صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > إسلاميات > هدي الإسلام

هدي الإسلام معلومات ومواضيع إسلامية مفيدة

فتح السند

بسم الله الرحمن الرحيم فتح السند الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد إن الحمد لله... قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه البداية والنهاية: "كانت سوق

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-11-2013 ~ 06:29 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي فتح السند
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الفتوحات

بسم الله الرحمن الرحيم
فتح السند
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد

إن الحمد لله...

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه البداية والنهاية: "كانت سوق الجهاد قائمة في بني أميَّة، ليس لهم شغل إلاّ ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرِّها وبحرها، وقد أذلُّوا الكفر وأهله" انتهى كلامه -رحمه الله-.
وليس هذا بغريب على بني أمية الذين جعلوا الجهاد في سبيله، ومنابذة أعداء الله، ومحاولة إيصال الدين والحق والعدل إلى كافة الأمصار من أهم أعمالهم.
واليوم سيكون حديثنا عن دخول الإسلام بلاد السند والهند، تلك البلاد البعيدة من حيث المسافات، والغريبة العجيبة من حيث التقاليد والعادات.
لم تكن شبه القارة الهندية مجهولة للعرب في عصر ما قبل الإسلام؛ إذ كانت تجارتها تمرُّ بالأرض العربية عن طريق البحرين فالعراق إلى سواحل بلاد الشام ومصر، أو عن طريق اليمن ثم إلى مصر وبلاد الشام.
وعرف العرب منذ القديم الهند وأحوالها عن طريق تجارتهم، نزلوا على سواحلها الغربية، واختلطوا بأهلها ليعودوا إلى بلادهم مندهشين بما رأوا من ثراء الهند الطائل، ومالهم من غرائب العادات والمعتقدات، ونفيس المعادن والمنسوجات.
وكان للفرس نفوذ قديم في بلاد الهند، وهم الذين أطلقوا عليها اسم "الهندستان" أي أرض الأنهار.
وقد اشتهرت بلاد الهند بأنهارها العظيمة الضخمة، وشبه القارة الهندية تضم اليوم ثلاث جمهوريات: باكستان وبنكلادش والهند، وهي كتلة بالغة الضخامة من اليابسة، تصل مساحتها إلى المليونين من الأميال المربعة، أي ما يزيد على نصف مساحة القارة الأوربية، فيها تمثيل لمختلف عروق الإنسان وما عرفه من فنون وآداب وعلوم.
وفيها أنواع الأجواء المتباينة من الصقيع وثلوجه في الهملايا ومرتفعاتها بالشمال، إلى قيظ المناطق الاستوائية وشواظها بأقصى الجنوب.
وليس بغريب على الجحافل الإسلامية أن تخوض غمار هذه المناطق المختلفة وتتكيف معها، وتخضعها بعد ذلك لحكم الله.
ولّى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عثمان بن أبي العاص الثقفي البحرين وعُمان سنة خمس عشرة للهجرة، فوجَّه أسطولاً إلى سواحل السِّند.
وفي خلافة عمر -رضي الله عنه-، أرسل أمير العراق أبو موسى الأشعري "الرَّبيع بن زياد الحارثي" بالخيل والفرسان والعتاد إلى مكران وكرمان للاطلاع على أحوال الهند.
ولكن أوَّل من فكَّر جدِّياً بالقيام بعمل عسكري ضدَّ حكام السند، هو عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، عندما سار ملك السند إلى مكران، واشتبك فيها مع القوات الإسلامية التي كانت تحت قيادة "الحَكَم بن عمرو التَّغلبي"، فطلب عثمان -رضي الله عنه- من عبد الله بن عامر أمير البصرة سنة 29هـ إرسال عاقلٍ حكيمٍ عفيفٍ يستطلع أحوال السند والهند، فأرسل عبد الله بن عامر "حُكَيْمَ بن جبلة العبدي".
وفي خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أواخر سنة ثمان وثلاثين، وأول سنة تسع وثلاثين توجَّه إلى السِّند "ابن الحارث بن مرَّة العبدي" متطوِّعاً بإذن علي -رضي الله عنه-، فظفر وأصاب مغنماً وسبياً، وقسّم في يوم واحد ألف رأس، ثم إنه قُتل ومن معه هناك ولم ينجُ إلا القليل من تلك السريّة، وكان مقتله سنة اثنتين وأربعين للهجرة.
وفي أيام معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وصل المهلب بن أبي صفرة أرض السند سنة أربع وأربعين للهجرة، ويمكن اعتبار هذه الحملة أول حملة كبيرة نسبياً سلكت الطريق البريّ في محاولة جديّة لفتح الهند، ولكنها لم تنجح النجاح المطلوب في ضم جزء من الهند إلى بلاد المسلمين وترسيخ أقدامهم فيها، ولكنها نجحت في مهمتها الاستطلاعية. وفي خلافة عبد الملك بن مروان ولي ثغر السند الحكم بن المنذر.
أمَّا في خلافة الوليد بن عبد الملك، فقد أرسل ملك جزيرة الياقوت سفينةً إلى الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراق، محمَّلة بالتُّحف والهدايا من الدُّرِّ والياقوت والجواهر الثمينة والعبيد، مع نسوة ولدن في بلاده مسلمات، ومات آباؤهن وكانوا تجَّاراً، فأراد التَّقرب بهنّ إلى قطب العالم آنذاك ومحوره، حيث أرسل إلى دار الخلافة بدمشق -إضافة لما سبق- تحفاً وطرائف مكنونة لا نظير لها، كما كان هدف النساء المسلمات زيارة بيت الله الحرام، ومشاهدة معالم دار الخلافة الإسلامية.
وهبَّت رياح عاتية، فقذفت بالسفينة إلى سواحل الدَّيْبُل من أرض السند حيث كان يقطنها مجموعة من القراصنة، فهاجموا السفينة وقتلوا بعض ركّابها وبحَّارتها، وأخذوا الباقين من النساء والرجال والأطفال أسرى، كما سلبوا جميع الموجودات من التحف والجواهر والأموال، فصاحت امرأة من بين الأسرى: يا حجَّاج، يا حجَّاج، أغثني أغثني، وكانت هذه المرأة من بني يربوع، وفرَّ بعض التُّجار، وعدد من الذين كانوا على متن تلك السفينة، وجاء بعضهم إلى الحجاج، وذكروا له ما حدث مع استغاثة تلك المرأة به، فقال: لبيكِ لبيكِ، فكتب إلى الوليد بن عبد الملك رسالة يطلب فيها الأمر بغزو السِّند والهند، ولكن الوليد لم يأذن له بذلك فكتب الحجاج رسالة ثانية مكرِّراً طلبه، فوافق الوليد بعد ذلك، وأعلم الحجاج أنه أصبح مشرفاً على الفتح في تلك البلاد، فعيَّن الحجاج ابن أخيه القائد البطل "محمد بن القاسم الثقفي" أميراً على هذا الجيش الذي سيفتح -بإذن الله تعالى- بلاد السند، وقبله سيؤدب قراصنة الديبُل على جرمهم وإفسادهم.
كتب الحجاج إلى الوليد يطلب منه ستة آلاف مقاتل من أشراف الشام وأبنائهم الذين تربُّوا في كنف آبائهم وهم على قيد الحياة تربية صالحة، يتمكنون منها بالوقوف مع محمد بن القاسم في حربه في بلاد السند.
وطلب الحجاج من حاضرة الخلافة دمشق عدَّتهم الكاملة مع السلاح والعتاد؛ ليتشرفوا بالجهاد في سبيل الله، كما طلب ذكر أسمائهم فرداً فرداً حتى يعرفهم شخصياً.

