صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > المكتبة العامة

المكتبة العامة كتب ومراجع وبحوث ود اسات في مختلف العلوم والمعارف

مخالفة الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم

- مظاهرها ،و آثارها ،و أسبابها – - قراءة نقدية تكشف مخالفات هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن و ما ترتب عنها من آثار وخيمة-

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16-11-2013 ~ 05:35 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي مخالفة الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


- مظاهرها ،و آثارها ،و أسبابها –
- قراءة نقدية تكشف مخالفات هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن و ما ترتب عنها من آثار وخيمة-


الأستاذ الدكتور
خالد كبير علال
- دار المحتسب- الجزائر –
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ،و الصلاة و السلام على النبي الكريم محمد بن عبد الله ،و على آله و صحبه ،و من سار على نهجه إلى يوم الدين ، و بعد :
أفردتُ هذا الكتاب لموضوع مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم ، في مقابل أخذهم بطبيعيات اليونان . و قد عنونته ب : مخالفة الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم . قصد الكشف عن تفاصيل تلك المخالفات ، و ما ترتب عنها من آثار ،و معرفة الأسباب التي جعلتهم يرفضون طبيعيات القرآن ، و يتبنون طبيعيات اليونان .

و قصد الكشف أيضا عما قام به كثير من الباحثين المعاصرين من عمليات التحريف و التضليل و التدليس ، في غلوهم و مدحهم لهؤلاء الفلاسفة من جهة ؛ و تضخيم صوابهم القليل ،و إغفال أخطائهم و انحرافاتهم الكثيرة بالتستر و التهوين ،و التبرير و الاعتذار من جهة أخرى . باستخدام منهج الانتقاء و الإغفال ، و الغلو في المدح و التبجيل ،و النفخ و التجعيد لصوابهم القليل ،و الضرب صفحا عن أخطائهم و انحرافاتهم الكثيرة و الجسيمة .

و فيما يخص المنهج الذي سأتبعه في بحثي هذا ، فهو منهج تفرضه طبيعة البحث ؛ فبما أنه موضوع يتعلق بمخالفة الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن ،و أخذهم بطبيعيات اليونان ، فلا شك أن المنهج المُتبع سيكون منهجا نقديا تحليليا ، تمحيصا مُقارنا . و سأحتكم في ممارسة ذلك إلى الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح . و هذه المرجعية الثلاثية نص عليها الشرع ،و يقول بها العقل ، و هي مأخوذة من عدة آيات قرآنية ، منها قوله سبحانه : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }الحج8- .

و أما المصادر و المراجع التي اعتمدتُ عليها في كتابي هذا ، فهي كثيرة و متنوعة ، منها مصادر أساسية تتمثل في مصنفات الفلاسفة المسلمين الذين درسنا مواقفهم من طبيعيات القرآن الكريم ، و سنوردها كاملة في قائمة المصادر و المراجع بعد خاتمة الكتاب . منها كتب أبي نصر الفارابي ، ككتاب آراء أهل المدينة الفاضلة . و منها مصنفات ابن سينا ، ككتاب الشفاء ، و عيون الحكمة . و منها مؤلفات ابن رشد ، ككتاب الآثار العلوية ،و تلخيص الآثار العلوية ، و شرح السماء و العالم.

و منها مراجع متخصصة في فلسفة هؤلاء خاصة ، و في الفلسفة خلال العصر الإسلامي عامة . و قد اعتمدت عليها كمراجع مساعدة في أغلب الأحيان ، لكنني اعتمدت عليها كمراجع أساسية عندما لم أتمكن من الحصول على المصادر الأساسية .

و يُضاف إلى تلك المصادر و المراجع طائفة أخرى من المصنفات القديمة و الحديثة ، تطلب البحث الرجوع إليها ، للاستعانة بها أثناء الردود و المناقشات .

و أُشير هنا إلى أننا – في بحثنا هذا- لا نتطرق إلى مواقف كل الفلاسفة المسلمين ،و إنما سنركز في بحثنا هذا على مواقف هؤلاء حسب توفر المادة المتعلقة بالموضوع . و هم : يعقوب الكندي ،و أبو بكر الرازي ، و أبو نصر الفارابي ، و أبو علي بن سينا ، و ابن الهيثم ، و أبو الريحان البيروني ، و أبو بكر بن باجة ، و أبو الوليد بن رشد الحفيد.

و أخيرا أسأل الله سبحانه و تعالى التوفيق و السداد ،و الإخلاص في القول و العمل ، و هو الموفق لما يُحبه و يرضاه ، و على الله قصد السبيل .
أ ، د : خالد كبير علال
شوال 1432ه/ سبتمبر2011م – الجزائر-





الفصل الأول
نماذج من مخالفات الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم
أولا : قول الفلاسفة المسلمين بأزلية الكون و أبديته
ثانيا : موقف هؤلاء الفلاسفة من طبيعة العناصر المكونة للعالم
ثالثا : قول هؤلاء الفلاسفة بوجود عقول أزلية تحرك الأفلاك
رابعا: مخالفات تتعلق بحرارة الشمس و الكواكب
خامسا: قول هؤلاء الفلاسفة بأزلية أنواع الكائنات و حدوث أفرادها
سادسا: مخالفات تتعلق بظواهر أرضية
سابعا : خلود النفس




نماذج من مخالفات الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم
خالف الفلاسفة المسلمون طبيعيات القرآن الكريم مخالفات كثيرة و صريحة من جهة ؛ و انتصروا فيها لطبيعيات اليونان على حساب طبيعيات القرآن من جهة ثانية . و المباحث الآتية تُوضح ذلك و تُبينه بجلاء .

أولا : قول الفلاسفة المسلمين بأزلية الكون و أبديته:
يتضمن هذا المبحث خمسة نماذج من أقوال و مواقف للفلاسفة المسلمين خالفوا بها طبيعيات القرآن الكريم ،و تتعلق بالكون من جهة أزليته و أبديته، و حركته العلوية و الأرضية ، و طريقة ظهوره .

النموذج الأول يتعلق بقول هؤلاء بأزلية العالم و الحركة ، أولهم أبو نصر الفارابي ( ت 339 هجرية ) تابع أرسطو( ق: 4 ق م ) في قوله بأن (( الزمان يتعلق بالحركة، و أنه لا يتصور إلا معها )) . و (( حدد الزمان على أنه مقدار للحركة المستديرة من جهة المتقدم و المتأخر)) . و قرر أن (( هذه الحركة غير محدثة حدوثا زمانيا أيضا، إذ ليس قبلها سوى ذات المبدع قبلية بالذات لا بالزمان. و أن الزمان ليس له في نفسه أمل متقدم عليه أو شيء أول إلا ذات البارئ المبدع، و ذلك لا يكون للحركة ابتداء زماني إلا على جهة الإبداع ، ... فالزمان إذن كما يقرر الفارابي لا متناهي نظرا لتعلقه بالحركة التي لا ابتداء لها و لا نهاية "و لا يجوز أن يكون للحركة ابتداء زماني و لا آخر زماني فإذن يجب أن يوجد متحركا على هذا اللون و محركا لذلك ))[1].

و قد صنف الفارابي كتابا نص فيه على ((أن حركة الفلك سرمدية ))[2] و قال أيضا : (( و لا يجوز أن يكون للحركة ابتداء زماني ،و لا آخر زماني . فإذاً يجب أن يُوجد مُتحركا على هذا اللون ، و مُحركا لذلك . و إن كان المحرك أيضا مُتحركا احتاج إلى محرك ، إذ لا ينفك المتحرك من المحرك ، و لا يتحرك شيء من ذاته . فإذا يجب أن لا يكون بلا نهاية ، بل ينتهي إلى مُحرك لا يكون متحركا، و إلا أدى إلى وجود مُتحركين و محركين إلى ما لا نهاية و هذا مُحال ))[3].

و الثاني أبو علي بن سينا (ت 428 هجرية ) نص على أزلية العالم عندما قال بأزلية الحركة و الزمان . فذكر في الفصل الحادي عشر من المقالة الثالثة من السماع الطبيعي من كتاب الطبيعيات أنه : (( ليس للحركة والزمان شيء يتقدم عليهما إلا ذات البارئ تعالى وانه لا أول لهما من ذاتهما )) . و (( فلذلك لا يكون للحركة ابتداء زماني إلا على جهة الإبداع، ولا شيء يتقدم عليها إلا ذات المبدع ))[4] .

و الثالث أبو بكر بن باجة ( ت 533 هجرية ) قال: (( فتكونالعقولالإلهيةمعالدهرلامعالزمان،والأجرامالسماويةمعالزمانلافيزمان. وكذلكتقوم الأجراملأنهاالمحدثةللزمان،ومافيالكونوالفسادهوبحسبالزمانلأنهفيالزمانوالزمانمحيطلهبه، فيهأولوآخر))[5] .
و آخرهم- الرابع- أبو الوليد ابن رشد الحفيد (ت 595 هجرية ) ألف رسالة انتصر فيها لموقف شيخه أرسطو سماها : ((مقالة في فسخ شبهة من اعترض على الحكيم وبرهانه في وجود المادة الأولى، وتبيين أن برهان أرسطو طاليس هو الحق المبين ))[6] . و العالم عنده : ((أزلي ليس فيه قوة على الفساد و ذلك لأزلية الحركة الموجودة لهذا الجرم المستدير، و أنها واحدة بالعدد و الحركة الواحدة إنما توجد لموضوع واحد فهو إذن أزلي ، كما أن طبيعة هذا الجرم أنه غير مكون و لا فاسد لأنه لا ضد له،كما أن أسطقساته لا يمكن فيها أن تفسد بكليتها لأزلية المادة الأولى، و أنها لا يمكن أن تخلو من صوره... و إذا كان الأمر كذلك لم يمكن فسادها جميعا و لا يمكن فساد أسطقس واحد منها بأسره و ذلك لأن بقاءها إنما هو بالتعادل الذي بينها من جهة ما هي متضادة ))[7] . و قال أيضا : (( و قد بقي علينا من مطالب هذه المقالة أن نبين أن العالم بأسره أزلي ،و أنه مع ذلك ليس فيه قوة على الفساد ... لزم ضرورة أن يكون العالم بأسره أزليا ))[8] . و ساير أرسطو في قوله بأزلية السماء ، و أنها لا تقبل التغير ،و لا تقع تحت الفساد و الفناء[9] . و نص على أن حركات الأجرام أزلية ، لأن المحركين لها أزليين ،و هذا يُوجب أيضا أن تكون عملية الكون و الفساد في الأرض أزلية هي أيضا[10] .

و أقول: أولا إن هؤلاء خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم مُخالفة صريحة ،و هي مخالفة تتعلق بركن من أركان الإيمان ،و أصل من أصول دين الإسلام المعروفة منه بالضرورة . فقولهم بأزلية العالم و أبديته هو تعطيل للإسلام و هدم له ،و أقوالهم تلك هي أقوال خطيرة جدا ،و لا يصح أن تصدر أبدا عن مسلم صادق يعي ما يقول . فماذا يبقى من الإسلام إذا قلنا : إن الكون لا بداية له و لا نهاية ؟؟؟!!! . و لهذا فمن أساسيات طبيعيات القرآن الكريم ، أن العالم بأسره- مادة و مكانا ، زمانا و حركة- مخلوق لله تعالى ، له بداية و ستكون له نهاية . و الآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا في كتاب الله تعالى . فمن ذلك قوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم }-فصلت: 9- 12- ، و {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54- .

و من الأحاديث النبوية الدالة على خلق العالم قول النبي–عليه الصلاة و السلام- : (( كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ))[11] . و قوله- صلى الله عليه و سلم- : ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ... )) [12] .

و أُشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن هؤلاء القائلين بأزلية العالم قد خالفوا طبيعيات القرآن الكريم من جهتين ، هما : الخلق ، و الحركة . فالقرآن أكد على أن الله خلق العالم بعد أن لم يكن ، ثم أن هذا الخلق أوجد المخلوق بمادته و مكانه ، و زمانه و حركته . لكن هؤلاء ينطلقون من الحركة الأزلية المزعومة . و هذا يعني أن العالم كمادة جامدة كان موجودا ، ثم حدثت له الحركة ، فمن أين لهم هذه المزاعم و الأوهام و الأباطيل ؟! . و هذا مخالف للشرع و للعلم أيضا ، فقد أصبح من علميا أن الكون له بداية و ستكون له نهاية أيضا[13] .

و ثانيا إنه واضح من كلام هؤلاء أنهم يفكرون برغباتهم و ظنونهم و خلفياتهم المذهبية الأرسطية ،و لا يُفكرون بالوحي الصحيح،و لا بالعقل الصريح ، ولا بالعلم الصحيح . و إنما هم في ذلك على مذهب شيخهم أرسطو في قوله بأزلية العالم و أبديته[14] . فجعلوا الشرع وراء ظهورهم ،و عطلوا عقولهم انتصارا و تعصبا لمذهب أرسطو و أصحابه . حتى أن الجرأة الانهزامية السلبية بلغت بهؤلاء عامة و ابن رشد خاصة إلى التصريح بمخالفة الشرع ، و تحدي مشاعر المسلمين بكلام صريح في القول بأزلية العالم لا يحتمل التأويل . و ابن رشد لم يُصرّح بذلك في كتبه العامة التي وجهها للمسلمين ،و إنما صرّح به في كتبه الفلسفية التي أشرنا إلى بعضها سابقا . فَعجباً من هذا الرجل !! ، فكيف يكون قول القرآن في خلق العالم و نهايته ليس واضحا مبينا ،و يكون قول شيخه أرسطو هو الحق المبين ؟؟ !! ، فبئس قولك هذا يا ابن رشد الحفيد ، الذي انتصرت فيه لأرسطو شيخك الدهري المُشرك ،و جعلت ما قرره القرآن وراء ظهرك !!! .

و ثالثا إن إشارة بعضهم[15] إلى أزلية الحركة و الزمان ،و تفريقه بين الزمان و الحركة و المكان ، هو أمر لا يصح . لأن الحقيقة التي غابت عنه أو تناساها أنه انطلق من رغباته و ظنونه و خلفياته المذهبية و لم ينطلق من العلم ، فلو نظر إلى الموضوع نظرة صحيحة ما قال ذلك الكلام الذي وافق فيه أرسطو و أصحابه . لأنه لا يصح أبدا التفريق بين الحركة و الزمان و المكان و المادة . لأن الحقيقة – بدليل الشرع و العقل و العلم- هي أن الخلق أوجد المادة و المكان ، و الحركة و الزمان ، فالكل مخلوق لله تعالى و لا يصح التفريق بين هذه المخلوقات . و عليه فلا حاجة إلى تلك الأوهام و الشقشقات ، و التلاعبات و التدليسات ، و الأهواء و الظنون .

و هذا الرجل-أي الفارابي- و أمثاله قرر أمورا من عنده و فرضها على نفسه و غيره. فلماذا لا يجوز أن تكون للحركة بداية و نهاية ؟؟! ، لا يُوجد مانع عقلي يمنع ذلك ؟؟!! . و لماذا الانطلاق من الحركة و الزمان و عدم الانطلاق من الخلق من عدم ؟؟!! . و هذا هو الصحيح ، فقد ثبت شرعا و علما ،و عقلا أن الكون كله له بداية . فهذا الرجل و أمثاله اخترعوا مقدمات ظنية وهمية بنوا عليها استنتاجاتهم و اختيارتهم الباطلة ، و خالفوا بها ما قرره الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

و أما قولهم بأن العالم كان في حاجة إلى من يُحركه ، لأنه لا يتحرك شيء من ذاته . فالأمر ليس كذلك ، لأن العالم لا يحتاج إلى من يُحركه ، و إنما يحتاج إلى من يخلقه ،و لا يصح الانطلاق من الحركة و الاعتماد عليها ، لأنه يُمكن طرح فرض مُغاير نتخلص به من الحركة كلية . و مفاده : لماذا لا تكون الحركة أزلية كما كانت المادة و أشكالها أزلية كما يزعم هؤلاء ؟؟!! . و من ثم لا يحتاج العالم إلى من يحركه ، فكما لم يحتج إلى وجوده بكائناته المادية فليكن أيضا ليس في حاجة إلى من يُحركه !! .

و من ذلك أيضا إذا كان المحرك الذي لا يتحرك هو الذي حرك العالم فهذا يعني أنه تحرك من ذاته . و إذا لم يكن هو الذي حرّكه من ذاته و إنما كان معشوقا للكون فتحرك العاشق في عشقه للمحرك الذي لا يتحرك-كما يزعم أرسطو و أصحابه- ، يعني أن الكون كان مُتحركا من جهتين : الأولى بما أنه هو العاشق ، فهذا يعني أنه كان حيا و الحي مُتحرك من ذاته بالضرورة ،و من ثم لا يحتاج إلى أن يُحركه المحرك الذي لا يتحرك ،و لا من غيره . و الجهة الثانية انه تحرك في عشقه للمحرك الذي لا يتحرك ،و هذا يعني أيضا أنه تحرك من ذاته من دون مشاركة و لا قصد من الطرف الآخر .

و أما قوله : ((و إلا أدى إلى وجود مُتحركين و محركين إلى ما لا نهاية و هذا محال )) . فهذا لا يلزم و فيه تحكم ، لأنه كما أن هؤلاء قالوا بأزلية الكون و الحركة ، فليكن هذا التأثير المزعوم أزليا و انتهى الأمر ، فيكون كل ذلك أزليا . و تبطل حكاية هؤلاء من أساسها ، و نتخلص من أوهامها و خرافاتها و تحكماتها !!! . و نحن هنا سايرنا هؤلاء في زعمهم هذا لنبين تهافته و بطلانه و تناقضه منطقيا و مخالفته للشرع ؛ و إلا فالأمر واضح-شرعا و علما- ، من أن العالم بكل ما فيه مخلوق له بداية و نهاية و من ثم تسقط مزاعمهم كلها .

و رابعا إنه لا يُوجد أي دليل عقلي صحيح يُثبت أزلية الحركة و الزمان ، و إنما خلاف ذلك هو الذي يقوله العقل الصريح على أساس النظرة البديهية إلى الإنسان و الكائنات الأخرى . بدليل الشواهد الآتية: الأول مفاده هو أن الواقع يشهد بأن الكائنات الحية التي نراها في الواقع منها الإنسان لها بداية و نهاية . و بما أن كل تلك الكائنات هي أفراد و ليست كائنات كلية ، فلا يُوجد كائن اسمه الإنسانية ،و لا الزواحفية ، و لا المجتراتية ،و لا ... إلخ ، فإن كل تلك الكائنات لها بداية و نهاية ،و من ثم فهي ليست أزلية في وجودها و لا في حركتها و لا في زمانها .

و الشاهد الثاني مفاده أنه بما أن الكائنات الحية التي نراها ليست أزلية ،و أنها تُشبه المخلوقات الأخرى غير الحية كالشمس ،و القمر ، و الأرض ، و التراب ، و الصخور ، تُشبهها مثلا في أنها من مادة ، و أنها مُسخرة لا تستطيع التصرف في نفسها ،و أنها في خدمة غيرها كما هو حال تلك الكائنات ، فهذا يعني أنها هي نفسها لها بداية و ستكون لها نهاية على أساس المبدأ العقلي الذي يجمع بين المتشابهين ،و يُفرق بين المختلفين . و هذا صحيح مع أننا لا نستطيع رؤية بداية و نهاية تلك الكائنات الشمس و الأرض ، لأنه لا يُمكننا رؤية ذلك لأن وجودها يجب أن يسبق وجود الكائنات الحية التي لا وجود لها قبل وجود الشمس و الأرض مثلا .

و الشاهد الأخير- الثالث- مفاده هو أن المتدبر في هذا الكون يجده قائما على الافتقار ، و الأسبقية ، و المرحلية ، و التدرج ، و هذا يعني أن مخلوقات هذا العالم ليست أزلية ،و إنما هي لها بدايات مختلفة و متنوعة ،و لو كانت أزلية ابتداء فليست في حاجة إلى غيرها ،و لا إلى المرحلية في الظهور. و تفصيل ذلك هو أنه لا يُمكن أن توجد البحار إلا إذا وُجدت الأرض . و لا يُمكن أن يُوجد النبات إلا إذا وجدت الأرض ،و الشمس ،و الهواء ،و الماء . و لا يُمكن أن توجد الكائنات الحية إلا إذا وجدت الأرض ،و الشمس ، و الهواء ،و الماء . و لا يُمكن أن يظهر الإنسان على وجه الأرض إلا إذا تهيأت له الظروف الطبيعية لحياته . فلما تهيأت خلقه الله تعالى ، كما في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30 - ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }الإنسان1- .

علماً بأن كلام ابن سينا- و أصحابه- فيه تناقض ، و هو كلام بلا علم ،و فيه نقض لمبدأ الألوهية ، أقامه على أساس حكاية دوام فاعلية الفعل الإلهي الذي قال به أرسطو و تابعه عليه أتباعه[16] . و تفصيل ذلك هو أن القول بأزلية الحركة و الزمان هو نقض لقوله بأن الله مُتقدم عليهما . فإما أنهما أزليان ، فهما ليسا في حاجة إلى خالق ،و لا معنى و لا فائدة من القول بوجوده من جهة ، وأن القول بوجوده أمر زائد ،و ليس ضروريا منطقا و لا فائدة من جهة أخرى . و إما أنهما غير أزليين بحكم أن الله متقدم عليهما فهما إذا ليسا أزليين . فهذا الموقف يتضمن تناقضا صارخا لا يُقبل عقلا ،و إنما هو من تحكمات هؤلاء و رغباتهم.

و أشير هنا أيضا إلى أن قول ابن سينا و غيره بدوام فاعلية الفعل الإلهي المتعلق بهذا العالم مُخالف للقرآن صراحة ،و هو قول على الله بلا علم . و ُمسايرة لما قاله أرسطو . و تفصيل ذلك أولا هو أن القرآن الكريم نص صراحة على طلاقة الفعل الإلهي و أنه سبحانه فعال لما يُريد ،و أنه يفعل ما يشاء و يختار ، كما في قوله سبحانه : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }القصص68 -،و { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107- ،و {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82- .

و ثانيا إن قول ابن سينا و أخوانه من الأرسطيين مُخالف لفلسفة شيخهم أرسطو التي يتبعونها . لأن فلسفتة تنكر فعل الإله و إرادته أصلا[17] ، فكيف يكون له فعل دائم ، أوجد أزلية الحركة و الزمان ؟؟!! .

و ثالثا إن القول بدوام الفاعلية هو مجرد احتمال و ظن و ليس دليلا ، و هو يندرج ضمن احتمالات أخري ممكنة تتعلق بالفعل الإلهي . فالله تعالى بما أنه فعال لما يُريد ،و يفعل ما يشاء و يختار ، إما أنه يفعل بلا توقف بمحض إرادته ،و إما أنه يفعل و يتوقف بإرادته ،و إما أنه لا يفعل أصلا بمحض إرادته أيضا . فمن الناحية الشرعية فالله تعالى أخبرنا أنه سبحانه فعال لما يريد و أنه خلق الكون بعد أن لم يكن . و هذا يعني أنه سبحانه اختار الاحتمال الثاني . و به يسقط الاحتمال الأول الذي قال به ابن سينا و أصحابه ،و يسقط الثالث أيضا .

و أما من الناحية العلمية ، فبما أن العلم قال بخلق العالم ,،و أنه وُجد بعد أن لم يكن فهذا يعني- قطعا- أن خالقه فعال لما يريد ، و اختار فعله في وقت محدد بعدما كان متوقفا عن خلقه قبل الوقت المحدد له . و بهذا يسقط الاحتمال الثاني ،و الأول الذي قال به أبن سينا و أصحابه .


و قد حاول ابن سينا رفع التناقض الذي وقع فيه ، لكنه فشل في ذلك ،و لم يذكر دليلا صحيحا ،و إنما ذكر سفسطة و تلاعبا بالكلام ، محصلته انه لا يصح ، و مخالف للشرع الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، فقال : (( و ليس لقائل أن يقول: إنكم قد جعلتم الحركة واجبة الوجود، و واجب الوجود لا يحتاج إلى موجد، فالجواب أن واجب الوجود على نحوين:احدهما واجب الوجود مطلقا ولذاته والآخر واجب الوجود بشرط وبغيره، مثل كون الزوايا مساوية لقائمتين، وذلك ليس واجبا مطلقا، بل واجب إذا كان الشكل مثلثا وكذلك وجوب أن النهار مع طلوع الشمس فهو واجب بعلة، وليس وجوب النهار ولا طلوع الشمس واجبا بذاته.
ونحن أوجبنا وجوب قدم الحركة أن فرض للحركة ابتداء لا على نحو الإبداء وذلك محال.
فهذا شرط واجب ولم نوجب لها وجوب الوجود لذاته، وليس إذا جعل للشيء وجوب وجود مرسلا أو عند شرط ، فقد جعل له فائدة لذاته.
فقولنا: إنه يجب أن تكون حركة، لا يمنع أن يكون ذلك الوجود عن مبدأ، ولا قولنا: إنه يجب أن تكون الحركة دائمة الفيضان عن محرك، لو قلنا، يوجب أن تكون تلك الحركة واجبة الوجود لذاتها، بل إذا قلنا : لا يمكن أن لا تكون حركة ، تكون كأنا نقول:لا يمكن أن لا يكون محرك حرك.
فأنا إذا قلنا:لا يمكن أن تكون حركة تحدث في الزمان إلا وقد كان في القبل لذلك الزمان حركة ، نكون كأنا قلنا:لا يمكن أن يكون محرك حرك في الزمان إلا ويكون قد حرك قبله محرك هو أو غيره ))[18] .


و أقول : الرجل على طريقة أرسطو و أصحابه المشائين في الاعتماد على رغباتهم و التأكيد على صحتها دون دليل صحيح . و نحن لا نتوسع في الرد عليه هنا لأنه ثبت بطلان زعمه هذا شرعا و علما ، على أساس أنهما أكدا على عدم أزلية الكون ، و بذلك يسقط كل كلام ابن سينا و سفسطته . و الأمثلة التي ذكرها لا تصلح دليلا على زعمه ، لأن واجب الوجود المتعلق بالمخلوقات هو مخلوق ، و لا يصح مقارنتها بالخالق . و الحركة و الزمان، فهما إما أزليان لا يحتاجان إلى خالق ،و إما هما يحتاجان إليه فهما غير أزليتين . فهذا هو ما يقوله العقل الصريح ،و غيره فهو زعم باطل ،و تلاعب بالألفاظ .

و خامسا إنه كما بينا مخالفة هؤلاء لطبيعيات القرآن الكريم ، و لِما يقوله العقل الصريح ، فإنهم أيضا قد خالفوا ما يقوله العلم الصحيح في قولهم بأزلية الكون . فقد نص العلم الحديث على أن العالم ليس أزليا ، و أن له بداية قُدرت ب: 13 مليار سنة ، و أنه ستكون له نهاية حتمية[19] . و أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة أن العالم يسير إلى الانهيار و الفناء ، و أن الشمس – مثلا- في طريقها إلى الزوال بسبب ما تفقده من طاقتها تدريجيا . و أن النجوم في حالة ميلاد و فناء من القديم إلى يومنا هذا ، و لها آجال مُحددة تُولد فيها و تموت كبني آدم . و تبين من الحسابات العلمية أن الأرض عند تكوّنها كان يومها يُساوي 4 ساعات ، و هو اليوم يُساوي 24 ساعة ، بسبب تباطؤ سرعتها المحورية[20] .
و بذلك يتبين- مما ذكرناه- أن هؤلاء الفلاسفة تكلموا بلا علم فيما زعموه ، فأهملوا ما نص عليه القرآن الكريم و أغفلوه من جهة ، و قرروا خلافه فيما يتعلق بخلق الكون و الحركة، و أفعال الله تعالى من جهة ثانية . و تعلقوا بالظنون و الأوهام ، و انتصروا لمذهبيتهم الأرسطية الدهرية من جهة ثالثة .

و النموذج الثاني يتعلق بدلالة نوع حركة الأجرام السماوية و الأرضية على أزلية العالم ،و يتضمن طائفة من أقوال هؤلاء الفلاسفة . أولهم أبو نصر الفارابي ذكر أن الأجرام السماوية المكونة من مادة مُخالفة لمادة العناصر الأربعة حركتها مستديرة . و أما الكائنات الفاسدة المكونة من العناصر الأربعة فحركاتها مستقيمة[21] .
و الثاني أبو على بن سينا أخذ برأي أرسطو بأن الحركة المستديرة قديمة ،و أنها أشرف أنواع الحركات و أكملها ، فقال : (( فَبيّنٌ من هذا أن أقدم الحركات ما كان على الاستدارة ، فإنها أقدم الحركات المكانية والوضعية، وهذا الصنف من الحركات أقدم من سائر الحركات الأخرى بالشرف أيضا، لأنه لا يوجد إلا بعد استكمال الجوهر جوهرا بالفعل، ولا يخرجه عن جوهريته بوجه من الوجوه، ولا يزيل أمرا له في ذاته، بل يزيل نسبة له إلى أمر من خارج ، ويخص المستديرة بأنها تامة لا تقبل الزيادة، ولا يجب فيها الاشتداد والضعف، كما يجب في الطبيعة أن تشتد أخيرا في السرعة، و القسرية أن تشتد، كما يقال وسطا، ولا شك أنها تضعف أخيرا.
والجرم الذي له الحركة المستديرة بالطبع هو أقدم الأجرام، و به تتحدد جهات الحركات الطبيعية للأجرام الأخرى )) . و أكد على أن الجسم المتحرك بالاستدارة غير قابل للخرق[22] . و نص أيضا على أنه قد تبين (( أنه و لا جسم واحد يجتمع فيه مبدأ حركتي الاستقامة والاستدارة ))[23] .



و الثالث أبو الريحان البيروني ( ت 440 هجرية ) ذكر أن العالم العلوي يتحرك حركة مستديرة ،و العالم السفلي يتحرك حركة مستقيمة[24] . لكنه لم يقل بقول الآخرين بأزلية العالم العلوي المُتحرك حركة مُستديرة ، و لا بحدوث الكائنات الأرضية المتحركة حركة مُستقيمة حسب زعمهم.

و الرابع ابن رشد الحفيد قال : إن الجرم السماوي بما أنه مستدير الحركة فهو أزلي من طبيعة خامسة مُخالف لطبيعة الأجسام الأرضية المتحركة حركة مستقيمة . و هذا الجرم المستدير الحركة ليس له مُضاد، و لا هو بكائن و لا فاسد[25] .

و ردا عليهم أقول: سبق أن بينا بطلان قولهم بأزلية العالم : مادة و حركة ، لذا لا نكرر ردنا عليهم هنا .و الذي يهمنا في هذا الموضع هو نوع الحركة و علاقتها بالأزلية أو بالحدوث .
أولا إن قولهم بأن العالم العلوي أزلي لأن حركته مُستديرة ، و أن العالم الأرضي كائناته حادثة لأنه مُستقيم الحركة ، هو قول مُخالف للقرآن الكريم مُخالفة صريحة . فهم قد خالفوه مخالفة واضحة لا لُبس فيها ،و أغفلوا ما ذكره إغفالا تاما . فلوا رجعوا إليه و أخذوا بما قرره ، لانتفعوا به ،و لما خالفوه ،و لما أخطأوا فيما قالوا به . لأن من طبيعيات القرآن الأساسية أن العالم العلوي- و معه الأرض- مخلوق و يتحرك حركة مستديرة . و هذا يعني أن الاستدارة ليست دليلا أبدا على أزلية العالم كما زعم هؤلاء . و الشاهد على ذلك قوله سبحانه : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- ، و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5- .

و تفصيل ذلك هو أن من طبيعيات القرآن الأساسية أن الكون بحركاته و كائناته كله مخلوق لله تعالى . فهو حادث و ليس أزليا ،و لا توجد فيه حركات و لا جواهر قديمة كما يزعم أرسطو و أتباعه كابن سينا و أمثاله[26] . و الشاهد على ذلك قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم }-فصلت: 9- 12- .

و أشار أيضا-أي القرآن الكريم- إلى أنواع الحركة من دون تخصيص للحركة المستديرة بأنها قديمة ،و لا أنها أقدم من غيرها . بل نص على أنها مخلوقة كباقي كل الحركات بحكم أن العالم كله مخلوق . و وصف بها الشمس و القمر و الأرض مع أن الشمس أسبق في الوجود منهما . بل و أشار إلى أن الشمس تجمع بين الحركتين المستديرة و المستقيمة ،و مع ذلك فهي مخلوقة و ليس أقدم و لا أسبق الأجرام الكونية تكوناً . و الدليل على ذلك قوله سبحانه : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 -، و{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5-، و{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }الذاريات47-، و {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }يس38- .

و ليس صحيحا أن العالم الأرضي – ما تحت فلك القمر – حركاته مستقيمة فقط ، و إنما حركاته مُتعددة ، منها المستقيمة ، و المستديرة و المتعرجة ، و اللولبية ، و هذه الحركات بعضها من صنع الإنسان ، و بعضها طبيعية من خلق الله تعالى . منها حركة الأعاصير ، و التيارات البحرية و الهوائية ،و حركات الرياح و أنواعها ، و منها حركة الليل و النهار حول الأرض فهي كروية بشهادة القرآن الكريم في قوله سبحانه : لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 -، و{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5- . فالليل يسبح في فلك هو فلك الأرض ،و عليها يستدير .

و أشار أيضا إلى أن العالم بمختلف حركاته و كائناته تعرض للتكوّن و الخرق و الثلم عند تكوّنه ،و أنه سيتعرض أيضا للدمار و الفناء عند نهايته يوم يقوم القيامة . و لن تنجو من ذلك الأجرام السماوية ،و لا حركاتها المستديرة . قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }التكوير2-، و {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ }التكوير11 {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ }المرسلات8- .

و بما أن هؤلاء الفلاسفة قد خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بالحركة: منهجا و نتيجة ، فهم أيضا قد خالفوا العقل و العلم معا في موقفهم من الحركة في الطبيعة. لأن مخالفة الوحي الصحيح تستلزم مخالفة العقل و العلم.
فأما عقلا فهم لم يقدموا دليلا عقليا صحيحا يُثبت موقفهم ،و إنما اعتمدوا على ظنونهم و رغباتهم ، أكثر مما اعتمدوا على الدليل الصحيح . فلا يصح الاستدلال بالشرف ،و لا بحكاية الجوهر ، لأنه لا دخل هنا لحكاية الشرف ،و لا الفضل من جهة . كما أن القول بالجواهر العلوية هو من أوهام و خرافات أرسطو و أصحابه من جهة أخرى . فهم يزعمون أن الجواهر هي كائنات إلهية أزلية شريفة تختلف عن كائنات عالم الكون و الفساد[27] . و هذه كلها مزاعم باطلة ، لأن الكون كله مخلوق من مادة واحدة بحركاته و كائناته ،و هذا أمر ثابت شرعا و علما لا يحتاج على توثيق .
و أي شرف يُوجد في الحركة المستديرة لا يُوجد في أنواع الحركات ألأخرى ؟! ، و ما هو الدليل على وجدوه ؟ . لا جواب صحيح ، فهؤلاء على طريقة شيخهم أرسطو و أصحابه ينطلقون من ظنونهم و رغباتهم ، ثم يبنون عليهما أفكارههم. و هذا ليس من منطق البحث و الاستدلال العلمي في شيء،و إنما هو من باب المزاعم ،و المزاعم ليست دليلا ، و لا يعجز عنها أحد . و من أين لهم أن الحركة المستديرة تامة لا تقبل الزيادة ،و لا تخضع للشدة و الضعف خلاف أنواع الحركات الأخرى ؟!

إنهم لم يقدموا دليلا صحيحا على زعمهم . و الواقع يشهد على أن الحركة المستديرة لا تختلف عن الحركات الأخرى في تمامها و شدتها و ضعفها . فكل أنواع الحركات ، هي تامة في مسارها الذي تتحرك فيه : ذهابا و إيابا . و الحركة المستقيمة يمكن تحويلها إلى حركة مستديرة ،و تحويل المستديرة إلى مستقيمة . و كل نوع من الحركات له بداية و نهاية ،و حركاتها مُتباينة شدة و قوة ،و يُمكن جعلها مُتساوية . فهذا هو الذي يُثبته الواقع و يقول به العقل . فمن أين لهؤلاء بزعمهم الذي خصّوا به الحركة المستديرة ؟!. و من أين لهم أن الأجرام المستديرة الحركة لا تنخرق ؟! ، فهل جرّبوها ؟! . فلماذا تركوا ما يُقرره الشرع و الواقع و العقل ، و تكلموا بلا علم ،و قرروا أمرا وهمياً ؟! .

و أما من الناحية العلمية فبما أنه ثبُت علميا أن الكون مخلوق ، فهذا يعني بالضرورة أن كل أنواع الحركات و الكائنات مخلوقة حادثة و ليست أزلية . و لا تختلف الحركة المستديرة عن الحركات الأخرى في طبيعتها و مميزاتها . و من الثابت علميا أن الشمس مثلا تتحرك في مدارها كما تتحرك عناصرها الأخرى التابعة لها ، كالأرض ، و المريخ مثلا . فهذه العناصر تدور حول نفسها و حول الشمس حركة دائرية مع أن الشمس هي أسبق ظهورا منها و تابعة لها أيضا . و قد ثبُت علميا أن حركات الشمس و مجموعتها ،و حركات الأجرام الأخرى- مع أنها حركات مستديرة- إلا أنها ذات حركات مختلفة جدا : شدة و ضعفا. و من الثابت أيضا أن الكتلة الأولى المكونة للعالم انفصلت منها كل الأجرام ،و ما تزال عمليات الانفصال و الانحراق مُستمرة بين الأجرام السماوية إلى يومنا هذا [28] .

و أما قول ابن سينا : (( إنه و لا جسم واحد يجتمع فيه مبدأ حركتي الاستقامة والاستدارة )) . فقوله هذا لا يصح من ناحية الإمكان العقلي ، فيمكن أن نتصور جسما يتحرك حركتين: مستقيمة و مُستديرة في وقت واحد . كأن نتصور جسما يتحرك حول نفسه دائريا و أثناء حركته المستديرة يتحرك في مسار مستقيم ذهابا و إيابا .

و لو أنه لم يُهمل طبيعيات القرآن و تدبر فيها جيدا لاستنتج خلاف ما ذهب إليه و تبين له إمكانية وجود ما نفاه ، بل خطأ ما قرره . لأن في القرآن ما يُشير إلى أن من الأجرام السماوية ما جمع بين الحركتين : المستديرة و المستقيمة أو شبهها . و هذا يتعلق بحركة الشمس ، فالله تعالى كما وصفها بأنها تتحرك دائريا في فلك خاص بها حركة سباحة ، فإنه أيضا وصفها بأنها تتحرك حركة أخرى هي حركة جريان في مسار لها ، يبدو أنه مسار مستقيم . قال سبحانه و تعالى- في وصفه لحركتي الشمس- : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40-، و {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }يس38- .
و أما من الناحية العلمية فقد وجد العلماء(( أن للشمس حركتين داخل المجرة: الأولى حركة دورانية حول مركز المجرة، والثانية حركة اهتزازية للأعلى وللأسفل، ولذلك فإن الشمس تبدو وكأنها تصعد وتنزل وتتقدم للأمام! وتتم الشمس دورة كاملة حول مركز المجرة خلال 250 مليون سنة! ويستغرق صعود الشمس وهبوطها بحدود 60 مليون سنة، وهكذا تصعد وتهبط وتتقدم مثل إنسان يجري )) . و هذه صورة توضيحية لحركتي الشمس [29] .
[IMG]file:///C:\Users\Dell\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image002.jpg[/IMG]
و منها يتضح أن (( الوصف القرآني دقيق جداً من الناحية العلمية للشمس في حركتها، فهي تجري جرياناً باتجاه نقطة محددة سماها القرآن (المستقر) وجاء العلماء في القرن الحادي والعشرين ليطلقوا التسمية ذاتها، فهل هنالك أبلغ من هذه المعجزة القرآنية؟ . و من ذلك أيضا أن (( الله تعالى لم يقل: والشمس تسير، أو تتحرك، أو تمشي، بل قال: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي)، وهذا يدل على وجود سرعة كبيرة للشمس، ووجود حركة اهتزازية وليست مستقيمة أو دائرية، ولذلك فإن كلمة (تجري) هي الأدق لوصف الحركة الفعلية للشمس ))[30] .

و النموذج الثالث يتعلق بحركة الأرض ، و يتضمن خمسة مواقف لهؤلاء الفلاسفة . أولهم يعقوب الكندي ذكر أن الأرض كرة ثابتة ،و هي مركز العالم[31] . و ثانيهم أبو نصر الفارابي قال بأن الأرض ثابتة و هي مركز العالم[32] .

و الثالث أبو علي بن سينا أشار إلى أن الأرض مُستقرة في الوسط ، ذكر ذلك في تلخيصه لكتاب المجسطي لبطليموس[33] . و أشار أيضا إلى أنه وُجد من قال من أهل العلم بأن الأرض تتحرك حركة مُستديرة ، فخطّأهم ، و نص على أن الصحيح هو أن الأرض ساكنة[34] .

