الموضوع: في رحاب سورة يس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-2014 ~ 07:44 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 10
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الثامن


في مقام التلقي لواجب بغض الشيطان واتخاذه عدوا


1 – كلمات الابتلاء:


وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ(69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ(74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ(75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(76)


2- البيان العام:


أما هذا المجلس فله شأن خاص! إنه يستضيء بآيات تحمل أسرارا ربانية عجيبة، وحقائق إيمانية رفيعة!

كانت دعوة محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام – شروقا قويا في بيئة ألِفَ أهلُها العيش في الظلام؛ فلم تطق أعينهم مشاهدة النور فحاربوه! حتى كانت منهم فئة طمس الله على قلوبها وأعماها، وألجمها إلجاما على هيئة لا تطيق بها إبصار الطريق! كما قال في بداية السورة "فَهُمْ مُقْمَحُونَ!" لكن الكفار مهما كادوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا يشعرون بالهزيمة الداخلية فيزدادون حنقا وتغيظا! والسر في ذلك أنهم احتاروا احتيارا شديدا، واضطربوا أمام قوة القرآن وطبيعته! فهو خطاب لا كأي خطاب! خطاب يزلزل القلوب ويسلب الألباب، ويوقظ الفطرة الغافلة، والبصيرة الغافية؛ فيسلم له الناس تَتْرَى سِرّاً وجهراً!

ويرى الكفار زمام المجتمع ينفلت من بين أيديهم انفلاتا! ويرون سيادتهم تنهار، وكبرياءهم العاتي مهددا بالزوال! فهؤلاء أبناؤهم يسلمون، وهؤلاء عبيدهم يسلمون! ثم تنبعث في قلوبهم جرأة غير معهودة، وشجاعة غير مألوفة، وقوة غريبة في مواجهة طغيان الأسياد وتحدي الظلم والجبروت! والكفار يعلمون جيدا أن سر هذا التحول كله إنما هو هذا القرآن! فكيف السبيل إلى محاربته وحصاره!؟ تلك هي الأزمة التي أرقتهم وأطارت صوابهم؛ فرموه بشتى أنواع التهم ولكن بلا جدوى! كان القرآن - ولا يزال - يعلو ولا يعلى عليه!

قالوا هو ساحر، وقالوا هو شاعر، وقالوا مجنون، حاشاه صلى الله عليه وسلم! وكانت الشاعرية من أكثر التهم التي استعملوها لمحاولة صد دعوته عليه الصلاة والسلام؛ نظرا لأن العرب كانت تعتقد أن الشاعر إنما يكون كذلك بتنـزل الشياطين عليه! فهي التي توحي إليه بالمعاني وموازين القصيد! ولأنهم وجدوا أنفسهم مضطرين لتصنيف القرآن ضمن صنف من الكلام، يسلب عنه قوته البرهانية وطبيعته الربانية، فقد قالوا: إنما هو شعر! قالوها وهو يعلمون أنهم كاذبون! فرد الله تعالى افتراءهم بهذه الكلمات العميقة: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ! إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) فالله جل جلاله هو الذي صنع محمدا على عينه، وأعده للنبوة والرسالة إعدادا! ورعاه لذلك الشأن العظيم مذ كان في بطن أمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تنـزلت عليه أول كلمات الوحي! فما أتاح له تعالى فرصةَ تعلم الشعر ولا ألهمه قريحته، فصار طبعُه يأباه. كما صرفه - قبل الرسالة - عن كثير من مفاسد القوم وضلالهم.

فهي نبوة وليست شاعرية! وفرق بين الحقيقتين كبير..! فالشعر تجربة نفسية بشرية تفيض عن النفس الإنسانية عند جيشانها العاطفي! وتضرب بأجنحة الخيال في التعبير والتحبير.. والشاعر مملوك لهواه أبدا، سواء كان خيرا أو شرا! بينما النبوةُ تَلَقٍّ لخطاب الوحي الإلهي، وتجرد مطلق عن الهوى، ونطق بحقائق الإيمان الكاملة! وتعبير عن مراد الله رب العالمين، بكلام الله رب العالمين! فأين الثرى من الثريا؟ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم: 3-4) ألا ما كان أسفه عقول أولائك الكفار وهم يتهمون محمدا بأنه مجرد شاعر!