وفي يوم جمعة، وقف الحجاج في جموع المجاهدين خطيباً وقال: "إن الأيام ذات دول، والحرب سجال، يوم علينا ويوم لنا، فعلينا أن نصمد في اليوم الذي هو علينا، ونشكر الباري -عز وجل- في اليوم الذي هو لنا، حتى يزيد الله النعمة علينا، وعلينا أن نذكر الله -عز وجل- ونشكره على نعمائه وآلائه، وإن نعم الله أبوابها مفتوحة لنا، ولن يُغْلَقَ أيُّ باب بوجهنا مادمنا مع الله وفي سبيل الله".
ولمَّا أنهى الحجَّاج خطبته، أركب بنفسه محمد بن القاسم فَرَسَه، ووزَّع الصدقات على الفقراء، والأعطيات للناس، وبارك لمحمد بن القاسم جهاده وسفره وترحاله، وقال له: اخرج عن طريق شيراز، واطوِ المنازل واحداً تلو الآخر.
سيَّر الحجاج محمد بن القاسم سنة 92هـ، وأمره أن يقيم بمدينة شيراز من أرض فارس؛ كي يلتحق به جند العراق والشام.
وصل محمد بن القاسم إلى شيراز، وعسكر بظاهرها، والتحقت به الإمدادات تباعاً، وأمر الحجاج بجمع كلِّ ما هو موجود من المنجنيقات والسهام والرماح، ووضعها في السُّفن الحربيَّة، وكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم: "لقد بعثت إليك السلاح عن طريق البحر، وعليك بالانتظار هناك حتَّى تصل السفن، اذهبوا في حفظ الله وعونه".
وكان الحجاج قد أمر الخيَّاطين بصنع رؤوس السِّباع والفِيَلَة، حتَّى يرسلها إلى جيش محمد بن القاسم؛ ليرهب بها الأعداء.
وبعد استكمال الاستعدادات في شيراز، ووصول توجيهات الحجاج، انطلق محمد بن القاسم بطل هذا الفتح شرقاً نحو بلاد السند.
محمد بن القاسم يعد من كبار القادة، ومن رجال الدهر في دولة بني أمية ولد سنة 72هـ، وكان أبوه واليَ البصرة للحجَّاج، وقد عُرف محمد منذ طفولته بالنُّبوغ، ولم يقارن بأترابه من الفتيان.
انطلق قائدنا بجيش الفتح شرقاً، حتى وصل ظاهر مدينة مُكران فجاءت رسالة من الحجَّاج لابن القاسم، تضمنت وصايا حربية هامة يقول فيها: "إذا وصلتم إلى منازل الديبُل وسوادها، احذروا تلك المنازل واحفروا الخنادق أينما وصلتم؛ لأنها ستكون ملاذاً وحماية لكم، وكونوا يقظين، وعليكم بتلاوة القرآن، والإكثار من الدعاء، واذكروا الله دائماً على لسانكم، واطلبوا النصر من عند الله تعالى حتّى ينصركم بعونه، وقولوا كثيراً: لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليِّ العظيم، وعندما تصلون إلى سواد الديبُل، احفروا الخندق بعرض اثني عشر ذراعاً، وبعمق ستة أذرع، وعندما تقاتلون العدو كونوا هادئين، وإذا رفع الأعداء عقيرتهم بالصِّياح والقول البذيء، وخرجوا للقتال، لا تقابلوهم، ولا تقاتلوهم حتَّى أخبركم بذلك ضمن رسائلي، تصرَّفوا بما أمليه عليكم حتَّى تتكلَّل مهمَّتكم بالنجاح والتوفيق إن شاء الله تعالى".
سار محمد بن القاسم ورتب جيشه إلى مقدِّمة ومؤخِّرة، وميمنة وميسرة، ووصلت السفن محمَّلة بالسِّلاح والرِّجال، ومعهم رسالة من الحجاج إلى ابن القاسم، يؤكِّد فيها ضرورة حفر الخنادق، ويذكر فيها أنَّه أَلحَق بجيشه كبار الأعيان والأشراف.
نزل محمد بن القاسم في سواد الديبُل، وحفر الخنادق، ورفع الرايات والأعلام، ونصب المنجنيقات، ونصب منجنيقاً عظيماً يعرف بالعروس كان يمده بالحجارة خمسمائة رجل.
وكان في وسط الديبُل معبد كبير للأصنام، تتوسَّطه قبَّة عالية، ترفرف عليها راية خضراء، وكان ارتفاع المعبد أربعين ذراعاً، وسعة القبَّة أربعون ذراعاً، وارتفاع الرّاَية مثلها، وكان للرّاَية أربعة ألسن تتطاير في الهواء.
دعا محمدُ بن القاسم "جعونةَ السَّلمي"، أمير جند منجنيق العروس، وقال له: إذا أمكنك أن تكسر رأس معبد الأصنام هذا، وعمود الرَّاية التي ترفرف فوقه، أعطيتك عشرة آلاف درهم، فقال جعونة له: إنَّ المنجنيق هو منجنيق الخلافة، وسوف أطلق على عمود الرَّاية الحجارة وأكسره بإذن الله.

