عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2012 ~ 11:30 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 14
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الفصل الرابع
البحث عن الأصول
مناهج واكتشافات

كما رأينا ، بعض العلماء (عددهم قليل)، قبل قيام "مِل" بنشر نسخته من العهد الجديد باليونانية بفترة طويلة مصحوبة بإشاراته إلى الثلاثين ألف موضع من القراءات المتباينة في شواهدنا الناجية من الضياع ، كانوا قد اعترفوا بوجود مشكلة في نص العهد الجديد . وقبل ذلك خلال القرن الثاني ، كان الناقد الوثني سيلزس يزعم أن المسيحيين غيَّروا النص على هواهم ،كما لو كانوا مخمورين في جلسة شراب ؛ أما خَصْمُه أوريجانوس فيتحدث عن عددٍ "كبيرٍ" من الاختلافات بين مخطوطات الكتاب المقدس ؛ بعد ذلك بما يزيد عن قرن كان البابا داماسوس يساوره قلق شديد جرَّاء الاختلافات الموجودة بين المخطوطات اللاتينية إلى درجة أنه كلَّف القديس جيروم بإنتاج ترجمة معيارية ؛ بل وحتى جيروم نفسه كان قد قارن العديد من نسخ النص ، سواء اللاتينية أو اليونانية ، لكي يختار النص الذي كان يعتقد أنه النص الأصلي الذي خطته أيدي مؤلفيه .ثم خمدت المشكلة طوال القرون الوسطى وصولا إلى القرن السابع عشر ، عندما بدأ "مِلّ" وآخرون في معالجتها بصورة جديَّة (1) . وبينما كان "مِلّ" في غمرة عملية تجميع البيانات اللازمة لنسخته التي صدرت 1707 و التي تمثل علامة فارقة ، كان هناك عالم آخر يعمل بجد أيضًا على قضية نص العهد الجديد؛ هذا العالم لم يكن من أصل إنجليزيّ بل كان فرنسيّا ، و لم يكن بروتستانتيا بل كاثوليكيا. فوق ذلك ، كانت وجهة نظره هي على وجه الدقة هي ما كان كثير من البروتستانت الإنجليز يخشون أن يكون محصلة التحليل الدقيق لنص العهد الجديد ،وجهة النظر هذه تتلخص تحديدا في أن الاختلافات واسعة النطاق في المخطوطات أوضحت أن الإيمان المسيحي لا يمكن أن يبنى فحسب على الكتاب المقدس ( أو ما يعرف بمبدأ "الكتاب المقدس فحسب " أو الـ(sola scriptura) عند البروتستانت الإصلاحيين)، حيث إن النص كان متغيرا و لا يعول عليه (unstable and unreliable) . بدلا من ذلك ، ووفقا لهذه الرؤية ، لابد أن الكاثوليك على حق في قولهم إن الإيمان في حاجة إلى التقليد الآبائي المحفوظ في الكنيسة (الكاثوليكية). المؤلف الفرنسي الذي واصل نشر هذه الأفكار في سلسلة من الإصدارات الهامة كان هو "ريتشارد سيمون" (1638- 1712 ).
