عرض مشاركة واحدة
قديم 03-06-2014 ~ 06:25 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: عرض كتاب الإنجيل والصلب للقس السابق عبد الأحد داود
  مشاركة رقم 4
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


- ج -
(كلام ملكوت الله يأمر باخوة معنوية وباتحاد مادي)
السعي والاجتهاد للقومية المعصبية الجنسية خاصة عقيدة سياسية مخلة بالسعادة البشرية ومخلة بالأمن العام من حيث عموم الإنسانية ، وإذا كانت فكرة ترقي الأمة وتفوقها وتقدمها هي أخص آمالها ، فلترتقب حرباً دامية عاجلاً أو آجلاً ، لان تفوق إحدى الأمم ينتج تدنى الآخرين، وهل ثمة من أمل غير انتهاب أراضى الأمم المجاورة وثروتها وهدر شرفها وكل ما تملكه ؟ وهل إيقاع أمة كبيرة مجاورة ، وهدم ديارها وقتل أهليها ، والإحراق والإتلاف ، وارتكاب أنواع الفظائع من مكارم الأخلاق في شيء ؟ أم هل يجوز ؟ وهل قول الفرد (أضحي روحي في سبيل الأمة المتكلمة بلسان أمي) كلام يأتلف مع العدل والحق ؟ وإذا لم يكن الدستور القائل (إما أن اقتل أو اقُتل في سبيل الوطن) جنوناً فماذا هو ؟ هل يقول مثل هذا الكلام الجنوني الوحشي حكيم عاقل مهذب وقور محب للإنسانية ؟ يود الإنسان بطبيعته وخلقته لو يمتلك كل ما هو غال ونفيس ، ولكنه يضطر لصرف النظر رغائبه وعن كثير من حقوقه لكي تتسنى له الحياة وبقاء النوع وتشكيل العائلة ، لا يمكن ان تنال اللذة في الحياة الامشوية بألم الجهاد والتضحية ، إذن ماذا يستحيل أو يتعذر على الأمم فيما لو حسن سلوكها واحب بعضها بعضاً حسب قانون الملل؟
فاليوم أقوام أوربا كلها تتأهب لمحاربة بعضها بعضاً ولإراقة الدماء وكلها تريك من الاحساسات الملية عجباً . هذه الاستحضارات المدهشة الباهظة الثمن هي ضد من ؟ لا شك في أن الواحدة ضد الأخرى . هؤلاء كلهم مسيحيون ، كلهم منقادون للرهبان ، كلهم معتقدون بما كتب في الأناجيل ، كلهم يقرأون موعظة المسيح تلك الموعظة المشهورة (متى 5 إلى نهاية 7).
كلهم يمضغون لحم المسيح ويشربون دمه ، والحاصل كلهم يدعون في صلواتهم (ليأت ملكوتك لتكن إرادتك) كل أقوام أوروبا قد اجري لهم التعميد . فالبلقانيون والروس والسلاف والجرمان واللاتين والانكلوساكسون - كلهم قد تطهروا وتنظفوا وغفر لهم من الذنب المغروس (الموروث) إذن قلام أولاد هذه الكنيسة يحملون شعور حب القومية ويوجهون مدافعهم ومدرعاتهم وطيارتهم إلى صدور بني دينهم ؟ لماذا لا يرجعون إلى الصليب والإنجيل ، إلى الروح القدس - وعلى الأخص - إلى الله الآب ، عوضاً عن هذه الآلات الجهنمية ؟(*)
هيا قم الآن واجتهد في إيجاد الإخاء المعنوي والاتحاد المادي بين المسيحيين؟ هيهات هيهات ! الإخاء العيسوي ؟ الاتحاد العيسوي من المحالات ، لماذا ؟ أليس للكنيسة كتاب ؟ أليس لها ملوك ورؤساء روحانيون ؟ أليس لها قسيسون يغفرون ذنوبهم ويمحون جناياتهم بكلمة واحدة؟ هل ينقصهم الوعاظ والدعاة ؟ أو أرباب الفنون والصنائع والاختراعات ؟ أم عجزت معدهم عن الهضم بسبب التخمة من أكل الدنيا ؟ هيا ليتحدوا ، ليتحدوا باسم الصليب والإنجيل ! هل من الممكن ذلك ؟ هل يكون الكاثوليك والأرثوذكس في كنيسة واحدة ؟ والأرمن والنسطوريون أمام محراب واحد؟ أو الباتيست والانجيليكان على منبر واحد ؟
ان حضرة السيد هرمز أخي حضرة السيد مارشمون سليل يطرق النسطوريين المحترم المنسوب إلى فلك البيت الذي كان مظهر توجه الخلفاء وسلاطين المسلمين منذ أول ظهور الإسلامية ، قد راجع مسيحي الروم وغيرهم في إثناء السنتين أو الثلاث التي قضاها في القسطنطينية راجياً أن ينال لقمة من لحم (الرب يسوع) ولكنهم استنكفوا عن إهدائها له لاعتقادهم أن ذلك حرام عليهم ، هل تعلمون لماذا ؟ ذلك لان النسطوريون يأبون أن يقولوا (ان المسيح اله تام) و (إن مريم والدة الله) .
اقصد في هذه البيانات أن أقول : ان المسيحية ليست ديناً واحداً ، بل هي أديان شتى مبعثرة ، أما كلام ملكوت الله وقرآنه فهل هو أيضاً كذلك ؟ ان من له نصيب من الإنصاف يقول بالطبع حاشا وكلا ، اني عندما كنت أترجم أحياناً لباب المشيخة الإسلامية بعض الرسائل والجرائد الإنجليزية الواردة حتى من جنوبي أفريقية الباحثة في شئون جماعة المسلمين كانت تتولاني الدهشة من صدق المسلمين الساكنين هناك وفي جاوة الصين وروسية وفاس ، واحار لإخلاصهم للقرآن والدين المبين المحمدي ، أما من يدقق في حالة المسيحين الذين في أوروبا ووضعيتهم الانفرادية المتفككة الباردة يقول ويجزم متحققاً بان هؤلاء ليسوا أبناء دين واحد البتة.
يأمر كلام ملكوت السموات بإخاء معنوي والذين يؤمنون بكلام الملكوت هم أولاد الدين المعنويين بالرغم من انتسابهم إلى العروق والأقوام المختلفة ، فهم إخوان بعضهم لبعض ، فالمسلمون في الدنيا كلها يصدق عليهم انهم ولدوا جديداً من أم واحدة - هي الملة المحمدية - كالاخوة المولودين ولادة طبيعية من رحم والدة واحدة ، فامتزجت دؤماهم وموادهم الجسمانية ذلك بأنهم حيوا بروح الإيمان وتغذوا بكلام الله وسقوا من ماء الحياة واكتسوا وتزينوا بأثواب الفرائض المقدسة ، وتقووا بالأذان المحمدي ، واستناروا بالأخلاق السامية ، وتربوا وشبوا على الأطوار الحسنة ، فهؤلاء لا تكون اخوتهم مصطعنة زائفة بل هي صحيحة وحقيقة(*) .
المسلمون المرتبطون بعضهم ببعض بالروابط الدينية يمثلون الأمة المحمدية في كل حال من الأحوال روحاً ومعنى وجسماً ومادة أينما كانوا ، والى أي عرق وأي لون وأي لغة انتسبوا ألا ترى إلى هذا الأذان المحمدي ، إلى هذه الصيحة الدينية الحية الخالدة ، إلى الصدى المدهش صدى ملكوت الله ، صدى الشريعة الغراء لملكوت الله ؟ ألا ترى الحقائق الباهرة المشهود بها في التكبيرات والتحيات ؟! ثقوا بأنه ليس صوت الحان تهتز في الأفلاك ، إن هو إلا قوس سحاب القيض الرباني انعم الله به إعلاماً للعالم بدوام غيث رحمته وتوفيقه الصمداني لأجل ارواء أبناء ملكوته ، يعلن للعالم حقائقه ذات الأنواع العديدة والألوان البديعة كقوس قزح يعطيهم القدسية بجمله وعباراته . وان الشمس (وهي أمة الله) المأمورة بإدامة مواسم كرة الأرض الأربعة ، تواظب على أداء وظيفتها وشماستها(1) الحقيقية وهي تحمد الله وتثنى عليه في قربها وفي بعدها ، وذلك منذ ثلاثة عشر قرناً ، وكذلك اقتضت رحمته أن لا يدع القمر والنجوم محرومة من قراءة كلمة الشهادة فقضى أن يكون هؤلاء أيضاً يؤدون التحيات في نداء صلاة العشاء .
الاتحاد والإخاء الإسلامي محض حقيقة لا ريب فيها ، بحيث إن الذين يكتمونها عن تخوف إنما يبرهنون بهذا التكتم على قلة إيمانهم أو عدم اعتمادهم على رب الملكوت ، وأما المدى والخناجر المشحوذة التي تغمد في جسم هذه الملة الكبيرة القهارة في أثناء نومها فلا تتمكن من قتلها ، إذ هي لا تموت وان تموت لأنها خلقت للحياة الأبدية ، بل هي توقظها من نومها ، إذ لا محالة سوف يأتي ولابد من أن يأتي يوم يثب فيه الأسد الضرغام ويفترس تلك الحشرات وثعابين الحيات التي أقلقت راحته فيمزقها شر ممزق ويبيدها .
إن أمة حية وقوية كهذه الأمة ستعيش إلى ما شاء الله على الوجه الذي يبينه كلام الله(*) وان الحراب التي مزقت أحشاء شبان المسلمين في الرومالي قد هيجت نخوة شبان الهند ، والبنات المسلمات اللاتي هتكت إعراضهن وافتضت بكارتهن بعدوان الوحشيين ، واللائى ودعن الحياة طاهرات الذيل وذهبن ضحايا العفاف قد أقيمت مآتمهن في بيوتات كابل من قبل عقائل نساء الأفغان وعذاراهن بالولولة ودموع العيون وان أسارى الجنود العثمانية الذين قضى عليهم بالقتل العام ، والشيب والولدان العثمانيين الذين قطعتهم وفرت جلودهم سيوف مسيحي البلقان - قد أغضب مصابهم العالم الإسلامي وأورثه الأسى والأشجان ، وان إهانة المساجد والمقابر الإسلامية قد كانت اعتداء على عظمة الله وجبروته ، ليست تلك الفجائع بالتي تنسى ، ولا يحسبن الذين يتجرءون ويخضون على ارتكاب مثل هذه الفجائع انهم عاملون على محو الإسلامية ، كلا بل إنما يسعون من حيث لا يشعرون إلى انتباهها ونهضتها ، وبناء عليه يكونون قد مهدوا السبل لتقويتها واستعدادها . فهم لا يذبحون المسلمين ويقتلونهم في ناحية من كرة الأرض ، إلا جاءت النواحي الأخرى بمائة ضعف بدلاً منهم ، يحتمل أن يمحى عنصر الإسلام من إحدى البقاع ولكن سيظهر في أحد الأيام أمر واقع ليس له دافع ولا هو بالحسبان ، فيه يهتدي أحد الأقوام كاليابان أو الإنجليز فيقوم مكانه . ويحل محله بأقوى وامنع ممن يمحون بتقصيرهم في الجهاد .