فقال محمد بن القاسم: وإذا لم تكسره فماذا يكون شرطك؟!.
قال جعونة: إذا أخطأت فاقطع يدي.
وجاءت رسالة أخرى من الحجاج قبيل الهجوم جاء فيها: "إذا بدأ العدو الحرب فاجعلوا الشمس خلفهم حتَّى تردُّوا الخصم، وإذا أراد أحد من أهل السند الأمان فأعطوه الأمان، أمَّا أهالي الدَّيبُل من المقاتلين والقراصنة فلا تعطوا الأمان لأيٍّ منهم".
وبعد وصول رسالة الحجاج هذه، خرج كاهن من داخل حصن الديبُل وقال: لقد جاء في كُتبنا الهنديَّة أن دولة الهند قد أفلت ودالت، وجاء عهد الإسلام والمسلمين، وطلب الكاهن الأمان للنساء والأطفال، فأعطاهم ابن القاسم الأمان، ثم دخل الراهب إلى الحصن وبشَّر العبيد بأن خلاصهم سيكون على يد محمد بن القاسم ابن عم الحجاج، وسوف يتم فتح الحصن على يديه.
وفي اليوم المحدد للهجوم، استدعى ابن القاسم جعونة المنجنيقي، وأعطاه الإذن ببدء الهجوم بعد أن تهيأ الجيش للقتال، وبدأ جعونة الرمي وكبَّر المسلمون بصوت هادر حينما طارت راية المعبد مع قِسم من قاعدته وساريته من الحجر الأول الذي أطلقه جعونة بعد تصويب دقيق، ثم رمى جعونة الحجر الثاني فأصاب قبَّة المعبد فانهارت تماماً، وفي الحجر الثالث أصبح أنقاضاً مع الأرض سواء.
بعدها قُرِعت الطبول، وبدأ هجوم الجيش هجمة واحدة، وتقدَّم ألفٌ من خيَّالة أهل البصرة، وارتفع هتاف الفتح الخالد، ونشيد المجاهدين الذين يعشقون الشهادة في سبيل الله: "الله أكبر"، وما هي إلاّ سويعات ويثلم منجنيق العروس بتسديدات من جعونة الدَّقيقة الناجعة، ثلمات في سور الديبُل، فوصل المجاهدون المسلمون إلى أعلى السور وأبراجه. ثم أمر بالسلالم فنصبت وصعد عليها الرجال الأبطال، وكان أولهم صعوداً رجل من بني مراد من أهل الكوفة، وفُتِحَت الديبُل عنوة، والتزم محمد بن القاسم بمواثيقه وعهوده التي أبرمها مع السُّكَّان قبل الفتح، فدعا الكاهن البرهمي الذي أعطاه الأمان، وسأله عن الأسرى المسلمين من النساء والرِّجال الذين اختطفهم القراصنة فسار مع عدد من الجند المسلمين إلى سجنهم، وفُتِحَ السجن، وأُطلق سراحهم وأُدخل مكانهم في السجن بعد ساعات مجموعة من قراصنة الديبُل، الذين قطعوا الطريق على تلك السفينة ونهبوا ما كان فيها من الهدايا والأموال؛ ليجنوا ما قدَّمت أيديهم من البغي والعدوان، وبنى مسجداً فكان أول مسجد بُني في هذه المنطقة.
وبعد فتح الديبُل سيَّر محمد بن القاسم المجانيق بالسفن إلى حصن آخر يسمى حصن "النيرون"، عَبْر مياه نهر السِّند، وموقعها حيدر آباد الحالية، فعلم "داهر" أحد سلاطين تلك البلاد بنصر المسلمين وبمسيرتهم لفتح السند كلها، فأرسل رسالة تهديد لابن القاسم، وهدَّده بقوة جيش ابنه الذي سيُفني جيش ابن القاسم، فهو يملك مئةً من الأفيال وسيركب الفيل الأبيض الذي لم ولن يقابله فرس ولا فارس.
ولمّا وقع كتاب داهر بيد ابن القاسم، استدعى مترجمه وأملى عليه رسالةً، وَصَف فيها داهراً بالغرور والجهل والحماقة، وأخبره بأن القوة الحقيقية مستمدة من الله، ولن تنفعه الفيلة حينما تُقبل خيل الله وفرسانها المنصورون!
وقال له: "ولسوف أقهرك وأهزمك بعون الله أينما واجهتك، وسأبعث برأسك بمشيئة الله إلى الحجاج بن يوسف، أو أُضحِّي بروحي في سيبل الله".