ريتشارد سيمون
على الرغم من أن "سيمون" كان في الأصل عالمًا في اللغة العبرية ، إلا أنه كان مهتمًّا بالتقليد النصي للعهدين القديم والحديث كليهما. دراسته التي نال عنها درجة الماجيستير ،"تاريخ نقدي لنص العهد الجديد" ،ظهرت في 1689 بينما كان "ملّ" ما يزال يعمل على كشف النقاب عن القراءات المتباينة في التقليد النصي ؛ وقد كان لدى"ملّ" إمكانية الاطلاع على هذا العمل و هو يعترف، خلال النقاش المفتوح لنسخته التي صدرت 1707 ، بسعة العلم الموجود المتوفرة في هذا العمل وبأهميته لأبحاثه الشخصية رغم اختلافه مع الاستنتاجات اللاهوتية الموجودة فيه . لم يكن كتاب "سيمون" مخصَّصا لكشف كل قراءة متباينة موجودة وإنما لمناقشة الاختلافات النصية في التقليد ،وذلك بهدف إظهار عدم موثوقية النص في هذه المواضع ولكي يدافع أحيانًا عن أفضلية الكتاب المقدس اللاتيني الذي ما يزال اللاهوتيون الكاثوليك يعتقدون في كونه النص المعتمد. و"سيمون" أيضا على معرفة تامة بالمشكلات النصيِّة شديدة الأهمية . فعلى سبيل المثال ،يعقد مناقشة مطولة لعدد من القضايا التي قمنا نحن أنفسنا ببحثها في هذا الكتاب : مثل المرأة الزانية ، الأعداد الاثني عشر الأخيرة في مرقس ، والفاصلة اليوحناوية (التي تؤكد مبدأ التثليث على نحوٍ لا لبس فيه). طوال نقاشه كان"سيمون"يجتهد في إظهار أن جيروم هو من أمدّ الكنيسة بالنص الذي يمكنها أن تستخدمه كأساس للفكر اللاهوتي . أو كما يقول هو في مقدمة الجزء 1 من كتابه :
لم يكن ما أسداه القديس جيروم للكنيسة من خدمات بالشئ القليل سواء في تصحيح أو في تنقيح النسخ اللاتينية القديمة وفقا للقواعد النقدية الصارمة . هذا ما نسعى إلى إظهاره في هذا العمل ، إلى جانب إظهار أن غالبية النسخ اليونانية القديمة من العهد الجديد ليست هي الأعلى قيمة ،حيث إنها متوافقة مع تلك النسخ اللاتينية التي وجد القديس جيروم أنها شديدة الفساد وأنها بحاجة إلى التعديل) (2).
هذا في جوهره دفاع بارع وسوف نصطدم به مرة أخرى: ويتلخص في أن المخطوطات اليونانية غير جديرة بالاعتماد عليها لأنها هي تحديدا تلك النسخ الفاسدة التي كان على القديس جيروم أن ينقحها لكي يبني النص الأفضل ؛ أو بطريقة أخرى هذه النسخ اليونانية المحفوظة أنتجت قبل عصر جيروم ، ومع أنها ربما تكون أقدم ما لدينا من نسخ ،إلا أنها لا يمكن الوثوق بها .
بقدر ما هو بارع هذا الدفاع إلا أنه لم ينل على الإطلاق دعمًا واسع النطاق بين نقاد النصوص . في حقيقة الأمر ، هي مجرد إعلان عن أن مخطوطاتنا الحية الأقدم عمرا لا يمكن الوثوق بها ، لكنَّ الممكن الوحيد أمامنا هو تنقيحها . على أي أساس ، مع ذلك ، قام جيروم بتنقيح ما لديه من نص ؟ بالطبع على أساس المخطوطات الأقدم . إذن فحتى جيروم نفسه قد وضع ثقته في أقدم تسجيل للنص . وإذا لم نفعل الشئ نفسه فهذه ستكون ردة إلى الوراء - حتى مع التسليم بتنوع التقليد النصي في القرون الأولى . على أية حال ، يجادل "سيمون" أثناء مواصلته لمهمته في أن كل المخطوطات تجسد التحريفات التي تعرضت لها النصوص و النصوص اليونانية منها على وجه الخصوص ( ها هنا ربما يكون لدينا هجوم أكبر على "المنشقين اليونانيين " عن الكنيسة "الجامعة ").
لن يكون ثمة في هذا اليوم أي نسخة من العهد الجديد ، سواء أكانت باليونانية أو باللاتينية أو السوريانية أو العربية ، يمكننا أن نطلق عليها بالحق لقب "نسخة أصلية" ،لأنه ليس هناك واحدة على الإطلاق ، أيّا كانت اللغة التي كتبت بها ، قد نجت من الإضافات . ربما أؤكد أيضا أن الناسخين اليونانيين كانوا يتمتعون بحرية واسعة في كتابة نسخهم ، كما سنثبته في موضع آخر (3) .