أنه لا يجوز إبقاء العالم في ولولة (يسوع بن باندبرا) الذي ظهر في زمن كاهن اليهود الأعظم (اسكندر يانيوس(1) الذي حكم قبل التاريخ الميلادي بعصر أو (يسوع بن ستادا)(2) الآخر بعد المسيح بعصر أو (يسوع) الآخر الذي وعظ منه بولص والذي رجمه اليهود ثم صلبوه وقتلوه بسبب أعماله السحرية ، وفي الباب السابع معلومات متممة لهذا الموضوع .
الباب السابع
ملكوت الله يكمل اليهودية
ليس لأحد أن يذهب إلى أننا غمطنا شيئاً من حق سيدنا عيسى عليه السلام أو لم نقدره حق قدره بقولنا انه لم يؤسس ديناً وملكوتاً ، فانه ليس من حدنا أن نحدد سمو درجات أنبياء الله أو نفرق بين رتبهم ، بل نؤمن أن كلا منهم رسول الله وحبيبه ، وعليه فأننا نحبهم ونعظمهم ونحترمهم جمعياً ، إلا أنه نظراً إلى أهمية الرسالة التي بلغوها والخدمة التي أدوها ، قد عرف بعضهم اكثر من بعض ، مثال ذلك أن النبي حبقوق الذي ليس له غير كتاب واحد هو عبارة عن باب واحد(*) بالطبع لم يكن معروفاً ولم يكتب شهرة بقدر النبي داود صاحب الزبور ، ولهذا لم يبق اليوم اثر في التاريخ لألوف الأنبياء ، ومع ذلك إذا تأملنا جيداً رأينا أن روح الله لم تكن وظيفته قليلة في خصوص ملكوت الله ، فان مئات الألوف من الناس آمنوا بملكوت الله وكلامه الذي بشر به ، وارتحلوا إلى دار البقاء مؤمنين موحدين منتظرين للملكوت مخلصين له وعند ظهور الملكوت وتأسيسه وإعلانه دخل في حظيرته مئات الألوف من الموحدين المسيحيين ، وكان بين المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين ما يعد بالملايين من الموحدين الذين اسلموا لبشارة المسيح عليه السلام ، على أن كل العيسويين الموحدين الذين كانوا في قارتي آسيا وأفريقيا قد اعتنقوا الإسلامية ، ولكن الأقلية منهم أصحاب التثليث لم يؤمنوا بالدين إلى يومنا هذا .
ولذلك لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أن عيسى ومحمد عليهما السلام أسسا الإسلام متحدين ولكن هيهات لنا أن نتمكن من تفهيم ذلك للنصارى وإقناعهم بهذه الحقيقة .
- 25 -
ملكوت الله ليس اليهودية

(يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض تكوين 18:22)
أخبر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بأن سيتبارك بنسله كل أمم الدنيا (نسل بصيغة المفرد) وذلك قبل موسى والتوراة بأربعة أو خمسة عصور ، نسل إبراهيم حسب اللغة العائدة له كما في العربية بمعنى (الزرع) و (البذر) وبولص الرسول يبحث عن وعد الله هذا قائلاً : (لا يقول انسال) أي بصيغة الجمع ولكنه يقول (نسل) مفرد ، وذلك هو المسيح (الى الغلاطيين 18:3)(*)




لقد عهد الله إلى إبراهيم بصورة ميثاق أن النسل (الزرع) النازل من صلبه يكون (رحمة للعالمين) ولست باحثاً هنا عن (هذا النسل) الذي هو رحمة للعالمين) ولكن لا شبهة في انه سيتيسر لجميع أمم الأرض التبرك بدخول ملكوت الله والاهتداء وإدارة الأمور بكتاب ملكوت الله ، وعلى كل حال فان الله قد وعد بأن يرسل من سلالة إبراهيم الطاهرة ذاتا قدسية يكون رحمة وبركة لكل الأمم التي على وجه الأرض .
ان نبوة إبراهيم عليه السلام انتقلت إلى إسماعيل وإسحاق عليهما السلام ، فكانت من إسماعيل العرب ، ومن إسحاق بمناسبة أن لولده يعقوب أثنى عشر ولداً - أسباط إسرائيل ، فكتب العهد القديم أي كتب بني إسرائيل المقدسة ليست بذات علاقة بوضعية أمم العرب الدينية الذين ظهروا من إسماعيل عليه السلام ، فالتوراة والزبور وسائر كتب الأنبياء كلها نزلت إلى بني إسرائيل .
ان من الحقائق المعترف بها في تاريخ الأديان أن اليهودية دين وبهذا الاعتبار تكون التوراة كتبا الله . وكلاهما متفردان وعديمي المثيل ، فليس من ملة نالت انعم الله كالملة اليهودية باعتبارها منفردة ، كما أنه لم يثبت في الأدوار القديمة كهذا الدين المقدس ، ولا كتاب يحتوي على حقائق إلهية كالتوراة ، والصينيون واليونانيون كان لهم كتب في الحكمة والأخلاق وكان لهم حكماء ومرشدون ملهمون ، ولكن كل ذلك كان دقيقاً ومحكوماً عليه بالاضمحلال ، سقراط وأفلاطون(1) واريسطوطاليس وبقية حكماء اليونان الملهمين لم يوفقوا إلى تأسيس دين ، فاليونان انقادوا إلى آلهة الأساطير ، والصينيون أيضا كان لهم المرشدون الدينيون (فوهي) و (لاعوتس) و (كونفوشيوس) و (الكتب الست) المسماة (كينغ Kings) ولكنهم لا يساوون اليهودية وأنبياءها ، اليهودية حائزة على صفة الدين ، والأنبياء كانوا يبلغون ما يأمر به الله بصورة الوحي والإلهام ، والحال أن كتب الملل الأخرى ومرشديهم بقيت عبارة عن الحكميات والحكماء ليس غير(*) .
اليهودية دين مليء خاص ، وكل الأنبياء (فيها) أرسلوا إلى هذا الشعب نفسه وعملوا على تأييد ذلك الدين ، نحن مضطرون إلى احترام شعب أحبه الله وأنعم عليه بهذا القدر ، وعلى تعظيم شريعة موسى التي أنتجت وأنجبت هذا المقدار من الأنبياء الصالحين .
كل أنبياء بني إسرائيل كانوا قد أخبروا بان سيظهر (ملكوت الله) و (الدين العام) ومهما كانوا يدعون ، طول مدة بقاء شريعة موسى ، أن (يهوه : الله) اله إسرائيل فحسب ، فانهم كانوا يشعرون بأنه سيأتي يوم فيه يتعرف الله إلى جميع الأمم ، وانه سيجمعهم ويجعلهم ملة واحدة .
وها هم أولاء لا يزالون ينتظرون أن يأتي شخص من نسل إبراهيم ليشكل ذلك الملكوت واليهود لما لم يجدوا الصفات التي ينتظرونها في المسيح عليه السلام ، لم يقتنعوا بأنه هو المسيح الحقيقي المبشر به ولذلك رفضوه ، لاعتقادهم أن شريعته التي ستكون ملكوت الله هي شريعة موسى مع قليل من التحوير ، وأن مركزه أورشليم (القدس) وأن يومه المقدس يوم السبت ، ولعدم وجود إحدى صفات ملكوت الله وخصائصه التي مر ذكرها في الفقرة (26) على ما ذكره وعدده المسيح عليه السلام وصل دين موسى إلى الانقلاب الثالث ونسخ في جملته وهيئته العامة ، فعيسى بن مريم عليهما السلام آخر أنبياء اليهود لم يقبلوه والنبي يوحنا المعمدان(1) المبعوث في ذلك الوقت قتلوه من قبل أن يقبلوه ، وفي تلك الحال كانت اليهودية في انتظار المسيح الذي سيأتي ، منذ خمسة إعصار قبل الميلاد ، وليس من مقتضى تاريخ الدين المذكور ، أن يكون الانتظار لمدة طويلة بهذا المقدار ، لأننا نعلم من أسفار التوراة انه كان في كل عصر مئات من الأنبياء ، وعلى الأخص في زمن الياس واليشع ، ولما لم تتمكن اليهودية من أداء فرائضها الدينية أضاعت دينها باعتباره ديناً ، ولم يكن الهيكل(2) الذي هو فرض للعبادة موجوداً، وكانت سلالة هارون الكهنوتية قد فقدت ، وكانت السكينة(3) أوريم توميم(4) وألواح الوصايا العشرة وغيرها كلها قد رفعت من الوسط وزالت ،وأي دين زال تنفيذ أحكامه وفرائضه بأجمعها ، فان ذلك يعد نسخاً وإلغاء له .
- 26 -
السلام عليكم يا أخواني اليهود
انتم يا شعب الله المحترم بما أنكم أولاد إبراهيم عليه السلام وبانتساب ذلك النبي العلي الشان إلى أمة الكلدان(1) تكونون إخواني ، ولكني أود أن أخاطبكم بعنوان إخواني المعنويين انتم من القديم موحدون قد اعترفتم وأقررتم بوحدانية الله ولم تزالوا قائمين بها وثابتين عليها وقد مضى عليكم خمسة آلاف سنة . النور والنجاة إنما وهبا للدنيا من نسل جدكم الأعظم حضرة إبراهيم عليه السلام ذلك النسل النجيب لصالح وارث النبوة ، وسواء أكان النسل من صلب إسحاق أم من صلب إسماعيل ، حسبكم فخراً أن تكونوا من نسل إبراهيم ، ان أجدادكم خالفوا الحق بعدم إيمانهم لعيسى عليه السلام . ولكن لا شبهة في أنه لم يكن آخر نبي عام ولا آخر مسيح ، على أن كل أنبيائكم وملوككم ورؤساء كهنتكم كانوا مسحاه ، لأنهم كانوا يمسحون جمعياً بالزيت ، ولكن النبي العام لم يمسح بالزيت على مراسم الكهنوت بل تعين وتقوى بقدرة الله وبروحه ، أنا افهم أن عيونكم باقية دائماً في أورشليم ، ولكن ما العمل وقد خرب معبدكم بإذن الله وخربت بلدتكم المقدسة مراراً وصارت قاعاً صفصفاً ؟ ولكن بيتكم المقدس باق يعبد الله فيه الموحدون ويسجدون فيه للوحدة الإلهية ، ويذكرون اسم الله وأسماء الأنبياء الذين تعرفونهم ، فهذا البيت هو الآن مفتوح لكم وهو لم يزل بيتكم.
