عرض مشاركة واحدة
قديم 22-06-2014 ~ 07:20 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي الفوائد للامام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


للامام, محمد, لجنة, الله, الجليل, الدين, الفوائد

الفوائد
للامام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب
الزرعي
المعروف بابن القيّم
تحقيق
ماهر منصور عبد الرزاق كمال علي الجمل
مدرّس الحديث وعلومه مدرّس الحديث المساعد
جامعة الأزهر

قال الشيخ الامام, محي السنّة قامع البدعة, أبو عبد الله الشهير بابن القيّم الجوزيّة رحمه الله ورضي عنه :
******************
[1] قاعدة جليلة
الانتفاع بالقرآن وشروطه
اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألف سمعك, ,احضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه اليه, فانّه خطاب منه لك, على لسان رسوله, قال تعال:{ انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}. سورة ق 37.
وذلك أن تمام التأثير لمّا كان موقوفا على مؤثر مقتض, ومحل قابل, وشرط لحصول الأثر, وانتقاء المانع الذي يمنع منه, تضمّنت الآية بيان ذلك كلّه بأوجز لفظ وأبينه, وادلّه على المراد.
فقوله تعالى:{ انّ في ذلك لذكرى} اشارة الى ما تقدّم من أوّل السورة الى ها هنا وهذا هة المؤثّر.
وقوله:{ لمن كان له قلب} فهذا هو المل القابل, والمراد به القلب الحيّ الذي يعقل عن الله, كما قال تعالى:{ ان هو الا ذكر وقرآن مبين.لينذر من كان حيّا} يس 69-70 . أي حي القلب.
وقوله: {أو ألقى السمع} أي وجّه سمعه وأصغى حاسّة سمعه الى ما يقال له, وهذا شرط التأثّر بالكلام.
وقوله: {وهو شهيد} أي شاهد القلب حاضر غير غائب.
قال ابن قتيبة: " استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم, ليس بغافل ولا ساه". وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير, وهو سهو القلب, وغيبته عن تعقّل ما يقال له, والنظر فيه وتأمّله. فاذا حصل المؤث وهو القرآن, والمحل القابل وهو القلب الحي, ووخد الشرط وهو الاصغاء, وانتقى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب, وانصرافه عنه الى شئ آخر, حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكّر.
فان قيل: اذا كان التأثير انما يتم بمجموع هذه, فما وجه دخول أداة "أو" في قوله "أو ألقى السمع", والموضع موضع واو الجمع لا موضع "أو" التي هي لأحد الشيئين.
قيل: هذا سؤال جيّد والجواب عنه أن يقال: خرج الكلام ب"أو" باعتبار حال المخاطب المدعو
, فان من الناس من يكون حي القلب واعيه, تام الفطرة, فاذا فكّر بقلبه, وجال بفكره, دلّه قلبه وعقله على صحّة القرآن, وأنه الحق, وشهد قلبه بما أخبر به القرآن, فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة, وهذا وصف الذين قيل فيهم: ويرى الذين أؤتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق} سبأ 6. وقال في حقّهم:{ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زستونة لا شرقيّة ولا غربيّة, يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكلّ شئ عليم}النور 35.
فهذا نور الفطرة على نور الوحي, وهذا حال صاحب القلب الحيّ الواعي.
قال ابن القيّم: وقد ذكرنا ما تضمّنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب "اجتماع الجيوش الاسلامية لغزو المعطّلة والجهميّة" ص 7-8. فصاحب القلب يجمع بين قلبه وببن معاني القرآن, فيجدها كأنها قد كتبي فيه, فهو يقرؤها عن ظهر قلب. ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد, واعي القلب, كامل الحياة, فيحتاج الى شاهد يميّز له بين الحق والباطن, ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وذكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الواعي الحي, فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام, وقلبه لتأمّله, والتفكر فيه, وتعقل معانيه, فيعلم حينئذ أنه الحق.
فالأول: حال من رأى بعينه ما دعى اليه وأخبر به. والثاني: من علم صدق المخبر وتيقّنه, وقال يكفيني خبره, فهو في مقام الايمان, والأوّل من مقام الاحسان. وهذا قد وصل الى علم اليقين, وترق قلبه منه الى منزلة عين اليقين, وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الاسلام.
فعين اليقين نوعان: نوع في الدنيا, ونوع في الآخرة, فالحاصل في الدنيا نسبته الى القلب كنسبة الشاهد الى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار, وفي الدنيا بالبصائر, فهو عين اليقين في المرتبتين.
[2] سورة (ق) جامعة لأصول الايمان
وقد جمعت هذه السورة من أصول الايمان ما يكفى ويشفى, ويغني عن كلام أهل الكلام, ومعقول أهل المعقول, فانها تضمّنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة والايمان بالملائكة, وانقسام الناس الى هالك شقي, وفائز سعيد, وأوصاف هؤلاء وهؤلاء. وتضمّنت اثبات صفات الكمال لله, وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب. وذكر فيها القيامتان الكبر والصغرى, والعالمين: الأكبر, وهو عالم الآخرة, والأصغر وهو عالم الدنيا. وذكر فيها خلق الانسان ووفاته واعادته, واحاطته سبحان به من كل وجه, حتى علم بوساوس نفسه, واقامة الحفظة عليه, يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها, وأنه يوافيه يوم القيامة, ومعه سائق يسوقه اليه, وشاهد يشهد عليه, فاذا أحضره الشاهد قال: {هذا ما لديّ عتيد},ق 23. أي هذا الذي أمرت باحضاره قد أحضرته, فيقال عند احضاره:{ ألقيا في جهنّم كلّ كفّار عنيد}, ق24. كما يحضر الجاني الى حضرة السلطان فيقال: هذا فلان قد أحضرته, فيقول: اذهبوا به الى السجن وعاقبوه بما يستحقّه.
وتأمّل كيف دلّت السورة صريحا على أن الله سبحانه وتعالى يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى, فينعمه ويعذّبه, كما ينعم الروح التي آمنت بعينها, ويعذّب التي كفرت بعينها, لا أنه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قال من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل, حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه, عليه يقع النعيم والعذاب, والروح عندهم عرض من أعراض البدن, فيخلق روحا غير هذه الروح, وبدنا غير هذا البدن وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودلك عليه القرآن والسنّة وسائر كتب الله تعالى .
وهذا في الحقيقة انكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين, فانهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها, كيف وهم يشهدون النوع الانساني يخلق شيئا بعد شئ! فكل وقت يخلق الله سبحانه أرواحا وأجساما غير الأجسام التي فنيت, فكيف يتعجّبون من شئ يشاهدونه عيانا؟ وانّما تعجّبوا بعودتهم بأعيانهم بعد أن مزّقهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا, فتعجّبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء, لهذا قالوا :{ أئذا متنا وكنّا ترابا أئنّا لمبعوثون} الصافت16. وقالوا: {ذلك رجع بعيد} ق 3.
ولو كان الجزاء انما هو لأجسام غير هذه, لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا, بل يكون ابتداء, ولم يكن لقوله:{ قد علمنا من تنقص الأرض منهم},ق4. كبير معنى. فانه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدّر, وهو: انّه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت الى العناصر بحيث لا تتميّز, فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم, وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء, فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرّقها وتأليفها خلقا جديدا, وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه, وكمال قدرته, وكمال حكمته, فان شبه المنكرين له كلها تعود الى ثلاثة أنواع:
(أحدها): اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميّز ولا يحصل معه تميز شخص عن شخص آخر.
(الثاني): أن القدرة لا تتعلّق بذلك.
(الثالث): أن ذلك أمر لا فائدة فيه, أو أن الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الانساني شيئا بعد شئ, هكذا أبدأ, كلما مات جيل خلفه جيل آخر. فأمّا أن يميت النوع الانساني كله ثم يحييه فلا حكمة في ذلك.
[3] براهين المعاد في القرآن مبنيّة على أصول ثلاث
(أحدها) تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال:{ من يحي العظام وهي رميم.قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهوبكل خلق عليم}يس 78-79. وقال:{ وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل.انّ ربك هو الخلاّق العليم.}الحجر 85-86. وقال:{قد علمنا ما تنقص الأرض منهم}ق 4.
(والثاني) تقرير كمال قدرته كقوله:{ أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} يس81. وقوله:{ بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} القيامة 4. وقوله:{ ذلك بأن الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وأنّه على كل شئ قدير}الحج6.
ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله:{ أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم}يس81.
الثالث: كمال حكمته كقوله:{ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين}الدخان 38. وقوله:{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا}ص 27. وقوله:{ أيحسب الانسان أن يترك سدى} القيامة 36. وقوله:{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا ترجعون. فتعالى الله الملك الحق}المؤمنون 115-116. وقوله:{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}الجاثية 21.
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع, وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه, وأنه منزّه عمّا يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنواقص.
ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لمّا كذبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم {فهم في أمر مريج} ق5. مختلط لا يحصلون منه على شئ.
ثم دعاهم الى النظر في العالم العلوي وبنائه وارتفاعه واستوائه وحسنه والتئامه, ثم الى العالم السفلي وهو الأرض, وكيف بسطها وهيّأها بالبسط لما يراد منها وثبّتها بالجبال وأودع فيها المنافع وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته, وأن ذلك تبصرة اذا تأمّلها العبد المنيب وتبصّر بها تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد, فالناظر فيها يتبصّر أولا, ثم يتذكر ثانيا, وأن هذا لايحصل الا لعبد منيب الى الله بقلبه وجوارحه.
ثم دعاهم الى التفكّر في مادة أرزاقهم وأقواتهم وملابسهم ومركبهم وجناتهم وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه, حتى أنبتت به جنّات مختلفة الثمار والفواكه, ما بين أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض, وبين ذلك مع اختلاف منافعها وتنوّع أجناسها, وأنبتت به الحبوب كلها على تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها وأشكالها ومقاديرها. ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفى على المتأمل: { فأحيا به الأرض بعد موتها} البقر164, ثم قال:{ كذلك الخروج} ق 11. أي مثل هذا الاخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب: خروجكم من الأرض بعد ما غيّبتم فيها.
وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم" أنظر أعلام الموقعين عن رب العالمين. بيّنا ما فيها من الأسرار والعبر.
ثم انتقل سبحانه الى تقرير النبوّة بأحسن تقرير, وأوجز لفظ, وأبعده عن كل شبهة وشك, فأخبر أنه أرسل الى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون رسلا فكذّبوهم, فأهلكهم بأنواع الهلاك, وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله ان لم يؤمنوا, وذا تقرير لنبوّة من أخبر بذلك عنهم, من غير أن يتعلّم من معلّم ولا قرأه في كتاب, بل أخبر به اخبارا مفصّلا مطابقا لما عند أهل الكتاب.
ولا يرد على هذا الا سؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات, بأنه لم يكن شئ من ذلك, أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم, وصاحب هذا السؤال يعلممن نفسه أنه باهت مباهت جاحد لما شهد به العيان, وتناقلته القرون قرنا بعد قرن, فانكاره بمنزلة انكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية.
ثم عاد سبحانه الى اقرار المعاد بقوله: { أفعيينا بالخلق الأوّل} ق15, يقال لكل من عجز عن شئ: عيي به فلان بهذا الأمر, قال الشاعر
عيوا بأمرهم, كما
عيت ببيضتها الحمامة
ومنه قوله تعالى:{ ولم يعيَ بخلقهن}الأحقاف33. قال ابن عبّاس : يريد أفعجزنا, وكذلك قال مقاتل.
قلت: هذا تفسير بلازم اللفظة, وحقيقتها أعم من ذلك, فان العرب تقول: أعياني أن أعرف كذا وعييت به اذا لم تهتد لوجهه ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول: أعياني دواؤك اذا لم تهتد له, ولم تقف عليه. ولازم هذا المعنى العجز عنه. والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى, فان الحمامة لم تعجز عن بيضتها, ولكن أعياها اذا أرادت أن تبيض أين ترمي بالبيضة, فهي تدور وتجول حتى ترمي بها, فاذا باضت أعياها أين تحفظها وتودعها حتى لا تنال, فهي تنقلها من مكان الى مكان وتحار أين تجعل مقرّها, كما هو حال من وعى بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه, وليس المراد بالاعياء في هذه الآية التعب, كما يظنّه من لم يعرف تفسير القرآن, بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله: {وما مسّنا من لغوب} ق38.
ثم أخبر سبحانه أنّهم:{ في لبس من خلق جديد} ق15. أي أنهم التبس عليهم اعادة الخلق خلقا جديدا, ثم نبههم على ما هو أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيّته وأدلة المعاد وهو خلق الانسان, فانه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد.
وأي دليل أوضح من تركيب الصورة الآدميّة بأعضائها وقواها وصفاتها, وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والارادات والصناعات, كل ذلك من نطفة ماء.
فلو أنصف العبد لاكتفى بفكره في نفسه, واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته.
ثم أخبر سبحانه عن احاطة علمه به, حتى علم ما توسوس به نفسه, ثم أخبر عن قربه اليه بالعلم والاحاطة وأن ذلك أدنى اليه من العرق الذي داخل بدنه, فهو أقرب اليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق.
وقال شيخنا وهو شيخ الاسلام بن تيمية: المراد بقول "نحن" ونحن أقرب اليه من حبل الوريد ,أي ملائكتنا, كما قال: {فاذا قرأناه فاتبع قرآنه}القيامة18. أي اذا قرأه عليك رسولنا جبريل. قال: ويدل عليه قوله: {اذ يتلقّى المتلقّيان} ق17. فقيد القرب المذكور بتلقّي الملكين, فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطّل.
ثم أخبر سبحانه أن على شماله ويمينه ملكين يكتبان أعماله وأقواله, ونبه باحصاء الأقوال وكتابتها على كتابة الأعمال, التي هي أقل وقوعا, وأعظم أثرا من الأقوال, وهي غايات الأقوال ونهايتها.
[4] القيامة قيامتان: صغرى وكبرى
ثم أخبر عن القيامة الصغرى, وهي سكرة الموت, وأنها تجيء بالحق, وهو لقاؤه سبحانه وتعالى, والقدوم عليه, وعرض الروح عليه, والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى.
ثم ذكر القيامة الكبرى بقوله: {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} ق20. ثم أخبر عن أخبار الخلق في هذا اليوم, وأن كل أحد يأتي الله سبحانه وتعالى ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه, وشهيد يشهد عليه, وهذا غير جوارحه, وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه, وغير شهادة رسوله والمؤمنين.
فان الله سبحانه وتعالى يستشهد على العباد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر, والجلود التي عصوه بها, ولا يحكم بينهم بمجرّد علمه, وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من اقرارهم, وشهادة البيّنة, لا بمجرّد علمه من غير بيّنة ولا اقرار؟ ثم أخبر سبحانه أن الانسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بأن لا يغفل عنه, وأن لا يزال على ذكره وباله, وقال:{ في غفلة من هذا}ق22, ولم يقل عنه, كما قال:{ وانهم لفي شك منه مريب}هود22, ولم يقل في شك فيه, وجاء هذا في المصدر وان لم يجئ في الفعل فلا يقال غفلت منه ولا شككت منه كأن غفلته وشكه ابتداء منه, فهو مبدأ غفلته وشكّه, وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه وشك فيه, فانه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشأهما مبدأ للغفلة والشك. ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عن ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ, وعن العين فتنفتح. فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه.
ثم أخبر سبحانه أن قرينه, وهو الذي قرن به في الدنيا من الملائكة, يكتب عمله. وقوله يقول لمّا يحضره: هذا الذي كنت وكّلتني به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به, هذا قول مجاهد.
وقال ابن قتيبة: المعنى: هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي. والتحقيق أن الآية تتضمّن الأمرين, أي هذا الشخص الذي وكلت به وهذا عمله الذي أحصيت عليه. فحينئذ قال:{ ألقيا في جهنّم}ق24, وهذا اما أن يكون خطابا للسائق والشهيد, أو خطابا للملك الموكل بعذابه وان كان واحدا. وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها, أو تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة, ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.
ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات:
(أحدها) أنه كفار لنعم الله وحقوقه, كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته, كفّار برسله وملائكته, كفار بكتبه ولقائه.
(الثانية) أنه معاند للحق يدفعه جحدا وعنادا.
(الثالثة) أنه مناع للخير, وهذا يعم منعه للخير الذي هو احسان الى نفسه من الطاعات والقرب الى الله والخير الذي هو احسان الى الناس, فليس فيه خير لنفسه, ولا لبني جنسه كما هو حال أكثر الخلق.
(الرابعة) أنه مع منعه للخير معتد على الناس, ظلوم غشوم معتد عليهم بيده ولسانه.
(الخامسة) أنه مريب, أي صاحب ريب وشك, ومع هذا فهو آت لكل ريبة, يقال: فلان مريب, اذا كان صاحب ريبة.
(السادسة) أنه مع ذلك مشرك بالله, قد اتّخذ مع الله الها آخر يعبده, ويحبه, ويغضب له, ويرضى له, ويحلف باسمه, وينذر له, ويوالي فيه, ويعادي فيه, فيختصم هو وقرينه من الشيطان, ويحيل الأمر عليه, وأنه هو الذي أطغاه وأضله. فيقول قرينه: لم يكن لي قوّة أن أضلّه وأطغيه, ولكن كان في ضلال بعيد, واختاره لنفسه, وآثره على الحق, كما قال ابليس لأهل النار: {وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي} ابراهيم 22.
وعلى هذا, فالقرين هنا هو شيطانه, يختصمان عند الله. وقالت طائفة: بل قرينه ها هنا هو الملك, فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى, وأنه لم يفعل ذلك كله, وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة, ولم يمهله حتى يتوب, فيقول الملك: ما زدت في الكتابة على ما عمل ولا أعجلته عن التوبة: {ولكن كان في ضلال بعيد} ق27. فيقول الرب تعالى:{ لا تختصموا لدي}ق28. وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه في سورتي [الصافّات] 27-38, و [الأعراف]37-39. وأخبر عن اختصام الناس بين يديه في سورة [الزمر]56-60. وأخبر عن اختصام أهل النار فيها في سورة [الشعراء] 96-104, وسورة [ص] 59-65.
ثم أخبر سبحانه أنه لا يبدّل القول لديه, فقيل: المراد بذلك قوله:{ لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين}هود119. ووعده لأهل الايمان بالجنة, وأن هذا لا يبدل ولا يخلف. قال ابن عبّاس: يريد ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا أهل معصيتي. قال مجاهد: قد قضيت ما أنا قاض. وهذا أصح القولين في الآية.
وفيها قول آخر: ان المعنى ما يغيّر القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغيّر عند الملوك والحكّام. فيكون المراد بالقول قول المختصمين, وهو اختيار الفراء وابن قتيبة, قال الفراء: المعنى مايكذب عندي لعلمي بالغيب. وقال ابن قتيبة: أي ما يحرف القول عندي ولا يزاد فيه ولا ينقص منه. قال: لأنه قال القول عندي, ولم يقل قولي, وهذا كما قال لا يكذب عندي. فعلى القول الأوّل يكون قوله:{ وما أنا بظلاّم للعبيد} ق29, من تمام قوله: {ما يُبدّل القول لديّ} ق29. في المعنى, أي ما قلته ووعدت به لا بد من فعله. ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور. وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين.
أحدهما: أن كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه.
والثاني: أن كمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده.
ثم خبّر عن سعة جهنّم وأنها كلّما ألقى فيها فوج: {وتقول هل من مزيد}ق30. وأخطأ من قال ان ذلك للنفي, أي ليس من مزيد, والحديث الصحيح يردّ هذا التأويل. الحديث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم: "يلقى في النار وتقول هل من مزيد, حتى يضع قدمه فتقول:قط قط" البخاري 8\460 رقم 4848,4849 وكذلك في صحيح مسلم. وعن أبي هريرة يرفعه," يقال لجهنّم هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط".
[5] الصفات الأربع لأهل الجنّة
ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين, وأن أهلها اتصفوا بهذه الصفات الأربع:
(الأولى) أن يكون اوّابا, أي رجّاعا الى الله من معصيته الى طاعته, ومن الغفلة عنه الى ذكره.
قال عبيد بن عمير: الأوّاب الذي يتذطر ذنوبه ثم يستغفر منها.وقال مجاهد: هو الذي اذا ذكر ذنبه في الخفاء استغفر منه. زقال سعيد بن المسيّب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب.
(الثانية) قال ابن عبّاس: أن يكون حفيظا لما ائتمنه الله عليه وافترضه. وقال قتادة: حافظ لما استودعه الله من حقّه ونعمته.
ولما كانت النفس لها قوّتان: قوة الطلب وقوة الامساك, كان الأواب مستعملا لقوة الطلب في رجوعه الى الله ومرضاته وطاعته. والحفيظ مستعملا لقوة الحفظ في الامساك عن معاصيه ونواهيه.
فالحفيظ الممسك نفسه عما حرم عليه, والأوّاب المقبل على الله بطاعته.
(الثالثة) قوله:{ من خشي الرحمن بالغيب ق33, يتضمن الاقرار بوجوده وربوبيته وقدرته وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد. ويتضمن الاقرار برسله وكتبه وأمره ونهيه. ويتضمن الاقرار بوعده ووعيده ولقائه, فلا تصح خشية الرحمن بالغيب الا بعد هذا كله.
الرابعة: قوله {وجاء بقلب منيب}ق33. قال ابن عباس: راجع عن معاصي الله, مقبل على طاعة الله. وحقيقة الانابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والاقبال عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله:{ ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}ق 34و35.
ثم خوّفهم بأنه يصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبلهم وأنهم كانوا أشد منهم بطشا ولم يدفع عنهم الهلاك شدّة بطشهم, وأنهم عند الهلاك تقلّبوا وطافوا في البلاد, وهل يجدون محيصا ومنجى من عذاب الله؟.
قال قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركا. وقال الزجاج: طوّفوا وفتشوا فلم يروا محيصا عن الموت. وحقيقة ذلك أنهم طلبوا المهرب من الموت فلم يجدوه.
ثم أخبر سبحانه أن في هذا الذي ذكر:{ لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}ق37.
ثم أخبر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ولم يمسه تعب ولا اعياء, وتكذيبا لأعدائه اليهود, حيث قالوا انه استراح في اليوم السابع.
ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه وتعالى في الصبر على ما يقول أعداؤه فيه, كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود انه استراح: "ولا أحد أصبر على أذى يسمعه منه".جزء من حديث أخرجه البخاري في الأدب 10/527 رقم 6099, ومسلم في صفات المنافقين 4/2160رقم 51, وأحمد في المسند 4/395, 401,405 جميعا من حديث ابي موسى الأشعري.
ثم أمره بما يستعين به على الصبر وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وبالليل وأدبار السجود. فقيل هو الوتر. وقيل: الركعتان بعد المغرب. والأول قول ابن عباس, والثاني قول عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي واحدى الروايتين عن ابن عباس. وعن ابن عباس رواية ثالثة أن التسبيح باللسان أدبار الصلوات المكتوبات.
ثم ختم السورة بذكر المعاد, ونداء المنادي برجوع الأرواح الى أجسادها للحشر. وأخبر أن هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد:{ يوم يسمعون الصيحة بالحق} ق42, بالبعث ولقاء الله:{ يوم تشقق الأرض عنهم} كما تشقق عن النبات, فيخرجون: {سراعا} من غير مهلة ولا بطء: ذلك حشر يسير عليه سبحانه.
ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه عالم بما يقول أعداؤه, وذلك يتضمّن مجازاته لهم بقولهم اذا لم يخف عليه, وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء.
ثم أخبره أنه ليس بمسلط عليهم ولا قهّار ولم يبعث ليجبرهم على الاسلام ويكرههم عليه, وأمره أن يذكر بكلامه من يخاف وعيده فهو الذي ينتفع بالتذكير, وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه, فلا ينتفع بالتذكير.
[6] فائدة
فضيلة لأهل بدر
قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:" وما يدريك أن الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" البخاري في المغازي باب غزوة الفتح 7\592 (4274), ومسلم في باب فضائل الصحابة باب من فضل أهل بدر 4\1941, أبو داود, والترمذي وأحمد من حديث الامام علي, وومن حديث أبو هريرة ,الدرامي في الرقاق باب أهل بدر 2\404 رقم 2761, وأحمد في المسند 2\109., أشكل على كثير من الناس معناه, فان ظاهره اباحة مل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاؤوا منها, وذلك ممتنع. ليس المراد من قوله "اعملوا" الاستقبال, وانما هو للماضي, وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته: قال: ويدل على ذلك شيئان:
(أحدهما): أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله: فسأغفر لكم.
(والثاني): أنه كان يكون اطلاقا في الذنوب ولا وجه لذلك.
وحقيقة هذا الجواب اني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم, لكنه ضعيف من وجهين:
(أحدهما) أن لفظ "اعملوا" يأباه, فانه للاستقبال دون الماضي. وقوله" قد غفرت لكم" لا يوجد أن يكون "اعملوا " مثله: فان قوله:" قد غفرت" تحقيق لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله: {أتى أمر الله} النحل1, و{جاء ربّك}الفجر 22. ونظائره.
(ثانيهما) أن الحديث نفسه يردّه, فان سببه قصّة حاطب وتجسسه على النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك ذنب وقع بعد غزوة بدر لا قبلها, وهو سبب الحديث, فهو مراد منه قطعا, فالذي نظن في ذلك, والله أعلم أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه وتعالى أنّهم لا يفارقون دينهم, بل يموتون على الاسلام, وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب, ولكن لا يتركهم سبحانه مصريّن عليها, بل يوفّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو اثر ذلك. ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لأن قد تحقق ذلك فيهم, وأنهم مغفور لهم. ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم, كما لا يقتضي ذلك أن يعطّلوا الفرائض وثوقا بالمغفرة, فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتجوا بعد ذلك الى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد, وهذا محال.
ومن أوجب الواجبات التوبة بعد ذلك, فضمان المغفرة لا يتوجّب تعطيل أسباب المغفرة, ونظير هذا قوله في حديث آخر: "أذنب عبد ذنبا فقال: أى رب أذذنبت ذنبا فاغفر لي, فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال, رب أصبت ذنبا فاغفر لي فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال: رب أصبت ذنبا فاغفر لي, فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء" البخاري باب التوحيد 13\474 رقم 7507, ومسلم في التوبة باب قبول التوبة من الذنوب 3\2112 رقم29 وأحمد في المسند, ,أبو يعلى,من حديث ابو هريرة. فليس في هذا اطلاق واذن منه سبحانه له في المحرّمات والجرائم, وانما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك اذا أذنب تاب.
واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب, وأنه كلما أذنب تاب, حكم يعم كل من كانت حالته حاله, لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما هو مقطوع لأهل بدر.
وكذلك من بشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له, لم يفهم منه ولا غيره من الصحابة اطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات, بل كانوا هؤلاء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها, كالعشرة المشهود لهم بالجنة.
وقد كان الصديّق شديد الحذر والمخافة, وطذلك عمر, فانهم علموا أنهم البشارة المطلقة مقيّدة بقيود الاستمرار عليها الى الموت, ومقيّدة بانتفاء موانعها, ولم يفهم أحد منهم من ذلك الاطلاق, الاذن فيما شاؤوا من الأعمال.
[7] فائدة
نظرة صائبة في تفسير قوله تعالى:
{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور}الملك51
أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولا منقادة للوطئ عليها وحفرها وشقّها والبناء عليها, ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها. وأخبر سبحانه أنه جعلها مهادا وبساطا وفراشا وكفاتا (بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم من قول الشعبي). وأخبر أنه دحاها (أخرج منها الماء) وطجاها وأخرج منها ماءها ومرعاها, وثبّتها بالجبال, ونهج فيها الفجاج (الطريق الواسع بين الجبلين) والطرق, وأجرى فيها الأنهار والعيون, وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها,ومن بركتها أن الحيوانات كلها وأقواتها وأرزاقها تخرج منها. ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها, فتوارى منه كل قبيح وتخرج له كل مليح. ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها وتضمّه وتؤويه, وتخرج له طعامه وشرابه, فهي أحمل شئ للأذى وأعوده بالنفع, فلا كان من التراب خيرا منه ولا أبعد عن الأذى منه وأقرب من الخير.
والمقصود أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يقاد ينقاد. وحسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجا لما تقدّم من وصفها بكونها ذلولا, فالماشي عليها يطأ على مناكبها وهو أعلى شئ فيها, ولهذا فسرت المناكب بالجبال كمناكب الانسان وهي أعاليه.
قالوا:وذلك تنبيه على أن المشى في سهولها أيسر.
وقالت طائفة: بل المناكب الجوانب والنواحي, ومنه مناكب الانسان لجوانبه, والذي يظهر أن المراد بالمنكب الأعالي. وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من الأرض دون الوجه المقابل له, فان سطح الكرة أعلاها, والمش انما يقع في سطحها, وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقدّم من وصفها بأنها ذلول.
ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها, فذلّلها لهم ووطّأها, وفتق فيها السبل والطرق التب يمشون فيها, وأودعها رزقهم فذكر تهيئة المسكن للانتفاع والتقليب فيها بالمجئ والذهاب, والأكل مما أودع فيه للساكن. ثم نبّه بقوله:{ واليه النشور} الملك 15, على أنّا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين بل دخلناه عابري سبيل فلا يحسن أن نتخذه وطنا ومستقرّا, وانما دخلناه لنتزوّد منه الى دار القرار, فهو منزل عبور لا مستقر حبور (سرور), ومعبر وممر, ولا وطن مستقر.
فتضمّنت الآية الدلالة على ربوبيّته ووحدانيّته, وقدرته وحكمه ولطفه, والتذكير بنعمه واحسانه, والتحذير من الركون الى الدنيا, واتخاذها وطنا ومستقرا, بل نسرع فيها السير الى داره وجنّته.
فلله ما في ضمن هذه الآية من معرفته وتوحيده, والتذكير بنعمته, والحث على السير اليه, والاستعداد للقائه, والقدوم عليه, والاعلام بأنه سبحانه يطوي هذه الدار كأنها لم تكن, وأنه يحيى أهلها بعدما أماتهم واليه النشور.
[8] فائدة
نظرة الى سورة الفاتحة
للانسان قوتان: قوة علمية نظرية, وقوة عملية ادارية. وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والادارية. واستكمال القوة العلمية انما يكون بمعرفة فاطره وبارئه ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة الطريق التي توصل اليه ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها.
فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية. وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها. واستكمال القوة العملية الادارية لا يحصل الا بمراعات حقوقه سبحانه على العبد, والقيام بها اخلاصا وصدقا ونصحا واحسانا ومتابعة وشهودا لمنّته عليه, وتقصيره هو في أداء حقّه. فهو مستحيى من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه أنها دون ما يستحقّه عليه ودون ذلك.
وأنه لا سبيل له الى استكمال هاتين القوتين الا بمعونته. فهو يهديه الى الصراط المستقيم الذي هجى اليه أولياءه وخاصّت, وأن يجنّبه الخروج عن ذلك الصراط,, اما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال, واما بفساد في قوّته العملية فيوجب له الغضب.
فكمال الانسان وسعادته لا تتم الا بمجموع هذه الأمور, وقد تضمنّتها سورة الفاتحة وانتظمتها كمال انتظام. فان قوله تعالى:{ الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين}الفاتحة 2-4, يتضمّن الأصل الأوّل وهو معرفة الرب تعالى ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.
والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى, وهي اسم ( الله والرب والرحمن).
فاسم (الله) متضمّن لصفات الألوهيّة, واسم (الرب) متضمّن لصفات الربوبية, واسم (الرحمن) متضمن لضفات الاحسان والجود والبر. ومعاني أسمائه تدور على هذا.
وقوله:{ إيّاك نعبد و إيّاك نستعين} الفاتحة5, يتضمّن معرفة الطريق الموصلة اليه, وأنها ليست الا عبادته وحده بما يحبّه ويرضاه, واستعانته على عبادته.
وقوله:{ اهدنا الصراط المستقيم}الفاتحة 6, يتضمّن بيان أن العبد لا سبيل له الى سعادته الا باستقامه على الصراط المستقيم, وأنه لا سبيل له الى الاستقامة على الصراط الا بهدايته. وقوله:{ غير المغضوب عليهم ولا الضالّين} الفاتحة7, يتضمّن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم, وأن الانحراف الى أحد الطرفين انحراف الى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد, والانحراف الى الطرف الآخر انحراف الى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل.
فأوّل السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على قدر حظّه من الهداية, وحظّه منها على قدر حظّه من الرحمة, فعاد الأمر كلّه الى نعمته ورحمته.
والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيّته, فلا يكون الا رحيما منعما وذلك من موجبات ألوهيّته, فهو الاله الحق, وان جحده الجاحدون وعدل به المشركون.
فمن تحقّق بمعاني الفاتحة علما ومعرفة وعملا وحالا فقد فاز من كماله بأوفر نصيب, وصارت عبوديّته عبوديّة الخاصّة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبّدين , والله المستعان.
[9] فائدة
لمعرفته تعالى طريقان
الرب يدعو عباده في القرآن الى معرفته من طريقين:
أحدهما : النظر في مفعولاته.
ثانيهما : التفكير في آياته وتدبّرها, فتلك آياته المشهودة وهذه آياته المسموعة المعقولة.
فالنوع الأوّل كقوله:{ انّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابّة وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} البقرة164.
وقوله:{ ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} آل عمران190, وهو كثير في القرآن.
والثاني كقوله:{ أفلا يتدبّرون القرآن} النساء82.
وقوله:{ أفلم يدّبّروا القول}المؤمنون68.
وقوله:{ كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدّبّروا آياته} ص29, وهو كثير في القرآن.
فأمّا المفعولات فانها دالّة على الأفعال, والأفعال دالّة على الصفات.
فان المفعول يدل على فاعل فعله, وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا ارادة.
ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوّعة دالّة على ارادة الفاعل, وأن فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحدا غير متكرر.
وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى.
وما فيها من النفع والاحسان والخير دال على رحمته.
وما فيها من البطش والانتقام والعقوبة دال على غضبه.
وما فيها من الاكرام والتقريب والعناية دال على محبّته.
وما فيها من الاهانة والابعاد والخذلان دال على بغضه ومقته.
وما فيها من ابتداء الشئ في غاية النقص والضعف ثم سوقه الى تمامه ونهايته دال على وقوع المعاد.
وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على امكان المعاد.
وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحّة النبوّات.
وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها.
فمفعولاته أدل شيء على صفاته وصدق ما أخبرت به الرسل عنه, فالمصنوعات شاهدة تصدق الآيات المسموعات, منبّهة على الاستدلا بالآيات المصنوعات. قال تعالى:{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّها الحق}فصّلت 53. أي أن القرآن حق فأخبر أنّه لا بد أن يريهم من آياته المشهودة ما يبيّن لهم أن آياته المتلوّة حق. ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدلائل والبراهين على صدق رسوله.
فآياته شاهدة بصدقه, وهو شاهد بصدق رسوله بآياته, فهو الشاهد والمشهود له, وهو الدليل والمدلول عليه. فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على ما هو دليل لي على كل شيء؟ فأي دليل طلبته عليه فوجوده أظهر منه.
ولهذا قال الرسل لقومهم:{ أفي الله شك} ابراهيم 10, فهو أعرف من كل معروف, وأبين من كل دليل.
فالأشياء عُرفت به في الحقيقة وان كان عُرف بها في النظر والاستدلال بأحكامه وأفعاله عليه.
[10] فائدة
كيف يفعل من أصابه هم أو غم
في المسند وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدا هم ولا حزن, فقال اللهم : اني عبدك, وابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماضى فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك, أسألك بكل اسم هم لك سمّت به نفسك, أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همّي وغمّي, الا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه فرحا".. قالوا يارسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال: "بلى, ينبغيلمن سمعهن أن يتعلّمهن".و صححه الألباني في الكلم ص81.
فتضمّن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبوديّة. منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: "اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك", وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته الى أبويه آدم وحوّاء, وفي ذلك تملّق (تودد وتلطّف) له واستخذاء بين يديه واعترافه بأنه مملوكه وآبائه مماليكه وان العبد ليس له باب غير باب سيّده وفضله واحسانه, وأن سيّده ان أهمله وتخلّى عنه هلك, ولم يؤوه أحد ولم يعطف عليه, بل يضيع أعظم ضيعة. وتحت هذا الاعتراف: أني لا غنى عنك طرفة عين, وليس لي أن أعوذ به وألوذ به غير سيّدي الذي أنا عبده, وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبّر مأمور منهي, انما يتصرّف بحكم العبوديّة لا بحكم الاختيار لنفسه.
فليس هذا في شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار.
وأمّا العبيد فتصرّفهم على محض العبوديّة فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون اليه سبحانه في قوله:{ انّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} الحجر 42, وقوله:{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} الفرقان63, ومن عداهم عبيد القهر والربوبية, فاضافتهم اليه كاضافة سائر البيوت الى ملكه, واضافة أولئك كاضافة البيت الحرام اليه, واضافة ناقته اليه وداره التي هي الجنة اليه, واضافة عبودية رسوله اليه بقول: { وأنّه لمّا قام عبد الله يدعوه}. الجن 19.
[11] من معاني العبوديّة
وفي التحقيق بمعنى قوله "اني عبدك" التزام عبوديته من الذل والخضوع والنابة, وامتثال أمر سيّده, واجتناب نهيه, ودوام الافتقار اليه, واللجوء اليه, والاستعانة به, والتوكّل عليه, وعياذ العبد به, ولياذه به, أن لا يتعلّق قلبه الا بغيره محبّة وخوفا ورجاء.
وفيه أيضا أني عبد من جميع الوجوه: صغيرا وكبيرا, حيّا وميّتا, مطيعا وعاصيا, معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح.
وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك, فان العبد وما يمتلك لسيّده.
وفيه أيضا انك أنت الذي مننت عليّ بكلّ ما أما فيه من نعمة فذلك كلّه من انعامك على عبدك.
وفيه أيضا اني لا أتصرّف فيما خوّلتني من مالي ونفسي الا بأمرك, كما لا يتصرّف العبد الا باذن سيّده, واني لا أملك لنفسي نقعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فان صحّ له شهود ذلك فقد قال لي اني عبدك حقيقة.
ثم قال" ناصيتي بيدك", أي أنت المتصرّف في تصرّفي كيف تشاء, لست أنا المتصرّف في نفسي.
وكيف يكون له في تصرّف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه, وموته وحياته وسعادته وشقاؤه وعافيته وبلاؤه كله اليه سبحانه, ليس الى العبد منه شيء, بل هو في تصرّف سيّده أضعف من مملوك ضعيف حقير, ناصيته بيد سلطان قاهر, مالك له تحت تصرّفه وقهره بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء, لم يخفهم بعد ذلك, ولم يرجهم, ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربزبين, المتصرّف فيهم سواهمو والمدبّر لهم غيرهم, فمن شهد نفسه بهذا المشهد, صار فقره وضرورته الى ربا وصفا لازما له, ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر اليهم, ولم يعلّقلاأمله ورجاءه بهم, فاستقام توحيده, وتوكّله وعبوديته. ولهذا قال هود لقومه:{ اني توكّلت على الله ربي وربّكم ما من دابّة الا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم} هود56.
وقوله :"ماض فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك" تضمّن هذا الكلام أمرين:أحدهما: مضاء حكمه في عبده.
ثانيهم: يتضمّن حكمه وعدله وهو سبحانه له الملك وله الحمد, وهذا معنى قول نبيّه هود:{ ما من دابّة الا هو آخذ بناصيتها}, ثم قال: {ان ربي على صراط مستقيم} أي مع كونه قاهرا مالكا متصرّفا في عباده, نواصيهم بيده فهو على صراط مستقيم.
وهو العدل الذي يتصرّف به فيهم فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره ونهيه وثوابه وعقابه.
فخبره كله صدق, وقضاؤه كلّه عدل, وأمره كله مصلحة, والذي نهى عنه كله مفسدة, وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله, ورحمته وعقابه لمن يستحق له العقاب بعله وحكمته.
[12] القضاء والحكم والفرق بينهما
وفرق بين الحكم ولبقضاء, وجعل المضاء للحكم, والعدل للقضاء, فان حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي, وحكمه الكوني القدري.
والنوعان نافذان في العبد ماضيان فيه, وهو مقهور تحت الحكممين, قد مضيا فيه, ونفذا فيه, شاء أم أبى, لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته, أما الديني الشرعي فقد يخالفه.
ولما كان القضاء هو الاتمام والاكمال, وذلك انما يكون بعد مضيه ونفوذه, قال:" عدل في قضاؤك" أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفّذته في عبدك عدل منك فيه.
أما الحكم فهو يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه, فان كان حكما دينيا فهو ماض في العبد, وان كان كونيا فان نفذه سبحانه مض فيه, وان لم ينفّذه اندفع عنه, فهو سبحانه يقضي ما يقضي به. وغيره قد يقضي بقضاء ويقدّر أمرا لا يستطيع تنفيذه. وهو سبحانه يقضي ويمضي فله القضاء والامضاء.
وقوله:" عدل في قضاؤك" يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه, من صحة وسقم, وغنى وفقر, ولذّة وألم, وحياة وموت, وعقوبة وتجاوز وغير ذلك. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} الشورى 30, وقال:{ وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فانّ الانسان كفور} الشورى 48.
فكل ما يمضي على العبد فهو عدل فيه.
فان قيل: فالمعصية عندكم بقضائه وقدره! فما وجه العدل في قضائها؟ فان العدل في العقوبة عليها غير ظاهر. قيل: هذا سؤال له شأن, ومن أجله زعمت طائفة أن العدل هو المقدور, والظلم ممتنع لذاته. قالوا: لأن الظلم هو التصرّف في ملك الغير والله له كل شيء. فلا يكون تصرّفه في عبده الا عدلا.
وقالت طائفة : بل العدل أنه لايعاقب على ما قضاه وقدره, فلمّا حسن منه العقوبة على الذنب عُلم أنّه ليس بقائه وره, فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم اما في الدنيا واما في الآخرة. وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل والقدر, فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل, ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر. كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد واثبات الصفات, فزعموا أنهم لا يمكنهم اثبات التوحيد الا بانكار الصفات, فصار توحيدهم تعطيلا وعدلهم تكذيبا بالقدر.
وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين, والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له, وهذا قد نزّه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه كقوله تعالى في سورة يونس الآية 44:{ ان الله لا يظلم شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون}., وهو سبحانه وان ضلّ من شاء, وقضى بالمعصية وألغى من شاء, فذلك محض العدل فيه, لأنه وضع الاضلال والخذلان في موضعه اللائق به,وكيفلاومن أسمائه الحسنى العدل., الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق, وهو سبحانه قد أوضح السبل, وأرسل الرسل, وأنزل الكتاب, وأزاح العلل, ومكّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول, وهذا عدله, ووفّق من يشاء بمزيد عناية, وأراد من نفسه أن يعينه ويوفّقه, فهذا فضله, وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله, وخلى بينه وبين نفسه, ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفّقه, فقطع عنه فضله, ولم يحرمه عدله. وهذا نوعان:
(أحدهما) ما يكون جزاء منه للعبد على اعراضه عنه, وايثاره عدوه في الطاعة, والموافقة عليه, وتناسي ذكره وشكره, فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.
(ثانيهما) أن لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية, ولا يشكره عليه,ولا يثني عليه بها,ولا يحبه, فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله.
قال تعالى:{ وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله أعلم بالشاكرين} الأنعام 53, وقال:{ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم } الأنفال22.
فاذا قضى بهذه النفوس بالضلال والمعصية, كان ذلك محض العدل, كما قضى على الحيّة بأن تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور, وكان ذلك عدل فيه, وان كان مخلوقا على هذه الصفة. وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا القضاء والقدر, اسمه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
والمقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم:" ماض فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك", رد على الطائفتين, القدريّة الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده, ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره, ويردون القضاء الى الأمر والنهي. وعلى الجبريّة الذين يقولون: كل مقدور عدل, فلا يبقى لقوله" عدل فيّ قضاؤك" فائدة, فان العدل عندهم كل ما يمكن فعله والظلم هو المحال لذاته, فكأنه قال: ماض ونافذ فيّ قضاؤك. وهذا هو الأول بعينه.
وقوله "أسألك بكل اسم" الى آخره, توسل اليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل اليه, فانها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.
وقوله: "أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري" الربيع : المطر الذي يحيي به الأرض. شبّه القرآن به لحياة القلوب به. وكذلك شبهه الله بالمطر, وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة, والنور الذي تحصل به الانارة والاشراق, كما جمع بينهما سبحانه في قوله:{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار وابتغاء حلية...}الرعد17, وقوله:{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} البقرة 17, ثم قال:{ أو كصيّب من السماء} البقرة 19, وفي قوله :{ الله نور السموات والأرض....} النور 35, ثم قال:{ ألم ترى أن الله يجزي سحابا ثم يؤلّف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزّله من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} النور43, فتضمّن الدعاء أن يجيي قلبه بربيع القرآن وأن ينوّر به صدره فتجتمع له الحياة والنور. قال تعالى: { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به بين الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} الأنعام122.