أجندة "سيمون" لمثل هذه الملاحظات تتسم بالوضوح طوال مقاله المطول . في إحدى النقاط يتسائل بطريقة بليغة :
أتراه ممكنا..أن يكون الله قد أعطى كتبا لكنيسته يخدمها كدستور ، وأن يسمح في الوقت ذاته أن تضيع الأصول الأولى لهذه الكتب إلى الأبد منذ بداية الدين المسيحي ؟ (4)
وإجابته ،بطبيعة الحال ، هي النفي . لقد قدمت الكتابات المقدسة بالفعل أساسًا للإيمان ، لكنَّ الكتب ذاتها لم تكن في النهاية هي العامل الأهم (حيث تعرضت للتحريف في النهاية مع مرور الزمان )، بل تفسير هذه الكتب كما وجد في التقليد الرسولي المستلم عبر الكنيسة (الكاثوليكية).
"مع أن الكتابات المقدسة هي أساس لا ريب فيه عليه بُنيَ الإيمان ، إلا أن هذا الأساس ليس كافيا تماما بحد ذاته ؛ بل من الضروري التعرف ، إلى جانب ذلك ، على التقاليد الرسولية ؛ وتلك لا يسعنا تعلمها إلا عبر الكنائس الرسوليّة ، التي حافظت على المعنى الحقيقي للكتب المقدسة (5) ."
استنتاجات "سيمون" المضادة للبروتستانتية تصير أكثر وضوحا في بعض كتاباته الأخرى . على سبيل المثال ،في كتاب له يتناول " المفسرين الرئيسيين للعهد الجديد " ،يصرح بغير تردد :" التغييرات العظيمة التي وقعت في مخطوطات الكتاب المقدس . . . منذ أن فُقِدَت الأصول الأولى ، تهدم مبدأ البروتستانتيين من أساسه . . . الذين يلجأون فحسب إلى هذه المخطوطات ذاتها الخاصة بالكتاب المقدس في شكلها الموجود اليوم . لو أن حقيقة الدين لم تعش طويلا في ظل الكنيسة ، فإن البحث عنها في الكتب التي كانت عرضة لكثير جدا من التغييرات والتي كانت أيضا خاضعة لإرادة النساخ لن يكون بالأمر المأمون (6).
هذا النوع من الهجوم القاسي من الناحية الفكرية على المفهوم البروتستانتي للكتاب المقدس بشكل جدُّ خطير حدث بين جدران المعاهد العلمية . لكنَّ علماء الكتاب المقدس من البروتستانت ،بمجرد صدور نسخة "ملّ" في 1707 ، اضطروا بدافع من طبيعة ما لديهم من معارف إلى أن يراجعوا أنفسهم وأن يبدأوا في الدفاع عن مفهومهم حول الإيمان . فهم ليس بوسعهم ،بطبيعة الحال ، أن يتخلوا ببساطة عن عقيدة "الكتاب المقدس وحده " (sola scriptura). بالنسبة إليهم ، كلمات الكتاب المقدس ما تزال تحمل سلطان كلمة الله . لكن كيف يمكن للمرء أن يتعامل مع حقيقة أننا في كثير من المواقف لا نعلم الأصل الذي كانت عليه هذه الكلمات ؟ كان هناك حلٌّ وحيد وهو تطوير مناهج النقد النصي التي ستمكن العلماء المعاصرين على إعادة بناء الكلمات الأصلية ، حتى يتسنى مرة أخرى لأساس الإيمان أن يبرهن موثوقيته . إنه جدول الأعمال الذي يقف وراء كثير من الجهود ،في إنجلترا وألمانيا أساسا،التي بذلت من أجل ابتكار مناهج ذات كفاءة و يمكن الاعتماد عليها في إعادة بناء الكلمات الأصلية للعهد الجديد من نسخها العديدة المشتملة على الأخطاء والتي نجت من الضياع .

