صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-06-2014 ~ 07:46 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 11
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس التاسع و الأخير

في مقام التلقي لسر الخالقية: حق الله على عباده، وحجة الرسل والدعاة!

1- كلمات الابتلاء:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ(77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ(80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ(81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(83).
2- البيان العام:
أما هذا فمقام العظمة والجلال!.. المشاهدات فيه ترتجف خوفا مما رَاعَهَا من بارق النور العظيم! فلختام السورة تَجَلٍّ لحق الله العظيم وحجته البالغة، على مقامٍ لاهبٍ، يحرق وجدان العبد المتلقي لآياته! فلم يزل يرى – إن كان من المبصرين – بهذه الخواتم، من أسرار العظمة، وخوارق الربوبية؛ ما يزلزل كيانه، ويهد بنيانه؛ حتى يخر بين يدي ربه صَعِقاً!
ههنا يخاطب الرحمن مرة أخرى الكافر العنيد، يخاطبه بما هو جنس إنساني، خلقه من ماء مهين! فيلتفت إليه بسؤال إنكاري شديد، يحمل من التهديد والوعيد، وعمق الحجة وقوة البيان؛ ما يجعل قلب المؤمن - القارئ أو المستمع- يرتجف خوفا ورَهَباً! إذ ينكشف له من أسرار الملك والملكوت، ما يجعله صريع النظر إلى عظمة الله الواحد القهار!
الإنسان! هذا المخلوق الضعيف، الذي أسكنه الله هذا الكوكب الصغير السابح في كون لا يحد بخيال! والأرض ذرة لا تكاد ترى في بحر الملكوت، الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة! هنا يقبع الإنسان الذي يجادل الرحمن رب العالمين! والإنسان في القرآن لفظ غير مريح ولا مستريح! فهو الذي حمل الأمانة فكان ظلوما جهولا! وهو الخصيم المبين! وهو المخلوق في كَبَد! وهو الذي كان أكثر شيء جدلا! وهو الذي قُتِلَ ما أكْفَرَه! وهو الذي أقسم عليه رب العزة إنه لفي خُسْرٍ! ثم استثنى المؤمنين، والمستثنى دائما هو القليل!
الإنسان! هذا المخلوق الضعيف، المحكوم قهراً بضروراته وطينه، ينتصب فوق تربته السفلى ليجادل الله رب العالمين! عجبا! لكن الرحمن يرد على عبده المتعدي حدوده، معرفا إياه بِقَدْرِهِ الصغير وبهوان شأنه! وبحجم جهله بنفسه وبربه! فقال جل جلاله: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ!) وإنه لخطاب قوي مبين! تكلم فيه الرب - جل جلاله - بضمير المتكلم؛ إمعانا في التصدي الرباني المباشر لمردة الكفار، مما يجعل السياق أكثر رهبة وجلالا! وخاطب الإنسان بضمير الغائب؛ إمعانا في التقليل من شأنه والتحطيم لكبريائه الأحمق! ويُذَكِّرُهُ الرب عز وجل بحقيقته، لكن من خلال سؤال إنكاري؛ تبكيتا له وتعجيبا منه؛ أنْ نسي أصل خلقته فطغى وتجبر! وما هو إلا عبد حقير، خلقه الله تعالى بقدرته من نطفة ماء مهين! ثم ها هو ذا بعدما كبر وابتلاه الله بالمال والجاه؛ يصير خصما شديد الجدال لرب العالمين! الذي خلقه من قبل ولم يكن شيئا مذكورا! فأي جهل هذا وأي ضلال!؟