لا أرى بينكم وبين المسلمين فرقاً أساسياً ، كلكم تؤمنون باله إبراهيم . كل أنبيائكم وكتبكم مصدقة ومقبولة لدى المسلمين ، ولا أظن أنكم تصرون على الخلاف في مادة أو مادتين .
ان كان المسيحيون لا ينفكون يقدســون (قربان القديــس) ايوخاريســـطيا( ) فانتم أيضاً لا تنفكون تقدسون يوم السبت ، والحال أن قربان القديس في نظركم ليس له أصل ولا فائدة وانه من وضع الرهبانية ، وكذلك لا أساس ليوم سبتكم لأنكم صرتم ملة ذات تجارب وتربية دينية منذ خمسة آلاف سنة ، ويجب أن تعلموا أن الله منزه عن الجسم والزمان والمكان وانه تعالى لا ينفعل ولا يعرض له عكس العمل ، ولا توجد قوة ولا عمل يجعله تعالى متأثراً أو منفعلاً ، وعلى ذلك لا يعقل ولا يصدق العقول بان الله قدس يوم السبت لأنه عمل ستة أيام واستراح في اليوم السابع(*) ؟ لله أن يقدس أو يخصص أي يوم شاء لأجل الاستراحة العامة لا راحة عباده(**) ولكن السبب الذي به ذلك تعللون لا يمكن أن يكون صحيحاً ، فان الله لا يمسه تعب ولا لغوب كما انه لا تأخذه سنة ولا نوم ، فهو إذاً لا يحتاج إلى الاستراحة ، لأنه لا يكابد العمل بكفيه ، أو يحمل على كتفيه ، (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) وتعلمون أن الأنبياء من قبل موسى كإبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا على خبر من قداسة يوم السبت .
البابليون قبلكم كانوا يلتزمون يوم السبت في الشهر مرتين ، ومن المحتمل أن أجدادكم اقتبسوا يوم الأسبوع هذا منهم في زمن سبي البابليين لهم ، ولنفرض أن الله خصص اليوم المذكور للعبادة والراحة لكم كل أسبوع فما هي أهميته ؟ سواء كانت الاستراحة يوم الجمعة أو يوم السبت فكلاهما سيان ، وكما أن مليونا من القسيسين ولو اتحدوا لا يقدرون على تحويل درهم واحد من الماء إلى دم ، فكذلك الشمس أيضاً لا تعطي كرة الأرض ضياءها وحرارتها في أربع وعشرين ساعة قدسية ولا روحانية ليوم من الأيام .
أذكر أن عمر الخيام في المشهور يقول في إحدى رباعياته : الجمعة والسبت كلاهما واحد ويجب أن يكون الإنسان عابد الحقيقة لا عابد الأيام .
وانه عند افتتاح ملكوت الله أي إعلان الرسالة المحمدية كان بنوا إسرائيل قد منحوا بعض الامتيازات كالقبلة والصوم والسبت ، أي أنها كانت ستجري على ما في اليهودية . ولكنها نسخت لفرط ما أعطيت من الماهية الروحانية ، بمعنى أن ملكوت الله لا يعير أهمية لمثل هذه الظواهر بقدر ما للأمور الحقيقية الوطنية ، الصوم فرض وسواء أكان ثلاثة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً كما عند اليهود أو كان في رمضان يكفي أن لا يكون أبناء الملكوت محرومين من بركة الصيام ، كذلك يجب تخصيص يوم للعبادة والراحة ، وأي يوم كان فليكن من غير إجبار ، والحكمة في أن المسيحية حولت يوم السبت إلى يوم الأحد على زعمهم حياة المسيح وقيامه من القبر يوم الأحد، والإسلامية ألغت كلا اليومين لان السبب الذي علل به في الملتين كان باطلاً وفاسداً ، وبذلك عملت ما هو المعقول وطبق المصلحة .
ثم أن هناك مسائل أخرى وهي الذبائح والكهنوت التي يحبها اليهود حبهم إنسان عينهم ، ولكن مع انه يستحيل أحياء مثل هذه الأمور من جديد ، فمن البديهي أيضاً أن لا حاجة إليها في الدين العام حتى أن البحث عنها عبث .
والذي أراه حسب فكري العاجز ، أنه إن كانت أمة تعيسة الحظ على وجه الأرض اليوم فهي أمتكم يا أحفاد إسرائيل ، أما تدرون أن أسوا أفراد الناس حظاً في الدنيا هم الأيتام والأرامل.
آه يا ليتني كنت اقدر على الدخول إلى قلوب هؤلاء لا شاهد ما فيها من اليأس والآلام ! ما اعمق حزن ذلك اليتيم الباكي لإدراكه انه فقد أباه فقداً أبدياً ، وتلك الأرملة البائسة التي تحولت حلاوة فمها علقماً بفقدها زوجها الذي تحبه اكثر من نفسها ، وتنظر بعينها اللتين تفيضان من الدمع إلى أطفالها مفكرة في أمرهم ، أولئك الأطفال الذين يأتوا فقراء ما لهم من ولي ولا ظهير .
فاليهود اليوم هم في مثل هذه الحالة ، لا يملكون وطناً ولا ولياً ، اليهود غرباء وممقوتون في كل مكان ، وقد أصيبوا بمظالم قلت أو كثرت ، لا يجدون أمة يستندون إليها ولا وطناً يدركون السعادة فيه ، فهم مشردون في أربعة أقطار الأرض ، هلكى كالماشية السائمة أشتاتاً أشتاتاً ، ان فيكم أيها القوم كثيراً من الرجال الأغنياء والعلماء المفكرين فليتوسلوا بما أوتوا من العلم والثروة لمعالجة حالتكم هذه ، انتم لا تكونون مسيحيين ، ولكم الحق في ذلك لأنكم ستبقون دائماً موحدين .
عدوكم المبين وخصكم اللدود ليس الإسلامية بل النصرانية ، ويمكنكم الاتحاد مع الإسلامية على أهون الشروط وأسهلها فهي تمد لكم يد الود والاتحاد من غير مساس بسبتكم ولا يضومكم ، حتى أنها توافق على تشكيل حكومة محلية ملية لكم ، وها هي ذي الحكمة الشريعة لعمر الخيام :
(در مذهب ما شنبه وادينه بكى أست جبار برست باش نه روز يرست)
وعربها النجفي نظماً فقال :
السبت والجمعة عندي استويا لا تعبــد الأيـــام واعبـد ربــها
تفكروا جيداً وأمعنوا النظر في تفحص المسئلة عريضاً وعميقاً انتم والمسلمون كلاكما تعبدون إلهاً واحداً وهو الله الحق ، فأنتما في هذا الباب وهو الباب الأساسي متحدون تماماً سوى مسألة واحدة وتلك أيضاً تبقى بينكما تتمكنون من الفصل فيها .
انتم تقرون بان حبقوق وحزاقيل من أولاد إبراهيم ، فلماذا لا تقبلون خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وهو أيضاً مثلهما من أولاد إبراهيم ؟ تالله لا أرى لكم عذراً في هذا ، بل ولا مانعاً مبرراً يخل بحقيقة ديانتكم ، كلا أني لا أرى لكم علاجاً للحياة ، ولا تدبيراً ناجحاً للبقاء إلا الالتجاء إلى الإسلامية ، وبعد أن تقبلوا الإسلام تكون فلسطين ملككم ، وهناك العرب يحتضنونكم ، وهم أولاد إبراهيم إخوانكم في الجنس والنسب ، هاأنا ذا أخاطبكم قائلاً : السلام عليكم ، فإذا انتم أجبتم تحيتي بقولكم وعليكم السلام ، فالمسئلة تنتهي.
- 27 -
هل أتى زمن دخول اليهود (ملكوت الله)
لا أفكر في إحداث مسئلة سياسية في هذا الخصوص لأنه لا فرق بين الطرائق والوسائط التي تتخذها السياسة وبين طرق الحيل والخداع التي يسلكها المقامرون .
ما أدهش هذه المدينة الحاضرة ! والعجب العجاب أن الكنائس تبجل هؤلاء السياسيين المقمرين الكذابين الغاضبين وتناولهم (قربان القديس) !
إني عالم بشدة عداوة الكنيسة للإسلام ، ترى كل ما يفعل بالمسلمين جائزاً ولائقاً . لماذا؟ لكي ينتصر الصليب ويهلك الهلال ويمحى ، وهنالك تنشرح صدرو كل المعتمدين بماء المعمودية بضحك وسرور . ولكن ليت شعري ألا يفكرون في أن الهلال ليس بعدو للصليب ولا رقيبه ؟ ليس للهلال من قدسية أو معنوية في الإسلام ، وإنما هو محض علامة للأثوريين أو الكلدانيين أو أي قوم آخرين لا ادري أيهم ، الهلال لم يصلب عليه جني ولا ابن إبليس وإنما الهلال قمر الله الذي جعله يستفيد منه كل سكان الأرض والنباتات على سواء .
لكن لما صار الهلال في إعلام العثمانيين صار يعتبر كأنه عدو لصليب يسوع كلا وحاشا وبينما كان المأمول من وعاظ وبسقبوسي الإنجليز والاميركان أن ينهوا عن مثل هذه العداوة التي لا صحة لها ولا أساس دينياً ويعلنوا هذه الغلط بصوت رفيع ، نراهم يسكتون عليه ويقرونه لأنهم ...!
إن منشأ النزاع بين الإنجيل والقرآن هو التوراة ، فللموسوية حق أو مجال للكلام في هذا الباب .
إذن فلتصدع الموسوية بقولها من غير ما خشية ولا جبن بحيث يقول الصديق والعدو أحسنت أحسنت أحسنت ! وأما إذا هي أظهرت العداوة الديينة للملتين المسيحية والإسلام كليتهما معاً - كما في السابق - فبالطبع لا يكون الخاسر غيرها .
قلت اني لا أفكر في إحداث مسئلة سياسية لأنه إذا ظهر تشبث جدي بإيجاد اتحاد ديني بين اليهود والمسلمين فلا شك ولا شبهة في أن ديبلومات أوروبا ومجالس وزاراتها تقيم القيامة في الحال ولهذا سنواظب على مطالعتنا في المسئلة المذكورة من غير إعطائها مسحة الساسة .