ومن هنا بين الحق - جل جلاله - طبيعة هذا الرجل، لكن بأسلوب رباني راق! فبدل أن يصف شخصه - عليه الصلاة والسلام - وَصَفَ طبيعة ما يصدر عنه من كلام، وفي ذلك ما فيه من قمة التعبير الجمالي وعمق المعنى الدلالي! فقال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) بيان حصري عميق لحقيقة هذا الكلام الذي ينطق به محمد صلى الله عليه وسلم: "ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!" نعم هو هكذا: ذِكْرٌ! والذِّكر طَرْقُ يَدِ الغَيْبِ لِبَابِ القلب الغافل! وإيقاظ للروح الراقدة في كهف الطين المسنون! مخدرة بأدخنة الشهوات والأهواء! وإخراج للوجدان الناسي حقيقتَه من قارورة نسيانه! وتذكير له بالعهد الأول، والميثاق الذي وقَّعه شاهدا على نفسه في عالم الروح، مجيبا بين يدي الرب العظيم: "بلى!"([1]) مُقِرّاً بالتوحيد والإخلاص! وهو إحياء للفطرة التي ضاعت تحت ركام المعاصي والذنوب، وتجديد لها؛ عساها تحس بالحياة من جديد! ذلك كله هو "الذِّكر" الذي يقابل معاني الغفلة والنسيان بمعناهما الروحي العميق! ولا أذْكَرَ للروح من الروح! والقرآن العظيم روح نزل به روح! قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ)(الشورى: 52) وقال سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ)(الشعراء: 193)

فمن هنا كان هذا الكلام الذي ينطق به محمد - صلى الله عليه وسلم – "ذِكْراً" بهذا المعنى الكوني العميق! وللقرآن أسماء أخرى ذكرها الله تعالى في كتابه، كالتنـزيل والكتاب وغيرهما، لكنَّ "الذِّكْرَ" هو الاسم الدال على وظيفته الكبرى!

وهو في الوقت نفسه "قُرْآنٌ مُبِينٌ". أي قرآن واضح الدلالة على رسالته، قوي الحجة على حقيقته ودعوته! لا ينكر ربانيتَه إلا غَوِيٌّ مبين! ولفظ "القرآن" هو الاسم العَلَمُ الجامع المانع لمعنى كلام الله - جل جلاله – المنـزل على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. وهو اسم دال على معنى القراءة، فعبارة قرآن مصدر من مصادر فعل "قَرَأَ"، دال على المبالغة والامتلاء، كغضبان بمعنى الممتلئ غضبا! ورحمن لمن وسعت رحمته كل شيء! سبحانه وتعالى. فالقرآن هو الكتاب المجعول للقراءة الكثيرة المستفيضة! ولذلك فهو قد قرئ ولم يزل يقرأ في السماء وفي الأرض إلى يوم القيامة! لكن السر الرفيع لهذه السيماء، والمقصد اللطيف لهذا الاسم الكريم، أن كتاب الله - جل ثناؤه - لا ينقدح نورُه لعبدٍ إلا بإشعال فتيل قراءته بقلبه! فلا تدبر ولا تذكر إلا بقراءة! وليس عبثا أن يكون أول ما خاطب الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: "اِقْرَأْ! فمن قرأ الكتاب حق القراءة تَذَكَّرَ، ومَنْ تَذَكَّرَ فقد أدرك الغاية، وخرج من الظلمات إلى النور بإذن الله؛ وهو مقتضى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) ولذلك قال بعدُ مباشرة: (لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ!) أي لتقوم - حسب رواية ورش - أيها الرسول بنذارة البشرية، وإبلاغها النبأ العظيم! أو – حسب رواية حفص - ليقوم هذا الكتاب نفسه – بما هو ذِكْرٌ يُتَلَقَّى بالقراءة الحقة المتدبرة – بإنذار من قرأه أو قرئ عليه. وخَصَّ النذارة دون البشارة بالذكر ههنا؛ لأن من تذكر فَزِعَ! وغلب عليه الخوف أكثر من الرجاء؛ لِمَا يكون من حال الغافل بعد يقظته، وإدراكه حجم الخطر الذي هو عليه!