ولما كان الصدر أوسع من القلب, كان النور الحاصل له يسري منه الى القلب, لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولما كانت حياة البدن والجوارح, كلها بحياة القلب, تسري الحياة منه الى الصدر, ثم الى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادّتها. ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حيا ة القلب واستنارته, سأل أن يكون ذهابها بالقرآن, فانها أحرى ألا تعود, وأما أنها ذهبت بغير القرآن من صحةأو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد, فانها تعود بذهاب ذلك. والمكروه الوارد على القلب ان كان من أمر ماض أحدث الحزن, وان كان من مستقبل أحدث الهم, وان كان من أمر حاضر أحدث الغم, والله أعلم.
[13] فائدة
أنزه الموجودات وأشرفها عرش الرحمن جلّ جلاله
أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتا وقدرا وأوسعها عرش الرحمن جلّ جلاله. ولذلك صلح لاستوائه عليه. وكل ما كان أقرب الى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه. ولهذا كانت جنّة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وانورها وأجلّها لقربها من عرش الرحمن الذي هو سقفها, وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق. ولهذا كان أسفل سافلين شرّ الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير.
وخلق الله القلوب وجعلها محلا لمعرفته ومحبّته وارادته, فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبّته وارادته. قال الله تعالى:{ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} النحل60, وقال تعالى"{ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} الروم 27, وقال تعالى:{ ليس كمثله شيء} الشورى 11. فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فو عرشه وان لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وارادة, فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها ومعرفتها وارادتها والتعلّق بها, فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والبهجة وذخائر الخير, وقلب هو عرش الرحمن, فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم, فهو حزين على ما مضى, مهموم بما يستقبل, مغموم في الحال.
وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:" اذا دخل النور القلب, انفسح وانشرح" قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال:" الانابة الى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل نزوله" أخرجه ابن جرير في التفسير 8\20, والبغوي في شرح السنة 6\72, وأبو نعيم, والبيهقي في الأسماء والصفات ص156, وضعّفه الألباني في السلسلة الضعيفة بقم 965.
والنور الذي يدخل القلب انما هو من آثار المثل الأعلى فلذلك ينفسح وينشرح, واذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبّته, فحظّه الظلمة والضيق.
[14] فائدة
عظمته سبحانه وتعالى
تأمّل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله, وله الحمد كله أزمّة الامور كلها بيده, ومصدرها منه, ومردّها اليه, مستويا على سرير ملكه, لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته, عالما بما في نفوس عبيده, مطّلعا على أسرارهم وعلا نيتهم, منفردا بتدبير المملكة, يسمع ويرى, يمنع ويعطي, ويثيب ويعاقب, ويكرم ويهين, يخلق ويرزق, ويميت ويحيي, ويقدر ويقضي ويدبّر.
الأمور نازلة من عندها دقيقها وجليلها, وصاعدة اليه لا تتحرّك ذرّة الا باذنه, ولا تسقط ورقة الا بعلمه. فتأمّل كيف تجده يثني على نفسه, ويمجّد نفسه, ويحمد نفسه, وينصح عباده, ويدلّهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم, ويرغّبهم فيه, ويحذّرهم مما فيه هلامهم, ويتعرّف اليهم بأسمائه وصفاته, ويتحبب اليهم بنعمه وآلائه, فيذكّرهم بنعمه عليهم, ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها, ويحذّرهم من نقمه ويذكّرهم بما أعد لهم من الكرامة ان أطاعوه, وما أعد لهم من العقوبة ان عصوه, ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه, وكيف كابت عاقبة هؤلاء, ويثني على أوليائه بصالح أعماله, وأحسن أعمالهم, ويذم أعدائه بسيّء أعمالهم, وقبيح صفاتهم. ويضرب الأمثال, وينوّع الأدلّة والبراهين, ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة, ويصدق الصادق, ويكذب الكاذب, ويقول الحق, ويهدي السبيل, ويدعو الى دار السلام, ويذكر أوصافها وصفاتها وحسنها ونعيمها, ويحذّر من دار البوار, ويذكر عذابها وقبحها وآلامها, ويذكر عباده فقرهم اليه وشدّة حاجتهم اليه من كل وجه, وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين, ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات, وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه, وكل ما سواه فقير اليه بنفسه, وأنه لا ينال أحد ذرّة من الخير فما فوقها الا بفضله ورحمته, ولا ذرّة من الشر فما فوقها الا بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عباد, وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم, ومصلح فاسدهم والدافع عنهم, والمحامي عنهم, والناصر لهم, والكفيل بمصالحهم, والمنجي لهم من كل كرب, والموفي لهم بوعده, وأنه وليّهم الذي لا ولي لهم سواه فهو مولاهم الحق, ونصيرهم على عدوهم, فنعم المولى ونعم النصير.
فاذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شأنه فكيف لا تحبّه, وتنافس في القرب منه, وتنفق أنفاسها في التودد اليه, ويكون أحب اليها من كل ما سواه, ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره, ويصير الحب والشوق اليه والأنس به غذاؤها وقوتها ودواؤها, بحيث ان فقدت ذلك فسدت وهلكت, ولم تنتفع بحياتها؟.
[15] فائدة
لا بد من قبول المحل لما يوضع فيه أن يفرغ من ضدّه
قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضدّه. وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو والاعتقادات والرادات. فاذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبّة, لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبّته موضع, كما أن اللسان اذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع,, لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه, الا اذا فرغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح اذا اشتغلت بغيرالطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة الا اذا فرغها من ضدها فكذلك القلب المشغول بمحبّة غير الله وارادته, والشوق اليه, لا يمكن شغله بمحبة الله وارادته وحبه والشوق الى لقائه الا بتفريغه من تعلّقه بغيره. ولا حركة اللسان بذكره, والجوارح بخدمته الا اذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فاذا امتلاء القلب بالشغل بالمخلوق, والعلوم التي لا تنفع, لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.
وسر ذلك: أن اصغاء القلب كاصغاء الأذن, فاذا صغى الى غير حديث الله, لم يبق فيه اصغاء, ولا فهم لحديثه, كما اذا مال الى غير محبّة الله, لم يبق فيه ميل الى محبّته. فاذا نطق القلب بغير ذكره, لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.
ولهذا في الصحيح عن النبي أنه قال:" لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا". أخرجه البخاري في الأدب 10\564 (6155), ومسلم في الشعر , وأبو داود, والترمذي, وجميعا من حديث ابو هريرة.
فبيّن أ، الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها, والعلوم التي لا تنفع, والمفكّهات والمضحكات والحكايات ونحوها. واذا امتلاء القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغا لها ولا قبولا, فتعدته وجاوزته الى محل سواه, كما اذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فانه لا يقبلها, ولا تلج فيه, لكن تمر مجتازة لا مستوطنة, ولذلك قيل:
نزّه فؤادك عن سوانا تلقنا فجنابنا حل لكل منزّه
والصبر طلسم لكنز وصالنا من حلّ ذا الطلسم فاز بكنزه
وبالله التوفيق.
[16] فائدة
الكلام قي ألهاكم التكائر
أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد, وكفى بها موعظة لمن عقلها. فقوله تعالى:{ ألهاكم } أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه فان الالتهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه. فان كان بقصد فهو محل التكليف, وان كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلّم في الخميصة:" انها ألهتني آنفا عن صلاتي" البخاري في الصلاة 1\575, ومسلم1\391 وأبوداود. كان صاحبه معذورا وهو نوع من النسيان. وفي الحديث " فلها صلى الله عليه وسلم عن الصبي" أي ذهل عنه, جزء من حديث, البخاري كتاب الأدب 10\591 رقم6191, ومسلم في الآداب 3\1692 رقم 29, والبيهقي.
ويقال: لها بالشيء, أي اشتغل به. ولها عنه: اذا انصرف عنه. واللهو للقلب واللعب للجوارح, ولهذا يجمع بينهما. ولهذا كان قوله:{ ألهاكم التكاثر} أبلغ في الذم من شغلكم. فان العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به. فاللهو هو ذهول واعراض. والتكاثر تفعل من الكثرة اي مكاثرة بعضكم لبعض وأعرض عن ذكر المتكاثر به ارادة لاطلاقه وعمومه أن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر. فالتكاثر في كل شيء من جاه أو مال أو رئاسة أو نسوة أو حديث أو علم, ولا سيّما اذا لم يحتج اليه. والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها. والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره, وهذا مذموم الا فيما يقرّب الى الله, فالتكاثر فيه منافسة للخيرات ومسابقة اليها.
وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن الشخير أنه: انتهى الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {ألهاكم التكاثر} قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي, وهل لك من مالك الا ما تصدّقت به فأمضيت, أو أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت. الزهد والرقائق 4\2273رقم3, كما أخرجه الترمذي, والنسائي وأحمد.
[17] تنبيه
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه
· من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه.
· للعبد ستر بينه وبين الله , وستر بينه وبين الناس, فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله , هتك الستر الذي بينه وبين الناس.
· للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه, فينبغي له أن يسترضي ربّه قبل لقائه ويعمّر بيته قبل انتقاله اليه.
· اضاعة الوقت أشد من الموت, لأن اضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
· الدنيا من أولها الى آخرها لا تساوي غم ساعة, فكيف بغم العمر.
· محبوب اليوم يعقبه المكروه غدا, ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غدا.
· أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع في معادها.
· كيف يكون عاقلا من باع الجنّة بما فيها شهوة ساعة.
· يخرج العرف من الدنيا ولم يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه, وثناؤه على ربّه.
· المخلوق اذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى اذا خفته أنست به وقربت اليه.
· لو نفع العلم بما عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ولو نفع العمل بلا اخلاص لما ذم المنافقين.
· دافع الخطرة, فان لم تفعل صارت فكرة. فدافع الفكرة, فان لم نفعل صارت شهوة. فحاربها, فان لم تفعل صارت عزيمة وهمّة, فان لم تدافعها صارت فعلا, فان لم تتداركه بضدّه صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها.
· التقوى ثلاث مراتب:
احداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرّمات.
الثانية: حميتها عن المكروهات.
الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى تعطي العبد حياته, والثانية تفيد صحته وقوته, والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
غموض الحق حين تذب عنه يقلل ناصر الخصم المحق
تضل عن الدقيق فهوم قوم فتقضي للمجلّ على المدقّ
بالله أبلغ ما أسعى وأدركه لا بي ولا بشفيع لي من الناس
اذا أيست وكاد اليأس يقطعني جاء الرجاء مسرعا من جانب اليأس
· من خلقه الله للجنّة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره, ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات.
لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها. اقرأ الآيات 19-24من سورة الأعراف.
ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤية لبث فيها بضع سنين. اقرأ يوسف آية 42.
· اذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستّة مشاهد:
الأوّل: مشهد التوحيد, وأن الله هو الذي قدّره وشاءه وخلقه, وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: مشهد العدل, وأنه ماض فيه حكمه, عدل فيه قضاؤه.
الثالث: مشهد الرحمة,وأن رحمته في هذا المقدور غالبه لغضبه وانتقامه, ورحمةه حشوه أي ظاهره بلاء وباطنه رحمة.
الرابع: مشهد الحكمة, وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك, لم يقدّره سدى ولا قضاه عبثا.
الخامس: مشهد الحمد, وان له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.
السادس: مشهد العبوديّة, وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيّده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده, فيصرفه تحت أحكامه القدريّة كما يصرفه تحت أحكامه الدينيّة, فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
· قلّة التوفيق وفساد الرأي, وخفاء الحق, وفساد القلب, وخمول الذكر, واضاعة الوقت, ونفرة الخلق, والوحشة بين العبد وبين ربّه, ومنع اجابة الدعاء, وقسوة القلب, ومحق البركة في الرزق والعمر, وحرمان العلم, ولباس الذل, واهانة العدو, وضيق الصدر, والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت, وطول الهم والغم, وضنك المعيشة, وكسف البال... تتولّد من المعصية والغفلة عن ذكر الله, كما يتولّد الزرع عن الماء, والاحراق عن النار.
وأضداد هذه تتولّد عن الطاعة.
[18]- فصل
من معاني الانصاف له تعالى
طوبى لمن أنصف ربّه فأقر بالجهل في عامه, وألآفات في عمله, والعيوب في نفسه, والتفريط في حقه, والظلم في معاملته. فان آخذه بذنوبه رأى عدله, وان لم يؤاخذه بها رأى فضله.
وان عمل حسنة رآها من منّته وصدقته عليه, فان قبلها فمنّة وصدقة ثانية, وان ردّها فلكون كثلهالا يصلح أن يواجه به.
وان عمل سيّئة رآها من تخلّيه عنه, وخذلانه له, وامساك عصمته عنه, وذلك عدله فيه, فيرى في ذلك فقره الى ربّه, وظلمه في نفسه, فان غفرها له فبمحض احسانه وجوده وكرمه.
ونكتة المسألة وسرّها أنّه لا يرى ربّه الا محسنا ولا يرى نفسه الا مسيئا أو مفرطا أو مقصّرافيرى كل ما يسرّه من فضل ربّه عليه واحسانه اليه وكل ما يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه.
المحبّون اذا خربت منازل أحبّائهم قالوا: سقيا لسكانها. وكذلك المحب اذا أتت عليه الأعوام تحت التراب ذكر حينئذ حسن طاعته له في الدنيا وتودده اليه وتجد رحمته وسقياه لمن كان ساكما في تلك الأجسام البالية.
[19] فائدة
الغيرة نوعان
الغيرة غيرتان: غيرة على الشيء وغيرة من الشيء, فالغيرة على المحبوب حرصك عليه, والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه. فالغيرة على المحبوب لا تتم الا بالغيرة من المزاحم, وهذه تحمد حيث يكون المحبوب تقبح المشاركة في حبه كالمخلوق, وأما من تحسن المشاركة في حبه كالرسول والعالم بل الحبيب القريب سبحانه وتعالى فلا يتصوّر غيرة المزاحمة عليه بل هو حسد.
والغيرة المحمودة في حقه أن يغار المحب على محبته له أن يصرفها الى غيره, أو يغار عليها أن يطلع عليها الغير فيفسدها عليه, أو يغار على أعماله أن يكون فيها شيء لغير محبوبه, أو يغار عليها أن يشوبها ما يكره محبوبه من رياء أو اعجاب أو محبة لاشراف غيره عليها أو غيبته عن شهود منته عليها فيها.
وبالجملة, فغيرته يقيضي أن تكون أحواله وأعماله وأفعاله كلها لله. وكذلكبغار على أوقاته أ، يذهب منها وقت في غير رضى محبوبه, فهذه الغيرة من جهة العبد وهي غيرة من المزاحم له المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه.
وأما غيرة محبوبه عليه فهي كراهية أن ينصرف قلبه عن محبته الى محبة غيره, بحيث يشاركه في حبه, ولهذا كانت غيرة الله أن يأتي العبد ما حرّم عليه, ولأجل غيرته سبحانه حرّم الفاحشة ما ظهر منها وما بطنِ؛ لأن الخلق عبيده واماؤه, فهو يغار على امئه كما يغار السيد على جواريه, ولله المثل الأعلى. ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره, بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها.
*من عشق وقار الله في قلبه أن يعصيه, وقّره الله في قلوب الخلق أن يذلّوه.
*اذا علقت شروش المعرفة في أرض القلب, نبتت فيه شجرة المحبة, فاذا تمكّنت وقويت أثمرت *الطاعة, فلا تزال الشجرة:{ تؤتي أكلها كل حين باذن ربّها}.
*أول منازل القوم:{ اذكروا االه ذكرا كثيرا. وسبّحوه بكرة وأصيلا} الأحزاب 41-42. *وأوسطها {هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات الى النور} الأحزاب 43. *وآخرها:{ تحيّتهم يوم يلقونه سلام} الأحزاب 44.
*أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها, فان غرست شجرة الايمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد, وان غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مرّ.
*ارجع الى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك, ولا تشرد عنه من هذه الأربعة, فما رجع من رجع اليه بتوفيقه الا منها, وما شرد من شرد عنه بخذلانه الا منها, ماموفق يسمع ويبصر ويتكلّم ويبطش بمولاه, والمخذول يصدر ذلك عنه بنفسه وهواه.
*مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها, كمثل نواة غرستها, فصارت شجرة, ثم أثمرت فأكلت ثمارها, وغرست نواها, فكلما أثمر منها شيء, جنيت ثمره, وغرست نواه. وكذلك تداعي المعاصي, فليتدبّر اللبيب هذا المثال. فمن ثواب الحسنة الحسنة بعدها, ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها.
* ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبّد له ولا يمل خدمته مع حاجته وفقره اليه, انما العجب من مالك يتحبب الى مملوكه بصنوف انعامه ويتودد اليه بأنواع احسانه مع غناه عنه.
كفى بك عزّا أنك له عبد وكفى بك فخرا أنه لك رب
[20] فوائد قيّمة
ايّاك والمعاصي
· ايّاك والمعاصي فانها أذلّت عز {اسجدوا} وأخرجت قطاع {أسكن}.
· يا لها من لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة ما زال يكتب بدم الندم سطور الحزن في القصص, ويرسلها مع أنفاس الأسف حتى جاءه توقيع {فتاب عليه}.
· فرح ابليس بنزول آدم من الجنة, وما علم أن هبوط الغائص في اللجة خلف الدر صعود. كم بين قوله لآدم: {اني جاعل في الأرض خليفة}البقرة 30, وقوله لك {اذهب فمن تبعك منهم} السراء63.
· ما جرى على آدم هو المراد من وجوده, "لو لم تذنبوا.." جزء من حديث أخرجه مسلم في التوبة 4\2106رقم 2739. "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم".
· يا آدم لا تجزع من قوله لك: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو} الأعراف 24, فلك ولصالح ذريتك خلقتها.
· يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك, واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.
· يا آدم لا تجزع من قولي لك:{ وعسى أن تكرهوا..} البقرة 216.
· يا آدم لم اخرج اقطاعك الى غيرك, انما نحيّتك عنه لأكمل عمارته لك, وليبعث الى العمّال نفقة :{ تتجافى جنوبهم..} السجدة 16.
· تالله ما نفعه عند معصية عز {اسجدوا} ولا شرف :{ وعلّم آدم..} ولا خصيصت :{ لما خلقت بيدي..}ص 75, ولا فخر:{ لما نفخت فيه من روحي..} الحجر 29. وانما انتفع بذل:{ ربنا ظلمنا أنفسنا...} الأعراف 23, لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه فوضع عليه جبار الانكسار فعاد كما كان فقام الجريح كأن لم يكن به قلبة.(أي علّة).
[21] سلمان منا آل البيت (حديث شريف)
أخرجه الحاكم في المستدرك 3\598 وسكت عنه الذهبي في تلخيصه: سنده ضعيف. والطبراني في المعجم الكبير 6\261 والبغوي في شرح السنة 5\234. والبيهقي في دلائل النبوّة. لعمرك ما الانسان الا ابن دينه فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
فقد رفع الاسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب
· نجائب النجاة مهيّأة للمراد, وأقدام المطرود موثوقة بالقيود.
هبّت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان, قتقلب الوجود ونجم الخير, فلما ركدت الريح اذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك, وسلمان علىاحل السلامة.
والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه, وصهيب قد قدم بقافلة الروم, والنجاشي في أرض الحبشة يقول: لبيك اللهم لبيك, وبلال ينادي: الصلاة خير من النوم, وأبو جهل في رقدة المخلفة.
لما قضى في القدم بسابقة سلمان عرض به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس (المجوسية), فأقبل يناظر أباه في دين الشرك, فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب الا القيد. وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم عرفوه, وبه أجاب فرعون موسى:{لئن اتخذت الها غيري} الشعراء 29, وبه أجاب الجهمية: الامام أحمد لما عرضوه على السياط. وبه أجاب أهل البدع شيخ الاسلام حين استودعوه السجن –وها نحن على الأثر- فنزل به ضيف {لنبلونكم} جزء من الآية 155 سورة البقرة. فنال باكرامه مرتبة "سلمان منا أهل البيت", فسمع أن ركبا على نية السفر, فسرق نفسه من أبيه ولاقطع, فركب رحالة العزم يرجو ادراك مطلب السعادة, فغاص في بحر البحث ليقع بدرّة الوجود, فوقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء, فلما أحس الرهبان بانقراض دولتهم سلموا اليه أعلام الاعلام على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وقالوا: ان زمانه قد أطل, فاحذر أن تضل, فرحل مع رفقة لم يرفقوا به {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} يوسف 20, فابتاعه يهودي بالمدينة, فلما رأى الحرة تولد حرا شوقه, ولم يعلم رب المنزل بوجد النازل. فبينا هو يكابد ساعات الانتظار قدم البشير بقدوم البشير, وسلمان في رأس نخلة, وكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه كما جرى يوم:{ان كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} القصص 10, فعجل النزول لتلقي ركب البشارة ولسان حاله يقول:
خليلي من نجد قفا بي على الربا فقد هب من تلك الديار نسيم
فصاح به سيده: مالك؟ انصرف الى شغلك. فقال
كيف انصرافي ولي في داركم شغل
ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأطروش.
خليلي لا والله ما أنا منكما اذا علم من آل ليلى بداليا
فلما لقى الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه.
يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان, أبو طالب اذا سئل عن اسمه قال عبد مناف, واذا انتسب افتخر بالآباء, واذا ذكرت الأموال عدّ الابل. وسلمان اذا سئل عن اسمه قال: عبدالله, وعن نسبه قال: ابن الاسلام, وعن ماله قال: الفقر, وعن حانوته قال المسجد, وعن كسبه قال الصبر, وعن لباسه قال: التقوى والواضع, وعن وساده قال السهر, وعن فخره قال: "سلمان منا" وعن قصده قال:{ يريدون وجهه} الأنعام 52, وعن سيره قال الى الجنة, وعن دليله في الطريق قال: امام الخلق وهادي الأمة.
اذا نحن أدجلنا وأنت امامنا كفى بالمنايا طيّب ذكرك حاديا
وان نحن أضللنا الطريق ولم نجد دليلا, كفانا نور وجهك هاديا
أدجلنا = أدخلنا.
*الذنوب جراحات, ورب جرح وقع في مقتل.
*لو خرج عقلك من سلطان هواك, عادت الدولة له.
*دخلت دار الهوى مقامت بعمرك.*اذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حرب, فاستتر منها بحجاب: {قل للمؤمنين...} النور 30, فقد سلمت من الأثر: {وكفى الله المؤمنين القتال} الحزاب 25. بحر الهوى اذا مد أغرق, وأخوف المنافذ على السابح فتح البصر في الماء.
ما أحد أكرم من مفرد في قبره, أعماله تؤنسه
منعما في القبر في روضة ليس كعبد قبره محبسه
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه وتعرف عند الصبر فيما يصيبه
ومن قل فيما يتقيه اصطباره فقد قل مما يرتجيه نصيبه
*كم قطع زرع قبل التمام فما ظن الزرع المستحصد, اشتر نفسك, فالسوق قائمة والثمن موجود. لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى, ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح.
*نور العقل يضيء في ليل الهوى, فتلوح جادة الصواب, فيتلمح البصير في ذلك النور
*أخرج بالعزم من هذا الفناء الضيّق المحشو بالآفات الى ذلك الفناء الرحب الذي فيه "مالا عين رأت",فهناك لا يتعذّر مطلوب ولا يفقد محبوب.
*يا بائعا نفسه بهوى من حبه ضنى, ووصله أذى, وحسنه الى فناء, لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس, كأنك لم تعرف قدر السلعة ولا خسة الثمن, حتى اذا قدمت يوم التغابن تبيّن لك الغبن في عقد التبايع, لا اله الا الله سلعة, الله مشتريها, وثمنها الجنّة, والدلال الرسول, ترضى ببيعها بأذن يسير مما لا يساوي كله جناح بعوضة.