وتذكر كتب التفسير في سبب نزول هذه الآيات قصة طريفة، نوردها مختصرة لأهميتها في بياننا هذا، وذلك أن أحد الكفار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عظما قد أَرَمَّ، أي صار رميما، والرميم هو العظم الذي بلي حتى صار يتفتت! فحتَّه في يده حتى صار غبارا، ثم نفخ فيه فطارت ذراته في الهواء، فقال: يا محمد أتزعم أن الله يحيي هذا بعدما أَرَمَّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم، يميتك الله ثم يحيك ثم يدخلك جهنم!)([1]) فأنزل الله تعالى خواتم سورة يس، مشيرا إلى الحادثة المذكورة في سبب النـزول: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) وفي الآية من التعجيب والسخرية من هزال عقل هذا الكافر ما يجعل حجته ضعيفة البناء، بل بليدة التفكير والتدبير! فهذا الضارب لاستحالة إعادة الخلق - في حق رب العالمين- ذلك المثل المادي الجزئي العَيِيَ، الذي غاب عنه النظر إلى عمق الوجود، والتفكر في أسرار الحياة والموت، وعَمِيَ عن النظر إلى عظمة الله الواحد القهار، قد جاء بما يُخجل لو كان من أولي الألباب! إذ هو يحتج على الله ورسوله بأنه - سبحانه وتعالى - لن يستطيع خلق هذا الرميم المتآكل، ولا إعادته بشرا سويا إلى الحياة من جديد! زعَم ذلك ونسي الأحمقُ ذاتَه نفسها! نسي خِلقته عينها! وكيانه الوجودي كله! متى كان وكيف؟ وأين كان قبل أن يكون؟ فهذه الهيأة الإنسانية التي بها يتنفس الآن الحياة، والتي بها يخاصم ويجادل، ويبطش ويتجبر، أوَليس الله - جل جلاله - الذي خلقها من قبل ولم تكن شيئا مذكوراً؟ فالخالق بشرا من طين، أو من قطرة ماء مهين، والخالق كل شيء من لاشيء؛ لهو تعالى أقدر على إعادة خلق الإنسان من تراب مرة أخرى، وعلى إعادة جمع ذراته أنى طارت، وأيان كان مرساها! فإنما خلقه للشيء - متى أراده - "أن يقول له: كن فيكون!" ولكن الجهلة بالله لا يعلمون!
وقد ثبت في الحديث أن الله تعالى يعيد خلق الإنسان يوم البعث مِنْ عَجْبِ ذَنَبِهِ!([2]) وعَجْبُ الذَّنَبِ: هو العظم الصغير الذي به ينتهي العمود الفقري البشري. سمي بذلك لأنه موضع الذنَب من الحيوانات ذوات الذيول والأذناب. والمقصود أنه تعالى يخلقه من ذرة صغيرة تكون داخل هذا العظم الصغير، ذرة قد لا ترى بالعين، فكل شيء يفنى من الإنسان إلا هذه الذرة، فهي بمثابة بذرة شجرته! فلتطر حيث شاءت، ولو تدفن حيث قدر لها، ولتكن قد صارت طعاما لوحش أو لحوت، أو ضلت في طوفان أو حريق، فنواتها الدقيقة لن تزال تحتفظ بسرها أبدا! حتى إذا فني من في الأرض جميعا، وحان يوم البعث أمَرَ الله الأرضَ فتخمرت واهتزت وربت ثم أنبتت ملايير البشر، من آدم – عليه السلام - إلى آخر من يكون! ينبتون منتشرين على صعيدها كالبقل! ثم يُنفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون! وإن ذلك لأهون على الله جلت قدرته وعظمته! ولكن الكافرين بربهم يجحدون! فسبحانه وتعالى عما يصفون ويقولون!
