظرية المهيمنة السائدة على هذا العصر هي النظرية الاقتصادية ، وأصبح البطن أو الجيب ميزاناً لكل مسألة فبمقدار اتصالها بالجيب وتأثيرها فيه يقبل الناس عليها ويعنون بها)) .
إذا حكمت على عصرك وطبائعه وأذواقه وأنت بمعزل عن الحياة ، وبنيت حكمك على مؤلفات ومقالات إنما تكتب في زاوية من زوايا الكتب فإنك تغالط نفسك ، وقد تقرأ في هذه الكتب الفلسفية أو المقالات العلمية التحليلية كأنك في عصر متمدن راق تتحكم فيه معايير الأخلاق وتسود فيه المثل العليا ويغشاه سحاب الفضيلة والنبل ، وتحلق عليه روح الديانة والعلم ، ولكن الواقع غير ذلك ، فإن هذه الكتب إنما ألفت في عالم الخيال الذي يعيش فيه مؤلفوها ، وإن أهواءهم وأذواقهم هي التي خلقت لهم عالم خيالياً يصفونه ويصورونه في كتبهم ، حتى يخيل إلى القارئ أنه هو العالم المحيط به .. وللأهواء عجائب وخوارق .
ولكنك إذا اتصلت بالحياة عن كتبٍ لا عن كُتبٍ ، وخالطت الناس ودرست أحوالهم وأصغيت إلى حديثهم في البيت وفي القطار والبستان وعلى المائدة وفي السمر ، رأيت ( الذهب ) حديث النوادي وشغل الألسنة وهوى القلوب ، والبداية والنهاية في كل موضوع ، والقطب الذي تدور حوله رحى الحياة .
إن شاعراً عربياً يلعن الصعلوك الذي لا يتعدى نظره ولا يسمو فكره عن لباس وطعام ويقول :
لحا الله صعلوكاً مناه وهمه *** من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً
فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدينة وهي تجري بفلاسفتها وسياسييها ونوابغها وعلمائها وكتابها وأشرافها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية لا تتعدى لبوساً ومطعماً مهما تنوعت أشكالها وتضخمت ألقابها ؟! فالحياة كلها جهاد في سبيل اللباس والطعام .