اذا كان شيء لا يساوي جميعه جناح بعوض عند من صرت عبده
ويملك جزء منه كلك ما الذي يكون على ذي الحال قدرك عنده
وبعت به نفسا قد استامها بما لديه من الحسنى وقد زال وده

السوم= عرض السلعة للبيع.

*يا مخنث العزم أين أنت, والطريق طريق تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح اسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين, ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيى, وقاسى الضر أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم تزها أنت باللهو واللعب.

فيا دارها بالحزن ان مزارها قريب, ولكن دون ذلك أهوال

*الحرب قائمة وأنت أعزل في النظارة, فان حركت ركابك فللهزيمة.

*من لم يباشر حر الهجير (نصف النهار عند اشتداد النهار) في طلاب المجد لم يقل (القيلولة) في ظلال الشرف.

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ولم تدر أني للمقام أطوف
قيل لبعض العباد: الى كم تتعب نفسك!! فقال راحتها أريد.

*يا مكرما بحلة الايمان بعد حلة العافية وهو يخلقهما (يبليهما) في مخالفة الخالق, لا تنكر السلب؛ يستحق من استعمل نعمة المنعم فيما يكره أن يسلبها.

*عرائس الموجودات قد تزينت للناظرين؛ ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائس الآخرة, فمن عرف قدر التفاوت آثر ما ينبغي ايثاره.
وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي, وقالت لى: الي
فتعاميت كأن لم أرها عندما أبصرت مقصودي لدي

*كواكب هم العارفين في بروج عزائمهم سيارة ليس فيها زحل.

*يا من انحرف عن جادتهم كن فى أواخر الركب ونم اذا نمت على الطريق, فالأمير يراعي الساقة (ساقة الجيش أي المؤخرة).