توجَّه ابن القاسم إلى حصن النيرون بعد ما أمر بوضع المجانيق في السفن ووجهها إلى نيرون عبر نهر السند، وقطع محمد بن القاسم الطريق بين الديبُل ونيرون، وهي خمسة وعشرون فرسخاً في ستة أيام، وحينما وصل أطرافها، أرسل حاكمها رَسُولَيْن محمَّلَيْن بالغذاء والأعلاف، ومعهما رسالة لابن القاسم يقول فيها: "أنا ومن معي من الخدم والحشم والرَّعية في خدمة دار الخلافة، ونحن نقيم هنا بفضل بركات الحجاج بن يوسف، ولمَّا كنتُ غائباً من البلد تردَّدَت الرَّعية وأغلقت المدينة"، ثم فتح حاكم نيرون باب المدينة، وأخذ يبيع ويشتري البضائع مع جيش المسلمين.
دخل ابن القاسم نيرون، وهدم معبد الأوثان وبنى مكانه مسجداً، وجعل له إماماً، ثم سار إلى حصن آخر، عندها جاءته رسالة من الحجاج يأمره فيها أن يعبر نهر مهران لمقاتلة داهر؛ لأن القضاء عليه يعني طاعة المناطق كلَّها لجند الله.
وقال له: "وإذا خيّرك الأعداء بين أن يعبروا هم النهر، أو تكونوا أنتم العابرون فلا تعطهم الفرصة، وقل لهم بكل حزم: إننا سنكون نحن العابرين لتُلقي الرعب والخوف في قلوبهم، وليعلموا أن الإسلام لو لم يكن بتلك القدرة الهائلة والإيمان العميق لما جاء إلى بلادهم يقاتلهم بها، وعلى جيشك وأصحابك أن يتوكلوا على الله، وأن يثبِّتوا أقدامهم، ويشدُّوا عزمهم في القتال؛ لنيل رضا الله تعالى".
تخيَّر محمد بن القاسم أفضل معابر نهر مهران، وأرسل داهر ابنه على رأس جيش من المقاتلين الأشدَّاء؛ كي يقف بوجه المسلمين ويمنعهم من عبور النهر.
وخلال هذه المراسلات والاستعدادات والتوقف خمسين يوماً، نفدت أرزاق المسلمين وأقواتهم، وكذلك قلّت أعلاف الخيل والدَّواب الأخرى التي كان يستخدمها جيشه، كما نَفَقَ عددٌ من الخيل بعد إصابتها بالجذام، واشتكى الجيش من قلِّة الغذاء، فاضطر الجند إلى أكل لحوم الخيل المريضة، وعلم داهر بذلك، ففرح فرحاً شديداً، وأرسل مبعوثاً إلى ابن القاسم يسخر منه، ويدعوه إلى الرجوع إلى بلاده، ومنَّاه بإرسال الطعام والأعلاف إن قرَّر الرجوع والإقلاع عن الفتح.
فأجابه ابن القاسم: "إننا لسنا من الذين يرجعون عن عزمهم وتصميمهم، وإني لأطمع بإرسال رأسك إلى العراق بعون الله تعالى".
أرسل الحجاج على الفور أَلفَيْ حصان، وبعد تدارك النقص في الغذاء والأعلاف، خصوصاً حينما جاء تُجَّار المنطقة لبيع الأعلاف والغلال لجيش المسلمين، تهيأ المسلمون للعبور.
تأكد محمد بن القاسم أن مقدمة جيشه قد وصلت إلى المعبر، وأنَّ الطُّرق قد ضبطت تماماً، فقام وتجوَّل على ضِفة نهر مهران بنفسه، ليرى أفضل وأضيق مكان للعبور، ثم أمر بإحضار السفن وربط بعضها ببعض؛ ليصنع منها جسراً للعبور، وفعلاً نجح في العبور وكتب للحجاج يعلمه بذلك.
سار محمد بن القاسم ونزل بجيشه على مقربة من النهر، وهنا كان لقاء الجيشين، ولما علم داهر باقتراب جيش المسلمين منه، أمر أحد قادته بالتَّوجه لقتال محمد بن القاسم. تقدَّم جيش داهر والتحم الجمعان، من بداية الصباح وحتى وقت متأخر في المساء، وقُتل عدد من الفرسان الأبطال الشجعان من الجانبين، ثم تراجع كلٌّ إلى موضعه.