و الرابع أبو الريحان البيروني كان متذبذبا في موضوع حركة الأرض ، فمرة نص صراحة في كتابه القانون المسعودي على ثباتها و انتصر لرأي بطليموس ؛ و مرة أخرى أظهر ميلا إلى القول بحركتها ، و في هذا يقول الباحث محمد عبد الحميد الحمد: (((( إن أبا الريحان رغم عبقريته الفذة، و تجاوزه لبعض معطيات عصره الفلكية إلا أنه ظل مخلصا لتصورات بطليموس، مما جعله يبدو مترددا في القول بدوران الأرض، و لم يكن جازما كما قال المؤرخ الفرنسي كلود كاهن" وضع أبو الريحان البيروني، موسوعة فلكية رائعة في مدينة غزنه، قال فيها بإمكان دوران الأرض حول الشمس إمكانا منطقيا، لأنه يساعد على تعليل بعض الحركات الظاهرة للكواكب ))[35] . لكن الصحيح أن البيروني قال بأن الأرض تقع في مركز السماء ، و أنها ثابتة في مركزها ،و خطّأ من قال بحركتها . و قد احتج بشواهد ظنية موافقا لما قاله بطليموس[36] .

و آخرهم – الرابع- أبو الوليد بن رشد الحفيد قال بأن الأرض ثابتة و هي مركز العالم ، مُسايرة لأرسطو ، و أنكر على من قال بحركتها[37].

و أقول : يلاحظ على هؤلاء جميعا أنهم قرروا ذلك بعيدا أن القرآن الكريم ،و لم يُشيروا إليه أصلا . فلو عادوا إليه و تدبروه جيدا و أخذوا به لانتفعوا به ،و لما خالفوه ،و لما أخطئوا في قولهم بسكون الأرض ،و نفيهم لحركتها المستديرة التي قال بها بعض أهل العلم . و قد جاء العلم الحديث و أثبت صحة قولهم . فقد قام الدليل العلمي الصحيح على حركة الأرض ، عندما تمكن الإنسان من ارتياد الفضاء و تصوير الأرض و هي سابحة في الفضاء .

لكن الذي نركز عليه هنا هو أن هؤلاء أهملوا طبيعيات القرآن المتعلقة بشكل الأرض و حركتها ، فلا هم أشاروا إليها ،و لا هم اجتهدوا في فهمها للاستفادة منها . فأهملوها ذكرا و استفادة ، و خالفوها تقريرا و نتيجة . فلو تدبروها جيدا لتبين لهم خطأ موقفهم الذي قالوا به . لأن في القرآن الكريم إشارات تدل على أن الأرض تتحرك حركة مستديرة ، أشارت إليها بطريقة خفية حكيمة مُتضمنة في الآيات يستنتجها من تدبر فيها بطريقة صحيحة ، علما بأنه لا توجد في القرآن الكريم آية نصت على ثبات الأرض .

و من تلك الآيات- الدالة على حركة الأرض- قوله سبحانه : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 -، و {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }النمل88 -، و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5- .

واضح من الآية الأولى أنها أشارت إلى حركة الأرض و كرويتها عندما ألحقت الليل و النهار بصيغة الجمع بأنهما في فلك يسبحان كالشمس و القمر ،و هذا لا يتحقق إلا بكونهما يسبحان مع الأرض في فلكها المتحرك المستدير .

و كذلك الآية الثانية فهي تتضمن حركة الأرض ، لأن الجبال لا يُمكنها أن تتحرك لوحدها حركة مستقلة عن الأرض من جهة ، و هي جزء من الأرض من جهة أخرى ، فتحركها يستلزم تحرك الأرض بالضرورة . كما أن الآية لم تجعل حركة الجبال حركة ذاتية صادرة منها ،و إنما شبهت حركتها بحركة السحاب الذي لا يتحرك من ذاته ،و إنما الرياح هي التي تحركها ، فكذلك حركة الجبال ليس من ذاتها و إنما هي أصلها الأرض ككل ، التي عندما تتحرك ، فستتحرك معها الجبال .

و أشير هنا إلى رأي للباحثة زينب عفيفي مفاده أنه لم يكن في إمكان الفلاسفة العرب سبق عصرهم بقرون عديدة في القول بحركة الأرض، لأن هذا العمل تطلب مجهودات كبيرة استغرقت كثيرا من الوقت لكي تم إثباته في العصر الحديث[38] .

و أقول : هذا تبرير لا يكفي و لا يعفيهم من المسؤولية ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إنه وُجد من أهل العلم من قال بحركة الأرض مقابل رأيهم على ما حكاه ابن سينا سابقا . و الثاني مفاده أن قولهم بثبات الأرض لا يتناقض بالقول بحركتها . لأن قولهم بثباتها هو قول مأخوذ من حركة الشمس الظاهرية ، و وجودنا على الأرض . و هذا ليس دليلا قطعيا على ثبات الأرض ، فكان يُمكنهم أن يتوصلوا إلى القول بحركتها لو اتبعوا منهجا صحيحا ،و لم يأخذوا برأي أرسطو و أصحابه . و الشاهد الثالث مفاده أنهم لو رجعوا إلى القرآن الكريم و تدبروه جيدا لوجدوا فيه ما يدلهم على حركتها . و هذا سبق أن بيناه فلا نعيده هنا . فهم يتحملون مسؤولية خطأهم ، بسب سلبيتهم و جمودهم ، و إهمالهم و إغفالهم لما ذكره القرآن الكريم و مخالفتهم له .

و النموذج الرابع يتعلق طريقة ظهور العالم : بين الحتمية و الاختيار . و مفاده أن الفلاسفة المشاؤون المسلمون اتفقوا على أن العالم ظهر عن الإله- العقل الأول عندهم ،وهو المحرك الذي لا يتحرك- لزوما أزليا من دون فعل مقصود منه . فكان الإله علة غائية للعالم و لم يكن له علة خالقة ، ولا فاعلة ،و لا موجهة ،و لا مهيمنة[39] . ثم منهم من قال صدر عنه بالحركة ، و منهم من قال صدر عنه بالفيض. فابن رشد من القائلين بالحركة ، زعم أن المبدأ الأول-الله- صدر عنه محرك فلك المكوكب ، و عنه صدرت صورة الفلك المكوكب ، ثم توالى الصدور عن المبادئ الأخرى- و هي العقول-[40] .

و الذين قالوا منهم بالفيض اتبعوا في ذلك الفيلسوف أفلوطين (ت 270 م ) قالوا بنظرية الفيض منهم الفارابي . فهم يقولون : إن الكون أزلي ،و أنه صدر عن الإله –السبب الأول- بفعل الفيض ، بمعنى أنه فاض عنه[41] . و زعم الفارابي أن وجود الأول-أي الإله- (( لزم ضرورة أن يُوجد عنه سائر الموجودات )) ، و قد صدرت عنه بالفيض[42] . و تفصيل ذلك عند الفارابي أن العقول أحد عشرة عقلا ، أولها العقل الأول ، الذي هو الإله . و منه صدرت العقول العشرة الباقية ، و آخرها العقل الفعال الذي يُدبر عالم ما تحت فلك القمر ، و هي عقول و معقولات ، بمعنى أن لكل عقل جرمه ،و كل من العقول و معقولاتها تمثل الموجودات السماوية التي سماها الفارابي الموجودات الثواني بالنسبة للعقل الأول ، الذي هو الإله . حدثت كالآتي حسب زعمه : تلك العقول صدرت عن بعضها بالترتيب بالزوم ابتداءً من الأول و انتهاء بالأخير . و كل عقل لا يعقل إلا ذاته و العقل الأول ،و ليس في مادة و لا هو مُتجسم . و تلك العقول هي جواهر مُفارقة. و كل عقل له معقوله الذي يصدر عنه أيضا باللزوم ، و هو جرم مادي ، أولها السماء الأولى ، ثم الكواكب الثابتة ، ثم كوكب زحل، و ... ، و آخرها كرة القمر[43] .

و منهم أيضا الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن باجة( ت 533 هجرية ) عبّر عن حكاية الفيض بقوله : عن الأول-أي الله- ((فاضتجميعالموجودات ))[44] .

و أقول: فواضح من أقوالهم أن الكون أزلي صدر أزلا و لزوما عن الإله- العقل الأول- ابتداءً من دون قصد منه ، ثم تولت العقول الأخرى عملية إصدار الكائنات الأخرى لزوما اضطراريا . و كلامهم هذا مخالف للشرع ،و العلم ، و هو رجم بالغيب ،و قول بلا علم ،و تعلّق بالظنون و الأوهام ،و و الأهواء و الخرافات من جهة . و يتضمن بداخله تناقضا صارخا من جهة أخرى.

لأنه أولا إن هؤلاء تعمدوا إهمال و إغفال و مخالفة طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بنشأة الكون . فالله تعالى أخبرنا أنه سبحانه حكيم عزيز ، و عليم قدير ، و فعال لما يريد ،و يفعل ما يشاء و يختار، قال سبحانه : { وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران62- ٢٠،و {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107-،و {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }القصص68- . و أنه سبحانه خالق كل شيء ،{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الأنعام102- . و أنه خلق الكون من عدم عن قصد و أمر، و فعل و لغاية {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-،و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11- ، و {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ }الأنبياء16- . و أنه سبحانه إنما أمره {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82- .

فتلك الآيات الكريمات- و غيرها كثير- أدلة قاطعة دامغة على بطلان مزاعم هؤلاء الضالون ، إنهم تركوها وراء ظهورهم ،و تعلقوا بأهواء و خرافات و ضلالات أرسطو و أفلوطين المتعلقة بظهور العالم !!! . . فلماذا هذا الإهمال و الإغفال و المخالفة لما ذكره القرآن الكريم ؟؟!! . و لماذا الكلام بلا علم ، و الخوض فيما لا يُدركه العقل ؟؟!! ، و لماذا هذا الإصرار على مخالفة طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق الكون ؟؟!! .

ثم أنهم بعد ذلك جعلوا مع الله تعالى آلهة أخرى شاركته في عملية ظهور العالم . فزعموا أن العقول المفارقة هي التي تولت خلق مختلف مظاهر العالم بعد صدور العقل الثاني . و هذه مخالفة أخرى صريحة لطبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم ،و هي- من جهة أخرى- إنكار صريح لما نص عليه القرآن الكريم من أن الله تعالى هو الإله الذي لا شريك له في ذاته ، و لا في أفعاله ، و لا في خلقه . قال سبحانه : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }غافر62-، و{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ }الدخان8-، و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }فاطر3- ،و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4}- الإخلاص:1-4- .

فهؤلاء خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم من جهتين : الأولى إنهم نفوا أن يكون الله تعالى خلق الكون من عدم ، و أنه خلقه عن قصد و إرادة و اختيار . و الثانية جعلوا مع الله شركاء أزليين صدر عنهم العالم . و هذا ضلال كبير ، و انحراف خطير عن الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح !!! .

[1] زينب عفيفي: الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 158 .

[2] جمال الدين القفطي:أخبار العلماء بأخيار الحكماء ، ص: 119 .

[3] الفارابي: رسائل الفارابي ، 137 .

[4] ابن سينا : الطبيعيات ، من كتاب الشفاء ، ص: 94 ، 124 و ما بعدها .

[5] ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص: 49 .

[6] ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، ج 1، ص: 352 .

[7] زينب عفيفي: العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية ، ص: 80 .

[8] ابن رشد : رسالة السماء و العالم ، و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 47 .

[9] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، حققه أسعد جمعة ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، 2002 ، ص: 4 و ما بعدها .

[10] ابن رشد : جوامع الكون و الفساد ، حققه أبو الوفاء التفتزاني ، و يعيد زايد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991 ص:32.

[11] البخاري : الجامع الصحيح ، رقم الحديث ، 6982 ، ج 6 ص: 2699 .

[12] نفس المصدر ، ج 4 ص: 107 .

[13] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط 3 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980 ، ص: 71، و ما بعدها ، 84 و ما بعدها .

[14] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ،و هو منشور إلكترونيا ، أنظر مثلا : موقع صيد الفوائد .

[15] المقصود هنا الفارابي ، لكن الآخرين كلهم يقولون برأيه ، لأنه من أساسيات مذهب أرسطو .

[16] للتوسع في موضوع دوام فاعلية الفعل الإلهي أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[17] للتوسع في ذلك أنظر الفصل الأول من كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[18] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 127 .

[19] دافيد برجاميني : الكون ، دار الترجمة ، بيروت ، ص: 98 . و منصور حسب النبي : الزمان بين العلم و القرآن ، ص: 108، 122 .

[20] دافيد برجاميني : الكون ، ص: 50، 91، 98 . و آن تري هوايت : النجوم ، ترجمة إسماعيل حقي ، ط7 ، دار المعارف ، مصر ، 1992 ، ص: 20 ، 21 . و روبرت أغروس و جورج ستانسيو : العلم في منظوره الجديد ، المجلس الوطني للثقافة ، الكويت ، ص: 9 ، 60 ، 61 . و منصور حسب النبي : نفس المرجع ، ص: 89 ، 100 .

[21] زينب عفيفي : الفلسفة و الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 202 .

[22] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 159 ، 184 .

[23] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 194 .

[24] البيروني: القانون المسعودي ، ط1 ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، الهند ، 1954 ، ج 1 ص: 21 ، 22 .

[25] ابن رشد : رسالة السماء و العالم و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ط 1 ، دار الفكر اللبناني، بيروت ، 1994 ، ص: 26 و ما بعدها ، 32 ، و ما بعدها .

[26] أشار ابن سينا على ذلك في كلامه السابق . و أما عن موقف أرسطو من ذلك فقد فصلتُ فيه في كتابنا: جنايات أرسطو في حق العقل و العلم . و الكتاب منشور إلكترونيا .

[27] ابن رشد : جوامع الكون و الفساد ، حققه أبو الوفاء التفتازاني ، و سعيد زايد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991 ص:32. و تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ، ص: 352 . و أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ، الفصل الأول :

[28] أنظر : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الشمس ، الحركة ، الفلك ، الأرض ، النيازك ، و الشهب ، الانفجار العظيم . و عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط 3 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980 ، ص: 25 ، 27 ، 71 و ما بعدها ، 84 و ما بعدها .

[29] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية .

[30] نفسه .

[31] علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، 1992 ، ص: 227 . و محمد عبد الرحمن مرحبا : الكندي - فلسفته مُنتخبات – عويدات ، بيروت ، باريس ، 1985 ص: 71 .

[32] زينب عفيفي: الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 233 .

[33] ابن سينل : علم الهيئة ، المقالة الأولى ، ص: 4 .

[34] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 194 ، 195 .

[35] محمد عبد الحميد الحمد : حياة البيروني ، دار المدى ، دمشق ، 2000 ، ص: 94 .

[36] البيروني: القانون المسعودي ، ج 1 ص: 37 ، 52 ، 53 .

[37] ابن رشد : تلخيص السماء و العالم ، حققه جمال الدين العلوي ، ص: 268 ، 269 و ما بعدها . و زينب عفيفي : العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1993 ، ص: 70 .

[38] زينب عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 234 .

[39] قولهم هذا بنوه على حكاية العاشق و المعشوق التي قال بها أرسطو . و للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ،و الكتاب منشور إلكترونيا .

[40] ابن رشد : ما بعد الطبيعة ، حققه رفيق العجم و زميله ، ص: 164 .

[41] زينب عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، ص: 205 .

[42] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، حققه ألبير نادر ، دار المشرق ، بيروت ، 200 ، ص: 55 ، 61 .

[43] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 .

[44] ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص: 47 .
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
قديم 16-11-2013 ~ 05:41 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


و ثالثا إن في كلام هؤلاء تناقضا واضحا ، فهم يجمعون بين القول بأزلية العالم و بين صدوره بالحركة أو بالفيض !!!. و هذا لا يصح عقلا ، فإما أن الكون أزلي و لا صدور له بالحركة و لا بالفيض ، و إما أن له صدورا و ظهورا ،و هذا يعني أن له بداية و ليس أزليا . و لا يصح التعلق بحكاية دوام أفعال الله تعالى ، كما زعم الفارابي الذي زعم أن وجود الكون ضروري بسبب وجود الإله . لأن القول بها يحتاج إلى دليل إثباتها ،و هذا لا يُمكن الظفر به أبدا إلا عن طريق الوحي الإلهي الصحيح ، و هو موجود بيننا و قد نص على خلاف ما زعمه هؤلاء . بمعنى أنه ذكر لنا أن الله تعالى خلق العالم بعد أن لم يكن فهو مخلوق و ليس أزليا .

و من الناحية العقلية لا يصح افتراض ما زعمه هؤلاء من أن الكون صدر عن الإله بالضرورة ، لأن الإله فعال لما يريد ،و يفعل ما يشاء و يختار ،و لا يصح أن يُوجَب عليه أي شيء ، إلا إذا أوجبه هو على نفسه ، فيُخبرنا هو بذلك عن طريق وحيه ، أو نبيه ، أو بهما معا . و هذا ليس عند هؤلاء ،و قد اخبرنا الله تعالى بخلافه . و عليه فالله تعالى لا يصح أن يُفرض عليه أي شيء ، فهو سبحانه فعال لما يُريد ، يخلق و يتوقف ، أو لا يخلق كلية ، أو يخلق بلا توقف . و الصحيح أنه أختار أن يخلق و يتوقف ، ثم يخلق و يتوقف وفق حكمته و هذا ثابت بدليل الشرع و العلم .

و حتى إذا فرضنا جدلا صحة ذلك الزعم فإن الكون-مع ذلك- سيبقى مخلوقا بالضرورة . لأنه إما أن يكون أزليا كالإله و في هذه الحالة فهو أزلي ،و لا يحتاج إلى من يُظهره ،و لا يكون الإله هو الذي أظهره . و إما أنه ليس أزليا ، و هنا لابد له من موجد أوجده . و القول بأن الفعل الإلهي قديم ، هو رجم بالغيب و محاولة للهروب ، لأنه مهما تصورنا قِدمه فله بداية بالضرورة لأن الذات أسبق من الفعل .

و النموذج الأخير –الخامس- يتعلق بأبدية العالم و نهايته ، و مفاده أنه سبق أن أوردنا- في بداية المبحث- أقوال الفارابي ،و ابن سينا ،و ابن باجة ،و ابن رشد في قولهم بأزلية الكون ،و أنه لا يفسد و لا يفنى . و هذا يستلزم بالضرورة أنه ليست للكون نهاية أيضا . فالقول بأزلية العالم يستلزم أبديته و عدم فنائه[1] . فابن رشد مثلا ، وافق أرسطو في قوله بأن السماء لا مبدأ لها و لا منتهى في الدهر كله[2] . و قال : (( إنه قد تبين من الأقاويل السالفة كلها أن السماء كلها ليست بكائنة و لا فاسدة ،و لا يمكن أن تفسد كما قال قوم . لكنها دائمة لا مبدأ لها زمانيا و لا منتهى، بل هي علة الزمان و المحيطة به ))[3] .

و أقوال : ماذا أقول أمام هذه الضلالات و الانحرافات ، و المخالفات الشرعية الفادحة ؟؟!! . أليس قولهم بعدم نهاية العالم هو إنكار ليوم البعث و ما يترتب عنه من حساب ، و جزاء و عقاب ؟؟! ،و أليس موقفهم هذا هو إنكار لما هو معروف من الدين بالضرورة ؟؟!! . و هل من يُنكر ذلك يبقى له حض في الإسلام ؟! . و ماذا يبقى من الإسلام إذا أنكرنا ذلك ؟؟!! .

إنهم خالفوا القرآن الكريم مُخالفة صريحة لا تقبل التبرير و الاعتذار أبدا . إنهم خالفوه في أمر هو من أهم قطعيات طبيعيات القرآن الكريم التي أكدت صراحة على أن هذا العالم سينتهي ،و لا بد أن ينتهي . فأنكروا بموقفهم الدهري ما أكده القرآن الكريم ، و قال به العلم الحديث.

فأما النصوص القرآنية الدالة على نهاية العالم و المؤكدة عليه ، فهي كثيرة جدا لم تكن خافية على هؤلاء عندما أنكروا نهاية العالم . منها قوله سبحانه : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }- سورة التكوير: 1- 6. ،و(إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ }-الانفطار: 1-4-، و {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }الأنبياء104- .

و أما من الناحية العلمية فإن العلم الحديث فكما قال بأن الكون ليس أزليا ، وأن له بداية مُحددة في نشاته ؛ فإنه قال أيضا بأن هذا العالم سائر نحو الزوال ، و هو في تدهور مُستمر إلى أن يزول نهائيا . و للعلماء في كيفية حدوث ذلك توقعات و قراءات مُختلفة ، لكنها مُتفقة على أن هذا الكون سينتهي يوما ما[4] .

و يقول العلماء : (( إن جريان الشمس لن يستمر للأبد، بل هنالك أدلة قوية على وجود نهاية وأجل محدد تنتهي عنده حياة الشمس . والعجيب أن القرآن قد تحدث عن هذه الحقيقة العلمية قبل ذلك بقرون طويلة. يقول تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [لقمان: 29]. فقد وضع القرآن نهاية لجريان الشمس والقمر في قوله تعالى (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، أي إلى مدة محددة، وهذا ما يتحدث عنه علماء اليوم ))[5] .

و إنهاءً لما ذكرناه يتبين منه أن هؤلاء الفلاسفة قد خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم ، مخالفة صريحة لا لُبس فيها . ،و هذا موقف لا يصح شرعا و لا عقلا أن يصدر عن مسلم صادق الإيمان أبدا .. لأن الإسلام يفرض على كل مسلم الأخذ به من جهة ،و إن خالفه فهو قد انحرف عن الشرع ،و أخطأ بالضرورة في موقفه من جهة أخرى. و بما أنه فعل ذلك فهو قد أخطأ أيضا عقلا و علما . لأن من يُخالف الوحي الصحيح فهو بالضرورة يكون قد أخطأ و خالف العقل الصريح و العلم الصحيح معا .

ثانيا : موقف هؤلاء الفلاسفة من طبيعة العناصر المكونة للعالم:
اتفق معظم الفلاسفة المسلمين على القول بأن العناصر ألأساسية المُكونة للعالم هي عناصر ذات طبيعة خاصة لا تقبل الفساد و لا الفناء من جهة ،و فرّقوا بين العناصر الأربعة المكونة للكائنات الأرضية ،و العنصر الخامس المُكوّن للعالم السماوي من جهة أخرى . و فيما يأتي تفصيل أقوالهم ، ثم عرضها على ميزان الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

أولهم يعقوب الكندي ( ت ن : 260 للهجرة )) نص على أن طبيعة مادة الفلك مخالفة لطبيعة العناصر الأربعة، و إنما هو مكون من عنصر خامس . و قد صنف كتابا في ذلك ذكر فيه أن طبيعة الفلك مخالفة لطبائع العناصر وأنها طبيعة خامسة[6] .و لا يتصف بأية (( صفة من صفات العناصر الأربعة سواء في الكيفية و السرعة و الإبطاء ، و الخفة و الثقل ،و أنه ليس بخفيف و لا ثقيل ، و لا حار و لا بارد، و لا رطب و لا يابس ))[7].

و نص على أن الجرم الأقصى من العالم الموجود ما بين (( حضيض القمر إلى آخر نهاية جسم الفلك لا حار و لا بارد ،و لا رطب و لا يابس ... ))[8] .و أن العناصر الأربعة لا تقبل الفناء و التحول في عالم الكون و الفساد ، و الكائنات المُكونة منها هي التي تقبل التكون و الفساد . لكن عندما يحين وقت نهاية العالم سيفنيها الله تعالى . و أما العالم العلوي فلا يقبل الكون و الفساد مدة زمانه الذي قدّره الله له[9].

و الثاني أبو نصر الفارابي (ت 339 للهجرة ) ذكر أن الأجسام على نوعين : بسيطة و مركبة ، البسيطة كالسموات ، و الأرض، و الماء ، و النار ، و الهواء . و هي عناصر لا تقبل التحول و لا التغير ،و لا الكون و لا الفساد . و بالنسبة لعالم ما فوق القمر- عالم الأجرام السماوية – فهو مُكون من مادة الأثير –العنصر الخامس- و هو جسم لا ضد له ،و لا يقبل الفناء . و أما الأجسام المركبة ، فهي مُكونة من العناصر الأربعة الموجودة في عالم ما تحت فلك القمر- العالم الأرضي – كالمعادن ، و النباتات ،و الحيوانات،و هي تقبل التكوّن و الفساد[10] .

و ذكر أن مادة الأفلاك و الأجرام السماوية مخالفة لمادة العناصر الأربعة و الكائنات الأرضية[11] . و أن الأجرام العلوية بسيطة شريفة بعيدة عن الفساد ،و هي شريفة بعقولها غير المادية و بمعقولاتها المادية[12] . و ذكر أيضا أن العلماء و أصحاب المعرفة بالحقائق أجمعوا على أن (( الأجرام العلوية في ذواتها غير قابلة للتأثيرات ، و التكوينات ، و لا اختلاف في طباعها ))[13] .

و أشار إلى أن (( طبع الفلك طبع خامس ، لا حار و لا بارد ،و لا ثقيل و لا خفيف ، لا يخرقه شيء ،و ليس فيه مبدأ حركة مستقيمة ،و ليس لحركته ضد ))[14] . و نص على أن (( أقل ما يقع عليه التركيب و الانحلال شيئان ، لأن الشيء الواحد لا تركيب فيه و لا انحلال ))[15] .

و زعم أن الأجسام السماوية أفضل من الموجودات الأرضية ، لأن العلوية هي من الموجودات الإلهية ،و لا ضد لها ،و لا تقبل الكون و الفساد . و أفضل الموجودات الأرضية الإنسان ،و أخسها المادة الأولى المشتركة فيها . و أفضل السماوية : السماء الأولى ، ثم الثانية و أقلها فضلا كرة القمر[16] .

و الثالث هو أبو علي بن سينا ( ت 428 هجرية ) قال بأن العنصر المكون لعالم الفلك يختلف عن العنصر المكون للأجرام الكائنة الفاسدة. و نص على أن الكواكب الموجودة في الجسم السماوي هي (( لا محالة من جنس الجوهر الذي لا يتكون؛ بل من جنس الجوهر المبدع)) [17]. و أن (( البسائط هي الأجسام التي لا تنقسم إلى أجسام مختلفات الطبائع مثل السموات والأرض ، والماء والهواء والنار ))[18] . و أن الطبيعة السماوية مخالفة لطبائع مبادئ الحركات الأرضية . و أن الطبيعية الفلكية خارجة عن الطبائع العنصرية الموجودة في الأرض[19] .

و الرابع هو الحسن بن الهيثم (ت 430 هجرية ): إنه أثناء نقده لفلك بطليموس في كتابه الشكوك على بطليموس ، كان مما ذكره ابن الهيثم من كلام بطليموس قوله : (( فالقياس الطبيعي يُؤدينا إلى أن نقول : إن الأجسام الأثيرية لا تقبل الانفعال ،و لا تتغير )) . لكنه لم يُناقشه في هذه الموقف ،و ظهر منه ما يدل على موافقته له عندما قال: (( و يصح أن يكون موجودا في السماء ، و طبيعته طبيعة الأجرام السماوية )) [20] .

و الخامس هو أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة ( ت 533 هجرية ) ، كان يعتقد بوجود أجسام سرمدية ، و كائنات فاسدة مكوّنة من هيولى[21] . و هو هنا قد أهمل القرآن و أغفله و خالفه ، لكنه أكثر من الاستشهاد بأقوال أرسطو و الإشارة إلى كتبه[22] !! .
و آخرهم – السادس – أبو الوليد بن رشد الحفيد نص على أن المادة نوعان : مادة أزلية لا تفسد تتعلق بالأجسام العلوية ، و مادة قابلة للفساد تتعلق بعالم الكون و الفساد- الأرض- قال بهذا مسايرا لأرسطو ،و شارحا لكلامه و مُثبتا له . و نص أيضا على أن عملية الكون و الفساد في الأرض هي عملية أزلية[23] . و وافق رأي أرسطو في قوله بأن الجرم السماوي و مكوناته له طبيعة خاصة مخالفة لطبيعة الجرم الأرضي ، لذا فهو ليس ثقيلا و لا خفيفا ،و لا يحتاج إلى شيء يحمله[24] . و أكد على أن الجرم السماوي له طبيعة خامسة ،و أنه (( لا يلحقه الكون و الفساد ،و لا سائر اللاحقة من جهة الكون و الفساد ))[25] .
و أقول : أولا إن تلك الأقوال التي أكد هؤلاء الفلاسفة على صحتها هي أقوال مخالفة للقرآن الكريم مُخالفة صريحة ، و فيها تدليس و تلاعب بالألفاظ من جهة ، و هي باطلة جملة و تفصيلا من جهة أخرى. و مع أن حالها كذلك ، فهي أيضا أقوال خطيرة جدا ، تضمنت مخالفة ما قرره القرآن الكريم حول طبيعة الكواكب ، و ذكر ما يُخالفه صراحة عندما نصت على أزلية الكواكب و خصائصها الإلهية . و هذا كلام لا يصح أن يصدر من مسلم أبدا ، بل و لا يصح أن يصدر من إنسان عقلاني يحتكم في مواقفه إلى العقل الصريح و العلم الصحيح .
و قبل ذكر الرد القرآني و إهمال هؤلاء له و تقريرهم لما يُخالفه لابد من أن أذكر هنا معنى الجوهر عند أرسطو و أتباعه كابن سينا و ابن رشد و غيرهما من الفلاسفة المشائين ، ليتبين لنا معنى ذلك عندهم . فمن معانيه أنه يُطلق على الإله الأول ، فهو عندهم جوهر أزلي مفارق للمادة ، غير متحرك بالضرورة . و هو المبدأ الذي يتوقف عليه الكون ، و العقل الأول و المحرك الأول [26] . و منها أنه يُطلق أيضا على العقول المحركة للأجرام السماوية ، فهي جواهر و محركات ، و عقول أزلية مفارقة للمادة ،و ليست هيولانية . و قد وصف العقول بأنها آلهة ،وهي خارجة عن الزمان ،و لا يُؤثر فيها . و جعل عددها يُساوي عدد الحركات و الكواكب، آخرها العقل الفعال ، الذي يُحرك فلك القمر[27] . و هي محركات الأجرام السماوية و الطبيعية ، تحركها حركة أزلية دائمة[28].
و من معانيه أيضا أنه يُطلق على الأجرام السماوية و مكوناتها ، فقد كان أرسطو يُؤلّهها ، و يزعم أنها جواهر ،و موجودات إلهية . و قد أشاد أرسطو بأجداده اليونان الذين نسبوا الألوهية إلى الأجرام السماوية[29].

فواضح من ذلك أن معنى الجوهر الذي قصده هؤلاء بكلامهم السابق يصدق عليه المعنى الثالث الذي ذكرناه . و هو يتفق مع ما أوردناه عن طبيعة الأجرام السماوية و خصائصها عند أرسطو و هؤلاء الفلاسفة . فهي عندهم كواكب أزلية ذات طبيعة إلهية ، لها دور في تسيير العالم و إيجاد كائنات عالم الكون و الفساد . و هذا أشار إليه ابن سينا بقوله : (( لا محالة من جنس الجوهر الذي لا يتكون؛ بل من جنس الجوهر المبدع )) . فهو غير مخلوق ، و من الجواهر المُبدِعة المُكَوِنة . فابن سينا لم ينص هنا صراحة على أن الكواكب أزلية ذات طبيعة إلهية لكنه نص على ذلك عندما وصفها بأنها جواهر غير مُتكَونة ،و أنها من الجوهر المُبدع !!! . لكن الفارابي صرّح بذلك عندما قال : إن الأجسام العلوية هي من الموجودات الإلهية ،و لا ضد لها ،و لا تقبل الكون و الفساد .

و ثانيا إن طبيعيات القرآن الكريم- المتعلقة بمادة الكون- تشهد صراحة على بطلان مزاعم هؤلاء . فقد نصت على أن كل الأجسام السماوية و الأرضية لم تكن موجودة أصلا . فخلق الله تعالى أولا المادة الأولى ، و هي مادة واحدة ، ثم خلق منها العالم كله بما فيه السموات و الأرض ، و الماء و الهواء و النار من جهة . و أشار أيضا إلى أن كل الأجسام-العلوية و السفلية- قابلة للانقسام و التحول من دون استثناء من جهة ثانية،و أنها سائرة إلى الزوال لا محالة من جهة ثالثة . و الشاهد على ذلك قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }- سورة الأنبياء30- ،و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }-سورة فصلت11-، و { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }-سورة يونس61- ،و {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }الأنبياء104- .

فواضح من ذلك أن البسائط التي أشار إليها هؤلاء و زعموا أنها لا تقبل الانقسام ، و لا الفساد ، و الفناء لا وجود لها في القرآن الكريم ، و القول بها مُخالف له . و هي في الحقيقة لا تختلف في طبيعتها و مادتها عن الأرض و مكوناتها ، فكلها مخلوقة من عجينة واحدة ، و إن اختلفت أشكالها ،و تباينت في بعض عناصرها . فلماذا إذاً خالف هؤلاء ما نص عليه القرآن الكريم ؟! ، و لماذا هذا الإصرار على إهماله و إقصائه و مخالفته ؟؟ !! .

و أما من الناحية المنهجية فهم قد انحرفوا عن المنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال انحرافا كبيرا و فاحشا . لأنهم تكلموا في أمور لم يروها، و لا يُمكنهم رؤيتها ، و لا اعتمدوا على آثارها . فلم ينطلقوا من المعلوم لمحاولة الوصول إلى المجهول، و إنما انطلقوا من المجهول محاولة منهم لمعرفة المجهول . و هذا انحراف منهجي كبير في طريقة الاستدلال . فمن أين لهم بأن الأجرام السماوية لها طبيعة خاصة تختلف عن طبيعة العناصر المكونة للعالم الأرضي ؟! . واضح من أقوالهم السابقة أنهم جعلوا خلفياتهم المذهبية الأرسطية مُنطلقا لهم من جهة ، و جعلوا ظنونهم و رغباتهم و اجتهاداتهم مُقدمة لهم من جهة أخرى . . و هذا منهج استدلالي مرفوض ، و لا يصح عقلا ، و لا علما ،و لا شرعا.

فهؤلاء قرروا أمرا بلا دليل صحيح ، و لو أنهم ساروا في الأرض بحثا عن الأتربة و الصخور التي تسقط من السماء ، و فحصوها و قارنوها بالعناصر المكونة للأرض ، لتبين لهم أنهم كانوا مُخطئين في ما قالوه عن العناصر المكونة للعالم . لكنهم لم يفعلوا ذلك بسب غلبة النزعة النظرية التأملية عليهم على النزعة التجريبية العملية لديهم ، و هذا هو منهج شيخهم أرسطو كما هو معروف[30] . و هو منهج لا يقره الشرع ، و لا العقل ، و لا العلم . بل إن من طبيعيات القرآن الكريم أنه أمر بإتباع المنهج التجريبي في مجال الطبيعيات ، لكن هؤلاء أهملوه و خالفوه منهجا و معطيات . قال سبحانه : {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20- .

أما علميا فهؤلاء الفلاسفة كما خالفوا الشرع فيما قالوه فقد خالفوا العلم أيضا . فالعلم الحديث قرر ما ذكره القرآن الكريم من أن العالم كله مخلوق من مادة واحدة من جهة ،و أن عناصره مُتشابهة و يُمكن تحليلها و تفكيكها من جهة أخرى[31] . و مثال ذلك الماء ، فهو عنصر مركب و ليس بسيطا كما زعم هؤلاء ، فيتكون من عدة غازات أهمها : الأكسجين و الهيدروجين . و كذلك الهواء ، فهو ليس عنصرا بسيطا كما قال هؤلاء ؛ و إنما هو عنصر مكون من عناصر كثيرة من غازات و عوالق ، و يُمكن تفكيكه،و تحليل عناصره[32] .

و ثالثا إن قول الفارابي بأن الأجرام العلوية بسيطة شريفة بعيدة عن الفساد ،و هي شريفة بعقولها غير المادية و بمعقولاتها المادية[33]. فهو كلام بلا علم ، و رجم بالغيب ، و مخالف للشرع و العلم . لأنه من الثابت شرعا و علما أن الكون كله مخلوق من مادة واحدة ،و ستكون له نهاية . و لا فرق في هذا بين الأجرام السماوية و الكائنات الأرضية . و عليه فليست العلوية أشرف من السفلية ،و لا السفلية أشرف من العلوية . كما أنه لا يصح شرعا ، و لا عقلا ، و لا علما تقديس و تأليه العالم العلوي ، لأن الحقيقة هي أن العالم كله كون واحد من جهة ،و مُسخر لأهل الأرض عامة و الإنسان خاصة من جهة أخرى . لقوله سبحانه : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13-، و {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }لقمان20- . فالرجل خالف الشرع و العلم ،و تكلم بظنونه و رغباته و خلفيته المذهبية ، و لم يتكلم بالوحي الصحيح ،و لا بالعقل الصريح !!! .

و أما زعمه- أي الفارابي- بأن(( العلماء و أصحاب المعرفة بالحقائق أجمعوا على أن (( الأجرام العلوية في ذواتها غير قابلة للتأثيرات ، و التكوينات ، و لا اختلاف في طباعها ))[34] فهذا الإجماع المزعوم لم يحدث بين أهل العلم أبدا لا قبل الفارابي ، و لا في زمانه . لأنه لا شك أن علماء كثيرين من مختلف المذاهب قد قالوا بحدوث الكون و نهايته ،و أنه قابل للفساد . و يكفي أن نذكر منهم علماء الإسلام ، فهم كلهم يقولون بما قرره القرآن الكريم من أن الأجرام العلوية مخلوقة و قابلة للفساد و ستفسد قطعا . فلماذا أغفل الفارابي هذه الحقائق ؟؟!! .
و رابعا إن قولهم بأن الجرم السماوي ليس خفيفا و لا ثقيلا ، هو قول غير صحيح، و مخالف لللشرع و العلم معا . فلو تدبروا طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الكون و مادته لتبين لهم أنهم أخطأوا في موقفهم ،و أن السموات بأجرامها ثقيلة كالأرض . و الشاهد على ذلك ما يتبين من الآيتين الآتيتين : الأولى نصّت صراحة على أن مادة الأرض هي نفسها مادة السموات لأن أصلها واحد ، لقوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30- . و بما أن الأرض ثقيلة الوزن كما هو مُشاهد ، فهذا يعني أن الأجرام السماوية هي أيضا ثقيلة الوزن لأنها مخلوقة من نفس مادة الأرض .
و الثاني مفاده أنه لو تدبر هؤلاء في قوله تعالى : {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }الرعد 2-، لتبين لهم أن السماء ثقيلة و تحتاج إلى شيء يحملها هي و الأرض . لأن الآية نصت صراحة على أن الله تعالى رفع السموات بغير عمد نراها ، بصيغة الجمع : السموات و ليس السماء فقط ، ، فهذا يعني أن الكون بأسره مرفوع ، بما فيه الأرض . و بما أن الأرض محمولة و هي ثقيلة من دون شك ، فهذا يعني أن السماوات هي أيضا ثقيلة ،و إلا ما احتاجت إلى ما يحملها كالأرض . و بما أنها- السموات و الأرض- مرفوعة بعمد لا نراها ، فهذا يعني أنها كلها ثقيلة ، لأنها احتاجت إلى الرفع و العمد . فلو لم تكن الأجرام السماوية ثقيلة ما احتاجت إلى الرفع و العمد لرفعها .
و أما من الناحية العلمية فمن المعروف قديما و حديثا أن الرجوم التي تسقط من السماء ، هي مواد صلبة مختلفة الأحجام ، من بينها رجوم ثقيلة جدا تترك دمارا كبيرا على الأرض . و هي على نوعين : رجوم صخرية ،و رجوم حديدية . و مثال ذلك أنه (( ارتطم بالأرض في عام 1908م الرجم المشهور تونوغوسكا في منطقة سيبريا. وتمكنبعض الناس من رؤيته من مسافة 750كم في وضح النهار وسمعوا صوت انفجاره من مسافة 80كم. و قُدر وزن الرجم بمئات الأطنان [35]((.
و قد تمكن العلماء في العصر الحديث من قياس وزن كثير من الأجرام السماوية ، فوجودها ثقيلة جدا أكثر من وزن الأرض بمرات كثيرة . فالشمس مثلا تصل كتلتها (( إلى 99,8 % من كتلة المجموعة الشمسية وتبلغ ما يقرب من 1,047 مرةقدر كتلة المشتري أكبر الكواكب في المجموعة الشمسية، كما أنها تبلغ 333,000 مرة قدركتلة الأرض [36]((.
فواضح من ذلك أن هؤلاء الفلاسفة لو رجعوا إلى القرآن و تدبروا طبيعياته المتعلقة بطبيعة بالسموات و الأرض و أخذوا بها ما أخطئوا في موقفهم الذي سايروا فيه شيخهم أرسطو . و لو أنهم خرجوا إلى البراري و الصحاري بحثا عن الصخور التي تسقط من السماء ، أو سألوا عنها أهل الخبرة من الناس، ثم فحصوها لوجدوها تُشبه صخور الأرض في خصائص كثيرة ، و لها أحجام و أوزان مختلفة . و منها يتبين لهم خطأ أرسطو ، فينقدونه و يُخالفونه . لكن المؤسف أن هؤلاء لم يأخذوا بما في القرآن و لا خرجوا إلى الميدان ، و إنما سايروا شيخهم أرسطو في زعمه و خطئه !!! .
و خامسا إن قولهم بأن العالم السماوي لا تصيبه تغيرات مناخية ،و لا تحولات طبيعية ،و لا هو باليابس و لا باللين ،و لا بالحار و لا بالبارد ، و ... فهو قول بلا علم ، قالوه بالظن و التخمين ، و أخذوا به مُسايرة لشيخهم أرسطو . و لو تدبروا في القرآن جيدا لتبين لهم خلاف زعمهم من جهة ،و لو أخذوا به لجنبوا أنفسهم الخطأ و مخالفة القرآن من جهة أخرى . و الدليل على ما قلتُه الشواهد القرآنية الآتية :

الأول مفاده هو أنه بما أن مادة العالم الأرضي هي نفسها مادة العالم العلوي لقوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30- ، و بما أن الأرض فيها الحرارة و البرودة ،و الرطوبة و اليبوسة ، فلماذا لا يكون العالم العلوي فيه كل ذلك ؟؟ . بل إن فيه ذلك، على أساس منطق الجمع بين المتشابهين و التفريق بين المختلفين .