ريتشارد بنتلي
كما رأينا ، وظف "ريتشارد بنتلي" ،العالم المتخصص في فقه اللغات القديمة وعميد كلية ترينيتي بجامعة كامبردج قدرته الفكرية الفذة في دراسة مشكلات التقليد النصي للعهد الجديد ردا على التفاعلات السلبية التي نتجت عن نشر "مِلّ" للعهد الجديد اليوناني مصحوبًا بكمٍّ هائل من التناقضات النصية الموجودة بين المخطوطات (7). ردُّ "بنتلي" على "كولينز الديسطيقي " ،وهو ردٌّ على "مقالة حول التفكير الحر"، اكتسب انتشارًا واسعًا الانتشار وصلت طبعاته إلى ثمان طبعات . رؤيته الجامعة كانت تتلخص في أن التناقضات الثلاثين ألفا في العهد الجديد اليوناني لم تكن بالكثرة المتوقعة من تقليد نصي يحتوي مثل تلك الثروة من النصوص ، و أن "ملّ" تقريبًا لا يمكن لأحد أن يتهمه بتقويض صحة الديانة المسيحية حيث إنه لم يبتكر هذه المواضع المتباينة بل ببساطة قام برصدها . في النهاية أصبح بنتلي نفسه مهتما بدراسة التقليد النصي للعهد الجديد ، وبمجرد أن حَوَّل اهتمامه إليه ،استنتج أنه يستطيع في الحقيقة إنجاز تقدم ملحوظ في تكوين النص الأصلي في غالبية المواضع التي يتوافر فيها تباين نصي . في رسالة أرسلها إلى أحد داعميه وهو كبير الأساقفة "ويك" في عام 1716 ، كتب في مقدمة نسخة جديدة مفترضة من العهد الجديد اليوناني يقول إنه سيكون بمقدرته ،عبر التحليل الدقيق ، أن يعيد نص العهد الجديد إلى حالته التي كان عليها في عصر مجمع نيقية (أوائل القرن الرابع )،وهي الحال التي كان سيكون عليها شكل النص الذي نشره في القرون السابقة عالم النصوص القديمة العظيم "أوريجانوس"، قبل قرون عديدة من تسرب الفساد إلى التقليد النصي (للكتاب المقدس)بسبب الغالبية الساحقة من القراءات النصية المتباينة(كما كان ظنُّ " بنتلي" ).
لم يكن "بنتلي" على الإطلاق بالشخص الذي ينشغل بالتواضع الزائف . فها هو كما يزعم في رسالته :
أجد أنني قادر على إنتاج نسخة من العهد الجديد اليوناني بالدقة ذاتها التي كان عليها في أفضل النسخ في عصر مجمع نيقية (وهو الأمر الذي يظنه البعض في حكم المستحيل) ؛ لكي لا يكون ثمة لا عشرون كلمة ،ولا حتى حروف جر ،بها أي اختلاف . . . ولكي يصير لهذا الكتاب،الذي تعتقد الإدارة الحالية أنه مشكوك فيه إلى أبعد الحدود ،حجية فوق جميع الكتب الأخرى مهما كانت، ولكي توضع نهاية فورية لكل القراءات المتباينة الآن وفي المستقبل (8).