وعملت الفيلة عملها في الأيام الأولى للمعركة، وقيل: كان عددها مئة فيل، وكان داهر على أكبرها، وقد لبس سابغة القتال من الزَّرد، وخوذة من الحديد، ودرعاً من الفولاذ، وبجانبه اثنان من عبيده، أحدهما يُعِدُّ الرماح والسهام والثاني يقدمها إليه.
وفي اليوم الرابع للقتال، قدَّم محمد بن القاسم خيرة فرسانه، وقام خطيباً فيهم فقال: "إذا فزتُ بالشهادة، فإن أميركم محرز بن ثابت، وإذا فاز محرز بالشهادة، فإن أميركم سعيد"، وفي اليوم الخامس للقتال، ردَّ المسلمون الفيلة، وشتتوا شملها.
وفي يوم الخميس العاشر من شهر رمضان المبارك سنة 93هـ ولعله اليوم السادس للقتال، تقدَّم جيش داهر، وداهر على فيل عظيم تحيط به الفيلة وقدَّ قرَّر أن يحسم المعركة لصالحه، بعد أن عبّأ جيشه تعبئة محكمة، جاعلاً على الميمنة والميسرة سلسلتين من الفيلة.
عندها أعاد ابن القاسم تعبئة جيشه، وجعل الفرسان ثلاثة أقسام متساوية كلُّ ثُلث منها في الميمنة والميسرة والقلب، وعَدَدٌ في السَّاقة لحماية الجيش وجعل ثلاثمائة رجل، وحملة مشاعل النفط في القلب، ومثلهم في الميسرة، ومثلهم في الميمنة، وعبَّأ رماة السهام مع أقواسهم، ثم أمر السَّقَّائين ليوزعوا الماء على العطشى، كي لا يتحرك أيَّ مقاتل من مكانه ولا يتركه.
وكان التحام الفريقين قاسياً عنيفاً، وتوغَّل ابن القاسم في صفوف جيش داهر، ثم اختار كوكبة من المقاتلين الفرسان الأشداء للقيام بعملية التفاف وتطويق لمؤخرة جيش العدو، وكانت مغامرة عجيبة من هذا القائد البطل، وحينما حقَّق ذلك بنجاح تام، ذُعِر جند داهر وذُهلوا، وانشطروا إلى قسمين، كل قسم منهما يواجه فرسان المسلمين من المقدَّمة والمؤخرة، حينها نادى محمد بن القاسم: "يا جند المسلمين، اليوم هو يوم جهادكم، أطبقوا عليهم فقد طُوِّقوا".
استمرت الحرب ضروساً حتى صلاة العشاء، وتحمّل جند العدو عدداً كبيراً من القتلى، ولاح النصر قريباً جدّاً في جانب جيش الإسلام.
وفي اليوم التالي جمع داهر رجاله ونظَّم صفوف جنده، فقام ابن القاسم بين صفوف المجاهدين، ثم ذكَّرهم بالله وكبَّر، واقتحم بفرسه جيش داهر لكن جيش داهر بقي صامداً متماسكاً يقاتل بكل ضراوة، عندها تساقطت السهام المشتعلة على هودج داهر، ورمى أحد الرُّماه المهرة بسهمه المشتعل فأصاب قلب الهودج وأشعل فيه النار، فعاد داهر بفيله إلى الوراء وقد اشتعل الهودج بالنيران وسقط معه في الماء، عندها وصل الفرسان المسلمون إليه وقد تشرذم جيشه من حوله، وحلَّت به الهزيمة، وحاول داهر الخروج من الماء، حينها صوَّب إليه أحد الرماة المسلمين المهرة سهماً فأصابه، ولكنه تحامل على نفسه وتمكن من الظهور من الماء، فتقدَّم منه عمرو بن خالد الكلابي، فعلاه بسيفه وضرب به رأسه فشقَّه نصفين حتى الرقبة وقال:
الخيل تشهد يوم داهر والقنا
أني فرجت الجمع غيرُ مَعرد
فتركته تحت العجاج مجندلاً