أريد ان أسأل هذا السؤال من الموسويين : ألا يوجد من أساس أو سبيل إلى الائتلاف أو الاتفاق بين اليهودية والإسلامية ؟ ألقي هذا السؤال وأكرره ليكون لإعطاء الجواب بتأن وإمعان النظر فرصة واسعة ، ليجب متفكروا اليهود على سؤالي هذا ، لكن بعد أن يراجعوا وجدانهم ويستحضروا صفاء قلوبهم .
لو كان عيسى بن مريم قد جاء بقدرة محمد عليهما السلام ، وبقوته التنفيذية المعلومة ، وطرد الرومانيين ووسع الفتوحات الإسرائيلية في القارات الثلاث من كرة الأرض كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم وأضاف القرآن المجيد في آخر أسفار التوراة ، فهل كانوا يصرون على رفضه ؟ لا أظن ذلك . كذلك لو كان محمد من سلالة داود عليهما السلام لم يكن من شبهة في أن اليهود كان يقدسون حضرة فخر الكائنات ويسمونه سلطان الأنبياء ، ولجعلوا القرآن تاج راس التوراة ، لا اقدر أن أتصور أن اليهود يتمكنون من أن يجدوا عيباً حقيقياً في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا فرضنا انهم ذكروا ما يزعمون انه قصور كبير وتمكنوا في هذا اليوم من إسناده إلى حضرة نبي آخر الزمان ، فحينئذ أدعوهم إلى التدقيق في ترجمة الأنبياء المبعوثين من أمتهم على حسب ما هو مكتوب في كتب العهد القديم لديهم ، أي إني أقول ان ليس لديهم من تاريخهم ما يبرر لهم الاعتراض على محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا قايسنا حياة الأنبياء المرسلين إليهم وسيرتهم بحياة محمد صلوات الله عليهم وسيرته فلابد أن يذعن اليهود ويسلموا من نتيجة هذه المقايسة بان الحق لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وإلا فأنكم سوف تضطروني إلى كتابة كتاب آخر باسم (التوراة والسبت) بعد أن كتبت كتابي هذا الذي سميته (الإنجيل والصليب) .
والخلاصة لو كان محمد صلى الله عليه وسلم منسوباً إلى سلالة داود أو هارون ولم يكن من صلب إسماعيل لجعلتموه قرة لا عينكم على كل حال ، نعم لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يهودياً إسرائيلياً ، هكذا أراد الله ، ولكنه هو الزرع ( ) النسل المقدس الموعود به في الميثاق إلى إبراهيم ، ولا يمكنكم أن تقولوا شيئاً بحق على شخص النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تعاليمه أو على قرآنه لان كل ما تقولونه في هذا الباب سأقول لكم تجاهه:
(أنت أيضاً هكذا) بموجب القانون المنطقي .
وأرجو من فضلكم الأذن لي بان أذكركم بأنكم ما نسيتم ولن تنسوا أبداً في تاريخكم الملي والديني كم من مرة مالت أمتكم إلى عبادة الأصنام والتماثيل الباطلة بالرغم من كثرة كتبكم السماوية والأنبياء حتى ارتبطت بشريعة الله بعد سبي بابل ولكن بعد ماذا ؟ بعد أن محي الكثير من مقدساتكم الدينية . على أنكم اليوم أيضاً في حالة هي ادهي وأمر من تلك الحالة السالفة .
فلو فرضنا ان شريعة موسى مع هيكل سليمان (للعبد ، المسجد الأقصى) وغيرهما أعيدت لكم ، فمن الذي يتعهد بأنكم لا تصدون بوجوهكم ، وترجمون كالسابق غير راضين بها؟ أقول ما مضى مضى والماضي لا يعاد ، ولكن الواجب عليكم الآن الرجوع إلى طاعة الله .
وهناك سياسة يهودية وجمعية دينية باسم (الصيهونيين) ولا يتصور موسوي هو خارج عن هذه الجمعية .
(صهيون ) هي كعبة اليهود وبمثابة (لغة اليونانيين) .
انتم ستسمعون وتجتهدون لتشكيل حكومة صغيرة في فلسطين في القدس الشريف تسهيلاً لمجيء ( ) مسيح .
والدولة العثمانية بالطبع لا تساعد على ذلك ، أما إن كنتم تنتظرون انقراضها للحصول على هذه البغية فذلك شيء معناه محوكم في ذلك الوقت لو تتفكرون(*) .
الآن بعض أوروبا القديم من كاثوليك و أرثوذكس باق كما كان إلى درجة كنسكم من على وجه الأرض لأنكم أنتم ، أنتم الذين تمهدون السبيل لمجيء مسيح عوضاً عن مسيحهم ! يحتمل أنكم تفكرون بان الله يبيدهم في آن واحد ، وان (مشيّح) سيثبت كرسي داود في القدس وعليه يحكم ! ويفتح الفتوحات ، أنا لا أستطيع أن أتعرض لفكرتكم هذه لأني لا أريد الاعتداء على عقيدتكم ، فهاأنتم أولاء تنتظرون في تلك الحال معجزات كبيرة ، وخوارق فوق العادة ! فانتم وشانكم ! ولكن قدروا وفكروا بان (العصا قد زالت وانه عند زوال العصا يأتي (شيلوح ) .
لا أفكر في المباحثة مع الموسويين في هذا الباب ، لان الزمان والصدد لا يتفقان وموضوعنا ، ولكن خلاصة ما أريد أن أقول هو :
ربما كان من الممكن تصور موضوع للاتفاق والائتلاف بين اليهود والمسلمين وعلى تقدير ذلك أسارع لعرض بيانات العاجز الآتية ، بسائق حب الخير لا غير ، ومن اللازم الضروري حسب فكري تأسيس هيئة مؤلفة من علماء المسلمين واليهود ، لتتذكر تلك الهيئة المختلطة هذه المواد :
- أ -
ان يتذكروا ويتداولوا البحث عن المساعدات المذهبية التي يمكن إعطاؤها لليهود :
أولاً - عن كيفية إبقاء كتب التوراة عيناً ، ويقتضي إبقاء القسم الأعظم من هذه الكتب ، لأنها تاريخ الملة اليهودية وأدبهم وأمثال ذلك من آثارهم الخاصة ، وأما الأقسام الأخرى من الكتب المذكورة ، فلو أمعن النظر فيها بحسن النية لا يتصور ان تكون مخلة بنقطة من أصول الإسلامية ، ولكن كما يقتضي إعطاء الغذاء والتربية للأولاد لإيصالهم من الطفولة إلى سن البلوغ فكذلك إذا أمعن النظر في حياة بني إسرائيل الدينية في ظرف ثلاثة الآف سنة فستكتسب كتب التوراة براءة في كثير من جهاتها المستوجبة للاعتراض ، وها هي النصرانية لم تمس كتب العهد القديم حتى أنها تقرأها اليوم في الكنائس .
ثانياً - ربما يريد اليهود التزام يوم السبت ، فلا بأس بالاذن والسماح لهم بذلك لأنه لا فرق بينه وبين نوروز العجم الملتزم إلى هذا اليوم .
ثالثاً - أن تترك لهم الأماكن المقدسة بالعبرانية كالقدس وحبرون .
( ب - ما تتعهد اليهود )
1- إلحاق القرآن الكريم بكتب العهد القديم بصفته كلام ملكوت الله المتمم والمكمل للتوراة .
2- إلقاء الأذان المحمدي في الأوقات الخمس .
3- الارتباط القطعي بخليفة المسلمين .
وعلى مثل هذه الأسس أظن ان الجمع بين الدينين ليس خارجاً عن الإمكان ، وإلا فيما ان اليهودية لا تملك صفة تمثل الملل الأخرى ولا هي تتمثل فيها ، فمن المشكوك فيه جداً ان تحافظ على كيانها وسط هذا التيار المدهش في التنازع بين الإسلامية والمسيحية ، أن آفة اليهودية هو انفرادها ، وان الشقاق العظيم الكائن بين العيسويين جعل الموسويين يأخذون لهم نفساً وخلصهم مما كانوا فيه من الاضطهاد بصورة مؤقتة ، ولكن أليس لأخذ هذا النفس من نهاية ؟ إلا انه لابد له من نهاية .
فهذا العالم المسيحي المتلاطم الأمواج لابد أن يحالوا إغراق قارب الموسوية الصغير ، إن ملل الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت ودولهم تستنكف بدرجة ما من إيذاء اليهود وإيصال الجور إليهم لخوف بعضها من بعض لوجود الرقابة التي فيما بينهم أو لأسباب أخرى ، ولكن هل من شبهة في أن كل واحدة من هذه الدول عندما تطمئن وتعتمد على قوتها ستقضي في أول فرصة وتختم على أنفاس اليهود ؟ إن كلاً من هؤلاء الدول لا يتأخر ولا يتوقف يوماً من الجري على خطة إبادة بعضهم لبعض على حين انهم أبناء دين واحد ، فماذا يكون حال اليهود إذا ما ظهرت مثلاً حكومة روسية ذات قوة لا يبقى معها خوف ولا مبالاة من الرأي العام لأوروبا وأمريكا ؟ ان مجلس مذهب الكاثوليك ذاك الشهير باسم مجلس التدقيقات(1) هو اليوم أيضاً ، موجود ، وإذا تقوى البابا مرة ثانية ، فإلي أي (سلانيك) لمسلمي العثمانيين يذهب اليهود ؟ من يضمن لنا ان دعاة مذهب البروتستان الذين يزعجون راحة الموسويين ليلاً ونهاراً كلما تقووا أن لا ينفذ صبرهم فيتوسلوا التدابير الزجرية القاسية إلى إبادة اليهود ؟ ألا إن هذا هو مستقبل اليتيم الضعيف المنزوي المنفرد ، والملة التي لا وطن لها ولا نصير ، وبناء على ذلك ليتفكر الصهيونيون(2) في مستقبل أمتهم وسلامتها ، آخذين مطالعاتي المعروضة أعلاه نصب أعينهم ودقة أنظارهم ، ولاشك ان أخذهم موقعاً ممتازاً في الإسلام أولى وارجح ألف ضعف من اضمحلالهم في النصرانية(*) .

