صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

صور الخوف من الإسلام في الإعلام الفرنسي

بعد أحداث 11 أيلول 2001، لم يعد الخطاب الإعلامي الغربي، والفرنسي على وجه الخصوص، في بعض تمظهراته يتردد في ربط الإسلام والمسلمين بالعنف والإرهاب، فقد منحته الأحداث شرعية التحامل على

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-06-2014 ~ 07:29 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي صور الخوف من الإسلام في الإعلام الفرنسي
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الخوف, الفرنسي, الإسلام, الإعلام





بعد أحداث 11 أيلول 2001، لم يعد الخطاب الإعلامي الغربي، والفرنسي على وجه الخصوص، في بعض تمظهراته يتردد في ربط الإسلام والمسلمين بالعنف والإرهاب، فقد منحته الأحداث شرعية التحامل على الإسلام من دون رادع، مما ولد أجواء من الحيطة والحذر دفعت إلى السطح مشاعر الكراهية المكبوتة في اللاوعي الجمعي الغربي منذ العصر الوسيط. فأضحت الأرضية مهيئة لدى بعض الأوساط الإعلامية والفكرية الغربية لتقبل فكرة الصراع والصدام بين الثقافتين الإسلامية والغربية، دون أدنى حساب للعواقب وفي غياب لكل رادع إنساني. بل لقد تحول هذا الصراع إلى حتمية مستقبلية ترنو إلى التخلص من مصاص الدماء الإسلامي الذي يتهدد الإنسانية جمعاء لتحقيق السلام العالمي. ولقد أضفى على هذا المشروع مصداقية ارتفاع أصوات متغربنة تنتمي للفضاء الإسلامي تدعو الغرب إلى التدخل لحماية الدعوات الحداثية من شبح التطرف الإسلامي.
ففي العشرية الأخيرة، ظهرت على الساحة الإعلامية الغربية أدبيات تتناول الإسلام والمسلمين بشكل شعبي تقف وراءها أسماء من أصول عربية وفارسية تستمد مصداقية خبرتها بالشأن الإسلامي من كونها " ضحايا الإرهاب الإسلامي". وبعيداً عن الخطاب الوجداني المأساتي الذي تتناوله هذه الكتابات، فإن ما تنضح به لا يعدو أن يكون " أيديولوجيا الصراع"، فأصحابها ، كما يلاحظ الباحث الفرنسي Vincent Gessert، لا يشعرون بأية عقدة في الإفصاح عن نواياهم الإستئصالية. (1) و الأخطر في مثل هذه الكتابات ليست النزعة الأيديولوجية التي لا تخفى على كل مطلع على الشأن الإسلامي عن كثب، وإنما ادعاءها الروح العلمية، فأصحابها يعلنون بأعلى أصواتهم معرفتهم بالظاهرة الإسلامية وخباياها، ويقدمون طروحاتهم على أنها حقائق علمية لا يدانيها أدنى ظل من ريب، بينما هي، كما يقرره Vincent Gessert، لا تخلو من أخطاء فادحة لا يمكن لسوسيولوجيا الظاهرة الإسلامية أن تتقبلها. (2). والحقيقة أن مثل هذا الخطاب لا يسهم في بأي شكل من الأشكال في إنتاج معرفة موضوعية بالظاهرة الإسلامية وإنما يتعامل مع هذه الظاهرة من خلال حالة الخواف التي صاحبت أحداث العنف التي عرفها العالم الإسلامي، وكل ذلك من أجل تبرير وضعية الخبير التي يحاول هؤلاء أن ينسبوها إلى أنفسهم.
وإن معظم محاججتهم تقوم على تمثيل مانوي للرهانات المعاصرة، بحيث يتقمصون دور المسلم الليبرالي والحداثي ضحية المسلم الملتحي المتطرف الإرهابي. ولإن غموضا يلف وضعيتهم التي ينطلقون منها في إصدار أحكامهم بعدهم خبراء الإسلام، فإنهم لا يتحرجون من اللعب على هذه الثنائية في هجومهم على اٍلإسلام بحجة التصدي للإرهاب الذي أساء للدين تحت غطاء انتمائهم الوراثي للفضاء الإسلامي (أسماء إسلامية، عائلات ذات عراقة دينية...) وطرح البديل الحداثي المؤسس على عداوة تاريخية للدين، باعتبارهم ليبيراليين وحداثيين. (3).