ومحمد بن القاسم بن محمد
حتى علوت عظيمهم بمهند
متعفر الخدين غير موسّد


حمد محمد بن القاسم الله حينما رأى رأس داهر، وشكر الله الذي أعلى كلمة المسلمين، وأعزّ دينه بنصره لجند الإسلام، وأعطى الأمان للصنَّاع والتجار، وأعادهم إلى مناطق سكنهم.
أرسل ابن القاسم رسالة إلى الحجاج فيها تفاصيل الفتح والنصر المبين ومصرع داهر وضبط البلاد، والأمان الذي أُعطي للسكّان، وإعادتهم مطمئنين إلى مساكنهم وقراهم، وحينما قرأها الحجاج وعلم مضمونها قال: "إن من واجبنا أن نكتب كل يوم رسالة إلى محمد بن القاسم؛ ليبقى قويّ العزيمة، ويسير على ذلك المنوال نفسه".
وأمر الحجاج وقد ملأ قلبه السرور فنودي للاجتماع في المسجد، وحينما توافد الناس ملبِّين النداء، وازدحم المسجد بهم صعد الحجاج المنبر، فحمد الله وأثنى عليه لنصره عباده وجنده، وصلَّى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: هنيئاً لأهل الشام والعرب والمسلمين في فتح السند، ثم قرأ رسالة الفتح التي أرسلها ابن القاسم.
وبهذا الفتح المبارك تسلّم محمد بن القاسم كل بلاد الهند والسند حتى حدود الصين، وبعدها وصل بجيشه إلى حدود كشمير، ودانت له البلاد من البحر حتى حدود كشمير.