الباب الثامن
(ملكوت الله ليس النصرانية)
هل تستطيع الكنيسة تعيين ما هو (ملكوت الله) ؟ هل تتمكن أن تعين أي دين هو من الأديان المؤسسة على وجه الأرض على هذه الصفة (بانيه وشارعه هو الله ، وشريعته كلام الله) هيا فلتبين لما الكنائس متحدة كلها ديناً هو كذلك (بانيه الله وكتابه كلام الله) كالذي بشر به وأوضحه مجملاً حضرة المسيح عليه السلام على ما تفهمه من مضمون أناجيلكم المقدسة ، ارونا إذاً ما تشاؤن من هذه الأديان الموجودة ، اطرحوا في الميدان أيا ما تختارون من أديانكم ومذاهبكم ومدارس الأفكار التي لكم على حين أنها تنيف على الخمسمائة - من المسيحية التي انتم بها معجبون ، هل هذا الدين الذي هو موضوع بحثنا وتحرينا دين الكاثوليك ؟ فها أناذا انتظر من جميع الكنائس ما عدا الكاثوليك جواباً إيجابياً يقول نعم انه هو ، هل من قائل يقول هو مذهب الأرثوذكس ، ما عدا الأرثوذكس أنفسهم كالفاتيكان وشركات بايبل الإنجليزية والأمريكان ؟ أم انتم إذاً مالكون ما ينيف على الخمسمائة ملكوت الله ؟
ليت شعري أي جواب لكم نقبل ، وتعريف أي ملة نعتبر ؟ أنا أعلم أن قسما منكم سيجيبني قائلاً أن ملكوت الله عبارة عن المعمدين باسم الآب والابن والروح القدس . والحال ان جوابكم هذا ليس له مغزى غير تجويز الظلم والاعتساف إذ كلما قويت كنيسة الكاثوليك تعلن في الحال أن كل المعمدين يعتبرون كاثوليكيين ، وتعمد إلى القوة وتجعلهم كاثوليكاً بالإكراه ، وكذلك الأرثوذكس في البلقان أيضاً تقتفي هذا المنهج نفسه ، أليس الذين في بلاد اليونان والصرب والبلغار متشبعين بهذه الأفكار عينها ؟ فكنيسة الصرب لا تريد أن تعترف بالبلغار ، ولا كنيسة اليونان تعترف بالصرب .
والقسم الآخر منكم يقول نعم ، المعمدون ، ولكنه يدعي انه لا يعني عماد الأطفال والصبيان ، وإنما يخص به المعمدين برضائهم ورغبتهم بعد سن البلوغ وحسب عقيدة هؤلاء أن كل الواصلين إلى سن البلوغ ليسوا مسيحين ما لم يعتمدوا برضائهم مرة ثانية فبقدر ما يجب ويفرض الاعتماد على عابد الصنم وعابد النار أو اللاديني الراغب في دخول مذهب الباتيست ، يجب ويفترض على البسقبوس والبطريرك ان يعتمدا مرة ثانية .
فبينما انتم مختلفون بينكم في مئات من مثل هذه الدعاوي الأساسية يجب عليكم ان تفكروا في أنفسكم كيف تدعون الصلاحية في تعريف أو تعيين أو اراءة ملكوت الله من بين هذه المذاهب .
أيها المسيحيون انظروا إلى عقيدتكم وتصوراتكم ، لابد ان يكون ملكوت الله أحد هذه الفرضيات الثلاث : ملكوت الله على تعريف المسيح عليه السلام ، ملكوت الله على تعريف بولص ، ملكوت الله على ما لا يتناهى من تعريفات الكنائس ، وليس وراء هذه الثلاث ما يمكن تصوره ، فأي هذه التعريفات يجب أن ندقق فيه ؟ أتعريف المسيح أم تعريف بولص أم تعاريفكم؟ ليعذب القولنج أحشاءكم ما شاء أن يعذب ، فنحن مضطرون إلى قبول وترجيح تعريف المسيح عليه السلام وتفسيره خاصة ، ولكن ليكن وعداً عليناً أنا ثمر تفاسير بولص والكنائس أيضاً من نظر التدقيق والإمعان .
ان المعلومات التامة التي أعطاها المسيح عليه السلام تدل دلالة قطعية على انه لا يمكن أن تكون الكنائس والنصرانية هي المراد من كلمة (ملكوت الله) .
- 28 -
(بما أن العيسوية ليس بانيها وشارعها
هو الله وحده فمن المحقق أن لا نكون ملكوت الله)
اني أدعوكم إلى مطالعة موعظة المسيح عليه السلام البليغة على الجبل الممتدة من الباب الخامس إلى نهاية الباب السابع من أنجيل متى ، والى مطالعة الباب الثالث منه أيضاً مع إمعان النظر فيها . ثم بعد ذلك ليمعن النظر في مباحثاتنا السابقة في صفات ملكوت الله وخصائصه(1).
المخاطب في الدعاء وفي الصلاة دائماً هو الله الواحد الفرد الأحد ، وأبناء الملكوت كعيسى عليه السلام هم عبيده ، وبناء عليه نبرهن على أن المسيحية ليست ملكوت الله على الوجه الآتي :
1- العيسوية التي تعترف بتأسيسها من قبل ثلاثة بانين مستقلين يجب أن تكون غير ملكوت الله الأحد الذي بشر به المسيح عليه السلام(*) .
المخاطب في الصلاة وفي الدعاء الله هو الواحد ، الصدقة تعطى لوجه الله الواحد ، الصوم يلتزم ابتغاء مرضاة الله الواحد ، صاحب الحقل ، زارع الحنطة ومربيها ، مرسل الحاصدين ، جامعها في مخزنه ، حارق الزوان ، كل هذا هو الله الواحد ، الفاعل هو فرد واحد رامي الشبكة في البحر ، ومفرق السمك من الحشرات المضرة والنجسة ، ومعيد الرديء منها إلى البحر ، فاعل واحد ، في هذه الأمثال كان عيسى عليه السلام دائماً يعرف الله ويعرف بوحدانيته ، ومن حسن الحظ أن الإنجيل يطلق على الله لفظ الآب ، وإلا فأني عالم بما يقوله المسيحيون السوفسطائيون يقولون (نحن أيضاً نريد بعنوان التثليث أن نقول أن الله واحد) حسن جداً ، كم (أب) لديكم ؟ بالطبع ستقولون آب واحد ، هل الآب هو الابن؟ بالطبع تجيبون أن الأب ليس هو الابن . هل الآب هو ورح القدس ؟ كذلك ستجيبوني بالنفي وتقولون لا ، وهو الجواب الذي اعرفه .
والآن أتصور أن الحكمة في أن المسيح عليه السلام سمى الله بعنوان (الآب) هي تخجيل وتبكيت المثلثين الناشئين أخيراً ، عباد تعدد الآلهة ، وما دام البشر قد سموا خالقهم بأسماء عديدة فلنكن متمايلين إلى قبول عنوان الآب الذي أضافته أناجيلكم ، إذاً فكل من الإلهين الآخرين ليس بالأب ، وإذ كانت الحالة كذلك فلماذا لا تقدرون أن تفهموا أنكم تكونون قد اعترفتم بأنهما ليسا الله مثله ؟ فالآلهان (الأم(1) والابن) الآخران اللذان لم يقدرا على أن يبلغا درجة الله درجة الأبوية إلى الآن (ومن المحقق انهما لن ينالاها فيما بعد أيضاً) بينما يجب أن يكون الله قادراً على كل شيء لأنه القادر المطلق ، إذا فمن الضروري للإلهين غير الواصلين إلى مقام الله الذي هو الأبوية أن يكونا متصفين بالعجز والجهل حسب اعتقاد النصارى .
ألا أنني لأستحي من إخواني المسلمين عند استعمال مثل هذه التعبيرات غير المعقولة التي لم تألفها إسماعهم بل لا يستطيعون سماعها ، لان محل استعمال مثل هذه التعبيرات ليس الفلسفة والعلوم الدينية بل الأساطير وحدها .
جاء في كتاب العقائد الدينية المرتب على طريقة السؤال والجواب : يجيب كل مسيحي عن الأسئلة الثلاثة أدناه هكذا :
السؤال - من خلقك ؟ الجواب - خلقني الله الآب .
س- من خلصك ؟ ج - خلصني الله الابن .
س- من أحياك ؟ ج- أحياني الله روح القدس .
أما الموحد فيجيب على كل سؤال من الأسئلة المذكورة أعلاه قائلاً (هو الله) يقول أن الذي خلقني وخلصني وأحياني هو الله تعالى .
ان الذي يعمل اجل الأعمال في تثليث المسيحيين هو الروح القدس لأنه هو الذي يهب الحياة للأجساد المخلوقة والمخلصة معاً ، فالآب قد خلق الجسد فقط ، وأما الابن فقد خلص الجسد ! من أي شيء خلصه يا ترى !؟ أمن الخطيئة أمن من جهنم ؟ فالأمر هنا صعب ! من أي شيء خلص الجثة الهامدة ؟ وممن ؟ أمن الوحش أم من التفسخ ؟ أسئلة لا جواب لها! والحال يبقي الروح القدس دائماً في الصف الثالث من الخطاب ، ولنفرض أن أحد السامعين على رأس ذلك الجبل قول الواعظ المسيح عليه السلام سأله قائلاً (يا معلم من هو خالق ملكوت الله الذي أنت تبشر به ومن هو منجيه ومن هو محييه ؟) فكيف كان يجيب ذلك المعلم ؟ كما أن المعلم كان موحداً فالجمع أيضاً كانوا موحدين ، فلا شبهة في أن المعلم كان يجيب من أورد مثل هذا السؤال بما يأتي :
الغالب انك أصبت بمس من الجنون ، أيسال يهودي عاقل مثل هذا السؤال كالأحمق الجهول ؟ هل من اله غير الله إلهنا ؟ هل سمعت مني كلاماً يوهم مثل هذا المعنى ؟ هل من شك في أن خالق ملكوت الله الآتي هو الله وحده ، وان الذي يحفظه من كل هلكة ، ويصونه من كل ضلالة هو الله الأحد ؟ وان الذي يحييه ويربيه ويديمه أيضاً هو الله تعالى؟ إن الله واحد ليس له ند ولا شبيه ولا شريك ، واشهد أن لا إله الا الله(*).
وهل كان من الممكن أن يقدم المسيح عليه السلام على إعطاء جواب بخلاف هذا ؟ أم هل كان يمكن فرضاً أن يقول (لي مئات من الملكوت : ملكوت الأرثوذكس وملكوت الكاثوليك ، ولي جيش نجاة(1) ولي .. ولي ... ولي ....) الخ .
- 29 -
(ملكوت الله على تفسير بولص)
الفرق بين عيسى الواعظ على الجبل عليه السلام ، وبين عيسى بطل موعظة الرسول بولص - عظيم كالجبال ، فبولص لم يكن قد رأى المسيح ، ولا علم شيئاً من ترجمة حاله ، ولا كلمة من تعاليمه ، وان جهله بوجود الأناجيل الأربعة حقيقة لا تنكر بقول بولص في رسالته الأولى إلى تيموثاوس (13:6) (المسيح يسوع(**) الذي شهد بإقرار حسن لدى بيلاطس النبطي (بونطيوس بيلاطوس) ولكن يفهم من الآية 20 من الباب المذكور وهي (باتيموثاوس احفظ الوديعة معرضاً عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الاسم).