منهج العمل لدى بنتلي كان نزيها للغاية . فهو كان قد قرر أن يقارن (على نحوٍ مفصَّل) نص أهم مخطوطة من مخطوطات العهد الجديد اليونانية في إنجلترا ،ألا وهي المخطوطة السكندرية التي تؤرخ ببواكير القرن الخامس ،بأقدم النسخ المتاحة للفولجاتا اللاتينية . ما وجده كان حجما كبيرة من القراءات المتوافقة على نحوٍ ملحوظ . اتفقت فيها هذه المخطوطات مرات كثيرة بعضها مع بعض ولكن مع اختلافها مع الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية التي تمت نسخها في العصور الوسطى . لقد امتدت الموافقات لتشمل حتى أمورا مثل ترتيب الكلمات في المواضع التي تختلف فيه المخطوطات المختلفة. لقد كان بنتلي على قناعة تامة ،إذن، من قدرته على تنقيح (edit) الفولجاتا اللاتينية و العهد الجديد اليوناني كليهما ليصل إلى الأشكال الأقدم من هذه النصوص وذلك لكي لا يكون ثمة ولو أدنى ذرة من الشك فيما يتعلق بقراءتهما الأقدم . مواضع التباين الثلاثين ألفا التي ذكرها مِلّ ستكون شيئا أخرقا غير ذي صلة بتلك التي سنحصل عليها تحت سلطان النص. فلسفة هذا المنهج بسيطة : لو كان جيروم ،في الواقع، قد استخدم أفضل المخطوطات اليونانية المتاحة له لتنقيح ما بين يديه من نصوص ،إذن فبمقارنة المخطوطات الأقدم من الفولجاتا ( بهدف التثبت من نص جيروم الأصلي) بالمخطوطات الأقدم من العهد الجديد اليوناني ( لمعرفة أيها استخدمه جيروم )، فسيكون بوسع أحدنا تحديد ما كانت عليه أفضل النصوص في عصر جيروم ـ وتخطي أكثر من ألف عام من نقل النصوص التي تغير النص خلالها مرارًا وتكرارًا. فوق ذلك ،وحيث إن نص جيروم كان هو النص ذاته الذي كان لدى سابقه أوريجانوس ، فإن المرء سيكون بوسعه أن يطمئن تماما أن هذا كان أفضل نص موجود في القرون الأولى للمسيحية على الإطلاق . وهكذا ، استشف "بنتلي" ما كان استنتاجا لا مفر منه حسب وجهة نظره:
من خلال أخذ ألفي خطأ من الفولجاتا الباباويّة ،و نفس المقدار من نسخة البابا البروتستانتي ستيفانس (أي نسخة ستيفانوس أو النص المستلم )،يمكنني أن أصدر منهما نسخة في عمودين ،من غير استخدام أيّ كتاب يرجع تاريخه إلى ما هو أدنى من تسعة قرون ،وهو ما سيتوافق تماما كلمة بكلمة ،و نسق بنسق ،وهو الأمر الذي أصابني بالدهشة في أول الأمر ، إلى درجة أن لن يكون ثمة وثيقتان أو سجلان متوافقان على نحو أفضل منهما (9).
ومن خلال إنفاقه المزيد من الوقت في مقارنة المخطوطات وفي فحص المقارنات التي قام بها الآخرون ،زادت ثقة بنتلي في قدرته على القيام بالمهمة ، وعلى القيام بها على وجهها الصحيح ، وعلى القيام بها مرة واحدة وللأبد . في 1720 نشر بنتلي بحثا موجزا (pamphlet) تحت عنوان مقترحات للطباعة (Proposals for Printing) صممه لحشد الدعم لمشروعه عبر الحصول على عددٍ من الداعمين الماليين. في هذا الكتيب يضع منهجه المقترح الذي يهدف إلى إعادة بناء النص و يجادل حول صحته منقطعة النظير .
يؤمن المؤلف أنه استعاد الأعداد الصحيحة (باستثناءا القليل جدا من المواضع) التي كانت في نسخة أوريجانوس . . . وهو على يقين من أنه بواسطة المخطوطات اليونانية واللاتينية ،عبر الاعتماد على مساعدتهما معًا،سيقوم بإعادة النص الأصلي إلى دقَّته الأولى ،بشكل لا يمكن أن يقوم بمثله الآن أي مؤلف كلاسيكي مهما كان: وأنه من متاهةالقراءات الثلاثين ألفا المتباينة التي تزدحم بها صفحات أفضل نسخنا الموجودة في الوقت الحاضر ،الجميع يضعون رهانهم بشكل متساوٍ على أخطاء كثير من الأشخاص الصالحين؛ مفتاح اللغز هذا سيكون قائدا و منقذا لنا إلى درجة أنه من بين هذه الآلاف المؤلفة من القراءات المتباينة لن يكون مستحقا للاهتمام سوى مائتي قراءة على الأكثر (10).