إلا أن ذلك يجب ألا يغيب عن أذهاننا بروز أصوات إعلامية وفكرية من الغرب تدعو إلى توسيع الخيارات فيما يتعلق بطبيعة العلاقة مع الآخر الإسلامي متجاوزة فكرة الصراع إلى فكرة الحوار الذي يستوجب مراجعة جريئة لمفاهيم الهوية والحداثة، وهو الجديد الذي سنقف عليه بشيء من التحليل بعد أن نكون قد أوفينا نظرية الصراع حقها من النقد، وذلك من خلال اختيارنا لأربع مطبوعات فرنسية ذات مقروئية معتبرة وتتسم بكثير من الجدية في طروحاتها، ويتعلق الأمر بـ:
Revue (Manière de voir), n°64, juillet-août 2002
Revue (Courrier international), Hors série, juin-juillet 2003 -2

Revue (Sciences humaines), n°41, juin-juillet 2003 -3

Revue (Le Monde des religions), n°1, septembre-octobre 2003 -4

لدى تصفحنا لمجلة Le Courrier International والتي تعتمد في جوهرها على جمع جملة من المواضيع المنشورة في الصحافة العالمية و التي تتناول محورا تحدده هيئة التحرير، لفت انتباهنا تجاه عملية انتقاء المقالات التي تتناول محور " الإسلام والغرب، حوار أم صدام؟" إلى تغليب فكرة الصدام على الحوار ملقية بمسؤولية ذلك على كاهل ألوان الطيف الإسلامي بدءاً من ابن لادن مروراً بالتيارات الإسلامية السياسية وانتهاء بمؤسسة الأزهر الشريف، دون إغفال لامتدادات هذا الطيف في الغرب (أوربا، روسيا، أمريكا) معزية ذلك إلى فكرة طالما رددتها كثير من الدوائر الإستشراقية والتي تدور حول وصول الإسلام السياسي إلى طريق مسدود دفعه لسلوك العنف لتحقيق أهدافه. ولما لم يعد هذا التفسير كافيا للتصدي للسيل الجارف من الإنتقادات
التي يوجهها بعض المختصين الرافضين للتفسيرات الجاهزة إلى المؤسسة الإستشراقية ذاتها واصمين إياها بالعطب، لجأت بعض الدوائر ذات الصلة المباشرة بأصحاب القرار السياسي في الغرب إلى اختزال المشهد في تلازم الإسلام والعنف تلازما يبدو طبيعيا لمن امتلك ذاكرة ما زالت تزخر بمشاهد ناطحتي نيويورك وقد اخترقتهما الطائرتان وبالقطارات الإسبانية وقد اندثرت جثث ركابها إلى أشلاء.
وتبريرا لهذه الحرب المحتملة، إختارت كورييه حواراً أجرته مجلة تاميز مع هنتنغتون (4) أين يقرر أن العنف رديف للإسلام مثلما هو رديف للمسيحية، وإذا أردنا أن نتجنب مثل هذا السيناريو يقترح هينتنغتون فكرة تدعيم الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم الإسلامي، لكن المشكلة التي يواجهها هينتنغتون هي أن أول مستفيد من هذه المكاسب هم الأصوليون بالدرجة الأولى والذين لا هم لهم سوى معاداة أمريكا ويستشهد بما حدث في الجزائر كشاهد إثبات لمقولته. وإن مثل هذه النظرة المركزية التي ينطلق منها هينتنغتون في ضرورة تصدير النموذج الديموقراطي للعالم وضرورة استقبال هذا العالم لهذه الرؤية بحفاوة تنم عن استعداد للذوبان في الغالب وإلا عًًٌَُد عدوا، إن مثل هذه النظرة إنما هي امتداد لنبوءة فوكوياما بنهاية التاريخ وسيادة النموذج الديموقراطي في العالم.