ان رسالة (مخلفات العلم) المذكورة من تأليفات العصر الثاني للميلاد ، إذ كان في العصر الثاني (ماركيون) عدو الرهبانية قد كتب كتاباً باسم ( ) أي اختلافات العلم لإثبات أن التعليمات المعزوة إلى عيسى مغايرة ومخالفة لتعليمات الله في التوراة وبما أن الكتاب المذكور المدعو (اختلاف العلم) زلزل موقع الرهبان ، فيفهم بصورة قطعية أن الآية المذكورة أضيفت وعزيت إلى بولص على وجه التحريف(*) .
وعلى كل حال فان بولص يبجل ويعظم رجلاً اسمه عيسى أميت ومات وحيي فقط ، وان خمس عشرة رسالة من كتب العهد الجديد تحمل اسم المشار إليه (بولص) فلا محل للحيرة إذا قلت أن المؤسس الحقيقي للمسيحية (الحاضرة) هو هذا الذات (بولص) فان شخص شاؤل الشاب الطرسوسي من سبط بنيامين ومن مذهب الفريسيين وتلميذ أحد علماء الدهر عضو مجلس صنهدرين المدعو جملثيل(1) الحائز لحياة نقية حسب شريعة موسى الذي كان في البداءة يجتهد في رفع اسم عيسى وأتباعه من على وجه الأرض والذي رأى أخيراً عدوه الناصري في السماء لامعاً داخل الأنوار وقت الظهر أمام دمشق اهتدى وسماه باسم بولص ، هو الذي وضع أساس (هذه) العيسوية ، والقسم الأعظم من (أعمال الرسل) يبحث عن سياحات بولص الطويلة وعن مجاهداتــه ومشــقاته (أعمــال 8 : 30 و 22 و 1-22 و26: 9 -23 إلى الفيليبيين 5:3-7).
ان عشق المسيح الذي أشغل كل قلبه وعقله وخياله ، لم يدع راحة لهذا الرجل الممتاز ليلاً ولا نهاراً ، في البحار والسجون والكنيس المعابد ، في حضور الحكام والولاة ، في سوط جمعيات الفلاسفة ، في أثنية وفي آريوياغاوص ، وفي روما بحضور القيصر ، من حين اهتدائه إلى أن فصل سيف الجلاد رأسه الأشيب من جسده ، لم يفتر طرفة عين عن نشر اسم مسيحه وعن التلذذ والتعزي باسمه !!!
وبما ان علاقتنا بتعليم بولص دون شخصيته ، فعلينا ان نتتبع ونطالع (سفر الأعمال) والخمس عشرة رسالة الأخرى لبولص لأجل تعيين بولص في هذه الساحة ، وكما ان الأناجيل الأربعة تصور المسيح في صور متخالفة ، فكذلك للرسائل وأعمال الرسل أيضاً تصور بولص بصورة متنوعة ومتضادة .
فإثباتاً لصداقته وتمسكه بحبل الشريعة الموسوية ينذر بولص ويحلق رأسه على ذلك الوجه (أعمال 18:18 و 21 : 24 : 26) .
إن قانون النذر مكتوب في الباب السادس من الكتاب الرابع من التوراة المسمى (سفر العدد) فاذا تأملنا في بولص المكلف في أيام نذره بعدم أكل الزبيب وعدم قص شعره بالمقراض أو حلقه بالموس ، وبالتباعد عن الجنازة فضلاً عن الشراب والمسكرات ، المجبور على أن يربي خصل شعر رأسه إلى ان يأتي وتحت إبطه سلة ملموءة من الفطير رقاقاً وأقراصاً ملتونة بزيت، وبثلاث خراف حولية صحيحة على أن يكون أحدها للمحرقة والآخر للخطيئة والثالث للسلامة ، وبيرميل من الخمر يقدمها للكاهن فيحلق شعره على نار المحرقة ، وبعد أن يطيع كل أوامر الكاهن ذي الصلاحية بإجراء المراسم الأخرى - نفهم انه لا يمكن ان يكون بولص أرثوذكسياً ولا كاثوليكياً ولكن كان يهودياً موسوياً فقط !!!
ولما كان بولص يتجول في معبد آثينة ورأى هذه العبارة ( الله غير المعلوم) المكتوبة على أحد المذابح ، كان موحداً يعظ بكل طلاقة وبلاغة وشجاعة عن (الله غير المعلوم) الذي يعرفه حكماء اليونان في آريوياغوص ولكننا نجده في الأماكن الأخرى لا يعرف الشريعة ولا يخاف من أن بعد المسيح مساوياً لله نجد أن مؤلف الرسائل المرسلة إلى الرومانيين والغلاطيين والعبرانيين ينسخ شريعة موسى .
ربما نكون قد ارتكبنا ظلماً في انتقاد بولص ، لأننا إذا نظرنا بدقة إلى عبدالله المرتحل إلى دار البقاء منذ تسعة عشر قرناً ، والى تلك الأيدي التي اختلفت على رسائله التي خلفها يجب علينا على كل حال أن نفتش عن مسئولية التعاليم المخالفة للحقيقة والمعزوة إليه في مواضع أخرى ، فبناء على هذا نحن مضطرون رغم الاحترام الفائق الذي في أنفسنا لشخص بولص إلى نقد تعاليم بولص وجرحها فيما يخص ملكوت الله.
- 30 -
(مذهب بولص : لا شريعة ولا خطيئة في ملكوت الله)
قبل أثني عشر عاماً كنت في إنجلترا وكان لدي كتاب مخطوط يبحث عن تعاليم بولص فأنا الخص منه هنا المسائل المتعلقة بموضوعنا فقط .
بولص لا يعرف ملكوت الله ، ولكنه يبحث عن ملكوت الله المسيح فقط ، أليس هذا أمرا طبيعياً ؟ والملكوت في نظر بولص هو الكنيسة ، ولكن أي كنيسة ؟ أنا أيضاً لا اقدر أن اعرفها.
يمكن تلخيص تعليم بولص على هذا الوجه الآتي :
(ما دامت الشريعة قائمة فالخطيئة ترتكب ، ولكن المسيح أبطل الشريعة فبطل أرتكاب الخطيئة)
القضية الكبرى صحيحة ، فان الشريعة عبارة عن الأوامر والنواهي التي تبين للناس حكم الآمر المطلق ومشيئته ، وان الذي يعين الوظيفة والحقوق هو القانون والقانون نفسه هو الذي يعين المسئولية والجزاء أيضاً ، وكما ان الطاعة للشريعة تعد صلاحاً ، فمخالفة الشريعة تحسب خطيئة ، فبولص يسوق نتائج اقيسته كلها في هذا المركز (من أول الباب الثاني إلى نهاية الباب الحادي عشر من رسالته إلى الرومانيين وكذا للغلاطيين) .
(وما دام الأمر باقياً فالوظيفة بالطبع ثابتة ، وحينما يرتفع الأمر تلغى الوظيفة) وبناء عليه فالمسئولية أي الصلاح والخطيئة موقوفان على وجود الشريعة وباعتبار النتيجة ، كما أن الصلاح أي طاعة الشريعة يوجب النجاة ، فالخطيئة أي تعدي للشريعة ينتج الهلاك ، إذن فالشريعة هي التي تعرف الخطيئة وتميزها وتفرقها ، لأنه أن لم تكن الشريعة ، فبأي واسطة أمكن من معرفة الحلال من الحرام ، والخير من الشر ، والفضيلة من الرذيلة ؟ والخلاصة كيف اعرف الخطيئة والسيئة والمعصية ؟
بولص يقرر هذا فيقول (بالشريعة تعرف الخطيئة) (إلى أهل رومية 20:3) .
وكذلك يروي عن حضرة بولص قوله (فماذا نقول الآن هل الشريعة خطيئة ؟ حاشا ، بل لم أعرف الخطيئة إلا بالشريعة ، فأنني لم أعرف الشهوة لو لم تقل الشريعة لا تشته ، ولكن الخطيئة وهي متخذة فرصة بالوصية أنشأت في كل شهوة ، لان بدون الشريعة الخطيئة ميتة أما أنا فكنت بدون الشريعة ، عائشاً قبلاً ، ولكن لما جاءت الوصية عاشت الخطيئة فمت أنا فوجدت الوصية التي للحياة هي نفسها لي للموت ، لان الخطيئة وهي متخذة فرصة بالوصية خدعتـني بها وقتلتـني ، إذن الشــريعة مقدسة والوصية مقدسة وعادلة وصالحة (روميـة 7 : 7-12) .
أدرج الآيات التي مرت آنفاً من الكتاب المقدس المطبوع في مطبعة بوياجيان آغوب في القسطنطينية ، بنفقة شركة بايبل الإنجليز والاميركان على المعتاد ، وبناء عليه فالشركة المذكورة هي المسئولة عن الترجمة بقولها (بالترجمة عن اللغات العبرانية والكلدانية واليونانية)(*) .
فعلى وجهة محاكمة بولص الشريعة قاتلة ومميتة ، لأنه نفسه يعترف قائلاً (أما أنا لما كنت قبلاً بغير شريعة كنت حياً ، ولكن لما جاء الأمر حييت الخطيئة ومت أنا ، وذلك الأمر الذي صار سبباً للحياة صار سبباً لي للموت) وها هو منشأ ضلالة المسيحية - حسب فكري القاصر- متمركز في تعاليم بولص هذه على ما اعتقد فهل كانت شريعة الله هي السبب لأحياء الخطيئة وموت الإنسان ؟ إن عيسى الأناجيل لم يخطر بباله مثل هذه الخيالات ، وأما بولص فمن جهة يعترف بأن الشريعة مقدسة وعادلة وصالحة ، ومن الجهة الأخرى يدعي ان الشريعة أحيت الخطيئة وهي القاتلة للإنسان (لأنه بأعمال الشريعة كل ذي جسد لا يتبرر أمامه) (رومية 20:3) (فانه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها إذ الشريعة لم تكمل شيئاً) (إلى العبرانيين 19:7) (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا) (إلى الغلاطيين 13:3) .