التدهور في الأخلاق والمجتمع :
احتل الأجانب الشرق الإسلامي وقد أصاب المجتمع الشرقي الإسلامي انحطاط في الأخلاق والاجتماع ، وسبقت إليه أدواء خلقية واجتماعية كانت أهم أسباب انهيار الدول الإسلامية وانهزام الأمم الشرقية .
ولكن مع ذلك لم يزل المجتمع الشرقي الإسلامي – على علاته – محتفظاً ببعض المبادئ الخلقية السامية والخصائص الاجتماعية الفاضلة التي لا يوجد لها مثيل في الأمم ، وقد نضج واكتمل فن الأخلاق عند الشرقيين ووصل من الدقة والتفصيل واللطافة ورقة الحواشي ذروة لا بصل إليها ذهن العصر ، ولا يتصورها الغربي إلا في الشعر والأدب .
يقرأ الإنسان أو يسمع روايات عن استحكام الروابط والأواصر بين أعضاء المجتمع العام وأفراد الأسرة ، وتغلغلها في الأحشاء واستمرارها إلى الأحقاب والأجيال وخلوها من كل مصلحة ومتعة مادية ، ما لا يتصوره أبناء هذا العصر . وكذلك من حنو الآباء على الأبناء وبر الأبناء بالآباء ، وتوقير الصغير للكبير وحدب الكبير على الصغير ، وعن عفاف النساء ووفاء الحلائل وأمانة الخدم ووفائهم واستقامة الشبان وثباتهم على الأخلاق ومعاملة الأشراف بعضهم لبعض ، والمحافظة على الرواتب والعادات والاطراد في مسألة اللباس والشعائر والعشرة ، والإيثار في شأن الأصدقاء والنصح لهم ، يسمع منها غرائب لا يكاد يصدق بها .
كان بر الأبناء للآباء وطاعتهم إلى حد التفاني في سبيلهم والاضمحلال في وجودهم منتزعاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنت ومالك لأبيك )) .
وكان حب الأبناء لآبائهم وبرهم وحرصهم على أداء حقوقهم غير مقتصر على حياة الأبوين ، بل كان يستمر إلى ما بعد وفاتهما أصدقائهما وأهل أنسهما والإهداء إليهم والتحبب إلى أولادهم وعشيرتهم ، وكان ذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( إن من أبر البر بر الرجل بأهل ود أبيه بعد أن يولي )) .
وكان الأبوان مثلاً للنصح والإخلاص في حبهما للأولاد ، وكانا يضحيان بجميع أهوائهما وميولهما وراحتهما وبلذة الأمومة والأبوة في سبيل تثقيفهم وتربيتهم وتعليمهم ، ويتحملان في ذلك – حتى الرجل الأمي والمرأة الجاهلة – إجحاف المعلمين وعسفهم وإضرارهم في بعض الأحيان بجسم الصغار ، ويجرعان المرائر ويصبران على الغصص في سبيل الأولاد ونبوغهم ، وقد تواضع على ذلك أهل البيوتات والشرف حتى أهل الطبقات الوضيعة ، ويعدون من خالف ذلك رجلاً نذلاً لئيما، والذي روي عن هارون الرشيد في تنبيهه لولديه الأمين والمأمون ووصيته لهما بخدمة الكسائي معروف في التاريخ ؛ ومن غرائب ما يروى في هذا الباب ويمثل الطبيعة الشرقية أن (( تاج الدين ألدز )) أمير الأفغان بعد السلطان شهاب الدين الغوري أسلم ولده إلى معلم وضرب المعلم الولد حتى مات ، فلما علم بذلك (( تاج الدين )) أشار على المعلم بأن يهرب وقال : (( لا آمن عليك من أم الولد فعسى أن ينالك منها مكروه )) .
وكانت الرابطة بين الصغير والكبير في المجتمع الإسلامي مؤسسة على تعاليم الشرع (( من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا )) .
ومن خصائص الحضارة الشرقية الاطراد في الحياة والمحافظة على لون واحد والتظاهر بمظهر واحد ، فكان الرجل إذا شرع في أمر وتظاهر بمظهر واصله إلى غايته ، وإذا اتخذ عادة أو شارة في اللباس أو عامل أحداً نوع معاملة واظب عليه إلى آخر أنفاسه ، لا تؤثر في ذلك الحوادث ولا تغيره الفصول ولا انحراف الصحة ولا الكسل ولا المصالح .
ولم يكن العمدة في حياة الأسرة والقبائل ولم يكن الميزان في التوقير والشرف هو كثرة المال فيختلف المستوى المالي في أسرة اختلافاً كبيراً ، ويتفاوت الرجال في قبيلة أو قوم تفاوتاً عظيماً في المال والجاه ، فهذا سريٌ مثر وذلك فقير معدم ، ولم يكن يستطيع أحد أن يفرق بينهم ويرفع بعضهم فوق بعض لأجل التفاوت الاقتصادي في مجتمعات الأسر والبيوتات والمآتم ( بمعناها اللغوي ) فإذا شم أحد رائحة الفرق أو نظرة الازدراء ، ثار كالليث ، أو إذا بدرت بادرة من المضيف تنم عن هذا الفصل انسحبت الأسرة كلها من الضيافة وقاطعوا أهل الضيافة ، وكانوا يداً واحدة مع أخيهم المهضوم .
وكان الفقير الصعلوك في قبيلة يواجه الأغنياء والملوك من تلك القبيلة بجرأة وهو معتز بنفسه معتد بشرفه لا يرى في نفسه نقيصة لأجل فقر ، وكان الغني أو الملك يكرمه ويحله المحل اللائق بشرفه ونسبه وفضيلته الذاتية ، بصرف النظر عن رثاثة هيئته وتبذله ، والأزمة الاقتصادية الطارئة على كرم عنصره وصفاء معدنه وطيب منبته ومتانة دينه ووفور علمه .
وكان الفقير في ذلك يبالغ كثيراً في إخفاء عسرته وضنك معيشته ويتحمل ويتجلد ، ويسوءه أن يفطن أحد إلى فاقته ورقة حاله .
وكان ضمير الحر عزيزاً محترماً كدينه وعرضه ، لا يساوم عليه ولا يباع بأي ثمن ، وكان الواحد يفضل الموت الأحمر على كذبة أو خيانة يخلص بها نفسه من الموت .
وقد روى لنا التاريخ الهندي طرائف في هذا الباب لابد أن تكون أمثلتها متوافرة في تاريخ جميع البلاد الإسلامية : منها أن الشيخ رضي الله البداوني اتهم بالاشتراك في الثورة على الإنجليز عام 1857 وحوكم أمام حاكم إنجليزي كان من تلاميذه ، فأوعز إليه الحاكم على لسان بعض الأصدقاء أن يجحد الاتهام فيطلقه . ولكن الشيخ أبى وقال : قد اشتركت في الخروج على الإنجليز فكيف أجحد ؟ واضطر الحاكم فحكم عليه بالإعدام ، ولما قدم للشنق بكى الحاكم وقال له : حتى في هذه الساعة لو قلت مرة : إن القضية مكذوبة عليَّ وإني بريء لاجتهدت في تخليصك ، فغضب الأستاذ وقال : أتريد أن أحبط عملي بالكذب على نفسي ؟ لقد خسرت إذاً وضل عملي، بل قد اشتركت في الثورة فافعلوا ما بدا لكم، وشنق الرجل !!.
ولم يكن صدقهم واعترافهم بما يعملون ويعتقدون مقتصراً على ما يتصل بأنفسهم ، بل كانوا صادقين فيما يتصل بالأمة والشعب ، فلم يكونوا يعرفون العصبية الجنسية والوطنية والجنف القومي الذي أصبح اليوم من واجبات الجنسية والوطنية ، وكانوا يعدون الكذب وشهادة الزور لأجل الأمة والوطن والملة رذيلة وإثماً كبيراً . وكانوا يعتقدون أن أحكام الشرع تعم الفرد والأمة والأمور الشخصية والاجتماعية وكانوا متمسكين بقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } الآية ، وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ } وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } .
ومما يروي لنا الشيوخ من ذلك : أنه وقع نزاع بين الهنادك والمسلمين في قرية كاندهلة من مديرية (( مظفر نكر )) في الولايات المتحدة الهندية على أرض ، فادعى الهنادك أنها معبد لهم ، والمسلمون أنها لهم مسجد . وتحاكموا إلى حاكم البلد الإنجليزي ، فسمع الحاكم القضية ودلائل الفريقين ولم يطمئن إلى نتيجة ، فسأل الهنادك : هل يوجد في القرية مسلم تثقون بصدقه وأمانته أحكم على رأيه ؟ قالوا : نعم ، فلان ؛ وسموا شيخاً من علماء المسلمين وصالحيهم ، فأرسل إليه الحاكم وطلبه إلى المحكمة ، فلما جاءه الرسول قال : قد حلفت أن لا أرى وجه إفرنجي ، ورجع الرسول فقال الحاكم : لا بأس ، ولكن احضر وأدل برأيك في القضية ، فحضر الشيخ وولى دبره إلى الحاكم وقال : الحق مع الهنادك في هذه القضية ، والأرض لهم . وبذلك قضى الحاكم وخسر المسلمون القضية ، ولكن كسبوا قلوب الهنادك وأسلم منهم جماعة .
وكذلك كان الناس يعدون العلم عارية مقدسة ووديعة من الله لا يبيعونه كسلعة في السوق ، ولا يتعاونون به على إثم آثم وعدوان معتد ، وكانوا لا يرضون أن يستعين به نظام جائر أو حكومة غير إسلامية .
ومما حكى لنا الثقات وقرأناه في التاريخ أن الشيخ عبدالرحيم الرامبوري ( م 1234 هـ) كان يعمل في بلدة رامبور براتب زهيد يتقاضاه كل شهر من الإمارة الإسلامية لا يزيد على عشر روبيات ( أقل من جنيه مصري ) فقدم إليه حاكم الولاية الإنجليزي المستر هاكنس وظيفة عالية في كلية بريلي راتبها مائتان وخمسون روبية ( تسعة عشر جنيهاً مصرياً ) ، وذلك يساوي خمسين جنيهاً في هذا العهد ، ووعد بالزيادة في الراتب بعد قليل ، فاعتذر الشيخ عن قبوله وقال : إني أتقاضى عشر روبيات وإنها ستنقطع إذا تحولت إلى هذه الوظيفة . فتعجب الإنجليزي وقال : ما رأيت كاليوم : أنا أقدم راتباً يزيد على راتبك الحالي بأضعاف أضعاف ، وتترك الأضعاف المضاعفة وتقنع بالنزر اليسير !. فتعلل الشيخ بأن في بيته شجرة سدر وهو مغرم بثمرها وأنه سيحرمها إذا أقام في بريلي . ولم يفطن الإنجليزي بعد إلى مقصود الشيخ . فقال : أنا زعيم بأن هذا الثمر يصل إليك من رامبور إلى بريلي ، فتشبث ثالثة بأن حوله طلبة وتلاميذ يقرؤون عليه في بلده فلو انتقل إلى هذه الوظيفة انقطعت دروسهم . ولم ييأس الإنجليزي المناقش من إقناعه فقال : أنا أجري لهم جرايات في بريلي ويواصلون درووسهم هناك ، وهنا أطلق الشيخ آخر سهامه الذي أصمى رميته فقال : وماذا يكون جوابي غداً إذا سالني ربي : كيف أخذت الأجرة على العلم ؟ وهنا بهت الإنجليزي وسقط في يديه وعرف نفسية العالم المسلم ، وقضى الشيخ حياته على أقل من جنيه يأخذه كل شهر .
قارن هذه الروح السامية والنفس الكبيرة التي تربا بالعلم أن يباع بيع السلع , و تغار على العقيدة والكرامة أن تشترى بمال أو منفعة , بهذا التبذل والإسفاف الذي وصل إليه أهل العلم والعقل والصناعة في هذا الزمان , فقد عرض كثير من علمهم وعقلهم وما يحسنونه كالسلع في الأسواق ، يبيعونها بالمناداة ( المزاد العلني ) ليشتريها من يزيد في الثمن كائناً من كان ، فليس الشأن عندهم في العقيدة ولا في الغرض والنتيجة ولا في الملاءمة والذوق ، إنما الشأن عندهم في الثمن الذي يدفعه المشتري .
وكل يوم نطلع على مضحكات مبكيات في هذا الباب ، فهذا الأستاذ كان أمس في معهد إسلامي يدرس العلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي ، وقدمت غليه الكلية الكاثوليكية الفلانية وظيفة تدريس براتب يزيد على راتبه السابق بخمسة جنيهات فانتقل إليها ، وهذا السيد فلان كان في وزارة المعارف سابقاً ، وكان شاباً مثقفاً وعالماً له هوى في التحقيق والدراسة ، تقرأ له مقالات علمية في المجلات الراقية ، فإذا به ينتقل فجأة إلى مصلحة الطيران أو الإذاعة ، وسألناه : ماذا حدث له حتى غير طريقه وقلب تيار حياته ؟ فأخبرنا أن ذلك لأجل أنه يربح في مركزه الجديد عشرة جنيهات ، وهذا البحاثة الفلاني كتب مقالة عن التصوف الإسلامي ونال بها ثناء أهل العلم قد تحول إلى وزارة الخارجية أو أصبح ترجمان دولة أوروبية ، وما هو إلا لأجل زيادة بمقدار بضعة جنيهات ، أوليس هذا لأن الربح المالي قد أصبح كل شيء ، ولأن الذهب اللماع أصبح المتصرف الوحيد في مناهج الحياة والمسيطر الوحيد على الأرواح والعقليات ؟! .
قرأنا في التاريخ الإسلامي أن المنصور الخليفة العباسي المشهور طلب من ابن طاوس في مجلس أن يناوله الدواة ليكتب شيئاً فامتنع ، فسأله الخليفة عن سبب امتناعه وعدم امتثاله أمر خليفة المسلمين ، فقال : أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها ومتعاوناً على الاثم والعدوان . إلى هذا الحد وصل بهم تمسكهم بقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } أما امتناعهم عن قبول منصب القضاء في نظام لا يرضونه ولا يرتاحون إلى سيره وتفاصيله فرواياته بلغت حد التواتر ، واطردت في أدوار الحياة الإسلامية الأولى .
قارن هذا الاحتراس من التعاون على الإثم والعدوان ، وهذا التعفف عن المشاركة في نظام غير صحيح ، والامتناع من أدنى مساعدة لهدف لا يتفق ومصالح الأمة الإسلامية أو يعود عليها بالضرر أو فيه غش وخديعة للأمة . قارن كل ذلك بهذه المساعدة والتعضيد الذي تتمتع به الحكومات الأوربية من المسلمين ، وهذا الذكاء واللباقة والقلم البليغ واللسان الذلق الذي ينتفع به الأجانب منهم في مصالحهم وإداراتهم .
فهنالك شبانٌ مسلمون وكتاب بارعون يتولون تحرير الصحف والمجلات التي تصدرها الحكومات الأجنبية لنشر دعايتها في بلاد المسلمين والتأثير في عقليتهم ونفسيتهم وتمويه الحقائق بمقدرة المأجورين من المسلمين أنفسهم .
وهنالك جماعة من (( الأفاضل )) ينحدرون من أصول عربية صميمة ، وينتمون إلى بيوتات عريقة في المجد والإخلاص والإسلام ، قد جاهد آباؤهم في سبيل الحق ومحق الباطل ، وبقيت نسبتهم في أسمائهم تروي لنا تاريخاً مجيداً عن آبائهم حافلاً بجلائل الأهمال ، وجرى دمهم في عروقهم ، وظهر في ملامح وجوههم وتقاطيعها ، يشتغلون اليوم في الحكومات الأجنبية ، ويستعملون تلك اللغة المضرية الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم ، والتي تكلم بها رسل المسلمين في مجالس ملوك فارس والروم ، فأدوا بها رسالة الإسلام ، وألقوا المهابة في قلوبهم ، والتي ألقى بها القواد المسلمين خطب الجهاد ، بهذه اللغة الكريمة التي لا تليق إلا للبطولة الإسلامية ، وبتلك الكلمات الفصيحة الرائعة التي لا تجمل إلا في مواضع الحق والجهاد ، ينشر هؤلاء دعاية الحكومات الأجنبية التي تعبث بالمسلمين عبث اللاعب بالكرة ، أو عبث الوليد بجانب القرطاس ، وقد رزأتهم في سياستهم واستقلالهم وإيمانهم وعقلهم واقتصادهم ، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .
قد سمعنا منهم أن هذه الحكومات تقوم بجهود نبيلة لخير العروبة والإسلام ورفع شأنهم . وأنها (( نور الحرية الوضاء في عالم ساده الظلام الدامس )) ، وقد سمعناهم يشيدون (( بالخدمات الجلى والمساعدات العظيمة التي تقدمها الإذاعة البريطانية في سبيل نهضة الأقطار العربية وتوحيد تفكيرها وثقافتها وتوثيق الروابط بينها ، وما تقوم به من نشر الثقافة العربية الإسلامية ، وتعريف المسلمين بتاريخهم المجيد ومدنيتهم الزاهرة ، وإطلاع العالم العربي على حقائق الأمور ، وسير الحوادث في نزاهة وتجرد وصدق(251) )) ولطالما سمعناهم وقرأنا لهم إشادة بإيمان هذه الحكومات بالديمقراطية الصحيحة وجهادها لتوطيد الأمن العام وسلام العالم وحرية الأمم المستضعفة والبلاد المهضومة ، ورفعها لراية العدل والمساواة ، والأخذ للمظلوم من الظالم ، وقيامها للحق .. الخ .
فأن كان هؤلاء المتحدثون لا يرضى ضميرهم بما يقولون , ويعرفون أن هذه الكلمات في غير محلها , وإنما هو كله لمصالحهم المالية , فيالانحطاط النفس الشريفة , ويا لرخص السلعة الغالية , ويا ضيعة الكلمات العامرة بالمعاني , ويا شقاء اللغة العربية بأهلها !0وإذا كان ذلك عن اعتقاد وثقة وفهم للمعنى , فيا جهلاً بالحقائق , ويا إنكاراً للمحسوس , ويا مسخاً للقلوب !0
وهذا عصر التناقض فيكتب أديب أو صحافي اليوم كتاباً حماسياً في سيرة بطل من أبطال الجهاد الإسلامي , أو مجدد من مجددي الإسلام , ولا يجف مداد مقالته أو كتابه ذلك حتى يكتب بقلمه تقريظاً أو ثناء على خائن من خونة الأمة , أو صنيعة من صنائع الأجانب لمصلحة سياسية ومنفعة مالية , ولا يرى في ذلك تناقضاً .
طلب ملك من ملوك العرب من شاعر عربي فرسه , فاعتذر أن يعطيها بأي ثمن كان وقال :
أبيت اللعن إن سكاب علق *** نفيس لا تعار ولا تباع
ولكن كأن الضمير عند هؤلاء الذين يشتغلون في الحكومات الأجنبية ، أو يذيعون من محطاتها ما لا يرضى به ضميرهم ولا يصدق علمهم ، أو يصدرون صحفاً ، أو يؤلفون كتباً على جعالة أو راتب شهري ؛ أذل وأرخص من جواد الجاهلي فهو يعار ويباع ، وذلك لم يكن لعيار ولا ليباع .
وكانت الروابط والأواصر في الشرق – في الغالب – قائمة على أساس غير مادي إما عقلي وإما روحي ووجداني ، وكان للأثرة والأنانية فيها نصيب ضئيل ، وكان نتيجة ذلك وجود روابط وأواصر لا يمكن تعليلها بالمادة وجر النفع إلى أصحابها ، وكانت هذه الروابط متغلغلة في الأحشاء ؛ فمن ذلك أن علاقة التلميذ بأستاذه وإخلاصه وحبه له في العهد السابق ، يزري بعلاقة الولد بوالده وحبه له في هذا العصر .
اشتهر نبأ وفاة الأستاذ الشهير العلامة نظام الدين اللكهنوي ( م 1161 هـ ) صاحب منهاج الدرس النظامي الجاري تطبيقه في الهند وخراسان ، فلما أتى النعي تلميذه السيد كمال الدين العظيما بادي ، مات من شدة الحزن ، وعمي تلمذه الآخر (( ظريف العظيما بادي )) من كثرة البكاء ، وتحقق بعد ذلك أن الإشاعة كانت غير صحيحة(252) ، ولعل ذهن هذا العصر لا يسيغ هذه الرواية ، ولكن الذي عرف طبيعة الشرق ، ومدى اتصال التلميذ هنالك بأستاذه وحبه له لم يستغرب هذه الرواية ولم يكذبها .
يعلم المطلع على تاريخ الأخلاق وفلسفتها أنه قد ظهرت مدرسة في أوربا قبل المسيح بأربعة قرون ، وكان لها أنصار من كبار الفلاسفة والأخلاقيين إلى القرن التاسع عشر المسيحي ، تدين باللذة البدنية وتعتقد أنها ميزان للأخلاق ومعيار الأعمال ، وتشير على أتباعها بأن يهتبلوا فرص التمتع بالحياة الدنيا ويغتنموا فلتات الدهر .
وافترق أصحاب هذه المدرسة فرقتين ؛ فمنهم ؛( أولو الأثرة ) الذين يقولون : ينبغي أن لا يحول بين الإنسان وشهواته حائل حتى لا يدع حاجة في نفسه إلا قضاها ، فينال بذلك النصيب الأكبر من اللذة والهناءة وقالوا : السعادة هي إرضاء الشهوة وقضاء مآرب النفس واقتطاف قطوف المسرة واللذة باليدين .
والفرقة الثانية هم ( النفعيون ) ويرى أهل هذا المذهب أن الواجب هو تحصيل المنفعة التي ينال بها أكبر عدد من أفراد البشر أوفر قسط من اللذة والهناء ، ولا وزن للأفعال الخلقية في نظرهم إلا بما تأتي به المسرة لغالب بني النوع ، ويرى هؤلاء أن السعادة هي أن تتوافر للناس بأعمالهم اللذات وتبعد عنهم الآلام .
ويرى القارئ ويلمس الروح المادي المتعشق للذة والهناء في آراء هذا المذهب ونزعاته من أحطها وأكثرها إسفافاً إلى أرقاها وأكثرها تحليقاً ، وهذا يختلف عن طبائع الشرق وشرائع السماء اختلافاً بيناً . وقد أثرت هذه النزعة المادية في فلسفة الغرب وأخلاقه وأدابه وحضارته تأثيراً عميقاً ، ولا تزال مهيمنة على الحياة الغربية وآدابها حتى اليوم .
ثم نزعوا دائماً في تشخيص المنفعة ووزنها إلى المادية لأنهم احتكموا فيها إلى أذهانهم وعقولهم ، وقد أصبحت مادية بحتة ، لأنها بحقيقة لا تأتي تحت الحس أو المساحة أو العد أو الوزن، ولا تؤمن بمنفعة لا تجلب لذة وهناء، حتى مؤسس هذا المذهب ((أبيقور م 271ق.م)) صرح بأن مناط الحكم على الأعمال هي المنفعة ، وأن المنفعة لا قيمة لها إلا إذا اجتلبت لذة واغتباطاً ، فكيف وقد تدرجت العقول والطبائع الغربية ومردت على النزوع المادي على تعاقب الأجيال والعصور ؟! .
فكان نتيجة ذلك أن الذهن الغربي والمنطق العصري أصبحا عاجزين عن الاهتداء إلى منفعة غير محسوسة لا تجلب لذة واغتباطاً ، وأصبح العقل الأوربي محامياً عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية ، وبحسب ما يكتسب المجتمع بواسطتها من اللذة والهناء ، والأفراد من الاغتباط والرخاء ، فأصبح الربح المادي هو الميزان للأخلاق والفارق بين الشر والخير ، وأصبحت الأخلاق التي لا وزن لها في ميزان المادة ، ليس لها قيمة إلا القيمة الدينية أو الخلقية في المصطلح القديم ينتقص كل يوم سلطانها على القلوب والعقول ، وتعدم أنصاراً وتصبح من شعائر القديم وذكريات العهد الماضي كحنان الأبوين وحبهما للأولاد ، ووفاء الأزواج وحفظهن للغيب ، وتحل محل هذه الأخلاق المقدرة الصناعية والاختراع والإنتاج والوطنية والجنسية ولا تزال ترتفع قيمتها ويرجع وزنها .
ولا يزال المجتمع العصري يستغني عن الروابط المنزلية والأرحام الدموية والشرائع الخلقية بتنظيمات اجتماعية شعبية على الخطوط السياسية والصناعية والاقتصادية . ولا يهم المجتمع الآن كيف يعامل الولد والده أو الزوجة زوجها إذا كان هؤلاء الأفراد لا يزالون في الدائرة المدنية التي اختطها المجتمع حول أفراده ؛ وما دام لا يحدث عملهم هذا اضطراباً في المجتمع وثورة على النظام ولا يعرقل سير المدينة فلا بأس إذا كان هنالك عقوق من ولد أو فرك من قرينة أو جفاء من زوج أو دعارة من امرأة أو فسق من رجل أو خيانة من زوجة .
******************************
الباب الخامس
قيادة الإسلام للعالم
الفصل الأول
نهضة العالم الإسلامي
اتجاه العالم بأسره إلى الجاهلية :
لأسباب تاريخية عقلية ، طبيعية قاسرة ، ذكرناها في البحوث السابقة ، تحولت أوربا النصرانية جاهلية مادية ، تجردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية ، وفضائل خلقية ، ومبادئ إنسانية ، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية ، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة ، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة ، وثارت على الطبيعة الإنسانية ، والمبادئ الخلقية ، وشغلت بالآلات ، واستهانت بالغايات ، ونسيت مقصد الحياة ، وبجهادها المتواصل في سبيل الحياة وبسعيها الدائب في الاكتشاف والاختبار مع استهانتها المستمرة بالتربية الخلقية وتغذية الروح وجحود بما جاءت به الرسل ، وبإمعانها في المادية ، وبقوتها الهائلة مع فقدان الوازع الديني ، والحاجز الخلقي ، أصبحت فيلاً هائجاً ، يدوس الضعيف ، ويهلك الحرث والنسل ، وبانسحاب المسلمين من ميدان الحياة وتنازلهم عن قيادة العالم وإمامة الأمة ، وبتفريطهم في الدين والدنيا ، وجنايتهم على أنفسهم وعلى بني نوعهم ، أخذت أوربا بناصية الأمم ، وخلفتهم في قيادة العالم ، وتسيير سفينة الحياة والمدنية التي اعتزل ربَّانُها ، وبذلك أصبح العالم كله – بأممه وشعوبه ومدنياته – قطاراً سريعاً تسير به قاطرة الجاهلية والمادية إلى غايتها ، وأصبح المسلمون – كغيرهم من الأمم – ركاباً لا يملكون من أمرهم شيئاً ، وكلما تقدمت أوربا في القوة والسرعة ، وكلما ازدادت وسائلها ووسائطها ، ازداد هذا القطار البشري سرعة إلى الغاية الجاهلية حيث النار والدمار والاضطراب والتناحر والفوضى الاجتماعي والانحطاط الخلقي والقلق الاقتصادي والإفلاس الروحي ، وها هي أوربا تستبطئ الآن أسرع قطار ، وتريد أن تصل إلى غايتها بسرعة الطائرة بل بسرعة القوة الذرية .