ولذلك فقد جاء الرد على ضارب المثل السفيه، ردا قويا حاسما؛ إذ شكك الجاحد في أخص خصائص الربوبية: الخالقية! فقال تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ!) وهو رد متين مبين، فيه من دقة البلاغة، وقوة الحجة، وشدة الإفحام الملجم للجاحد؛ ما يليق بجلال الله الكبير المتعال! فقد أمر تعالى نبيه أن يقول لهذا الجاحد الضال الذي أعرض عنه ربه غضبا: قل له يا محمد إن تلك العظام التي طار رميمها من يده يحييها الذي أنشأها أول مرة! ولم يذكر تعالى اسم الجلاله: الله! لأن هذا الكافر جاهل به تعالى؛ فلا يستحق أن يخاطب باسمه سبحانه! ثم لأن عقله السفيه ضل عن النشأة الآخرة فنبهه الله تعالى للتفكر في النشأة الأولى دون أن يذكر له الفاعل لها؛ لأن العرب يومئذ كانت تؤمن بأن الخالق لكل شيء إنما هو الله، ولكنها كانت تنكر البعث والنشور، وتستبعده - بجهلها - وتستعظمه في حق الله! فكما خلق تعالى الخلق الأول يخلق سبحانه الخلق الثاني، والمتعجب من الخلق الثاني - لو كان من العقلاء – لكان أجدر به أن يتعجب من الخلق الأول! والمحيل للخلق الثاني ملزم بالضرورة أن ينكر الخلق الأول! وهذا هو عين الضلال وركوب المحال!
ألا ما كان أحرى بالإنسان الذي لا يجحد وجود الله تعالى - على الأقل - أن يتأدب مع ربه الذي خلقه! حتى ولو كان كافرا بعد ذلك بكل شيء من أصول الإيمان! فلا يتجرأ على فاطر السماوت والأرض بنقصه سبحانه شيئا من صفاته، بَلْهَ أن يسلبه أخص خصائص شؤون ربوبيته: صفة الخالقية! ولو كان أتى من باب السؤال الصادق في طلب المعرفة بالله، متواضعا بين يدي ربه لهداه الله إلى كل حقائق الإيمان! فكان من المهتدين بإذن الله! ولكن الله لا يهدي المتكبرين!
فمن أخطر أنواع الكفر والجحود - إلى جانب الشرك الغليظ بالله - إنكار صفة الخالقية في حق رب العالمين والانتقاص من كمالها! وتلك هي الجريمة الكبرى التي وقع فيها ضارب المثل في سياقنا هذا! ومن هنا أردف الله تعالى على رده عليه جملة قوية البيان، معرفة بكمال قدرته على الخلق، بما لا طاقة للعقل البشري على استيعابه، إلا أن يكون من المؤمنين! فقال جل جلاله: (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ!) هكذا على الاستغراق الشامل العام الذي لا يستوعبه عَدٌّ ولا يحيط به خيال! الخلق الأول والخلق الثاني، والخلق من شيء والخلق من لاشيء! وخلق الذرات وخلق المجرات، وخلق الأرضين وخلق السماوات، وما في جميع الملك والملكوت! ومن ذا قدير على إحصاء خلق الله إلا الخالق العظيم! ألا ما أجهل الإنسان بربه الكريم!
ثم يُقَرِّبُ القرآنُ الأدلةَ إلى عقل الإنسان الضعيف؛ بالاقتراب من حياته اليومية ومنافعه المادية، فيقول تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ!) وقد تحدث المفسرون قديما عن منافع الشجر، وكيف يكون غضا نديا لا يكاد يصلح لإيقاد النار، ثم يجف بعد ذلك فيحصل به الانتفاع، في الاصطلاء والطبخ وفي سائر المنافع التي لا تنحصر من إيقاد النار. كما تحدثوا عن أنواع خاصة من الشجر، لها خاصية اشتعالية، كانت العرب تقدح النار بحك أغصانها الخضراء بعضها ببعض .
لكن العلم الحديث زاد الإنسان معرفة بخصائص الغابات الخضراء التي كانت تكسو الأرض في العصور القديمة، فابتلعتها الأرض جراء الزلازل والانجرافات، وغيرها من العوامل، فتخمرت تحت الطبقات السفلى لعدة عصور، ثم تحولت بعامل الحرارة إلى حقول النفط والغاز، ومعادن أخرى كالفحم الحجري وغيره، مما صار وقود كل شيء في هذا العصر. حتى إنك لا تكاد تجد – في الغالب - نارا ولا شررا، إلا وهو يوقد إلا من النفط أو الغاز ومشتقاتهما! وتكاد كل الآلات والمحركات في العالم اليوم لا تشتغل إلا بوقود النفط؛ نعمةً من الله وفضلاً! فكيف يجحد الإنسان حق هذا الرب العظيم؟ الرب الذي أخرج له الأشياء من أضدادها؛ لتكون له منفعة في معاشه، وطريقا واضح المعالم، يسلك به إلى معرفة ربه الخالق الكريم!