*قيل للحسن: سبقنا القوم على خيل دهم (أي سود) ونحن على حمر معقرة (مجرحة), فقال ان كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم.

[22] فائدة
المحب الصادق من وجد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة
*من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس ووجده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود. ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله. ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده الا منها. ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وارشادهم كان مزيده معهم. زمن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه, وفي أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس. فأشرف الأحوال ان لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه, فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه.
*مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة قبل الشرائع {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} النور 35.
*وحد قس وما رأى الرسول, وكفر ابن أبيّ وقد صلّى معه بالمسجد. قس بن ساعدة أحد حكماء العرب ومن خطبائهم, سئل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:" يحشر أمة وحدة".
*مع الصب ري ولا ماء, وكم من عصشان في اللجة.
*سبق العلم بنبوة موسى وايمان آسية فسيق تابوته الى بيتها, فجاء طفل منفرد عن أم, الى امرأة خالية عن ولد. فلله كم من القصة من عبرة. كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد, ولسان القدر يقول: لا نربيه الا في حجرك.
كان ذو البجادين يتيما في الصغر, فكفله عمه, فنازعته نفسه الى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم, فهم بالنهوض, فاذا بقية المرض مانعة فقعد ينتظر العم, فلما تكاملت صحته, نفذ الصبر فناداه ضمير الوجد:
الى كم حبسها تشكو المضيقا أثرها ربما وجدت طريقا
فقال ياعم طال انتظاري لاسلامك وما أرى منك نشاطا. فقال والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك. فصاح لسان الشرق: نظرة من محمد صلى الله عليه وسلم أحب الي من الدنيا وما فيها.
ولو قيل للمجنون: ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال: غبار من تراب نعالها ألذ الى نفسي وأشفى لبلواها
فلما تجرد للسير الى الرسول صلى الله عليه وسلم جرده عمه من الثياب, فناولته الأم بجادا, فقطعه لسفر الوصل نصفين, اتزر بأحدهما, وارتدى الآخر, فلما نادى صائح الجهاد قنع أن يكون في ساقه الأحباب, والمحب لا يرى طول الطريق, لأن المقصود بعينه:
ألا أبلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها
فلما قضى نحبه نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يمهد له لحده وجعل يقول:" اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه" فصاح ابن مسعود يا ليتني كنت صاحب القبر. أخرجه ابن اسحاق 4\171, وابن حجر في الاصابة رقم(4795).
*فيا مخنث العزم أقل ما في البرقعة البيذق, فلما نهض تفرزن.
*رأى بعض الحكماء برذونا (فرس غير عربي هجين) يسقى عليه, فقال لو هملج (انقاد) هذا, لركب.
*أقدام العزم بالسلوك اندفع من بين أيديها سد القواطع.
*القواطع محن بتبين بها الصادق من الكاذب, فاذا خضتها انقلبت أعوانا لك توصلك الى المقصود.
[23] مثل الدنيا
*الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج, انما تخطب الأزواج ليستحسنوا عليها فلا ترضى الا بالدياثة.
ميزت بين جمالها فعالها فاذا الملاحة بلقباحة لا تفي
حلفت لنا الا تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا ألا تفي
السير في طلبها سير في أرض مسبعة, والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح, المفروح به منها هو عين المحزون عليه. آلامها متولدة من لذاتها, وأحزانها من أفراحها.
مآرب كانت في الشباب في أهلها عذابا, فصارت في المشيب عذابا
*طائر الطبع يرى الحبة, وعين العقل ترى الشرك, غير أن عين الهوى عمياء.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
*تزخرفت الشهوات لأعين الطباع, فغض عنها الذين يؤمنون بالغيب, ووقع تابعوها في بيداء الحسرات, ف: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} البقرة 5, وهؤلاء يقال لهم:{ كلوا وتمتعوا قليلا انكم مجرمون} المرسلات 46.
لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها, أماتوا فيها الهوى طلبا لحياة الأبد, ولما استيقظوا من نوم الغفلة, استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم في زمن البطالة, فلما طالت عليهم الطريق, تلمحوا المقصد, فقرب عليهم البعيد, وكلما أمرت لهم الحياة, حلى لهم تذكر :{هذا يومكم الذي كنتم توعدون} الأنبياء 103.
وركب سروا, والليل ملق رواقه على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها فصار سراهم في ظهور العزائم
تريهم نجوم الليل ما تبتغونه على عاتق الشعري, وهام النعائم
اذا اطردت في معرك الجد قصفوا رماح العطايا في صدور المكارم
ملق: الود واللطف, الرواق: المقدمة والجانب.
فصل
*من أعجب الأشياء أ، تعرفه ثم لا تحبه, وأن تسمع داعيه, ثم تتأخر عن الاجابة. وأن تعرف قدر الربح في معاملته, ثم تعامل غيره. وأن تعرف قدر غضبه, ثم تتعرّض له. وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه, ثم لا تشتاق الى انشراح الصدر بذكره ومناجاته. وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره, ولا تهرب منه الى نعيم الاقبال عليه, والانابة اليه.
*وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه, وأنك أحوج شيء اليه, وأنت عنه معرض, وفيما يبعدك عنه راغب.
[24] فائدة
· ما أخذ العبد ما حرم عليه الا من جهتين: احداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلال, والثانية: أن يكون عالما بذلك, وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه (أعطاه خيرا منه), لكن تغلب شهوته صبره, وهواه عقله. فالأول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته.
قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه, وصدقت ضرورته وفاقته, وقوي رجاؤه, فلا يكاد يرد دعاؤه.
(فصل)
· لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها, وخداع الأمل لأربابه, وتملك الشيطان قياد النفوس, ورأوا الدولة للنفس الأمارة, لجأوا الى حصن التضرّع والالتجاء, كما يأوي العبد المذعور الى حرم سيده.
· شهوات الدنيا ك "لعب الخيال", ونظر الجاهل مقصور على الظاهر, فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر.
· لاح لهم المشتهى, فلما مدوا أيدي التناول بأن لأبصار البصائر خيط الفخ, فطاروا بأجنحة الحذر, وصوبوا الى الرحيل الثاني: {يا ليت قومي يعلمون} يونس 26, تلمح القوم الجود, ففهموا المقصود, فأجمعوا الرحيل وشمروا للسير في سواء السبيل, فالناس مشتغلون بالفضلات, وهم في قطع الفلوات, وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح.
· وقع ثعلبان في شبكة, فقال أحدهم للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة.
· تالله ما كانت الأيام الا مناما, فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر.
· ما مضى من الدنيا أحلام, وما بقي منها أماني, والوقت ضائع بينهما.
· كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه, وولد لا يعذره, وجار لا يأمنه, وصاحب لا ينصحه, وشريك لا ينصفه, وعدو لا ينام عن معاداته, ونفس أمارة بالسوء, ودنيا متزيّنة, وهوى مرد, وشهوة غالبة له, وغضب قاهر, وشيطان مزين, وضعف مستول عليه. فان تولاه الله وجذبه اليه انقهرت له هذه كلها, وان تخلى عنه ووكله الى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
· لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة اليهما, واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما, وعدلوا الى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ, عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم, وظلمة في قلوبهم, وكدر في أفهامهم, ومحق في عقولهم. وعمتهم هذه هذه الأمور وغلبت عليهم, حتى ربي فيها الصغير, وهرم عليها الكبير, فلم يروها منكرا. فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مكان السنن, والنفس مقام العقل, والهوى مقام الرشد, والضلال مقام الهدى, والمنكر مقام المعروف, والجهل مقام العلم, والرياء مقام الاخلاص, والباطل مقام الاخلاص, والباطل مقام الحق, والكذب مقام الشرك, والمداهنة مقابل النصيحة, والظلم مقام العدل. فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور, وأهلها هم المشار اليهم فاذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت, وراياته قد نصبت, وجيوشها قد ركبت, فبطن الأرض والله خير من ظهرها, وقلل الجبال خير مكن السهول, ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.
اقشعرّت الأرض وأظلمت السماء, وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة, وذهبت البركات, وقلّت الخيرات, وهزلت الوحوش, وتكدرت الحياة من فسق الظلمة, بكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة, وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات الى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح. وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه, ومؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه. فاعزلوا عن الطريق هذا السيل بتوبة ممكنة وبابها مفتوح. وكأنكم بالباب وقد أغلق, وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} الشعراء 227.
· اشتر نفسك اليوم, فان السوق قائمة, والثمن موجود, والبضائع رخيصة, وسيأتي على تلك البضائع يوم لا تصل فيه الى قليل ولا كثير: { ..وذلك يوم التغابن} التغابن 9, { ويوم يعض الظالم على يديه} الفرقان 27.
اذا أنت لم ترحل بزاد من التقى وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
· العمل بغير اخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملاء جرابه رملا يثقله ولا ينفعه.
· اذا حملت على القلب هموه الدنيا وأثقالها, وتهاونت بأورادها التي هي قوته وحياته, كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها, فما أسرع ما تقف به.
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفران ولا اخفاق
هل السائق العجلان يملك أمره فما كل سير اليعملات وخيد
رويدا بأخفاف المطى فانما تداس جباه تحتها وخدود
اليعمل : الناقة التي تعمل كثيرا, العذرة : خد البعير اذا أسرعت في المشي.
· من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر.
· الغاية أول في التقدير, آخر في الوجود, مبدأ في نظر العقل, منتهى في منازل الوصول.
· ألفت عجز العادة, فلو علت بك همّتك ربا المعالي لاحت لك أنوار العزائم.
· انما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور.
نزول همة الكساح دلاه في جب العذرة. الكساح: داء يصيب الابل, العذرة فناء البيت, وكذلك يقال للغائط.
· بينك وبين الفائزين جبل الهرم, نزلوا بين يديه ونزلت خلفه, فاطو فصل منزل, تلحق بالقوم.
· الدنيا مضمار سباق, وقد انعقد الغبار وخفى السابق, والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة.
سوف ترى اذا انجلى الغبار أفرس تحتك أو حمار
· في الطبع شره, والحمية أوفق.
· لص الحرص لا يمشي الا في ظلام الهوى.
· حبة المشتهى تحت فخ التلف, فتفكر الذبح وقد هان الصبر.
· قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب, وشدة الحذر من فوت المأمول.
· البخيل فقير لا يؤجر على فقره.
· الصبر على عطش الضر, ولا الشرب من شرعة منّ.
· تجوع الحرة, ولا تأكل بثدييها.
· لا تسأل سوى مولاك, فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
· غرس الخلوة يثمر الأنس.
· استوحش مما لا يدوم معك, واستأنس بمن لا يفارقك.
· عزلة الجاهل فساد, وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها.
· اذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة, واستحضر الفكر وجرت بينهم مناجاة:
أتاك حديث لا يمل سماعه شهى الينا نثره ونظامه
اذا ذكرته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنى ظلامه
· اذا خرجت من عدوك لفظة سفه, فلا تلحقها بمثلها تلقّحها, ونسل الخصام نسل مذموم.
· حميتك لنفسك أثر الجهل بها, فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها.
· اذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بحراق القادح.
· أوثق غضبك بسلسلة الحلم, فانه كلب ان أفلت أتلف.
· من سبقت له سابقة السعادة, دل على الدليل قبل الطلب.
· اذا أراد القدر شخصا بذر في أرض قلبه بذر التوفيق, ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة, ثم أقام عليه بأطوار المراقبة, واستخدم له حارس العلم, فاذا الزرع قائم على سوقه.
· اذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة, وردفه قمر العزيمة, أشرقت أرض القلب بنور ربها.
· اذا جن الليل تغالب النوم والسهر, فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة, والكسل والتواني في كتيبة الغفلة, فاذا حمل العزم حمل على الميمنة فانهزمت جنود التفريط, فما يطلع الفجر الا وقد قسمت السهمان وبردت الغنيمة لأهلها.
· سفر الليل لا بطيقه الا مضمر المجاعة, النجائب في الأول, وحاملات الزاد في الأخير.
· لا تسأم الوقوف على الباب ولوطردت, ولا تقطع الاعتذار ولو ردت, فان فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية وابسط كف {وتصدّق علينا} يوسف 88.
· يا مستفتحا باب المعاش بغير اقليد التقوى (أي مفتاحها), كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الزرع.
· لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد.
· المعاصي سد في باب الكسب, و" ان العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه", جزء من حديث أخرجه ابن ماجه 2\1334 رقم 4022, وأحمد 5\277, عن ثوبان.
تالله ما جئتكم زائرا الا وجدت الأرض تطوي لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم الا عثرت بأذيالي
· الأرواح هي الأشباح كالأطيار في الأبراج, وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيىء للسباق.
· من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله.
· كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا, فان الوليد يتبع الأم.
· الدنيا لا تساوي نقل أقدامك اليها, فكيف تعدو خلفها؟.
· الدنيا مجاز والآخرة وطن, والأوطار انما تطلب من الأوطان. الاجتماع بالخوان قسمان:
أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت, فهذا مضرّته أرجح من منفعته, وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
ثانيهما: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر, فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها, ولكن فيها ثلاث آفات:
الأولى: تزين بعضهم لبعض.
الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
وبالجملة, فالاجتماع والخلطة لقاح امل للنفس الأمارة واما للقلب والنفس المطمئنة, والنتيجة مستفادة من اللقاح, فمن طاب لقاحه طابت ثمرته, وهكذا الأرواح الطيّبة لقاحها من الملك, والخبيثة لقاحها من الشيطان, وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين, والطيبين للطيبات وعكس ذلك. اقرأ الآية 26 من سورة النور.
[25] (قاعدة)
الأسباب المشهودة والأسباب الغائبة
ليس في الوجود من الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير, بل لا يؤثر سبب البتة الا بانضمام سبب آخر اليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره. هذا في الأسباب المشهودة بالعيان, وفي الأسباب الغائبة و الأسباب المعنوية كتأثير الشمس في الحيوان والنبات فانه موقوف على أسباب أخر, من وجود محل قابل, ,اسباب أخر تنضم الى ذلك السبب. وكذلك حصول الولد موقوف على عدة أسباب غير وطء الفحل, وكذلك جميع الأسباب مع مسبباتها, فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره الا الله الواحد القهّار, فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره. وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل, فانه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه, فليس له من نفسه قوة يفعل بها, فانه لا حول ولا قوة الا بالله فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها, فالحول والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويخاف انما هما لله وبيده في الحقيقة. فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة, بل خوف المخلوق ورجاؤهىأحد أسباب الحرمان ونزول المكروهةبمن يرجوه ويخافه, فانه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك, وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان, وهذا حال الخلق أجمعه, وان ذهب عن أكثرهم علما وحالا, فما شاء الله كان ولا بد وما لم يشأ لم يكن ولواتفقت عليه الخليقة.
[26] التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه
التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه: فأما أعدائه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها: {فاذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجّاهم الى البرّ اذا هم يشركون} العنكبوت 65. وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها. ولذلك فزع اليه يونس, فنجّاه الله من تلك الظلمات , اقرأ الأنبياء آية رقم 87-88. وفزع اليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة. ولما فزع اليه فرعون, عند معاينة الهلاك وادراك الغرق, لم ينفعه , اقرأ الآية رقم 90-92 من سورة يونس, لأن الايمان عند المعاينة لا يقبل. هذه سنة الله في عباده. مما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان دعاء الكرب* بالتوحيد ودعوة ذي النون* التي ما دعا بها مكروب الا فرّج الله كربه بالتوحيد. فلا يلقى في الكرب العظام الا الشرك ولا ينجي منها الا التوحيد, فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها. وبالله التوفيق.
*دعاء الكرب أخرجه البخاري في الدعوات 11\149 برقم 6345, ومسلم والترمذي وأحمد. عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: " لا اله الا الله العظيم الحليم, لا اله الا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم".
*وهو سيدنا يونس عليه السلام والدعاء المقصود هو قوله تعالى {لا اله الا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين} , وقد صح في الحديث عن سعد بن أبي وقّاص قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" اني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب الا فرّج الله عنه كلمة أخي يونس عليه السلام فنادى في الظلمات:{أن لا اله الا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين}.
[27] (فائدة)
اللذة تابعة للمحبة