استيلاء الفلسفة الأوربية على العالم :
وليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها وتزاحمها في سيرها وتعارضها في وجهتها وتناقشها في مبادئها وفلسفتها الجاهلية ، ونظام حياتها المادي لا في أوربا ولا في أمريكا ، ولا في أفريقية وآسيا ، والذي نرى ونسمع من خلاف سياسي ونزاع بين الأمم فإنما هو تنافس في القيادة ، وتنازع فيمن يكون هو القائد إلى هذه الغاية المشتركة ، فدل المحور إنما كانت تكره أن يبقى الحلفاء مستبدين بالقيادة العالمية منذ زمن طويل ، مستأثرين بموارد الأرض وخيرتها وأسواقها ومستعمراتها ، وبشرف السيادة على العالم وحدهم مع أنها لا تقل عنهم في القوة والعلم والنظام والنبوغ والذكاء ، بل ربما تفوقهم ، أما إنها كانت تريد أن تسير إلى غاية أخرى وأن تقوم بدعوة المسيح ، وتقيم في الأرض القسط ، وأن تقود الأمم الدين والتقوى وتنصرف بها وتتجه من المادية إلى الروحانية والأخلاق ، فهيهات هيهات .
أما روسيا الشيوعية فليست إلا ثمرة الحضارة الغربية ، قد أينعت وادركت . ولا تمتاز عن الشعوب والدول الأوربية إلا أن روسية قد خلعت جلباب النفاق والزور ونفذت ما تزوره وتبطنه الأمم الغربية منذ زمن طويل ، وتعتقده منذ قرون في الأخلاق والاجتماع ، وقد استبطأت روسية سير هاتيك الأمم والدول في سبيل الإلحاد واللادينية والإباحية والمادية البهيمية فهي تريد أن تتولى قيادة العالم، وتسير بالأمم الإنسانية سيراً حثيثاً إلى ما وصلت إليه.

الشعوب والدول الآسيوية :
أما الشعوب والدول الآسيوية والأمم الشقية فهي في طريقها إلى الغاية التي وصلت إليها شعوب أوربا في الحضارة والسياسة ، وتدين بما تدين به هذه الشعوب في الأخلاق والآداب والاجتماع وتعتقد ما تعتقده عن الحياة والكون ، وتتحلى به من سيرة وخلق وتهذيب ، إلا أنها لا ترضى أن يتولى أمرها النزلاء الأجانب ويقيموا عليها الحجر كما يقام على السفيه ، وأن تكون للأوربيين عليها دول وإمبراطوريات ينعمون في ظلها ويرتعون في جنباتها ، ولا يكون لها مثلها في الشرق وأفريقية وآسية ، ولا تستمتع حتى في داخل بلادها بما استمتع به الأوربيين ماديتهم وتنقم منهم أخلاقهم وسيرتهم وتنعى عليهم فلسفتهم ومبادئهم فلعل ذلك لا يخطر منها على بال ، بل قد زين لها كل ما تتصف به الأمم الأوربية فحلا في عينها .
وكلما سنحت لهذه الأمم فرصة الاستقلال وملكت زمام أمورها تجلت أخلاقها ومبادئها وظهرت سيرتها الجاهلية في صورتها الطبيعية الحقيقية ، فإذا هي أفضع صورة وأبشعها في التاريخ ، قساوة قلب وضراوة بالدم الإنساني وهتكاً للأعراض ونهباً للأموال وقتلاً وتدميراً ، وقد ظهرت من بعض هذه الشعوب الآسيوية على أثر استقلالها من الحكم الأجنبي فظائع ومنكرات تستبشعها الوحوش والسباع وتستك منها الأسماع ، فقد عاملت بعض الشعوب المواطنة بعصبية دينية وسياسية ، معاملة عز نظيرها في التاريخ ، رضعاء يقتلون ويُقطعون إرباً إرباً ، ونساء تهتك أعراضهن ثم يقتلن من غير رحمة ولا حياء ، وآبار تسمم وبيوت تهدم ونيران تشعل وقنابل تقذف ، وإذا دخلوا قرية فاتحين منتشرين أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ووضعوا فيها السيف ، وعاث الوحوش في الدماء والأعراض حتى أقفرت القرى ، وامتلأت الآبار بالسيدات اللاتي آثرن الموت على هتك الأعراض ، هذا عدا نساء قتلن بهمجية وطرق فظيعة لم تسبق في التاريخ ، إلى غير ذلك من الأفاعيل التي يشك فيها الناس في البلاد الإسلامية والمتحضرة .
هذا غير ذلك الاضطهاد الديني والمقاطعة الاجتماعية التي تلقاها تلك الطوائف في بلادها ، وما تلقى ثقافتها وديانتها من مطاردة ومهاجمة من تلقاء هذه الشعوب فتحرم الحرية الثقافية واللسانية وترغم على لغة مصطنعة دائرة ، ويحاول الأقوياء أن يمحوا كل أثر من آثار حضارتها وثقافتها ويختلقوا عليها الأكاذيب والجنايات ، ويمثلوا قصة الحمل والذئب كل يوم ، فيعزل رجالها من الوظائف وتسد في وجوههم أبواب المعاش والتجارة والحرف ، وتقفل دكاكينهم ومحالهم التجارة وتصادر أملاكهم وأموالهم بعلل واهية مضحكة .
ثم إن هذه الأمم أفلست إفلاساً شائناً في الدين والأخلاق ، وقد أشربت في قلوبها حب المال والمادة ، وتسلط عليها شيطان الأثرة والجشع حتى ضجت منها الحكومات وتعبت ، فقد ارتفعت الأسعار ارتفاعاً فاحشاً ، فلما التجأت الحكومة إلى التسعير اختفت السلع والأموال ، وأصبح الناس لا يجدون كسوة ولا طعاماً ولا حاجة إلا بالسعر الذي يريده التاجر ، فنفقت السوق السوداء وشاعت الجنايات والخيانات والارتشاء والتهريب ، وأصبحت الحكومة والتجار كفرسي رهان أو قرني ميدان ، كل يريد أن يغلب صاحبه وينتهز غرته ، وأصبح الناس حبة بين حجري الرحى لا يدرون كيف يفعلون .
وقد حاول رجال الإصلاح والديانة أن ينفخوا في هذه الأمم حياة جديدة ويبنوا فيها روح الأخلاق والفضيلة والأمانة والاقتصاد فأخفقوا إخفاقاً تاماً ، وعملوا أن خلق أمة بأسرها أهون من إصلاح هذه الأمم وتهذيبها وقد انقطعت مادتها وانقضى أجلها .
وهكذا أصبح العالم شرقاً وغرباً في أزمة روحية وخلقية واجتماعية واقتصادية تطلب حلاً سريعاً عاجلاً .

الحل الوحيد للأزمة العالمية :
والحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة .
إن تحول القيادة من بريطانيا إلى أمريكا ومنهما جميعاً إلى روسيا لا يغني غناء ولا يغير من الموقف شيئاً ، فإن هذا التحول ليس إلا نقا المجداف من الموقف شيئاً ، فإن هذا التحول ليس إلا نقل المجداف من اليمين إلى الشمال إذا تعبت الأولى أو بالعكس ، فما دام المجداف واحداً فلا فرق بين يمينه وشماله ، وليست بريطانيا وأمريكا وروسيا إلا أيدي رجل واحد تتداول دفة الحياة ، وتتناوب تجديف السفينة على خط واحد إلى جهة واحدة .
إن التحول المؤثر الواضح هو تحول القيادة من أوربا – بالمعنى الواسع الذي يشمل بريطانيا وأمريكا وروسيا ومن كان على شاكلتها من الأمم الآسيوية والشرقية – التي تقودها المادية والجاهلية ، إلى العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا صلى الله عليه وسلم برسالته الخالدة ودينه الحكيم .
هذا هو التحول الذي يغير وجه التاريخ ويحول مجرى الأمور وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي ترقبه .
إن حقاً على العالم الإسلامي أن يُمني نفسه بهذا المنصب الخطير ، ويطمح إليه ، وإن حقاً على كل بلد إسلامي وشعب إسلامي أن يشد حيازيمه لذلك ، وإن حقاً على كل مسلم أن يجاهد في سبيله ويبذل ما في وسعه ، فهذه هي المهمة الشريفة التي نيطت بالأمة الإسلامية يوم برزت إلى عالم الوجود ، ويوم طهرت نواتها في جزيرة العرب .

العالم الإسلامي على أثر أوربا :
من الغريب الواقع أن المسلمين قد أصبحوا في الزمن الأخير في كثير من نواحي الأرض حتى في مراكز الإسلام وعواصمه حلفاء للجاهلية الأوربية وجنوداً متطوعين لها ، بل صار بعض الشعوب والدول الإسلامية يرى في الشعوب الأوربية التي تزعمت حركة الجاهلية منذ قرون ونفخت فيها روحاً جديدة ، وركزت أعلامها على الشرق والغرب ، ناصراً للمسلمين ، حامياً لذمار الإسلام المستضعف ، حاملاً لراية العدل في العالم قوَّاماً بالقسط .
ورضي عامة المسلمين بأن يكونوا ساقة عسكر الجاهلية بدل أن يكونوا قادة الجيش الإسلامي ، وسرت فيهم الأخلاق الجاهلية ومبادئ الفلسفة الأوربية سريان الماء في عروق الشجر والكهرباء في الأسلاك ، فترى المادية الغربية في البلاد الإسلامية في كثير من مظاهرها وآثارها ، ترى تهافتاً على الشهوات ونهماً للحياة ، نهم من لا يؤمن بالآخرة ، ولا يوقن بحياة بعد هذه الحياة ، ولا يدخر من طيباتها شيئاً . وترى تنافساً في أسباب الجاه والفخار وتكالباً عليها فعل من يغلو في تقويم هذه الحياة وأسبابها ، وترى إيثاراً للمصالح والمنافع الشخصية على المبادئ والأخلاق ، شأن من لا يؤمن بني ولا بكتاب ، ولا يرجو معاداً ، ولا يخشى حساباً ، وترى حباً للحياة وكراهة للموت ، دأب من يعد الحياة الدنيا رأس بضاعته ، ومنتهى أمله ومبلغ علمه ، وترى افتتاناً بالزخارف والمظاهر الجوفاء كالأمم المادية التي ليس عندها أخلاق ولا حقيقة حية ، وترى خضوعاً للإنسان ، واستكانة للملوك والأمراء ورجال الحكومة والمناصب وتقديسهم شأن الأمم الوثنية وَعَبَدَةِ الأصنام .