و الشاهد الثاني مفاده أن الله تعالى وصف العالم العلوي بأنه مملوء بالنجوم ،و أن الشمس من النجوم ،و هي مصدر مُشتعل و مصدر النور ،و أن من النجوم ما هو ثاقب ، و أن من كواكبه ما هو مُظلم . فهذا المعطيات تعني أن في العالم العلوي أجساما حارة و شديدة الحرارة ، و أخرى ما هي مُظلمة و باردة . و كل ذلك واضح من الآيات الآتية : {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13- ، و{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13-، و {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }نوح16-، و {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12-، و {النَّجْمُ الثَّاقِبُ }الطارق3- .

و الشاهد الثالث مفاده أن الله تعالى أخبرنا أنه أنزل من السماء الحديد و الحجارة ، كما في قوله سبحانه : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25-،و{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ }هود82- ، و {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ }الذاريات33- . ،و هذا يعني أنه يوجد في العالم العلوي اليابس و الصلب ، و الثقيل و الخفيف ، كما هو في العالم الأرضي .

و أما قولهم بأن العنصر الخامس- الأثير- المكوّن للعالم السماوي لا تكوّن فيه و لا فساد ؛ فهو كلام بلا علم ،و ظنون و تخمينات ، و هو مخالف للشرع و العلم معا . فأما شرعا فلو تدبر هؤلاء الفلاسفة آيات طبيعيات الفلك لوجدوا فيها إشارات و معطيات تدل على أن عالم الأجرام السماوية تجري فيه عمليات التكون و الفساد كما يحدث في العالم الأرضي على حد سواء ، و الشواهد الآتية تُثبت ذلك :

الأول مفاده هو أن المادة التي خُلقت منها السموات و الأرض هي مادة واحدة لقوله سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11- . و هذا يعني أنه بما أن الكل من مادة واحدة، و الأرض تتقبل عمليات التكوّن و الفساد فكذلك العالم السماوي يتقبل ذلك أيضا .

و الشاهد الثاني مفاده أن في القرآن الكريم آيات دلت على أن الله تعالى أنزل من السماء أجساما سماوية عاقب بها كثيرا من الأقوام بسبب كفرهم و فسادهم ، كقوله تعالى : {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ }هود82-، و {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }سبأ9- -و هذا يعني أن الأجرام السماوية تقبل التغير و التجزئة و الإنقاص .

و الشاهد الثالث مفاده أن الله تعالى أشار إلى أنه عندما بدأ خلق العالم لم يخلقه كله دفعة واحدة ،و إنما خلقه في ستة مراحل طويلة ،و أحدث فيه تغيرات، لقوله سبحانه : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }الفرقان59-،و {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }الحج47- ،و . و هذا يعني أن العالم كله بما فيه القسم العلوي استمر في التحول و التغير مدة طويلة، و ما يزال الأمر جاريا إلى يومنا هذا . فلو كان العالم العلوي كما زعم هؤلاء الفلاسفة ما حدث له ذلك أصلا .

و الشاهد الرابع مفاده أن القرآن الكريم أشار إلى أن من الأجرام السماوية ما حدث فيها تغير في طبيعتها ، و أخرى حدث فيها نقص و سقوط على الأرض ثم تفاعل مع مكوناتها و أصبح جزءاً منها . من ذلك ما حدث للقمر عندما كان مُضيئا ثم محاه الله تعالى و جعله مُعتما ، بدليل قوله سبحانه : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12- .
و من ذلك أيضا ما حدث للحديد ، فقال سبحانه : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25- . و معنى هذا أن الحديد بعدما تكوّن في العالم العلوي أنزله الله تعالى إلى الأرض . و هذا الأمر قالت به بعض الأبحاث العلمية الحديثة ، سنذكره قريبا بحول الله تعالى .

و الشاهد الخامس مفاده أن في القرآن إشارة إلى أن الأجرام السماوية هي أيضا تتعرض للفناء قبل يوم القيامة ، و لعل في قوله سبحانه إشارة ذلك : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى }النجم1- ، بمعنى يسقط و يهلك بعدما يفقد قدرته على الاستمرار في الحياة كما تشير إلى ذلك بعض الأبحاث العلمية الحديثة[37] .

و أما من الناحية العلمية فقد ثَبُت أن العالم السماوي توجد فيه عمليات التغير و الفناء و التولد كما في العالم الأرضي . و تبين أن العالم بأكمله سائر إلى التغير و الفناء . و قد دلت الصور التي التقطتها المراكب الفضائية ، أن العالم السماوي يحمل آثارا كثيرة تدل على أنه عالم مليء بالتغيرات و الظواهر المتنوعة ، من اصطدامات ،و تحولات تضاريسية و مناخية من جهة الحرارة و البرودة . و بعض أجزائه تنفصل منه و تسقط على الأرض بأحجام مختلفة[38] .
و من ذلك أيضا أن درجة الحرارة في القمر تصل في النهار - الجانب المضيء- إلى 100 درجة، وفي الليل - الجانب المظلم - تنخفض إلى 173 درجة تحت الصفر. و (( تُظهر الصور الملتقطة للقمر بأن على سطحه ملايين التشوهات التي نتجت عن نيازك اصطدمت بالقمر وشوهت سطحه فهو مليء بالضربات ))[39] .
و منها أيضا ما ذكره الجيولوجي زغلول النجار من أنه ((سادالاعتقادبأنالحديدالموجودفيالأرض- والذييشكل 35.9 % منكتلتهالابدوأنهقد تكوّنفيداخلعددمنالنجومالمستعرةمثلالعمالقةالحمروالعمالقةالفائقة،والتيانفجرتعليهيئة مستعراتعظميةفتناثرتأشلاؤهافيصفحةالكونونزلتإلىالأرضعلىهيئةوابلمنالنيازك الحديدية. و بذلكأصبحمنالثابتعلميًاأنحديدالأرضقدأُنزلإليهامنالسماء،وأنالحديدفيمجموعتنا الشمسيةكلهاقدأُنزلكذلكإليهامنالسماء. وهيحقيقةلميتوصلالعلماءإلىفهمهاإلافيأواخر الخمسينياتمنالقرنالعشرين ))[40] .
و سادسا إن قول الفارابي بأن الأجسام السماوية أفضل من الموجودات الأرضية ، لأن العلوية هي من الموجودات الإلهية ،و لا ضد لها ،و لا تقبل الكون و الفساد . و... فهو قول مخالف للشرع و العلم ،و كلام بلا علم ، و رجم بالغيب .
فأما شرعا فإن الله تعالى أخبرنا انه خلق كل العالم من مادة واحدة ، فلا يُوجد فرق بين مادة الموجودات السماوية و الموجودات الأرضية . كما أنه سبحانه أخبرنا أنه فضل بني آدم على كثير مما خلق من مخلوقات الأرض و السموات ،و سخّر له ما في السموات و الأرض، و أسجد له ملائكته ، قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-، و {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70-،و {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }الحج65- ،و {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }البقرة34- .
و أما علمياً فالأمر واضح أيضا ، فالعالم كله مخلوق ،و مادته واحدة ، و بذلك تسقط حكاية التفضيل المزعومة من أساسها . و قد تبين علميا أن حكاية عدم وجود الأضداد كالحرارة و البرودة مثلا ، في الأجسام العلوية هي زعم باطل ،و خرافة من خرافات القوم . لأنه تبين أن في العالم العلوي توجد الحرارة كما توجد البرودة ،و توجد أيضا التفاعلات الكيميائية و النووية كما توجد في الأرض على حد سواء[41] .
و أخيرا – سابعا – أُشير هنا إلى ثلاثة انتقادات تخص مواقف بعض هؤلاء الفلاسفة . الأول يتعلق بقول الفارابي بأن (( أقل ما يقع عليه التركيب و الانحلال شيئان ، لأن الشيء الواحد لا تركيب فيه و لا انحلال ))[42]. و هذا غير صحيح شرعا و لا علما . و لو رجع إلى القرآن الكريم و تدبره جيدا لأمكنه أن يستنتج أن كل مخلوق-مها كان حجمه- يُمكن أن ينقسم إلى أقل منه و أنه سيفنى . و هذا واضح من قوله سبحانه : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }يونس61 - .
و أما علميا فمن الثابت أن العناصر التي زعم هؤلاء أنها بسيطة و غير مركبة سواء السماوية منها أو الأرضية ، فيمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية . فالماء يُفكك إلى غازين رئيسيين ، هما : الهيدروجين ، و الأكسجين ـ و كل واحد منهما يُمكن تفكيك ذرته إلى بروتونات و إلكترونات ،و العلماء الآن يتحدثون عن الكواركات ، كمكون آخر من مكونات الذرة[43] .
و الانتقاد الثاني يتعلق بيعقوب الكندي و مفاده أنه مع قوله برأي الفلاسفة الآخرين في موقفهم من مادة الأجرام السماوية ، فإنه لم يقل بقولهم في أزلية العالم . لكنه – من جهة أخرى- خالف طبيعيات القرآن المتعلقة بطبيعة المادة التي خُلق منها العالم ، فهي قد نصت صراحة على أن العالم في الأصل كله من مادة و احدة ،و من ثم فلا فرق بين مادة الأجرام السماوية و مادة العالم الأرضي . و هذا خلاف ما قاله الكندي .
و آخرها- الانتقاد الثالث- يتعلق بابن الهيثم ،فمع أنه صنف كتابه الشكوك على بطليموس لنقده في طائفة من الأخطاء كان قد وقع فيها ؛ فإنه قد فاته أن ينقده في موقفه من طبيعة الأجرام العلوية ، مع أنه موقف ظني وهمي لا دليل صحيح على صحته البتة من جهة ، و مخالف لما أشار إليه القرآن الكريم حول طبيعة الأجسام العلوية من جهة أخرى . فابن الهيثم أغفل ما ذكره القرآن الكريم-كما فعل أصحابه في معظم ما أوردناه- ،و فاته هذا الانتقاد ،و أخطأ في موقفه عندما وافق قول بطليموس ، فخالف بذلك الشرع و العلم معا . و لو أنه استعان بالقرآن الكريم في انتقاده لنظام بطليموس لربما أوصله هذا إلى هدم قسم كبير من نظام بطليموس أو هدمه كله .

و ختاما- لما ذكرناه- يتبين منه أن هؤلاء الفلاسفة خالفوا القرآن الكريم مخالفة صريحة فيما يتعلق بطبيعة المادة المكونة للكون بقسميه: العلوي و الأرضي . فقالوا بخلاف ما قرره القرآن ، و اتبعوا منهجا ظنيا وهميا مذهبيا غير مقبول شرعا و لا عقلا و لا علما. فأخطئوا في مواقفهم المتعلقة بطبيعة مادة العالم ،و خالفوا بها الشرع و العلم معا .

ثالثا : قول هؤلاء الفلاسفة بوجود عقول أزلية تحرك الأجرام السماوية:
قال الفلاسفة المسلمون المشاؤون بوجود عقول أزلية مفارقة للمادة ذات طبيعة إلهية ، توجد في الأجرام السماوية ، فكان لها دور كبير في ظهور الكون من جهة ؛ و هي التي تتولى تحريك الأجرام السماوية من جهة أخرى . فما حقيقة قولهم هذا ؟، و ما موقف الشرع و العقل و العلم من ذلك ؟ . و من هؤلاء الفلاسفة الذين قالوا به ؟ .
أولهم أبو نصر الفارابي إنه جعل العقول أحد عشرة عقلا ، أولها العقل الأول ، الذي هو الإله . و منه صدرت العقول العشرة الباقية ، و آخرها العقل الفعال الذي يُدبر عالم ما تحت فلك القمر ، و هي عقول و معقولات ، بمعنى أن لكل عقل جرمه ،و كل من العقول و معقولاتها تمثل الموجودات السماوية التي سماها الفارابي الموجودات الثواني بالنسبة للعقل الأول ، الذي هو الإله . حدثت كالآتي حسب زعمه : تلك العقول صدرت عن بعضها بالترتيب بالزوم ابتداءً من الأول و انتهاء بالأخير . و كل عقل لا يعقل إلا ذاته و العقل الأول ،و ليس في مادة و لا هو مُتجسم . و تلك العقول هي جواهر مُفارقة . و كل عقل له معقوله الذي يصدر عنه أيضا باللزوم ، و هو جرم مادي ، أولها السماء الأولى ، ثم الكواكب الثابتة ، ثم كوكب زحل ، و آخرها كرة القمر[44] .
و الثاني أبو علي بن سينا ذكر أن العقول هي جواهر مفارقة و ليست جسمانية ، و لكل (( فلكعقل مفارق نسبته إلى نفسه نسبة العقل الفعال إلى أنفسناوأنه مثال كلي عقليلنوع فعله فهو يتشبه به. و بالجملة فلا بد في كل متحرك منها لغرضعقلي من مبدأعقلي يعقل الخير الأول وتكون ذاته مفارقة فقد علمت أن كل ما يعقل فهومفارقالذات. ومن مبدأ للحركة جسماني أي مواصل للجسم فقد علمت أن الحركة السماويةنفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال بجزئيتها فيكون عددالعقول المفارقة بعد المبدأ الأول عدد الحركات ))[45]. و ذكر أن (( الحركة السماويةنفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال بجزئيتها فيكون عددالعقول المفارقة بعد المبدأ الأول عدد الحركات ))[46] .
و الثالث هو أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة قرر أن(( لكلجرمسمائيعقلونفس))[47] . و كان يعتقد بوجود العقل الفعال ،و اتصال الإنسان به ، فقد صنف في ذلك رسالة عنوانها (( اتصال الإنسان بالعقل الفعال))[48] .و زعم أن (( العقلالفعالبمعونةالأجرامالسماويةهوالفاعلالقريبفيجزئياتالكونوالفساد،والذيفطرهما علىذلكهوالفاعلأبداًبالحقيقة،وهوالشيءالذييستحقالحمد،وليسواحدمنهمايجهل[49] (( .
و آخرهم – الرابع - أبو الوليد بن رشد الحفيد قال : : (( بل الحق هو أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فقط ،و الإثنينية لا تصدر عنها إلا إثنينية فما دونها )) . ثم ذكر أن الكون صدر بالترتيب حسب مرتبة المبادئ- أي العقول أولها الإله- فقال : (( المبدأ الأول صدر عنه مُحرك الفلك المُكَوكب- ، و مُحرك الفلك المكوكب صدر عنه صورة الفلك المُكوكب ، و محرك فلك زحل صدر عنه نفس الكوكب ،و المحرك لفلك المشتري و محرك واحد فقط من المحركين الذين تلتئم بهم حركة كوكب زحل . و عن هذا المحرك صدرت عنه الثلاثة المتحركات الباقية من حركات هذا الكوكب على الترتيب أيضا ، ثم محرك فلك المشتري صدرت عنه ثلاثة أيضا : .... إلخ ))[50] .
و قد أخذ ابن رشد برأي بطليموس في عدد حركات الجرم السماوي ، فحددها ب: 39 حركة ، فوافقه و خالف أرسطو الذي قدرها ب: 47 ، أو 55 حركة[51] . و ذكر أن الذي أُتفق (( عليه من حركات الأجرام السماوية هي ثمان و ثلاثون حركة )) . و عليه يكون عدد المحركين بعدد تلك الحركات . و هذه المحركات هي عقول حسب ابن رشد ، و الأجرام السماوية ذات عقول بالضرورة . و هذه العقول هي التي تُحرك تلك الأجرام و تعطيها صورها أيضا[52] . و قد نص على أن عدد العقول يُساوي عدد حركات الكواكب،و طريق إحصاء هذه العقول المفارقة هو إحصاء حركات الكواكب[53] .

و من تلك العقول المفارقة – التي قال بها ابن رشد- : العقل الفعال . فهو عقل أزلي غير هيولي، و في إمكان العقل البشري الاتصال بالعقل الفعال[54] .

و أقول: أقوالهم هذه مخالفة للشرع و العلم معا ،و تضمنت خرافات و مزاعم و أباطيل ، و هي كلام بلا علم ، و رجم بالغيب ، و خروج سافر عن المنهج العلمي الصحيح في مجال البحث و الاستدلال .

فمن الناحية الشرعية أولا إن القول بوجود تلك العقول الإلهية المزعومة مخالف للقرآن الكريم مخالفة صريحة . لأن الله تعالى نص صراحة على أنه خلق الأجرام السماوية من دون عقول ،و لا ذكر أنه جعل لها عقولا لتحركها ، و إنما ذكر أنه خلقها و صخرها في أفلاكها بذاتها من دون عقول . قال سبحانه و تعالى : {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الأنعام102-،و{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-،و {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }السجدة4-، و {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13- ،و {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- .

و من ذلك أيضا أنه لا يُوجد في القرآن الكريم خطاب من الله تعالى لتلك العقول ،و لا يُوجد لها ذكر فيه . و عندما يتكلم عن الأجرام السماوية يُشير إليها مُباشرة كمخلوقات مُسخرة مُطيعة لله تعالى ، و لا يُشير إليها على أنها تابعة لتلك العقول المزعومة . كقوله سبحانه : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11- ،و {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }هود44- ،و{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- ،و {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }الإسراء44- .

و ثانيا إنهم خالفوا الشرع أيضا عندما زعموا أن تلك العقول أزلية ذات طبيعة إلهية ،و هذا باطل و شرك صريح ، فلا أزلي إلا الله تعالى ، فهو الأول و الآخر ،و المتقدم و الآخر ،و كل شيء هالك إلا وجهه ،و لا إله إلا هو سبحانه . فالله تعالى أكد –في آيات كثيرة- أنه هو الخالق لهذا الكون ،و لا خالق سواه ،و أن العالم بأسره مخلوق له . قال سبحانه : {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }الفرقان2-،و {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18- . فجاء هؤلاء الضالون المخرفون و قالوا بخرافة العقول المفارقة الأزلية الإلهية المُشاركة لله في صفاته و في خلقه للكون !!!!.

و رابعا إن زعمهم بأن تلك العقول هي التي تتولى تحريك الأجرام السماوية . فهذا لا يصح شرعا و لا علما ، فأما شرعا فمن طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الكون أن الأجرام السماوية – كالنجوم و الكواكب وغيرها- مُسخرة محكومة بقوانين إلهية لا تخرج عنها،و مرفوعة بعمد لا نراها ،ولا تحتاج إلى عقول إلهية تحملها و لا لتحركها . قال سبحانه : { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 - ،و {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }الرعد2- .

و أما علمياً فقد ثَبُت أن الأجرام السماوية – و الأرض أيضا- لا تحملها عقول ، و لا تحتاج إليها لتحملها و لا لتحريكها ،و إنما هي مخلوقة و مُسخرة تحكمها قوانين لا تخرج عنها من جهة ، و كلها خاضعة لقانون الجاذبية العام الذي يحكمها و يُمسكها[55] .

و خامسا من أين لهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ؟؟!! ، فهذه مقولة باطلة عقلا و شرعا ، بنوها على خلفيتهم الخرافية الأرسطية التي تنفي عن الله تعالى القدرة على الفعل و الاختيار ، من جهة ،و تزعم أن الإله كان علة غائية للكون و لم يكن علة فاعلة من جهة أخرى . بمعنى أن الإله-حسب زعمهم- ليس هو الذي حرّك محرك الفلك الأول ،و إنما هذا الأخير هو الذي تحرك من ذاته في عشقه للإله الذي هو المحرك الذي لا يتحرك[56] . هذه من الخرافات و الأباطيل التي خالفوا بها الوحي الصحيح و العقل الصريح ، أخذوها عن ديانة أرسطو الدهرية الشركية فخالفوا بها العقل و الشرع معا .

فهم بذلك خالفوا الوحي الصحيح و العقل الصريح ،و أضحكوا الناس على عقولهم . فأما شرعا فأن الله تعالى وصف نفسه في القرآن الكريم بالفعل و الحكمة و العزة ، و القدرة المطلقة على كل شيء ،و أنه سبحانه فعال لما يريد،و يخلق ما يشاء و يختار ،و أنه خلق كل ما في العالم من مخلوقات على تنوعها و كثرتها . قال سبحانه : {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }إبراهيم27- ،و{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107-، و {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }القصص68- ،و{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }النحل40- ،و {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }الفرقان2- . أفليس من الجهل و الضلال - بعد هذه الآيات الدامغات- أن يأتي هؤلاء الضالون المخرفون و يزعمون أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ؟؟!! .

و أما عقلا فلا يصح في المنطق الصحيح القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد . فهذا حكم باطل لا دليل على صدقه بهذه الصيغة . لأن الصواب هو أن الواحد قد لا يصدر عنه شيء ، و قد يصدر عنه شيء واحد، و قد تصدر عنه أشياء ، لكنها تبقى محدودة ، و قد تصدر عنه أشياء بلا حدود . و هذا الصدور متوقف على طبيعة هذا الواحد من جهة قدرته و علمه، و صفاته الأخرى ،و ليس متوقفا على أساس أنه واحد كما زعم هؤلاء . و بما أن العقل الصريح يُثبت للخالق عز و جل كل صفات الكمال و العظمة و التقديس ، فبالضرورة أنه لا حد لقدرته في الخلق و الإبداع ،و التنوع و الإكثار ،و بهذا يسقط زعم هؤلاء . فهو حكم باطل مُضحك ، لا يقوله إنسان عقلاني يحتكم إلى عقله البديهي و يلتزم بحكمه .

علماً بأن حكمهم هذا(( الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد )) هو حكم يُناقض قولهم بأزلية الكون ، لأن القول بالصدور يستلزم أن يكون ما صدر عن الإله ليس أزليا مهما تصورنا قدمه من جهة . كما أن القول بأزلية العالم يستلزم نفي حكاية الصدور من أساسها من جهة أخرى .

و سادسا إن حكاية العقل الفعال و إمكانية اتصال العقول البشرية به ، هي خرافة من خرافات الفلسفة اليونانية التي ورثها عنهم الفلاسفة المشاؤون المسلمون . فلا يُوجد أي دليل صحيح يُثبت زعمهم هذا. و بما أنه سبق أن بينا بطلان حكاية العقول المفارقة من أساسها ، فبلا شك ستنهار حكاية الاتصال بالعقل الفعال من أساسها أيضا . و هؤلاء يضحكون على أنفسهم و على غيرهم بهذه الحكاية الخرافية من جهة ،و يُضحكون الناس على أنفسهم أيضا من جهة أخرى . و نحن نطالبهم بالدليل الصحيح على زعمهم ، و لن يظفروا به أبدا . و لو أن كل واحد تدبر في نفسه و في غيره لتأكد له بطلان زعمهم هذا من جهتين : الأولى أنه لا يُوجد دليل ملموس موضوعي يُثبت زعمهم بحدوث الاتصال بالعقل الفعال أو امكانية حدوثه . فمن أين لهم إذاً بهذا القول المزعوم ؟؟!! . و لماذا يتكلمون بلا علم ؟! .

و الجهة الثانية مفادها إن المُتدبر في فكر أرسطو و أصحابه يتبن له أن معظم فكر هؤلاء باطل مُخالف للعقل و الشرع و العلم ،و هذا الأمر قد تأكدتُ منه يقينا ، حتى أني أحصيتُ لأرسطو أكثر من 337 خطأ و انحرافا منهجيا كانت من باب التمثيل لا الحصر[57]. فلو كان هؤلاء قد اتصلوا بذلك العقل الفعال الخرافي ما كان ذلك هو حال فكرهم المملوء بالخرافات و الأباطيل ،و الأخطاء و الشركيات ، و الضلالات و الكفريات ، و ليس فيه من الصحيح إلا القليل .

و ربما يقول بعض الناس : إن هؤلاء عندما قالوا بتلك العقول قصدوا بها الملائكة ، و هم مخلوقات نورانية يعترف الشرع بوجودهم و دورهم في الكون . فأقول: هذا التبرير لا يصح بدليل الشواهد الآتية :

أولها إنه على هؤلاء أن يُقيموا الدليل الصحيح -شرعا أو عقلا- على أن العقول المفارقة التي قالوا بها هي نفسها الملائكة الذين ذكرهم القرآن الكريم . و هذا الدليل غير موجود ، و لن يظفروا به . و عليه فإن قولهم ليس دليلا ، و إنما هو زعم ، و الزعم ليس دليلا ، و لا يعجز عنه أحد.

و الشاهد الثاني إن هؤلاء الفلاسفة وصفوا تلك العقول بأنها أزلية و إلهية الطبع ، و هذا مخالف لصفات الملائكة المذكورين في القرآن الكريم . فهم عباد لله تعالى ،و من مخلوقاته ،و ليسوا أزليين و لا آلهة .قال سبحانه: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }الزخرف19-، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }التحريم6- ،و {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }فاطر1- ،و {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ }الصافات150- ،و {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الزمر75- .

و الشاهد الثالث مفاده إن هؤلاء الفلاسفة زعموا أن تلك العقول المفارقة هي التي تولت عملية ظهور العالم . و هذا مخالف لما نص عليه القرآن الكريم من أن الله تعالى هو الذي خلق كل المخلوقات من بينها الملائكة و الأجرام السماوية ، و ليست الملائكة هي التي أوجدت ذلك ، فهو ربها و رب كل شيء ، قال سبحانه : ،{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الأنعام102- ،و {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }هود7- ، و {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30- ,

و الشاهد الأخير- الرابع - مفاده أن هؤلاء الفلاسفة قدروا عدد العقول المفارقة بعدد حركات الأجرام و حددوها ما بين :37- 55 عقلا مفارقا . و هذا مخالف لعدد الملائكة في القرآن الكريم ، و لا يصدق عليه . فعددهم كبير جدا ، حتى أنه سبحانه عندما أنزل الملائكة لمساعدة المؤمنين أنزل منهم طائفة بلغ عددهم : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }الأنفال9- .

و إنهاءً لهذا المبحث يتضح منه أن هؤلاء الفلاسفة خالفوا القرآن الكريم مخالفة صريحة في قولهم بخرافة العقول المفارقة الأزلية و دورها في تحريك الأجرام السماوية . علما بأن القول بتلك العقول هو شرك صريح ،و قول بتعدد الآلهة ،و نقض للتوحيد الإسلامي . فلو رجعوا إلى القرآن الكريم ، و تدبروه جيدا ، و أخذوا بما قاله لتبين لهم خلاف ما زعموه ، و لجنبوا أنفسهم القول بتلك الخرافة ،و مخالفة الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

رابعا: مخالفات تتعلق بالشمس و الكواكب:
تبني الفلاسفة المشاؤون المسلمون آراء تتعلق بالشمس و النجوم و الكواكب ، قالوا فيها بما يُخالف طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بالنجوم و الكواكب . فخالفوا الشرع و أخطئوا فيما قالوا به شرعاً و علماً . فما تفاصيل ذلك ؟، و من هؤلاء الفلاسفة الذين قالوا بتلك الآراء المخالفة للشرع ؟ .
منهم أبو نصر الفارابي حسب رأيه أن الشمس (( لا يُشاركها في وجودها شيء آخر من نوعها . و هي مُتفردة بوجودها ))[58] . و ذكر أن العلماء اتفقوا على أن الكواكب و الشمس ليست حارة و لا باردة في ذواتها ،و لا يابسة و لا رطبة أيضا[59] .
و الثاني هو أبو علي بن سينا قال: (( وأما سائر الكواكب فكثيراً ما يُظن أنها تقتبس النور من الشمس.
وأنا أحسب أنها مضيئة بأنفسها وإلا لتبدل شكل الضوء المقتبس فيها بحسب الأوضاع، وخصوصا في الزهرة، وعطارد، اللهم إلا أن نجعل ذلك الضوء نافذا فيها)). و (( و أما القمر فلا نشك في أن ضوءه ونوره مقتبسان من الشمس، وأنه في جوهره، ذو لون إلى العتمة المشبعة سوادا)) [60] .

و آخرهم- الثالث- أبو الوليد بن رشد إنه وافق رأي أرسطو في قوله : إن الكواكب و منها الشمس ليست ذات طبيعة نارية ،و أن حرارتها ليست من داخلها و إنما سببها حركة الكواكب و مماستها للهواء المحيط بها. و أضاف ابن رشد عامل الضوء أيضا[61] . و ذكر أن سبب سخونة الشمس و سائر الكواكب أمران ، هما : الحركة ،و انعكاس الضوء[62] .
و أقول: خالف هؤلاء الفلاسفة الشرع و العلم فيما ذهبوا إليه ، و لو أنهم التزموا بالمنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال بالاعتماد على الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح لتجنوا مخالفة الشرع و الوقوع في الخطأ . و تفصيل ذلك فيما يأتي :
أولا إن قول الفارابي بوجود شمس واحدة لا عدة شموس ، هو قول لا يصح ،و مُخالف للشرع و العلم معا . فأما شرعا فإن القرآن الكريم فرّق بين النجوم و الكواكب و لم يجعلها نوعا واحدا ، فقال سبحانه عن النجوم : {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ }المرسلات8- ،و {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }التكوير2- ، و{النَّجْمُ الثَّاقِبُ }الطارق3- ،و{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5- . و قال عن الكواكب : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }الصافات6 - ، و {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ }الانفطار2- . فواضح من ذلك أن الله تعالى وصف النجوم بصفات تدل على أنها مصدر الاشتعال و الضوء ، فهي نجم ثاقب ،و أنها تنطمس يوم القيامة ، أي أنها تنطفئ ،و أنها مصابيح ، أي أنها مصدر للضوء ،و أنها جُعلت رجوما للشياطين ، أي أنها مصدر لقذف الأجسام الملتهبة ،و هي التي وصفها الله تعالى بقوله : {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }الصافات10- . و بما أن النجوم كذلك فهي شموس ملتهبة ، و هذا يعني أن عدد الشموس كثير جدا ،و ليس واحدا .
و يُؤكد ذلك و يزيده توضيحا قوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }فصلت37- . فقوله سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) لا يخص الشمس والقمر في مجموعتنا الشمسية فقط، و إلا لقال (خلقهما) ، و بما أنه قال: (خَلَقَهُنَّ ) فهذا يدل على الجمع ،و يعني أنه توجد إذاً أكثر من شمس وأكثر من قمر!![63] .

و أما من الناحية العلمية ، فالعلم الحديث فأثبت ما أشار إليه القرآن الكريم ، و ذكر أن النجوم هي شموس ، و عددها كبير جدا ، و الشمس (( هي النجم الوحيد القريب للأرض بالقدر الكافي لتبدو ككرة. والبلايين الأخرى منالنجوم بعيدة جداً،لدرجة أنها تظهر في حجم رأس دبوس من الضوء حتى من خلال أقوى التلسكوبات ))[64] .
و (( يوجد هناك ما يزيد على 200 بليون بليون (200,000,000,000,000,000,000) من النجوم،ولو افترضنا أن كل شخص في العالم عليه أن يعد النجوم، فإن كل واحد يستطيع أن يعدما يزيد على 50 بليونًا من النجوم دون أن يعد أحدها مرتين))[65] .

(( فالنجوم بالرغم من مظهرها، أجرام ضخمة. فالشمس ليست إلا نجمًا متوسط الحجم، لكنقطرها يزيد 100 مرة على قطر الأرض. وأضخمالنجوم يزيد على ما يملأ الفراغ بين الأرض والشمس. ومثل هذه النجوم يكون قطرهاحوالي 1,000 مرة قدر قطر الشمس. وأصغرالنجوم تكون أصغر من الأرض ))[66] .
و فيما يلي مشهد سماوي رائع يُمثل النجوم المضيئة و الكواكب المعتمة:

[IMG]file:///C:\Users\Dell\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image002.jpg[/IMG]
و واضح منها أن (( المادة المظلمة تملأ الكون، ونسبة الجزء المضيء من الكون أقل بكثير، أما الجزء الذي تشغله النجوم (الشموس) أقل بكثير، ثم تأتي الأجسام الباردة في الكون وهي الأقل من حيث الحجم ... المرجع وكالة ناسا ))[67] .
و ثانيا إن ترجيح ابن سينا كون الكواكب مضيئة بنفسها ،و لا تقتبس النور من الشمس ما عدا القمر؛ هو ترجيح مخالف لطبيعيات القرآن المتعلقة بالكواكب من جهة ،و مخالف لما قرره العلم الحديث من جهة أخرى .
فمن جهة الشرع فقد سبق أن بينا أن القرآن الكريم فرّق بين النجوم و الكواكب ،و لم يجعلهما نوعا واحدا . فوصف النجوم بصفات الشمس، و و وصف الكواكب بصفات الأرض و القمر ،و هما كوكبان غير مُلتهبيّن.
و من ذلك أيضا أن الله تعالى فرّق بين الشمس و القمر بقوله : {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً }الفرقان61- ،و {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13- ، و {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12- . فالشمس جسم مشتعل مضيء ،و القمر جسم غير مشتعل- طافيء - يتلقى النور من الشمس .
و عندما وصف الله تعالى النجوم بقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ }المرسلات8- ، فإنه وصف الكواكب بقوله : {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ }الانفطار2 . و وصف النجوم بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5- ، فهي مصدر لقذف الأجسام الملتهبة ، لكنه سبحانه لم يصف الكواكب بذلك، لأنها ليست مُلتهبة . و عندما وصف سبحانه النجوم بقوله : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5- ، فإنه وصف الكواكب بقوله : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }الصافات6- ، فالنجوم مصابيح مصدر للضوء، و الكواكب زينة يأتيها النور من الشمس ،و غيرها من النجوم .
و أما من الناحية العلمية فمن الثابت علميا أن كواكب المجموعة الشمسية- كالزهرة ،و المريخ ، و زحل- كلها مُعتمة مُنطفئة يأتيها الضوء من الشمس[68] .
فواضح من ذلك أن طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بالنجوم و الكواكب فرقت بوضوح بين الكواكب و النجوم ،و حددت الصفات الأساسية لكل نوع . فلو أن ابن سينا و أمثاله عادوا إلى ذلك ،و أخذوا به ما خالفوا الشرع و العلم ، و لما أخطؤوا فيما قالوا به .
و ثالثا إن القول بأن الشمس ليست في ذاتها حارة و لا باردة ،و أن سبب حرارتها هو الحركة و انعكاس الضوء ، هو قول مخالف للشرع و العلم معا .
فأما شرعا فإن طبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بالشمس أشارت صراحة إلى أن الشمس مُلتهبة مُشتعلة مضيئة بذاتها كباقي النجوم ،و أنها تختلف عن الكواكب الباردة المُعتمة . و هذا أمر سبق أن توسعنا فيه و بيناه فلا نعيده هنا، و تكفي بالإشارة إليه فقط .
و من الآيات التي نصت صراحة على أن الشمس مُشتعلة مُضيئة بذاتها قوله سبحانه : {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }نوح16- ، و {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }النبأ13- ،و {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }الإسراء12-. فالشمس سراج وهاج ، و القمر لم يُوصف بذلك ، و إنما هو مُنير فقط ، و بما أن الشمس سراج وهاج فهذا يعني أنها مصدر مشتعل وقاد يتلألأ ،و هذا يقتضي الحرارة المرتفعة ، لأنه لا اشتعال و لا توقد و لا تلألؤ بلا حرارة مرتفعة . و السراج في اللغة هو المصباح الزاهر المتوقد المشتعل ، بسبب ما فيه من الزيت و الفتيل[69] .
و أما من الناحية العلمية فإن الشمس – كما وصفها العلم الحديث- نجم عظيم ملتهب شديد الحرارة يقذف بالحمم ، و تُقدر درجة حرارة سطحه بنحو 6آلاف درجة مئوية ، و أما جوفه فتُقدر حرارته بعشرين مليون درجة مئوية [70] . لكن الكواكب السيارة المعروفة الدائرة حول الشمس – كالمريخ ، و الزهرة ، و عطارد- فهي كلها مُعتمة ، فلا تشع الضوء و لا الحرارة ، و إنما يأتيها ذلك من الشمس[71] .

و فيما يأتي مشهد رائع و رهيب يُمثل صورة للشمس بالأشعة السينية[72]
1[IMG]file:///C:\Users\Dell\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image004.jpg[/IMG]
و هي صورة تُظهر الشمس و (( كأنها فرن نووي ملتهب، إنها تزن أكثر من 99 % من وزن المجموعة الشمسية، لذلك فهي تجذب الكواكب إليها وتجعلها تدور حولها، وتتحرك الشمس وتسبح مع كواكبها ومنها الأرض والقمر. وتبلغ درجة الحرارة على سطحها 6000 درجة مئوية، وهي تبث من الطاقة في ثانية واحدة ما يكفي العالم بأكمله لمدة مئة ألف سنة!! ))[73] .
و إنهاءً لما ذكرناه يتبين جليا أن هؤلاء الفلاسفة خالفوا القرآن الكريم فيما قالوه عن الشمس و الكواكب من جهة ،و أخطؤوا فيما ذهبوا إليه من آراء من جهة أخرى . فلوا أنهم أخذوا بطبيعياته المتعلقة بالشمس و النجوم و الكواكب ، ما خالفوا الشرع و لا العلم .
خامسا: قول هؤلاء الفلاسفة بأزلية أنواع الكائنات و حدوث أفرادها:
سبق أن ذكرنا أن الفلاسفة المشائين المسلمين قالوا بأزلية الكون و أبديته ، و عندما رأوا مولد و فناء كثير من كائناته الأرضية ، كالإنسان ، و الحيوان ؛ اخترعوا مقولة : أزلية الأنواع و فناء الأفراد . فقالوا مثلا : الإنسان فانً كفرد ، لكنه أزلي بنوعه المُتمثل في الإنسانية المتناسلة . و نفس الأمر ينطبق على الكائنات الأرضية الأخرى . . و قد عبّر ابن رشد عن مقولتهم بقوله : (( و كذلك الأمر في البحر مع ما ينصب فيه من الأنهار ،و تُصعِد منه الشمس ، و من أنه أُسطقس يظهر أيضا أنه أزلي بالنوع ، كائن فاسد بالحر على ما تبين من أمر الأسطقسات ... )) . و وصفه أيضا بأنه (( كان أبديا أزليا بالنوع ))[74].