اللذة تابعة للمحبة, تقوى بقوتها وتضعف بضعفها, فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق اليه أقوى كانت اللذة بالوصول اليه أتم والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به, فكلما كان العلم به أتم كلنت محبته أكمل, فاذا رجع كمال النعيم في الآخرة وكمال اللذة الى العلم والحب, فمن كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف, كان له أحب, وكانت لذته بالوصول اليه ومجاورته والنظر الى وجهه وسماع كلامه أتم. وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة بالاضافة الى ذلك كقطرة في بحر, فكيف يؤثر من له عقل لذة ضعيفة قصيرة مشوبة بالآلام على لذة عظيمة دائمة أبد الآباد؟! وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب, وأفضل العلم العلم بالله, وأعلى الحب الحب له, وأكمل اللذة بحسبهما. والله المستعان.
[28] (قاعدة)
حبسان منجيان
طالب الهه والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه الا بحبسين. حبس قلبه في طلبه ومطلوبه, وحبسه عن الالتفات الى غيرة. زحبس لسانه عما لا يفيده, وحبسه على ذكر الله وما يزيد في ايمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات, وحبسها على الواجبات والمندوبات, فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن الى أوسع فضاه وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما الى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا, فكل خارج من الدنيا اما متخلص من الحبس واما ذاهب الى الحبس. وبالله التوفيق.
ودّع ابن عون رجلا فقال: عليك بتقوى الله, فان المتقى ليست عليه وحشة.
وقال زيد بن أسلم: كام يقال: من اتقى الله أحبه الناس وان كرهوا.
وقال الثوري لابن أبي ذئب: ان اتقيت الله كفاك الناس, وان اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا.
وقال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا, وعلّمنا مما علّم الناس ومما لم يعلموا, فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية, والعدل في الغضب والرضا, والقصد في الفقر والغنى.
وفي الزهد للامام أحمد أثر الهي: " ما من مخلوق اعتصم بمخلوق دونى الا قطعت أسباب السموات والأرض دونه, فان سألني لم أعطه, وان دعاني لم أجبه, وان استغفرني لم أغفر له. وما من مخلوق اعتصم بي دون خلقي الا ضمنت له السموات والأرض رزقه, فان سألني أعطيته, وان دعاني أجبته, وان استغفرني غفرت له" ذكره السيوطي في مسانيد الجامع الكبير 2\123.
[29] (فائدة جليلة)
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق, لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه, وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. قتقوى الله توجب له محبة الله, وحسن الخلق يدعو الناس الى محبته.
[30] (فائدة جليلة)
مواعظ وحكم:
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه, وخطوة عن الخلق, فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس, ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله, فلا يلتفت الا الى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة اليه. صاح بالصحابة واعظ:{ اقترب للناس حسابهم} الأنبياء 1, فجزعت للخوف قلوبهم, فجرت من الحذر العيون {فسالت أودية بقدرها} الرعد 17.
تزينت الدنيا لعلي رضي الله عنه فقال: "أنت طالق ثلاثا لا رجعة لي فيك". وكانت تكفيه واحدة للسنة, لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة. ودينه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلل, كيف وهو أحد رواة حديش "لعن الله المحلل" أحمد في المسند 1\87, 107,121, والنسائي, وأبو يعلى, الترمذي, والبيهقي. ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك. لا بد أن تجذبك الجواذب فاعرفها وكن منها على حذر, ولا تضرك الشواغل اذا خلوت منها وأنت فيها.
نور الحق أضوأ من نور الشمس, فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه.
الطريق الى الله خال من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات, وهو معمور بأهل اليقين والصبر, وهو على الطريق كالأعلام { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} السجدة 24.
[31] (قاعدة)
تأثير شهادة أن لا اله الا الله عند الموت في تكفير السيئات
لشهادة أن لا اله الا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات واحباطها, لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها, قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة, وانقادت بعد ابائها واستعصائها وأقبلت بعد اعراضها وذلت بعد عزها, وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها, واستخذت بين يدي ربها فاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته, وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه, فزالت منها تلك المنازعات الي كانت مشغولة بها, واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير اليه, فوجه العبد وجهه بكليته اليه, وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه. فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا, واستوى سره وعلانيته فقال: "لا اله الا الله" مخلصا من قلبه. وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات الى ما سواه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه, وشارف القدوم على ربه, وخمدت نيران شهوته, وامتلاء قلبه من الآخرة, فصارت نصب عينيه, وصارت الدنيا وراء ظهره, فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله, فطهّرته من ذنوبه, وأدخلته على ربه, لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة, وافق ظاهرها باطنها وسرها علا نيتها, فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها, وفر الى الله من الناس, وأنس به دون ما سواه, لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها, ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات الى غير الله. فلوتجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان.
ماذا يملك من أمره من ناصيته بيد الله ونفسه بيده, "وقلبه بين اصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء" جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم في القدر برقم 2654 عن عبدالله بن عمرو بن العاص, ونصّه: " ان قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". وحياته بيده وموته بيده وسعادته بيده وشقاوته بيده وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله باذنه ومشيئته. فلا يتحرك الا باذنه, ولايفعل الا بمشيئته.
ان وكله الى نفسه وكله الى عجز وضيعة, وتفريط وذنب وخطيئة. وان وكله الى غيره, وكله الى من لا يملك له ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وان تخلى عنه استولى عليه عدوّه وجعله أسيرا له. فهو لا غنى له عنه طرفة عين, بل هو مضطر اليه على مدى الأنفاس في كل ذرة من ذراته ظاهرا وباطنا, فاقته تامة اليه. ومع ذلك فهو مختلف عنه معرض عنه, يتبغض اليه بمعصيته, مع شدة الضرورة اليه من كل وجه, قد صار لذكره نسيا, واتخذه وراءه ظهريا, هذا واليه مرجعه وبين يديه موقفه.
فرغ خاطرك للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك, فان الرزق والأجل قرينان مضمزنان. فما دام الأجل باقيا, كان الرزق آتيا واذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي), فلما خرج من بطن الأم, وانقطعت تلك الطريق, فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول, لبنا خالطا سائغا. فاذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشرابان من المياه والألبان وما يضاف اليهما من المنافع والملاذ. فاذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه فتح له –ان كان سعيدا- طرقا ثمانية, وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء.
فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا الا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فانه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى النفيس.
والعبد لجهله بمصالح نفسه, وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادخر له. بل هو مولع بحب العاجل وان كان دنيئا, وبقلة الرغبة في الآجل وان كان عليا. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له بذلك, لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها وأعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه الا ليعطيه, ولا ابتلاه الا ليعافيه, ولا امتحنه الا ليصافيه, ولا أماته الا ليحييه, ولا أخرجه الى هذه الدار الا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة اليه. ف { جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا} الفرقان 62, و { فأبى الظالمون الا كفورا} الاسراء 99, والله المستعان.
*من عرف نفسه اشتغل باصلاحها عن عيوب الناس, ومن عرف ربهاشتغل به عن هوى نفسه.
أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالخلاص, وعن نفسك بشهود المنّة, فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق.
*دخل الناس النار من ثلاث أبواب:
باب شبهة أورثت شكا في دين الله. وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته. وباب غضب أورث العدوان على خلقه.
*أصول الخطايا كلها ثلاث: الكبر: وهو الذي أصار ابليس الى ما أصاره. والحرص: وهو الذي أخرج آدم من الجنة. والحسد: وهو الذي جرّأ أحد ابني آدم على أخيه.
فمن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقى الشر. فالكفر من الكبر, والمعاصي من الحرص, والبغي والظلم من الحسد.
*جعل الله بحكمته كل جزء من أجزاء ابن آدم, ظاهرة وباطنة, آله لشيء اذا استعمل فيه فهو كماله. فالعين آلة للنظر. والأذن آلة للسماع. والأنف آلة للشم. واللسان للنطق. والفرج للنكاح. واليد للبطش. والرجل للمشي. والقلب للتوحيد والمعرفة. والروح للمحبة. والعقل آلة للتفكر والتدبر لعواقب الأمور الدينية والدنيوية وايثار ما ينبغي ايثاره واهمال ما ينبغي اهماله.
*أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه, بل أخسر منه من اشتغل عن نفسه بالناس.
*في السنن من حديث أبي سعيد يرفعه "اذا أصبح ابن آدم فان الأعضاء كلها تكفر اللسان, تقول: اتق الله, فانما نحن بك, فان استقمت استقمنا, وان اعوججت اعوججنا" حديث حسن أخرجه الترمذي في الزهد 4\523 رقم 2407, وأحمد وابن المبارك, وابن السني, وأبو نعيم, والبيهقي والسيوطي.
قوله:" تكفر اللسان", قيل: معناه تخضع له, وفي الحديث: ان الصحابة لما دخلوا على النجاشي لم يكفروا له, حديث دخول الصحابة على النجاشي أخرجه أحمد في المسند 1\202, 5\290, عن أم سلمة باسناد صحيح, وابن هشام في السيرة. أي لم يسجدوا له ويخضعوا. ولذلك قال له عمرو بن العاص : أيها الملك انهم لا يكفرون لك.
وانما خضعت للسان لأنه بريد القلب وترجمانه والواسطة بينه وبين الأعضاء. وقولها:"انما نحن بك", أي نجاتنا بك وهلاكنا بك, ولهذا قالت :" فان استقمت استقمنا وان اعوججت اعوججنا".
[32] فاتقوا الله وأجملوا الطلب
· جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" أخرجه ابن ماجه في الكفارات 2\725 (2144). بين مصالح الدنيا والآخرة, ونعيمها ولذاتها انما ينال بتقوى الله. وراحة القلب والبدن, وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناد والكد والشقاء في طلب الدنيا, انما ينال بالاجمال في الطلب, فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها, ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها, فالله المستعان.
قد نادت الدنيا على نفسها لو كان في ذا الخلق من يسمع
كم واثق بالعيش أهلكته وجامع فرقت ما يجمع
(فائدة)
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في تعوذه بين المأثم والمغرم, فان المأثم يوجب خسارة الآخرة, والمغرم يوجب خسارة الدنيا.
[33] (فائدة)
قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا} العنكبوت 69. علق سبحانه الهداية بالجهاد, فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا, وأفرض الجهاد جهاد النفس, وجهاد الهوى, وجهاد الشيطان, وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة الى جنته, ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد.
قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الاخلاص, ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر الا من جاهد هذه الأعداء باطنا, فمن نصر عليها نصر على عدوه, ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه.
[34] العداوة بين الخير والشر
ألقى الله سبحانه العداوة بين الشيطان وبين الملك, والعداوة بين العقل وبين الهوى, والعداوة بين النفس الأمارة وبين القلب. وابتلى العبد بذلك وجمع له بين هؤلاء, وأمد كل حزب بجنود وأعوان, فلا تزال الحرب سجالا ودولا بين الفريقين, الى أن يستولي أحدهما على الآخر, ويكون الآخر مقهورا معه. فاذا كانت النوبة للقلب والعقل والملك فهناك السرور والنعيم واللذة والبهجة والفرح قرة العين وطيب الحياة وانشراح الصدر والفوز بالغنائم.
واذا كانت النوبة للنفس والهوى والشيطان فهنالك الغموم والهموم والأحزان وأنواع المكاره وضيق الصدر ةحبس الملك. فما ظنك بملك استولى عليه عدوه فأنزله عن سرير ملكه وأسره وحبسه وحال بينه وبين خزائنه وذخائره وخدمه وصيّرها له, ومع هذا فلا يتحرك الملك لطلب ثأره, ولا يستغيث بمن يغيثه, ولا يستنجد بمن ينجده. وفوق هذا الملك ملك قاهر لا يقهر, وغالب لا يغلب, وعزيز لا يذل, فأرسل اليه: ان استنصرتني نصرتك, وان استغثت بي أغثتك, وان التجأت الي أخذت بثأرك, وان هربت الي وأويت الي سلطتك على عدوك جعلته تحت أسرك.
فان قال هذا الملك المأسور: قد شد عدوي وثاقي وأحكم رباطي, واستوثق مني بالقيود, ومنعني من النهوض اليك, والفرار اليك, والمسير الى بابك, فان أرسلت جندا من عندك يحل وثاقي, ويفك قيودي, ويخرجني من حبسه, أمكنني أن أوافي بابك, والا لم يمكنني مفارقة محبسي, ولا كسر قيودي.
فان قال ذلك احتجاجا على ذلك السلطان, ودفعا لرسالته, ورضا بما هو فيه عند عدوّه, خلاه السلطان الأعظم وحاله وولاه ما تولى. وان قال ذلك افتقارا اليه, واظهارا لعجزه وذله, وأنه أضعف وأعجز من أن يسير اليه بنفسه, ويخرج من حبس عدوه, ويتخلص منه بحوله وقوته, وأن من تمام نعمة ذلك عليه, كما أرسل اليه هذه الرسالة, أن يمده من جنده ومماليكه بمن يعينه على الخلاص, ويكسر باب محبسه, ويفك قيوده.
فان فعل به ذلك فقد أتم انعامه عليه, وان تخلى عنه, فلم يظلمه, ولا منعه حقا هو له, وأن رحمته وحكمته اقتضى منعه وتخليته في محبسه, ولا سيما اذا علم أن الحبس حبيه, وأن هذا العدو الذي حبسه مملوك من مماليكه, وعبد من عبيده, ناصيته بيده لا يتصرف الا باذنه ومشيئته, فهو غير ملتفت اليه, ولا خائف منه, ولا معتقد أن له شيئا من الأمر, ولا بيده نفع ولا ضر, بل هو ناظر الى مالكه, ومتولى أمره ومن ناصيته بيده, وقد أفرده بالخوف والرجاء, والتضرّع اليه والالتجاء, والرغبة والرهبة, فهناك تأتيه جيوش النصر والظفر.
أعلى الهمم في طلب العلم, طلب علم الكتاب والسنة, والفهم عن الله ورسوله نفس المراد, وعلم حدود المنزل. وأخّس هموه طلاب العلم, قصر همته على تتبع شواذ المسائل, وما لم ينزل, ولا هو واقع, أو كانت همته معرفة الاختلاف, وتتبع أقوال الناس, وليس له همة الى معرفة الصحيح من تلك الأقوال. وقلّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه.
وأعلى الهمم في باب الارادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف مع مراده الديني الأمري. وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله, فهو انما يعبد لمراده منه لا لمراد الله منه, فالأول يريد الله ويريد مراده, والثاني: يريد من الله وهو فارغ عن ارادته.
علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون اليها الناس بأقوالهم ويدعونهم الى النار بأفعالهم, فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا: قالت أفعالهم:لا تسمعوا منهم. فلو كان ما دعوا اليه حقا كانوا أول المستجيبين له, فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع طرق. اذا كان الله وحده حظك ومرادك فالفضل كله تابع لك يزدلف اليك, أي أنواعه تبدأ به, واذا كان حظك ما تنال منه, فالفضل موقوف عنك لأنه بيده تابع له, فعل من أفعاله, فاذا حصل لك, حصل لك الفضل بطريق الضمن والتبع, واذا كان الفضل مقصودك, لم يحصل الله بطريق الضمن والتبع, فان كنت قد عرفته, وأنست به, ثم سقطت الى طلب الفضل, حرمك اياه عقوبة لك ففاتك الله وفاتك الفضل.
[35] صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتصاره
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصر العدو دخل في حصر النصر, فبعثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف, فطار ذكره في الآفاق, فصار الخلق معه ثلاثة أقسام:
مؤمن به, ومسالم له, وخائف منه. ألقى الصبر في مزرعة:{ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} الأحقاف 35, فاذا أغصان النبات تهتز بخزامى: {والحرمات قصاص} البقرة 194.
فدخل مكة دخولا ما دخله أحدا قبله ولا بعده, حوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم الا الحدق.
والصحابة على مراتبهم, والملائكة فوق رؤوسهم, وجبريل يتردد بينه وبين ربه, وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه, فلما قايس بين هذا اليوم وبين يوم:{ واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}الأنفال30, فأخرجوه ثاني اثنين. دخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعا وذلا لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت اليه فيه الخليقة رؤوسها ومدت اليه الملوك أعناقها. فدخل مكة مؤيدا منصورا.
وعلا بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة, فنشر بزا طوى عن القوم من يوم قوله:" أحد أحد". ورفع صوته بالأذان, فأجابته القبائل من كل ناحية, فأقبلوا يؤمون الصوت, فدخلوا في دين الله أفواجا وكانوا قبل ذلك يأتون آحادا.
فلما جلس الرسول صلى اله عليه وسلم على منبر العز, وما نزل عنه قط, مدت الملوك أعناقها بالخضوع اليه. فمنهم من سلم اليه مفاتيح البلاد, ومنهم من سأله الموادعة والصلح, ومنهم من أقر بالجزية والصغار. ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب, ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأساري اليه.
فلما تكامل نصره وبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ةوجاءه منشور: {انّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيز} الفتح1-3. وبعده توقيع: { اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } النصر 1,2. جاءه رسول ربه يخيره بين المقام في الدنيا وبين لقائه, فاختار لقاء ربه شوقا اليه, فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك.
اذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه*فرحا واستبشارا بقدوم روحه, فكيف بقدوم روح سيّد الخلائق؟ فيا منتسبا الى غير هذا الجناب, ويا واقفا بغير هذا الباب, ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون عليها: {يوم تبلى السرائر}الطارق 9. * الذي اهتز له عرش الرحمن هو الصحابي الجليل سعد بن معاذ فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ". البخاري في مناقب الأنصار 7\154 (3803), ومسلم في فضائل الصحابة 4\1915 (123-124) والترمذي, وابن ماجه وأحمد.
[36] يا مغرور بالأماني