ولكن ذلك كله - من أوله إلى آخره - لا يكون إلا لمن كان قلبه حيا! أي أن فطرته لم تنطمس تماما، ولم يزل بوجدانه حب للخير، ولو على جهل بطبيعته! ولم يزل بضميره توق إلى معرفة الحق، ولو على ضلال عن سبيله! وإنما حاجته فقط إلى بيان! وأما الكافر الذي مَرَدَ على الكفر وتمرَّد على الله رب العالمين، وأُشْرِبَ التكبر والطغيان، فذلك قد انطمست فطرته، ومات شعوره بكل معاني الخير والجمال! فلا رجاء في يقظته، ولا إمكان لتذكيره، ولا فائدة من طرق باب قلبه الهالك! إلا أن على الرسول تبليغه الدعوة وجوبا؛ لتقوم عليه الحجة، ويحق عليه حكم الله العادل، وقضاؤه عليه بالخسران المبين!

ويلفت الرحمن تبارك وتعالى - بعد ذلك - نظر هؤلاء الكفرة إلى آيات أخرى من طبيعة أخرى؛ وقد عَمُوا وصَمُّوا عن آيات القرآن، فيوبخهم - جل جلاله - بسؤال إنكاري شديد؛ أنْ عَمُوا أيضا عن النعم التي أغدقها عليهم من بهيمة الأنعام، إبِلاً وأبقاراً وأغناماً، وما ينتج عنها من الخيرات! فقال سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ؟ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ؟ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) فهو تعالى الذي خلق تلك الأنعام بيده جل جلاله ثم ملَّكها للإنسان وجعلها له بكل منافعها! ركوبا، وأكلا، وشربا، ولباسا، ومالا، وزينة، وجمالا! وكان من الممكن أن يجعلها الله تعالى متوحشة لا تقبل تأليفا ولا تدجينا! ولكنه تعالى ذلَّلها تذليلا، وأخضعها للإنسان بسنن التسخير فخضعت وانقادت! ثم جعل الطفل الصغير من بني آدم يقود الجمل الفحل الكبير، والثور الضخم العظيم! ويسوق بين يديه القطعان الكبيرة من الإبل والأغنام والأبقار فتنقاد له انقيادا! نعمةً من الله وفضلا!

ولكن الكفار محجوبون بكبريائهم عن رؤية تجليات أسماء الله الحسنى في ذلك كله، محرومون من قراءة آياته فيما فاض عنها من البركات والخيرات؛ فهم لا يشكرون! بل جحدوا النعمة وكفروها! واتخذوا من دونه تعالى أربابا من الأحجار والأهواء والأموال والشهوات، لعلهم بذلك أن يُنصروا ويسيطروا في الأرض! فعُباد الأصنام والأوثان - قديما وحديثا - يعتقدون بجهلهم وضلالهم المبين أن لهذه "الآلهة" وعيا وإرادة وسلطانا! وأنهم بعبادتهم إياها يدخلون تحت حماها ونصرتها! وهي لا تستطيع دفع الأذى حتى عن نفسها! كما أن عُباد الأصنام المعنوية والبشرية في العصر الحديث من مال وجاه وسلطان، يمرغون وجوههم في التراب من أجلها، قصد نيل الجاه والحصول على أسباب السيطرة، والاحتماء بها من عوادي الزمن والنوائب! ولكنها أوهام واهية! فلا شيء يستطيع منع أمر الله إذا جاء ولا رفع قضائه إذا نزل! فترى هؤلاء الجهلة بالله – من الأقدمين والْمُحْدَثِين – جندا مجنَّدين لأصنامهم الحجرية، عبيدا أذلاء لأسيادهم البشرية، ممن تألَّه وتجبر من الطغاة، يدافعون عنهم ويقاتلون من أجلهم. فهم حاضرون متى استُحضروا، ونافرون متى استُنفروا! والمعركة كلها من أجل باطل وضلال مبين! معرضين بذلك عن نصرة الله رب العالمين! متمردين على جلاله وسلطانه العظيم!