و ذكر أيضا أن الأجسام الأرضية المتحركة حركة استقامة فهي لها (( البقاء في كليتها لا في أجزائها . فهي حافظة لصورها النوعية و فاسدة بأجزائها ... و إنما اتفق لها البقاء بالنوع و حفظ صورها عن حركة الجرم السماوي ))[75] . و كلامه هذا ينطبق على كل الكائنات الأرضية المتحركة منها الإنسان .
و أقول : قوله هذا زعم باطل ، مُخالف للشرع و العلم معا . و يتضمن أمرا خطيرا يتمثل في أن ابن رشد و أصاحبه أنكروا ما هو معروف من دين الإسلام بالضرورة فيما يتعلق بظهور الكائنات الأرضية عامة ، و الإنسان خاصة .
و تفصيل ذلك أولا إنه واضح من كلامه أنه خالف طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق كائنات الأرض مخالفة صريحة .لأن القرآن الكريم أكد على أن الأرض مخلوقة ، كما في قوله سبحانه : {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }طه4- ، و {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ }فصلت9- . و هذا يعني بالضرورة أن كل من عليها مخلوق له بداية ظهر بها ، و أن مقولتهم: أزلية الأنواع و فناء الأفراد ، باطلة ،وما هي إلا خرافة من خرافاتهم .
و الشاهد الثاني مفاده أن القرآن الكريم نص صراحة على أن كل ما في الأرض من كائنات هي مخلوقة لله تعالى ، منها البحار طبعا . قال سبحانه : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }البقرة29- ، و {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }النور45- . و هذا يعني أن كل الكائنات التي على وجه الأرض ، منها البحار و الحيوانات هي كائنات مخلوقة حادثة ،و ليست أزلية ،و لا تخضع لمقولة : أزلية الأنواع و فناء الأفراد ، التي لا وجود لها أصلا .
و ثانيا إن قوله بأن الكائنات الأرضية المتحركة أزلية بأنواعها و حادثة بأفرادها ، تعني بالضرورة أن الإنسان ، هو أيضا خاضع لهذا القانون المزعوم . بمعنى أن الإنسان ليست له بداية محددة تبدأ عند أول إنسان مخلوق ،و أنه لا أول له بحكم أزلية الكون ،و من ثم أزلية التوالد الإنساني . و هذا القول مخالف لطبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الإنسان مخالفة صريحة من جهة ،و هو هدم لدين الإسلام من جهة أخرى . لأن زعمه هذا يستلزم إنكار كل ما ذكره القرآن الكريم عن خلق آدم و ما يتصل به عندما كان في الجنة ، و عندما أنزله الله تعالى و زوجه إلى الأرض ... . فلا وجود لقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ{27} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ{29} فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{30} إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{31} قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{32} قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{33} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ{34} وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ{35}- الحجر: 27- 35- . و لا وجود لقوله سبحانه : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30- . و لا وجود لقوله سبحانه : {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة38- . فهل يُقبل شرعا و عقلا أن يصدر هذا الكلام عن مسلمين ؟؟!! ، و هل يُعقل شرعا و عقلا أن يقول هذا الكلام قوم مسلمون ؟؟!! .
و ثالثا إنه مما يُبطل تلك المقولة هو أنه من الثابت علميا أن الكائنات الأرضية ليست أزلية ، و إنما هي حادثة من جهتين : الأولى هي أن الأرض لها بدية ظهرت فيها ،و قد قدّر العلم عمرها بنحو 3000 مليون سنة على الأكثر[76] . و الثانية هي أنه من الثابت علميا أن الكائنات الأرضية ظهرت بالتدريج ، و في أزمنة متباعدة ، كان الإنسان هو آخرها في الظهور[77] . فمعنى هذا أن حكاية أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها هي من أوهام و خرافات هؤلاء الفلاسفة .
و رابعا إن تلك المقولة (أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها )) كما أنها غير صحيحة شرعا و علماً ، فإنها غير صحيحة أيضا من الناحية المنطقية المحضة . فهي مُغالطة سُفسطائية ، قال بها هؤلاء الفلاسفة تأييدا لقولهم بأزلية العلم ، و إلا فإن تصوّرها يكفي لإبطالها . و مفاده أنه لا يُوجد في الواقع كائن كلي يُمثل نوعا من الأنواع كالإنسانية مثلا ، و إنما الموجود في الواقع هو الوجود الفردي فقط ، كالإنسان مثلا . و بما أن الأمر كذلك فهذا يعني أن مولد الأفراد و موتهم يستلزم حتما مولد كل أفراد النوع و موتهم ، و لا يخلد واحد منه من جهة ، و هذا يعني أن لنوع الإنسان بداية بالضرورة من جهة أخرى . و بما أن الكائنات الأرضية يقوم وجودها على الافتقار إلي بعضها بالضرورة ، فهذا يعني أن ظهورها كان مرحليا تدريجيا ، و أنها مخلوقة لها بداية تدريجية ظهرت فيها . و مثال ذلك أنه لا يُمكن أن توجد البحار قبل وجود الأرض . و لا يُمكن أن تُوجد النباتات دون وجود الأرض ، و الهواء ،و الأمطار . و لا يُمكن أن يُوجد الإنسان دون وجود الأرض ، و الهواء ،و الأمطار ،و الحيوانات .
لكن الغريب من أمر هؤلاء الفلاسفة ، أنهم كيف سمحوا لأنفسهم و أفكارهم بأن توصلهم إلى القول بمقولة : أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها . مع أنها تتناقض مع دين الإسلام جملة و تفصيلا ، و القول بها يُؤدي إلى هدمه كلية ؟؟!! .
و خامسا أُشير هنا إلى أنه إذا كان ابن رشد قد عبّر عن موقف أخوانه الفلاسفة المشائين من ظهور الكائنات على وجه الأرض بمقولته السابقة ؛ فإن الفارابي قد عبّر عن موقفهم أيضا عن السبب في وجود النفوس الأرضية . فقال: إن العقل الأخير من العقول- العقل الفعال- هو سبب وجود الأنفس الأرضية ، منها النفس الناطقة- النفس الإنسانية-[78].
و أقول : هذا كلام بلا علم ، و رجم بالغيب ، و هو مخالف لطبيعيات القرآن المتعلقة بخلق الكائنات بنفوسها و أجسادها من جهة . و هو قول بوجود إله شريك مع الله تعالى تولى إيجاد النفوس الأرضية من جهة أخرى . و لا شك أن زعمه هذا باطل جملة و تفصيلا ، لأن الله تعالى نصّ في آيات كثيرة جدا من القرآن الكريم أنه سبحانه لا إله إلا هو ، و أنه لا خالق إلا هو ، و أنه لا شريك معه في ذاته ، و لا في صفاته ، و لا في مخلوقاته ،و أنه سبحانه هو خالق كل شيء . كقوله سبحانه : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }غافر62-، و{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ }الدخان8-، و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }فاطر3- ،و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4}- الإخلاص:1-4- .
ثم بعد ذلك يأتي هذا الضال – و أصحابه- و يزعم أن العقل الفعال هو الذي أوجد النفوس الأرضية ، من دون ان يذكر أي دليل صحيح من العقل ، و لا من الشرع ، و لا من العلم !!!! . فمن أين جاء بهذه الخرافة ؟؟!! . و لماذا سمح لنفسه أن يتكلم في أمر لا يُمكنه معرفته بذاته ،و لا بصفاته و لا بآثاره ؟! . و لماذا قدّم ظنونه و أوهامه و خرافاته على ما قرره الشرع و جعله من أساسيات الدين ؟؟!! . و لماذا ... ، و لماذا ... ؟؟ !! .
و أخيرا – سادسا- إن قولهم –الفارابي و أصحابه- بأزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها من جهة ،و قولهم بأن العقل الفعال هو السبب في إيجاد الكائنات الأرضية من جهة أخرى. فهو قول – كما أنه لم يصح مضمونا – فإنه يحمل تناقضا صارخا . و مفاده أنه إذا كانت أنواع الكائنات الأرضية أزلية ، فهذا يعني أنها لا تحتاج إلى تدخل العقل الفعال ليُوجدها ، لأنها أزلية الوجود . و إذا كان العقل الفعال هو السبب في وجودها ، فهذا يعني أنها مخلوقة لها بداية و ليست أزلية ، و أن مقولة: أزلية الأنواع و حدوث الأفراد و فنائها ، غير صحيحة ،و لا وجود لها ،و لا يصح القول بها أصلا !!! .
و يتبين مما ذكرناه أن مقولة هؤلاء : أزلية الأنواع حدوث أفرادها و فنائها . هي مقولة مخالفة للشرع الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح . و ما هي إلا وهم و خرافة أوصلهم إلى القول بها قولهم بأزلية الكون ، فاخترعوها ليُفسروا بها ظاهرة حدوث الكائنات الأرضية.
سادسا: مخالفات تتعلق بظواهر طبيعية متنوعة :
نُخصص هذا المبحث لطائفة من الظواهر الطبيعية الأرضية اتخذ منها بعض الفلاسفة المسلمين مواقف تندرج ضمن الطبيعيات المشائية السائدة في زمانهم من جهة ؛ و قد أخطؤوا في معظمها ،و خالفوا بها الشرع و العلم من جهة أخرى . و سنذكر منها سبعة نماذج متنوعة تشمل عدة مواضيع من الطبيعيات .

أولها يتعلق بسبب تعاقب الليل و النهار ، و مفاده أن الطبيب المتفلسف أبا بكر الرازي ( ت 311 هجرية ) : ذكر أن سبب غروب الشمس و طلوعها ليس هو حركة الأرض ،و إنما هو حركة الفلك . و قد صنف في ذلك رسالة في (( أن غروب الشمس وسائر الكواكب عنا وطلوعها علينا ليس من أجل حركة الأرض بل من حركة الفلك ))[79] .

و أقول : أخطأ الرجل في تفسيره لظاهرة غروب الشمس و الكواكب و ظهورها من جديد . فقد جانب الصواب شرعا و علما ، فأما شرعا فلو تدبر طبيعيات القرآن المتعلقة بالأرض لوجد فيها إشارات تدل على أن الأرض تتحرك ،و ينتج عنها تعاقب الليل و النهار ، فينتفع بها ،و لا يُخالفها ،و لا يقع في الخطأ . منها قوله سبحانه : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }النمل88- ،و {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40- ، و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }الزمر5 .

و أما من الناحية العلمية فمن الثابت أن الأرض لها حركتان : الأولى حول نفسها تتمها في ظرف 24 ساعة ،و الثانية حول الشمس تتمها في مدة 12 شهرا . و ينتج عن حركتها حول نفسها تعاقب الليل و النهار[80] .
و النموذج الثاني يتعلق بالجبال ،و مفاده أن أبا علي بن سينا عقد فصلا لمنافع الجبال من كتابه الطبيعيات[81] ، فأشار إلى أنها كثيرة ،و ذكر طائفة منها[82] . لكنه أهمل طبيعيات الجبال المذكورة في القرآن الكريم ، إهمالا تاما ، فلم يذكرها و لا انتفع بها . فحرم نفسه من لانتفاع بها ، و إثراء موضوعه بها . علماً بأن القرآن الكريم قد تكلم كثيرا عن الجبال : تكونا و فائدة ، و ذكرها نحو 29 مرة ، حاملة دلالات متعددة و عميقة ، منها أنها أوتاد الأرض ،و الرواسي الثابتة ، و تضمن بعض تلك الآيات إشارات إعجازية رائعة[83] . و قد كتب بعض العلماء المختصين في الجيولوجيا و الإعجاز العلمي أبحاثا حول الجبال في القرآن الكريم[84] .
فمن تلك الآيات قوله تعالى : {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }النحل15- ،و {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }فاطر27- ، و {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً }النبأ7- ،و {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }النمل88- . فلماذا أهمل ابن سينا هذه الآيات و أغفلها، و هي في متناوله ،و تتعلق بموضوعه ، و سينتفع بها و لن يخسر شيئا لو رجع إليها و وظفها في بحثه ؟؟!!. فلماذا أهمل هذا الكنز العظيم ، و صرب عنه صفحا ؟! ، فلو اهتم به و أفرده بالتأليف لاستفاد و أفاد ،و لفتح به أفاقا للعلم ،و لربما ساعده على اكتشاف أمور جديدة .
و النموذج الثالث يتعلق بالأمطار و مفاده أن أبا علي بن سينا : أفرد فصلا للأمطار في كتابه الطبيعيات من جهة تكوّنها و العوامل المؤثرة في سقوطها[85] . لكنه أهمل تماما طبيعيات الأمطار المذكورة في القرآن الكريم ، فلا أشار إليها و لا اهتم بها ، و لا وظفها ، مع أن القرآن قد تكلم كثيرا عن الأمطار من عدة جوانب ،و تضمن إشارات إعجازية رائعة تتعلق بالأمطار[86] .

من ذلك أن القرآن الكريم أشار إلى دور الرياح في تلقيح السحاب لينضج و يتحول إلى مطر ، في قوله سبحانه : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }النور43- ، و {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }الحجر22- .

و أشار إلى المطر التضاريسي الذي يسقط بسبب الجبال العالية ، في قوله سبحانه : {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً }المرسلات27- ٢٧ .

و أشار أيضا إلى نزول البَرَد من جبال السحب المتراكمة في السماء ، في قوله سبحانه : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }النور43- . و هذه الجبال هي جبال حقيقية مُكونة من السحاب يراها راكب الطائرة في طبقات الجو العالية ،و شكلها رائع جدا يأخذ بالألباب .

فواضح من تلك الآيات- و غيرها – أن ابن سينا حرم نفسه من الاستفادة منها ، فلو رجع إليها و وظفها لكان عملا هاما جدا . فيُفيد العلم إثراء و تطويرا ، و ينقد بها أراء كثيرة ،و قد يبني عليها أراء و اجتهادات جديدة تساعده في اكتشاف أشياء جديدة . لكن للأسف ، إنه أهمل الآيات المتعلقة بالأمطار ، و ضرب عنها صفحا . مع أن كلا من العلم و الشرع يُطالبانه بالرجوع إليها ، كما يرجع إلى أراء و مصنفات أهل العلم المتعلقة بالطبيعيات. فلماذا لم يرجع إليها ؟! .

و أُشير هنا إلى أن هؤلاء الفلاسفة كانوا يجمعون بين إهمال القرآن و مخالفته في كل النماذج التي سبق ذكرها في هذا الكتاب . لكن في النموذجين الأخيرين- المتعلقين بالجبال و الأمطار- وجدنا ابن سينا لم يخالف القرآن ، لكنه أهمله و لم يُشر إليه أصلا ، ففاته علم كثير !! .

و النموذج الرابع يتعلق بمصدر العيون و الينابيع ، و مفاده أن أبا علي بن سينا ذكر أن الأبخرة الموجودة على سطح الأرض إذا احتبست في الأرض ،و لم تتحلل تفجّرت عيونا[87] .
و أقول: أخطأ ابن سينا في تفسيره لظاهرة تكوّن العيون و الينابيع ،و خالف القرآن و العلم معا . فأما شرعا فلو رجع ابن سينا إلى القرآن الكريم و تدبره ، و أخذ بما ذكره عن تكوّن الينابيع لما أخطأ في مصدرها و طريقة تكوّنها . قال سبحانه و تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ }الزمر21-. و هذا الماء النازل من السماء يشمل كل أنواع التساقط من مطر ،و بَرد، و ثلج . و الماء الذي يتسرب في الأرض هو الذي تتكون منه الينابيع . و قد أمرنا الله تعالى بأن ننظر إلى فعله سبحانه في تكوينه للينابيع ،و ما يترتب عنها من آثار على سطح الأرض . لكن ابن سينا أبى أن يسمع لهذا الأمر ، فلو سمعه و طبقه و نظر فيه بفهم و تدبر ما أخطأ فيما قال به . إنه مُصر على موقفه المُهمل و المُغفل و المُخالف لطبيعيات القرآن الكريم !!. فلماذا الإصرار على ذلك ؟!! .
و أما من الناحية العلمية ، فقد ثبت علميا أن مصدر الينابيع هو مياه الأمطار و الثلوج التي تتسرب إلى باطن الأرض ، فترشح (( خلال مسام وشقوق التربة، ثم منها إلى الطبقات الصخرية،ويصل الماء في النهاية إلى طبقة لا يستطيع المرور منها. ويسمى هذا الماء المحتجز تحتالأرضالمياه الجوفية . وربما تتسبب الجاذبية الأرضية في دفع الماء إلى أعلى حتى يجد منفذًا إلى السطحمكونًا ينبوعًا (([88] .
و النموذج الخامس يتعلق بالجنين : تكوّنا و نوعاً ، و يتضمن ثلاثة أمثلة من مواقف بعض هؤلاء الفلاسفة المتعلقة بالجنين . الأول مفاده أن ابن سينا : عندما تكلم عن تكوّن الجنين أشار إلى قول أرسطو بأن الرجل يُشارك بالمني في تكوين الجنين و المرأة تشارك بدم الطمث في تكوينه ، و أشار إلى بعض اللذين خالفوه من جهة المرأة ، فذكر منهم الطبيب جالينوس ، الذي قال بأن للمرأة مني تشارك به كالرجل . فخالفه ابن سينا بكلام غير صحيح منتصرا لشيخه أرسطو . ثم علّق على ذلك بقوله : (( و نبين فيه أن ليس للمرأة بالحقيقة مني، وأن مادة المرأة التي تسمى منيا ليس فيها قوة مولدة، بل متولدة ))، ثم تكلم عن السبب في نوع الجنين فقال : (( إن السبب في التذكير هو استيلاء المزاج الذكورى الحار وأسباب ذلك الاستيلاء أما في المادة الرجلية واما في المادة الأنوثية، و أما في مكان الجنين.
والذي في المادة الرجلية وهو الذي في المنى، فأن يكون حارا قهارا، فإنه إذا كان حار المزاج كان الولد ذكرا لما يفيده المنى من الحرارة.
وإذا كان المنى العالق هو الذي أتى من جهة البيضة[89] اليمنى فهو أولى بذلك، لأن اليمنى بالجملة أسخن، والدم الذي يأتيها أنضج، وهو إلى المبدأ أقرب، لأنه يأتي من عرق تحت الكلية من حيث تتصفي عنه المائية كما يعلم ذلك من التشريح.
ولما كان المنى يندفق اندفاقا بعد اندفاق، فليس بمستنكر أن يكون بعضه يمينيا وبعضه شماليا، وبعضه عالقا نافذا، وبعضه ضالا لا ينفذ إلى المعدن.
ولذلك ما قد يكون المنى الآتي من اليسرى مؤنثا لبرد ذلك الموضع ))[90].

و أما أبو الوليد بن رشد الحفيد فيرى على أن مَني الرجل وحده هو السبب الأساسي الفاعل في تكوّن الجنين ، موافقا لأرسطو و منتصرا لرأيه[91] .
و أقول : إنهما أخطآ فيما قالاه عن تكوّن نوع الجنين من جهة ، و خالفا القرآن و العلم معا من جهة أخرى . فمن الناحية الشرعية أولا فلو أنهما عادا إلى القرآن الكريم و تدبرا في الآيات المتعلقة بالجنين تدبراً صحيحا لوجدا فيها ما يُشير إلى خطأ الرأي الذي تبنياه ،و لدلتهما على الصواب . لكنه و للأسف فالرجلان قد اتخذا موقفا إقصائياً من طبيعيات القرآن الكريم ، فأوقعهما ا في أخطاء و مخالفات شرعية كثيرة ، دفعا ثمنها غاليا . فأخطآ فيما قالا به ،و خالفا كتاب الله تعالى من جهة ، و انتصرا بالباطل لرأيهما و موقف شيخهما أرسطو من جهة أخرى .
ففيما يخص دور المرأة في تكوّن الجنين فقد أشار القرآن الكريم إلى أن كلا من الرجل و المرأة له نُطاف يُساهم به في تكوّن الجنين ، فيُكوّن الاثنان نطفة مُختلطة. و هذا يُمكن استنتاجه من قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }الإنسان2-. و النطفة الأمشاج هي النطفة المختلطة المُمتزجة ، كما هو معروف في كتب التفسير [92] .
و مما يُؤكد ذلك و يُوضحه أكثر ، أنه قد صح الحديث عن نبينا محمد – عليه الصلاة و السلام أنه قال : ((ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثى بإذن الله ...))[93] . فالحديث نصّ صراحة على أن كلا من المرأة يُساهم في نوع الجنين من حيث الذكورة و الأنوثة ،و ماء المرأة هذا ليس هو دم الطمث ، لأنه أصفر اللون ،و دم الطمث أحمر كما هو معروف .
و أما فيما يتعلق بنوع الجنين فتوجد في القرآن الكريم آية كريمة من تدبرها جيدا فيجد فيها إشارة رائعة إلى أن الرجل هو المسئول الأول عن نوع الجنين ، و هي قوله سبحانه : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } النجم: ٤٥ - ٤٦ . فالذكورة و الأنوثة سببها النطفة التي تُمنى و هي نطفة مني الرجل ، و الله أعلم .
و ثانيا إنه ثبُت عليما أن المرأة تشارك مشاركة أساسية في تكّون الجنين ، فللرجل ماء يحمل الحيوانات المنوية ،و للمرأة ماء يحمل البويضات . و يحدث التلقيح عندما يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة و يخترقها ، و لا دخل لدم الطمث أبدا في حدوث الحمل . بل الثابت علميا أن نزول دم الطمث هو دليل على عدم حدوث الحمل ،و ليس العكس . و هذا أمر معروف لا يحتاج إلى توثيق .
و أما فيما يخص نوع الجنين فقد ثبُت علميا أيضا أن الرجل هو المسئول الأول عنه ، و لا دخل في ذلك لجهة الحر و لا البرد ،و لا يمين الخصية و لا يسارها . و تفصيل ذلك هو أن الحيوان المنوي للرجل يحتوي بداخله على الصبغي : x ،أو y، . لكن بويضة المرأة تحتوي على الصبغي : x فقط . فإذا اتحد عند الإخصاب : yx فالجنين ذكر ،و إذا اتحد : xx فالجنين أنثى[94] .
و المثال الثاني مفاده أن أبا نصر الفارابي نص على أن أول ما يتكون من أعضاء الجنين هو القلب ، ثم الدماغ ، ثم الكبد ، ثم الطحال ، ثم تتبعها سائر الأعضاء[95] .
و ذكر ابن سينا- في الطبيعيات من كتابه الشفاء- أن أول ما يتكون من الجنين هو جوهر الروح و وعاؤه ، و هذا الجوهر (( مركب من القوى النفسانية، فانه يجب أن يكون أول متكون هو الشيء الذي يجتمع فيه أمران: السهولة والحاجة، وتكوّن الروح أسهل من تكوّن العضو، والحاجة إلى نمو الروح لانبعاث القوة و اشتدادها أمس من الحاج إلى تكوّن الأعضاء؛ أعنى التامة ...)) ، و (( حركة هذه الروح من مبدأ، فيكون لا محالة المبدأ لها هو لقلب )) [96] .
و أشار إلى تحولات المني فقال : ((فأول الأحوال زبدية المنى، وهو من فعل القوة المصورة.
والحال الأخرى ظهور النقطة الدموية في الصفاق، وامتدادها في الصفاق امتدادا ما.
وثالث الأحوال استحالة المنى إلى العلقة، وبعدها استحالته إلى المضغة، وبعدها استحالته إلى تكون القلب والأعضاء الأولى وأوعيتها، وبعدها تكون الأطراف .
ولكل استحالة أو استحالتين معا مدة موقوف عليها ))[97] .

و أقول: أولا إنهما ذكرا بعض مراحل تكوّن الجنين ، لكنهما لم يذكرا أن القرآن الكريم أشار إليها و إلى غيرها . فكان عليهما أن يُشيرا إلى ذلك خاصة و أن ابن سينا استخدم نفس مصطلحات طبيعيات الجنين القرآنية ، كالعلقة و المضغة . فأهملا الإشارة إلى ذلك ، و حرما نفسيهما من الانتفاع الكامل و الصحيح مما ذكره القرآن عن طبيعيات الجنين من جهة ،و أخطآ في جانب مما ذهبا إليه ،و خالفا به القرآن العلم من جهة أخرى . علما بأن القرآن الكريم حدد مراحل نمو الجنين بدقة تضمنت إشارات إعجازية مُذهلة ، تكشفت في عصرنا هذا بجلاء . منها قوله سبحانه : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }المؤمنون14- ، و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }الحج5.
و ثانيا لم يذكر ابن سينا أي دليل صحيح يُثبت بأن الروح و وعاءه هما أول ما يتكون من الجنين . و الصحيح شرعا و علما خلاف ذلك . فأما شرعا فإن المتدبر في الآيات السابقة يتبين له أن الروح و القلب ليسا هما أول ما يتكون من أعضاء الجنين . فقبل أن تنفخ فيه الروح يكون علقة ، ثم مضغة ، ثم تظهر العظام و اللحم . ثم بعدها تُنفخ الروح لقوله سبحانه ((ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) . كما أنه صح قد الحديث النبوي ،و اتفق علماء الشريعة على أن نفخ الروح يكون بعد أربعة أشهر من تكوّن الجنين[98] .
و أما من الناحية العلمية فقد بينت الأبحاث الحديثة ، أن أجنة الحيوانات تكون مُتشابهة في مراحل تكوينها الأولي ، مما يُشير إلى أن الروح لم تُنفخ بعد ، ثم تتغير تدريجيا حسب نوعها و جنسها . و تبين من جهة أخرى أن بداية تكوّن أعضاء الجنين ليست كما ذكرها ابن سينا ،و إنما هي تبدأ في الظهور بوضوح في اليوم الثامن و العشرين من الحمل ، فيبدأ العمود الفقري و المعدة في التشكل ، و تظهر براعم الذراع و الساق . و يتم تشكل أعضائه الرئيسة في اليوم التاسع و الخمسين من الحمل. و أما عملية تكوّن أعضاء الجنين الداخلية و الخارجية فهي كلها تتم في وقت واحد [99].
و المثال الأخير- الثالث - يتعلق بغذاء الجنين في بطن أمه ، و مفاده أن ابن سينا جعل قسما من دم الطمث غذاءً للجنين ، فقال : (( اعلم أن دم الطمث ينقسم ثلاثة أقسام: قسم ينصرف في الغذاء، وقسم يصعد إلى الثدي ، وقسم هو فضل يتوقف إلى وقت النفاس فينتفض )) . و (( والحامل لا تطمث إلا في الندرة، لأن الطمث يتصرف إلى غذاء الجنين، فان طمثت أضعفت الولد ))[100] .
و أقول : أولا قبل انتقاده و التعليق عليه يجب تحديد معنى دم الطمث عنده . يتبين من قوله السابق أن معنى دم الطمث واسع ، و دم الدورة الشهرية عند المرأة - الذي هو دم الحيض - هو نوع من دم الطمث أيضا بدليل قوله : (( والحامل لا تطمث إلا في الندرة، لأن الطمث يتصرف إلى غذاء الجنين، فان طمثت أضعفت الولد ) . و بدليل الشواهد الآتية أيضا : منها أنه وصف دورة الحيض بالطمث في قوله : ((وقد تطمث الرماك طمثا يسيرا في مدد متقاربة ما بين شهرين وأربعة أشهر، وربما تمادى تأخره إلى ستة أشهر )) . و منها قوله: (( والبغلة لا تطمث البتة ... و الكلبة تطمث في كل أسبوع )). و (( والنساء يدركن بالطمث، وحينئذ تظهر أثداؤهن ))، و (( والطمث في أول الأمر دم كدم الذبيح )) . و (( وربما طمثت المرأة بعد ثلاثين ))[101]. فواضح من هذه الأقوال أن دم الحيض هو نفسه دم الطمث ،و إن تنوعت مهامه حسب ما ذكره ابن سينا .
و ثانيا إنه بناء على ذلك فإن ابن سينا قد أخطأ خطأ فاحشا فيما قاله عن دم الطمث ،و هو قول يُثير التقزز و الاشمئزاز . لأن دم الطمث ليس غذاء للجنين ،و لا هو يصعد إلى الثديين ، و لا الدم عامة هو غذاء الجنين . لأنه من الثابت علميا أن الدم ليس هو الغذاء ،و إنما هو يحمل الغذاء و الهواء إلى كل أجزاء الجسم من جهة ،و يحميه و يُنقيه و يُثبت درجة حرارته من جهة أخرى[102] . و دم الطمث ليس دما نقيا ، و إنما هو دم فاسد طرحه الرحم ليتخلص منه عندما لم يحدث الحمل . فهو دم مملوء بالجراثيم و البقايا التي كونت بطانة الرحم لاستقبال الجنين ، فلما لم يحدث الحمل تخلّص منه الرحم[103] . فهذا هو دم الطمث ، و الرجل لم يتكلم بعلم و برهان ،و إنما تكلم بظن و خلفية مذهبية أرسطية .
و ثالثا إن الذي يهمنا هنا أكثر هو أن ابن سينا لو رجع إلى ما ذكره القرآن الكريم حول دم الحيض- الطمث – و تدبّره و تفحّصه جيدا ،و استخدم القياس الصحيح ،لانتفع به ،و جنب نفسه الخطأ ،و لتبين له خطأ موقفه و من وافقه عليه . و تفصيل ذلك هو أن الله تعالى قال في كتابه الحكيم : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }البقرة222- . فواضح من الآية أن دم الحيض – الطمث- أذى ، فهو فاسد مُؤذي و يجب تجنبه،و على الرجل أن لا يُجامع زوجته حتى تطهر و تتطهر . و دم هذا حاله لا يُمكن أن يكون غذاء للجنين ، و لا حليبا للمولود كما زعم ابن سينا !! . لكن الرجل أهمل ما ذكره القرآن ، و أغفله ، و لم ينتفع به فلماذا فعل هذا ؟؟!! .
و النموذج السادس يتعلق بإحساس الجلد ، و مفاده أن ابن سينا نقل قول أرسطو حول إحساس الجلد ، ثم عقّب عليه ،و أهمل ما ذكره القرآن حول إحساس الجلد !! . فذكر أن أرسطو قال : (( قال: والجلد لا حس له إلا أن يكون لحما، وخاصة جلد الرأس لا حس له البتة)) ثم عقّب عليه بقوله: (( والحق أن الجلد إذا خالطه اللحم والعصب كان حساسا، ويشبه أن لا يكون سطحه الظاهر حساسا، لأنه عرى عن العصب ))[104] .
و أقول: أخطأ أرسطو و ابن سينا عندما نفيا أن يكون للجلد وحده إحساس . و أخطأ ابن سينا عندما نفى أن يكون لسطح الجلد إحساس و عصب . لأن الثابت علميا أن الأعصاب بشعيراتها الكثيرة و الدقيقة تغطي كل جسم الإنسان و أطرافها تنتهي عند الجلد بما فيها جلد الرأس الذي أكد أرسطو أنه لا إحساس له , بتلك الشبكة من الأعصاب يحس الإنسان بكل جلده الذي يغطي كامل جسمه[105] .
و ثانيا إن الذي يهمنا هنا هو أن ابن سينا أهمل و أغفل ما ذكره القرآن الكريم حول إحساس الجلد ، و خالفه في جانب مما أكد عليه . قال سبحانه و تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }النساء56- . فواضح من هذا أن ما ذكره القرآن الكريم عن إحساس الجلد يتضمن إشارة إعجازية رائعة من جهة ،و مُخالفة صريحة لجانب أساسي لما ذكره ابن سينا من جهة أخرى ! . فلماذا ذكر موقف أرسطو ، و موقفه هو ، و أغفل ما ذكره القرآن الكريم ،و لا أخذ به ؟! .
و النموذج الأخير- السابع - يتعلق بمصدر تكوّن اللبَن ، و مفاده أن ابن سينا قال عن تكوّن اللبن : (( و أما اللبن فهو فضل من الدم الذي في الروق، و له مائية و جبنية و دسومة ))[106].

و أقول : أولا إن الرجل جانب الصواب في قوله هذا ، لأن اللبن- أو الحليب- ليس دما و لا فضلة منه ،و إن كان طرفا في تكوّنه، و هذا ثابت علميا ،و مكوناته تختلف عن مكونات الدم طبعا . و تفصيل ذلك أنه عندما تقدم (( علم التشريح والأجهزة المكبرة في الآونة الأخيرة ، تتبع العلماء سير الطعام في الأنعام و بحثوا عن كيفية تكون اللبن فوجدوا أن الإنزيمات الهاضمة ، تحوّل الطعام إلى فرث يسير في الأمعاء الدقيقة، حيث تمتص العروق الدموية (الخملات) المواد الغذائية الذائبة من بين ذلك الفرث فيسري الغذاء في الدم، حتى يصل إلى الغدد اللبنية ؛ وهناك تمتص الغدد اللبنية المواد اللبنية (التي سيكون منها اللبن) من بين الدم فيتكون اللبن الذي أخرج من بين فرث أولاً، ومن بين دم ثانياً ))[107] .

و الغدد الثديية هي التي تفرز مكونات اللبن . و تتغذى هذه الغدد ،إذا جاز القول ، بمُنتجات هضم الأغذية التي تأتي إليها بواسطة الدم الدائر . الدم إذا يلعب دور المُحصل و الناقل للمواد المُستخرجة من الأغذية و مُغذي الغدد الثديية مُنتجة اللبن ، مثلما يُغذي أي عضو آخر ))[108] .

و ثانيا إن ابن سينا أهمل ما ذكره القرآن الكريم حول اللبن من جهة مصدر تكوينه و صفاته ، فقال سبحانه : {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }النحل66- ، و {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }المؤمنون21- . فواضح من ذلك أن القرآن الكريم حدد بدقة مصدر تكوّن اللبن من بين الفرث و الدم ، و هذه إشارة إعجازية مُذهلة جعلت الطبيب الفرنسي موريس بوكاي يقول : (( هذه المعلومة المُحددة تُعد اليوم من مُكتسبات الكيمياء و فسيولوجيا الهضم . و كانت غير معروفة مُطلقا في عصر النبي محمد – صلى الله عليه و سلم - . إن معرفتها ترجع إلى العصر الحديث . أما اكتشاف الدورة الدموية فهو من عمل هارفي ،و قد تم هذا الاكتشاف بعد عشرة قرون تقريبا من تنزيل القرآن . إني اعتقد أن وجود الآية القرآنية التي تُشير إلى تلك المعلومات لا يُمكن تفسيره وضعيا،و ذلك بالنظر إلى بعد العصر الذي صيغت فيه هذه المعلومات ))[109] .
فواضح من ذلك أن ابن سينا أهمل ما ذكره القرآن و أغفله و خالفه ، و ما كان له أن يفعل ذلك ، فأخطأ في موقفه الذي تبناه ، و حرَم نفسه من الاستفادة مما ذكره القرآن ، و لم يُجنبها الوقوع في الخطأ . فلماذا فعل ذلك ؟! .
و إنهاءً لهذا المبحث يُستنتج منه أن هؤلاء الفلاسفة – الذين ذكرناهم – كانت لهم آراء و مواقف تتعلق بظواهر طبيعة متنوعة ذكرنا منها سبعة نماذج مُتفرقة ؛ تبين منها أنهم أهملوا طبيعيات القرآن المتعلقة بها من جهة. و أخطؤوا في مواقفهم منها ، و خالفوا بها القرآن و العلم من جهة أخرى .
سابعا : خلود النفس :
نُفرد هذا المبحث- الأخير من الفصل الأول- لموقف الفلاسفة المشائين المسلمين من خلود النفس الإنسانية ، انطلاقا من فلسفتهم من جهة ، و مقارنة بأحوال النفس في القرآن الكريم ،و مدى موافقتهم أو مخالفتهم له من جهة أخرى . و قد جعلتُ هذا المبحث ختاما لهذا الفصل لاعتبارين : الأول هو أن هذا الموضوع له علاقة بما سبق أن ذكرناه عن قول هؤلاء الفلاسفة بأزلية الأنواع و حدوث أفرادها و فنائها . و الثاني هو أني أردتُ أن ألفت نظر القراء إلى أن هؤلاء الفلاسفة كما أنهم خالفوا طبيعيات القرآن الكريم في أصولها و فروعها ، فإنهم أيضا قد خالفوا إلهيات القرآن في أصولها و جزئياتها . ثم بعدها يتساءلون : ماذا بقي لهؤلاء من الإسلام الذي انتسبوا إليه ؟؟!! . و قد اخترتُ منها موضوع خلود النفس كنموذج لذلك من باب التمثيل لا الحصر . و سنورد مواقف هؤلاء الفلاسفة حسب الترتيب الآتي :
أولهم يعقوب الكندي ، تأثر كثيرا بآراء أفلاطون و أرسطو المتعلقة بالنفس: طبيعة و مصيرا[110] ، و بها خالف ما قرره القرآن الكريم مخالفة صريحة . فمن ذلك أنه نصّ على أن النفس جوهرها جوهر من البارئ عز وجل ، كقياس ضياء الشمس من الشمس ،و أنها جوهر إلهي روحاني[111] .

و زعم أن النفس إذا ماتت و فارقت البدن (( علمت كل ما في العالم ، و لم يخف عنها خافية )) . بدليل ما قاله أفلاطون من أن كثيرا من الفلاسفة المتطهرين الذين تركوا شهوات الدنيا ،و تفرغوا للتأمل و البحث في حقائق الأشياء ، انكشف (( لهم علم الغيب ،و علموا بما يُخفيه الناس في نفوسهم ،و اطلعوا على سرائر الخلق )). و هو قد ذكر قول أفلاطون و غيره من دون معارضة ،و إنما قرره و وافق عليه، و مدحه و أثنى عليه [112].

و قال عن النفس أيضا : (( وإذا تجردت وفارقت هذا البدن وصارت في عالم العقل فوق الفلك، صارت في نور الباري، ورأت الباري عز وجل، وطابقت نوره، وجلّت في ملكوته، فانكشفت لها علم كل شيء، وصارت الأشياء كلها بارزة لها، كمثل ما هي بارزة للباري عز وجل؛ لأنا إذا كنا، ونحن في هذا العالم الدنس، قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس، فكيف إذا تجردت نفوسنا، وصارت مطابقة لعالم الديمومية، وصارت تنظر بنور الباري ! فهي لا محالة ترى بنور الباري كل ظاهر وخفي، وتقف على كل سر وعلانية ))[113] .
ثم ذكر قول أفلاطون عن خلود النفس ، و مفاده أن النفس التي تكون في غاية النقاء عندما تموت تلتحق بالعالم الشريف . و التي فيها دنس و خبث تبقى مدة في كل فلك من الأفلاك ابتداء من فلك القمر ، فتتهذب و تتنقى ، و ترتفع من فلك إلى آخر إلى أن تتنقى تماما و تصبح في غاية النقاء ، فترتفع إلى عالم العقل ، و تُطابق نور الباري ، وهناك تصبح تعلم كل شيء ، و يُفوض لها أشياء من سياسة العالم تلتذ بفعلها و التدبير لها . فهو هنا ذكر قول أفلاطون ، من دون انتقاد و لا اعتراض ،و لا إشارة للشرع . بل إنه علّق على كلامه بالمدح و الموافقة و التبجيل بقوله : (( و لعمري لقد وصف أفلاطون ،و أوجز و جمع في هذا الاختصار معاني كثيرة ))[114] .
و رداً عليه أقول: أولا إنه تكلم بلا علم ،و لم يذكر دليلا صحيحا على كل ما قاله ،و خاض في موضوع لا يُمكنه أن يبت فيه بدليل صحيح إثباتا و لا نفيا . فلم يلتزم بمنطق الاستدلال العلمي ،و تجاوزه بظنونه و أهوائه ، و خرج من إطار العلم و تكلم من دونه . و من جهة أخرى أُشير هنا إلى أن موضوع خلود النفس لا يمكن لأي إنسان أن يتكلم فيه بحق و يقين إلا من تكلّم فيه بالوحي الصحيح . و هذا الرجل أغفل الوحي تماما و اعتمد على أوهام و ظنون و خرافات أفلاطون و أرسطو من جهة ، و قال صراحة بما ما يُخالف الوحي من جهة أخرى !! .
و من مخالفاته الصريحة للشرع أنه وصف النفس بأنها جوهر إلهي ، و هذا وصف لا يصح شرعا لأمرين : الأول انه لا يُوجد نص قرآني ،و لا حديثي صحيح وصف النفس بذلك الوصف ، و إنما وصفها بأنها مخلوقة لله تعالى . و الثاني هو أن النفس هي من مخلوقات الله ، و كل ما عدا الله تعالى فهو مخلوق و ليس أزليا ،و لا هو من جوهر إلهي ، و إنما هو من صنع الله و فعله و مخلوقاته . و هذا أمر نصّ عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة جدا ، كقوله سبحانه : {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11- ، و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4} -الإخلاص: ٤-،و{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1- ، و {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ }الزخرف15- .

و منها أنه لا يصح التمثيل الذي ضربه بين الله و النفس و بين الشمس و ضيائها ، لأن العلاقة تختلف ، فهي بين الله و النفس و مخلوقاته الأخرى هي علاقة مخلوق بخالق ، و مفعول بفاعل ، وأما مثاله الذي ذكره فعلاقته هي علاقة مخلوق بمخلوق ،و جزء من كل ، و نتيجة عن مقدمة .

و منها أيضا زعمه بأن النفس حين تموت تعلم كل ما في العالم ،و يُمكنها أن تعلم سرائر الخلق في الدنيا . و هذا زعم باطل ،و كلام بلا علم ، لأن الله تعالى أخبرنا أنه يمسك النفس التي تموت ،و أنه لا أحد من البشر يعلم الغيب ،و وصفهم بعدم علمهم له وصفا مُطلقا و لم يُعلقه بالدنيا ،و لا بالآخرة ، فهو نفي عام يشمل عدم علمهم له مُطلقا في الدنيا و الآخرة معا . قال سبحانه : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42- ، و {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }النحل74- ، و {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }لقمان34- ، و {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }الأعراف188- ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216- ، و {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }النمل65- .

و منها انه قال : إن النفس حين تفارق البدن ترى الله ،و تصبح ترى بنوره ، و هذا قول مخالف للشرع ، لأنه كلام عام غير مُخصص . و الثابت شرعا أن ذلك لن يفوز به إلا المسلمون الأتقياء بعد المعاد الأخروي ،و لا يحصل ذلك لكل نفس تموت ،و لا مباشرة بعد موتها كما زعم الرجل . قال سبحانه : (({كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }المطففين15- ، {21} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{23}- القيامة: 21- 23- . و قد صح الحديث عن النبي –عليه الصلاة و السلام – أن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة[115] .

و ثانيا إن الكندي احتج بكلام لأفلاطون في أمر غيبي من جهة ،و بقول لغيره يتعلق بعالم الدنيا لا يصلح الاعتماد عليه فيما يتعلق بحياة ما بعد الموت من جهة أخرى . فهو ليس إلهَاً و لا نبيا لكي يصح الاحتجاج بقوله . فهو كغيره من أهل العلم يجتهدون بوسائلهم و قدراتهم البشرية محاولة منهم للوصول إلى الحقيقة ، فيجمعون بين الخطأ و الصواب ،و بين الظنون و الأوهام ،و بين الرغبات و التطلعات . و معروف أن أفلاطون مع انه كان مُهتما بالرياضيات إلا أنه كثيرا ما تكلم بلا علم ،و خاض بظنونه و أوهامه في أمور غيبية لا يُمكنه الخوض فيها بحق و يقين أبدا ،و ليس له فيها دليل صحيح من المنطق و لا من العلم . كقوله بعالم المُثل الُخرافي ، و قوله بخرافة بتناسخ الأرواح[116] . و عليه فلا يصح أبدا الاستشهاد بكلام أفلاطون ، و لا بكلام غيره من أهل العلم فيما يتعلق بخلود النفس و أحوالها . فهو أمر غيبي لن يقول فيه كلمة الحق و اليقين إلا الوحي الصحيح .