ثم يرتفع القرآن بالاستدلال إلى المستوى الكوني الشمولي مرة أخرى، مبينا قدرته تعالى على إعادة خلق الكون - بعد هدمه الكامل وإفنائه الشامل - ليقوم الناس ليوم الحساب! فقال جل جلاله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ!) فهذا منطق بسيط واستدلال واضح بيِّن، لكنه قوي وعميق! عميقٌ عُمْقَ ما بين السماوات والأرض! عميقٌ عمقَ لفظ "الخلق" بمعناه المصدري، الدال على فعل الله تعالى، وعمقَ دلالة اسم "الخالق" في صفات الرب الجليل وأسمائه الحسنى! ولذلك فإنه لا يسع الإنسان السوي العقل، إلا أن يخضع لقوة هذا البرهان وربانية هذا بيان!
ومن ثَمَّ أجاب القرآن بقوة عن السؤال الذي ضرب به نواصي الكفار، فقال جل جلاله بعده مباشرة: (بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ!) مثبتا هذا الذي أنكره الجهلة في حق الله سبحانه، واصفا نفسه تعالى باسميه: "الخلاق" و"العليم" في جملة اسمية قصيرة، ثابتة البناء، متينة التعبير! و"الخلاق" بما هو اسم من أسماء الله الحسنى، وصفة له تعالى، معنى عميق يكشف عن وجه آخر لخاصية من أعظم خصائص الربوبية! فـ"الخلاق" صيغة مبالغة من فعل الخلق، وهو فعل خاص بالله تعالى. فكان من أسمائه الحسنى "الخالق" و"الخلاق"!
فهو تعالى خالقٌ بما يقوم به سبحانه من فعل الخلق، وهذا معنى غيبـي من أعمق المعاني! تجلياته تحيط بهذا الوجود بأكمله! ويمتد نوره الإلهي من عالم الغيب بكل ملكوته، إلى عالم الشهادة بكل عناصره وأنواعه! فهوحجة الله البالغة، (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر: 62)، وبه تحدى الربُّ - جل جلاله - الكفرةَ والمشركين في كل عصر ومصر، فقال تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ! بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ!)(لقمان: 11) وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ! إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ!)(الحج: 73)
ثم هو - جَلَّ ذِكْرُهُ وثناؤه – "خَلاَّقٌ"؛ بما لخالقيته تعالى من الثبات والاستمرار، ومن تعدد المخلوقات؛ بما لا قدرة لأحد على عده وإحصائه! هذا من جهة. ومن جهة أخرى هو تعالى "خَلاَّقٌ"؛ بما لقدرته على الخلق والإبداع من المعنى الإعجازي؛ ما يحير الألباب ويذهل العقول! فأما مخلوقات الله فكل الناس يشاهد منها ما هومشاهَد، وأما فعله تعالى من معنى الخلق؛ فلا أحد يستطيع الاقتراب من حقيقته أو معناه! فالله جل جلاله إما أن يخلق الشيء من عدم، وهذا ما يعجز العقل عن استيعابه، ويحرق خلايا الدماغ إن اقترب من جلاله! وإما أن يخلق تعالى شيئا من شيء، كخلق آدم - عليه السلام – من طين، أو خلق ذريته من ماء مهين! فهذا أيضا مما يقف العقل إزاءه حائراً! عاجزا عن إدراك كيف يتحول الطين المسنون إلى جسم إنساني جميل؟ ووجه مشرق الطلعة، صافي العينين، أسيل الخدين، لطيف الشفتين! ناطق اللسان، جياش الوجدان! وقد كان قبل ذلك كومة طين من حَمَأٍ مسنون! أو صورة من صلصال كالفخار! فارغة الجوف كالخابية القديمة! فكيف تحولت كرة الطين في رأسها إلى جمجمة دقيقة الصنع، بما تحمل من دماغ لطيف وشعيرات دموية دقيقة؟ وكيف تحول النقش المرسوم على وجهها إلى عينين تدمعان وتشعان بنور الإبصار؟ وإلى رموش ترتعشان بما تشعران به من نسيم الحياة؟ ثم كيف؟ وكيف؟ وكيف؟ والأسئلة التي لا أجوبة لها لا تنتهي أبدا! ومن ذا يحيط بحقيقة اسمه تعالى إلا هو تعالى! ذلك هو "الخلاق العليم" جل جلاله، فسبحانه وتعالى عما يصفون! فعلمه الواسع شاملٌ لكل شيء، محيطٌ بكل شيء، فكيف يغيب عنه علم الخلق وفعله مرات ومرات؟ كيف وهو صفة ثابتة من صفاته سبحانه!؟
وقبل أن يدخل العقل البشري في هذه المتاهات، بيَّن الباري تعالى أن الخالقية سر من أسرار ربوبيته، تستحيل معرفتها على عبيده، الذين هم محض خلقه وصنعه! فما كان للمخلوق أن يحيط بمعنى الخالق! لأن المفعول به في هذا الشأن لا يكون فاعلا أبداً! ومن ثَمَّ سد الحقُّ تبارك وتعالى الباب على هذا الجهل البشري العابث! فقال جل جلاله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ!) هكذا ابتدأ الآية بعبارة "إنما" المفيدة للحصر والتوكيد وصلابة الخطاب؛ لحسم الحكم وحصر الحقيقة؛ بما يقطع جدل العابثين، ويلجم أفواه الجاهلين، ويخبت قلوب المؤمنين المتدبرين! و"الأمر" ههنا - كما هو في كثير من المواطن من كتاب الله – دال على شأن ربوبيته تعالى، وليس هو بالمعنى المصدري لفعل "أَمَرَ". فشأنه تعالى أنه بمجرد ما تتعلق إرادته بخلق شيء فإنه ينصاع، فيكون! وعبر عن ذلك بأقصر جملة، وأقوى عبارة، وأعمق دلالة، وهي كلمة: "كن فيكون!" الدالة على الانصياع الكامل والمطاوعة التامة، بما يجعل المخلوق يكون كما أراد الخالق جل جلاله، بلا زيادة أو نقصان، ولا تأخر عن موعد الكينونة، ولو بطرفةٍ خاطفة من عين الزمان! كما قال تعالى في وصف تعلق أمره بقيام الساعة: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ! إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ!)(النحل: 77) فأنى لرب عظيم هكذا شأنه وهكذا خَلْقُهُ وأَمْرُهُ؛ أن يعجزه شيء من أمر البعث والنشور؟ ألاَ ما أضل الجهلة بالله!