المسلمون على علاتهم موئل الإنسانية وأمة المستقبل :
ولكن برغم كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف فإنهم هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض ، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم ، ومزاحمتها في وضع العالم ، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها ، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى ، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة ، والتي يحرّم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية .
هذه هي الأمة التي يكن أن تعود في حين من الأحيان خطراً على النظام الجاهلي الذي بسطته أوروبا في الشرق والغرب وأن تحبط مساعيها .
وقد وصف هذا الخطر شاعر الإسلام الحكيم (( محمد إقبال )) في قصيدته البديعة : ( برلمان إبليس ) على لسان إبليس ، ذكر فيها أن الشيطان وزملاء إبليس وأعوانه اجتمعوا في مجلس شورى ، وتباحثوا في سير العالم وأخطار الغد وفتنة ، وما يتوجسون من خيفة على نظامهم الإبليسي ومهمتهم الشيطانية ، فتذكروا في فتن وأخطار قد أحدقت بهم وهددت نظامهم ، وجللوا خطبها وتناذروا شرها ، فذكروا أحدهم الجمهورية وحسب لها حساباً كبيراً ، فقال الثاني : لا يهولنك أمرها فإنها ليست إلا غطاء للملوكية ، ونحن الذين كسونا الملوكية اللباس الجمهوري ، إذا رأينا الإنسان بدأ يتنبه ويفيق ويشعر بكرامته ، وخفنا ثورة على نظامنا قد لا تحمد عاقبتها ، فألهيناه بلعبة الجمهورية ، وليس الشأن في الأمير والملك . إن الملوكية لا تنحصر في وجود شخص ترتكز فيه الملوكية وفرد يستبد بالسلطان ، إنما الملوكية أن يعيش الإنسان عيالاً على غيره مستشرفاً إلى متاع غيره ، سواء في ذلك الشعب والفرد . أما رأيت نظام الغرب الجمهوري وجه مشرق وضاح وباطنه أظلم من باطن جنكيز خان ؟ .
فقال الآخر : لا بأس إذا بقيت روح الملوكية ، ولكن ماذا يقول النائب المحترم في هذه الفتنة الدهماء التي أثارها هذا اليهودي الذي يدعى كارل ماركس ذلك الباقعة الذي ليس نبياً ولكنه يحمل عند أتباعه كتاباً مقدساً ، هل عندك نبأ أنه أقام العالم وأقعده ، وأثار العبيد على السادة حتى تزعزعت مباني الإمارة والسيادة ؟ .
فقال الآخر مخاطباً رئيس المجلس : يا صاحب الفخامة ، إن سحرة أوربا وإن كانوا مريديك المخلصين ولكني لم أعد أثق بفراستهم ، ها هو السامري اليهودي الذي هو نسخة من مزدك ( الزعيم الفارسي الاشتراكي ) قد كاد يأتي على العالم بقواعده فاستنسر البغاث ، وأصبح الصعاليك يزحمون الملوك بالمناكب ويدفعونهم بالراح ( أعلام أرض جعلت بطائحاً ) إنا قد استهنا بخطب هذه الحركة الاشتراكية وها هي قد استفحلت نفاقم شرها ، وها هي الأرض ترجف بهول فتنة الغد ، سيدي إن العالم الذي كنت تحكمه سينقض عليك ، إذا ينقلب النظام العالم ظهراً لبطن .
فتكلم رئيس المجلس ( أبليس ) وقال : إني أملك زمام العالم وأتصرف به كيف أشاء ، وسيرى العالم عجباً إذا حرشت بين الأمم الأوربية فتهارشت تهارش الكلاب ، وافترس بعضها بعضاً فعل الذئاب ، وإذا همست في آذان القادة السياسيين وأساقف الكنائس الروحانيين فقدوا رشدهم وجن جنونهم .
أما ما ذكرتم عن الاشتراكية فكونوا على ثقة أن الخرق الذي أحدثته الفطر بين الإنسان و الإنسان لايرفؤه المنطق المزدكي (الفلسفة الاشتراكية ) لا يخوفني هؤلاء الاشتراكيون الطرداء والصعاليك السفهاء .
إن كنت خائفاً فإني أخاف أمة لا تزال شرارة الحياة والطموح كامنة في رمادها ,ولا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع وتسيل دموعهم على خدودهم سحراً ، لا يخفى على الخبير المتفرس أن الإسلام هو فتنة الغد وداهية المستقبل ، ليست الاشتراكية .
أنا لا أجهل أن هذه الأمة قد اتخذت القرآن مهجوراً ، وأنها فتنت بالمال وشغفت بجمعه وادخاره كغيرها من الأمم ، أنا خبير أن ليل الشرق داج مكفهر ، وأن علماء الإسلام وشيوخه ليست عندهم تلك اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات ويضيء لها العالم ، ولكن أخاف أن قوارع هذا العصر وهزته ستقض مضجعها وتوقظ هذه الأمة وتوجهه إلى شريعة ( محمد صلى الله عليه وسلم ) أنى أحذركم وأنذركم من دين ( محمد صلى الله عليه وسلم ) حامي الذمار ، حارس الذمم والأعراض ، دين الكرامة والشرف ، دين الأمانة والعفاف ، دين المروءة والبطولة ، دين الكفاح والجهاد ، يلغي كل نوع من أنواع الرق ، ويمحو كل أثر من آثار استعباد الإنسان ، لا يفرق بين مالك ومملوك ، ولا يؤثر سلطاناً على صعلوك ، يزكي المال من كل دنس ورجس ويجعله نقياً صافياً ، ويجعل أصحاب الثروة والملاك متسخلفين في أموالهم(253) أمناء لله وكلاء على المال . وأي ثورة أعظم وأي انقلاب أشد خطراً مما أحدثه هذا الدين في عالم الفكر والعمل يوم صرخ أن الأرض لله لا للملوك والسلاطين .
فابذلوا جهدكم أن يظل هذا الدين متوارياً عن أعين الناس ، وليهنكم أن المسلم بنفسه هو ضعيف الثقة بربه قليل الإيمان بدينه ، فخير لنا أن يبقى مشتغلاً بمسائل علم الكلام والإلهيات وتأويل كتاب الله والآيات ، اضربوا على آذان المسلم فإنه يستطيع أن يكسر طلاسم العالم ويبطل سحرنا بأذانه وتكبيره ، واجتهدوا أن يطول ليله ويبطئ سحره ، اشتغلوا يا إخواني عن الجد والعمل حتى يخسر الرهان في العالم . خير لنا أن يبقى المسلم عبداً لغيره ، ويهجر هذا العالم ويعتزله ويتنازل عنه لغيره زاهداً فيه ، واستخفافاً لخطره ، يا ويلتنا ويا شقوتنا لو انتبهت هذه الأمة التي يعزم عليها دينها أن تراقب العالم وتعسّه .

رسالة العالم الإسلامي :
لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها ، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة ، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها .
وهي الرسالة نفسها التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى ، والتي لخصها أحد رسلهم في مجلس يزدجرد ملك إيران بقوله : (( الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف ، فهي منطبقة تمام الانطباق على القرن العشرين انطباقها على القرن السادس المسيحي ، كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية .
فلا يزال الناس اليوم عاكفين على أصنام لهم – من أوثان منحوتة ومنجورة ومقبورة ومنصوبة – ولا تزال عبادة الله وحده مغلوبة غريبة ، ولا تزال الفتنة قائمة على قدم وساق ، ولا يزال إله الهوى يعبد ، ولا يزال الأحبار والرهبان والملوك والسلاطين وأصحاب القوة والثروة والزعماء والأحزاب السياسية أرباباً من دون الله تقرب لها القرابين وينصب لها الجبين.
وكذلك العالم اليوم رغم اتساعه وتوفر وسائل السفر والانتقال من مكان إلى مكان ، واتصال الشعوب والأمم بعضها ببعض أضيق بأهله منه بالأمس ، قد ضيقته المادية التي لا تنظر إلا إلى قدمها ولا تؤمن إلا بفائدة صاحبها ، ولا تعرف غير العكوف على الشهوات وعبادة الذات ، وقد خنقته الأثرة التي لا تسمح لاثنين بالعيش في إقليم واسع ، والوطنية الضيقة التي تنظر إلى كل أجنبي شزراً وتجحد له كل فضل وتحرمه كل حق .
ثم ضيق خناق هذه الحياة المادية المسيطرون السياسيون الذين يحتكرون وسائل الحياة والرزق والقوت ، ويضيقون هذه الحياة لمن شاؤوا ويسعونها لمن شاؤوا ، ويبسطون الرزق – زعموا – لمن شاؤوا ويقدرونه لمن شاؤوا ، فأصبحت المدن الواسعة أضيق من جحر ضب ، وأصبح الناس في بلادهم في شبه حجر كحجر السفيه واليتيم وضاقت على الناس الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ، وأصبح الناس في أغلال وأصفاد من المدينة والمملكة مُهددين في كل وقت بمجاعات مصطنعة وحقيقية ، وحروب خارجية وداخلية ، وإضرابات واضطرابات أسبوعية ويومية .
نعم ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ! ولا تزال في هذا العصر المتنور الواعي المثقف أديان تعبث بعقول الناس وتسخرهم كالحمير والبقر ، وتزين لأتباعها قتل مئات من البشر لأجل بقرة ذبحت في عيد الأضحى ، أو شجرة مقدسة عُضدت في قرية من القرى .
وهنالك أديان بغير اسم الأديان لا تقل في نفوذها وسلطانها ولا تقل في جورها وعدوانها وعبثها بعقول أتباعها وفي عجائبها عن الأديان القديمة ، وهي والنظم السياسية والنظريات الاقتصادية التي يؤمن بها الناس كدين ورسالة ، كالجنسية والوطنية ، والديموقراطية والاشتراكية ، والدكتاتورية والشيوعية ، وهي أقل مسامحة لمن لا يدين بها وأشد قسوة على منافسيها ، وأضيق عطفاً من الأديان الجاهلية ، والاضطهاد السياسي اليوم أفضع من الاضطهاد الديني في القرون المظلمة ، فإذا تغلب حزب من الأحزاب الوطنية أو ساد مبدأ من المبادئ السياسية . أو انتصر فريق على فريق في الانتخاب ، سد في وجه منافسه الأبواب وعذبه أشد العذاب ، وما حرب أسبانيا الأهلية التي دامت مدة طويلة ، وسفكت فيها دماء غزيرة ، وما حرب الصين التي قامت بين الجمهوريين والشيوعيين من أهل الصين ، وحرب ((كوريا)) التي قامت بين الجنوبيين والشماليين ، إلا نتيجة اختلاف في العقيدة السياسية والنظريات الاقتصادية .
فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر ، وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده ، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر ، فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوآتها للناس واشتد تذمر الناس منها ، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام ، لو نهض العالم الإسلام ، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة ، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من الانهيار والانحلال .