و ثالثا إنه ليس صحيحا أن الزهد و التطهر و البعد عن شهوات الدنيا توصل صاحبها إلى علم الغيب . فهذا كلام باطل ، نعم إن تلك الصفات قد تسمو ببعض المشاعر الوجدانية ،و تُلطف من حدة المادية في الإنسان ، لكن مع ذلك فلن يستطيع صاحبها أن يعلم الغيب ،ولا أن يأتيه النور الإلهي . بدليل أن الأنبياء-عليهم السلام- الذين هم أرقى البشر روحيا و أخلاقيا ، لكنهم - مع ذلك-لم يكونوا يعلمون الغيب ، لقوله سبحانه : {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }الأعراف188- ، و {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }الأنعام50- ،و. و المُشاهد في أحوال الزهاد و العُباد - قديما و حديثا- يراهم كغيرهم من البشر يُخطئون و يُصيبون ،و لا يعلمون الغيب أبدا .

و رابعا إن هذا الرجل- الكندي- بلغ به ضلاله إلى مخالفة الشرع صراحة ، و اختراع مَعادٍ حسب هواه و رغباته . و كلامه حول مصير النفس بعد مماتها هو مزاعم باطلة لا دليل عليها من العقل ، و لا من الشرع . لكن الغريب من أمر هذا الرجل أنه كيف سمح لنفسه أن يغفل المعاد الأخروي الشرعي و يُخالفه ، ثم يخترع من هواه معادا مزعوما خلفا للمعاد الشرعي ؟؟!! . فماذا بقي له من الإسلام ؟؟ّ ، و ماذا يبقى من الإسلام إذا عطلنا معاده الأخروي ؟ ، فأين الحساب و العقاب ؟!، و أين الجنة و النار التي تحدث عنمها الشرع ؟! . و أين خلود الكفار في النار ؟؟!! . و على أي أساس سمح لنفسه أن يتكلم بلا علم ؟؟! ،و كيف سمح لنفسه أن يخترع و يُلفق معادا مزيفا ضاهى به المعاد الشرعي ؟؟!! . و لماذا هذا الإصرار على مخالفة الشرع ؟! ،و هل مزاعمه من الشرع ، أو من العقل ، أو من العلم ؟؟! ، كلا و ألف كلا ، إنها من ظنونه ، و أهوائه ، و خرافاته !! .

و لماذا لم يُفرق بين المؤمن و الكافر كما فرّق الله تعالى بين عباده ، فجعل الجنة للمؤمنين ، و جهنم للكافرين ؟! . واضح من أقوال هذا الرجل أنه لا اعتبار عنده لهذا المقياس الشرعي ، و إنما الأمر عنده يتوقف على تطهير النفس حتى و إن كانت كافرة مشركة ، بل حتى و إن كانت ملحدة !! .

و واضح من أقوال الكندي أنه جعل الشرع وراء ظهره ، و تكلم بلا عقل صريح و لا علم صحيح ، و استدل برغباته و ظنونه على مزاعمه ، و لم يستدل بشرع ، و لا بعقل ، و لا بعلم . و من الذي قال له : إن النفس إذا تطهرت تصبح لا محالة ترى بنور الله ،وسترى كل ظاهر و خفي ،و تقف على كل سر و علانية ؟؟!! . فمن أين له هذه المزاعم ؟؟! . و من أين له أن النفس المتطهرة أصبحت نفسا إلهية ؟؟!! ، إن هذا هذا افتراء على الشرع و العقل ،و على الناس . لأن الله تعالى نص صراحة على أن الذين يرون بنور الله في الدنيا ليس كل من تطهرت نفسه من الدنس ،و إنما هم المسلمون المؤمنون الصالحون فقط ،و لن ينال ذلك غيرهم في الدنيا و لا في الآخرة . قال سبحانه : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ }النور40- ، و {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }الأنعام125- ،و {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }الحجرات7- ، و {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة257- .

كما أن الله تعالى عندما رزق المؤمنين بالإيمان و أنواره و حلاوته ، فإنه مع ذلك لم يقل : إنهم سيصبحون مثله لهم جوهر إلهي ،و أنهم يعلمون كل شيء ، و إنما نفى ذلك عنهم قطعا . لكن هذا الرجل المريض المحرف يتكلم بلا علم ،و يتعمد التحريف و التضليل ،و مُخالفة ما نص عليه القرآن الكريم .

و الثاني أبو نصر الفارابي ذكر أن (( للنفس بعد موت البدن سعادات و شقاوات ،و هذه الأحوال مُتفاوتة للنفوس ))[117] . و زعم أن النفوس عندما تموت هي على ثلاثة أنواع : الأولى نفس خالدة فاضلة سعيدة بعد موتها، و هي التي عرفت المعقولات السماوية ،و عملت بالفضيلة. و الثانية نفس خالدة شقية ،و هي التي عرفت المعقولات السماوية ،و لم تعمل بالفضيلة . الأخيرة- الثالثة- نفس هالكة فانية ، و هي التي لم تعرف المعقولات و لا الفضيلة[118] .

و أقول : هذا الرجل كالذي سبقه ، تكلم بلا علم ،و خاض في موضوع لا يُمكنه إدراكه ،و لا التثبت منه ، و لا إقامة الدليل الصحيح على وجوده و صدقه . و هذا ليس من الشرع ،و لا من العقل ،و لا العلم . فمن أين له بتلك الأوهام و الظنون التي ذكرها ؟ ، و لو احترم عقله و عقول غيره ما نطق بهذه الأوهام و الخيالات . و هو قد خالف الشرع مخالفات صريحة واضحة ، فتركه وراء ظهره و شرّع بهواه و ظنونه و خلفياته المذهبية خلودا باطلا . فتكلم و كأنه إله له خلوده الخاص به !!!.

و منها إنه أغفل و أبعد الشرط القرآني الذي على أساسه يكون النجاة أو الخسران في الدنيا و الآخرة ، هو: الإيمان بدين الإسلام و العمل بشريعته . لكن الرجل أغفل ذلك ،و جعل محله معرفة المعقولات السماوية ،و العمل بالفضيلة من دون تحديد لها .

و من تلك المخالفات أن من أركان دين الإسلام وجود المعاد الأخروي ، الذي يتم فيه الحساب و العقاب ، ثم بعده يكون الخلود إما في الجنة ، أو في النار . لكن هذا الرجل أغفل كل ذلك ، فلا حشر للأجساد ، و لا معاد و لا حساب يوم القيامة ، و لا جنة و لا نار كما هما في الشرع !!!!! . و إنما اخترع بهواه حياة سعيدة للنفس الأولى ،و حياة شقية للنفس الثانية ، و إعدام و فناء للنفس الثالثة .

و منها إن الشرع جعل الخلود على كل بني آدم بعد مماتهم و بعثهم يوم القيامة . لكن الرجل جعل الخلود مُكتسبا حسب المعرفة و العمل . فصنفان من النفوس يكتسبان الخلود ، و صنف ثالث لا يكتسبه . و هذه مُخالفة صريحة للشرع الذي جعل الخلود أبديا في الجنة ، أو في النار .

و منها أن الشرع نص في عشرات الآيات على وجود النعيم و الشقاء الماديين ، لكن الرجل أغفل كل ذلك ، و ضرب عنه صفحا . علما بأنه أغفل الجانب المادي كلية من جهة نهاية العالم ، و حشر الأجساد ، و من جهة وجوده في الجزاء و العقاب .

و الثالث أبو علي بن سينا ذكر أنه (( لا تعلق للنفس في الوجود بالبدن، بل تعلقها في الوجود بالمبادئ الأخرى التي لا تستحيل ولا تبطل ))[119] . و في كتابه النجاة أشار إلى موقف الشرع من المعاد و حشر الأبدان ، و مدحه . ثم عاد و احتقر اللذات المادية ،و فضل عليها اللذات الروحية . ثم أيد رأيا ينكر المعاد و حشر الأبدان[120] .

و قال أيضا : (( فالمادة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتة، بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذي به كان موضوعا للنفس، أو تخلف النفس فيها صورة تستبقي المادة بالفعل على طبيعتها، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعي كما كان، بل تكون صورة وأعراض أخرى.
ويكون أيضا قد تبدل بعض أجزائها وفارق مع تغير الكل في الجوهر، فلا تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس، والآن هي موضوعة لغيرها ))[121] . و أكد أن النفس لا تموت بموت البدن، و أنه قد (( بَانَ إذن أن النفس الإنسانية لا تفسد البتة ))[122] .


و أقول : إن قوله السابق غير صحيح في معظمه ، و فيه كلام كثير بلا علم ، و مُخالف لما نص عليه القرآن الكريم من أمر النفس مخالفة صريحة ترتبت عنها نتائج خطيرة جدا .

لأنه أولا إن الرجل قرر أمرا مخالفا للشرع بلا دليل صحيح من العقل و لا من العلم ،و إنما قرره انطلاقا من ظنونه و رغبته و خلفيته المذهبية . و هذا ليس دليلا ، و إنما هو زعم و الزعم ليس برهانا و لا يعجز عنه أحد . فمن أين له بأنه لا تعلق للنفس بالبدن ، و إنما تعلقها بالمبادئ الأزلية ؟! ،و نحن نرى في الواقع أنه لا إنسان حي دون بدن و نفس ، فهي مُتعلقة به دون شك . فإذا مات الإنسان غابت عنا نفسه و تحلل جسده ، و لا يُوجد أي دليل عقلي و لا علمي يُثبت قطعا أن نفسه فنيت ، أو لم تفن . فالأمر يحتمل أحد الاحتمالين من دون قطع بأحدهما . فلا يصح له أن ينفي تعلق النفس بالبدن ،و لا أن ينص على أنها مُتعلقة بالمبادئ الأزلية . و لن يُعطي لنا الجواب اليقيني القطعي المتعلق بمصير النفس و أحوالها إلا الوحي الصحيح . و يبقى كلام البشر كلاما ظنيا يحتمل النفي و الإثبات معا ، لأنه لا يُوجد دليل قطعي صحيح – من دون دليل الوحي الصحيح- يُمكنه أن يبت في مصير النفس بعد موتها.


[1] سبق توثيق ذلك في بداية هذا المبحث .

[2] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ص: 4 و ما بعدها .

[3] ابن رشد : تلخيص السماء و العالم ، حققه جمال الدين العلوي ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بفاس ، ص: 188 .

[4] أنظر مثلا ما ذكره الباحث عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 84 و ما بعدها . و فرنكل كلوز : النهاية ، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، 1994 ، ص: 291 و ما بعدها .

[5] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية .

[6] جمال الدين القفطي : : أخبار العلماء بأخيار الحكماء ، ص: 159 . و ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، ج 1 ص: 202 .

[7] عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية ، ص: 178 .

[8] الكندي : الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون و الفساد ، ملحق ، بكتاب الكندي – فلسفته ، مُنتخبات - ص : 169 .

[9] الكندي : الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون و الفساد ، ملحق ، بكتاب الكندي – فلسفته ، مُنتخبات - ص : 169 ، 72 . و زينب عفيفي : نفس المرجع ، ص: 201 .

[10] زينب عفيفي : عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، دار الوفاء، الإسكندرية ، 2002 ، ص: 195 .

[11] الفارابي : رسائل الفارابي ، 136 .

[12] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 ، 131 و ما بعدها . و رسالتان فلسفيتان للفارابي ، تحقيق جعفر آل ياسين ، ط1 ، دار المناهل ، بيروت ، 1987 ، ص: 59 .

[13] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 61 .

[14] الفارابي : رسائل الفارابي ، ص: 139 .

[15] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 84 .

[16] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 66 ، 67 .

[17] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 185 ، 188 .

[18] ابن سينا : عيون الحكمة ، حققه عبد الرحمن بدوي ، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ـ 1980 ، ص: 32 .

[19] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 177 ، و ما بعدها ، 180 .

[20] الشكوك على بطليموس ، ص: 45 ، 46 .

[21] ابن باجة : رسائل جديدة لابن باجة ، نشرها عبد الرحمن بدوي ، ص: 51 .

[22] ابن باجة : رسائل جديدة لابن باجة ، نشرها عبد الرحمن بدوي ، ص: 52 و ما بعدها .

[23] ابن رشد : جوامع الكون و الفساد ، حققه أبو الوفاء التفتزاني ، و يعيد زايد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ،1991 ، ص: 29 .

[24] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، تحقيق أسعد جمعة ، ص: 17 و ما بعدها ، 238 ، و ما بعدها .

[25] ابن رشد : رسالة السماء و العالم و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم و جيرار جهامي ، ص: 34 .

[26] أرسطو : كتاب الطبيعة ، حققه عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة ، القاهرة ، 1965 ، ج 2 ص: 845 و ما بعدها. و ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 125 ، 131 ، 132 . و ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1958 ، ص: 84، 99 . أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحقة بكتاب أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 ، ص: 3 ، 4 . و أرسطو : مقالة الجما من كتاب ما بعد الطبيعة ،، ملحقة بكتاب الميتافيزيقا لإمام عبد الفتاح إمام ، ص: 267 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، د ت ، ج 2 ص: 192 .

[27]أرسطو : مقالة اللام ، ص : 3 ، 4 . و ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 352، 353 ، و تلخيص ما بعد الطبيعة ، حققه عثمان أمين ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ،1958 ، ص: 154 . . و ماجد فخري: أرسطو المعلم الأول ، ص: 56، 57 ، 98، 99 ، 84 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 114 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 205 .

[28] ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 56 ، 57 ، 98 ، 99 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 119 ، 120 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 175 .

[29] أرسطو : مقالة الدال ، ص: 356 . ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 356 ، 357 .و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 55 ، 100 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ،ج 2 ، ص: 240 .

[30] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[31] أنظر مثلا : عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 64 و ما بعدها .

[32] أنظر: الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الماء ، و الهواء ، و الغاز .

[33] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 ، 131 و ما بعدها . و رسالتان فلسفيتان للفارابي ، تحقيق جعفر آل ياسين ، ط1 ، دار المناهل ، بيروت ، 1987 ، ص: 59 .

[34] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 61 .

[35] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الشهاب .

[36] نفس المرجع ، مادة : الشمس .

[37] أنظر مثلا : عبد المجيد الزنداني: علم الإيمان ، ص : 24 .

[38] فرانك كلوز : النهاية ، ص: 46 و ما بعدها ، 86 ، و ما بعدها ، 214 و ما بعدها ، 227 و ما بعدها .

[39] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية ، موجودة في الأقراص ،و في موقعها على الشبكة المعلوماتية .

[40] زغلول النجار : إنزال الحديد ، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة ، موقع : www.55a.net

[41] فرنكل كلوز : النهاية ، ص: 48 ، 183 .

[42] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 84 .

[43] أنظر : سام تريمان : من الذرة إلى الكوارك ، ترجمة أحمد فؤاد باشا ، عالم المعرفة ، الكويت ، رقم 327 ، سنة 2006 .

[44] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61 ، 62 .

[45] ابن سينا : النجاة ، ص: 224 و ما بعدها .

[46] ابن سينا : النجاة ، ص: 224 و ما بعدها .

[47].: ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص : 46 .

[48] ابن باجة : رسائل ابن باجة ، ص: 36 . عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية ، ص: 90 .

[49] ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص : 50 .

[50] ابن رشد : ما بعد الطبيعة ، تحقيق رفيق العجم ، ص: 163 ، 164 .

[51] ابن رش: تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو ، ط 1 ، دار إدريس ، دمشق ، 2007 ، ج 3 ص: 348 زينب عفيفي : العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية ، ص: 82 ، 83 .

[52] ابن رشد : ، ما بعد الطبيعة ، ط1 ،، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 142، 143 ، 147 ، 148 .

[53] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 353 .

[54] ابن رشد : تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو ، ملحق قسم منه بكتاب تاريخ الفلسفة العربية ، لجميل صليبا ، ص: 530 و ما بعدها .

[55] أنظر : عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 36 و ما بعدها .

[56] للتوسع فذي ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[57] للوقوف على ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[58] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 69 .

[59] الفارابي : رسالتان فلسفيتان ، ص: 64 .

[60] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 188 .

[61] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ص: 240، 241، 242 و ما بعدها ، و هامش : 5 من ص: 243 .

[62] ابن رشد : الآثار العلوية ، ص: 16 .

[63] عبد الدائم الكحيل : برنامج موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية ، و البرنامج موجود على الشبكة ، و موجود أيضا في موقع عبد الدائم الكحيل : www.kaheel7.com . و أُشير هنا إلى أن السيد عبد الدائم الكحيل هو رجل مُتخصص في مجال الإعجاز العلمي ، و له في ذلك أبحاث قيمة ، و هو مهندس في الهندسة الميكانيكية . أنظر سيرته الذاتية في الموقع .

[64] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : النجمة .

[65] نفسه .

[66] نفسه .

[67] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية .

[68] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 27 و ما بعدها .

[69]انظر : ابن منظور الإفريقي: لسان العرب ، ط1 ، بيروت ، دار صادر ، ، ج 2 ص: 279 . و أبو بكر الرازي: مختار الصحاح ، ط4 ، الجزائر ، دار الهدى ، 1990 ، ص: 124، 131 . و القرطبي : تفسير القرطبي ،حققه احمد البردوني ، ط2 ، القاهرة ، دار الشعب ، 1372 ، ج 13 ، ص 65 ، ج 19 ص: 172 . و الطبري : تفسير الطبري ،بيروت ، دار الفكر ، 1405 ، ج 30 ص : 4 . البيضاوي: تفسير البيضاوي، ج5 ص: 439 .

[70] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط3، القاهرة ، دار الشروق ، ص : 98 . و عبد العليم خضر : المنهج الإيماني في الدراسات الكونية ، ط1، الرياض، الدار السعودية ، 1404 ، ص: 8-9 . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة الشمس .

[71] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 29 .

[72] عبد الدائم الكحيل : موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية . و الصورة بالألوان تظهر الشمس مُسعرة مُلتهبة.

[73] نفسه .

[74] ابن رشد : الآثار العلوية ، حققه سهير فضل الله ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1994 ، ص: 29 . و : رسالة السماء و العالم و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 35 .

[75] رسالة السماء و العالم ، و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ص: 47-48 .

[76] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 75 .

[77] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الأرض .

[78] الفارابي: رسائل الفارابي ، سلسلة مكتبة الأسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2007 ، ص: 135 .

[79] ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج 1 ص: 283 .

[80] أنظر مثلا : عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 11 و ما بعدها . و آن هوايت : النجوم ، ترجمة إسماعيل حقي ، دار المعارف ، القاهرة ، 1992 ، ص: 14 و ما بعدها .

[81] هو قسم من كتابه الشفاء .

[82] ج 1 ص: 269 و ما بعدها .

[83] أنظر : عبد العليم عبد الرحمن خضر : المنهج الإيماني للدراسات الكونية في القرآن الكريم ، ط1 ، الدار السعودية ، الرياض ، 1984 ، ص: 441 و ما بعدها .

[84] منهم العالم الجيولوجي زغلول النجار ، و كتابه منشور و متداول بين أهل العلم .

[85] ج 1 ص: 278 و ما بعدها .

[86] أنظر مثلا : عبد العليم عبد الرحمن خضر : الظواهر الجغرافية بين العلم و القرآن ، ط1 ، الدار السعودية ، الرياض ، 1984 ، ص: 19 و ما بعدها .

[87] ابن سينا : عيون الحكمة ، ص: 34 .

[88] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الينبوع .

[89] يقصد الخصية .

[90] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 466 .

[91] نقلا عن محمد عابد الجابري: ابن رشد : سيرة و فكر ، ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2001، ص: 235، 236 .

[92] أنظر مثلا : ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، : دار طيبة للنشر والتوزيع ، السعودية ، 1999 ، ج 6 ص: 594 ، ج 8 ص: 285 .

[93] مسلم : الجامع الصحيح ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي – بيروت ، رقم الحديث : 315 ج 1 ص: 252 .

[94] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الوراثة .

[95] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 96 ، 98 .

[96] ص: 469 .

[97] نفسه ، ص: 473 .

[98] ابن حجر : فتح الباري ، ط 2 ، دار المعرفة ، بيروت ، ج 6 ، ص: 343 ، 344 ، 347 .

[99] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : التكاثر البشري .

[100] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 474 ، 459 .

[101] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 442 ، 459 ، 460 .

[102] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الدم ، القلب .

[103] أنظر مثلا : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الحيض ، الحمل .

[104] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 426 .

[105] أنظر : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الجلد ، الأعصاب ، الإدراك .

[106] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 428 .

[107] عبد المجيد الزنداني : توحيد الخالق ، ص: 271 .

[108] موريس بوكاي : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ، ط 4 ، دار المعارف ، لبنان ، 1977 ، ص: 223 .

[109] نفسه ، ص: 223 -224 .

[110] عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية ، ص: 183 ، و ما بعدها. و على أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص: 229 و ما بعدها .

[111] الكندي : رسالة الكندي في النفس المختصرة من كاب أرسطو و أفلاطون و غيرهما ، ملحقة بكتاب الكندي ، لعبد الرحمن مرحبا ، ص: 182 .

[112] الكندي : رسالة الكندي في النفس المختصرة من كاب أرسطو و أفلاطون و غيرهما ، ملحقة بكتاب الكندي ، لعبد الرحمن مرحبا ، ص: 183 ، و ما بعدها .

[113] الكندي : رسالة الكندي في النفس المختصرة من كاب أرسطو و أفلاطون و غيرهما ، ملحقة بكتاب الكندي ، لعبد الرحمن مرحبا ، ص: 187 .

[114] نفسه ، ص: 187 . و على أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص: 229 و ما بعدها . عبد الرحمن بدوي: الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية ، ص: 183، و ما بعدها

[115] البخاري : الصحيح ، ج 6 ص: 44 .

[116] أنظر: الموسوعة العربية العالمية ، مادة : أفلاطون .

[117] الفارابي : رسائل الفارابي ، ص: 142 .

[118] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 131 و ما بعدها ، 135 و ما بعدها ، 142 و ما بعدها ، 146 و ما بعدها . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص : 235 و ما بعدها .

[119] ابن سينا: الطبيعيات ، ص: 246 .

[120] ابن سينا : النجاة ، ص: 239 و ما بعدها .

[121] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 306 .

[122] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 247 ، 389 .

  رد مع اقتباس
قديم 16-11-2013 ~ 05:44 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 3
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


فمن أين له أن النفس عندما تموت تتصل بالمبادئ الأخرى التي لا تستحيل و تبطل- أزلية- ؟! ، و ماذا يقصد بالمبادئ الأخرى الخالدة ؟، و ما هو دليله على وجودها ؟ ، و لماذا لم يُفصل في ذلك ؟؟!! . إن هذا الرجل خطير جدا ، فهو فيلسوف أرسطي مشائي يُؤمن بخرافات أرسطو و أصحابه المتعلقة بالنفس الكلية و علاقتها بالعقول الإلهية الموجودة في الأجرام السماوية حسب زعمهم [1] . لكنه لم يُفصح عن ذلك صراحة ، و إنما استخدم ألفاظا مُجملة قد تحتمل أكثر من معنى ، كما أنها لا تُثير السامع الذي لا علم له بفلسفة أرسطو و المشائين من بعده . فعل ذلك لغاية في نفسه لا تخفى عن الناقد العارف بفلسفة أرسطو و أصحابه .

و ثانيا إن هذا الرجل طرح هنا إلهياته الأرسطية المتعلقة بالنفس بطريقة فيها تدليس و تمويه ،و نص من خلالها على أمر باطل مُخالف للشرع من جهة . و أهمل ما يُخالفه من دون أي ذكر له من جهة أخرى . فلو عاد إلى ما قرره الشرع و أخذ به لَما أخطأ فيما قال به ،و لََما خالف ما قرره القرآن الكريم حول النفس و علاقتها بالبدن: نشأة ، و موتا ، و قيامة . فمن المعروف أن القرآن الكريم أكد في عدة آيات على أن الإنسان روح و جسد ، و أن نفسه مُتعلقة ببدنه ،و أنه عندما يموت في الدنيا فإن الله تعالى يُمسك نفسه ، ثم تعود إلى بدنها يوم القيامة . ثم يكون المعاد الأخروي ، فإذا دخل الإنسان الجنة فإنه يتمتع فيها بنفسه و بدنه ،و إذا دخل جهنم فإنه يتعذب فيها بنفسه و بدنه ، و هناك يكون الخلود الأبدي نفسا و بدنا. و كلامنا هذا هو من بديهيات دين الإسلام و أركانه ، أكدته نصوص شرعية كثيرة جدا ، كقوله تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42- ،و {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة25- ، و {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }النساء56- ،و {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ }غافر72- .

فواضح من ذلك أن القرآن الكريم أكد على أن العلاقة بين النفس و البدن هي علاقة أبدية ،و إنما تفارقه عند الموت مؤقتا فقط ، ثم تعود إليه يوم القيامة و المعاد الأخروي ، ثم لا تفارقه أبدا . لكن ابن سينا أغفل ما قرره القرآن الكريم و قرر خلافه ، و أخذ بأوهام و خرافات الفلاسفة المشائين المتعلقة بعلاقة النفس بالبدن و مصيرها بعد موتها . فعندهم أنه لا علاقة خلود بين النفس و البدن ،و لا معاد أخروي ،و لا حساب و لا عقاب ،و لا رجوع إلى الله تعالى !! . فعجبا منه كيف رضي لنفسه و عقله بهذا الموقف المخالف لكتاب الله تعالى ؟؟!!.

و أما احتقاره للذات المادية و تفضيله للذات الروحية ، فهو موقف لا يصح ، لأن الإنسان – بما أنه روح و مادة- فلا بد له من اللذتين المادية و الروحية من جهة ؛ و ليس من الحق و لا من العدل ،و لا من العقل إبعاد و احتقار أحدهما من جهة أخرى . و هما نوعان متكاملان في إسعاد الإنسان ، و هما غير متساويين ، و لا متناقضين حتى نعمل على إبعاد أحدهما . و الصحيح هو أنه على الإنسان أن يطلب اللذات المادية و النفسية الحلال ،و يتجنب الحرام . كما أنه ليس من العدل أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا بنفسه و جسده ، و يقوم بالأعمال المادية و الروحية معا ؛ ثم عندما يموت لا تخلد إلا نفسه ،و لا يُعاقب و لا يُجازى إلا من الناحية الروحية !!! . فهذا ظلم ، و مرفوض عقلا و شرعا .

و من غرائبه أيضا أنه بعدما قرر كلامه السابق ،و ذكر أمورا أخرى تندرج فيه قال : ((فقد بَانَ إذن أن النفس الإنسانية لا تفسد البتة، وإلى هذا سقنا كلامنا والله الموفق ))[2] . و قال في كتابه النجاة : إن النفس ((لا تموت بموت البدن ولا تقبل الفساد أصلاً ))[3] . فليس صحيحا أن النفس لا تفسد ، فهذا زعم باطل و كلام بلا علم ، لأن كل مخلوق قابل للفساد ،و بما أن النفس مخلوقة دون شك فهي قابلة للفساد بالضرورة . و إنما الله تعالى هو الذي أخلدها بإرادته و قدرته ،و ليست هي خالدة من ذاتها ، و هو سبحانه قد أخلدها و لم يجعلها أزلية مثله ،و إلا أصبحت إلهَاً ، فلا أزلي و لا أبدي إلا الله تعالى . كما أن ابن سينا أغفل ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم و قرر خلافه ، ثم عندما أنهى كتابه ختمه بدعاء (( و الله الموفق )) !! . فكيف يُوفقه الله و هو مُغفل لكلامه و مُخالف له ؟؟!! ، ألم يستحي من نفسه و من الله تعالى ؟؟!!. ، ألم ينتبه إلى التناقض الذي هو فيه ؟؟!! .

و ثالثا أُشير هنا إلى إن ابن سينا أهمل ما ذكره القرآن الكريم حول علاقة النفس بالبدن بعد الموت و إعادته إليها يوم القيامة من جهة ، و لم يذكر اعتراضات الكفار حول إعادة الجسم للنفس و رد القرآن الحاسم عليهم من جهة أخرى . فكان من الواجب عليه أن لا يُهمل ذلك و لا يُغفله . فالقرآن الكريم ذكر بعض اعتراضات الكفار و رد عليها ، كقوله تعالى :( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ{78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ{79} - يس: ٧٨ – ٧٩- ، و ا{ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } لقيامة: ٣ – ٤ . فواضح من ذلك أن الله تعالى سيُحيي الناس بنفوسهم و أجسادهم كما كانوا قبل موتهم . و عليه فلا يحق لابن سينا أن يغفل ذلك من جهة ،و يُثير الشبهات و ينتصر لها بالباطل من جهة أخرى . فلماذا فعل هذا ؟! .

و رابعا إن اعتراضات ابن سينا هي شبهات و مغالطات و ليست أدلة و لا براهين مقنعة و لا صحيحة ، و لا هي من العقل الصريح في شيء . لأن أجساد البشر هي في الأصل مادة واحدة مخلوقة من التراب ، كما في قوله سبحانه : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }الروم20- . فعندما يموت الناس تتحلل أجسادهم و تصبح ترابا ،و التراب أسبق في الوجود من خلق الإنسان ، و هو كثير جدا و لا ينتهي بخلق كل أجساد البشر و إن بلغ عددهم أرقاما خيالية، و حتى و إن انتهت جدلا ، فالله تعالى سيخلق مثلها لتكفي كل النفوس . فَتَحلل الأبدان لا يمنع من إعادة إحيائها و عودتها إلى أجساد البشر ، فهي بما أنها ذات أصل واحد فما إن تعود النفس إلى الجسد فيصبح التراب هو جسدها الذي كانت عليه . و لهذا نجحت في زماننا هذا عمليات نقل أعضاء من إنسان إلى آخر، لأن مادتها واحدة ،و تمت بين إنسان و إنسان . و لهذا قال سبحانه و تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }النساء56- .
و الرابع هو أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة ، اتبع طريقة إخوانه الفلاسفة المشائين ، فنصّ على أن عقل الإنسان له البقاء الدائم[4].
و أقول: كلامه هذا فيه مخالفة صريحة لما نص عليه الشرع حول خلود الإنسان . لأنه من المعروف من دين الإسلام بالضرورة أن الإنسان عندما يموت يُبعث يوم القيامة من جديد بنفسه و جسده ،و روحه و عقله. و بهذه المكونات كلها يخلد الإنسان إما في الجنة ، و إما في النار بعد الانتهاء من الحساب . لكن هذا الرجل يفترى على نفسه و على الناس ، فقرر –و كأنه إله ، أو نبي- بأن العقل وحده هو الباقي الدائم ، فمن أين له أنه لا بقاء إلا للعقل ؟! ، و أين البعث الجسدي و المعاد الأخروي ؟؟!! ،و لماذا أغفل عشرات النصوص الشرعية التي تُقرر خلاف زعمه ؟؟!! . و لماذا ترك تلك النصوص وراء ظهره و قرر خلافها ،و أخذ برأي إخوانه المشائين ؟! .
و آخرهم – الخامس - أبو الوليد بن رشد ، عبر عن خلود النفس بخلود العقل كما فعل ابن باجة في قوله السابق . فالعقل عنده هو الخالد في الإنسان ،و هو (( واحد و غير مُتكثر بتكثر الناس ))[5] . و قال : (( أما زيد فهو غير عمرو بالعدد ، و هو و عمرو واحد بالصورة و هي النفس ... فإذا كانت النفس ليس تهلك إذا هلك البدن ، و كان فيها شيء بهذه الصفة ، فواجب إذا فارقت الأبدان أن تكون واحدة بالعدد ،و هذا العلم لا سبيل إلى إفشائه في هذا الموضوع ))[6] .

و أقول : أولا إن كلامه هذا مخالف للشرع في معظمه، و فيه كلام بلا علم، و رجم بالغيب ،و فيه تغليط و تدليس . فمن مخالفاته للشرع أنه نص على أن الخلود لا يكون إلا للعقل ، و هذا باطل شرعا ، لأنه من المعروف من دين الإسلام بالضرورة أن الخلود النهائي يكون للإنسان ككل ، بروحه و بدنه ،و عقله و نفسه .

و منها أنه زعم أن العقل الخالد- النفس أو الروح- واحد غير مُتكثر بتكثر الناس . و هذا مخالف للشرع صراحة ، لأن من الثابت شرعا أن الله تعالى خلق نفوس البشر من نفس واحدة ، ثم خلقها خلق تعدد و تفرّد ، فكل نفس لها ذاتيتها . فهو سبحانه لم ينسخ نفوس البشر نسخا عن نفس آدم - عليه السلام - ، و إنما خلقها خلقا مستقلا ، و جعل كل نفس مسؤولة عن أعمالها و مصيرها ،و ستقف كل نفس أمام ربها في المعاد الأخروي تجادل عن نفسها و تدافع عنها . قال سبحانه : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1- ، و{وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281- ، و{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }آل عمران25- ، و {لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }إبراهيم51- ،و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }المدثر38- .

علما بأن قوله بالعقل الواحد الكلي تعود أصوله إلى كليات أفلاطون الخرافية المعروفة بعالم المُثل من جهة . و قوله بهذه الخرافة يستلزم إنكار البعث و الحشر ، و المعاد و الحساب ، و الجنة و النار من جهة أخرى .

و الغريب من أمر هذا الرجل أنه قال: فإذا كانت النفس ليس تهلك إذا هلك البدن ، و كان فيها شيء بهذه الصفة ، فواجب إذا فارقت الأبدان أن تكون واحدة بالعدد ،و هذا العلم لا سبيل إلى إفشائه في هذا الموضوع ))[7] . فجعل كون النفس واحدة بعد الموت هو أمر واجب ، و هذا كلام باطل ، و لا يُوجد أي وجوب شرعاً و لا عقلا . فمن أين له هذا الوجوب المزعوم ؟؟!!، و نحن نطالبه بالدليل الصحيح من العقل ، أو من الشرع ، أو من العلم ، أو من كلها . إنه لن يحصل عليه أبدا ، و إنما هو أوجب ذلك بناء على أوهام و خرافات الفلسفة المشائية التي يُؤمن بها . و هذه الفلسفة ليست حجة بذاتها ، و ليس لديها دليل صحيح يُثبت زعمها ،و إنما قالت ذلك معتمدة على الظنون و الأوهام ، و الأهواء و الخرافات التي قال بها أرسطو و أصحابه المتعلقة بإلهياتهم . و نحن نرفضها بالدليل الشرعي و العقلي معا .

فأما شرعا فالأمر واضح سبق أن ذكّرنا بموقف دين الإسلام فيما يتعلق بخلود النفس ،و المعاد الأخروي و ما يترتب عنه . و أما عقلا ، فيكفي أن نقول: هؤلاء تكلموا في أمر غيبي لا يُمكنهم إدراكه بذاته و لا بآثاره ،و لا التأكد منه نفيا و لا إثباتا . و في هذه الحالة يجب التوقف نهائيا عن الخوض في هذا الموضوع نفيا و إثباتا . و إما الخوض فيه من باب الظن و الاحتمال ،و الاجتهاد ، ففي هذه الحالة لا يصح الخروج بموقف قطعي ،و لا يقيني يُعتمد عليه ،و يُحتكم إليه من جهة ،و يجب الخوض فيه بالعقل الصريح لا بالأهواء و الظنون من جهة أخرى . لكن ابن رشد و أصحابه خالفوا ما يقوله العقل الصريح ، و حوّلوا الظن إلى يقين من دون دليل صحيح ، و بنوا عليه أفكارهم حتى وجدنا ابن رشد يقول : ((فواجب إذا فارقت الأبدان أن تكون واحدة بالعدد )) !!!! . فكيف سمح لنفسه بهذا الاستنتاج اليقيني المبني على الظن و الاحتمال ، و المخالف للشرع أيضا ؟؟!! .

و الغريب من أمر هذا الرجل أيضا أنه كشف ما في نفسه عندما قال : ((و هذا العلم لا سبيل إلى إفشائه في هذا الموضوع ))[8] . فلماذا لا يُفشى ؟! ، فإذا كان صحيحا فهو بالضرورة أنه يتفق مع الوحي الصحيح ، العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، و في هذه الحالة يجب إظهاره ، و لا خوف من إفشائه ،و لا يصح كتمانه . و إذا كان باطلا فهو بالضرورة أنه يُخالف الوحي الصحيح ، العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، و في هذه الحالة يجب رفضه ،و إظهار بطلانه للناس ،و لا يصح كتمانه ،و لا الدفاع عنه . لكن بما أن ابن رشد لم يفعل ذلك ، فهذا يعني أنه كان يتبنى موقفا غير صحيح ، و مُخالف للشرع ، لهذا تحاشى التفصيل في موقفه ،و قال : ((و هذا العلم لا سبيل إلى إفشائه في هذا الموضوع )) . فعل ذلك لكي لا ينكشف الأمر انكشافا واضحا لا لُبس فيه ،و يتبين للناس حقيقة ما كان يعتقده هذا الرجل من عقائد تخالف دين الإسلام مخالفة صريحة نو تنقضه نقضا .

و من مغالطاته أيضا أنه قال : (( أما زيد فهو غير عمرو بالعدد ، و هو و عمرو واحد بالصورة و هي النفس )) . فهذا الرجل الذي يدعي المنطق – كأصحابه المشائين- يُمارس التغليط و السفسطة ، و يتعلق بالظن و يترك اليقين . و تفصيل ذلك هو أن الحقيقة هي أن زيد غير عمرو ليس بالعدد ،و إنما ليس هو أولا بالنفس ، ثم ليس هو بالعدد ثانيا. لأن تباينهما سببه التباين في النفس ، بمعنى أن لكل منهما نفسه التي يتميز بها ،و هذا ثابت و معروف لدى كل الناس . و كل إنسان منا يحس من داخله ، بأنه يختلف عن غيره من البشر بذاتيته .

و بناء على ذلك لا يصح قوله : (( و هو و عمرو واحد بالصورة و هي النفس )) . فهذه نتيجة لا تتفق مع المقدمة أبدا ،و لا يصح استنتاجها منها بأي حال من الأحوال . فبما أننا أمام إنسانيين : زيد ،و عمرو ، فنحن أمام نفسين بشريتين مُتباينتين ، و من ثم لا يُمكن أن يكون 1+1 = 1 . نعم نحن أمام بشر ، لكن لسنا أمام نفس واحدة أبدا . و أما حكاية الصورة التي ذكرها ابن رشد فلا تصح هنا ، فنحن أمام صورتين لبشرين ، و لسنا أما صورة لبشرين ، و أما الصورة الخيالية الكلية التي قال بها أفلاطون ، أو الصورة التي قال بها أرسطو فهي من خرافات هؤلاء و أصحابهما .

و بما أنه من الثابت عقلا و شرعا ، و واقعا و علما أن البشر الذين نراهم كل واحد منهم يمثل نفسه بذاته و صفاته ،و لا يُمكن أن يُمثل نفوس الآخرين من بني آدم . فإنه لا يصح القول بأن هذه النفوس المتباينة تمثل نفسا واحدة . و القول به يُمثل تناقضا صارحا ، و لا يصح القول : إن 20 نفسا متباينة تساوي نفسا واحدة !! . فهذا هو الذي يقوله الشرع و العقل و العلم ، و أما قول ابن رشد ، بأن النفوس تصبح نفسا واحدة بعد الموت ، فهو لا يصح بما قلناه ،و هو تعلّق بالأوهام و الظنون ، و قول بلا علم ، و لا يُوجد أي دليل يثبت ذلك أبدا ،و لا يصح شرعا ،و لا عقلا ، و لا علما ترك الشواهد المادية الملموسة و التمسك بالظنون و الأهواء .

و إنهاءً لهذا المبحث يتبين منه أن قول هؤلاء الفلاسفة بخلود النفس ، هو قول مخالف للخلود الشرعي مخالفة صريحة . فخلودهم هو خلود أقاموه على فلسفة أرسطو الدهرية الشركية ،و لم يُقيموه على القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة . و خلودهم المزعوم لا قيامة فيه و لا حشر ،و لا معاد فيه و لا حساب ،و لا جنة فيه و لا نار كما ذُكرتا في دين الإسلام . و خلودهم المزعوم لا يقوم على أساس الإيمان بدين الإسلام و العمل به، و إنما يقوم على أساس معرفة فلسفتهم و معقولاتها السماوية و عمل الفضيلة .