وإن المؤمن لا يملك إذ يمضي مع هذه الحقائق الإيمانية الجليلة، مرتلا أو منصتا لكتاب الله، إلا أن تشتاق روحه الخاشعة، إلى التسبيح تنـزيها لله الواحد القهار مما وصفه به الجاهلون! ولذلك بادر الحق تبارك وتعالى إلى تنـزيه ذاته العظيمة، وتقديسها من مقولات الكفار والمشركين، وأوهامهم الباطلة! فختم بذلك سورة "يس" ختمةً يبقى صداها يضخ بقلب العبد الأمواج الضخمة، المتدفقة من محيط عالم الغيب العظيم! فلم يزل القلب يخفق خوفا ورَهَباً، مما شاهد من تجليات شؤون الربوبية وجلالها! قال تعالى: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)
"فسُبْحَانَ" عبارة تنـزيه وتقديس، بمعنى أن الله - جل جلاله - متعال بربوبيته عن صفات النقص والعجز، مما يتوهمه الجاهلون! بل هو تعالى رفيع الدرجات، علي القَدْرِ، كامل الصفات! وقياس شأنه تعالى بالشأن البشري من أجهل الجهالات، وأبعد الضلالات! وتلك هي آفة الكفرة والمشركين! ولذلك عبَّر تعالى بصفات القدرة، والهيمنة، والتملك، والإحاطة بجميع مملكته، والقهر لكل خلقه - في سياق إضافة التسبيح لنفسه - واصفا ذاته تعالى بكل ذلك جميعا، من خلال جملة موصولة، لكن دون ذكر لفظ الجلال "الله"، فاحتجب سبحانه باسمه وتجلى بصفاته؛ وذلك لبيان تنـزهه، وعلو شأنه، وعظمة قَدْرِهِ، وترفعه عن جهل المرَدَةِ من عباده!
وعبارة الملكوت في اللغة مبالغة من لفظ الْمُلْكِ. فهي أعمق في الدلالة على عظمة مُلْكِهِ تعالى، وأوسع في التعبير عن دقة صنعه وكمال خلقه، وامتداد مملكته من عالم الأرواح إلى عالم الأشباح، ومن عالم الغيب إلى عالم الشهادة! فهو تعالى مهيمن على مملكته، بيده تعالى مقاليد كل شيء من جميع خلقه! لا شيء يكون إلا بإذنه، ولا شيء يحدث إلا بعلمه! قادر على فعل كل ما يريد في حينه! وذلك كله هو معنى كونه تعالى رب العالمين! فمن كان هذا شأنه فأنى يعسر عليه أو يستحيل في حقه أمر البعث والنشور؟ ولذلك كانت الجملة الخاتمة الحاسمة للسورة بأكملها: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!) أي إلى هذا الرب العظيم الذي تنكرون قدرته على البعث، إليه - جل جلاله - تساقون يوم القيامة، خاسئين! وبين يديه يومئذ تُحْضَرُونَ مذمومين مدحورين! والخليقة كلها آنئذ جاثية في ساحة الحشر، تنتظر عَرْضَهَا وحسابها في مشهد رهيب!
تلك هي الكلمة الخاتمة الحاسمة! وَلْيَبْقَ بعد ذلك هؤلاء الكفرةُ المستكبرون، مصرين على طغيانهم واستعلائهم! فلا ضير! إن أقدام الموت متواترةُ الخطوِ نحوهم ونحو كل مخلوق، ولسوف يرون - يوم ينفخ في الصور - من صار إلى خسران مبين!
3- الهدى المنهاجي:
وهو في الرسالات الأربع التالية:
- الرسالة الأولى:
في أن الإنسان لا ينجو حتى يخرج من " أَنَا " الإنسانية إلى مدار العبدية! ذلك أن صفة الإنسانية إذا لم تترق إلى مقام التعرف إلى الله، ولم تصطبغ بالانتساب التعبدي إليه تعالى، ألَّهَتْ ذاتَها! وعَبَدَتْ أنَاهَا! فكانت دَرَكاً مظلما! وتِيهاً من الجهالة والضلال! وعلى ذلك أقسم الحق سبحانه في سورة العصر، فقال جل جلاله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ! إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ!) ونحوه قوله تعالى في سورة التين: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ!)(التين: 4-5) ولذلك كان قوله تعالى فيما نحن فيه من سورة يس: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ!) دالا على الطبيعة الجدلية للإنسان المغروسة في جِبِلَّتِهِ بما هو إنسان! كما في قوله تعالى: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً!)(الكهف: 54) فإما أن يسلم لله رب العالمين؛ فيخرج من ظلمات إنسانيته إلى نور عبديته لخالقه، وإما أن تقوده إنسانيته إلى الخسران المبين!