لعن ابليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها, وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها, وحجب القاتل بعد أن رآها عيانا بملء مف من آدم, وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بايلاج قدر الأنملة فيما لا يحل, وأمر بايساع الظهر سياطا بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر, وأبان عضوا من أعضائك بثلاثة دراهم (قطع يد السارق اذا سرق ما مقداره ثلاثة دراهم), فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيك:{ولا يخاف عقباها} الشمس 15.
"دخلت امرأة النار في هرة" جزء من حديث صحيح, أخرجه البخاري في بدء الخلق 6\409 (3318), ومسلم في التوبة 4\2110 (20), وابن ماجه وأحمد من حديث أبو هريرة.
"وان الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب", معنى حديث أخرجه البخاري في الرقاق 11\314 رقم (6477) عن أبي هريرة:" ان العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق", ومسلم في الزهد 2988.
"وان الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة, فاذا كان عند الموت جار(ظلم) في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار".أخرجه أبو داود في الوصايا برقم 2868, والترمذي رقم 2118, من حديث أبو هريرة: "ان الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار".
[37] العمل بآخره والعمل بخاتمته*
من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته, ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعا, ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه.
لو قدمت لقمة وجدتها, ولكن يؤذيك الشره.
كم جاء الثواب يسعى اليك فوقف بالباب فرده بواب "سوف ولعل وعسى".
كيف الفلاح بين ايمان ناقص, وأمل زائد, ومرض لا طبيب له ولا عائد, وهوى مستيقظ, وعقل راقد, ساهيا في غمرته, عهما في سكرته, سابحا في لجّة جهله, مستوحشا من ربه, مستأنسا بخلقه, ذكر الناس فاكهته وقوته, وذكر الله حبسه وموته, لله منه جزء يسير من ظاهره, وقلبه ويقينه لغيره.
لا كان من اسواك بقية يجد السبيل بها اليه العذل
جزء من حديث أخرجه البخاري في القدر 11\507 رقم 6607, وأحمد في المسند 5\335.
[38] لماذا كان أول المخلوقات القلم وآخرها آدم عليه السلام
كان أول المخلوقات القلم, ورد بلفظ" أن أول ما خلق الله القلم", أخرجه أبو داود في السنة 4700, والترمذي 2156 وأحمد في المسند عن عبادة بن الصامت, ليكتب المقادير قبل كونها, وجعل آدم آخر المخلوقات وفي ذلك حكم.
الأولى: تمهيد الأرض قبل الساكن.
الثانية: أنه الغاية التي خلق لأجلها ما سواه من السموات والأرض والشمس والقمر والبر والبحر.
الثالثة: أنه أحذق الصنّاع يختم عمله بأحسنه وغايته كما يبدؤه بأساسه ومبادئه.
الرابعة: أن النفوس متطلعة الى النهايات والأواخر دائما, ولهذا قال موسى عليه السلام للسحرة: أولا{ ألقوا ما أنتم ملقون}يونس80 , فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا الى ما يأتي بعده.
الخامسة: أن الله سبحانه أخّر أفضل الرسل والأنبياء والأمم الى آخر الزمان وجعل الآخرة خيرا من الأولى, والنهايات أكمل من البدايات, فكم بين قول الملك للرسول اقرأ, فيقول:{ ما أنا بقارىء}, وبين قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} المائدة 3.
السادسة: أنه سبحانه جمع ما فرقه في العالم في آدم, فهو العالم الصغير وفيه ما في العالم الكبير.
السابعة: أنه خلاصة الوجود وثمرته, فناسب أن يكون خلقه بعد الموجودات.
الثامنة: أن من كراماته على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وآلات معيشته وأسباب حياته, فما رفع رأسه الا وذلك كله حاضر عتيد.
التاسعة: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات عليه في الخلق, ولهذا قالت الملائكة: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا. فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة, فلما وقع في الذنب ظنت الملائكة أن ذلك الفضل قد نسخ ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة, فلما تاب الى ربه, وأتى بتلك العبودية, علمت الملائكة أن لله في خلقه سرا لا يعلمه سواه.
العاشرة: أنه سبحانه لما اقتتح خلق هذا العالم بالقلم كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الانسان, فان القلم آلة العلم, والانسان هو العالم. ولهذا أظهر سبحانه فضل آدم على الملائكة الذي اختص به دونهم.
[39] كتابة عذر آدم قبل هبوطه الى الأرض
وتأمل كيف كتب سبحانه عذر آدم قبل هبوطه الى الأرض ونبه الملائكة على فضله وشرفه ونوه باسمه قبل ايجاده بقوله:{ اني جاعل في الأرض خليفة} البقرة 30.
وتأمل كيف وسمه بالخلافة وتلك ولاية له قبل وجوده, وأقام عذره قبل الهبوط بقوله: { في الأرض}- والمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته. فلما صوره على باب الجنة أربعين سنة لأن دأب المحب الوقوف على باب حبيبه, ورمى به طريق الذل:{لم يكن شيئا} الانسان1, لئلا يعجب يوم {اسجدوا}. وكان ابليس يمر على جسده فيعجب منه ويقول: لأمر قد خلقت, ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ويقول: لئن سلطت علي لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك, ولم يعلم أن هلاكه على يده. رأى طينا مجموعا فاحتقره.
فلما صور الطين صورة دب فيه داء الحسد, فلما نفخ فيه الروح مات الحاسد. فلما بسط له بساط العز, عرضت عليه المخلوقات, فاستحضر مدعي {ونحن نسبح } الى حاكم {أنبئوني}. وقد أخفى الوكيل عنه بينة {وعلم} فنكسوا رؤوس الدعاوى على صدور الاقرار. فقام منادي التفضيل في أندية الملائكة ينادي:{ اسجدوا}, تطهروا من حدث دعوى {ونحن} بماء العذر في آنية {لا علم لنا }, فسجدوا على طهارة التسليم, وقام ابليس ناحية لم يسجد, لأنه خبث, وقد تلون بنجاسة الاعتراض. وما كانت نجاسته تتلافى بالتطهير, لأنها عينية, فلما تم كمال آدم قيل: لا بد من خال جمال على وجه {اسجدوا}, فجرى القدر بالذنب, ليتبين أثر العبودية في الذل.
يا آدم! لو عفى لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون: كيف فضل ذو شره لم يصبر على شجرة. لولا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس, ولا نزلت رسائل "هل من سائل" *ولعلّه يقصد حديث:" ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى السماء الدنيا.." البخاري في التوحيد 13\473 برقم 7494, عن أبي هريرة ومسلم في صلاة المسافرين رقم (758). ولا فاحت روائح "ولخلوف فم الصائم" جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والدرامي و(أحمد 2\232, 393, 407,457.), فتبين حينئذ أن ذلك التناول لم يكن عن شره.
يا آدم, ضحكك في الجنة لك, وبكاؤك في دار التكليف لنا.
ما ضر من كسره عزي, اذا جبره فضلي انما تليق خلعة العز ببدن الانكسار. أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. ما زالت تلك الأكلة تعاده حتى استولى داؤه على أولاده, فأرسل اليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود:{ فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} طه 123. فحماهم الطبيب بالمناهي, وحفظ القوة بالأمر, واستفرغ أخلاطهم الرديئة بالتوبة, فجاءت العافية من كل ناحية.
فيا من ضيّع القوة ولم يحفظها, وخلط في مرضه وما احتمى, ولا صبر على مرارة الاستفراغ, لا تنكر قرب الهلاك, فالداء مترام الى الفساد. لو ساعد القدر فأعنت الطبيب على نفسك بالحمية من شهوة خسيسة ظفرت بأنواع اللذات وأصناف المشتهيات. ولكن بخار الشهوة غطى عين البصيرة, فظننت أن الحزم بيع الوعد بالنقد. يا لها من بصيرة عمياء, جزعت من صبر ساعة, واحتملت ذل الأبد. سافرت في طلب الدنيا وهي عنها زائلة, وقعدت عن السفر الى الأخرة وهي اليها راحلة.
اذا رأيت الرجل الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير, فاعلم بأنه سفيه.
[40] فائدة الايمان بالله وحده
لما سلم آدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب:" ابن آدم, لة لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا, لقيتك بقرابه مغفرة" أخرجه مسلم في الذكر والدعاء 4\2068 (22) عن أبي ذر. وابن ماجه الترمذي وأحمد, وقراب الأرض هو ما يقارب ملأها, بكسر القاف.
لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصدا لمخالفته ولا قدحا في حكمته, علمه كيف يعتذر اليه: { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه }البقرة 37. العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه, ولكن غلبات الطبع, وتزيين النفس والشيطان, وقهر الهوى, والثقة بالعفو, ورجاء المغفرة, هذا من جانب العبد.
وأما من جانب الربوبية فجريان الحكم, واظهار عز الربوبية وذل العبودية وكمال الاحتياج, وظهور آثار الأسماء الحسنى: كالعفو والغفور والتوّاب والحليم, لمن جاء تائبا نادما, والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد لمن أصر ولزم المعرّة (الاثم والجناية).
فهو سبحانه يريد أن يري عبده تفرده بالكمال, ونقص العبد وحاجته اليه. ويشهده كمال قدرته وعزته, وكمال مغفرته وعفوه ورحمته, وكمال بره وستره, وحلمه وتجاوزه وصفحه, وأن رحمته به احسان اليه لا معارضة, وأنه ان لم يتغمّده برحمته وفضله فانه هالك لا محالة,* لما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري في المرض 10\109, عن أبي هريرة يرفعه:" لن يدخل أحد منكم عمله الجنة, قالوا ولا أنت. قال ولا أنا الا أن يتغمدني الله برحمته.
كم في تقدير الذنب من حكمة, وكم فيه مع تحقيق التوبة للعبد من مصلحة ورحمة. التوبة من الذنب كشرب الدواء للعليل, ورب علة كانت سبب الصحة.
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجساد بالعلل
لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.
ذنب يذل به أحب اليه من طاعة يدل بها عليه.
شمعة النصر انما تنزل من شمعدان الانكسار.
لا يكرم العبد نفسه بمثل اهانتها, ولا يعزها بمثل ذلها, ولا يريحها بمثل تعبها, كما قيل:
سأتعب نفسي أو أصادف راحة فان هوان النفس في كرم النفس
ولا يشبعها بمثل جوعها, وات يؤمنها بمثل خوفها, ولا يؤنسها بمثل وحشتها من كل ما سوى بارئها وفاطرها ولا يميتها بمثل اماتتها, كما قيل:
موت النفوس حياتها من شاء أن يحيا يمت
شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرق(الغصة من الحلق), منم تذكر خنق الفخ هان عليه هجران الحبة.
يا معرقلا في شرك الهوىّ جمزة(العدو السريع)! عزم وقد خرقت الشبكة.
لا بد من نفوذ القدر فاجنح للسلم. له ملك السموات للأرض, واستقرض منك حبة فبخلت بها, وخلق سبعة أبحر وأحب منها دمعة فقحطت عينيك بها.
اطلاق البصر ينفش في القلب صورة المنظور, والقلب كعبة, والمعبود لا يرضى بمزاحمة الأصنام.
لذات الدنيا كسوداء وقد غلبت عليك, والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن, غير أن زوبعة الهوى اذا ثارت سفت في عين البصيرة فخفيت الجادة.
سبحان الله, تزينت الجنة للخطّاب فجدوا في تحصيل المهر, وتعرّف رب العزة الى المحبين بأسمائه وصفاته فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف.
لا مكن من لسواك منه قلبه ولك اللسان مع الوداد الكاذب
المعرفة بساط لا يطأ عليه الا مقرب, والمحبة نشيد لا يطرب عليه الا محب مغرم.
الحب غدير في صحراء ليست بها جادة, فلهذا قل وارده.
المحب يهرب الى العزلة والخلوة بمحبوبه والأنس بذكره كهرب الحوت الى الماء والطفل الى أمه.
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا
ليس للعابد مستراح الا تحت شجرة طوبى, ولا للمحب قرار الا يوم المزيد. اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت.
يا منفقا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه, ليس في أعدائك أضر عليك منه.
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
الهمة العليّة من استعد صاحبحه للقاء الحبيب, وقدم التقادم بين يدي الملتقى, فاستبشر عند القدوم:{ وقدّموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشّر المؤمنين} البقرة 223.
تالله ما عدا عليك العدو الا بعد أن تولى عنك الولي, فلا تظن أن الشيطان غلب, ولكن الحافظ أعرض.
احذر نفسك, فما أصابك بلاء قط الا منها, ولا تهادنها فوالله ما أكرمها من لم يهنها, ولا أعزها من لم يذلها, ولا جبرها من لم يكسرها, ولا أراحها من لم يتعبها, ولا أمنها من لم يخوفها, ولا فرحها من لم يحزنها.
سبحان الله, ظاهرك متجمل بلباس التقوى, وباطنك باطية(اناء) لخمر الهوى, فكلما طيبت الثوب فاحت رائحة المسكر من تحته, فتباعد منك الصادقون, وانحاز اليك الفاسقون.
يدخل عليك لص الهوى وأنت في زاوية التعبد فلا يرى منك طردا له, فلا يزال بك حتى يخرجك من المسجد.
أصدق في الطلب وقد جاءتك النعونة.
قال رجل لمعروف: علمني المحبة, فقال: المحبة لا تجيء بالتعليم.
هو الشوق مدلولا على مقتل الفتى اذا لم يعد صبا بلقيا حبيبه
ليس العجب من قوله يحبونه, انما العجب من قوله يحبهم.
ليس العجب من فقير مسكين يحب محسنا اليه, انما العجب من محسن يحب فقيرا مسكينا.
[41] الله يتجلى لعباده بصفاته في كلامه
القرآن كلام الله, وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته, فتارة يتجلى في جلباب (ليس على ظاهره, وانما المراد بالجلباب الهيئة والصورة والصفة) الهيبة والعظمة والجلال, فتخضع الأعناق, وتنكسر النفوس, وتخشع الأصوات, ويذوب الكبر, كما يذوب الملح في الماء, وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال, وهو كمال الأسماء, وجمال الصفات, وجمال الأفعال الدال على كمال الذات, فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها, بحسب ما عرفه من صفات جماله, ونعوت كماله, فيصبح فؤاد عبده فارغا الا محبته, فاذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الاباء , كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فتبقى المحبة له طبعا لا تكلفا. واذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والاحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد, وانبسط أمله, وقوى طمعه, وسار الى ربه, وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره. وكلما قوي الرجاء جد في العمل, كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر, واذا ضعف رجاؤه قصر في البذر.
واذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة, انقمعت النفس الأمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات, انقبضت أعنة رعوناتها, فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.
واذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وارسال الرسل وانزال الكتب وشرع الشرائع, انبعثت منها قوة الامتثال, والتنفيذ لأوامره, والتبليغ لها, والتواصي بها, وذكرها وتذكرها, والتصديق بالخير, والامتثال للطلب, والاجتناب للنهي.
واذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم, انبعثت من العبد قوة الحياء, فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره, أو يسمع منه ما يكره, أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه, فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع, غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.
واذا تجلى بصفات الكفاية والحسب, والقيام بمصالح العباد, وسوق أرزاقهم اليهم, ودفع المصائب عنهم, ونصره لأوليائه, وحمايته لهم, ومعيته الخاصة اهم, انبعثت من العبد قوة التوكل عليه, والتفويض اليه, والرضا به في كل ما يجريه على عبده, ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه. والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله, وحسن اختياره لعبده, وثقته به, ورضاه بما يفعله ويختاره له.
واذا تجلى بصفات العز والكبرياء, أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت اليه من الذل لعظمته, والانكسار لعزته, والخضوع لكبريائه, وخشوع القلب والجوارح له, فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته, ويذهب طيشه وقوته وحدته.
وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف الى العبد بصفات الهيته تارّة, وبصفات ربوبيته تارة, فيوجب له شهود صفات الالهية المحبة الخاصة, والشوق الى لقائه, والأنس والفرح به, والسرور بخدمته, والمنافسة في قربه, والتودد اليه بطاعته, واللهج بذكره, والفرار من الخلق اليه, ويصير هو وحده همه دون ما سواه. ويوجب له شهود صفات الربوبية والتوكل عليه, والافتقار اليه, والاستعانة به, والذل والخضوع والانكسار له.
وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في الهيته, والهيته في ربوبيته, وحمده في ملكه, وعزه في عفوه, وحكمته في قضائه وقدره, ونعمته في بلائه, وعطاءه في منعه, وبره ولطفه واحسانه ورحمته في قيوميّته, وعدل في انتقامه, وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه. ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه, وعزه في رضاه وغضبه, وحلمه في امهاله, وكرمه في اقباله, وغناه في اعراضه.
وأنت اذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف, وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين, أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه, يدبر أمر عباده, يأمر وينهي, ويرسل الرسل, وينزل الكتاب, ويرضى ويغضب, ويثيب ويعاقب, ويعطي ويمنع, ويعز ويذل, ويخفض ويرفع, ويرى من فوق سبع ويسمع, ويعلم السر والعلانية, فعّال لما يريد, موصوف بكل كمال, منزه عن كل عيب, لا تتحرك ذرّة فما فوقها الا باذنه, ولا تسقط ورقة الا بعلمه, ولا يشفع أحد عنده الا باذنه, ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع.
[42] "لا تحزن ان الله معنا" تقوى القلب
جزء من حديث أخرجه البخاري في فضائل الصحابة 7\10(3652), ومسلم في فضائل الصحابة 4\1854(1), وأحمد في المسند 1\3.
لما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل العقبة أمر الصحابة بالهجرة الى المدينة, فعلمت قريش أن أصحابه قد كثروا وأنهم سيمنعونه, فأعملت آراءها في استخراج الحيل, فمنهم من رأى الحبس, ومنهم من رأى النفي. ثم اجتمع رأيهم على القتل, فجاء البريد بالخبر من السماء وأمره أن يفارق المضجع, فبات علي مكانه ونهض الصديّق لرفقة السفر. فلما فارقا بيوت مكة اشتد الحذر بالصدّيق فجعل يذكر الرصد فيسير أمامه وتارة يذكر الطلب فيتأخر وراءه, وتارة عن يمينه وتارة عن شماله الى أن انتهيا الى الغار, فبدأ الصدّيق بدخوله ليكون وقاية له ان كان ثم مؤذ. وأنبت الله شجرة لم تكن قبل, فأظلّت المطلوب وأضلّت الطالب, وجاءت عنكبوت فحازت وجه الغار فحاكت ثوب نسجها عن منوال الستر, فأحكمت الشقة حتى عمي على القائف المطلب, وأرسل الله حمامتين فاتخذتا هناك عشا جعل على أبصار الطالبين غشاوة, وهذا أبلغ في الاعجاز من مقاومة القوم بالجنود.
فلما وقف القوم على رؤوسهم وصار كلامهم بسمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصدّيق, قال الصدّيق وقد اشتد به القلق: يا رسول الله, لو أن أحدهم نظر الى ما تحت قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنه قد اشتد, لكن لا على نفسه, قوي قلبه ببشارة {لا تحزن ان الله معنا} التوبة الآية 40. فظهر سر هذا الاقتران في المعية لفظا, كما ظهر حكما ومعنى, اذ يقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله رضي الله عنه, فلما مات صلى الله عليه وسلم قيل: خليفة رسول الله , ثم انقطعت اضافة الخلافة بموته فقيل: أمير المؤمنين.