الاستعداد الروحي :
ولكن العالم الإسلامي لا يؤدي رسالته بالمظاهر المدينة التي جادت بها أوربا على العالم ، وبحذق لغاتها وتقليد أساليب الحياة التي ليست من نهضة الأمم في شيء ، إنما يؤدي رسالته بالروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم إفلاساً فيها ، وينتصر بالإيمان والاستهانة بالحياة والعزوف عن الشهوات ، والشوق إلى الشهادة والحنين إلى الجنة ، والزهد في حطام الدنيا وتحمل الأذى في ذات الله صابراً محتسباً قال الله تعالى : {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } فقوة المؤمن وسر انتصاره في إيمانه بالآخرة ورجائه لثواب الله ، فإذا كان العالم الإسلامي لا يرمي إلا إلى ما تراه أوربا من العرض القريب ، ولا يطمح إلا فيما تطمح فيه أوربا من حطام الدنيا ، ولا يؤمن إلا بما تؤمن به أوربا من المحسوسات والماديات ، كانت أوربا بقوتها المادية أحق بالانتصار والسيادة من العالم الإسلامي الذي يتخلف عنها في القوة المادية تخلفاً شائناً ولا يفوقها في القوة المعنوية .
لقد أتى على العالم الإسلامي حين من الدهر وهو مستخف بهذه القوة المعنوية لا يحتفل بها ، ولا يحتفظ بالبقية منها ، ولا يغذيها ، حتى نضب معينها في قلبه ، فلما خاض العالم الإسلامي في المعارك التي تحتاج إلى الإيمان ، والصبر والثبات ، وتحمل الشدائد والنكبات ، وزلزل بعض الزلزل ، ولجأ إلى القوة المعنوية الكامنة في نفوس المسلمين ، كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، هنالك عرف أنه قد جنى على نفسه جناية عظيمة بإهمال هذه القوة الروحية وتضييعها ، وبحث في جعبته فلم يجد شيئاً يسد مكانها ويغني غناءها .
وخاض العالم الإسلام في معارك حاسة ، وهو يرى أن المسلمين تقوم قيامتهم ، وسوف يهرعون للدفاع عن الإسلام وحماية بلادهم المقدسة ، ويغضبون لله ورسوله وحُرماته ، وإن الأقطار الإسلامية تشتعل ناراً وتتوقد حمية وحماسة ، فإذا الحادث لم يؤثر في العالم الإسلامي التأثير المنتظر ، وإذا النظر ضئيل والسخط خافت ، وإذا العالم الإسلامي كعادته – في غدواته وروحاته – منهمك في لذاته وشهواته ، كأن لم يحدث كبير شيء ، فعرف أن الحملة الدينية قد ضعفت في العالم الإسلامي ، وأن شعلة الجهاد قد انطفأت أو كادت ، وهنالك عرف الناس ضعف العالم الإسلامي وخذلانه وهوأنه على أنفسهم .
فالمهم الأهم لقادة العالم الإسلامي ، وجمعياته وهيئاته الدينية وللدول الإسلامية غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية ، ونشر الدعوة إلى الله ورسوله ، والإيمان بالآخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأولى ، لا تدخر في ذلك وسعاً ، وتستخدم لذلك جميع الوسائل القديمة والحديثة . وطرق النشر والتعليم ، كتجوال الدعاة في القرى والمدن . وتنظيم الخطب والدروس ، ونشر الكتب والمقالات ، ومدارسة كتب السيرة ، وأخبار الصحابة ، وكتب المغازي والفتوح الإسلامية ، وأخبار أبطال الإسلام وشهدائه ، ومذاكرة أبواب الجهاد ، وفضائل الشهداء ، وتستخدم لذلك الراديو والصحافة وكتب الأدب ، وجميع القوى والوسائل العصرية .
والقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان ، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي ، وتجعلا من أمة مستسلمة ، منخذلة ناعسة ، أمة فتية متلهبة حماسة وغيرة وحنقاً على الجاهلية وسخطاً على النظم الجائرة .
أن علة العالم الإسلامي هو الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها ، والارتياح إلى الأوضاع الفاسدة والهدوء الزائد في الحياة ، فلا يقلقه فساد ، ولا يزعجه انحراف ، ولا يهيجه منكر ، ولا يهمه غير مسائل الطعام واللباس ، ولكن بتأثير القرآن والسيرة النبوية – إن وجدا إلى القلب سبيلا – يحدث صراع بين الإيمان والنفاق ، واليقين والشك ، بين المنافع العاجلة والدار الآخرة ، وبين راحة الجسم ونعيم القلب ، وبين حياة البطالة وموت الشهادة ، وصراع أحدثه كلا نبي في وقته ، ولا يصلح العالم به ؛ حينئذ يقوم في كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي ، بل في كل أسرة إسلامية في كل بلد إسلامي {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى{13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }
هنالك تتجدد ذكرى بلال ، وعمار ، وخباب ، وحبيب ، وخُبيب ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن مظعون ، وأنس بن النضر ، هنالك تفوح روائح الجنة ، وتهب نفحات القرن الأول ، ويولد للإسلام عالم جديد لا يشبه العالم القديم في شيء ...

الاستعداد الصناعي والحربي :
ولكن مهمة العالم الإسلامي لا تنتهي هنا ، فإذا أراد أن يضطلع برسالة الإسلام ويملك قيادة العالم فعليه بالمقدرة الفائقة ، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب ، وأن يستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة ، وفي كل حاجة من الحاجات ، يقوت ويكسو نفسه ، ويصنع سلاحه ، وينظم شؤون حياته ، ويستخرج كنوز أرضه وينتفع بها ، ويدير حكوماته برجاله وماله ، ويمخر بحار المحيط به بسفنه وأساطيله ، ويحارب العدو ببوارجه ودباباته وأسلحة بلاده ، وتزيد صادراته على وارداته ، ولا يحتاج إلى الاستدانة من الغرب ، ولا يضطر إلى أن يلجأ إلى راية من راياته وينظم إلى معسكر من معسكراته .
أما ما دام العالم الإسلامي خاضعاً للغرب في العلم والسياسة والصناعة والتجارة ، يمتص الغرب دمه ، ويحفر أرضه فيستخرج منها ماء الحياة ، وتغزو بضائعه أسواق العالم الإسلامي وبيوته وجيوبه كل يوم فتستخرج منها كل شيء ، وما دام العالم الإسلامي يستدين من الغرب الأموال ، ويستعير منه الرجال ، ليديروا حكومته ، ويشغلوا الوظائف الخطيرة ويدربوا جيوشه ويستورد منه البضائع ويجلب منه الصنائع ، وينظر إليه كأستاذ ومرب ، وسيد ورب ، لا يبرم أمراً إلا بإذنه ولا يصدر إلا عن رأيه ، فلا يستطيع أبداً أن يواجه الغرب فضلاً عن أن يناهضه ويغالبه .
هذه هي الناحية العلمية والصناعية التي أخل بها العالم الإسلامي في الماضي فعوقب بالعبودية الطويلة والحياة الذليلة ، وابتلي العالم الإسلامي بالسيادة الأوربية الجائرة التي ساقت العالم إلى النار والدمار والتناحر والانتحار ، فإن فرط العالم الإسلامي مرة ثانية في الاستعداد العلمي والصناعي والاستقلال في شئون حياته كتب الشقاء للعالم وطالت محنة الإنسانية وبلاؤها .

تبوء الزعامة في العالم والتحقيق :
وقد تنازل العالم الإسلامي – بما فيه العالم العربي – منذ زمن طويل عن مكانته في القيادة العلمية والتوجيه ، والاستقلال الفكري ، وأصبح عيالاً على الغرب متطفلاً على مائدته حتى في اللغة العربية وآداب اللغة وعلومها ، وحتى في علوم الدين كالتفسير والحديث والفقه . وأصبح المستشرقون هم المرشدين الموجّهِين في البحث والتحقيق ، والدراسة والتأليف ، وهم المنتهى والمرجع والحجة في الأحكام والآراء الإسلامية والنظريات العلمية والتاريخية ، وهم الأسوة في النقض والإبرام . وعدد كبير منهم قسوس وإرساليون ويهود ومسيحيون متعصبون ، يضمرون للإسلام وصاحب رسالته – صلى الله عليه وسلم – العداء والبغضاء ، وللحضارة الإسلامية السخرية والاستهزاء ، ويخونون في النصوص والنقول ، ويحرّفون الكلم عن مواضعه . ومنهم عدد لم يتقن اللغة العربية ولم يبرع فيها ، وهم يخطئون في فهم النصوص وترجمتها أخطاء فاحشة ، وقد تغلغلت أفكارهم ودعاياتهم في الأوساط العلمية الحديثة في العالم الإسلامي وتجلت بصورة واضحة في الدعوة إلى فضل الدين عن السياسة ، وأن الدين قضية شخصية لا شأن له بالمجتمع ، وفي الدعوة إلى تغيير مفهوم الدين وأحكام الشريعة الإسلامية على أساس الحضارة الغربية وفلسفتها .. إلى غير ذلك من الأفكار التي يدعو إليها تلاميذ المستشرقين والخاضعون لهم في الشرق الإسلامي .
وقد عجز كتاب الشرق المسلمون والمفكرون الشرقيون عن مواجهة الحضارة الغربية وجهاً لوجه ونقد أسسها وقيمها نقداً حُرّاً جريئاً فيه الابتكار ، وفيه الاستقلال ، وقد بلغ بعضهم من ضعف التفكير ، والإغراق في التقليد منزلة رأى فيها أن الحضارة الغربية هي آخر ما وصل إليه العقل البشري وأنه لا منزلة وراءها ، ومنهم من دعا إلى تطبيق الحضارة الغربية برُمتها ، وعلى علاتها في الشرق ، ودعا بعض الأقطار الإسلامية وإذابتها فيها واختيار الثقافة اليونانية التي هي أصل الثقافات الأوربية .
وندر في هذه الطبقة وجود (( عملاق )) يكفر بالحضارة الغربية وفلسفة حياتها وقيمها ويشرّح الحضارة الغربية وأُسسها التي قامت عليها في ثقة واعتداد وعلم وبصيرة ، ونستثني من هذه الكلية بعض الأفراد الأفذاذ كالعلامة (( محمد إقبال )) من المسلمين القدامى ، والأستاذ (( محمد أسد )) من الأوربيين المهتدين بالإسلام .
ولابد – إذا أراد العالم الإسلامي أن يقوم على قدميه ويفكر بعقله – أن يقاوم هذا الخضوع ويكون فيه علماء عماليق وكتاب جهابذة يتناولون الحضارة الغربية بالنقد والتشريح ، وكتابات المستشرقين وآرائهم بالجرح والتعديل . ويتبحرون في العلوم الإسلامية ويتعمقون فيها حتى يفيد منهم كبار المستشرقين في أوربا وأمريكا ويصححون بهم آراءهم وأخطاءهم ، ويتوجه رواد العلم والتحقيق والدراسات العالية إلى عواصم العالم العربي وحواضر العالم الإسلامي ، كما اعتادوا أن يتوجهوا إلى عواصم أوربا وأمريكا . فهذه المدن الإسلامية أولى بأن تكون مركزاً للثقافة الإسلامية والعلوم الدينية وآداب اللغة العربية من العواصم الأوربية وجامعات أوربا ، ومن سقوط الهمة والقناعة بالدون أن تتخلى هذه العواصم العريقة في العلم والدين عن زعامتها العلمية ومكانتها الرئيسية .

التنظيم العلمي الجديد :
ولابد للعالم الإسلامي من تنظيم العلم الجديد بما يوافق روحه ورسالته . وقد ساد العالم الإسلامي على العالم القديم بزعامته العلمية ، فتسرب بذلك في عقلية العالم وثقافته ، وتغلغل في أحشاء الأدب والفلسفة ، وظل العالم المتمدن قروناً يفكر بعقله ويكتب بقلمه ويؤلف بلغته ، فكان المؤلفون في إيران وتركستان وأفغانستان والهند لا يؤلفون كتاباً له شأن إلا باللغة العربية ، وكان بعضهم يؤلف الأصل بالعربية ويلخصه بالفارسية كما فعل الغزالي في : (( كيمياء السعادة )) .
وإن كانت هذه الحركة العلمية التي ظهرت في صدر الدولة العباسية متأثرة باليونان والعجم ، وغير مؤسسة على الفكرة الإسلامي النقي والروح الإسلامي ؛ وإن كانت فيها مواضع ضعف من الناحية العلمية والدينية ، ولكنها سادت على العالم بقوتها ونشاطها ، واضمحلت أمامها النظم العلمية القديمة .
وجاءت نهضة فنسخت هذا النظام القديم باختباراتها ونقدها العلمي ، ووضعت منهاجاً جديداً للعلم والدراسة كان نسخة صادقة لروحها وعقليتها ونفسيتها المادية ، فلا يخرج منه الطالب إلا وهو متشبع بهذه الروح ، وخضع العالم مرة ثانية لهذا النظام التعليمي ، وخضع له العالم الإسلامي بطبيعة الحال – إذا كان مصاباً بالانحطاط العلمي والشلل الفكري من زمان ، وكان لا يجد المدد والغوث إلا في أوربا – فقبل هذا النظام التعليمي على علاته ، فهو النظام السائد اليوم في أنحاء العالم الإسلامي .
وكانت نتيجة هذا النظام الطبيعية ، صراعاً بين النفسية الإسلامية – إن كانت لا تزال في الشباب لم تقتلها البيئة – وبين النفسية الجديدة ، وبين وجهة الأخلاق الإسلامية ووجهة الأخلاقية الأوربية ، وبين الميزان القديم والجديد للأشياء وقيمتها ، وكانت نتيجة هذا النظام حديث الشك والنفاق في الطبقة المثقفة ، وقلة الصبر ونهامة الحياة وترجيح العاجل على الآجل ، إلى غير ذلك مما هو من طبائع المدينة الأوربية .
فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ، ويتحرر من رق غيره وإذا كان يطمح إلى القيادة ، فلا بد إذن من الاستقلال التعليمي ، بل لابد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين ، إنها تحتاج إلى تفكير عميق ، وحركة التدوين والتأليف الواسعة ، وخبرة إلى درجة التحقيق والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح الإسلام والإيمان الراسخ بأصوله وتعاليمه ، إنها لمهمة تنوء بالعصبة أولي القوة ، إنما هي من شأن الحكومات الإسلامية ، فتنظم لذلك جمعيات ، وتختار لها أساتذة بارعين في كل فن فيضعون منهاجاً تعليمياً يجمع بين محكمات الكتاب والسنة وحقائق الدين التي لا تتبدل وبين العلوم العصرية النافعة والتجربة والاختبار ، ويدونون العلوم العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام وبروح الإسلام وفيها كل ما يحتاج إليه النشء الجديد ، مما ينظمون به حياتهم ويحافظون به على كيانهم ويستغنون به عن الغرب ويستعدون للحرب ، ويستخرجون به كنوز أرضهم وينتفعون بخيرات بلادهم ، وينظمون مالية البلاد الإسلامية ، ويديرون حكوماتها على تعاليم الإسلام بحيث يظهر فضل النظام الإسلامي في إدارة البلاد ، وتنظيم الشئون المالية على النظم الأوربية ، وتنحل مشاكل اقتصادية عجزت أوربا عن حلها .
بالاستعداد الروحي والاستعداد الصناعي والحربي والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي ، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده . فليست القيادة بالهزل ، إنما هي جد الجد ، فتحتاج إلى جد واجتهاد ، وكفاح وجهاد ، واستعداد أي استعداد :
كل امرئ يجري إلى *** يوم الهياج بما استعدا