- الرسالة الثانية:
في أن بدء السير إلى الله تعالى ينطلق من معرفة النفس أولا، والتفكر في خلقها، والنظر في حقيقتها، ومراقبة أحوالها. فمن وضعها على طاولة التشريح، كأنها شيء مستقل عنه، اكتشف عجزها واضطرارها إلى خالقها! فشخَّص آنئذ أدواءَها ووَصَفَ دواءَها! ثم استأصل أهواءَها وكبرياءَها! ودخل مقامَ الإرادة بعد يقظة قلبه، وانتعاش روحه، وكان من السائرين.
لكن معرفة النفس على التمام لا تكون إلا بالبحث عن كمالها، والسعي إلى غناها! وبما أن تشريحها أظهر عجزَها وكَشَفَ فقرَها؛ فلا سبيل لها إذن إلا الاعتصام بخالقها العظيم! ذلك أن البحث في الذات مفض إلى التعرف على رب هذه الذات؛ لأن خاتم صنعته تعالى مطبوع على كل خلجة من خلجاتها، مرسوم على كل خلية من خلاياها! فإذا توجهت أغصانها المنفوضة الأوراق، ممتدة نحو السماء، تستدر ألطاف الرحمن؛ وجدت غناها في فقرها، وقوتها في عجزها، وكمالها في نقصها! كل ذلك باستنادها إلى ربها الخالق العظيم، وانتسابها إليه تعالى بإسلام وجهها كلية لله!
- الرسالة الثالثة:
في أن صفة الخالقية - في ذات الله تعالى - هي الباب الأعظم لمشاهدة جلال الربوبية، والتعرف على مقام الله العظيم، وقَدْرِهِ حَقَّ قَدْرِهِ! وتلك معرفة رفيعة تشرح القلب وتهيئه لتلقي النور من سائر الأسماء الحسنى! والداعية إلى الله إذا أخطأ هذه الطريق فإنه يعجز عن تحقيق المعرفة بالله، بَلْهَ أن يكون قادرا على التعريف به – جل جلاله - لغيره من الناس!
والذي أكرمه الله تعالى بتجلي نور اسمه "الخالق" أو "الخلاق"، تدفقت جداول المعرفة بأسماء الله الحسنى كلها على قلبه! فجعل يترقى بمنازلها الإيمانية، اسما بعد اسم، وصفةً بعد صفة، حتى يكون بإذن الله من كُمَّلِ العلماء بالله!
وليس عبثا أن استفاض ذكر فعل الخلق ومشتقاته في القرآن الكريم، وتوارد في كل السياقات، العَقَدِيَّةِ والدعوية والتربوية والجهادية والتشريعية! حتى لا تكاد تجد سورة إلا وهذا المعنى حاضر فيها بقوة، لفظا أو مفهوما. وما ذلك إلا لما لهذا المفهوم صفةً أو اسماً، من مركزية نورية في شجرة الأسماء الحسنى، ولما له من عظيم الفتح على القلب المتعرف إلى الله! ثم لما له من قوة الحجة على الكفار، والطرْق الشديد على أبواب الجاهلين، والإيقاظ القوي لقلوب الغافلين!
- الرسالة الرابعة:
في أن التسبيح بحمد الله وعظمته هو زاد المؤمن المتفكر في خلق السماوات والأرض، وهو كلمة السر المودعة بقلب العارف بالله الداعية إليه تعالى، السالك إليه - سبحانه - عبر معارج الروح، المنصوبة في فضاءات الملكوت! فبالتسبيح تنفتح له أبواب المنازل والمشاهدات! فما يزال يترقى حتى يتلقَّى من أنوار الجمال والجلال ما يفنيه في حب الله، ويُخْلِصُهُ تمام الإخلاص للتفرغ الكامل لعبادة ربه رَغَباً ورَهَباً! فيصير بذلك عبداً حَقَّ عَبْدٍ لمولاه، واقفا أبدا بباب طاعته! قائما بحق ربوبيته، لا ينشغل بشيء عن خدمة دينه، والتعريف بربه وبمقامه العظيم! فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
4- مسلك التخلق:
للِرُّقِيِّ من درك الإنسانية إلى منـزل العبدية الكاملة؛ لابد للمؤمن من العروج بمعراج التفكر التعبدي، الذي يسلك به طبقات الملكوت صعودا؛ حتى يتعرف على مقام الربوبية الأعظم! ويتلقى أنوارَه شيئا فشيئا، إلى أن ينصقل قلبه تماما، وتصفو مرآته، فلا ينبض بغير النور! ومن ثَمَّ تجري جداول لسانه بالتسبيح والتقديس يقظةً ومناماً!