ثم يلتفت الرحمن إلى رسوله الكريم بخطاب لطيف، محمل بأجمل عبارات المواساة والإيناس، أن لا تحزن يا محمد! لا تحزن من جبروتهم وتكذيبهم إياك! ولا من سخريتهم من رسالتك ودعوتك! فإنَّ عِلْمَنَا قد سبق ما يسرون في قلوبهم من الكيد والبغضاء للدين ولأهله، وما يعلنونه من القول، توعدا وتهديدا وسخرية وتكذيبا! كل ذلك نحن له بالمرصاد، وكفى بربك نصيرا؛ فلا تحزن! كل ذلك جاء في كلمات تنبض بالجمال والجلال من قوله تعالى: (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ!) فأي داعية إلى الله بعد هذا تربكه فتنةُ الإعلام الشيطاني، أو يستفزه الطغيان العالمي!؟ اللهم إلا إذا كان غير موصول القلب بالله، ولا مستمدا وارداته من رحمته ورضاه!


3- الهدى المنهاجي:


وهو في خمس رسالات هي كما يلي:


- الرسالة الأولى:


في أن حياة الروح هي الحياة! وأن الحي حقا من بني آدم إنما هو المؤمن، وأما مَنْ سِوَاه مِنَ البشر فَهَلْكَى! (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ!)(النحل: 21) وهذه الحقيقة جارية بالمعنى الدنيوي وبالمعنى الأخروي معاً. فأما المعنى الأخروي فظاهر؛ ذلك أن الله تعالى وعد المؤمن جنة الخلد، ومتعه بلذة الإيمان به جل جلاله، وباليوم الآخر، وما ينتظره فيه من نعيم مقيم. فالحي الحقيقي إنما هو من ارتبط بالحياة الباقية، وزهد في الحياة الفانية.

وأما حياة الروح بالمعنى الدنيوي فهي متعلقة بطبيعة التمتع بجمال الحياة فوق الأرض، والتذوق لنعم الله المتجلية عليها، فأما هذا فإنما المتمتع به حقا إنما هو المؤمن أيضا! وأما الكافر فمهما نال من ترفها وغناها فليس له من متعتها الحقيقية شيء، بل يأكل ويشرب كما تأكل الأنعام! وبيان ذلك أن المؤمن يرى جمال أسماء الله الحسنى متجلية على كل شيء، فما من نعمة مهما صغرت - ولا صغيرَ في نعم الله - إلا وهي آخذة بحظ من نورها الوهاج! الرجل الصالح الفقير الذي يقتات بكسرة خبز وبضع حبات من زيتون، يجد من جمال النعمة وكمال اللذة وذُرَى المتعة؛ ما لا يجده ملتهم أطباق اللحوم وشتى أصناف الشهوات، من الجهلة بالله واليوم الآخر!