و ختاما لهذا الفصل- الأول- يُستنتج منه أن الفلاسفة المسلمين- الذي ذكرناهم- قد خالفوا طبيعيات القرآن الكريم مخالفة صريحة في أصولها و فروعها من جهة . و حرموا أنفسهم من الاهتداء و الانتفاع بها في مختلف مواضيع الطبيعيات من جهة أخرى . و قد ذكرنا على ذلك نماذج كثيرة جدا ، منها ما تعلق بموضوع خلق الكون و أزليته ، و منها ما تعلق بالعناصر المكونة للعالم ،و العقول المفارقة المزعومة ،و منها ما تعلق بالشمس و الكواكب ،و مواضيع أخرى . فتبين منها – بما لا يدع مجالا للشك – أنه هؤلاء تعمدوا مخالفة طبيعيات القرآن الكريم.

و اتضح منه أيضا أن هؤلاء الفلاسفة قالوا بمعادٍ غير شرعي، أقاموه على أهوائهم و ظنونهم ،و اتخذوه بديلا عن المعاد الأخروي الشرعي . فلم يقولوا بالخلود القرآني ، و إنما قالوا بخلود خرافي لا قيامة فيه و لا معاد . فماذا بقي لهؤلاء من الإسلام بعدما خالفوا القرآن في طبيعياته و إلهياته ؟؟!! . و ما هي الأسباب التي أوصلتهم إلى مخالفته ؟! ،و ما هي الآثار التي نتجت عن مخالفتهم لطبيعيات القرآن الكريم ؟! .






















الفصل الثاني
آثار و أسباب مخالفة الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم

أولا: آثار واستنتاجات من مخالفات هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن:
ثانيا : أسباب مخالفة هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن
ثالثا : اعتراضات و ردود



آثار و أسباب مخالفة الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم

نُخصص هذا الفصل- الثاني و الأخير- للبحث عن الآثار التي نتجت عن مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم ، و عن الأسباب الخفية و الظاهرة ،و الأساسية و الثانوية التي جعلتهم يقعون في تلك المخالفات . و سنركز أيضا على استخراج و إبراز أهم الاستنتاجات التي يُمكن استنتاجها من بحثنا هذا ، و بالله التوفيق .

أولا: آثار واستنتاجات من مخالفات هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن:
نُجمل الآثار و الاستنتاجات المُستخرجة من مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم في النقاط المركزة الآتية[9] :

أولا إنهم خالفوا طبيعيات القرآن الكريم مخالفات صريحة لا لُبس فيها ، شملت أصولها و فروعها . و بمخالفتهم لها فهم قد أخطئوا و خالفوا الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . فلا للشرع التزموا ، و لا للعقل اتبعوا ، و لا العلم وافقوا ،و لا للحقيقة أصابوا . فساهموا بذلك في نشر طبيعيات اليونان ،و استمرار هيمنتها من جهة ؛ و إبعاد طبيعيات القرآن الكريم من علوم الطبيعة من جهة ثانية ؛ و تأخير ظهور الطبيعيات الصحيحة الحديثة التي ستقوض معظم طبيعيات اليونان من جهة ثالثة .

و ثانيا إنهم خالفوا دينهم مخالفات صراحة في أصوله و فروعه ،و أدخلوا أنفسهم في صراعات داخلية ،و أوقعوها في تناقضات مع ذواتها و عقولها . فكانوا في تناقض رهيب لا يقبله العالم النزيه و الصريح مع نفسه و الناس . لكن الظاهر من حالهم أنهم لم يُبالوا مما كانوا فيه من تناقضات و تخبطات ، فكانوا راضين على أنفسهم و مواقفهم التي اتخذوها من طبيعيات القرآن الكريم . و زيادة على ما ذكرناه من تناقضاتهم اذكر هنا مثالا آخر يتعلق بابن رشد الحفيد ، و مفاده أن هذا الرجل – في كتابه ما بعد الطبيعة- ذكر صراحة أن الأجرام السماوية أزلية ، و وصفها بأنها إلهية ، و أن بداخلها عقولا مفارقة شريفة أزلية هي التي تُحركها و تعطيها صورها . ثم في موضع آخر وجدناه يستشهد بآية قرآنية تأييدا لما قاله ، فقال : (( و إلى هذه الإشارة بقوله عز وجل : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }الأنبياء22- .

و أقول : فيا للعجب من هذا الرجل- و أمثاله- إنه متناقض مع نفسه ، و أمره غريب جدا ، فهو إما أنه لا يعي ما يقول، أو أنه يتعمد قول ذلك لغاية في نفسه . إنه خالف الشرع مرارا في أصول الدين و أركانه ،و أنكر ما هو معروف منه بالضرورة كقوله بأزلية العالم و عدم نهايته ، و إنكاره للمعاد الشرعي ، ثم هو هنا يأتي و يقول : ((و إلى هذه الإشارة بقوله عز وجل )) . فلماذا لم يعد إليه و يأخذ به عندما خالفه صراحة و أنكر بعض أركانه ؟؟!! . و هل يصح في العقل و الشرع أن إنسان يُؤمن بأن القرآن كتاب الله ثم يهمله و يُخالفه في أركان الدين مخالفة صريحة مُتعمدة ؟؟!! .

و من تناقضاته أيضا أنه قال بتعدد الآلهة بطريقته الأرسطية الدهرية الشركية ، ثم ذكر تلك الآية التي تنفي عن الله وجود آلهة أخرى معه !!!!!!! . أليس القول بأزلية الكون هو وصف لهذا الكون بأهم صفات الله تعالى ؟؟!! ، و أليس القول بأزلية الكون ينفي عن الله تعالى التوحيد و التفرد بالأزلية و القيومية ؟؟!! . و أليس القول بأزلية الكون ينفي عن الوجود الإلهي الضرورة و اللزوم ليحل محله الكون الأزلي الذي لا يحتاج إلى غيره ؟؟!! . و أليس كلامه هذا هو الذي قاله الملاحدة عندما قالوا :إن القول بأزلية الكون تكفي لتعليل العالم و لا يحتاج إلى إله آخر ، فالكون هو الإله ،و لهذا نسمعهم يقولون : الطبيعة خلقت و غضبت و أرادت ؟؟!! . و أليس القول بوجود عقول أزلية شريفة تتولى تحريك الأجرام السماوية و تعطيها صورها ، هو نقض للآية السابقة من جهة ، و قول بتعدد الآلهة من جهة أخرى ؟؟!! . و لماذا هذه التناقضات مع الشرع و التلاعب به ،و التظاهر بالرجوع إليه و الأخذ به ؟؟!! .

و من تناقضاتهم أيضا أن كثيرا منهم لم يكن يجد حرجا من حالة التناقض المُتلبس بها و التي يعيشها فكرا و سلوكا و شعورا . فكان أحدهم يبدأ كتابه بالبسملة و الحمدلة ،و يختمه بالحمدلة و الشكر لله و الصلاة على رسوله و آله و صحبه[10] . مع أنه كان قد أهمل طبيعيات القرآن الكريم ،و قرر خلافها ، و اعتقد أفكارا تُخرجه عن دين الإسلام و تُلحقه بالكفار . و هذا موقف غريب جدا ،و غير مقبول شرعا و لا عقلا !! .
فواضح من ذلك أن أمر هؤلاء غريب جدا ، و يُثير التعجب و الدهشة من تصرفاتهم من جهة ، كما أنه يُثير في القلوب الشقفة عليهم مما هم فيه من جهة أخرى !!. إنهم خالفوا دينهم صراحة ،و تحدوا مجتمعاتهم بانحرافاتهم و تناقضاتهم . و كانوا خدما و عبيدا بالباطل لفلسفة اليونان عامة ،و فلسفة أرسطو خاصة . فأقاموا بذلك الأدلة الدامغة على أن طبيعيات القرآن الكريم ، لم تكن عندهم أساسا للعلم و لا مرجعا له .

و ثالثا فقد تبين أن هؤلاء الفلاسفة حرموا أنفسهم و علوم الطبيعة من أنوار طبيعيات القرآن الكريم : منهجا ، و تطبيقا ، و نتيجة . و حرموا أنفسهم من أن يكون لهم الشرف في نقض أساسيات طبيعيات اليونان عامة و أرسطو خاصة . فلو أخذوا بطبيعيات القرآن الكريم لتمكنوا من إبطالها و نقضها بالوحي الصحيح و العقل الصريح و العلم الصحيح من جهة ، و طرح البديل الشرعي مكانها من جهة أخرى ، قبل أن ينقضها الغربيون في العصرين الحديث و المعاصر . فلو أخذوا بها- أي طبيعيات القرآن- لأظهروا لأنفسهم ، و أتباعهم ، و للناس جميعا أن الوحي الصحيح كما هو أساس الإلهيات و الإنسانيات فهو أيضا أساس الطبيعيات و قاعدتها العريضة التي تقوم عليها كل العلوم الطبيعية من جهة . و لبينوا لهم أيضا أنه لا تناقض بين الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح من جهة أخرى .

لكن انحرافهم حرمهم من ذلك ،و أوقعهم في أخطاء علمية كثيرة و فادحة ، و بعضها أساسي قامت عليه علوم أخرى و تأثرت بها تأثرا سلبيا . و قد جاء العلم الحديث و أكد خطأ هؤلاء و صحة ما ذكره القرآن من طبيعيات لها علاقة بطبيعيات هؤلاء الفلاسفة . فهي أخطاء حالت دونهم من تحقيق انتصارات و ثورات علمية لو تجنبوها و أخذوا بطبيعيات القرآن الكريم ، و واصلوا البحث فيها ، كانوا سيسبقون بها علماء الغرب في العصر الحديث .

لكن المؤسف أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا كذلك ، و إنما كانوا مثالا سيئا لغيرهم من أهل العلم و عامة الناس . فلم يكونوا النموذج المثالي القدوة لما يجب أن يكون عليه الفيلسوف المسلم ، فلا هم التزموا بدينهم .و لا هم كانوا في مستوى منطق البحث و الاستدلال . و لا هم كانوا في مستوى العلماء الأحرار الذين يُقدمون البراهين على أقوال الرجال .

و رابعا إن من آثار مخالفتهم لطبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق العالم و نهايته ، أنها لا تقتصر على أنها مخالفة محدودة في ذلك فقط ،و إنما توصل إلى نفي وجود الله ،و هدم الدين ، و إنكاره كلية . لأن القول بأزلية العالم و أبديته يعني أن الكون أزلي مُكتفٍ بنفسه و لا يحتاج إلى خالق يخلقه ، فبما أنه أزلي في وجوده ، فليكن أزلياً في كل صفاته . فما المانع في ذلك ؟؟ .

كما أن قولهم بأزلية العالم و أبديته ، و أزلية المخلوقات الأرضية بأنواعها و حدوثها بأفرادها ، يستلزم بالضرورة نفي وجود أبينا آدم- عليه السلام- و ما ترتب عن وجوده من خلق أمنا حواء و دخولهما الجنة ، و ما حدث لهما مع إبليس و نزولهما إلى الأرض ، و عمارة بني آدم لها ،و إرسال الرسل . و يُؤدي أيضا إلى إنكار نهاية العالم و المعاد الأخروي و ما يترتب عنه !!! . كل هذا ينتج عن مخالفة هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الكون و نهايته !!! . فماذا يبقى لهؤلاء من دين الإسلام ؟؟!! . ،و ماذا بقي من الإسلام في قولهم بأزلية الكون و أبديته ؟؟!! .

و خامسا فقد اتضح أن مخالفة هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن : منهجا و مضمونا ، و سلبيتهم تجاه طبيعيات اليونان منعاهم من إحداث ثورات علمية حقيقية في الطبيعيات . كالثورات العلمية التي حدثت في العصر الحديث على يد الغرب ، فأسقطت نظام بطليموس، و أبطلت نظرية سقوط الأجسام ، و اُكتشفت الجاذبية ،و غيرها . و قد تمكن العلم الحديث من تحقيق ذلك عندما أبعد المنطق الصوري جانبا ، و أقبل على المنهج التجريبي تنظيرا و ممارسة . و هذا نفسه الذي أمر به القرآن الكريم في طبيعياته عندما حدد منهجها التجريبي من جهة ،و معطياتها الأساسية و أمر بمواصلة البحث و الاستكشاف من جهة أخرى[11] . لكن هؤلاء الفلاسفة خالفوا طبيعيات القرآن و لم يلتزموا بها منهجا ،و لا مضمونا .

و سادسا فقد تبين أنه كانت لهؤلاء الفلاسفة جرأة كبيرة على مخالفة طبيعيات القرآن و الشرع عامة ، لكن لم تكن لهم نفس الجرأة و لا قريبا منها على مخالفة أرسطو و انتقاده في الحق !! . و في مقابل هذا كانت لهم جرأة كبيرة على التعصب لفلاسفة اليونان كأفلاطون و أرسطو ، حتى أنهم كثيرا ما قدموا أفكارهم الظنية و الزائفة على حقائق الشرع !!! . و كانت لهم همة و إقبال على تلخيص و شرح كتب فلاسفة اليونان ،و لم تكن لهم همة على انتقادها ، و لا على الأخذ بطبيعيات القرآن للرد بها على طبيعيات اليونان . و هذه مأساة من أكبر المآسي التي حدثت في تاريخنا العلمي !! . إنهم ضيعوا أوقاتهم و جهودهم في السلبية و الانهزامية ،و التقليد و التعصب للباطل ، بدلا من أن يبذلوها في فهم طبيعيات القرآن و تفجير أسرارها للأخذ بها و تطبيقها في بحوثهم العلمية .
و سابعا فقد أظهر بحثنا هذا أن مواقف هؤلاء الفلاسفة مع طبيعيات القرآن كانت وفق الحالات الآتية : أولها مخالفته مع عدم الإشارة إليه و هذه الحالة هي الغالبة و الأصل في التعامل مع طبيعيات القرآن .و الثانية مخالفتة مع الإشارة إليه و هذا التصرف نادر ، ولا نكاد نعثر عليه إلا قليلا كما فعل ابن سينا عندما أشار إلى تكلم الشرع عن حشر الأبدان ثم خالفه ،و إن كان هذا يتعلق بالإلهيات و ليس بالطبيعيات .
و الحالة الثالثة عدم الإشارة إلى طبيعيات القرآن مع الموافقة ،و هذه النماذج قليلة . منها ما حدث للبيروني عندما ذكر أن نور القمر ليس ذاتيا و إنما هو مُستفاد من الشمس اكتفى بذلك و لم يُشر من بعيد و لا من قريب إلى ما نص عليه القرآن الكريم[12]. و عندما تطرق إلى كروية الأرض و قال بها و أثبتها بعدة شواهد مستعينا بما ذكره بطليموس ،و لم يستشهد بالقرآن ، مع انه في صالحه[13] .
و الحالة الرابعة عدم الإشارة إلى طبيعيات القرآن مع وجودها فيه ، و عدم تعرضهم لها في كتبهم . و هذا النوع من الطبيعيات كثير في القرآن لكنهم أهملوه ، فحرموا أنفسهم من الانتفاع به، و الاعتماد عليه في بحوثهم العلمية .

و ثامنا يُستنتج مما ذكرناه -من مواقف هؤلاء الفلاسفة و أعمالهم- أن الطبيعيات في الحضارة الإسلامية قامت أساسا على طبيعيات اليونان و إلهياتها الدهرية و الشركية ،و لم تقم على طبيعيات دين الإسلام و إلهياتها التوحيدية . لأن هؤلاء أبعدوا طبيعيات القرآن و خالفوها ، و أخذوا طبيعيات اليونان بإلهياتها و تبنوها و انتصروا لها . فأدى هذا إلى نشأة غير طبيعية لعلوم الطبيعة في الحضارة الإسلامية . فهي لم تنبع من صميم ديننا و مجتمعنا ،و إنما أُدخلت إلينا –بكل مكوناتها- من غير إذن من ديننا ، و لا من أمتنا ، و لا من علمائنا الذين يُمثلون ديننا و أمتنا[14].

و لذلك شذّت الطبيعيات في حضارتنا من أن تكون من العلوم الشرعية التي قامت على التوحيد انطلاقا من القرآن الكريم و السنة النبوية ، فهي لم تقم عليهما ،و إنما كانت في أساسها علوما دهرية شركية . فمع أنها - أي الطبيعيات- من علوم القرآن إلا أنها لم تكن من العلوم الشرعية ،و لا قامت على دين الإسلام . و هذا بسب الأخطاء و الانحرافات التي حدثت في تاريخنا عندما نُقلت علوم الأوائل إلى اللغة العربية كالطبيعيات، و بسبب غياب البديل الشرعي الصحيح لعلوم الطبيعة[15] .
و لا شك أن هذا الذي توصلنا إليه من مخالفة هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن الكريم ، سيمثل صدمة كبيرة لكثير من أهل العلم ، أو لمعظمهم ، لأن المعروف عندهم عن هؤلاء الفلاسفة هو خلاف ما توصلنا إليه . و هنا أذكر مثالا على ذلك بلسان احد علماء المسلمين المعاصرين هو الباحث السوري محمود عكام ، مفاده انه عندما وضع تقديما لكتاب عنوانه : العلوم الفلكية في القرآن الكريم ، كان مما قاله فيه : (( وبالإضافة إلى هذا، فان سلفنا شق الطريق وبدأ العمل، وسجل سبقا طيبا في مجال العلوم التجريبية ، معتمدا في ذلك على القرآن الكريم، وما ابن سينا، ولا ابن رشد، ولا الرازي، ولا ابن حيان، ولا ابن النفيس، ولا ابن البيطار، ولا البيروني، عنا بغائبين، وأعتقد أن ما قاموا به يشكل جذرا متينا رصينا لشجرة معطاءة، وفقه كبير، في مجال العلوم البحتة، ولكننا لم نكمل الطريق ونتابع المسير، بل تركناهم رهائن تاريخ، وأوقفنا نمو إنتاجهم ، وسجلنا عليه تجافيا عن روح الشريعة الإسلامية ، وما جاءت لأجله... وإذ بالغرب يحل محلنا، فيمسك بالخيوط، ويتابع المشوار، ويسجل السبق الكبير علينا، في المستوى العلمي التجريبي ))[16].

واضح من ذلك أن كلامه لا يَصدق على كل هؤلاء ، فقد سبق أن بينا حال الفلاسفة المسلمين تجاه طبيعيات القرآن الكريم ، كان من بينهم بعض الذين ذكروا في النص ، و هم : ابن سينا ،و الرازي ، و ابن رشد ،و البيروني- هذا الأخير أقلهم انحرافا عن طبيعيات القرآن – ، و قد كان بعضهم قد شاع بين الناس كفره بدين الإسلام ، كحال الطبيب أبي بكر الرازي[17] .

و لا يصدق كلامه إلا جزئيا ، لأن معظم الذين ذكرناهم أقاموا علومهم الطبيعية أساسا على طبيعيات اليونان لا على طبيعيات دين الإسلام . فلا هم أقاموا طبيعياتهم على القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ،و لا هم حققوا انتصارات و ثورات علمية كبيرة في علوم الطبيعة مكنتهم من إبطال طبيعيات اليونان المخالفة للقرآن ،و التي كان من المطلوب هدمها لا البناء عليها . فهم لم يُقيموا جذرا متينا رصينا لشجرة معطاءة كما قال الرجل !!! .

علماً بأن ما فعلته أوروبا ليس هو مجرد أخذ ما كان عند المسلمين و الاستفادة منه و إنما قامت بعملية هدم و إعادة بناء للعلم الطبيعي . فهي و إن كانت استفادت من الصحيح القليل الذي كان في طبيعيات الفلاسفة المسلمين و علمائهم ، فإنها –في الحقيقة – قامت بعملية هدم كبيرة لأسس ما كان عند هؤلاء الذي هو في الحقيقة طبيعيات يونانية في أصولها و معظم أساسيات فروعها . فلا يصح أن نبالغ في تضخيم ما أخذته أوربا من حضارتنا –في علوم الطبيعة- و نسكت عن كثرة أخطاء و انحرافات فلاسفتنا و علمائنا الطبيعيين من جهة ، و نُهمل ما قام به علماء الغرب في هدمهم للطبيعيات التي كانت عند علماء حضارتنا من جهة أخرى !! . فلا يصح ممارسة الانتقاء و الإغفال و التضخيم ،و السكوت عن كثرة أخطاء و انحرافات علمائنا . فلا بد من الموضوعية في الطرح بشمولية و اتزان ، و الاهتمام بالسلبيات و الإيجابيات على حد سواء ،لأن الانتفاع و الاعتبار يتحقق بالنظر إلى كل ذلك . و قد تأتي ظروف يكون فيها الاعتبار و الاهتمام بالجوانب السلبية أولى من الايجابية ، و قد يحدث العكس . فكفانا تحريفا ، و خِداعا ، و غلوا في مدح و تبجيل و تضخيم ما قام به فلاسفة و علماء المسلمين في مجال الطبيعيات !! . ، إن ما قاموا به قليل و لا يستحق كل ذلك التهويل أبدا ، و الذي فاتهم من طبيعيات دين الإسلام ،و بدائه العقول كثير جدا !!.

و تاسعا فقد تبين بوضوح أن هؤلاء الفلاسفة كما أنهم أهملوا طبيعيات القرآن و أغفلوها فوقعوا في أخطاء علمية و منهجية كثيرة ؛ فإنهم من جهة أخرى كثيرا ما سايروا أرسطو في أخطائه المتعلقة بالطبيعيات التي كان في مقدورهم التأكد منها أو التشكيك فيها . و قد ذكرنا منها أمثلة كثيرة ، في الفصل الأول ، لأن معظم الأخطاء التي ذكرناه في مخالفتهم لطبيعيات القرآن و العلم هي أفكار قال بها أرسطو ، و هم تابعوه فيها ، كقولهم بأزلية العالم، و أن الشمس لا حارة و لا برادة ، و أن المرأة ليس لها دور أساسي في الإنجاب ،و غير ذلك كثير . و سنذكر هنا أيضا طائفة أخرى من أخطاء ابن سينا تابع فيها أرسطو . و هي شواهد تُعبر عن موقف سلبي انهزامي ،و عن مأساة و أزمة نفسية و فكرية كان يُعاني منها ابن سينا و أمثاله .
منها أن ابن سينا قال: ((عنق الأسد كعظم واحد لا يستبين فيه الخرز )) . و (( و كل حيوان ذى أذن فهو يحرك أذنه خلا الإنسان، إلا أفراد منهم ربما حركوها حركة ضعيفة )) ، (( و كما أن التمساح له خاصية حركة الفك الأعلى )) . و (( و كثرة السن وقوته تدل على طول العمر )) ، و (( و من السمك ماله في كل شق أذن واحدة، ومنه ماله آذان كثيرة مترا كبة في كل شق؛ وربما كانت في كل جانب أذن مفردة و معها آذان أخرى وربما كانت أربع مفردة غير مضاعفة بالتركيب.
وللسمكة المسماة أقسقياس ثمانى آذان مضاعفة )) ، و (( و قد يكون في قلب الجمل والبقر عظم)) ، و (( و ليس لسائر السمك فم معدة ، بل معدتها مربوطة بالرأس)) ،و (( وقد خلق جوهر الدماغ باردا ))[18] . هذه الأقوال كلها أخطاء ساير فيها ابن سينا شيخه أرسطو[19] ، و كان في مقدوره التثبت منها ، لكنه لم يكلف نفسه التحرك للتأكد منها بإجراء التجارب العلمية ، و لا بسؤال أهل الخبرة بتلك الأمور !! .

و كما أن هؤلاء الفلاسفة خالفوا طبيعيات القرآن الكريم في حقائقه و معطياته ، فإنهم قد خالفوه أيضا في منهجه العلمي المتعلق بالبحث و الاستدلال عامة ،و المنهج التجريبي خاصة . و تفصيل ذلك هو أن القرآن الكريم قد حدد خطوات البحث العلمي ،و وضع له شروطا ، منها طلب البرهان و عدم الكلام بلا علم ، لقوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }النمل64- ،و {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36- .
و منها السعي للتثبت و التحقق ، لقوله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }الحجرات6 - . و منها عدم إتباع الظنون و الأهواء ، لقوله سبحانه : {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28- ،و{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }القصص50- ،و {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }ص26-.
و منها الإخلاص للحقيقة و التجرد لها و عدم استخدام التلبيس و التغليط ، و ذم من يفعل ذلك ،و الإنكار عليه لقوله سبحانه : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }آل عمران71- ،و {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58- ،و {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ }الشعراء183- .
و منها الاحتكام إلى العقل الصريح و البعد عن الأهواء و الظنون ، لقوله سبحانه : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }آل عمران65- ،و {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الرعد3- .
و منها الأمر بالسير في الأرض و ممارسة المنهج التجريبي بطريقة صحيحة مقصودة هادفة في مجال علوم الإنسان و الطبيعة معا ، لقوله سبحانه : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }آل عمران137 - ،و {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20 - .
و في مقابل هذا المنهج القرآني العظيم ، وجدنا هؤلاء الفلاسفة قد أغفلوه و أهملوه ، و خالفوه مرارا و تكرارا ،و لم يلتزموا بما أمرهم به و حذّرهم منه . فوجدناهم يتكلمون بلا علم ، و يستدلون بظنونهم و رغباتهم و أهوائهم ، و يتعلقون بالأوهام و الخرافات و يصدقونها ، ثم يبنون عليها أفكارهم و هذياناتهم و سخافاتهم ، في أكثر ما كتبوه في أصولهم المتعلقة بالإلهيات و الطبيعيات . و قد ذكرنا على ذلك نماذج كثيرة جدا أخطئوا فيها ، و خالفوا بها طبيعيات القرآن الكريم ،و تكلموا فيها بلا علم ،و لم يلتزموا فيها بالمنهج العلمي الصحيح . و قد سبق أن ذكرنا أعلاه الأخطاء الكثيرة التي أخطأ فيها ابن سينا مسايرة لأرسطو ،و لم يُكلف نفسه التثبت منها .
و هنا نذكر أيضا نموذجا آخر للهذيان و الكلام بلا علم ،و الرجم بالغيب ،و القول بما يُخالف الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . ننقله من كلام للفارابي عن فيض العقول و معقولاتها عن العقل الأول حسب زعمه ، فقال: (( يفيض من الأول وجود الثاني، فهذا الثاني هو أيضا جوهر غير متجسم أصلا، ولا هو في مادة. فهو يعقل ذاته و يعقل الأول، وليس ما يعقل من ذاته هو شيء غير ذاته. فيما يعقل من الأول يلزم عنه ثالث، و بما هو متجهور بذاته التي تخصه يلزم عنه وجود السماء الأول ، و الثالث أيضا وجوده لا في مادة، و هو بجوهره عقل. وهو يعقل ذاته و يعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة زحل، و بما يعقله من الأول يلزم عنه وجود خامس. و هذا الخامس أيضا وجوده لا في مادة، فهو يعقل ذاته و يعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المشتري، و بما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سادس. وهذا أيضا وجوده لا في مادة، و هو يعقل ذاته و يعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المريخ، و بما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سابع . و هذا أيضا وجوده لا في مادة، و هو يعقل ذاته و يعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة الشمس، و بما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثامن . و هو أيضا وجوده لا في مادة، ويعقل ذاته و يعقل الأول . فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الزهرة، و بما يعقل من الأول يلزم عنه وجود تاسع . و هذا أيضا و جوده لا في مادة ، فهو يعقل ذاته و يعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة عطارد، و بما يعقل من الأول يلزم عنه وجود عاشر. وهذا أيضا وجوده لا في مادة، و هو يعقل ذاته و يعقل الأول . فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة القمر، و بما يعقل من الأول يلزم عنه وجود الحادي عشر. وهذا الحادي عشر هو أيضا وجوده لا في مادة ؛ و هو يعقل ذاته و يعقل الأول. و لكن عنده ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلا. وهي الأشياء المفارقة التي هي في جوهرها عقول ومعقولات. وعند كرة القمر ينتهي وجود الأجسام السماوية، والتي بطبيعتها تتحرك دورا ))[20] .
هذا نموذج من الكلام بلا علم ،و الافتراء على العقل و العلم معا ،و الاعتماد على الأهواء و الظنون و الخرافات في مجال علم الفلك و نشأة الكون . و بهذه التُرهات و الخرافات ،و الأباطيل و الأهواء أفسد هؤلاء الفلاسفة- و أمثالهم- العقل و الشرع و العلم ، و أخروا العلوم أكثر مما قدموها ،و ضيعوا أوقاتهم و جهودهم فيما يضر و لا ينفع ن أو فيما ضرره أكثر من نفعه بفارق كبير. .
و لو اتبع هؤلاء منهج القرآن الكريم ما ضلوا و ما أضلوا ، و ما خالفوه و ما أخطئوا . إنهم كانوا خصوما للوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح في أكثر أصول فكرهم !! .
و ربما يقول بعض الناس: إن هؤلاء ربما كانوا مُضطرين إلى استخدام ذلك المنهج . و أقول: هذا تبرير لا يصح بدليل الشواهد الآتية : الأول إن المطلوب شرعا و عقلا و علما الالتزام بالمنهج العلمي في كل مجالات العلوم ، بل و في الحياة أيضا .
و الشاهد الثاني مفاده أن هؤلاء لم يكونوا مضطرين إلى القول بتلك الخرافات و السخافات ،و الأوهام و الظنون . فكانت تكفيهم المعرفة المحدودة التي يُقرها المنهج العلمي الصحيح ، ثم مواصلة البحث الصحيح لطلب المزيد تدريجيا . فَعِلمٌ قليل صحيح يُطوّر العلم خير من أوهام و خرافات و ظنون كثيرة تُفسد العقل و العلم و تُؤخرهما .
و الشاهد الثالث مفاده أن علوم الوحي المتعلقة بالطبيعيات كانت بين أيديهم ، فلماذا لم يأخذوا بها ، و يبنون عليها علومهم ، فينتفعون بها ، و يُجنّبون أنفسهم الأخطاء ،و مخالفة دينهم ؟؟!! .
و آخرها- الشاهد الرابع- هو أنه من الثابت تاريخيا أن تلك الانحرافات هي التي أنتجت انحرافات و أخطاء أخرى أخرت ظهور علوم الطبيعة بشكلها الصحيح ، قلم يتم ذلك بطريقة صحيحة و شاملة إلا في العصرين الحديث و المعاصر.
و عاشرا فمن الثابت أن هؤلاء الفلاسفة- و أمثالهم – أخذوا بنظام بطليموس في علم الفلك ،و اهتموا به اهتماما زائدا ، على حساب طبيعيات الفلك في القرآن الكريم ، التي أهملوها ، و قرروا ما يُخالفها كما سبق أن بيناه ،و هذا انحراف كبير و خطير وقع فيه هؤلاء . و قبل التطرق إلى الأسباب التي جعلتهم يفعلون ذلك أذكر هنا فوائد تتعلق بالنظام البطلمي :
إن ذلك النظام منسوب إلى الفلكي اليوناني بطليموس ،و قد سبقه إلى القول به ايدوكسوس و أرسطو و غيرهما . و قد قبله علماء الفلك في العصر الإسلامي ،و لم يقدروا على تجاوزه ،و لا استبعاده ، مع انتقاداتهم الجزئية له ، و الإصلاحات التي اقترحوها[21] . و لذلك (( نجد جل – إن لم تكن كل – النماذج والتصورات الفلكية الإسلامية بطلمية والفيزياء والكوسمولوجيا أرسطية المبادئ والطابع ))[22].
و هو في بصفة عامة تصور نظري للكون قائم على نظرة ظنية وهمية اجتهادية جمعت بين الصحيح و الخطأ ،و بين الحقائق و الخرافات ،و الأهواء و الرغبات ، و الملاحظات العلمية ، و الرجم بالغيب ، و الكلام بلا علم . و له جانبان : إلهي ، و جانب طبيعي مادي ، الأول يُترجم جانبا من إلهيات اليونان و خرافاتهم و أوهامهم حول الإله و العقول ،و أفلاك التدوير[23] .
و هو نظام مُخالف للقرآن الكريم في إلهياته و جوانب أساسية في طبيعياته المتعلقة بالفلك و الكون عامة . فالنظام الفلكي القرآني قائم على التوحيد لا على تعدد الآلهة . و فيه أن العالم يتحرك و مرفوع بالتسخير الإلهي و ليست العقول المفارقة هي التي تحمله و تحركه . و الأرض فيه تتحرك و ليست ثابتة ،ولا هي مركز العالم ،و غير ذلك من الفوارق التي يعلمها المختصون أكثر من غيرهم .
و أما فيما يخص أسباب أخذ علماء الفلك المسلمين بالنظام البطلمي ، فيرى الباحث نضال قسوم أن ذلك يعود لسببين هما : الأول تأثر هؤلاء الفلكيين بالقرآن الكريم الذي ((يضع الإنسان في مكانة جوهرية ويؤكد على تسخير كل ما في السماء والأرض له )) ، مع أنه –أي القرآن – ((لم يصرّح أو يقدّم نظرة جيومركزية للكون ))-أي مركزية الأرض للكون- . و الثاني يتمثل في التأثير الكبير للتراث اليوناني على العلوم خلال العصر الإسلامي ، فقد كانت ((الفترة متأثرة بشكل كبير بالثقافة والإرث اليوناني، ما عدا بعض الحالات النادرة ذات الثقافة المتعددة والمستقلة، مثل البيروني. لذلك نجد جل – إن لم تكن كل – النماذج والتصورات الفلكية الإسلامية بطلمية والفيزياء والكوسمولوجيا أرسطية المبادئ والطابع ))[24] .
و أقول: أوافق الباحث في السب الثاني ،و أما السبب الأول فهو بالعكس ، بمعنى أن إهمال هؤلاء للقرآن و إغفاله ،و مخالفته هو السبب الأساسي فيما وقع فيه هؤلاء . لأنه تبين أن معظم الذين رجعنا إلى كتبهم لم يرجعوا أصلا إلى القرآن الكريم ،و لا أشاروا إلى معطياته المتعلقة بالفلك ،و لا بمكانة الإنسان في الكون ، و لا أخذوا بما نص عليه ، فهؤلاء غيّبوا القرآن كلية .
و بما أن القرآن لم يُقدم نظام مركزية الأرض كما أشار الباحث ، فإن المُتدبر فيه جيدا و بشمولية يستخرج منه نظاما فلكيا مُغايرا للنظام البطلمي ، و قد سبق أن أشرنا إلى جانب منه . و مركزية الإنسان في الأرض لا علاقة لها بمركزية الأرض للكون . لهذا و جدنا القرآن الكريم يُشير إلى حركة الأرض و ألحقها بحركة الشمس و القمر في الأفلاك التي تدور فيها ،و لم يُفرق بينها . و هذا هو الذي أغفله هؤلاء ،و قرروا خلافه في مواقف كثيرة .

و بناء على ذلك فإن قبول هؤلاء للنظام البطلمي يرجع إلى السببين الآتيين : إهمال و مخافة الفلك القرآني . و الثاني تأثرهم السلبي الكبير بالفلك اليوناني عامة و البطلمي خاصة . و كان في مقدورهم رفض النظام البطلمي الذي هو مُخالف للقرآن في إلهياته الشركية و كثير من معطياته الطبيعية . و لا توجد أية حتمية تمنعهم من ذلك . و هم الذين أدخلوا أنفسهم في النظام الأرسطي البطلمي .
و أُشير هنا إلى أن الباحث الإيراني سيد حسين نصر (( حاول الإجابة على السؤال السابق فرأى أن الفلكيين المسلمين لا شك أنهم تفطنوا الى الثورة العارمة التي كان سيأتي بها مثل ذلك الطرح الجديد (كوسمولوجيا لا-أرضية المركز)، وأنهم قرروا عدم سلوك ذلك الطريق منعا للفتنة (الفلسفية والدينية). فعقّب عليه الفلكي نضال قسوم بقوله : (( و هذا رأي تخميني إذ لم يقدم نصر أية أدلة من كتابات الفلكيين المسلمين أو حتى تعليقات المؤرخين ))[25] .
و أقول : تعليل سيد نصر لا يصح ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إنه من الثابت قطعا أن الفلاسفة و الفلكيين المسلمين الذي قالوا بالنظام البطلمي كتبهم تشهد على أنهم تبنوه باقتناع و إعجاب ، و لهذا عظموه و دافعوا عنه ،و لا يُوجد فيها ما يُشير إلى أنهم أُجبروا على قبوله . و قد سبق أن ذكرنا طائفة منهم ، تبنته و دافعت عنه .

و الشاهد الثاني مفاده أن هؤلاء الفلكيين لو قالوا بخلاف رأي بطليموس كانوا سيجدون كل ترحيب من علماء المسلمين و عامتهم . لأن كثيرا منهم لم يكن راضيا عما كان يقول به و يعتقده الفلاسفة و الفلكيون في أخذهم بفكر أرسطو و نظام بطليموس . لهذا وجدنا الغزالي و غيره يُكفرون طائفة من الفلاسفة الذين قالوا بأفكار أرسطو في قدم العالم و العقول ،و هي نفسها موجودة في فلك بطليموس[26] . فلو عارضوه و استشهدوا بالعقل الصريح ،و الوحي الصحيح لوجدوا كل ترحيب من المسلمين .
و الشاهد الأخير- الثالث- مفاده هو أنه ثبت قطعا أنه لم تكن أية ضغوط حقيقية على هؤلاء الفلكيين تجعلهم يُخفون حقيقة موقفهم . بدليل أنهم خالفوا القرآن في مرات كثيرة جدا في الإلهيات و المنطقيات ، و الطبيعيات و الإنسانيات و لا أحد أجبرهم على تغيير مواقفهم . و قد دوّنوا تلك المخالفات في كتبهم ،و ذكرنا نماذج كثيرة منها تتعلق بطبيعيات القرآن الكريم . حتى أن بضعهم رُوي أنه كان يُعلن مُخالفته لدين الإسلام ، بل و كفره به ،و ألف كتبا في الطعن في الدين و الانتصار لفكره كما هو حال الطبيب المتفلسف أبي بكر الرازي[27] .

و أخيراً فقد تبين أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا فلاسفة مسلمين بطبيعيات إسلامية ، و إنما كانوا فلاسفة مسلمين اسما بطبيعيات يونانية عامة ،و أرسطية خاصة . و النماذج الكثيرة التي ذكرناها من مواقفهم من طبيعيات القرآن الكريم ، هي نماذج كافية للحكم عليهم و تصنيفهم . و هو حكم عبّروا عنه هم بأنفسهم من خلال تلك المواقف ، فهو ليس موقفا استنباطيا فقط ،و إنما هو أيضا حكم موضوعي يقوم على الإدراك المباشر لمواقف هؤلاء من طبيعيات القرآن الكريم . فنحن لم نُؤوّل مواقفهم ،و لا حملناها ما لا تحتمله .

و بناء على ذلك فهل هؤلاء الفلاسفة -بمنهجهم و مواقفهم من طبيعيات القرآن الكريم – تصح نسبتهم إلى الإسلام ، و نسبة طبيعياتهم إليه ؟! . حسب رأيي إنه لا تصح نسبتهم إليه ،و لا نسبة فكرهم إليه أيضا ، و نسبتهم إليه هو كذب عليهم و على الإسلام ،و تحريف لفكرهم و مواقفهم من دين الإسلام عامة و طبيعياته خاصة . و عليه فهم فلاسفة من المسلمين لأن- غالبيتهم الساحقة- أظهرت الانتماء إلى الإسلام و المسلمين . لكنهم ليسوا من فلاسفة الإسلام ، و لا من علمائه ، و لا من مفكريه ، مع أنهم أظهروا الانتماء إليه . لأنه قام الدليل القطعي على أنهم خالفوه في أصوله الإلهية و الطبيعية ،و التشريعية ، فهم في الحقيقة كانوا فلاسفة أرسطيين قلبا و قالبا . و بما أن الفلسفة الأرسطية هي ديانة أرضية دهرية شركية مناقضة لدين الإسلام مناقضة تامة لا تقبل التقريب ،و لا التوفيق ،و لا أي منهما يقبل الآخر و لا يحتاج إليه[28] ، فإن الذي يعتقدها لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مسلما حقيقيا صادقا مع دينه و نفسه و مجتمعه . و بما أن الأمر واضح كما بيناه ، فلماذا الإصرار على تسمية هؤلاء بفلاسفة الإسلام ،و تسمية فلسفتهم : الفلسفة الإسلامية ؟؟!! ، إنه إصرار للتسويق و التضليل ،و التغليط و التدليس ،و التحريف و السفسطة قصد تحقيق غايات في النفوس .

من ذلك أن ابن رشد وصف الفلاسفة المشائين و هو منهم بفلاسفة الإسلام في قوله : (( هذا هو مذهب المحدثين من فلاسفة الإسلام كأبي نصر و غيره ))[29] . و قوله هذا لا يصح معنى و لا عبارة . لأن هؤلاء ما تركوا للإسلام شيئا ، و لا كانوا رجاله ، و لا علمائه ،و لا من فلاسفته و إنما كانوا حربا عليه: إفسادا و هدما و تدميرا ،و قد سبق أن بينا ذلك بأقوالهم أنفسهم .