وعظمت فتوح ابن القاسم، فراجع الحجاج حساب نفقاته على هذه الحملة، فكانت ستين ألف ألف درهم، فحمل إليه محمد ابن القاسم ضعف هذا المبلغ، فقال الحجاج: "شفينا غيظنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر".
لقد أنجز بن القاسم هذا الفتح كله في خمس سنوات، ما بين سنة تسع وثمانين وأربع وتسعين للهجرة، وما أن أتم ابن القاسم فتحه العظيم لكل تلك البلاد، وإذا بالخبر يصل إليه بوفاة الحجاج.
توفي الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 95هـ أيام الوليد بن عبد الملك الذي أقرّ ولاة الحجاج على ما كانوا عليه من الإمارة والفتح، ولكن بعد هذه الفتوح العظيمة التي نشرت ظل الإسلام على جميع بلاد السند مات الوليد سنة 96هـ.
وولي سليمان بن عبد الملك الخلافة من بعده، وكان على غير وفاق مع الحجاج، فقام بتتبع أصحاب الحجاج يسومهم سوء العذاب، فاستعمل صالح بن عبد الرحمن على خَراج العراق، وولّى يزيد بن أبي كبشة السكسكي السند، وأمره بحمل محمد بن القاسم مقيداً مع معاوية بن المهلب، وهذا ما كان، فأخذ يزيدُ ابنَ القاسم وألبسه المسوح وقيَّده وحبسه، فقال ابن القاسم متمثلاً:
أضاعوني وأيَّ فتىً أَضاعوا



ليومِ كَريهةٍ وَسدادِ ثغر


فبكى أهل السند على ابن القاسم الذي أُرسل مقيداً إلى العراق، وذنبه أنه معيّن من قبل الحجاج، فعذبه صالح بن عبد الرحمن، فمات بن القاسم في العذاب، وهكذا انتهت حياة هذا القائد الفتى الشاب إرضاء لأهواء سليمان بن عبد الملك؛ كي تقرَّ نفسُه بالانتقام، وتناسى ما فعله ابن القاسم من جليل الأعمال مع السلوك الرائع في مجتمع السند.
وكان محمد بن القاسم يهتف في أعماق سجنه وفي ظلماته ويقول:
أتنسى بنو مروان سمعي وطاعتي
فتحت لهم ما بين سابور بالقنا
فتحت لهم ما بين جرجان بالقنا
وما وطئت خيل السكاسك عسكري



وأني على ما فاتني لصبور
إلى الهند منهم زاحف ومغير
إلى الصين ألقى مرة وأغير
ولا كان من "عك" عليّ أمير