ذلك أن المؤمن الفقير يرى أن حبة زيتونة واحدة، تختزل نعمة الله التي أسبغها على الوجود كله! فيرى فيها قدرة الله على الخلق، وجمال الإبداع والتصوير، وما بثه الرحمن فيها من أنوار وأسرار، مما لا يحصيه عَدٌّ، ولا يحصره حَدٌّ! ثم يرى فيها جمال الرعاية مذ كانت بذرة إلى أن صارت شجرة، حتى أزهرت بإذن الله وأثمرت! ثم يرى فيها رحمة الله وكرمه وجوده، إذ جعلها رزقا مقدرا له ولأولاده! كما يرى فيها أيضا هيمنته تعالى على ملكه، وقدرته على تنفيذ قضائه وقدره! إذ ساق إليه هذه الحبة من الزيتون من بين آلاف الموانع، وسائر القوى المتصارعة على الثمار والأرزاق! فجعلها رغم أنوفهم جميعا من رزقه! وربما سخر بعض أعدائه – وهم لا يشعرون – لخدمته، والإسهام في إيصال رزقه إلى باب بيته!

وهكذا فتجليات الأسماء الحسنى على حبة الزيتون تلك لا تنتهى! فيأكل الفقير طعامه القليل هنيئا مريئا، وهو يشعر بالغنى العالي بالله! فأي حياة هذه وأي هناء!؟ ألا تلك هي الحياة وإلا فلا! ولقد تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكمة بالغة، قال سيدي: (مَنْ أصبحَ منكم آمناً في سِرْبِه، مُعَافًى في جسده،عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها!)([2]) والقوت من الطعام: هو ما يسد الرمق ولا يزيد!

ثم انظر إلى تعاسة المترفين كيف شَقُوا بمالهم! فكانوا له عبيدا، وهم يظنون أنهم به أسياد! وانظر إلى القلق كيف يقض مضاجهم، وهم لا يدرون لشقائهم سببا! الخوف يطاردهم! والجشع ينهكم! والطمع يعذبهم! هم يجمعون وأبناؤهم يبددون! وهم يتعبون وخدمهم يتمتعون! فأي حياة هذه بل أي هلاك!؟ ألاَ فذلك هو قول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا!)(طه: 124). فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرين!


- الرسالة الثانية:


في أن القرآن هوحياة القلب وروحه، وهو موقظه ومُذَكِّرُهُ! ترتيله المخلص يصل القلب بالملأ الأعلى، ويجعله يرى الكون من أعلى أبراجه، فتنكشف له حقيقة الحياة الدنيا، ثم ينـزاح عنه حجاب الغفلة والغرور! فبمجرد شروع العبد في تلاوته أو سماعه، بافتقار تعبدي صادق، تبدأ كلمات الله تدر عليه من نور الحكمة والتزكية ما يُرَقِّي قلبه إلى مقامات الحضور والمشاهدة! فتنكشف له مرآة نفسه، ويرى ما بها من علل وقروح، ثم يشاهد الآيات تتنـزل عليها بالدواء الرحماني الشافي! حتى إذا برئت جوانحه من جروحها حلَّق في سماء الروح، وارتقى على قدر قراءته وترتيله، حتى يكون مع الله، لا يسمع ولا يبصر إلا به! فلحياة القلب آنئذ أوقات موصولة بالزمن الخالد، أوقات لا تفنى أبداً! فإنما قارئ القرآن عبد مُصْغٍ إلى ربه يتكلم! وتلك حقيقة إيمانية عظمى لا تستوعبها الأخيلة والعقول، ولا تُدرك إلا أن تذاق!


- الرسالة الثالثة:


في أنه لا يجوز للداعية أن يشغله شيء عن القرآن! قراءةً وتدبرا واستمدادا. متخذا من سوره قناديل ينير بها ليله، قياما بين يدي ربه يرتل القرآن ترتيلا! فهو سميره بالليل وأنيسه بالنهار! لا يشغله عنه شعر ولا رجز. وليس معنى هذا ألا ينفتح على أنواع الفنون والشعر والأدب، كلا! وإنما القصد أن يكون القرآن هو إمامه، وهو محور اهتمامه ومدار فلكه، وأن تكون كل تلك النوافذ التي يفتحها على الثقافات والفنون الأخرى، خادمة لتدبر القرآن وتبليغ رسالته، غير حاجبة للمؤمن عن نوره، ولا فاتنة له عن السير إلى الله بهداه!