تخفيض القراءات المتباينة الكثيرة من آلاف "مِل" الثلاثين إلى مائتين قراءة فحسب من الواضح أنه تقدم ملحوظ . لم يكن الجميع ،مع ذلك ،على يقين من أن بنتلي كان بوسعه أن ينتج بضاعته .في مقال مجهول المؤلف كتب ردا على الاقتراحات( لقد كان عصرا ذهبيا للمجادلين ومؤلفوا الأبحاث الموجزة (pamphleteers))،ناقش مؤلِّفُه بحث بنتلي فقرة بفقرة. لقد تعرض بنتلي للهجوم من أجل منهجه وقيل عنه ،على لسان خصمه المجهول ،إنه لا يملك "لا الموهبة ولا المادة الصالحة لعمله الذي كان قد آل على نفسه القيام به (11)."
اعتبر بنتلي هذا الهجوم ،كما قد يتصور المرء،وصمة على جبين مواهبه العظيمة التي يفتخر بها وأجاب بالطريقة ذاتها . لكنه وللأسف ،أخطأ في تحديد شخصية خصمه ،الذي كان في الواقع عالم من كمبريدج يدعى "كانيارز ميدلتون" ، حيث ظنه "جون كولباتش" ، فكتب ردًا حادًّا ، ذكر فيه اسم "كولباتش" و ،كما كان الأسلوب في هذه الأزمنة ،وجه إليه بعض الإهانات . مثل هذه الأبحاث الجدالية الموجزة يندر أن يكون لها وجود في عصرنا الحالي الذي يتميز بمؤلفاته الجدلية رقيقة الأسلوب؛أما تلك الأيام البعيدة ،فلم يكن هناك شئ من الرقة خاصة فيما يتعلق بالشعور الشخصي بالظلم . يعلق بنتلي قائلا:" لسنا بحاجة للذهاب إلى أبعد من هذه الفقرة كنموذج لسوء القصد و الوقاحة العظيمين ،الذان سادا ما خطه مؤلف تافه من خفافيش الظلام على الورق (12) . وفي كل موضع من رده يقدم بنتلي عددًا من الإهانات شديدة القسوة ،داعيًا "كولباتش"(الذي لم يكن له علاقة في حقيقة الأمر بالبحث المعنيّ) بالمغفل ،الحشرة،الدودة ،النغفة ،الشخص المؤذي ،الفأر القارض ،الكلب النابح ،السارق الجاهل ،الدجال (13). آه ، يالها من أيام .
وعندما أحيط بنتلي علمًا بالهوية الحقيقية لخصمه ،شعر بالطبع بالقليل من الإحراج لمهاجمته الشخص الخطأ ،إلا أنه واصل دفاعه عن نفسه ، والجانبان كلاهما كانا ما يزال في جعبتهما الكثير من السهام . هذا الدفاع أعاق العمل ذاته ،بطبيعة الحال ، كما فعلت عوامل أخرى بما فيها التزامات بنتلي الشاقة كونه عميدًا لكليته في جامعة كامبردج و مشاريعه الكتابية الأخرى ،وعوائق أخرى مثبطة تشمل فشله في الحصول على إعفاء من تكاليف استيراد الورق الذي أراد استخدامه في إصدار النسخة . في النهاية ، اقتراحاته لطباعة العهد الجديد اليوناني ، بأقدم النصوص التي يمكن الوصول إليها وليس بتلك الخاصة بالمخطوطات اليونانية التالفة المتأخرة (مثل تلك المبني عليها النص المستلم Textus Receptus )لم تسفر عن شئ . بعد موته ، اضطر ابن أخيه إلى إعادة الأموال التي كان قد جمعها بالاكتتاب ،مسدلا الستار على المسألة برمتها .
يتبـــــــــع بإذن اللـــــــه

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22