فالآن يفهم ان قصد بولص من تفسيره المقدمة الكبرى من القياس على هذا الوجه هو عبارة عن تمهيد طريق لإثبات المقدمة الصغرى ، والحال أن ظنيات بولص ومحاكمته ومعيار تفكره ليس بأكثر من مغالطة ، أما الحقيقة فهي على الوجه الذي اعترف به بولص نفسه أولاً - إن الإنسان باعتباره موجوداً ناطقاً خلوقاً تابع لثلاث شرائع ، الشريعة غير المكتوبة وهي الضمير والوجدان الذي يسوق للإنسان إلى جب الخير والاستقامة (والثانية) هي القانون البشري الحيواني الطبيعي الذي يسوق الإنسان إلى الأهواء النفسية والمنفعة الشخصية (والثالثة) شريعة الله وهي رضاؤه وإرادته التي بينها على ألسنة الأنبياء بالوحي والإلهام ، إذن فهادي الوجدان ومديره هو الشريعة سواء أكانت الشريعة مكتوبة أم غير مكتوبة ، ويتمكن الإنسان من أن يميز الخير من الشر على قدر ما يدرك وجدانه حتى ان الولد الصغير يخاف من أمه إذا سرق شيئاً من السكر ، أي ان عقله يصل إلى إدراك ما ارتكبه من الذنب بواسطة وجدانه الصغير ، وعليه فقد غلط بولص في قوله ان الشريعة أحيت الخطيئة وأماتت الإنسان ، الخير والشر كلاهما من الله ، ولو لم يكن هذان لا تعرف الإنسانية قدر العافية ولا مزية الرقي ، الخير والشر هما الواسطتان اللتان تميز ان الإنسان من نوع الحيوان ، وترفعان عالم الأخلاق إلى العلاء .
الشريعة ليست مولدة الخطيئة ومسببتها ، ولكن معيارها المعين لها ، علة الخطيئة الفاعلة هي إرادة الإنسان الجزئية .
ولكن قوله (لا يتبرر أحد في نظر الله بواسطة أعمال الشريعة) وقوله (لم تكمل الشريعة شيئاً) كلاهما خلاف الحقيقة على خط مستقيم ، بل الأمر بالضد أو النقيض فالشريعة تكمل كل شيء ، فان من يلتزم ما أمرت به الشريعة ويسلك حسب أوامرها فهو الإنسان الكامل الذي يعد باراً وصالحاً عند الله ، وان شريعة الله تجري على ناموس التكامل ، كل أنبياء بني إسرائيل وأبرارهم نجوا وخلصوا لأنهم سلكوا وفق شريعة الله .
وفي هذا الخصوص لما فهم بولص أنه سيجعل نفسه عرضة للتهمة بالإضلال ، قال ان إبراهيم وكل الصالحين تبرؤا بالإيمان ، أي انه يقول لا يخلص أحد بواسطة أعمال الشريعة لكنهم وجدوا الخلاص بالإيمان فقط ، والحال أن مثل هذا الاستدلال لا يثبت شيئاً فهذا بمعني (أساس التسؤل) petitie perneipli من ذا الذي يهتم بالشريعة وليس له إيمان ؟ وإذا لم يكن الإنسان مؤمناً فهو لا يطيع شريعة الله ، ولكن هل يكفي الإيمان وحده ؟ كلا إن الشيطان أيضاً مؤمن بالله ، حتى انه ليرتجف خوفاً منه ، ولكن كيف يبرهن على وجود الإيمان إذا لم يكن العمل ؟
قارنوا بين تعاليم بولص هذه وبين تعبيرات المدح التي أوردها الزبور في هذا الباب ، فان داود عليه السلام يترضى عن حال ذلك الذي :
(يجد مسرته في شريعة الرب ويطالع في شريعته ليلاً ونهاراً) (مزامير 2:1).
(اسلكني في طريق وصاياك لأني وجدت مسرة فيها) (مزامير 35:119) .
(وأتلذذ بوصاياك التي أحببت) (مزامير أيضاً 47) .
(تذكرت أحكامك من القديم يا رب فتعزيت) (أيضاً 52) .
(ذكرت في الليل اسمك يا رب وحفظت شريعتك) (أيضاً 55)
(في منتصف الليل أقوم لأحمدك لأجل أحكامك العادلة) (أيضاً 62) .
(لو لم تكن شريعتك مسرتي لهلكت حينئذ في مشقتي) (أيضاً 92) .
(سبع مرات في النهار أحمدك لأجل أحكامك العادلة) (أيضاً 164) .
فإذا لم يكن افتراء بولص وبهتانه تقولاً وطعناً على شريعة الله التي هي مدار افتخار كل الأنبياء ، وسند الصالحين ، ومسلية المضطربين ، ودليل رجاء الخاطئين ، وأنشودة السيناغوغ إذن فما هي ؟ كيف تميت الإنسان شريعة موسى وهي التي بعث بها 124000 مائة وأربعة وعشرون ألفاً من النبيين ؟ لكل سبط من بني إسرائيل أثنى عشر ألفا ؟ (كلمة 7 : 1-8)(*) هي لا تميته بل هي التي تحييه ، تلك حقيقة يجب أن يخجل لها بولص ، أليس هؤلاء الأنبياء لم يبيضوا بدم الحمل قطعياً ؟
هل كان أولئك الرجال المقدسون الذين أنجبتهم شريعة موسى ، دون عزة الكنيسة طالبي الجدال ؟ فلنعدد عشرة من مقدسي المسيحية : آثاناثيوس ،قسطوريوس ، آبو طيكوس ، قورللوس الاسكندري ، لوتر ،جان ويكليف ، كلوين ، ايفناتيوس لبولا ، وهلي ، جنرال بوث ! فضلاً عن أني لا أتصدى للطعن بقلمي على أشخاص هؤلاء الذوات ، لا اقدر أن اكتب في حق هؤلاء الناس الراحلين شيئاً عن إبداعهم إلى رحمة الله ، ولكن بطولة هؤلاء وشهرتهم لم تنشأ إلا من شدة عداوة بعضهم لبعض ، وإدخال الشقاق والنفاق على أبناء دينهم .
وإذا ما أتينا إلى القضية الثانية فهناك تكتسب دعوى بولص وخامتها ، وذاتاً لم يكن سبب ذكره الشريعة بالألفاظ الذميمة (مثل عديمة الفائدة ومميتة الإنسان ومحييه الخطيئة، واللاعنة، واللاشيء) إلا بقصد إدخال الحمل في الوسط .
يقول (لكن المسيح الغي الشريعة) ...!...!
ثم ان تعاليم بولص الآتية تؤيد المقدمة الصغرى :
(الآن ... تحررنا من الشريعة) (إلى أهل رومية 6:7) .
( ) والكلمة اليونانية فاتير غيثيمن) تفيد معنى (عتقنا من قيد الأسر والسلاسل ، أي أننا كنا إلى الآن تحت أسر الشريعة أما الآن فقد خلصنا رقابنا من أسرها) .
(فان الخطيئة لن تسود لأنكم لستم تحت الشريعة بل انتم تحت العناية) (رومية 14:6) .
(المسيح صار لعنة لأجلنا إذ خلصنا من لعنة الشريعة) (غلاطيه 13:3) .
(أنا مت للشريعة بالشريعة) (غلاطيه 19:2) .
إن التعليم الوحيد لبولص عبارة عن أن دم المسيح صار كفارة أعتق العالم وخلصه من لعنة الشريعة ومن أسرها .
انهم حتى في هذا العصر الرابع عشر للملكوت(1) لا يزالون يجرحون قلوب عارفي الله الحق بتكريرهم الكلام عن الدماء واللحوم وذبح الذبائح ، وعن إحراق المحارق ، وعن الكاهن والأسرار ، وعن الصليب والشفعاء ،وعن الإنجيل والسيونرتير (الدعاة المبشرين) وعن الناقوس والكنيسة ، وعما إذا كان الرب ثلاثة أو واحداً ، فأنا بعد أن عرفت خالقي وأحببته ، وأردت أن أسلك الطريق إليه ، مقدماً التوكل عليه والصلوات على جمع أنبيائه إذا لم أجد الطريق مفتوحة رأساً إلى صاحب الملكوت الخالق الأحد من غير واسطة فلا اقدر أن اذهب إليه ، فأنا المذنب الفقير المحروم من الفضل والفيض والنوال .
نريد ديناً صافياً وبسيطاً ، ليتمكن الناس من أن يأتوا فيقدموا تعظيمهم وتضرعهم بكل حرية إلى حضرة الله تعالى ملك الناس من غير واسطة ما ، وان إله ملكوتنا الأزلي الأبدي ليس كأحد القياصرة (الإمبراطورين) يتعب من كثرة الاشتغال ،بحيث لا يسوغ لأحد التقرب منه بل يكتفي منه بنيل السلام من جانب عظمته وذلك أيضاً على البعد ويبلغ بالواسطة(*).
فيا أيها النصارى أليس من الممكن أن نجعل كل محبتنا وطاعتنا في التعبد لله وحده ، فلا نقيم الصلوات ولا نوجه الدعوات إلى المخلوقات ، ولا نذل لهم فنهبط إلى دركة عبادتهم ونحن نرى البشر حتى الشعوب والطبقات المنحطة منهم قد قاموا يريدون حقهم من حرية الرأي ومن التساوي في الحياة ، ويحكمون لكماتهم في نواصي الاوردات ،ويجاهدون في سبيل التفلت من تحكم المستبدين ، والظلمة القاهرين ، ألم يأن لكم أن تحاولوا فك رقابكم من هذا الاستبداد الدينين لسلطان جيوش الرهبان ؟ انظروا إلى تعاليم حوارييكم الكبار الآتية وبعده ليرجع أصحاب العلاقة إلى رسائل بولص الثلاثة (إلى رومية ، إلى غلاطية ، إلى العبرانيين) وليقرءوها بدقة وإمعان حسب تحريره واستنتاجه ، ولا حاجة إلى نقل شيء من أبوابها أو آياتها هنا ، فنتيجة حكم بولص التي نوه بها هي :
إن المسيح آمات الشريعة لقتله ، وفي إيصال الشريعة التي أحيت الخطيئة صارت الخطيئة لا تتسلط على المسيحي مرة أخرى ، ثم أقام العناية والتوفيق بدلا من الشريعة، المسيحيون كلهم من أعضاء المسيح وعظامه ، وهم في جملتهم يشكلون عائلة واحدة تعيش تحت العناية(*) فان المسيح سينزل من السماء منقضاً بسرعة كالصاعقة ، وليس الوقت الآن بوقت الأكل والشرب ، ولا وقت الزواج وتشكيل العائلة ، فليكن المتزوجون أصحاب الأهل كالعزاب .
(أقول هذا أيها الاخوة ، ان الوقت منذ الآن قصير فليكن الذين لهم زوجات كأن ليس لهـم) (1-كورانثـوس 29:7) وهذه الآيـة حريـة بالدقـة ، ففــي اليونانية يقول الذين لهم زوجات ( ) وهي إشارة إلى جواز تعدد الزوجات .