- الرسالة الرابعة:


في أن المؤمن ملزم بقراءة الكتابين معا! أعني كتاب الله المسطور، وكتابه المنظور، بمعنى التدبر لآيات القرآن الكريم، والتفكر في آيات الكون وما خلق الله للإنسان من النِّعم، وما سخر له من تجليات الرحمة والكرم. وشُكْرُ ذلك كله متعلق بذمته حتى يؤديه توحيدا لله وإخلاصا!

والجمع بين القراءتين هو الكمال في مسلك السير إلى الله والتعرف إليه. والقراءة الحقة للقرآن مفضية بالعبد حتما إلى القراءة لكتاب الكون؛ إذ الآيات القرآنية لم تزل تنبه القلب للتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي ما جعل الرحمن - جل جلاله - من الآيات في الأنفس والآفاق! وإن ذلك لمما يفتح البصيرة ويوسع فضاء الروح. وإنها لعبادة واجبة تركها الناس إلا قليلا؛ وبذلك عمت الغفلة وتبلد الحس! وما ينبغي للمؤمن - بله الداعية – أن يعيش مغبونا فيما نُصِبَ له من جلائل الآيات الكونية، التي تهدي خطواته في طريق التعرف إلى الله والتعريف به؛ وتنير قلبَه وبصيرتَه بما أفاض - جل ثناؤه - على جميع مملكته من جمال أسمائه الحسنى وجلالها!


- الرسالة الخامسة:



في أن المؤمن آمِن! وأنه لا آمِنَ إلا من أمَّنَهُ الله! وإنما ذلك هو المؤمن الحق، المؤمن الواثق بالله، الموقن به جل جلاله وعلاه، بما تحقق لديه من معرفة به تعالى، من خلال ما هداه إليه سبحانه، من قراءة الكتابين: القرآن الكريم، وسُنَنِ الله الجارية في الكون العظيم. فلا يزال الجهلة بالله من عُبَّاد الأوثان الحجرية والبشرية، يلهثون وراء طلب لحظة لراحة الأعصاب، والتخلص من كابوس الخوف من الفقر، وانقلاب الدهر، وذهاب الجاه والسلطان، فلا يجدونها ولو في الأحلام! بينما المؤمن يعيش – بفضل التوحيد والإخلاص - مطمئن البال، آمِنَ الروح، منشرح الوجدان، راضيا بقضاء الله فيما قسم له من الأقدار والأرزاق، ثروته القناعة، وجاهه الغنى بالله، وسكينته خشية الله. غير آبه بكيد الأعداء، لا تحزنه دعاياتهم المغرضة، ولا إشاعاتهم الكاذبة، ولا دجلهم الإعلامي الخبيث! فهو يستمد أمنه العميق من ثقته بالله؛ لأنه تعالى أمان الخائفين، ونصير المستضعفين، وكفى به - جل جلاله - حافظا ونصيرا! وكل الذي فوق التراب تراب!


4- مسلك التخلق:


قضية هذا المجلس هي حياة الروح. والمسلك العملي المطلوب الدخول فيه هو كيفية الاستفادة من الروح القرآني؛ بما يحيي القلب ويفتح بصيرته، ويسلكه بعد ذلك بصورة تلقائية في مدارج الشكر والإخلاص.

وقد بينا في أكثر من مجلس أن جلسة التدارس لكتاب الله والتدبر لآياته، هي المفتاح الأساس الذي به تنفتح البصيرة وتستيقظ الروح، فتدب الحياة في القلب من جديد، بما يصيبه من وابل التزكية ونور الحكمة، وبما يناله من فيض العلم بالله.