وفي مقال نشر في نفس المجلة لصاحبه (5) Andrew Sullivan يشير كاتبه إلى أن ما يواجهه الغرب بعد 11 أيلول أكبر خطراً وأدعى للفزع مما واجهه على يد كل من ستالين وهتلر. ففي تحليله لظاهرة الإرهاب، يرى الرجل أن حالة الصراع الداخلي الذي يعيشه الإرهابي (صاحب العالم المثالي) بين واقع محبط وخيال جانح والتي تؤدي به إلى الإنفجار هي نفس الحالة التي تعتري المكبوت جنسيا حين يترجم صراعه الداخلي إلى حالة من تدنيس كل مقدس. ثم يذهب إلى أبعد من ذلك حين يرى في الإسلام اليوم دينا ينزع إلى القوة حتى يفرض سيطرته على العالم متكئا على تاريخ حضاري حافل بالقوة والمنعة وذلك حين يجمع حواليه المجتمعات العالمثالثية التي بدل أن تقتفي خطوات الغرب نحو الحداثة، وهو عمل شاق، تلجأ إلى ترجمة إخفاقها إلى رغبة مهووسة وعارمة في التدمير. وفي ختام مقاله وبعبارات لا تخلو من الدهاء، يدعو صاحبه إلى البحث عن وسائل للإنتصار على هذا العدو. وهكذا يغدو الإسلام في جوهره قوة وعنفا يستدعي وضعه في خانة العدو الذي يقع على الغرب الديموقراطي المسالم الذائدعن حقوق الإنسان ردعه.
وعلى عكس ما طرح آنفا، يرى فريد زكريا، في وشنطن بوست(6) أن الإسلام السياسي قد بلغ أوج قوته وليس علينا إلا انتظار أفوله، وحتى يدلل على حجية ما طرحه، يعمد الكاتب إلى قراءة ساذجة لواقع معقد؛ فيقارن الفضاء الإسلامي اليوم بما كان عليه قبل عشر سنوات، في تلك الفترة في الجزائر كان الأصوليون على وشك السيطرة على مقدرات البلاد، بينما كان نظام مبارك في مصر يعاني من إرهاب جماعات حالت دون توافد السواح على مصر. أما باكستان فقد كان علماء الدين يهددون البرلمان إذا لم يصادق على قانون التجديف، وهي التهمة التي أهدر باسمها الإمام الخميني دم سلمان رشدي. أما الآن (2004)، فإن الكاتب ينظر إلى ما آلت إليه هذه البلدان بعين متفائلة. صحيح أن علماء الدين ما زالوا يحكمون في إيران لكنهم ممجوجون من طرف الشعب، الحكومتان الجزائرية والمصرية سحقتا الجماعات الإسلامية في بلديهما، مما اضطر الكثير منهم إلى إعادة النظر في استراتجيتهم الإرهابية. وتحسبا لأية مواجهة محتملة، يدعو الكاتب في الأخير الغرب إلى تحمل مسؤولياته في دفع عجلة الإصلاحات السياسية والإقتصادية في دول العالم الإسلامي حتى تندثر مبررات إفراز ظاهرة الإرهاب الإسلامي، وهو ما يترجمه مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضه على دول العالم الإسلامي.
في خضم حمى الصراع والتصادم التي تطغى على المجلة، يأتي مقال حازم الصائغ المنشور في جريدة الحياة(7) والذي اختارته المجلة لتعزيز وجهة نظرها وإضفاء شيء من الحيادية على طرحها خاصة وأن القلم يحمل إسما عربيا، ليقول إن فكرة التصادم ليست وليدة وهم لفظي وإنما هي سليلة واقع، هذا الواقع الذي ينتقي الصائغ عينة من حيثياته حين يعزو فشل الرأي العام العالمي في منع الحرب ضد العراق إلى أن المظاهرات التي سادت كثيرا من بقاع العالم لم تكن عالمية. فالمظاهرات في الغرب كانت ضد كل التوجهات القومية بينما هي في الشرق غارقة إلى الأذن في نزعتها القومية، حينما تظاهر الغربيون ضد بوش فقد شجبوا الدين الذي كان أداة حرب في يد بوش لتعبئة المواطن الأمريكي، فقد تظاهر الشرقيون وقد تداخل الدين بالسياسة في أذهانهم مبرزين فتاوى تدعو إلى الجهاد المقدس. مظاهرات الغرب كانت ضد مفهوم الحرب العادلة ومظاهراتنا كانت تطلق شعارات الحرب ضد الغرب. مظاهراتهم كانت ضد فكرة تصادم الحضارات، مظاهراتنا كانت أول سيف نستله لصد الحرب الصليبية الجديدة. مظاهراتهم كانت تتمحور حول الإقتصاد والبيئة، مظاهراتنا حملت قضية فلسطين ومشاكل الهوية. مثل هذه الفروقات دعت الكاتب إلى التساؤل عن مستقبل العرب والمسلمين وعن إمكانية اندماجهم في التيار العالمي المضاد للعولمة، وكأن اندماجنا في هذا التيار يستلزم تنازلا عن كل خصوصياتنا الحضارية وأولوياتنا السياسية. ثم يتساءل بشكل مباشر: هل بإمكانهم بناء جسور نحو أوربا؟ والجواب لن يكون سوى نتيجة حتمية للمقدمات المطروحة آنفا، والشرط الوحيد الذي يضعه الكاتب لتفادي هذا الإنطواء هو إجراء تغيير في منظومة القيم الشرقية.