ومهما كان الأمر فان وصية بولص لكنيسة (كورانثوس) بأن يتركوا الزوجات وان يعتبروهن غير موجودات ، وبان لا يفعلوا شيئاً غير انتظار مجيء المسيح السريع ، لا يكتبه إلى البولصيين(1) الذين في رومية وغلاطية ، ولكن المسيحيين سيعيشون تحت العناية ، وان الخطيئة لن تتسلط عليهم ، فعناية عيسى المسيح حلت محل الشريعة ! لكن ما هذه العناية ؟ ليس من السهل تعريف هذه الكلمة المستعملة في عداد ألفاظ عطية ، هبة ، توفيق ، بل هي العناية التي خلفت شريعة الله التي هي عبارة عن وثيقة وسند مقدس ، المشتملة على الفرائض والأحكام والقوانين المعينة ، العناية وهي كجبل قاف أو العنقاء ، موجودة بالاسم مفقودة المسمى! العناية ليست بسند ولا وثيقة ولا ملك من الملائكة الكرويين ! هي رحمة المسيح لا غير(*) .
فملكوت الله الذي يفسره بولص على انه يجمع أبناء البشر كلهم سواء ويشكل منهم عائلة واحدة ، ويترك كل من له زوجات وأولاد وأملاك بينهم فيعيشون بالوحدة وكمال المحبة تحت ظل (العناية) ومهما يفعلوا فلا يعد لهم ذنباً : ولكن بولص أدرك وخامة نتيجة محاكمته هذه فانثنى يقول مكرراً : ومها كان من العناية فانه مع ذلك يجب أن لا نخطئ ، لأنه ما من حكومة تجوز أن تعيش جمعية بشرية بغير ما شريعة وقانون مشترك ، ولهذا كان بولص شأنه كشأن السريين الذين يقولون لمريديهم (ازاينجا) أي من هنا ، وللمبتدئين (ازانجا) أي من هناك وأما تعليم بولص في شأن الذبح العظيم فسيأتي البحث عنه وتمحيصه في الفصل التاسع .

- 31 -
ملكوت الله في تفسير الكنائس
كل من الكنائس التي لا تحصى عدداً ، تدعى أن المسيح أسس كنيسة ، وكل واحدة منها تعرض هيكلها قائلة (أنا تلك الكنيسة) .
لنقسم هذه الكنائس بحسب اتساعها إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول : الرهبانيون أو الكهنوتيون ، والقسم الثاني : الإنجيليون ، وأما القسم الثالث : فهم الموحدون .
هل من الممكن تفريق عباد الكهنوت من عباد الإنجيل ؟ لنعبر عن الكنائس التي تلتزم الكهنوت بعنوان (كاثوليك) وعن الإنجيليين بعنوان (بروتستانت) فان مقدم الكهنوتيين هو الكنيسة الباباوية ، لأنه من المسلم والمصدق حسب التاريخ وحسب عقيدة الكنيسة أن أتباع كل الكنائس - ما عدا نصارى إيران - كانوا بعد مجمع نيقية العام خاضعين لبابا رومية ومرتبطين به ، حتى ان نصب بطاركة الروم وعزلهم كان في السابق من حقوق البابا .
وأما أحزاب جمعية البروتستانت فلا يمكن اندراجهم كلهم تحت كلية واحدة أو مقولة (قاطيغوريا) واحدة ، ولكن كل هؤلاء مع الحيرة والاستغراب لم ينظروا ولا ينظرون إلى ملكوت الله بصورة مغايرة للكنيسة ! ولم اسمع إلى هذا اليوم بأحد يدعي ان ملكوت الله ليس الكنيسة أو يقول لعله دين آخر ، نعم يوجد من يذم ويقبح الكنيسة ويلتزم امتثال ملكوت الله ، أي أنه يقول (ان الكنيسة باعتبارها ملكوت الله يجب أن تكون كذا وكذا على ما جاء في الأناجيل - حتى أن المسيح الخيالي (ليدياليست) الكونت تلستوي الذي كان دأبه أن ينكس الكنائس بالمرة ويجعل عاليها سافلها ، يعتقد أيضاً ان عيسى رئيس ملكوت الله ، ولكن هذا الفيلسوف الروسي لا يفهم من لفظي (ابن الله ، وابن الإنسان) سوى الإنسان المطلق أي كل آدمي الا ان ابن الله هو الإنسان المؤمن ، وأما الكنائس فترد هذه الفكرة المذكورة ، وليس في علم الكلام الخاص بالكنائس نص صريح قطعي جدي في شان ملكوت الله ، وان مفسري النصارى الذي قد شغل تصور الإنجيل والصليب ذهنهم يفكرون في أن ملكوت السموات لا يمكن أن يكون غير الكنيسة ، لذلك لم يتمكنوا من التفريق بينهما (أي بين ملكوت الله وبين الكنيسة) وهم يعتبرون تعريف ملكوت الله أيضاً يشتمل على الكنيسة عينها ، وكلمة كنيسة معربة واصلها (ايقليسيا) اليونانية على أن جميع النصارى الساميين يستعملون كلمة (عيدتا) ( ) التي هي بمعنى الجماعة .
يقولون ان تاج حضرة البابا المثلث ذا الثلاث الزوايا (Tiara - تياراً) هو علامة ورمز للكهنوت والنبوة والملكوت ، لان من مدعيات الحواريين قولهم ان الذين يؤمنون بالمسيح سيكونون كلهم يوم القيامة كهنة وأنبياء وملوكاً(*) .
والأمر ظاهر من الأناجل الأربعة فان المسيح عليه السلام استعمل كلمة (كنيسة) بمعنى وكلمــة (ملكوت الســماوات) بمعنـى آخـر ، عبر عن المعتقــدين ببشــارته بكلمة ( عدتا) أو ( قهلة) بسكون القاف وكسر الهاء ، وهذه كلمة (عدتا ، اكليصيا) أطلقها على تلاميذه وعلى الموظفين بتبشير كلامه وبملكوت الله وعلى المؤمنين العيسويين ، بقصد التفريق بنيها وبين كنيس (كنشت ) اليهود ، مثلاً هناك آيتان لمتى هما عديمتا المثال في كل كتب العهد الجديد والجالبتان للشبهة في صحتهما لهذا السبب هما اللتان فيهما بعد عيسى بأنه سيبني كنيسته على شمعون بطرس وانه سيعطيه مفاتيح ملكوت السماوات (متى 16 : 18و19) .
وكان المسيح إذ ذاك قد لقب شمعون الباز بلقب (بن) بمعنى حجر التي هي في اليونانية (بطروس) وليست بمعنى (صخرة) التي هي في الكلدانية ( كيفا) فالمسيح يقول لشمعون :
(أنا أيضاً أقول لك انك (كيفا) صخرة وعلى هذه الصخرة سأبني جماعتي ، وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات) الترجمة للمؤلف .
ليس في هاتين الآيتين من سر لا يمكن فهمه ، يبين المسيح عليه السلام إحدى الحقائق العظيمة بإقادة بسيطة ساذجة جداً ، هكذا :
سيؤسس الله على الأرض في هذه الدنيا (ملكوتاً) ديناً عاماً ، وسينزل الله الكلام القديم بطريقة الوحي لأجل هداية أبناء الملكوت ، وأما أنا فقد بينت وأوضحت لكم أجمالاً ما هو ملكوت السموات وعلى أي الأسس سيعطي لكم كتاب الله ، ليس لي كتاب اعطيكموه ، ولا ملكوت أدخلكم فيه ، انتم واظبوا على العمل حسب شريعة موسى غير منفكين عن كتاب التوراة قطعاً ، ولكن لا محل للفكر والقلق ، لا تتمسكوا بالشريعة والوصايا الإلهية حرفياً وبالظاهر فقط كالفريسيين وسائر جماعات اليهود ، بل تمسكوا بهما روحاً ومعنى أيضاً ، وكونوا بين اليهودية زمرة نيرة ، وصفوة مرشدة ، أنيروها وأرشدوها تدريجياً إلى أسس الدين المبين الذي تقرر تأسيسه ، فان انتم فعلتم ذلك يجازيكم الله ويقبلكم بصفة أبناء الملكوت ، وقد عينت خليفتي (شمعون كيفا) ليكون رئيسكم وها أنا ذا مسلم له مفاتيح ملكوت السماوات ، أي أني أعطيه الصلاحية الواسعة ، وكل من يدخله في جماعتي في كنيستي فسيكون الله قد ادخله في ملكوته .
(أقول) أن المقصود من ذلك كله التعبير عن الحياة الأبدية في السماوات بعد الموت في حضرة الله تعالى (أي عنده) .
فهذه الآيات الصريحة البسيطة إلى هذه المرتبة صارت سبباً للاختلافات الكبيرة والحروب الدموية بين الكنائس .
البابا كاهن رومية الأعظم يدعي الربانية المطلقة على عالم العيسوية مستنداً على هذه الآيات .
وأما الكنائس والمذاهب المسيحية الأخرى فيدعون أن المشبه بالصخرة ليس شخص بطرس بل اعتقاده ، وأما مذاهب البروتستانتية فيدعون أن بطرس لم يذهب إلى رومية قط ، وأما الآخرون فيقولون أن عيسى أراد بقوله (على هذه الصخرة) شخصه نفسه ، لان بطرس في اليونانية اسم خاص مذكر (علم شخص) والحال أن (بطره ) اسم عام مؤنث (علم جنس) وبناء على هذا فان الحجرة التي سيبني عليها ليست (حجراً) بل (حجرة) أي غير بطرس وهي المسيح نفسه ، المسيح عبر في العبارتين بلفظ (كيفا) و (كيفا) أيضاً اسم مؤنث .
إن جهة تعلق الآيات المذكورة بموضوعنا هو كون الكنيسة غير ملكوت الله ، والكنيسة كانت ممثل ملكوت الله وشاهده بصورة مؤقتة ، وبشارة الإنجيل أيضاً كانت بمثابة المنادي تهتف بالدعوة إلى الكلام القديم (القرآن) وكل الكنيسة والإنجيل لم يكونا حائزين على ماهية غير تمثال وظل لدين الإسلام والقرآن العظيم الشأن .
لو كان المسيح صاحب ملكوت الله لاقتضى ان يقول (سأبني ملكوتي على هذه الصخرة).
والسبب في انه لم يكن لجماعة المسيح إلى حين مجمع نيقية من كتاب ملهم رسمي غير الكتب المقدسة العبرانية - أي غير التوراة - انما هو انتظار كلام ملكوت الله ، أليس صلوات الكنائس ودعاؤهم في صلواتهم (آيات ملكوتك ، لتكن إرادتك كما في السماوات كذلك على الأرض) دليل باهر على انهم خارجون عن ملكوت الله ، وانهم غير مؤمنين بكلامه ؟
إذن تحقق جلياً انه لا يتفق تعليم بولص وتفسيره ولا مدعيات الكنائس مع ملكوت السماوات الذي كان المسيح عليه السلام مأموراً بالتبشير به .


  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22