إن السياحة التعبدية بين معارض المخلوقات، تفتح بصيرة العبد وتكسبه القوة الروحية على إبصار النور العُلْوِيِّ! فيشاهد من تجليات أسماء الله الحسنى؛ ما يجذب قلبه إلى فلك السير الأبدي الراحل إلى الله! وإن الإنسان الذي لم يزل أسير إنسانيته الطينية، قابعا داخل خابية الفخار، مخدرا برائحة الحمأ المسنون؛ لا يستطيع إدراك تجليات الجمال والجلال، الساطعة على لآلئ الملك والملكوت! فمن ذا قدير على تكسير خابيته، والتحليق بعيدا بأشواق الروح نحو المنازل العليا؟ إذن يكون من الأوابين! وإذن يتلقى شعاع النور من مثل قوله تعالى: (نِعْمَ العَبْدُ! إِنَّهُ أَوَّابٌ!)(ص:30) فهنيئا لك يا عبد بمقامات الرضى والسلام!


خاتـمة

هذه هي قضية الدعوة إلى الله: تعريف الخلق بالله! وتلك كانت هي قضية سورة يس من أولها إلى آخرها. حقائق إيمانية ومشاهدات، بلاغات وبيانات، جهاد ومجاهدات، جدالات وخصومات، مواقف لاهبة وشهادات، كشف مصائر ومآلات، معارض كونية وسياحات. كل ذلك من أجل حقيقة واحدة: التعريف بالله ربا واحدا لا شريك له!
ولذلك فقد تضمنت من فقه الدعوة إلى الله، وبيان منهاج السير إليه تعالى، قواعدَ رحمانية، ومعالم ربانية، لا حَقَّ لداعية إلى الله أن يكون جاهلا بها!
وإنها لجديرة بأن تكون سورة مركزية في التداول التربوي العام والخاص، ومقررا دراسيا بأقسام الدعوة الإسلامية بكل أصنافها ومستوياتها. فكلٌّ يأخذ منها على قدر ما أهله الله له. والمؤمن عموما في مسيس الحاجة إلى التفقه فيها وتَلَقِّي حقائقها الإيمانية؛ قصد التترس بحصونها الربانية العالية، خاصة في هذا الزمن الصعب. ذلك، وإنما الموفق من وفقه الله!
تلك كانت مجالس من سورة "يس"، عِبَراً وعَبَرَات، وهُدَى وبركات! مما يسر الله تقييده بهذه الصفحات. فسبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك!

__________________________
[1]ن. تفسير الطبري للآية.

[2]عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل ابن آدم يأكله الترابُ إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ، منه خُلِقَ ومنه يُرَكَّبُ!) رواه مسلم.

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رحاب, سورة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أساليب الإقناع في سورة الإسراء نور الإسلام كتب ومراجع إسلامية 0 05-06-2013 06:45 AM
تفسير سورة الفاتحة نور الإسلام خطب إسلامية 0 26-04-2013 11:57 AM
صورة أعجبتني جمال الإسلام أخبار منوعة 0 11-05-2012 09:27 PM
في رحاب المصطفي صلي الله عليه و سلم مزون الطيب هدي الإسلام 0 03-02-2012 09:51 PM
صورة من الحياة نور الإسلام هدي الإسلام 0 11-01-2012 11:21 AM


الساعة الآن 10:06 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22