وفي قراءة استبطانية لواقع التطرف في العالم العربي، اختارت المجلة مقالا للكاتب عفيف لخضر المنشور في جريدة الحياة(8) حيث يتناول فيه مجموعة ظواهر نفسية واجتماعية تحدد صورة نموذجية للمتطرف بصفة عامة ليجعلها تفسيرا لارتباط التطرف بالإرهاب في العالم العربي والذي تجلت صورته في الكاميكاز الفلسطيني الذي يفجر نفسه وسط شلة من المراهقين الإسرائليين كانوا قد اصطفوا في طابور أما باب ملهى ليلي أو في صورة الطائرات المدنية التي اصطدمت بالبرجين، جامعا بذلك وبشكل لافت للنظر بين عمل مقاوم لاحتلال َحَرَم المظلوم من كل أسلحة المقاومة بحيث لم يترك له سوى جسده يقمه قربانا لقضيته، وبين عمل يمكن عده إرهابا إذا انتزع من سياقه السياسي القائم على رغبة جامحة تقود القوى الكبرى إلى السيطرة على مقدرات الشعوب المستضعفة.
يركز الكاتب على مجموعة مواصفات مولدة لظاهرة الإرهاب أهمها:
· النرجسية: حيث تتحول الأنا الفردية أو الجمعية إلى مركز للكون، مقصية بذلك كل من يخالفها ومعتبرة أن أي اختلاف إنما هو إهانة للأنا تستلزم ردا.
· بيعة الأب الإجتماعي: سواء تعلق الأمر بزعيم أو إمام يحقق للمتطرف أمنا ومنعة تعفيه من الحيرة إذ ليس عليه سوى اتباع التعليمات.
· الحقد على الفرد: كمفهوم متحرر للإنسان من كل المواضعات الإجتماعية وقادر على تشكيل منظومته القيمية بمعزل عن تأثير الجماعة، فالمتطرف يجد في الجماعة علاجا لشعوره بالنقص من حيث لجوؤه إلى البحث في الأساطير عن كل ما من شأنه أن يعيد له الثقة بانتمائه الجمعي.
· معاداة الحداثة: بما تعنيه من مساواة بين الأجناس ومن حرية تكفل للمجموع التداول على السلطة في شكل ديموقراطي.
· رفض النسبية: المتطرف في حاجة إلى يقينيات مطلقة تعفيه من التفكير، فليس له الحق في تأويل النص الديني، بل النص الديني هو الذي يؤوله.
· هوس الحرب: هناك رغبة جامحة لخوض الحرب المقدسة، فالحرب هي وحدها الكفيلة بتحرير غريزة الموت من كل معوقاتها الأخلاقية وذلك بتحويلها للقاتل المجرم إلى شهيد الإيمان.
لو أننا أسقطنا هذه المفاهيم على رائدة الديموقراطية و الحداثة (أمريكا) في حربها ضد العراق لعثرنا على لون آخر من ألوان التطرف والإرهاب الذي غذى الحملة وعبأ لها الرأي العام الأمريكي والذي كثيرا ما يتجاهله هذا النمط من المثقفين، لأن ذلك قد يسيء إلى البديل الذي يطرحونه خلفا للمشروع الإسلامي. أما أكثرهم جرأة فلم يترددوا في مباركة احتلال العراق بحجة التخلص من الديكتاتورية وإرساء دعائم الديموقراطية. فالنرجسية جعلت من أمريكا تصاب بعقدة التفوق والشعور بالعظمة وأنها مركز العالم وماعلى بقية بقاع الأرض سوى احتذاء نموذجها لتحقيق الحداثة، وإذا أبت هذه الشعوب مثل هكذا تغييرات، فإن أمريكا هي التي ستضطرها إلى التغيير من خلال حمل الديموقراطية على ظهر دبابة وإرغام شعب على التحررمن الديكتاتورية بالقوة، مثلما حدث في العراق.