فأقاما في الغار ثلاثا ثم خرجا منه ولسان القدر يقول: لتدخلنها دخولا لم يدخله أحد قبلك ولا ينبغي لأحد من بعدك. فلما استقلا على البيداء لحقهما سراقة بن مالك, فلما شارف الظفر أرسل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم سهما من سهام الدعاء, فساخت قوائم فرسه في الأرض الى بطنها, فلما علم أنه لا سبيل له عليهما أخذ يعرض المال على من قد رد مفاتيح الكنوز ويقدم الزاد الى شعبان " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني", أخرجه البخاري في الصوم 4\234 (1961-1964), ومسلم وأحمد في المسند 3\8عن أبي سعيد و 6\126 عن عائشة.
كانت تحفة ثاني اثنين مدخرة للصديق, دون الجميع, فهو الثاني في الاسلام وفي بذل النفس وفي الزهد وفي الصحبة وفي الخلافة وفي العمر, وفي سبب الموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات عن أثر السم,*يروي البخاري تعليقا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه:"يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر, وهذا أوان ما وجدت انقطاع ابهري من ذلك السم". وأبو بكر سم فمات (روى ابن جرير الطبري في التاريخ 3\419 قال: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزّة..... .
أسلم على يديه من العشرة: عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص. وكان عنده يوم أسلم أربعون ألف درهم فأنفقها أحوج ما كان الاسلام اليها, فلهذا جلبت نفقته عليه" ما نفعني مال, ما نفعني مال أبي بكر" جزء من حديث أخرجه ابن ماجه في المقدمة1\36(94) وأحمد والسيوطي. فهو خير من مؤمن آل فرعون؛ لأن ذلك كان يكتم ايمانه والصدّيق أعلن به, وخير من مؤمن آل {يس}؛ لأن ذلك جاهد ساعة والصديق جاهد سنين.
عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الايثار ويصيح:{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} البقرة245, فألقى له حب المال على روض الرضى واستلقى على فراش الفقر, فنقل الطائر الحب الى حوصلة المضاعفة ثم علا على أفنان شجرة الصدق يغرد بفنون المدح, ثم قام في محاريب الاسلام يتلو:{ وسيجنّبها الأتقى, الذي يؤتي ماله يتزكى}الليل 17و18. نطقت بفضله الآيات والأخبار؛ واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار.
فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار, كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار. أترى لم يسمع الروافض الكفّار {ثاني اثنين اذ هما في الغار} التوبة 40. دعي الى الاسلام فما تلعثم ولا أبى, وسار على المحجّة فما زال ولا كبا, وصبر في مدته من مدى العدى على وقوع الشبا, وأكثر في الانفاق فما قاا حتى تخلل بالعبا (أي لقي وجه ربه تعالى).
تالله قد زاد على السبك في كل دينار دينار {ثاني اثنين اذ هما في الغار} من كان قرين النبي في شبابه. من ذا الذي سبق الى الايمان من أصحابه. من الذي أفتى بحضرته سريعا في جوابه, من أوّل من صلّى معه؟ ومن آخر من صلّى به؟ من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه (دفن بجوار الرسول في حجرة السيدة عائشة), فاعرفوا حق الجار.
نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ, وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الالحاظ, فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره, ولكن أين الفرار؟. كم وقى الرسول بالنفس والمال, وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس(تراب القبر). فضائله جلية وهي خليّة عن اللبس. يا عجبا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار, لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث, فاستوحش الصديق من خوف الحوادث, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:" ما ظنّك باثنين والله الثالث". فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث.فزال القلق وطاب عيش الماكث. فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصار: {ثاني اثنين اذ هما في الغار}.
حبه والله رأس الحنيفية, وبغضه يدل على خبث الطوية. فهو خير الصحابة والقرابة, والحجة على ذلك قوية. لولا صحة امامته ما قال ابن الحنفية... مهلا مهلا !! فان دم الروافض قد فار.
والله ما أحببناه لهوانا, ولا نعتقد في غيره هوانا, ولكن أخذنا بقول علي رضي الله عنه: "كفانا رضيك رسول الله لديننا, أفلا نرضاك لدنيانا تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر" اعجاز القرآن ص 143-145 . تالله لقد وجب حق الصدّيق علينا, فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السنى(الضوء الذي يصحب اليرق) عينا, فمن كان رافضيا فلا يعد الينا وليقل: لي أعذار.
[43] (تنبيه)
اجتناب من يعادي أهل كتاب الله وسنة رسوله
اجتنب من يعادي أهل الكتاب والسنة لءلا يعديك خسرانه. احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخلق: صادّ عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله, ومفتون بدنياه ورئاسته.
من خلق فيه قوة واستعداد لشيء, كانت لذته في استعمال تلك القوة فيه, فلذة من خلقت فيه قوة واستعداد للجماع واستعمال قوته فيه, ولذة من خلقت فيه قوة الغضب والتوثب استعمال قوته الغضبية في متعلقها, ومن خلقت فيه قوة الأكل والشرب فلذته باستعمال قوته فيهما. ومن خلقت فيه قوة العلم والمعرفة فلذته باستعمال قوته وصرفها الى العلم. ومن خلقت فيه قوة الحب لله, والانابة اليه, والعكوف بالقلب عليه, والشوق اليه, والأنس به, فلذته ونعيمه استعمال هذه القوة في ذلك. وسائر اللذات دون هذه اللذة مضمحلة فانية, وأحمد عاقبتها أن تكون لا له ولا عليه.
[44] (تنبيه)
من المواعظ والحكم
يا أيها الأعزل احذر فراسة المتقى, فانه يرى عورة عملك من وراء ستر "اتقوا فراسة المؤمن" أخرجه الترمذي في التفسير 5\278(3127).
سبحان الله:
في النفس كبر ابليس, وحسد قابيل, وعتو عاد, وطغيان ثمود, وجرأة نمرود, واستطالة فرعون, وبغى قارون, وقحّة هامان (أي لؤم), وهوى بلعام (عرّاف أرسله ملك ليلعن بني اسرائيل فبارك ولم يلعن), وحيل أصحاب السبت, وتمرّد الوليد, وجهل أبي جهل.
وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب, وشره الكلب, ورعونة الطاووس, ودناءة الجعل, وعقوق الضب, وحقد الجمل, ووثوب الفهد, وصولة الأسد, وفسق الفأرة, وخبث الحية, وعبث القرد, وجمع النملة, ومكر الثعلب, وخفة الفراش, ونوم الضبع.
غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك. فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند, ولا تصلح سلعته لعقد: {ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} التوبة 111, فما اشترى الا سلعة هذبها الايمان, فخرجت من طبعها الى بلد سكانه التائبون العابدون.
سلم المبيع قبل أن يتلف في يدك فلا يقبله المشتري, قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها, فسلمها لك والأمان من الرد.
قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها, والثمن المبذول فيها, والمنادي عليها, فاذا كان المشترى عظيما, والثمن خطيرا, والمنادي جليلا, كانت السلعة نفيسة.
يا بائعا نفسه بيع الهوان, لو اس ترجعت ذا البيع قبل الفوات, لم تخب
وبائعا طيب عيش ماله خطر, بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله!! غبنا فاحشا, ولدى يوم التغابن تلقى غاية الحرب
وواردا صفو عيش كله كدر, أمامك الورد حقا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا لكل داهية, تدني من العطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنيا نفسه في ﺇثر أقبحهم وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهبا نفسه من مثل ذا سفها, لو كنت تعرف قدر النفس لم تهب
شاب الصبا, والتصابي بعد لم يشب, وضاع وقتك بين اللهو والعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها, والفيء في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد جد, وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف, والدنيا قد ارتحلت, ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار, وقد سارت ركائب من تهواه, للصب من شكر ولا أرب
فأفرش الخد ذياك التراب, وقل ما قاله صاحب الأشواق والحقب
ما ربح مية محفوفا يطيف به غيلان, أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود ولو أدمين من ضرج أشهى الى ناظري من خدّك الترب
منازلا كان يهواها, ويألفها أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له, يهوى اليها هوى الماء في الصبب
أحيي له الشوق تذكار العهود بها, فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا, وكم منزل في الأرض يألفه وما له في سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك ان بثثته بعض شأن الحب, فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتديا بنفخة الطيب, لا بالعود والحطب
وعاد كل أخي جبن ومعجزة, وحارب النفس, لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نورا تستضيء به يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
******
ان كان يوجب صبري رحمتي فرضا بسوء حالي وحل للضنا بدنى
منحتك الروح لا أبغي لها ثمنا الا رضاك ووافقري الى الثمن
******
أحن بأطراف النهار صبابة وبالليل يدعوني الهوى فأجيب
******
واذا لم يكن من العشق بد فمن العجز عشق غير الجميل
******
فلو أن ما أسعى لعيش معجل كفاني منه بعض ما أنا فيه
ولكنكما أسعى لملك مخلد فوا أسفا ان لم أكن بملاقيه
******
يا من هو من أرباب الخبرة, هل عرفت قيمة نفسك؟ انما خلقت الأكوان كلها لك.
يا من غذى بلبان البر, وقلب بأيدي الألطاف, كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة, وصورة وأنت المعنى, وصدف وأنت الدر, ومخيض وأنت الزبد.
منشور اختيارنا لك واضح الخط, ولكن استخراجك ضعيف.
متى رمت طلبي فاطلبني عندك, اطلبني منك تجدني قريبا, ولا تطلبني من غيرك فأنا أقرب اليك منه.
لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي, انما أبعدنا ابليس اذ لم يسجد لك, وأنت في صلب أبيك, فواعجبا كيف صالحته وتركتنا! لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك.
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني ألست أرى الأعضاء منك كواسيا
لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات.
ولو كنت عذري الصبابة لم تكن بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
لو صحّت محبتك لاستوحشت ممن لا يذكرك بالحبيب. واعجبا لمن يدعي المحبة, ويحتاج الى من يذكره بمحبوبه, فلا يذكره الا بمذكر. أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب.
ذكرتك لا أني نسيتك ساعة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
اذا سافر المحب للقاء محبوبه, ركبت جنوده معه, فكان الحب في مقدمة العسكر, والرجاء يحدو بالمطى, والشوق يسوقها, والخوف يجمعها على الطريق, فاذا شارف قدوم بلد الوصل, خرجت تقادم الحبيب باللقاء.
فداو سقما بجسم أنت متلفه وأبرد غراما بقلب أنت مضرمه
ولا تكلني على بعد الديار الى صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه
تلق قلبي فقد أرسلته عجلا الى لقائك والأشواق تقدمه
فاذا دخل على الحبيب أفيضت عليه الخلع من كل ناحية, ليمتحن أيسكن اليها فتكون حظه, أم يكون التفاته الى من ألبسه اياها.
ملأوا مراكب القلوب متاعا لا تنفق الا على الملك, فلما هبت رياح السحر أقلعت تلك المراكب, فما طلع الفجر الا وهي بالميناء.
قطعوا بادية الهوى بأقدام الجد, فما كان الا القليل حتى قدموا من السفر, فأعقبهم الراحة في طريق التلقي, فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الأبد.
فرّغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة, فأقاموا العيون تحرس تارّة وترش أخرى.
سرداق المحبة لا يضرب الا في قاع نزه فارغ.
نزّه فؤادك من سوانا وألقنا فجنابنا حل لكل منزّه
والصبر طلسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلسم, فاز بكنزه
اعرف قدر ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت.
لو تخيلت قرب الأحباب لأقمت المأتم على بعدك.
لو استنشقت ريح الأسحار لأفاق منك قلبك المخمور.
من استطال الطريق ضعف مشيه.
وما أنت بالمشتاق, ان قلت بيننا طوال الليالي, أو بعيد المفاوز
أما علمت أن الصادق: اذا هم ألقى بين عينيه عزمه.
اذا نزل آب في القلب حل آذار في العين.
هان سهر الحرّاس لما علموا أن أصواتهم بسمع الملك.
من لاح له حال الآخرة هان عليه فراق الدنيا. اذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف.
يا أقدام الصبر احملي بقي القليل. تذكر حلاوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة.
قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر. أعلى الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب, وقدم القادم بين يدي الملتقى, فاستبشر بالرضا عند قدوم:{ وقدموا لأنفسكم}. الجنة ترضى منك بأداء الفرائض, والنار تندفع عنك بترك المعاصي, والمحبة لا تقنع منك الا ببذل الروح.
لله!! ما أحلى زمان تسعى فيه أقدام الطاعة على أرض الاشتياق.
لما سلم القوم النفوس الى رائض الشرع, علمها الوفاق على خلاف الطبع فاستقامت مع الطاعة, كيف دارت معها.
واني اذا اصطكت رقاب مطيهم وثوب حاد بالرفاق عجول
أخالف بين الراحتين على الحشا وأنظر أني ملثم فأميل
مواعظ وحكم أخرى:
علمت كلبك, فهو يترك شهوته في تناول ما صاده احتراما لنعمتك, وخوفا من سطوتك, وكم علمك معلم الشرع وأنت لا تفبل.
حرم صيد الجاهل والممسك لنفسه, فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوى نفسه.
جمع فيك عقل الملك, وشهوة البهيمة, وهوى الشيطان, وأنت للغالب عليك من الثلاثة: ان غلبت شهوتك وهواك؛ زدت على مرتبة ملك, وان غلبكك هواك وشهوتك: نقصت عن مرتبة كلب.
لما صاد الكلب لربه أبيح صيده, ولما أمسك على نفسه حرم ما صاده.
مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع. فهو سبحانه يصرّف عباده بين مقتضى هذين الاسمين, فحظ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء, والافتقار عند المنع, فهو سبحانه يعطيه ليشكره, ويمنعه ليفتقر اليه, فلا يزال شكورا فقيرا.
قوله تعالى: {وكان الكافر على ربه ظهيرا} الفرقان 55. هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه,و ان المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه. وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه, فهو مع الله على عدوه الداخل فيه والخارج عنه, بحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه. كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه, والبعيدون منه فارغون من ذلك, غير مهتمين به, والكافر مع نفسه وشيطانه وهواه على ربه. وعبارات السلف على هذا تدور.
ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: عونا للشيطان على ربه باعداوة والشرك.
وقال الليث عن مجاهد قال: يظاهر الشيطان على معصية الله يعينه عليها ذكره ابن جرير في التفسير 19\17.
وقال زيد بن أسلم: ظهيرا أي مواليا ذكره ابن كثير في التفسير 3\322. والمعنى أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به, فيكون مع عدوه معينا له على مساخط ربه.
فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه والهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه, ولهذا صدّر الآية بقوله:{ ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم} الفرقان 55, وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة, فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه, بخلاف وليه سبحانه, فانه معه على نفسه وشيطانه وهواه. وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله, وبالله التوفيق.
قوله تعالى: {والذين اذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا} الفرقان 73. قال مقاتل: اذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه, وعميانا لم يبصروه, ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به. وقال ابن عباس: لم يكونوا صما وعميانا, بل كانوا خائفين خاشعين. وقال الكلبي: يخرّون عليها سمعا وبصرا. وقال الفراء: واذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوه, فذلك الخرور. وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني, كقولك: قام يشتمني, وأقبل يشتمني: والمعنى على ما ذكر: لم يصيروا عندها صما وعميلنا. وقال الزجاج: المعنى: اذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما أمروا به: وقال ابن قتيبة: أي لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها.
قلت: ها هنا أمران ذكر الخرور, وتسليط النفي عليه, وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود؟ وهل المعنى: لم يكن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها خرور القلب خضوعا, أو البدن سجودا, أو ليس هناك خرور وعبر عن القعود؟
أصول المعاصي كلها, كبارها وصغارها, ثلاثة: تعلق القلب بغير الله, وطاعة القوة الغضبية, والقوة الشهوانية, وهي الشرك والظلم والفواحش. فغاية التعلق بغير الله شرك وأن يدعى معه اله آخر. وغاية القوة الغضبية القتل. وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا. ولهذل جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله:{ والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله الا بالحق ولا يزنون} الفرقان 68.
وهذه الثلاثة يدعو بعضها الى بعض, قالشرك يدعو الى الظلم والفواحش, كما أن الاخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه, قال تعالى:{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين} يوسف 24. فالسوء: العشق, والفحشاء: الزنا.
وكذلك الظلم يدعو الى الشرك والفاحشة, فان الشرك أظلم الظلم, كما أن أعدل العدل التوحيد. فالعدل قرين التوحيد, والظلم قرين الشرك, ولهذا يجمع سبحانه بينهما. أما الأول ففي قوله:{ شهد الله أنه لا اله الا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط}آل عمران 18. وأما الثاني فكقوله تعالى: {ان الشرك لظلم عظيم} لقمان 13. والفاحشة تدعو الى الشرك والظلم, ولا سيما اذا قويت ارادتها ولم تحصل الا بنوع من الظلم والاستعانة بالسحر والشيطان. وقد جمع سبحانه بين الزنى والشرك في قوله: { الزاني لا ينكح الا زانبة أو مشركة والزانية لا ينكحها الا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين} النور 3.
فهذه الثلاثة يجر بعضها الى بعض ويأمر بعضها ببعض. ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيدا وأعظم شركا كان أكثر فاحشة وأعظم تعلقا بالصور وعشقا لها. ونظير هذا قوله تعالى:{ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون *والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون} الشورى 36-37. فأخبر أن ماعنده خير لمن آمن به وتوكل عليه, وهذا هو التوحيد. ثم قال:{ والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش} فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية. ثم قال: {واذا ما غضبوا هم يغفرون}, فهذا مخالفة القوة الغضبية, فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التى هي جماع الخير كله.

المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22