الفصل الثاني
زعامة العالم العربي
أهمية العالم العربي :
إن العالم العربي له أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية وذلك لأنه وطن أمم لعبت أكبر دور في التاريخ الإنساني ، ولأنه يحتضن منابع الثروة والقوة الكبرى : الذهب الأسود الذي هو دم الجسم الصناعي والحربي اليوم ؛ ولأنه صلة بين أوربا وأمريكا ، وبين الشرق الأقصى ، ولأنه قلب العالم الإسلامي النابض يتجه إليه روحياً ودينياً ويدين بحبه وولائه ، ولأنه عسى – لاقدر الله – أن يكون ميدان الحرب الثالثة ، ولأن فيه الأيدي العاملة ، والعقول المفكرة ، والأجسام المقاتلة ، والأسواق التجارية ، والأراضي الزراعية ، ولأن فيها مصر ذات النيل السعيد بنتاجها ومحصولها وخصبها وثروتها ورقيها ومدنيتها ، وفيه سورية وفلسطين وجاراتها ، باعتدال مناخها وجمال إقليمها وأهميتها الاستراتيجية ، وبلاد الرافدين بشكيمة أهلها ومنابع فيها ، والجزيرة العربية بمركزها الروحي وسلطانها الديني ، واجتماع الحج السنوي الذي لا مثيل له في العالم وآبار البترول الغزيرة . كل ذلك قد جعل العالم العربي محصر أنظار الغربيين ، وملتقى مطامعهم وميدان تنافس لقيادتهم ، وكان رد فعله أن نشأ في العالم العربي شعور عميق بالقومية العربية ، وكثر التغني ((بالوطن العربي)) و ((المجد العربي)) .

محمد رسول الله روح العالم العربي :
ولكن المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي ،وبغير العين التي ينظر بها الوطني العربي ،إنه ينظر بها الوطني العربي ، إنه ينظر إليه كمعهد الإسلام ومشرق نوره ومعقل الإنسانية , وموضع القيادة العالمية , ويعقد أن سيدنا محمداً العربي هو روح العالم العربي وأساسه وعنوان مجده ؛ وأن العالم العربي – بما فيه من موارد الثروة والقوة و بما فيه من خيرات وحسنات – جسم بلا روح , وخط بلا وضوح إذا انفصل – لا سمح الله بذلك – عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع صلته عن تعاليمه ودينه ؛ وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أبرز العالم العربي للوجود , فقد كان هذا العالم وحدات مفككة , وقبائل متناحرة , وشعوباً مستعبدة ومواهب ضائعة , وبلادا ًتتسكع في الجهل والضلالات , فكان العرب لا يحلمون بمناجزة الدولة الرومية والفارسية ولا يخطر ذلك منهم على بال , ولا يصدقون بذلك إذا قيل لهم في حال من الأحوال , وكانت سورية التي تكون جزءاً مهماً من العالم العربي مستعمرة رومية تعاني الملكية المطلقة والحكم الجائز المستبد , لا تعرف معنى الحرية والعدل , وكان العراق مطية لشهوات الدولة الكيانية مثقلة بالضرائب المحفة والإتاوات الفادحة . وكانت مصر قد اتخذها الرومان ناقة حلوباً ركوبا ً , يجزون صوفها و يظلمونها في علفها , ثم إنها تعاني الاضطهاد الديني مع الاستبداد السياسي ، فما لبث هذا العالم المفكك المنحل ، المظلوم المضطهد ، أن هبت عليه نفحة من نفحات الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أدرك رسول الله من هذا العالم وهو ضائع هالك وأخذ بيبده وهو ساقط متهالك ، فأحياه بإذن الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس ، وعلمه الكتاب والحكمة وزكاه ؛ فكان هذا العالم بعد البعثة المحمدية سفير الإسلام ، ورسول الأمن والسلام ، ورائد العلم والحكمة ، ومشعل الثقافة والحضارة . كان غوثاً للأمم ، غيثاً للعالم ، هنالك كانت الشام وكان العراق ، وكانت مصر ، وكان العالم العربي الذي نتحدث عنه ، فلولا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولولا رسالته ، ولولا ملته ، لما كانت سورية ، ولا كان العراق ، ولا كانت مصر ، ولا كان العالم العربي ، بل ولا كانت الدنيا كما هي الآن حضارة وعقلاً ، وديانة وخلقاً ، فمن استغنى عن دين الإسلام من شعوب العالم العربي وحكوماته ، وولى وجهه شطر الغرب أو أيام العرب الأولى ، أو استلهم قوانين حياته أو سياسته من شرائع الغرب ودساتيره أو أسس حياته على العنصرية أو العروبة التي لا شأن لها بالإسلام , ولم يرض برسول الله قائداً ورائداً وإماماً وقدوة , فليرد على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نعمته ويرجع إلى جاهليته الأولى , حيث الحكم الروماني والإيراني , وحيث الجهل والضلالة , وحيث الغفلة والبطالة وحيث العزلة عن العالم , والخمول والجمود , فإن هذا التاريخ المجيد , وهذه الحضارة الزاهية , وهذا الأدب الزاخر , وهذه الدول العربية , ليست إلا حسنة من حسنات محمد عليه الصلاة والسلام .
الإيمان هو قوة العالم العربي :
فالإسلام هو قومية العالم العربي , ومحمد صلى الله عليه وسلم هو روح العالم العربي وإمامة وقائده والإيمان هو قوة العالم العربي التي حارب بها العالم البشري كله فانتصر عليه , وهو قوته وسلاحه اليوم كما كان بالأمس , به يقهر أعداءه , ويحفظ كيانه ويودي رسالته . إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الصهيونية أو الشيوعية أو عدواً آخر بالمال الذي ترضخه بريطانيا أو تتصدق به أمريكا ,أو تعطيه مقابل ما تأخذ من أرضه من الذهب الأسود , إنما يحارب عدوه بالإيمان والقوة المعنوية , وبالروح التي حارب بها الدولة الرومية والإمبراطورية الفارسية في ساعة واحدة فانتصر عليهما جميعاً. إنه لا يستطيع أن يحارب أعداءه بقلب يحب الحياة ويكره الموت , ويجسم يميل إلى الدعة والراحة , وعقل يخامره الشك وتتنازع فيه الأفكار والأهواء , أو بيد مضطربة وقلب متشك ضعيف الإيمان وقوة متخاذلة في الميدان ، فالمهم لأمراء العرب وزعمائهم وقادة الجامعة العربية أن يغرسوا الإيمان في الشعوب العربية ، وجماهير الأمة وأولياء الأمور ، والجيوش العربية والفلاحين والتجار ، وفي كل طبقة من طبقات الجمهور ، ويشعلوا فيها شعلة الجهاد في سبيل الله ، والتوق إلى الجنة ، ويبعثوا فيها الاستهانة بالمظاهر الجوفاء وزخارف الدنيا ، ويعلموهم كيف يتغلبون على شهوات النفس ومألوفات الحياة ، وكيف يتحملون الشدائد في سبيل الله ، وكيف يستقبلون الموت بثغر باسم ، وكيف يتهافتون عليه تهافت الفراش على النور .

تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية :
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغت شقاوة الإنسانية غاية ما وراءها غاية ، وكانت قضية الإنسانية أعظم من أن يقوم لها أفراد متنعمون لا يتعرضون لخطر ولا لخسارة ولا محنة ، لهم النعيم الحاضر والغد المضمون ، إنما تحتاج هذه القضية إلى أناس يضحون بإمكانياتهم ومستقبلهم في سبل خدمة الإنسانية وأداء رسالتهم المقدسة ، ويعرضون نفوسهم وأموالهم ومعائشهم وحظوظهم من الدنيا للخطر والضياع ، وتجاراتهم وحرفهم ومكاسبهم للتلف والكساد ، ويخيبون آمال آبائهم وأصدقائهم فيهم ، حتى يقولوا للواحد منهم كما قال قوم صالح : {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا } .
إنه لا بقاء للإنسانية ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين ، وبشقاء هذه الحفنة من البشر في الدنيا – كما يعتقد كثير من معاصريهم – تنعم الإنسانية وتسعد الأمم ، ويتحول تيار العالم من الشر إلى الخير ، ومن السعادة أن يشقى أفراد وتنعم أمم ، وتضيع أموال وتكسد تجارات لبعض الأفراد وتنمو نفوس وأرواح لا يحصيها إلا الله من عذاب الله ومن نار جهنم .
علم الله عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم والفرس والأمم المتحضرة المتصرفة بزمام العالم المتمدن لا تستطيع بحكم حياتها المصطنعة المترفة أن تتعرض للخطر وتتحمل المتاعب والمصاعب في سبيل الدعوة والجهاد وخدمة الإنسانية البائسة , ولا تستطيع أن تضحي بشيء من دقائق مدنيتها في الملبس والمأكل وأن تتنزل عن حظوظها ولذاتها وزخارفها فضلاً عن حاجاتها ، وأنه لا يوجد فيها أفراد يقوون على قهر شهواتهم ، والحد من طموحهم ، والزهد في فضول الحياة ومطامع الدنيا ، والقناعة بالكفاف ، فاختار لرسالة الإسلام وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام أُمة تضطلع بأعباء الدعوة والجهاد وتقوى على التضحية والإيثار ، تلك هي الأمة العربية القوية السليمة التي لم تبتلعها المدنية ولم ينخرها البذخ والترف وأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً .
قام الرسول بهذه الدعوة العظيمة فأدى حقوقها : من الجهاد في سبيلها وإيثارها على كل ما يقف في وجهها ، والعزوف عن الشهوات ومطامع الدنيا فكان في ذلك أسوة وإماماً للعالم كله ، وفد قريش وعرض عليه كل ما يغري الشباب ويرضي الطامحين من رئاسة وشرف ومال عظيم وزواج كريم ، فرفض كل ذلك في صرامة وصراحة ، وكلمة عمه وحاول أن يحد من نشاطه في سبيل الدعوة فقال : (( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )) ثم كان أسوة للناس في عصره وبعد عصره بقيامه بأكبر قسط من الجهاد والإيثار ، والزهد وشظف العيش وأقل قسط من العيش وأسباب الحياة ، فقد أوصد على نفسه الأبواب وسد في وجهه الطرق وتعدى ذلك إلى أسرته وأهل بيته والمتصلين به ، فكان أكثر الناس اتصالاً به وأقربهم إيه أقلهم حظاً في الحياة , وأعظمهم نصيباً في الجهاد والإيثار , فإذا أراد أن يحرم شيئاً بدأ ذلك بشيرته وبيته , وإذا سن حقاً أو فتح باباً لمنفعة قدم الآخرين وربما حرمه على عشيرته الأقربين . أراد أن يحرم الربا فبدأ بربا عمه عباس بن عبد المطلب فوضعه كله , وأراد أن يهدر دماء الجاهلية فبدأ بدم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فأبطله , وسن الزكاة وهي منفعة مالية عظيمة مستمرة إلى يوم القيامة فحرمها على عشيرته بني هاشم إلى آخر الأبد , وكلمه علي بن أبي طالب يوم الفتح أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية فأبي وطلب عثمان بن طلحة وناوله مفتاح الكعبة وقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ، وقال خذوها خالدة تالدة فيكم لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وحمل أزواجه على الزهد والقناعة وشظف العيش وخيرهن بين عشرته مع الفقر وضيق العيش ، ومفارقته مع السعة والرخاء وتلا عليهن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً{28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيما } فاخترن الله والرسول ، وتأتيه فاطمة تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق فيوصيها بالتسبيح والتحميد والتكبير ويقول لها إنه خير لها من خادم .. وهكذا كان شأنه مع أهل بيته والمتصلين به فالأقرب ثم الأقرب . وآمن به رجال من قريش في مكة فاضطربت حياتهم الاقتصادية اضطراباً عظيماً ، وكسدت تجارتهم وحرم بعضهم رأس ماله الذي جمعه في حياته ، وحرم بعضهم أسباب الترف والرخاء وأناقة اللباس التي كان فيها مضرب المثل ، وكسدت تجارة بعضهم لاشتغاله بالدعوة وانصراف الزبائن عنه وحرم بعضهم نصيبه في ثروة أبيه .
ثم لما هاجر الرسول إلى المدينة وتبعه الأنصار تأثرت بذلك بساتينهم ومزارعهم فلما أرادوا أن يقبلوا عليها بعض الوقت ويصلحوها لم يسمح لهم بذلك وأنذرهم الله به فقال : {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من متاعب الجهاد وخسائر النفوس والأموال أعظم من نصيب أي أمة في العالم وقد خاطبهم الله بقوله : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وقال : {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } لأن سعادة البشرية إنما كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وإيثار ما يتحملون من خسائر ونكبات فقال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ } وقال : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } وكان إحجام العرب عن هذه المكرمة وترددهم في ذلك امتداداً لشقاء الإنسانية واستمراراً للأوضاع السيئة في العالم فقال : {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .
وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب ويعرضوا نفوسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما يعز عليهم للخطر ويزهدوا في مطامع الدنيا ويضحوا في سبيل المصلحة الاجتماعية بأنانيتهم فيسعد العالم وتستقيم البشرية وتقوم سوق الجنة وتروج بضاعة الإيمان ، وإما أن يؤثروا شهواتهم ومطامعهم وخظوظهم الفردية على سعادة البشرية وصلاح العالم فيبقى العالم في حمأ الضلالة والشقاء إلى ما شاء الله ، وقد أراد الله بالإنسانية خيراً وتشجع العرب – بما نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روح الإيمان والإيثار وحبب إليهم الدار الآخرة وثوابها – فقدموا أنفسهم فداء للإنسانية كلها وزهدوا في مطامع الدنيا طمعاً في ثواب الله وسعادة النوع الإنساني وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وضحوا بكل ما يحرص عليه الناس من مطامع وشهوات وآمال وأحلام وأخلصوا لله العمل والجهاد فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين .
وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العالم على مفترق الطرق مرة ثانية إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيرته – إلى الميدان ويغامروا بنفوسهم وإمكانياتهم ومطامحهم ويخاطروا فيما هم فيه من رخاء وثراء ودنيا واسعة ، وفرص متاحة للعيش وأسباب ميسورة فينهض العالم من غثاره وتتبدل الأرض غير الأرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع وطموح ، وتنافس في الوظائف والمرتبات وتفكر في كثرة الدخل والإيراد وزيادة غلة الأملاك وربح التجارات والحصول على أسباب الترف والتنعم فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون .
إن العالم لا يسعد وخيرة الشباب في العواصم العربية عاكفون على شهواتهم تدور حياتهم حول المادة والمعدة لا يفكرون في غيرهما ولا يترفعون عن الجهاد في سبيلهما ولقد كان شباب بعض الأمم الجاهلية الذين ضحوا بمستقبلهم في سبيل المبادئ التي اعتنقوها أكبر منهم نفساً ، وأوسع منهم فكراً ، بل كان الشاعر الجاهلي (( امرؤ القيس )) أعلى منهم همة ، إذ قال :
ولو أنني أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
إن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة إلا على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها الشباب المسلم ، إن الأرض لفي حاجة إلى سماد ، وسماد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت زرع الإسلام الكريم هي الشهوات والمطامع الفردية التي يضحي بها الشباب العربي في سبيل علو الإسلام وبسط الأمن والسلام على العالم وانتقال الناس من الطريق المؤدية إلى جهنم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة .
إنه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً .

العناية بالفروسية والحياة العسكرية :
من الحقائق المؤلمة أن الشعوب العربية قد فقدت كثيراً من خصائصها العسكرية ، ورزئت في فروسيتها التي كانت معروفة بها في العالم ، فكانت رزيئة كبيرة وخسارة فادحة ، وكانت سبباً من أسباب ضعفها وعجزها في ميدان الجهاد ، فقد اضمحلت الروح العسكرية ، وضعفت الأجسام ونشأ الناس على التنعم ، وقد حلت السيارات محل الجياد حتى كادت الخيل العربية تنقرض من الجزيرة العربية ، وهجر الناس المصارعة والمناضلة وسباق الخيل وأنواع الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية ، واستبدلوا بها ألعاباً لا تفيدهم شيئاً ، فالمهم لرجال التعليم والتربية قادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية ، وعلى البساطة في المعيشة وخشونة العيش والجلادة وتحمل المشاق والمتاعب ، والصبر على المكروه !.
وقد كتب المربي الكبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى بعض عماله العرب وهم في بلاد العجم : (( إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب ، وتمعددوا(254) ، واخشوشنوا(155) ، واخشوشبوا(256) ، واخلولقوا(257) ، وأعطوا الركب أسنتها ، وانزوا نزوا ، وارموا الأغراض (258))) .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً(259) )) وقال : (( ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي(260) )) .
ومن واجب رجال التربية وولاة الأمر أن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة والجلادة ويبعث على التخنث والعجز ، من عادات وأدب وصحافة وتعليم ، ويأخذوا على يد الصحافة الماجنة والأدب الخليع الملحد ، الذي ينشر في الشباب النفاق والدعارة والفسوق ، وعبادة اللذة والشهوات ، ولا يسمحوا لهؤلاء التجارة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أن يدخلوا في معسكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاث ، ويفسدوا على الناشئة الإسلامية قلبها وأخلاقهم ، ويزينوا لها الفسوق والعصيان ، وحب الفحشاء ، بثمن بخس دراهم معدودة ، وقد شهد التاريخ بأن كل أمة أصيب رجالها في رجولتهم وغيرتهم ، ونساؤها في أنوثتهن وأمومتهن ، وطغى فيهن التبرج ، ومزاحمة الرجال في كل شيء ، والزهد في الحياة المنزلية ، وحبب إليهن العقم ، أفل نجمها وكسفت شمسها ، فأصبحت أثراً بعد عين .
هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس ، وإن أوربا لفي طريقها إلى هذه العاقبة ، فليحذر العالم العربي من هذا المصير الهائل .

محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك :
وقد اعتاد العرب لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإسراف والتبذير ، والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة .
وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير ، جوع وعري وفقر فاضح ، يرى الناظر مناظرة الشائنة في عواصم البلاد العربية فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلاً ، فبينا هنالك رجل عنده فضول الثياب وزائدة الطعام والشراب لا يعرف كيف يستهلكه ، إذ ببدوي لا يجد قوت يومه وكسوة جسمه ، وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع ، إذا بفوج من النساء والأطفال عليه ثياب سوداء قد أصبحت خيوطاً من طول اللبس يعدو لأجل فلس أو قرص ، فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة ، وبين الأكواخ الحقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة ، وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة ، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق لا تقفها دعاية ولا قوة ، وإذا لم يسد النظام الإسلامي في بلاده بجماله واعتداله يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره عقاباً من الله كرد فعل عنيف .

التخلص من أنواع الأثرة :
لقد أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد – وهو شخص الخليفة أو الملك – أو حول حفنة من الرجال – هم الوزراء وأبناء الملك – وكانت البلاد تعتبر ملكاً شخصياً لذلك الفرد السعيد والأمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد ، ويتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأغراضهم ، ولم تكن الأمة التي كانت يحكم عليها إلا ظلاً لشخصه ولم تكن حياته إلا امتداداً لحياته .
لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وانتاجها ، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع ، كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء ، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة ، ولا حرية لها ولا كرامة .
وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة ، فلأجله يتعب الفلاح ويشتغل التاجر ويجتهد الصانع ، ويؤلف المؤلف وينظم الشاعر ، ولأجله تلد الأمهات ، وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش ، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الأرض خيراتها .
وكانت الأمة – وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها- تعيش عيش الصعاليك ، أو الأرقاء المماليك ، وقد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر ، وقد تُحرم ذلك أيضاً فتصبر ، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئاً بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص .
هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها ، وأخلاقها واجتماعاتها ، وخلّف آثاراً باقية في المكتبة العربية ، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (( ألف ليلة وليلة )) الذي يصور ذلك العهد تصويراً بارعاً ، يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة ، هو كل شيء ، وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (( ألف ليلة وليلة )) بأساطيره وقصصه ، وكتاب الأغاني بتاريخه وأدبه ، لم يكن عهداً إسلامياً ، ولا عهداً طبيعياً معقولاً ، فلا يرضاه الإسلام ولا يقرّه العقل ، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه ، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه – ككسرى وقيصر – وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار .
إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أم مصابة في عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح .
إن هذا الوضع لا يقره عقل ، ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعاً ومسبغة ، ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عيث المجانين ، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم ، ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة – وهي الكثرة – الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له ، وحظ طبقة – وهي لا تجاوز عدد الأصابع – إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي ، ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الاجتهاد وأهل المواهب وأهل الصلاح ، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير ولا يعرفون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور ؟! ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهلا الأمانة ويقصوا كالمنبوذين ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر ممن لا همَّ لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات ، ولا يحسنون فناً من فنون الدنيا غير التملق والإطراء والمؤامرة ضد الأبرياء ، ولا يتصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء .
إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوماً فضلاً عن أن يبقى أعواماً .
إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها ، وبسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية ، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها .
فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (( ألف ليلة وليلة )) إنما يعيشون في عالم الأحلام ، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت ، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون متى يكبس ، ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم ، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية .
ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعنّ أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم يعجلة قد تكسرت وتحطمت ، إن الملوكية مصباح – إن جاز هذا التعبير – قد نفذ زيته واحترقت فتيلته ، فهو إلا إنطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة .
إنه لا مجل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة ، إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا ، فهي في أوربا أثرة حزب من الأحزاب ، وفي أمريكا أثرة الرأسماليين ، وفي روسيا قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة(261) .
إن الأثرة يجمع أنواعها ستنتهي وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً ، إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط وإن طال أجل هذه (( الأثرات )) وأرخي لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمان .
إن الأثرة – فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية – غير طبيعية في حياة الأمة وإنها تتخلص منها في أول فرصة إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ الرشد ولا أمل في استمرارها ؛ فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولاة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها .

إيجاد الوعي في الأمة :
إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة ، وافتتانها بكل دعوة واندفاعها إلى كل موجة وخضوعها لكل متسلط وسكونها على كل فظيعة وتحملها لكل ضيم ، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها لكل ضيم ، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها ولا تميز بين الصديق والعدو وبين الناصح والغاش وأن تلدغ من جحر مرة بعد مرة ولا تنصحها الحوادث ، ولا تروعها التجارب ، ولا تنتفع بالكوارث ، ولا تزال تولي قيادها من جربت عليه الغش والخديعة والخيانة والأثرة والأنانية ، ولا تزال تضع ثقتها فيه وتمكنه من نفسها وأموالها وأعراضها ومفاتيح ملكها وتنسى سريعاً ما لاقت على يده الخسائر والنكبات فيجترئ بذلك السياسيون المحترفون ، والقادة الخائنون ويأمنون سخط الأمة ومحاسبتها ويتمادون في غيهم ويسترسلون في خياناتهم وعبثهم ثقة ببلاهة الأمة وسذاجة الشعب وفقدان الوعي .
إن الشعوب الإسلامية والبلاد العربية – مع الأسف – ضعيفة الوعي – إذا تحرجنا أن نقول : فاقدة الوعي – فهي لا تعرف صديقها من عدوها ولا تزال تعاملها معاملة سواء أو تعامل العدو أحسن مما تعامل الصديق الناصح وقد يكون الصديق في تعب وجهاد معها طول حياته بخلاف العدو ، ولا تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة ولا تعتبر بالحوادث والتجارب ، وهي ضعيفة الذاكرة سريعة النسيان تنسى ماضي الزعماء والقادة ، وتنسى الحوادث القريبة والبعيدة ، وهي ضعيفة في الوعي الاجتماعي وأضعف في الوعي السياسي ، وذلك ما جر عليها وبلاً عظيماً وشقاء كبيراً وسلط عليها القيادة الزائفة وفضحها في كل معركة .
إن الأمم الأوربية – برغم إفلاسها في الروح والأخلاق وبرغم عيوبها الكثيرة التي بحثنا عنها في هذا الكتاب – قوية الوعي المدني والسياسي – قد بلغت سن الرشد في السياسة ، وأصبحت تعرف نفعها من ضررها ، وتميز بين الناصح والخادع ، وبين المخلص والمنافق ، وبين الكفؤ والعاجز ، فلا تولي قيادها إلا الأكفاء الأقوياء الأمناء ، ثم لا توليهم أمورهم إلا على حذر ، فإذا رأت منهم عجزاً أو خيانة أو رأت أنهم مثلوا دورهم وانتهوا من أمرهم استغنت عنهم وأبدلت بهم رجالاً أقوى منهم وأعظم كفاءة وأجدر بالموقف ، ولم يمنعها من إقالتهم أو إقصائهم من الحكم ماضيهم الرائع وأعمالهم الجليلة وانتصارهم في حرب ، أو نجاحهم في قضية وبذلك أمنت السياسيين المحترفين ، والقيادة الضعيفة أو الخائنة ، وخوف ذلك الزعماء ورجال الحكم وكانوا حذرين ساهرين يخافون رقابة الأمة وعقابها وبطش الرأي العام .
فمن أعظم ما تخدم به هذه الأمة وتؤمن من المهازل والمآسي التي لا تكاد تنتهي هو إيجاد الوعي في طبقاتها ودهمائها وتربية الجماهير التربية العقلية والمدنية والسياسية ، ولا يخفى أن الوعي غير فشو التعليم وزوال الأمية وإن كانت هذه الأخيرة من أنجح وسائلها ، وليعرف الزعماء السياسيون والقادة أن الأمة التي يعوزها الوعي غير جديرة بالثقة ولا تبعث حالتها على الارتياح وإن أطرت الزعامة والزعماء وقدستهم فإنها – ما دامت ضعيفة الوعي – عرضة لكل دعاية وتهريج وسخرية كريشة في فلاة تلعب بها الرياح ولا نستقر في مكان .

استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها :
وكذلك لابد للعالم العربي – كالعالم الإسلامي – من الاستقلال في تجارته وماليته وصناعته وتعليمه ، لا تلبس شعوبه وجماهيره إلا ما تنبته أرضه وتنسجه يده ، وتستغني عن الغرب في جميع شئون حياتها ، وفي كل ما تحتاج إليه من كسوة ، وطعام ، وبضائع ، ومصنوعات ، وأسلحة وجهاز حربي ، وآلات وماكينات ، وأدوية ، فلا تكون كلاً على الغرب وعيالاً عليه في معيشتها ومتطفلة على مائدته .
إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الغرب – إذا احتاج إلى ذلك ودعت إليه الظروف – وهو مدين له في ماله ، عيال عليه في لباسه وبضائعه ، لا يجد قلماً يوقع به على ميثاق مع الغرب ، إلا الرصاص الذي أفرغ في الغرب ، إن عاراً على الأمة يجري ماء الحياة في عروقها وشرايينها إلى أجسام غيرها ، وأن يدرب جيوشها وكلاء الغرب وضباطه ، ويدير بعض مصالح حكومتها رجاله ، فلابد للعالم العربي أن يقوم هو نفسه بحجاته : تنظيم التجارة والمالية ، وحركة التوريد والتصدير ، والصناعة الوطنية ، وتدرب الجيش ، وصنع الآلات والماكينات وتربية الرجال الذين يضطلعون بجميع مهمات الدولة ووظائف الحكومة في خبرة ومهارة فنية ، وأمانة ونصيحة .

تقدم مصر في ميدان التجارة والصناعة والعلم :
ولابد هنا من الاعتراف بأن مصر قد أثبتت كفايتها واستعدادها الكبير في ميدان العلم والصناعة ، وتربية الرجال ، ونشر الثقافة ، ونقل العلوم العصرية إلى اللغة العربية ، وبواسطتها إلى الأمة العربية ، وعنايتها بالصناعة الوطنية ، وتنظيم شئون دولتها وماليتها على أساس العلم العصري ، أما فضلها على اللغة العربية وإحياؤُها للكتب العربية ، وتقدم الصحافة والطباعة وحركة النشر فيها ، فمن المأثر والمفاخر التي سيسجلها التاريخ ، ويردد صداها المستقبل ، ويدين بفضلها العرب جميعاً .

رجاء العالم الإسلامي من العالم العربي :
والعالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه الجغرافي وأهميته السياسية يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام ، ويستطع أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي ، ويزاحم أوربا بعد الاستعداد الكامل ، وينتصر عليها بإيمانه وقوة رسالته ونصر من الله ، ويحول العالم من الشر إلى الخير ، ومن النار والدمار إلى الهدوء والسلام .

إلى قمة القبلة العلمية :
ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على إثر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونادت به سورة الإسراء وقصة المعرج في لغة صريحة بليغة وفي أسلوب مبين مشرق(262) ، وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب . نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته ، ومن الحياة القبلية المحدودة التي ضاقوا بها إلى الإنسانية الواسعة التي يشرفون عليها ويوجهونها ، وأصبحوا بفضل هذا التطور العظيم الذي فاجأ العرب وفاجأ العالم يقولون بكل وضوح وشجاعة لإمبراطور المملكة الفارسية العظيمة وأركان دولته : ((الله ابتعثنا لنخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) .
نعم لقد خرجوا من ضيق الدنيا أولاً إلى سعتها ثم أخرجوا الأمم من ضيق الدنيا إلى سعتها آخراً ، وهل أضيق من الحياة القبلية والجنسية ، وأوسع من الحياة الإنسانية الآفاق ؟ وهل أضيق من الحياة التي لا يفكر فيها إلا في المادة الزائلة والحياة الفانية ولا يجاهد إلا في سبيلها من الحياة الإيمانية الروحانية التي لا نهاية لها ولا تحديد . !؟ .
لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب ، ومن ضيق الحياة فيها ، ومن ضيق التفكير في مسائلها ومصالحها ، ومن ضيق التناحر على سيادتها ، ومن ضيق التكالب على حطامها القليل وملكها الضئيل وعيشها الذليل ، إلى عالم جديد من السيادة الروحية والخلقية والعلمية والسياسية ، ليس الدانوب الفائض والنيل السعيد والفرات العذب والسند الطويل إلا سواقي حقيرة وترعاً صغيرة فيه ، وليست جبال الألب والبرانس وعقاب لبنان وقمم همالايا إلا تلالاً متواضعة وسدوداً صغيرة ، وليست البلاد كالهند والصين وتركستان إلا أحياء ضيقة وحارات صغيرة ، ونقطاً مغمورة في هذا العالم ، وليست هذه الأرض كلها – إذا نظر إليها من ارتقى إلى قمة هذه السيادة – إلا خريطة صغيرة ملونة يراها الطائر المحلق في السماء ، وليست الأمم الكبيرة – مع ثقافتها وحضاراتها وآدابها – إلا أسراً صغيرة في أمة كبيرة .
لقد قام العالم الكبيرة على أساس العقيدة الواحدة ، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية ، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ وكانت الشعوب التي تكون هذا العالم أقوى أسرة عرفها التاريخ ، تنصهر فيها الثقافات المختلفة ، والعبقريات المختلفة ، فتكون منها ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية ، التي لم تزل تظهر في نوابغ الإسلام الذين لا يحصيهم عدد وفي المآثر الإسلامية – بين علمية وعملية – التي لا يستقصيها التاريخ .
لقد كانت – ولا تزال – قيادة هذا العالم بجدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها وأقواها في تاريخ الزعامة والقيادة ، وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الإسلامية وتفانوا في سبيلها ، فأحبهم الناس في العالم حباً لم يعرف له نظير ، وقلدوهم في كل شيء تقليداً لم يعرف له نظير ، وخضعت للغتهم اللغات ، ولثقافتهم الثقافات ، ولحضارتهم الحضارات ، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى قصاه ، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها ، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم ، ويتقنونها كأبنائها وأحسن ، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي ، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقادهم .
وكانت حضارتهم هي الحضارة المثلي التي يتمجد الناس ويتظرفون بتقليدها ، ويحث علماء الدين على تفضيلها على الحضارات الأخرى ويطلقون على كل ما يخالفها من الحضارات – اسم (( الجاهلية )) و (( العجمية )) وينهون عن اتخاذ شعائرها ومظاهرها .
وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة والناس لا يفكرون في ثورة عليها ، وفي التخلص منها ، كما هي عادة المفتوحين والأمم المغلوبة على أمرها في كل عهد ، لأن صلتهم بهذه القيادة ليست صلة المفتوح بالفاتح أو المحكوم بالحاكم أو الرقيق بالسيد القاهر ، إنما هي صلة المتدين بالمتدين ، وصلة المؤمن بالمؤمن ، وعلى الأكثر إنما هي صلة التابع بالمتبوع الذي سبقه بمعرفة الحق والإيمان بالدعوة والتفاني في سبيلها ، فلا محل للثورة ، ولا محل للتذمر ، ولا محل لنكران الجميل ، إنما اللائق أن يعترفون لهم بالفضل ، وتلهج ألسنتهم بالشكر والدعاء ، وأن يقولوا : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } .
وهكذا كان ، فقد ظلت هذه الأمم المفتوحة تعتبر العرب المنقذ من الجاهلية والوثنية ، والداعي إلى دار السلام ، والقائد إلى الجنة ، والمعلم للحضارة ، والأستاذ في الأدب .
هذه هي القيادة العالمية التي هيأتها البعثة المحمدية ، وهي القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص ، ويعضوا عليها بالنواجذ ، ويسعوا إليها بكل ما أوتوا من مواهب ويتواصى بها الآبار والأبناء ، ولا يجوز لهم – في شريعة العقل والدين والغيرة – أن يتخلوا عنها في زمن من الأزمان ، ففيها عوض عن كل قيادة مع زيادة ، وليس في غيرها عوض عنها وكفاية ، وهي القيادة التي تشمل جميع أنواع القيادة والسيارة ، وهي تسيطر على القلوب والأرواح ، أكثر من سيطرتها على الأجسام والأشباح .
إن الطريق إلى هذه القيادة ممهدة ميسورة للعرب ، وهي الطريق التي جربوها في عهدهم الأول (( الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها وتنبيها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة )) .
وبذلك – من غير قصد وإرادة لنيل هذه القيادة وتبوئها – تخضع لهم الأمم الإسلامية في أنحاء العالم ، وتتهالك على حبهم وإجلالهم وتقاليدهم ، وبذلك تنفتح لهم أبواب جديدة وميادين جديدة في مشارق الأرض ومغاربها ، الميادين التي استعصت على غزاة الغرب ومستعمريه وثارة عليه ، وتدخل أمم جديدة في الإسلام ، أمم فتية في مواهبها وقواها وذخائرها ،أمم تستطيع أن تعارض أوربا في مدنيتها وعلومها إذا وجدت إيماناً جديداً ، وديناً جديداً ، وروحاً جديداً ، ورسالة جديدة .
إلى متى أيها العرب تصرفون قواكم الجبارة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة ؟ وإلى متى ينحصر هذا السيل العرم – الذي جرف بالأمس بالمدنيات والحكومات – في خدود هذا الوادي الضيق ، تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضاً ؟ إليكم هذا العالم الإنساني الفسيح الذي اختاركم الله لقيادته واجتباكم لهدايته ، وكانت البعثة المحمدية فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمتكم وفي تاريخ العالم جميعاً ، وفي مصيركم ومصير العالم جميعاً فاحتضنوا هذه الدعوة الإسلامية من جديد وتفانوا في سبيلها وجاهدوا فيها {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .

**************************************

(242) حديث الشيخ الصالح السيد علي الهجويري دفين لاهور أن شيخه أمره بالرحلة إلى لاهور والإقامة فيها ، فاعتذر بأن هناك زميله الشيخ حسين الزنجاني فلا لزوم لذهابه ، فقال : لا بد أن تذهب وتقيم بها : قال : فشددت رحلي وامتثلت أمر الشيخ ووصلت إلى لاهور في الليل وقد غلقت أبوابها فبت ليلتي خارج السور . ولما أصبحت وفتح باب السور إذا بالناس يحملون جنازة الشيخ حسين ، فعرفت سر أمر الشيخ ودخلت البلد . وخلفته في عمله دعاء الخلق إلى الله ( كشف المحجوب للهجويري )

(243) التذكرة الآدمية ( الفارسية ) .

(244) نزهة الخواطر ، المجلد الخامس ، للشيخ عبدالحي الحسني .

(245) ذيل الرشحات ( الفارسية )

(246) در المعارف ( الفارسية ) ، نزهة الخواطر ( العربية ) .

(247) در المعارف

(248) هو السير السيد أحمد خان صاحب الدعوة إلى التعليم الإنجليزي في الهند ومؤسس الجامعة الشهيرة في عليكرة .

(249) آثار الصناديد ( الأوردية )

(250) در المعارف ( الفارسية ) .

(251) الكلمات التي بين القوسين منقولة لفظاً .

(252) نزهة الخواطر للشيخ عبدالحي الحسني ( المجلد السادس ) .

(253) { َأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } . ( الحديد )

(254) تمعدد الغلام : شب وغلظ . وقيل معناه : تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكان ذا غلظ وتقشف .

(155) اخشوشن : تخشن في المطعم والملبس .

(256) اخشوشب : صار صلباً كالخشب في أحواله وصيره على الجهد .

(257) تبذلوا في الملابس .

(258) رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي .

(259) رواه البخاري .

(260) رواه مسلم .

(261) اقرأ في ذلك كتاب : Forced Labour in Russia
لمؤلفه : Professor Ernest Tallgren

(262) تضم سورة الإسراء وقصة المعرج وإعلانات بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبى القبيلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله وإمام الأجيال بعده .

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22