بيد أن بعض الناس قد يشكو قساوة قلبه حتى عند تلاوة القرآن! فلا يستطيع تدارسا ولا تدبرا! بل بمجرد ما يفتتح التلاوة يغيب في متاهات الشرود! فلا يجد سبيلا ليقظة قلبه ولا لحياة روحه! وعلاج ذلك بحول الله يكون بثلاثة أمور:

- أولها: الاجتماع على الخير، وذلك بطلب أهل الفضل والصلاح، ممن يعقدون مجالس القرآن، والدخول معهم في فضاء التدارس الجماعي، إذ أن للاجتماع من الأثر على القلب ما ليس للانفراد، إذا كان الأمر يتعلق بتدارس الكتاب؛ لأن الشيطان من الجماعة أبعد! ومن ثَمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة! فإن الشيطان مع الواحد، وهو منالاثنين أبعد!)([3]) ولذلك كان الاجتماع حصنا للفرد من الشرود والتيه، وأدعى لحضور عقله وقلبه مع الجماعة. وهذا مقتضى من مقتضيات الحديث القدسي: (فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!)([4]) ومع أنه ورد في سياق آخر؛ إلا أنه دال على مشاركة الفرد لمن يجالسهم فيما يتلقونه من نور وحكمة وواردات، وذلك هو المراد. ومَنْ حلَّق مع السرب استطاع بعد ذلك أن يحلق فردا! وليس عبثا أن قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه!)([5])

- الثاني: مصاحبة أصحاب الأحوال الصالحة. فبالإضافة إلى ضرورة الاجتماع على الخير، يحسن جدا صحبة من يتوسم فيهم سيماء الورع والتقوى، والاجتهاد في الترقي بمنازل الإيمان، ممن بدت عليهم أحوال الخوف والرجاء والشوق والمحبة، وهجروا حياة اللهو والدعة والخمول، وشمروا عن ساعد الجد في طلب المنازل العالية! فألقت عليهم شجرة الإخلاص ثمار الفقر والتواضع! ثم أُشْرِبَتْ قلوبُهم محبةَ القرآن الكريم، فأسهروا به ليلهم، وعمروا به نهارهم! فكانوا من أهل الله وخاصته حقا! ذلك أن مصاحبة أمثال هؤلاء تورث القلب خصالهم، وتوقد فيه أشواقهم، وذلك هو المبتغى! وقد عُلِمَ أن الأحوال في الشر والخير عدوى.

- الثالث: ملازمة الاستغفار، والإكثار من الصدقة والصوم! عسى أن يتهيأ القلب لاستقبال الخير؛ ذلك أن غالب أحوال القساوة إنما هو ناتج عن كثرة الذنوب! وإهمال التوبة والاستغفار! فالذنوب إذا تواترت على القلب نسجت عليه غلافا سميكا كالحصير يُفقده الإحساس بالخير وتذوق الإيمان! وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ! وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ؛ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ! وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَراً! إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ!)([6]). ومن هنا أُمِرْنَا بإِتْبَاعِ السيئات الحسنات؛ حتى لا تتراكم الآثام على القلب فيقسو! بل وجب أن نخضعه - بفعل الحسنات - للتطهير الدائم؛ حتى لا يفقد حياته بإذن الله! ولا شك أن الاستغفار والصدقة والصيام، من أقوى أعمال البر على كنس القلب من سيئاته وخطاياه، كما تواترت بذلك النصوص الوفيرة الكثيرة، من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ذلك، والله الموفق للخير والمعين عليه.

_______________________________

[1] إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ!)(الأعراف: 172).

[2]
رواه الترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن محصن مرفوعا. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، رقم : 6042.

[3]
رواه الترمذي والحاكمعن عمر رضي الله عنه مرفوعا. وصححهالحاكمووافقهالذهبي، ثم صححهالألبانيفي "صحيحالترمذي".

[4]
جزء حديث متفق عليه.

[5]
‌ ‌رواه مسلم.

[6]
رواه مسلم. وقوله: "أَسْوَدُ مُرْبَادًّا": يعني فيه لمعَانٌ من شدة السَّوَادٍ! والْكُوزُ: الإناء كالإبريق. وكونه مُجَخِّياً: يعني مَنْكُوساً، بحيث لا يمسك ما فيه.

  رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22