وكان بوسع ابن القاسم أن يعتذر عن عدم تلبية دعوة الخليفة، بل ويرفض المسير إليه متمرِّداً مستقلاً بما فتح من بلدان، وما استولى عليه من أراض، وهو الذي استطاع أن يُخْضِعَ السند لراية الخلافة في مدة يسيرة، صار من بعدها يتمتع بمحبة الأهلين وولائهم له هناك، ولكنّه آثر ألاّ يشق عصا الطاعة على خليفة المسلمين، على الرَّغم من توجُّسه الشرَّ منه هذا ويكفي محمد بن القاسم فخراً، أن التاريخ سجَّل له مع جسارته وشجاعته، أنه كان يشكِّل محكمةً لردِّ المظالم بعد فتح كل مدينة، وأنه تكرَّر في سجل فتوحه إعطاؤه الأمان للصُّنَّاع والزُّراع والتُّجَّار قبل الفتح وبعده مع تعويض مناسب للمتضرِّرين من الحرب، ويكفيه أنه آثر الموت معذباً في سجن مدينة واسط؛ كي لا يشق عصا الطاعة.
ولقد حفظ التاريخ لابن القاسم موقفه النبيل هذا مع فتحه الخالد لحوض السند، وحفظ لسليمان بن عبد الملك إرضاءه لأهوائه كي تقرَّ نفسه بالانتقام من خيرة قادة الفتح الإسلامي.
لقد بكى أهل السند محمداً؛ لأنه كان يساويهم بنفسه ولا يتميز عليهم بشيء؛ ولأنه نشر الإسلام في ربوعهم، فأرسل دعاته شرقاً وغرباً يجوبون البلاد التي فتحها، وكان أكثر مَن هداهم الله إلى الإسلام مِن أهل السند على يديه.
وبكاه أهل السند من غير المسلمين، لحسن معاملته لهم، وتأمينهم على أموالهم وأنفسهم، وإطلاق حرية العبادة لهم، ولحسن سياسته للبلاد المفتوحة، وتدبير أمورها وتأليف قلوب أهلها.
لقد مات محمد بن القاسم بالتعذيب، أو قتل بعد تعذيبه، دون أن يشفع لهذا القائد الشاب بلاؤه الرائع في توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ولا مهارته الفذة في القيادة والإدارة، ولا انتصاراته الباهرة في السند، ولكن آثاره الخالدة لا تموت أبداً، وأعماله المجيدة باقية بقاء الدهر، ولم يختره الله إلى جواره إلا بعد أن أبقى اسمه على كل لسان، وفي كل قلب، رمزاً للجهاد الصادق، والتضحية الفذة، والصبر الجميل.
أما الذين عذّبوه فقد ماتوا وهم أحياء، ولا نزال حتى اليوم نذكر محمد بن القاسم بالفخر والاعتزاز، ونذكر الذين عذّبوه بالخزي والاشمئزاز.
لقد عذب أولئك النفر أنفسهم حين عذبوه، وقتلوا أنفسهم حين قتلوه، وقد غيّبوا بظلمهم الأسود جسده، ولكنهم طهّروا روحه ورفعوها إلى السماء على حين أظهروا أجسادهم لمدة قصيرة، وغيبوا أرواحهم في الظلمات.
رحم الله محمد بن القاسم وأجزل له ثواب جهاده، وغفر لسليمان وسامحه على فعلته!.
وأخيراً:
فإن ضعف أمة من الأمم لا يفسح المجال لغيرها من الأمم أن تنتصر، فلا بد أن تتوفر شروط معينة في الأمة لتحرز النصر.

لقد صادف المسلمون في بلاد السند حضارة من أعرق الحضارات، ودولاً قائمة ذات تقاليد عسكرية عريقة، وتفوقاً في تعداد النفوس تفوقاً كاسحاً.
وفي السند بالذات كان الملك "داهر" من أقوى ملوك البراهمة وهو الذي أنقذ السند من الآريين بعد أن سيطروا عليه قروناً طويلة، وهو الذي وجده المسلمون على هذا الإقليم أيام الفتح، فليس من السهل الانتصار عليه وهو الملك القائد المنقذ، ومع ذلك قتله المجاهدون المسلمون وقطعوا رأسه كما وعد بذلك ابن القاسم.
ولو أحصيت عدد الذين تولّوا ثغر بلاد الهند على عهد بني أمية لوجدتهم خمسة عشر والياً، مات منهم خارج الهند سبعة، وقتل منهم أو مات في الهند ثمانية، أي أن معدّل الخسائر في الولاة وهم قادة الفتح ستون بالمائة، وهذا معدل رهيب، يدل دلالة واضحة أن الفتح الإسلامي في تلك البلاد لم يكن نزهة من النـزهات الترفيهية، بل كان جهاداً رهيباً أساسه الجماجم والأرواح. لقد بذل المجاهدون تضحيات جسام يصعب التعبير عنه أو تصويره في بعض الأحيان.
إن المتجول في المناطق التي فتحها محمد بن القاسم، يجد في هذه الأيام التي تقطع بها تلك المسافات الشاسعة بوسائل النقل السريعة ومنها الطائرات صعوبات كبيرة في تنقله، لطول المسافات وسعتها، ولا يكاد يصدّق أن المجاهدين المسلمين قطعوا تلك المسافات مشياً على الأقدام، أو ركوباً على الإبل والخيل والدواب، مما يزيد في إعجابه الشديد بجهاد وجهود أسلافنا التي بذلوها في الفتح؛ لتكون كلمة الله هي العليا.
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراَ...
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الفتوحات


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
53 فكرة تزيد من محبة الزوج لزوجته مزون الطيب أخبار منوعة 0 01-02-2012 08:15 PM


الساعة الآن 09:00 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22