و أما من جهة التسمية ، فالصواب أن يُقال : فلاسفة العصر الإسلامي، أو الفلاسفة الذي كانوا في التاريخ الإسلامي ، أو فلاسفة التاريخ الإسلامي ، أو الحضارة الإسلامية . نعم يصح أن نطلق اسم علماء الإسلام على العلماء الذين يؤمنون بالإسلام و يلتزمون به قلبا و قالبا . لكن لا يصح أن نطلقه على العلماء الذين لا يُؤمنون به ، أو الذين يُشككون فيه ، و يعملون على هدمه و إفساده . و هذا نفسه ينطبق- حسب رأيي- على اسم فلاسفة الإسلام ، فإذا كان هؤلاء كالذين ذكرناهم في كتابنا هذا فهم ليسوا من فلاسفة الإسلام ؛ و إما إن كانوا فلاسفة يُؤمنون بالإسلام حق الإيمان ،و يلتزمون به قلبا و قالبا ، فيمكن أن نطلق عليهم فلاسفة الإسلام . و كلامنا هذا نفسه ينطبق على المتكلمين المسلمين ، و الله أعلم بالصواب .

و هنا نورد ما ذكره الباحث عبد الرحمن بدوي حول قضية: هل توجد فلسفة إسلامية ؟ ،و موقفه هو و أرنست رينان من ذلك ، ثم نُعلّق عليهما.
يقول عبد الرحمن بدوي : (( بعد هذا العرض لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ينبثق السؤال:هل توجد فلسفة إسلامية حقا؟

و هو سؤال صار تقليديا منذ أن وضعه رينان و أجاب عنه بإجابة قاطعة ربطها بفكرته عن الجنس السامي بعامة فقال" إن الفلسفة لم تكن أبدا، عند الساميين، غير أمر مستعار من الخارج تماما و دون خصب كبير، و تقليد للفلسفة اليونانية". لكن يسحب هذا الحكم نفسه على فلسفة العصور الوسطى في أوروبا المسيحية، فيقول بعد ذلك مباشرة:"و يجب أن نقرر الشيء عينه فيما يتصل بفلسفة العصور الوسطى ". و قال أيضا "إن الفلسفة لم تكن إلا فترة عارضة episode في تاريخ الروح العربية. و الحركة الفلسفية الحقيقية للإسلام ينبغي أن نبحث عنها في الفرق الكلامية: القدرية، الجبرية، الصفاتية، المعتزلة، الباطنية، التعليمية، الأشعرية، و خصوصا في علم الكلام. لكن المسلمين لم يطلقوا أبدا على هذا اللون من المناقشات اسم "الفلسفة. إذ أن هذا الاسم لا يدل عندهم على البحث عن الحقيقة بعامة، و إنما يدل على فرقة، ومدرسة خاصة هي الفلسفة اليونانية ومن يدرسونها . و حين يؤرخ الفكر العربي، فمن المهم جدا ألا ينخدع المرء بهذا الاشتباه. إن ما يسمى "فلسفة عربية" ليس إلا قسما محدودا من الحركة الفلسفية في الإسلام، إلى حد أن المسلمين أنفسهم كادوا أن يجهلوا وجودها".
و لم يشأ رينان أن يعدل عن رأيه هذا في مقدمة الطبعة الثانية، رغم ما وُجه إليه من نقد، خصوصا من جانب هنري رتر Henri Riter،وقرر : «إنني مصمم على اعتقاد أنه لم يهيمن على خلق هذه الفلسفة اتجاه عقائدي كبيرdogmatique.إن العرب لم يفعلوا غير أنهم اعتنقوا adapter مجموع المعارف اليونانية كما قبلها العالم كله حوالي القرنين السابع والثامن»
ومن هنا نربط نشأة الفلسفة في الإسلام بحال الفلسفة عند السريان وفي مدرسة الإسكندرية في هذين القرنين.
وآراء رينان هذه تحتاج إلى الفحص والنقد:
1- ذلك أنه يخلط في كلامه بين فكرة العنصر والجنس(السامي) من ناحية وبين فكرة الإسلام بوصفه دينا من ناحية أخرى. ولهذا يترجح في الرأي بين إنكار وجود فلسفة «عربية» حينما يقصد العنصر والجنس، وبين الإقرار بوجودها حين يقصد الإسلام كجماعة شاملة لأجناس عديدة من بينها الجنس الآري (الفرس). وهذا الاضطراب هو الذي دعا بعض الباحثين المعاصرين(3) إلى إثارة مشكلة زائفة وهي: هل ينبغي تسمية هذه الفلسفة فلسفة «عربية» أو فلسفة« إسلامية»؟
وفي رأينا أنها مشكلة زائفة لأن المدلول واحد: فهي عربية لأن الكتب المؤلفة فيها كتبت باللغة العربية (إلا في القليل النادر الذي لا يكسر القاعدة، تماما كما كتب ديكارت وليبنتس وكنت بعض مؤلفات باللاتينية إلى جانب لغاتهم القومية ، ومع ذلك لم يقل أحد أنهم من رجال الفلسفة «اللاتينية»!)، - وهي إسلامية بمعنى أن أصحابها عاشوا في دار الإسلام أي داخل نطاق العالم الإسلامي في العصر الوسيط ، حتى لو كان البعض منهم لم يعتنق الإسلام دينا.
2 – كما أنه يخلط – وهو خلط لا يزال مستمرا، بل بولغ فيه كثيرا في النصف قرن الأخير – بين الفلسفة وبين التفكير بوجه عام سواء لاهوتيا أو صوفيا أو ما أشبه ذلك .
وفي رأينا أنه يجب ألا تطلق الفلسفة إلا على التفكير العقلي الخالص الذي لا يعترف بملكة أخرى للتفلسف غير العقل النظري المحض. ولهذا لا وجه أبدا لإدراج علم الكلام الوضعي والفرق الكلامية المختلفة التي تجول في إطار النصوص الدينية وتستند إليها في حجاجها – أقول لا وجه أبدا لإدراجها ضمن الفكر الفلسفي ولا بأوسع معانيه .
ومن هنا نرى أن من العبث، بل ومن الإمعان في الجهل بحقيقة الفلسفة، أن نلتمس الفلسفة الإسلامية في غير الفلسفة بالمعنى الدقيق المحدود، أعني البحث العقلي المحض . ولهذا السبب استبعدنا من عرضنا هذا كل من لا ينتسبون إلى الفلسفةبهذا المعنى الدقيق، من أمثال أخوان الصفا والغزالي والسهر وردي المقتول، لأنهم إما من أصحاب المذاهب المستورة الغنوصية (أخوان الصفا) أو من الصوفية والمتكلمين الوضعيين (الغزالي ) أو من الصوفية النظريين (السهر وردي المقتول)، ومكانهم إنما يقع في تواريخ هذه التيارات.
و وصف هذه المدرسة الفلسفية بأنها «إسلامية» إنما قصد به المعنى الحضاري والسياسي.أي التي نشأت في إطار الحضارة الإسلامية التي يسودها الإسلام. إذ الفلسفة علم عقلي خالص، وتبعا لذلك لا تقبل أن توصف بوصف ديني، شأنها شأن العلوم العقلية كالرياضيات والطب والفيزياء والكيمياء، الخ. فكما لا يجوز لنا أن نصف الهندسة أو الطب أو الفيزياء بأنها وثنية أو بوذية أو يهودية أو مسيحية الخ، فكذلك الشأن في الفلسفة. فإذا ما وصفت هذه العلوم بوصف «إسلامية» مثلا، فالمقصود بذلك هو المعنى الحضاري والسياسي فحسب))[30] انتهى .
و أقول : أولا إن تعريف عبد الرحمن بدوي للفلسفة هو تعريف ذاتي أكثر مما هو تعريف علمي موضوعي ، فهو لم يقدم دليلا مُقنعا على حصره تعريف الفلسفة في النشاط العقلي الخالص ،و إنما فعل ذلك لغاية في نفسه . فهذا تعريف بلا دليل صحيح يُثبته ،و يُخالفه كثير من المشتغلين بالفلسفة قديما و حديثا . بل إنه تعريف يُخرج كثيرا من أعمال الفلاسفة من دائرة الفلسفة ، مع أن أصحابها جعلوها من الفلسفة ؛ من ذلك أعمال أرسطو في علم الحيوان و الآثار العلوية ،و السماء و العلم ... ، و مؤلفات ابن سينا و ابن رشد في الطبيعيات على تنوّعها . حتى أن الشيخ صديق القنوجي عندما تطرق إلى تعريف الفلسفة ذكر أنها تضمسبعة علوم ، هي: ((المنطق ، فالأرتماطيقي أولا ، ثم الهندسة ، ثم الهيئة ، ثم الموسيقى ، ثم الطبيعيات ، ثم الإلهيات ، و لكل واحد منها فروع تتفرع عنه ... ))[31] .

فالصحيح هو أن الفلسفة تشمل كل نشاط فكري علمي يبحث في مختلف الظواهر الطبيعة و البشرية ، سواء كان بحثا جزئيا أو شموليا . و إذا تجمعت الحقائق في موضوع ما ، و تحدد موضوعه و منهجه انتقل من دائرة الفلسفة إلى دائرة العلوم . و لهذا أصبح في عصرنا الحالي لكل علم فلسفته ،و أصبحنا نسمع بفلسفات العلوم .

و بناء على ذلك ، فإنه لا توجد أمة بلا فلسفة ، فما من أمة من الأمم إلا و مارست التفلسف بطريقة أو أخرى . و قد تجلى ذلك فيما تركته الأمم السابقة من آثار فكرية و مادية ، مع الاختلاف في نوعية التفلسف و طريقة عرضه، و مدى صحته و قوته ، و كمية ما أنتجته كل أمة .

و ثانيا أن الذي يُنسب أمرا إلى الإسلام ، لا يصح له أن ينسبه إليه إلا بإذن من الإسلام نفسه، و هذا ينطبق على كل الأديان و المذاهب الأخرى ؛ فلا يُنسب إليها ما ليس منها ، و مالا يتفق معها .

و قولنا هذا يشهد به بالعقل و يأمر به الشرع ، فالإسلام هو الذي حدد من ينتمي إليه ، و من لا ينتمي إليه . فحدد صفات المؤمنين و مدحهم ،و صفات الكفار و المنافقين و ذمهم . و نفى الإيمان عن الذين تظاهروا به ،و شهد بالإيمان و العمل الصالح للمؤمنين الصادقين. و نبهنا إلى أنه إذا أردنا أن نكون مسلمين مؤمنين علينا أن نلتزم به قلبا و قالبا . قال سبحانه : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }الأنعام153- ،و{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }الأنعام159- . و عليه فإن تلك الفلسفة لا يمكن أن تكون إسلامية لأنها لا تحمل الإسلام و لا تمثله ، و إنما تخالفه و تعاديه أصولا و فروعا .

و لا يصح القول بأن تمسيتها إسلامية ، هي تسمية تحمل بعدا تاريخيا ، أو حضاريا ، أو سياسيا ،و لا تحمل بعدا دينيا إسلاميا . فهذا رأي فيه تغليط و تحريف للحقيقة . لأنه في هذه الحالة يجب التفريق بين نسبة أمر ما إلى الدين نفسه ، و بين نسبته إلى أمر أنتجه هذه الدين ، أو ظهر في الزمن الذي هيمن فيه هذا الدين . فهناك فرق كبير و أساسي بين قولنا : الدين الإسلامي، و بين التاريخ الإسلامي، أو الحضارة الإسلامية ، أو الفقه الإسلامي ، أو تاريخ المسلمين ، أو حضارة المسلمين . فلابد أن نفرّق بين نسبة شيء إلى الدين نفسه ، و بين نسبته إلى شيء ما ظهر بسببه ، أو أنتجه هو . فلا يصح أن نقول : الزندقة في الإسلام ، لكن يصح أن نقول: ظهور الزندقة في التاريخ الإسلامي، أو في الحضارة الإسلامية ، أو في زمن الحكم الإسلامي ... .

و أما قضية وجود أهل الذمة في الحضارة الإسلامية ، و دورهم فيها فالصحيح في هذا الأمر هو أنه لا يصح نسبة أعمالهم إلى الإسلام أبدا ،و إنما تنسب إليهم من جهة . و تُنسب إلى العصر الذي عاشوا فيه من جهة أخرى . و لهذا هناك فرق بين العصر الإسلامي ،و الإسلام ،و يجب أن نحدد الأمر بدقة . و الإصرار على ذلك الاسم هو تحريف و تضليل و تدليس ،و افتراء على الشرع و الحقيقة . و حتى أهل الذمة لا يرضون-إن كانوا صادقي الإيمان بأديانهم- أن تُنسب أعمالهم إلى دين لا يُؤمنون به .

و أما علم الكلام عامة فلا يصح وصفه بأنه فلسفة إسلامية من دون شروط ، و إنما هو في الأصل فلسفة كلامية يجب أن ننسبه إلى أصحابه أولا ، و إلى الطوائف التي أنتجته ثانيا . و نفس الأمر ينطبق على الفلسفة التي سادت خلال العصر الإسلامي . فنقول مثلا : فلسفة ابن سينا ، أو الفلسفة السيناوية ، و فلسفة ابن رشد ، أو الفلسفة الرشدية ، و فلسفة المشائين في العصر الإسلامي ، أو الفلسفة المشائية في التاريخ الإسلامي ، و فلسفة المعتزلة ، أو الفلسفة الاعتزالية ، و فلسفة الأشاعرة ، أو الفلسفة الأشعرية ،، و الفلسفة الشيعية ، أو فلسفة الشيعة ، و فلسة الخوارج ، أو الفلسفة الخارجية . ثم بعد ذلك ما وافق الشرع منها يُمكن القول بأنه شرعي ،و العكس . و لا يصح نسبة علم الكلام كله إلى الإسلام ، فهذا لا يصح لأنه مملوء بالمخالفات الشرعية في أصوله و فروعه، و إنما يُوصف الصحيح منه الموافق للشرع على أنه شرعي ، أو إسلامي .

و بناء على ذلك فإن أي فكر لا يصح أن يُسمى و لا يُنسب إلي أي مذهب أو دين ، إلا إذا كان موافقا له في أصوله و وسائله ،و غاياته و أساسيات فروعه . و أما إذا خالفه في ذلك و وافقه في بعض جزئياته فلا يصح أن يُسمى به ، أو يُنسب إليه . و هذا هو حال فلسفة الفلاسفة المسلمين التي سُميت – خطأ ، أو عمدا ، أو تغليطا- بأنها (( إسلامية)) . فهي تُخالفه و تناقضه في أصوله و وسائله و غاياته ،و لا تتفق معه إلا في بعض الجزئيات . و عليه فلا يصح تسميتها بذلك . و هذا المقياس يجب تطبيقه على كل العلوم ، في الحكم عليها بأنها إسلامية أم لا .

و ثالثا إن القول بأن الفلسفة لا تقوم على النصوص الدينية ، فهو قول لا يصح ، لأنه لا توجد فلسفة بلا دين ، و لا فلسفة دون أصول دينية . لأن الدين في أساسه هو العقيدة التي تُجيب على الأسئلة الأزلية المعروفة : من أين أتينا إلى هذه الدنيا ؟ ، و لماذا أتينا إليها ؟ ، و إلى أين المصير ؟ . فأي فكر ، أو مذهب ، أو عقيدة تجيب عن ذلك فهي دين ، سواء كان يُسمى دينا ، أو مذهبا ، أو فكرا، أو كان دينا سماويا أو أرضيا ، أو كان صحيحا أو باطلا ، فهو في النهاية دين و عقيدة . قال سبحانه : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً }الفرقان43-، و {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }الجاثية23- ،و {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }يس60- . ثم أن تلك الإجابات هي التي تصوغ لصاحبها نظرته إلى الله ، و الإنسان ، و الحياة ، و الكون . و بما أن الأمر كذلك ، و لا توجد فلسفة لا تقوم على منطلقات عقدية ، فكل الفلسفات إذن لها نصوصها و منطلقاتها الدينية بالضرورة .

و لا تصح التسوية بين الفلسفة و العلوم الدقيقة و الطبيعية و التطبيقية من جهة الاسم ،و لا الموضوع و لا المنهج . لأن الفلسفة ليست علما بذاتها ، فلو كانت علما ما كانت فلسفة ، و بما أنها فلسفة فليست علما .و إنما هي تضم خليطا من الحقائق و الأباطيل ،و الأهواء و الظنون ،و الاختيارات و الرغبات ، و الأخطاء و الصواب ،و التجريدات و التأملات ،و المغالطات و الخرافات . فهي كثيرة الكلام و الشقشقات و قليلة العلم و الصواب. و هذا خلاف تلك العلوم ، فهي علوم موضوعية تقوم على أصول تجريبة صحيحة ،و نتائجها صحيحة في الغالب الأعم .

و الفلسفات لا تستطيع أن تتخلص من مذهبياتها في الأصول و لا الفروع في الغالب الأعم . فإذا تخلصت منها بصفة عامة لم تصبح فلسفة ، فتخرج منها و تلتحق بالعلم الصحيح . لكن هذا لا يعني أن علوم الطبيعة تخلو تماما من المذهبية و العقدية ، فهي مع أنها علمية في موضوعها ،و منهجها ، و معظم نتائجها ، إلا أنها لا يُمكن أن تتخلص من المذهبية في مُنطلقاتها و بعض نتائجها . و لهذا نجد علماء الطبيعيات تجمعهم علومهم ، و تفرقهم منطلقاتهم العقدية التي ينظرون من خلالها إلى علومهم ،و إلى الكون و الحياة و الإنسان . و نجد كل واحد منهم يُوظف علومه لخدمة دينه و مذهبه ، و شعبه و مصالحه . فنجد الملحد يستخدم علومه لنشر الإلحاد ، و نجد المسلم يستخدم علومه لخدمة الأعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية . و نفس الأمر ينطبق على علماء المذاهب و الأديان الأخرى . فهذا دليل دامغ على أن العلوم الطبيعية لا يُمكن أن تتخلص نهائيا من تأثرها بالمذهبيات و العقائد من جهة المنطلقات و الغايات .

و قد يستنتج بعض الناس بأن مؤلف هذا الكتاب في انتقاده للفلسفة و أتباعها من الفلاسفة المسلمين ، هو عدو للفلسفة و رجالها . و أسارع فأقول : هذه تهمة سمعتها و قرأتها ، و قد قال بها كثير من ينتمي إلى الفلسفة في ردودهم على مُخالفيهم ، فهي ليست جديدة و ليست صحيحة بالنسبة إليَّ . لأنه أولا إن الفلسفة هي فكر إنساني تتضمن مذاهب فكرية و مناهج كثيرة جدا ، منها ما غلبت عليها الأباطيل و الأخطاء و الانحرافات المنهجية ، و منها ما حالها خلاف ذلك ، و منها ما حالها توسط بين الحالين السابقين .

و ثانيا بما أن ذلك هو حال الفلسفة ، فلا يصح أن نتهم من ينتقد تلك المذاهب الفلسفية أو بعضها ، بأنه عدو للفلسفة . لأن النقد العلمي ليس عيبا ، و إنما هو مطلوب و ضروري ، و على المُنكرين و المخالفين أن يردوا بالعلم و ليس بالاتهامات و التهريجات .

و ثالثا يجب أن لا يغيب عنا أن أي نقد لمذهب من المذاهب الفلسفية أو لمعظمها أو لكل المذاهب المعروفة لا يُمكن أن يتم إلا بفلسفة أخرى . فهذا الناقد صاحب فلسفة ،و إن اختلفت مُنطلقاتها و مصادرها ،و غاياتها . و من ثم فإن من يتهم صاحب هذا النهج بأنه عدو للفلسفة فهو مخطئ ،و يكون هو من أعداء الفلسفة ، لأنه جمد على الباطل ، و وقف أمام الحق أن يظهر و يسود ،و عمل على تكريس الرداءة و السلبية و التقليد الأعمى .

و بناءً على ذلك فإن مُؤلف هذا الكتاب ليس عدوا للفلسفة الصحيحة – بمعنى الفكر الصحيح- و إنما ينتقد الفلسفات بالباطلة بالفلسفة الصحيحة . و يعتقد جازما إمكانية إيجاد فلسفة صحيحة تقوم على الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . و لا بد لتحقيق ذلك من صدق النية و إخلاصها لله أولا ،و للحق و العلم ثانيا ، و توفر منهج الفهم الصحيح لمعطيات الوحي و العقل و العلم ثالثا ،و الالتزام به أثناء التطبيق رابعا . فهذا كله كفيل بمحاربة الفلسفات الباطلة ،و إيجاد فلسفة صحيحة .

و ختاما لما ذكرناه أقول : ما ذا بقي لهؤلاء من الإسلام يمكن أن يشفع لهم به ؟؟! . هل من يُخالفه كما خالفوه يبقى مسلما ؟! ما ذا يبقى عندهم من الإسلام بعدما قالوا بأزلية العالم و نفي المعاد الأخروي ؟!! . هل أفكارهم و مُخالفاتهم أبقت لهم شيئا من الإسلام ؟؟! أليس القول بالأزلية وحده يُهدم الإسلام كله بالضرورة ؟؟! ، نعم إنه لا يبقى شيء منه ،و لا يبقى لديهم منه شيء ، فما الأسباب التي أوصلتهم إلى هذا الحال المتناقض ، و الغريب ، و المأساوي ، و ... ؟؟ !! .

ثالثا : أسباب مخالفة هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن:
سبق أن أوردنا نماذج كثيرة من مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم ،و أبرزنا طائفة من الاستنتاجات و الآثار التي ترتبت عن تلك المخالفات . فلماذا خالف هؤلاء طبيعيات القرآن ؟ ، و هل يعود ذلك إلى سبب واحد أو إلى عدة أسباب مُتداخلة و متنوعة و مُتأثرة ببعضها بعض ؟ ، و هل كانوا معذورين في ذلك أم لا ؟ .

أولا يُمكن إرجاع أسباب مخالفة هؤلاء للفلاسفة لطبيعيات القرآن الكريم إلى نوعين من الأسباب ، هما : أسباب أساسية تمثل السبب العميق ،و ما نتج عنه من أسباب عميقة أخرى . و النوع الثاني يتمثل في الأسباب الثانوية ،و هي أسباب مساعدة ساهمت – بتفاعلها مع الأساسية- في مخالفة هؤلاء لطبيعيات القرآن و التوسع فيها .

ففيما يخص الأسباب الأساسية فأولها ضعف الإيمان بدين الإسلام أو عدم الإيمان به أصلا ، و هذا أفقدهم الحصانة الإيمانية أو أضعفها كثيرا ، و جعلهم نهبا للفلسفة اليونانية .و هؤلاء كانوا مُظهرين الإيمان بدين الإسلام ، لكن بعضهم كان قد أظهر عدم إيمانه بالإسلام أصلا ، كالطبيب المتفلسف أبي بكر الرازي ، فتكون مخالفته لطبيعيات القرآن أمرا عاديا مُتوقعا . لكننا أشرنا إلى حاله هنا لأن عامة الناس لا يعرفون حال هذا الرجل و حقيقته . فهو يحمل اسم من أسماء المسلمين ، بل إن اسمه محمد ، و توجد مساجد تُسمى باسمه : أبو بكر الرازي !!. إنه لا يُؤمن بالإسلام ،و تُسمى بعض المساجد باسمه !!!!!!!! .

و أما الشواهد التي تُثبت انحراف ذلك الرجل وضلاله ، فمنها كتبه التي صنفها في عقيدته و ضلاله ، فهي و إن لم تصلنا-حسب علمي- فقد تظافرت شهادات أهل العلم على أنه ألفها ، و يظهر من مواقفهم و أقوالهم إنهم اطلعوا عليها ، و من خلالها ذكروا حاله و مذهبه ، و انتقدوه و ذموه . و الشواهد الآتية تُثبت ذلك :

أولها مفاده أن المؤرخ ابن أبي أُصيبعة ذكر أنه كانت طائفة من الفلاسفة تُكفّر الطبيب الفيلسوف أبا بكر الرازي(ق:4 الهجري) ، و ممن كفّره: الفيلسوف ابن رضوان المصري(ق:5 الهجري)[32] .

و الثاني مفاده أن أبا الريحان البيروني قال : (( قدحكىمحمدبنزكريا الرازيعنأوائلاليونانيينقدمةخمسةأشياءمنهاالبارئسبحانهثمالنفس الكليةثمالهيوليالأولىثمالمكانثمالزمانالمطلقانو بنىهوعلىذلكمذهبهالذيتأصلعنه،وفرّقبين الزمانوبينالمدةبوقوعالعددعلىاحدهمادونالآخربسببمايلحقالعددبهمنالتناهيكماجعل الفلاسفةالزمانمدةلمالهأولوآخروالدهرمدةلماأولولاآخر،وذكرأنالخمسةفيهذاالوجود الموجوداضطراريةفالمحسوسفيههوالهيوليالمتصورةبالتركيبوهيمتمكنفلابدمنمكان، واختلافالأحوالعليهمنلوازمالزمانفانبعضهامتقدموبعضهامتأخروبالزمانيعرفالقدم والحدثوالأقدموالأحدثو معافلابدفيالموجودأحياءفلابدمنالنفس،وفيهمعقلاءوالصنعةعلى غايةالإتقانفلابدمنالبارئالحكيمالعالمالمتقنالمصلحبغايةماأمكنالفائضقوةالعقلللتخليص؛ ومنأصحابالنظرمنجعلمعنىالدهروالزمانواحداو أوقعالتناهيعلىالحركةالعادةلها،ومنهم منجعلالسرمدللحركةالمستديرةفلزمتالمتحرك بهالامحالةوحازالشرفبالبقاءالدائمثمترقىإلى محركهومنالمتحركالمحركإلىالمحركالأولالذيلايتحرك ... )) [33] .
و الشاهد الثالث مفاده أن ابن أبي أصيبعة نقل عن ابن صاعد الأندلسي قوله في الرازي فقال : (( و قال القاضي صاعد في كتاب التعريف بطبقات الأمم : إن الرازي لم يوغل في العلم الإلهي، و لا فهم غرضه الأقصى، فاضطرب لذلك رأيه وتقلد آراء سخيفة ، وانتحل مذاهب خبيثة، وذم أقواماً لم يفهم عنهم ولا اهتدى لسبيلهم ))[34] .
و الرابع مفاده أن الشيخ تقي الدين بن تيمية ذكر أن أبا بكر الرازي ألحد في الإلهيات و النبوات[35] . و أنه نصر مذهب القائلين بالقدماء الخمسة ،و صنف فيه . و هؤلاء الخمسة هم : (( الرب ، والنفس ، والمادة ، والدهر ، والفضاء ))[36].
و الأخير- الشاهد الخامس- مفاده أن المحقق ابن قيم الجوزية قال : (( وكان محمد بن زكريا الرازي على هذا المذهب لكنه لم يثبت إبليس فجعل مكانه النفس وقال : بقدم الخمسة مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة والبراهمة فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه وصنف كتابا في إبطال النبوات و رسالة في إبطال المعاد فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم. وقال : أنا أقول : إن الباري والنفس والهيولي والمكان والزمان : قدماء وأن العالم محدث . فقيل له : فما العلة في إحداثه . فقال : إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم وحركتها الشهوة لذلك ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه فاضطربت وحركت الهيولي حركات مشوشة مضطربة على غير نظام وعجزت عما أرادت فأعانها الباري على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها وسكن اضطرابها وزالت شهواتها واستراحت فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها قال : ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم )) . ثم قال ابن القيم : (( ولولا أن الله سبحانه يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا و لكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه ))[37] .
و السبب الثاني يتمثل في ضعف القدرة العلمية عند هؤلاء الفلاسفة من جهة النقد و الشجاعة الأدبية، و من ناحية سلامة المنهج ،والمعرفة العلمية الصحيحة . فقد كان في هؤلاء ضعف كبير في تحكمهم في المنهج العلمي الصحيح القائم على العقل الصريح و العلم الصحيح من جهة ،و الجرأة العلمية و الموضوعية الصحيحة من جهة أخرى . فأوقعهم ذلك في انهزامية و تبعية ، و حرمهم من النقد العلمي الصحيح ، و أضعف فيهم القدرة على التمييز بين صحيح فلسفة اليونان من سقيمها .

و السبب الثالث مفاده وقوع هؤلاء الفلاسفة في الانبهار بالفلسفة اليونانية عامة و الأرسطية خاصة . و قد سهل وقوعهم في أسر هذا الانبهار السببان الأولان ، فضعف إيمانهم بدين الإسلام أوجد فيهم فراغا نفسيا و فكريا ، و ضُعف تمكنهم من المنهج العلمي الصارم في البحث و الاستدلال ،و النقد و التمحيص ، فأوقعهم هذا كله في الانبهار بتلك الفلسفة و الوقوع في أسرها .

و السبب الرابع يتمثل في غلبة طابع السلبية و الانهزامية على هؤلاء الفلاسفة في تعاملهم مع الفلسفة اليونانية عامة ، و الأرسطية خاصة . و هذا السبب كان نتيجة للأسباب السابقة ، ثم أصبح يمثل بنفسه سببا أساسيا بذاته لخطورته و تأثيراته السلبية الكثيرة جدا . و هذا السبب أحدث في هؤلاء شللا علميا من جهة النقد العلمي المبدع ، فجعلهم شراحا و مُلخصين أكثر مما جعلهم نقادا مُبدعين بفارق كبير جدا من جهة ،و جعلهم متعصبين لفلسفة اليونان تعصبا ممقوتا من جهة ثانية ، و أوجد فيهم جرأة على مخالفة القرآن ،و جرأة على الانتصار لفلسفة اليونان من جهة ثالثة !!!! .
و السبب الأخير- الخامس من الأسباب الأساسية- مفاده أن هؤلاء الفلاسفة كانوا ينتمون إلى فلسفة هي بنفسها تمثل ديانة أرضية لها إلهياتها و طبيعياتها ،و إنسانياتها . فلما أخذوا طبيعياتها أخذوها كاملة ، فأصبحوا يدينون بها و يُفكرون بها ، و لم يجدوا في أنفسهم حاجة إلى البحث عن ديانة أخرى ، فرضوا بهذه الديانة الزائفة التي بهرتهم و تعصبوا . فأوجد هذا فيهم بعدا عن طبيعيات القرآن و إلهياته من جهة ،و إقبالا على طبيعيات اليونان بإلهياتهم من جهة أخرى .
و أما الأسباب الثانوية فمنها أن الأرضية و المنطلقات العقدية التي كانت مُتحكمة في علوم الطبيعيات زمن هؤلاء الفلاسفة لم تكن شرعية ، ، فلم تكن إسلامية مُنطلقا و لا غاية . و إنما كانت قائمة على إلهيات شركية و دهرية مناقضة لدين الإسلام ، مأخوذة من فكر اليونان و الهنود و غيرهم . و هذه الأرضية العقدية أثرت في هؤلاء سلبا ، فساعدت في إقبالهم على طبيعيات اليونان ،و في إبعادهم عن طبيعيات القرآن .
و السبب الثاني مفاده أن علوم الطبيعيات في زمن هؤلاء الفلاسفة لم تكن مفصولة بذاتها عن الفلسفة و مكوناتها الأخرى ، فكان من يُريد أن يقرأ الطب أو الفلك مثلا ، يجد نفسه مضطرا إلى دراسة كل مكونات الفلسفة ، خاصة إلهياتها . و لهذا وجدنا الفلاسفة المسلمين الذين ذكرناهم كما قالوا بطبيعيات اليونان قالوا أيضا بإلهياتهم خاصة إلهيات أرسطو و أفلاطون . فوجدناهم أنكروا المعاد الأخروي ،و قالوا بخلود النفس على طريقة أفلاطون و أرسطو ،و قد سبق أن بينا هذا و وثقناه . فعامل عدم الفصل كان عاملا مساعدا هيأ الأرضية لانحراف هؤلاء ، لكن تأثيره لم يكن حتميا ، لأنه كان في مقدور هؤلاء أن يتخلصوا من تأثيره لو كانوا في المستوى العلمي المطلوب .
و أما من الذي كان عليه أن يفصل طبيعيات اليونان عن إلهياتها و إنسانيتها ، فالمفروض أن الذي يتولى ذلك هم العلماء الأكفاء ، سواء كانوا من الفلاسفة ،أو من علماء الطبيعة ، أو من علماء الشريعة . لكن هذا لم يحدث في العصر الإسلامي مما أوجد فراغا كبيرا و خطيرا . و هذا يرتبط بموضوع غياب البديل المُتمثل في السبب الآتي:
و الثالث – من الأسباب الثانوية- مفاده غياب البديل الإسلامي في الطبيعيات . فكان على علماء الأمة الأكفاء من علماء الشريعة ، أو علماء الطبيعة ، أو الفلاسفة المسلمون ، أو بالتعاون فيما بينهم القيام بعمل علمي يطرح البديل الشرعي في مجال الطبيعيات على أساس من الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . لكن هذا المشروع- حسب علمي- لم يَكن موجودا مُجملا و لا مُفصلا ليطرح البديل ،و يرد على طبيعيات اليونان و غيرهم . و قد كان من الممكن القيام به لو وجد من علماء الأمة من تفرغ له ، كما تفرّغوا لعلوم أخرى !! . فلو وجد هذا المشروع لساهم في رد هؤلاء الفلاسفة إلى طبيعيات القرآن الكريم . لكن- حسب علمي- فإن هذا لم يحدث ،و لم يقم به أي عالم من علماء الإسلام ، و إن كان بعضهم قد أنجز عملا هاما في مجال الإلهيات و المنطق[38] .
و من اللافت للانتباه – في تدوين العلوم عند المسلمين - أنه مع أن طبيعيات القرآن الكريم تُمثل مساحات واسعة جدا من آياته ، إلا أنها لم تُدرج كعلم من علوم القرآن ، و لا كعلم شرعي مُستقل كما هو حال الفقه مثلا ، فما الفرق بينهما ؟! ، لا يُوجد فرق أساسي بينهما ؟؟!! ، و ربما كانت آيات طبيعيات القرآن أكثر عددا من آيات الأحكام التي يقوم عليها الفقه الإسلامي . فلماذا لم تُفرد طبيعيات القرآن بالتأليف كعلم شرعي عندما دوُنت العلوم الشرعية و غيرها في القرنين الثاني و الثالث الهجريين ؟؟!! .
إنه كان من المفروض أن يتولى علماء الإسلام الأكفاء إفراد طبيعيات القرآن بالتأليف ،و الشرح و التوسيع ، و استخدامها و ممارستها لإقامة علوم طبيعية تقوم على طبيعيات القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ، كما فعلوا مع علوم الشريعة الأخرى . لكن حسب علمي أن هذا العمل لم يحدث عندما دُونت علوم الشريعة و لا بعدها ، فلم يقم به علماء الشريعة و لا الفلاسفة ، ولا غيرهم من طوائف علماء الأمة . فأوجد هذا مجالا فارغا لا يصح تركه فارغا ، لأن علوم الطبيعيات هي جزء من علوم الشريعة ،و ضرورية للإنسان ، فلا يستطيع العيش بدونها . فأوجد هذا الفراغ أرضية مهيأة لطبيعيات اليونان و الهنود بالانتشار و التأثير في أهل العلم المهتمين بها .
و السبب الرابع مفاده أنه ربما يقول بعض الناس : إن من الأسباب الثانوية التي أدت بهؤلاء الفلاسفة إلى مخالفة طبيعيات القرآن هو السهو . فقد يتناول أحدهم موضوعا ما فيقرر ما يُخالف الشرع ، أو يغفله سهوا و نسيانا و ليس تعمدا .
و أقول : نعم قد يحدث ذلك لكثير من أهل العلم ، لكن هذا لا يصدق على هؤلاء في الغالب الأعم . لأن المخالفة تختلف عن الإغفال مع الموافقة من جهة ،و حسب طبيعة الموضوع و أهميته من جهة أخرى . فلا يصح أن يٌقرر عالم ما يُخالف أصول الإسلام و أركانه ثم يزعم أنه نسي . لأن هذه المبادئ لا يصح نسيانها ، لأنها معروفة من الدين الضرورة ،و إذا غابت عن العامي فلا يصح أن تغيب عن أهل العلم . و إذا فرضنا جدلا أنه نسي ، فلا يصح أن تتكرر مُخالفته له في مواقف أخرى كثيرة . و لا يصح أن يقع فيها كل هؤلاء الفلاسفة أصحاب الاتجاه الواحد و المُتقارب . و عليه فإن هذا يعني أن هؤلاء لم ينسوا ، و إنما عبّروا عن مواقفهم عن وعي و تعمد انطلاقا من خلفياتهم المذهبية ،و نظرتهم إلى طبيعيات القرآن الكريم .
و الخامس- الأخير من الأسباب الثانوية- مفاده أنه ربما يرى بعض الباحثين أن سبب إقبال الفلاسفة المسلمين على طبيعيات اليونان هو أنهم وجدوها لا علاقة لها بالدين ،و من ثم فلا حرج في الأخذ بها . و قد عبّر عن هذا الرأي الباحث عبد الرحمن مرحبا عندما قال عن الفيلسوف الكندي : (( فهو أرسططاليسي النزعة في علم الطبيعة الذي لا شأن له بالدين ، و لكنه إسلامي الصبغة فيما وراء الطبيعة الذي يُخالف فيه أرسطو عقيدة القرآن ))[39] .

و أقول: رأيه هذا لا يصح بدليل الشاهدين الآتيين : الأول مفاده أنه لا يصح القول بأن علم الطبيعة لا علاقة له بالدين ، فهذا خطأ واضح ، لأن علوم الطبيعة مهما كانت بعيدة عن المعتقدات الدينية ، فإنها لابد أن تقوم في أساسها على خلفيات عقدية سواء كانت مادية ، أو دينية ، أو مذهبية . و هذه العقائد هي التي تتحكم في نظرة الإنسان إلى الكون و الحياة و الإنسان . و لهذا وجدنا أرسطو قد بنى طبيعياته على عقيدته الدهرية الشركية ؛ فبناها على القول بأزلية العالم ،و على القول بتعدد العقول الإلهية المحركة للأفلاك ،و على الغائية التي كان يُؤمن بها . و هذا الأمر ما يزال قائما إلى يومنا هذا فعلماء الطبيعة المؤمنون بالله بنوها على الإيمان بالله و الحكمة ،و الملاحدة منهم بنوها على الإلحاد ،و القول بالصدفة و الداروينية .

و الشاهد الثاني مفاده هو أن الذي لا شك فيه أن القرآن الكريم مملوء بالطبيعيات من بدايته إلى نهايته ، و هي قائمة على التوحيد و عقائد الإسلام الأخرى من جهة .و مبنية على المنهج التجريبي على تعدد علومه من جهة أخرى . فلماذا زعم هذا الرجل أن علوم الطبيعة لا علاقة لها بالدين ؟!. و يعني به الدين عامة و الإسلام خاصة . فهذا زعم باطل ، فإذا كانت الأديان الباطلة لا علاقة لها بعلم الطبيعة علاقة مباشرة ،و مُفصلة ، فإن هذا لا يصدق أبدا على دين الإسلام. لأن القرآن الكريم كله علوم على اختلاف تنوعها ،و قد أفرد لعلوم الطبيعة مساحات واسعة جدا بمناهجها و حقائقها . فالرجل أخطا في تفسيره الذي قال به ، لكنه قد يصدق من جهة أنه ربما كان من بين هؤلاء الفلاسفة من ليست له المعرفة الصحيحة و الشاملة بدين الإسلام جعلته يرى أن الطبيعيات لا علاقة لها بالدين . و هذا أيضا ضعيف جدا بحكم أن القرآن شاهد بنفسه على تضمنه للطبيعيات ، اللهم إلا إذا كان هؤلاء لا يقرؤون القرآن الكريم . و هذا مستبعد جدا ، لكنه قد يصدق على بعضهم و ليس على كلهم ، لأن منهم من كان عالما بالشريعة كابن رشد الحفيد . لكنهم مع ذلك فإن الجاهل منهم بدين الإسلام- و هذا مُستبعد جدا- على فرض وجوده فهو غير معذور بجهله و إهماله .

ثالثا : اعتراضات و ردود :
بعدما تطرقنا إلى آثار و أسباب مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم نختم هذا الفصل بموضوع نُخصصه لطائفة من الاعتراضات و التبريرات قد يُوردها بعض أهل العلم كتعقيب علينا على ما ذكرناه من انتقادات و ملاحظات في حق هؤلاء .

أولها مفاده ربما يعترض علينا بعض أهل العلم فيقول : إنكم انتقدتم علماء المسلمين في عدم قيامهم بمشروع علمي للفصل بين الطبيعيات القديمة و إلهياتها التي قامت عليها ؛ و هذا تكليف بما لا يُطاق ، لأنه لم يكن في استطاعتهم فصل الطبيعيات القديمة عن أصولها العقدية التي قامت عليها. فكان هذا الأمر من الأسباب التي جعلت الفلاسفة المسلمين يأخذون بطبيعيات اليونان و يستبعدون طبيعيات القرآن .
و أقول : هذا اعتراض لا يصح ، لأن الحقيقة هي أن الطبيعيات التي وصلتنا من الحضارات القديمة وصلتنا بإلهيات مُتعددة و لم تكن ذات إلهيات واحدة . فمن المعروف أن منها ما كانت له أصول عقدية أفلاطونية ، و أخرى أرسطية ،و أخرى أفلوطينية ، و منها ما كان لها إلهيات هندية ،و أخرى فارسية[40] . و هذا يعني أن تلك الطبيعيات كانت ذات أصول مُتعددة الإلهيات ،و لم تكن ذات أصل واحد لا يمكن تغييره من جهة ، و أن كل طرف صبغ طبيعياته بمنطلقاته العقدية من جهة أخرى . و هذا يعني أنه كان في استطاعة الفلاسفة المسلمين أن يفصلوا الطبيعيات التي وصلتهم عن خلفياتها المذهبية . و أنه كان عليهم من الواجب – شرعا و عقلا و مصلحة- أن يأخذوا من تلك الطبيعيات ما يتفق مع دينهم و ظروفهم ،بعد تمحيصها بميزان الوحي الصحيح ،و العقل الصريح، و العلم الصحيح. لكن المؤسف أن هؤلاء الفلاسفة لم يفعلوا ذلك ، و أخذوا تلك الطبيعيات بخلفياتها و أصولها الإلهية المناقضة لدين الإسلام و للعقل و العلم . فترتبت عن ذلك نتائج سلبية كثيرة أفسدت الأفكار و السلوكيات ، سبق أن ذكرنا طائفة منها في المبحث الأول من هذا الفصل.
و الثاني مفاده أنه ربما يرى بعض الناس أنه لا يصح محاكمة هؤلاء إلى الشرع في أخذهم بطبيعيات اليونان و إهمالهم و مخالفتهم لطبيعيات القرآن . فليس من الواجب عليهم الرجوع إلى القرآن ،و الأخذ بطبيعياته ،و من ثم لا تصح محاكمتهم إليه !! .

و أقول: بل إنه من الواجب عليهم الرجوع إلى القرآن من جهتين : الأولى إن كان هؤلاء لا يُؤمنون بالقرآن على أنه كتاب الله أنزله على نبيه محمد –عليه الصلاة و السلام- ، فهنا لا نحاكمهم إليه من جهة ضرورة الأخذ بطبيعياته ، لكننا نحاسبهم من جهة أنه يجب عليهم ذكر طبيعياته لأنه كتاب له طبيعياته ،و ذاتيته و تأثيره الكبير على العلوم و السلوكيات . فهو كتاب حاضر بعلومه و تأثيراته ، لا يصح أبدا إغفاله و إهماله ، في الوقت الذي تُذكر فيه أقاويل فلاسفة اليونان و غيرهم !! . فالعقل و العلم يفرضان عليهم أن يذكروا طبيعيات القرآن كما ذكروا طبيعيات اليونان و غيرهم .

و الجهة الثانية تتعلق بانتمائهم إلى الإسلام و المسلمين ، فبما أنهم انتموا إليه و إلى أهله ، فمن الواجب عليهم أن يلتزموا به فكرا و سلوكا ، قلبا و قالبا . و هذا أمر يفرضه عليهم المنطق و الشرع ، فلا يصح في العقل أن يُؤمن إنسان بكتاب بأنه وحي إلهي ثم لا يلتزم به ،و لا يحتكم إليه ، و يُخالفه و يُقرر ما يُناقضه . فهذا مرفوض شرعا و عقلا ،و مُستهجن أخلاقا .

و أما شرعا فالله تعالى فرض على المؤمنين بدينه شريعة أمرهم بالالتزام بها ، فوعد المُطيعين له بجنة الخلود، و توعد العاصين له بالعذاب الأليم . و أنكر عليهم تظاهرهم بالإسلام و العمل بخلافه . فقال سبحانه : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }الحجرات15-، و {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }النساء65-، و {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }النساء69-،و {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }النساء14-، و {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }البقرة44- ،و {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف3- .

فعدم التزام هؤلاء بالشرع مع إظهار انتسابهم إلى الإسلام و المسلمين أمر مرفوض ،و لا يصح عقلا و لا شرعا . فهم إما أنهم لم يُؤمنوا به أصلا و إنما تظاهروا بذلك رغبة في تحقيق مصالح دنيوية ، و رهبة من دفع مضار قد تلحق بهم . و هم في هذه الحالة يكونون من المنافقين الذين أظهروا الإسلام مع عدم الإيمان به أصلا . أو أنهم اختلط عليهم الأمر ، بسبب الشكوك و الشبهات التي أفسدت فكرهم لقلة علمهم و ضعف إيمانهم ،و انحراف منهجهم العقلي . فهم من الذين في قلوبهم و عقولهم أمراض ، و شكوك ، و شبهات ، فلا هم من المؤمنين ،و لا من الكفار ،و لا من المنافقين . و الله تعالى أعلم بحقيقة موقفهم من دين الإسلام . لكن الثابت قطعا أنهم لم يكونوا في مستوى ما يفرضه عليهم الشرع و العقل في ضرورة الالتزام بدين الإسلام في مجال الطبيعيات من جهة . و أنهم أهملوا طبيعيات القرآن الكريم و قرروا خلافها في مواقف كثيرة جدا من جهة أخرى . فلا هم التزموا بالشرع الصحيح ،و لا أخذوا بما يقرره و يفرضه عليهم العقل الصريح . فكان الذي صدر عنهم لا يصدر عن مؤمن صادق كامل الإيمان ، و لا يفعله إنسان يحتكم إلى العقل الصريح !! .

و الاعتراض الثالث مفاده ربما يقول بعض الناس : إن هؤلاء الفلاسفة تبنوا طبيعيات اليونان ،و خالفوا طبيعيات القرآن من باب الموضوعية و ما يفرضه عليهم البحث العلمي النزيه .

و أقول : هذا تبرير أقرب إلى التغليط و التدليس من التبرير النزيه . و هو تبرير لا يصح بدليل الشواهد الآتية : أولها إن الموضوعية الحقيقة تتطلب من هؤلاء ذكر كل موقف و رأي وُجد في كتاب يتعلق بالموضوع المعني ، بغض النظر عن مصدره و نوعه ،و صاحبه و طبيعته .

و الثاني مفاده أن الموضوعية تتطلب منهم أن يكونوا موضوعيين مع أنفسهم ، فيذكرون ما يعتقدونه من آراء و لا يخفونها، و من يُخفيها فهو إما أنه مغالط و مُدلس ، أو أنه خائف ، أو أنه يُخفي عيوبه .

و الشاهد الثالث مفاده أنه من الطبيعي و من المطلوب أن يذكر الإنسان مواقفه الدينية و المذهبية ،و يدافع عنها . و من لا يفعل ذلك فهو إما أنه ضعيف خائف من إظهار عقيدته ، أو أنه لا يُؤمن بتلك العقيدة ،و إنما تظاهر بها فقط ، فعندما يأمن على نفسه لا يذكرها ، بل ينصر خلافها . و عليه فليس من الموضوعية و لا من العقل أن لا يُظهر الإنسان أفكاره و يُدافع عنها ، بل هو المطلوب و الممدوح . و هذا هو المعروف و المشهود قديما و حديثا بين أهل العلم فهم يُدافعون عن أفكارهم و مذاهبهم و أديانهم و ينتصرون لها .
و الاعتراض الرابع مفاده إنه ربما يعترض علينا بعض أهل العلم في استعانتنا بالعلم الحديث في نقدنا لهؤلاء الفلاسفة في أخذهم بطبيعيات اليونان و مخالفتهم لطبيعيات القرآن . و يبدو أن الباحثة زينب عفيفي قصدت ذلك عندما قالت : (( ومع احترامنا لوجهة النظر هذه إلا أننا في دراستنا لتراث فلاسفتنا السابقين يجب أن نكون حريصين قدر الإمكان من محاولات تحديث الفكر الفلسفي أو النظر إليها بمنظور العلم الحديث، لأن ذلك سوف يخرجها عن محتواها الذي ظهرت فيه ويبعد بها إلى مجالات أخرى لم تكن في اعتبار هؤلاء المفكرين ولا في محيط بيئتهم التي ظهروا فيها ))[41] .
و أقول : هذا اعتراض مرفوض و ينطوي على موقف خطير جدا ، يكرس السلبية و الانهزامية ، و التحريف و التغليط ، و يمنع العقل من أن ينقد بحرية و علمية و بكل ما لديه من حقائق الشرع و العقل و العلم . فلماذا لا ننقد هؤلاء بذلك ؟! . لماذا نعمل على الحفاظ على التغليط و التحريف و تقديس الشخصيات ؟! ،و لماذا لا نُظهر للعالم أخطاء هؤلاء كما نُظهر صوابهم و نغالي فيهم ؟؟ . و أليس من الواجب علينا نقد فكر هؤلاء بكل ما نستطيع ؟؟!! . و لماذا هؤلاء الفلاسفة نقدوا غيرهم بعلوم عصرهم ، و نحن لا ننقدهم بعلومنا ؟؟!! .
إن الصواب هو أنه يجب علينا أن ننظر إلى تلك الفلسفة بحقائق الشرع و العقل و العلم ، لنعرف حقيقتها ،و نُميز صحيحها من سقيمها ، ثم بعد ذلك ننظر هل أخطاء هؤلاء هي من الأخطاء التي تقبل الاعتذار أم لا ؟؟ ، ثم نبين ذلك و نعتذر لمن يستحق الاعتذار ، و لا نعتذر لمن لا يستحقه . ثم بعد ذلك نذم من داس على العقل و العلم ، و من جعل الشرع وراء ظهره ، و عليه أن يتحمل هو مسؤولية ذلك . و لا يصح أن نعتذر لأحد منهم كان يتعمد مخالفة الشرع الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .
لذلك يجب أن ننقد فلسفة هؤلاء و غيرهم بكل ما نملك من حقائق ، و لا نتهيب و لا نتراجع ، شريطة أن لا نكذب عليهم ، و لا نحرف كلامهم ،و لا نُحمله ما لا يحتمل . لكن لا يصح أن نُدللهم ،و أن نسكت عن أخطائهم و انحرافاتهم العلمية و المنهجية ، . و الأمثلة على أخطائهم كثيرة جدا ذكرنا منها طائفة في كتابنا هذا و في كتب أخرى لنا . و هذه النماذج لم تُحَدِّث فكر هؤلاء كما زعمت الباحثة ، و إنما نقدته بالحق ، و بينت الخطأ و الصواب في كلامهم ، فهذا ليس تحديثا و لا تحريفا ، و إنما هو عمل علمي نقدي تمحيصي هادف لخدمة العلم و الحق . و عمل كهذا مطلوب جدا و ضروري ، و لا يصح تقزيمه ، و لا تقبيحه ، و لا الوقوف ضده .
علماً بأن كثيرا من أخطاء هؤلاء كان من الممكن جدا تجنبها لو كان كثير منهم في مستوى النقد العلمي الموضوعي الصحيح، القائم على الوحي الصحيح، و العقل الصريح، و العلم الصحيح . و الدليل على ذلك أن منتقديهم المعاصرين لهم تمكنوا من إبطال كثير من أفكارهم في المنطق و الإلهيات ، كما فعل أبو حامد الغزالي في نقده لإلهياتهم ، و ابن تيمية في نقده لمنطقهم و إلهياتهم أيضا ،و قد توسع في ذلك توسعا كبيرا ،و له في ذلك بحوث و مصنفات .
فلا يصح أن نخون أمانة العلم ، بأن نسكت على أخطاء هؤلاء ، و ندللهم بإخفاء أخطائهم ،و السكوت عنها ،و الدعوة إلى عدم انتقادها بحقائق الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . و من يفعل ذلك ، فهو يعمل على تكريس التخلف و التعصب ،و السلبية و الانهزامية ، و التدليس و التغليط ، و هو يفعل ذلك من حيث يدري أو لا يدري .
و لماذا التخوف من نقد هؤلاء بمنهج الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ؟؟ ، أليس هذا هو المنهج الصحيح ؟؟ ، فلماذا نتظاهر بطلب الحقيقة ثم نعمل على طمسها ،و نسعى إلى عدم الوصول إليها ؟؟ ، أية فائدة نجنيها من إخفاء أخطاء و انحرافات السابقين ؟! ، و لماذا لا نُظهر هؤلاء للناس على حقيقتهم ، بما لهم و بما عليهم ؟!! . و لماذا نحرص على مدح و تبجيل هؤلاء باستخدام التحريف و الإغفال و الانتقاء ،و لا نعمل على كشف هؤلاء على حقيقتهم ؟؟! . و لماذا نسعى على تكوين باحثين سلبيين انهزاميين عملهم التبجيل و المدح حتى و لو بالباطل ؟؟!! . فلماذا لا نربيهم على المنهج العلمي الصحيح الذي يعلمهم المنهج الذي يكشف لهم عن الصواب و الخطأ معا ،و يجمع بين المدح و التبجيل ،و بين الذم و القدح ، و بين الاعتذار و التبرير على أن يضع كل نوع في مكانه الصحيح ، بلا إفراط و لا تفريط ؟؟!! .
و أية فائدة حقيقية نجنيها من إخفاء أخطاء و سلبيات السابقين ؟؟!! ، أليس العاقل هو من يستفيد و يتعظ بسلبيات غيره و إيجابياتها معا .؟؟!! أليس نحن في أمس الحاجة إلى الاتعاظ بسلبياتنا أكثر من الاتعاظ بإيجابياتنا ؟؟ . ألم نتضرر كثيرا عندما بالغنا في الافتخار و تضخيم إيجابياتنا من جهة ،و ضربنا صفحا عن كثير من سلبيتنا الكثيرة جدا و التي أفسدت علينا ديننا و دنينا من جهة أخرى ؟؟!! . ألسنا في أمس الحاجة إلى الاعتبار بسلبيتنا قبل الاعتبار بإيجابياتنا؟؟!! .
و الاعتراض الخامس مفاده أنه ربما يقول بعض الناس: إنكم انتقدتم علماء المسلمين في أنهم أهملوا طبيعيات القرآن الكريم عندما دوّنوا العلوم في القرنين الثاني و الثالث الهجريين ، فلم يدونوها كعلم شرعي ،و لا طرحوها كبديل لطبيعات اليونان ؛ مع أن الحقيقة هي أن الطبيعيات تختلف عن علوم الشريعة و الإنسانيات . لأن لكل أمة دينها و شريعتها ،و إنسانياتها المُميزة لها، و هي علوم مرتبطة بعقائد و مذاهب كل أمة ، فهي متعددة و متنوعة . لكن علوم الطبيعة واحدة لا تتعدد و لا تتنوع حسب الشعوب و المذاهب و الأديان ، فكيف يُمكن إيجاد طبيعيات إسلامية تقوم على القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ؟ .
فأقول: أولا يجب أن لا يغيب عنا أنه ليس صحيحا أن علوم الطبيعة منفصلة تماما عن عقائد و شرائع الأديان و علوم الإنسان . لأن العلوم الطبيعية مع اختلاف مواضيعها عن الأديان و الشرائع و علوم الإنسان ، إلا أنها لا يُمكن أن تقوم في أساسها الأول و في كثير من جوانبها إلا على عقائد و مذاهب الذين يشتغلون بها من جهة ، و تبقى هذا الأصول تؤثر في كثير من الفروع من جهة أخرى . و الشاهد على ذلك هو أن طبيعيات اليونان أقامها أهلها على إلهياتهم ، كما هو حال طبيعيات أرسطو . فهي طبيعيات أقامها أرسطو على القول بأزلية العالم و أبديته ، و تعدد الآلهة ،و هذه العقائد ضلت تتحكم في طبيعيات أرسطو و تُؤثر فيها عندما خاض في جزئيات كثيرة من طبيعياته المتعلقة بالحيوان ، و الآثار العلوية ،و السماء و العالم[42] .
و من ذلك أيضا أن الغربيين في العصر الحديث أقاموا علوم الطبيعة على النزعتين المادية و العلمانية ، و قسم كبير جدا منها أقاموه على الإلحاد ،و القول بالصدفة . و ما تزال آثار ذلك ظاهرة إلى يومنا هذا ، نجدها مُتفرقة في الطبيعيات المعاصرة . فلماذا نحن إذاً لا نُقيم الطبيعيات على أساس من القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ؟؟!! .
و ثانيا يجب أن لا يغيب عنا أن القرآن الكريم يختلف عن كل الكتب الدينية المقدسة فيما يتعلق بالطبيعيات . فهو لم يذكر أفكارا قليلة عامة عادية عن مظاهر الطبيعة كذكر الشمس ، و الأرض ،و النجوم ، كما هو حال الكتب الدينية الأخرى[43]؛ و إنما ذكر آيات كثيرة جدا غطت علوما كثيرة من جهة ،و تضمنت جزئيات كثيرة حملت مظاهر إعجازية باهرة من جهة أخرى . فهذه الوفرة كافية لإقامة طبيعيات إسلامية الأصول و كثير من الجزئيات ،و عليها يقوم العمل العلمي في مجال البحث و الكشف ، و التنظير و التسخير . و هي أصول لا تناقض العقل الصريح ، و لا العلم الصحيح ، و بهذا يسقط ذلك الاعتراض .
و الاعتراض الأخير – السادس - مفاده أنه ربما يعترض علينا بعض الباحثين فيقول: إنكم بالغتم كثيرا في انتقاد الفلاسفة المسلمين ، فكان من المفروض أن تبحث لهم عن مبررات و تعتذر لهم ، لأنهم ربما كانوا معذورين في مخالفاتهم لطبيعيات القرآن الكريم .
و أقول: هذا اعتراض في غير محله ،و الاعتذار لهؤلاء لا يصح و غير مقبول تماما ، لأن هؤلاء لم يُخالفوا طبيعيات القرآن في الأمور الاجتهادية فقط ، و إنما خالفوه صراحة في طبيعيات تتعلق بأصول الدين ، كقولهم بأزلية العالم و أبديته ، و تعدد الآلهة و مشاركتها في إيجاد العالم،و إنكارهم للمعاد الأخروي .
فهم إما أنهم كانوا جاهلين بدين الإسلام ، و في هذه الحالة فهم لا يُعذرون بجهلهم ، لأنهم كانوا من أهل العلم ، و يجب عليهم معرفة أصول دين الإسلام الذي انتموا إليه . و إما أنهم كانوا على علم به ،و تعمدوا مخالفته في طبيعياته و إلهيات . و في الحالتين لا يصح الاعتذار لهم ،ولا البحث لهم عن مخارج و تبريرات .
و إنهاءً لهذا الفصل- الثاني والأخير- يتبين منه أن مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم كانت لها آثار سلبية كثيرة و خطيرة جدا على مستوى الأفكار و السلوكيات . منها إنه اتضح أن هؤلاء خالفوا طبيعيات القرآن الكريم و إلهياته مخالفات صريحة لا تحتمل تبريرا و لا اعتذارا . و أنهم كانوا متناقضين مع أنفسهم و دينهم و مجتمعهم من جهة ،و لم يكونوا في مستوى ما يتطلبه منهم البحث العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال من جهة أخرى . و أنهم أفسدوا الطبيعيات في الحضارة الإسلامية أكثر مما أصلحوها و طوّروها ، فكانت كثيرة الأخطاء و الانحرافات العلمية و المنهجية .
و تبين أيضا أن أسباب مخالفات هؤلاء لطبيعيات القرآن الكريم هي أسباب عميقة تعود أساساً إلى ضعف إيمانهم بدين الإسلام ،و إلى نقص في تكوينهم النفسي و المعرفي . فأوجد فيهم ذلك رفضا لطبيعيات القرآن ،و قبولا لطبيعيات اليونان ، و سلبية و انهزامية في تعاملهم مع فلسفة اليونان . و أوقعهم أيضا في مخالفات لا تقبل التبريرات و لا الاعتذارات.

















....................................


الخاتمة
أظهر بحثنا هذا أن مخالفات الفلاسفة المسلمين لطبيعيات القرآن الكريم كانت كثيرة و متنوعة ، و ترتبت عنها آثار سلبية عديدة و وخيمة ، بحيث لا يُمكن الاعتذار لهم في معظمها ،و لا تبريرها .

فمن ذلك أولا فقد تبين أن الفلاسفة المسلمين- الذين ذكرناهم- قد انحرفوا عن المنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال انحرافا كبيرا و فاحشا . فتكلموا في أمور لم يروها، و لا يُمكنهم رؤيتها ، و لا اعتمدوا على آثارها . و جعلوا خلفياتهم المذهبية الأرسطية مُنطلقا لهم من جهة ، و جعلوا ظنونهم و رغباتهم و اجتهاداتهم مُقدمات لهم من جهة أخرى . و هذا منهج استدلالي مرفوض كلية ، و لا يصح عقلا ، و لا علما ،و لا شرعا. و هم قد أخذوه عن شيخهم أرسطو الذي مارسه كثيرا .

و ثانيا فقد أظهر بحثنا هذا أن هؤلاء الفلاسفة قد خالفوا طبيعيات القرآن المتعلقة بخلق العالم ، و العناصر المكونة له ،و و طبيعة كائناته السماوية و الأرضية ، خالفوه مخالفات صريحة لا لُبس فيها ، و قدموا عليها طبيعيات اليونان . فخالفوا بذلك الوحي و العقل و العلم ، و وقعوا في أخطاء كثيرة جدا ذكرنا منها نماذج عديدة و متنوعة . و ذلك الموقف لا يصح شرعا و لا عقلا أن يصدر عن مسلم صادق الإيمان بدينه . فخالفوا دينهم صراحة في أصوله و فروعه ،و أدخلوا أنفسهم في صراعات داخلية ،و أوقعوها في تناقضات مع ذواتها و عقولها . فكانوا في تناقض رهيب لا يقبله عالم نزيه و صريح مع نفسه و الناس .

و ثالثا فقد اتضح أن قول هؤلاء الفلاسفة بخرافة العقول الأزلية المفارقة ،و دورها في تحريك الأجرام السماوية هو شرك صريح ،و قول بتعدد الآلهة ،و نقض للتوحيد الإسلامي . فلو رجعوا إلى القرآن الكريم و التزموا به لتبين لهم بطلان القول بتلك العقول ، و لجنبوا أنفسهم القول بها ،و لَمَا خالفوا الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

و رابعا فقد أظهرت مواقف هؤلاء الفلاسفة من النفس و خلودها أنهم قالوا بمعادٍ غير شرعي، أقاموه على أهوائهم و ظنونهم ،و اتخذوه بديلا عن المعاد الأخروي الشرعي . فلم يقولوا بالخلود القرآني و ما يترتب عن ، و إنما قالوا بخلود خرافي لا قيامة فيه و لا معاد .
و خامسا فقد تبين أن هؤلاء الفلاسفة كانت عندهم جرأة كبيرة على مخالفة طبيعيات القرآن الكريم ، و لم تكن عندهم نفس الجرأة و لا قريبا منها على مخالفة أرسطو و انتقاده في الحق !! . و كانت لهم همة و إقبال على تلخيص و شرح كتب فلاسفة اليونان ،و لم تكن لهم همة على انتقادها ، و لا على الأخذ بطبيعيات القرآن للرد بها على طبيعيات اليونان . فضيعوا أوقاتهم و جهودهم في السلبية و الانهزامية ،و التقليد و التعصب للباطل ، بدلا من أن يبذلوها في فهم طبيعيات القرآن و الكشف عن أسرارها و تطبيقها في بحوثهم العلمية .
و سادسا إنه قد اتضح بجلاء أن الطبيعيات في الحضارة الإسلامية قامت أساسا على طبيعيات اليونان و إلهياتها الدهرية و الشركية ،و لم تقم على طبيعيات دين الإسلام و إلهياتها التوحيدية . لأن هؤلاء الفلاسفة تبنوا طبيعيات اليونان و انتصروا لها ،وخالفوا طبيعيات القرآن و جعلوها وراء ظهورهم . فأدى هذا إلى نشأة غير طبيعية لعلوم الطبيعة في الحضارة الإسلامية . فهي لم تنبع من صميم ديننا و مجتمعنا ،و إنما أُدخلت إلينا –بكل مكوناتها- من غير إذن من ديننا ، و لا من أمتنا ، و لا من علمائنا الذين يُمثلون ديننا و أمتنا .
و سابعا فقد أظهر كتابنا هذا أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا في المستوى المطلوب من الناحية العقلية ،و لا الشرعية ، و لا العلمية ؛ و إنما كانوا مثالا سيئا لغيرهم من أهل العلم و عامة الناس . فلم يكونوا النموذج المثالي القدوة لما يجب أن يكون عليه الفيلسوف المسلم ، فلا هم التزموا بدينهم .و لا هم كانوا في مستوى منطق البحث و الاستدلال . و لا هم كانوا في مستوى العلماء الأحرار المبدعين الذين يُقدمون البراهين على أقوال الرجال . فكانوا فلاسفة مسلمين بفلسفة يونانية ،و لم يكونوا فلاسفة مسلمين بفلسفة إسلامية !!!! .
و أخيرا – ثامنا - فقد تبين أن أسباب مخالفات هؤلاء لطبيعيات القرآن الكريم هي أسباب عميقة تعود أساساً إلى ضعف إيمانهم بدين الإسلام ، و كفر بعضهم به ،و إلى افتقارهم إلى التكوين الصحيح نفسيا ، و منهجيا ، و معرفيا . فأوجد ذلك فيهم رفضا لطبيعيات القرآن ،و قبولا لطبيعيات اليونان .
تم الكتاب، و لله الحمد أولا و أخيرا .
أ ، د : خالد كبير علال
شوال1432ه/ سبتمبر 2011م- الجزائر













من المصادر و المراجع :
1-القرآن الكريم .
2-ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء .
3-ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة .
4-ابن باجة : رسائل جديدة لابن باجة ، نشرها عبد الرحمن بدوي .
5-ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، حققه محمد رشاد سالم ، ط1 ، مؤسسة قرطبة ، 1406 .
-6-ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية ، السعودية ، الطبعة : 1416هـ/1995م .
7-ابن حجر : فتح الباري ، ط 2 ، دار المعرفة ، بيروت .
8-ابن رشد : شرح السماء و العالم ، حققه أسعد جمعة ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، 2002 .
9-ابن رشد : جوامع الكون و الفساد ، حققه أبو الوفاء التفتزاني ، و سعيد زايد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991 .
10-ابن رشد : رسالة السماء و العالم و الكون و الفساد ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، ط 1 ، دار الفكر اللبناني، بيروت ، 1994.
11-ابن رش: تفسير ما بعد لطبيعة لأرسطو ، ط 1 ، دار إدريس ، دمشق ، 2007 .
12-ابن رشد : تلخيص ما بعد الطبيعة ، حققه عثمان أمين ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ،1958 .
13-ابن رشد : تلخيص السماء و العالم ، حققه جمال الدين العلوي منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بفاس .
14-ابن رشد : تهافت التهافت ، حققه صلاح الدين الهواري ، بيروت ، المكتبة العصرية ، 2006 ، .
15-ابن رشد : الآثار العلوية ، حققه سهير فضل الله ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1994 .
16-ابن رشد : ، ما بعد الطبيعة ، ط1 ، حققه رفيق العجم ، و جيرار جهامي ، دار الفكر العربي ، بيروت ، 1994 .
17-ابن رشد : الآثار العلوية ، حققه سهير فضل الله ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1994 .
18-ابن سينا : الطبيعيات ، من كتاب الشفاء .
19-ابن سينا : علم الهيئة ، المقالة الأولى .
20-ابن سينا : النجاة .
21-ابن سينا : عيون الحكمة ، حققه عبد الرحمن بدوي ، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ـ 1980 .
22-ابن قيم الجوزية : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ، حققه محمد حامد الفقي ، دار المعرفة ، بيروت ، 1975 .
23-ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، : دار طيبة للنشر والتوزيع ، السعودية ، 1999 .
24-ابن منظور الإفريقي: لسان العرب ، ط1 ، بيروت ، دار صادر .
25-ابن الهيثم : الشكوك على بطليموس ، حققه عبد الحميد صبرة ، و نبيل الشهابي ، مطبعة دار الكتب ، مصر ، 1971 .
26-أبو بكر الرازي: مختار الصحاح ، ط4 ، الجزائر ، دار الهدى ، 1990.
27-أرسطو : كتاب الطبيعة ، حققه عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة ، القاهرة ، 1965 .
28-أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحقة بكتاب -أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 .
29-أرسطو : مقالة الجما من كتاب ما بعد الطبيعة ، ملحقة بكتاب مدخل إلى الميتافيزيقا لإمام عبد الفتاح إمام ،ط1 ، مصر ، نهضة مصر ، 2005 .
30- البخاري: الصحيح ، حققه محمد زهير بن ناصر الناصر ، ط1 ، دار طوق النجاة ، 1422هـ .
31-البيروني: القانون المسعودي ، ط1 ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، الهند ، 1954 .
32-البيروني: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، الهند ، 1958 .
33-جمال الدين القفطي: أخبار العلماء بأخيار الحكماء .
34-ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ترجمة عبد الله حسين ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006 .
35-الطبري : تفسير الطبري ،بيروت ، دار الفكر ، 1405 .
36-الفارابي: رسائل الفارابي ، سلسلة مكتبة الأسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2007 .
37-الفارابي : رسالتان فلسفيتان للفارابي ، تحقيق جعفر آل ياسين ، ط1 ، دار المناهل ، بيروت ، 1987 .
38-الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ، حققه ألبير نادر ، دار المشرق ، بيروت ، 2000 .
39-القرطبي : تفسير القرطبي ،حققه احمد البردوني ، ط2 ، القاهرة ، دار الشعب ، 1372 .
40-الكندي : الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون و الفساد ، ملحق ، بكتاب الكندي – فلسفته ، مُنتخبات – لعبد الرحمن مرحبا ، عويدات ، بيروت ، باريس ، 1985 .
41-الكندي : رسالة الكندي في النفس المختصرة من كتاب أرسطو و أفلاطون و غيرهما ، ملحقة بكتاب الكندي ، لعبد الرحمن مرحبا ، عويدات ، بيروت ، باريس ، 1985 .
42-مسلم : الجامع الصحيح ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي – بيروت .
43-آن تري هوايت : النجوم ، ترجمة إسماعيل حقي ، ط7 ، دار المعارف ، مصر ، 1992 .
44-جميل صليبا : تاريخ الفلسفة العربية ، ط 3 ، الشركة العالمية للكتاب ، بيروت ، 1995 .
45-خالد كبير علال : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ، منشور إلكترونيا في عدة مواقع ، منها صيد الفوائد ،و الألوكة .
46-دافيد برجاميني : الكون ، دار الترجمة ، بيروت .
47-روبرت أغروس و جورج ستانسيو : العلم في منظوره الجديد ، المجلس الوطني للثقافة ، الكويت . [1]
48-زغلول النجار : إنزال الحديد ، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة ، موقع : www.55a.net .
49-زينب عفيفي : عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، دار الوفاء، الإسكندرية ، 2002 .
50-زينب عفيفي : العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1993 .
51- -سام تريمان : من الذرة إلى الكوارك ، ترجمة أحمد فؤاد باشا ، عالم المعرفة ، الكويت ، رقم 327 ، سنة 2006 .
52-سيد وقار أحمد : العلوم الفلكية في القرآن الكريم ، ترجمة سمية زيتوني ، دار طلاس ، دمشق ، 1996 .
53-صديق خان القنوجي : أبجد العلوم ، حققه عبد الجبار زكار ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1978 .
54-عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط 3 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980.
55-عبد الدائم الكحيل : برنامج موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية ، و البرنامج موجود على الشبكة ، و موجود أيضا في موقع عبد الدائم الكحيل : www.kaheel7.com
56-عبد الرحمن بدوي : الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية ، بحث ضمن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية ،ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت ، 1987
57-عبد الرحمن مرحبا :الكندي – فلسفته مُنتخبات – عويدات ، بيروت ، باريس ، 1985 .
58-عبد العليم خضر : المنهج الإيماني في الدراسات الكونية ، ط1، الرياض، الدار السعودية ، 1404 .
59-عبد العليم عبد الرحمن خضر : الظواهر الجغرافية بين العلم و القرآن ، ط1 ، الدار السعودية ، الرياض ، 1984 .
60-عبد المجيد الزنداني : توحيد الخالق .
عبد المجيد الزنداني: علم الإيمان .
61-علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، 1992 .
62- علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، د ت .
63-علي حسن موسى و آخرون : تاريخ علم الفلك ، ط1 ، دار دمشق ، دمشق ، 1984 .
64- فرنكل كلوز : النهاية ، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، 1994 .
65- ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية : من طاليس إلى أفلاطون و برُقلس- ط1 ، دار العلم للملايين ، 1991 .
66-ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1958 .
67-محمد عبد الحميد الحمد : حياة البيروني ، دار المدى ، دمشق ، 2000.
68-محمد عابد الجابري: ابن رشد : سيرة و فكر ، ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2001 .
69-محمد عبد الرحمن مرحبا : الكندي - فلسفته مُنتخبات – عويدات ، بيروت ، باريس ، 1985 .
70-منصور حسب النبي : الزمان بين العلم و القرآن ، دار المعارف، القاهرة ، 2001 .
71-الموسوعة العربية العالمية ، النسخة الإلكترونية ، 2004 .
72-موريس بوكاي : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ، ط 4 ، دار المعارف ، لبنان ، 1977 .
73- يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر ، القاهرة ، 1936 .











فهرس المحتويات
المقدمة

الفصل الأول
نماذج من مخالفات الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم
أولا : قول الفلاسفة المسلمين بأزلية الكون و أبديته
ثانيا : موقف هؤلاء الفلاسفة من طبيعة العناصر المكونة للعالم
ثالثا : قول هؤلاء الفلاسفة بوجود عقول أزلية تحرك الأفلاك
رابعا: مخالفات تتعلق بحرارة الشمس و الكواكب
خامسا: قول هؤلاء الفلاسفة بأزلية الأنواع و حدوث الأفراد
سادسا: مخالفات تتعلق بظواهر أرضية

الفصل الثاني
آثار و أسباب مخالفة الفلاسفة المسلمين
لطبيعيات القرآن الكريم
أولا : آثار و استنتاجات من مخالفات هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن
ثانيا : أسباب مخالفة هؤلاء الفلاسفة لطبيعيات القرآن
ثالثا: اعتراضات و ردود
الخاتمة
أهم المصادر و المراجع



مصنفات للمؤلف :
1- صفحات من تاريخ أهل السنة و الجماعة في بغداد .
2-الداروينية في ميزان الإسلام و العلم .
3- قضية التحكيم في موقعة صفين – دراسة وفق منهج علم الجرح و التعديل
4- الثورة على سيدنا عثمان بن عفان – دراسة وفق منهج علم الجرح و التعديل-
5-مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه .
6- الصحابة المعتزلون للفتنة الكبرى – دراسة وفق منهج أهل الجرح و التعديل
7- الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث .
8- أخطاء المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون في كتابه المقدمة
9- الأخطاء التاريخية و المنهجية في مؤلفات محمد عابد الجابري و محمد أركون
10-أباطيل و خرافات حول القرآن الكريم و النبي محمد-عليه الصلاة و السلام- -دراسة نقدية لدحض أباطيل الجابري ،و خرافات هشام جعيط-
11-نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد –على ضوء الشرع و العقل و العلم –
12-التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي- خلال العصر الإسلامي-
13-بحوث حول الخلافة و الفتنة الكبرى-وفق منهج علم الجرح و التعديل- .
14- مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية .
15- وقفات مع أدعياء العقلانية - قراءة نقدية لفكر حسن حنفي ، و نصر حامد أبي زيد ، و هشام جعيط ، و أمثالهم- .
16- تناقض الروايات السنية و الشيعية حول تاريخ صدر الإسلام- مظاهره و آثاره ، أسبابه و منهج تحقيقه- .
17- جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .









[1] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[2] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 247 .

[3] ابن سينا : النجاة ، ص: 153-154 .

[4] ابن باجة : رسائل فلسفية لابن باجة ، ص: 46 .

[5] جميل صليبا : تاريخ الفلسفة العربية ، ط 3 ، الشركة العالمية للكتاب ، بيروت ، 1995 ، ص: 503 ، 530 .

[6] ابن رشد : تهافت التهافت ، ص: 60 .

[7] ابن رشد : تهافت التهافت ، ص: 60 .

[8] ابن رشد : تهافت التهافت ، ص: 60 .

[9] لا نوثقها لأنه سبق توثيقها في الفصل الأول ، لكن سنوثق الجديد الذي يتطلب التوثيق .

[10] أنظر مثلا : ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 1 ، 201 ، 227 . و ابن رشد : الآثار العلوية ، حققه سهير فضل الله ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1994 ، ص: 13 ، 78 .

[11] سبق أن ذكرنا نماذج كثيرة من طبيعيات القرآن الكريم . و أما عن منهجها و الدعوة إليها ، منها قوله سبحانه : (({قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20 .

[12] البيروني : القانون المسعودي ، ج 1 ص: 30 ، 31 .

[13] البيروني : القانون المسعودي ، ج 1 ص : 36 ، 37 .

[14] للتوسع في هذا الموضوع أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية ، و لكتاب منشور ورقيا و إلكترونيا

[15] عن ذلك أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية ، و الكتاب منشور ورقيا و إلكترونيا .

[16] سيد وقار أحمد : العلوم الفلكية في القرآن الكريم ، ترجمة سمية زيتوني ، دار طلاس ، دمشق ، 1996 ، ص: 13 .

[17] سنعود إلى حاله لاحقا بحول الله تعالى .

[18] ابن سينا : الطبيعيات ، ص: 416 ،417 ، 418 ، 420 ، 493 ، 551 .

[19] هذه الأخطاء توسعت ُ في إظهارها ،و تبيان خطئها في كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم ، و الكتاب منشور إلكترونيا .

[20] الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص: 61- 62 .

[21] علي حسن موسى و آخرون : تاريخ علم الفلك ، ط1 ، دار دمشق ، دمشق ، 1984 ، ص : 46 و ما بعدها ، 128 و ما بعدها . و نضال قسوم : ابن الشاطر وكوبرنيكس: هل لـ"الثورة الكوبرنيكية" جذور إسلامية؟ ، المقال موجود على شبكة الانترنت .

[22] نضال قسوم : ابن الشاطر وكوبرنيكس: هل لـ"الثورة الكوبرنيكية" جذور إسلامية؟ ، المقال موجود على شبكة الأنترنت .

[23] سبق أن أشرنا مرارا إلى العقول و معقولاته ، ذكرناها في الفصل الأول . لكن أنظر أيضا : نفس المصدر ، 19 و ما بعدها . و ابن الهيثم : الشكوك على بطليموس ، حققه عبد الحميد صبرة ، و نبيل الشهابي ، مطبعة دار الكتب ، مصر ، 1971 ، ص: ص من مقدمة المحقق عبد الحميد صبرة .

[24] . نضال قسوم : ابن الشاطر وكوبرنيكس: هل لـ"الثورة الكوبرنيكية" جذور إسلامية؟ ، المقال موجود على شبكة الأنترنت .

[25] نضال قسوم : ابن الشاطر وكوبرنيكس: هل لـ"الثورة الكوبرنيكية" جذور إسلامية؟ ، المقال موجود على شبكة الأنترنت .

[26] للتوسع في مقاومة المجتمع لفكر أرسطو و غيره من فلاسفة اليونان ، أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية .

[27] سنعود إليه لاحقا ، بحول الله تعالى .

[28] للوقوف على ما ذكرناه بالتفصيل و الأدلة القطعية الدامغة أنظر كتبي الآتية : : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية . و نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد . و جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[29] ابن رشد : ما بعد الطبيعة ن تحقيق رفيق العجم و زميله ، ص: 163 .

[30] عبد الرحمن بدوي : الفلسفة و الفلاسفة في الحضارة العربية ، بحث ضمن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية ،ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت ، 1987 ، ص: 151 و ما بعدها .

[31] أبجد العلوم ، حققه عبد الجبار زكار ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1978 ، ج 1 ص: 260 .

[32] ابن أبي أُصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، ج 1 ، ص: 284 .

[33] البيروني: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، الهند ، 1958 ، ص: 270-271 .

[34] ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، ج 1 ، ص: 275 .

[35] ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ج 2 ص: 273 .

[36] ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 6 ص: 304 ، 307 .

[37] ابن القيم : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ، حققه محمد حامد الفقي ، دار المعرفة ، بيروت ، 1975 ،ج 2 ص: 246 .

[38] كما فعل الغزالي في الإلهيات ،و ابن تيمية في المنطق و الإلهيات .

[39] عبد الرحمن مرحبا :الكندي – فلسفته مُنتخبات – عويدات ، بيروت ، باريس ، 1985 ص: 40 ,

[40] أشار إلى ذلك ابن قيم الجوزية في قوله الذي نقلناه عنه المتعلق بالطبيب أبي بكر الرازي ، الذي أخلط بين إلهيات القدماء ،و كوّن بها مذهبه .

[41] زينب عفيفي : الفلسفة الطبيعية و الإلهية عند الفارابي ، دار الوفاء، الإسكندرية ، 2002 ، ص: 144 .

[42] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم .

[43] عن ذلك أنظر مثلا : موريس بوكاي : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة .

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خطبة حول القرآن الكريم نور الإسلام خطب إسلامية 0 02-04-2014 07:21 AM
الوسطية في القرآن الكريم نور الإسلام كتب ومراجع إسلامية 0 20-05-2013 06:24 AM
خمسة من معجزات القرآن الكريم نور الإسلام هدي الإسلام 0 11-01-2012 09:21 PM
ادعية في القرآن الكريم نور الإسلام هدي الإسلام 0 11-01-2012 08:36 PM
الأخطاء المزعومة في القرآن الكريم نور الإسلام هدي الإسلام 0 10-01-2012 06:27 PM


الساعة الآن 09:11 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22