ثم إن الرأي العام الأمريكي لم يصمد أمام فتنة الأب السياسي ممثلا في بوش حينما ابتلع دون عناء تفكير أو حتى أدنى تساؤل فكرة أمريكا في خطر بفعل امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. ولم يكن يلزم لتمرير هذه الأكذوبة سوى أن يتبناها بوش ويعلنها أمام وسائل الإعلام العالمية. وهكذا انتفت فكرة الحقد على الفرد المخالف المختلف، فإن الذي حل محلها هو حقد جماعي لفكرة الإختلاف؛ إذ لم يستطع الرأي العام الأمريكي، إذا استثنينا بعض الأصوات النخبوية التي ناهضت الحرب، أن يستسيغ فكرة أن ترفض كتلة بشرية مفهوم الحداثة والعصرنة والديموقراطية في طبعتها الغربية، لأن لها خصوصيات ثقافية، فكم كانت خيبة أملهم مؤلمة حين واجههم الشعب العراقي في بداية الحرب بالسلاح بدل الورود.
أما رفض النسبية فقد تجلى في تبني الرأي العام الأمريكي في معظمه تصنيف الخير والشر في شكل مطلق؛ فالخير نحن/الغرب والشر هم/الشرق، وذلك دون أدنى تأنيب ضمير. وهي الأيديولوجيا التي حررت الأمريكي من مواضعاته الأخلاقية المحرمة للقتل، ليتحول الجندي الذي يقتل العراقي في العراق ومن غير سبب من مجرم حرب إلى بطل وطني يحتفى به.
إن حسنة المجتمع الغربي بما فيه أمريكا هي ترسخ ثقافة مراجعة الذات التي دأبت عليها منذ زمن، ولذلك فإن أصواتا كثيرة بدأت تتعالى في أمريكا فاضحة أسطورة أسلحة الدمار الشامل ومستهجنة موت أبنائها في أرض غريبة من دون أي مبرر بعد أن سقط القناع.
وإمعاناً في جعل فكرة الصدام أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال، يعمد الكاتب الروائي والألسني الإيطالي إيكوفي مقال نشر له في جريدةRepublica (9) إلى تصور سيناريو حرب بين الشرق الإسلامي يرزح تحت نير حكم إسلامي أصولي والغرب العصراني، وبلغة انتقامية يفتتح السيناريو بمشهد باريس وقد دمرها الشرق عن آخرها، ليتلوه بعد ذلك مشهد مكة وقد أتى عليها الغرب فأضحت أثرا بعد عين.، يعقبها سلسلة من عمليات الكر والفر؛ فالشرق يسمم الغرب بتسريب بكتيريا قاتلة عبر رسائل البريد، والغرب يسمم الصحراء العربية بما فيها من جمال بفعل أسلحة الدمار الشامل. لينتهي السيناريو بمشهد بدائي حيث لايجد الطرفان ما يتراشقان به سوى الحجارة.
ويجنح الخيال بإيكو إلى تصور ما ستؤول إليه وضعية المسلمين القاطنين في الغرب، إذا لجأ بعضهم تحت وطأة الحرب إلى تدمير بعض ناطحات السحاب، فإن مطاردة المسلمين ستكون متنفس هذا الغرب المجروح في ناطحاته، وسيكون مصير كل ذي شوارب سوداء ولون أسمر الذبح، إلا أن مشكلة تعترض سيناريو إيكو، ألا وهي مشكلة العدد، إذ كيف سيتم ذبح ملايين من المسلمين دفعة واحدة؟ إلا أنه لن يتأخر عن إيجاد الحل، فقد تفطن لعبقرية الشعوب؛ فالشعب وحده كفيل في اندفاعاته وهوسه الجماعي إلى إنجاز هذه المهمة على أحسن وجه دون الإضطرار لطلب تدخل الجيش.
لكن المشكلة أخرى تبدو أنها تنتصب عائقا يحول دون إتمام السيناريو ، إنها مشكلة المسلمين من أصول غربية، إذ كيف يتسنى التعرف على الغربي المسلم ذي العنين الزرقاوين والشعر الأصفر والبشرة البيضاء, لكن التاريخ الكنسي في إبادة الخصم سيعفو إيكو من تحمل تبعات جرائم إضافية، فقد تذكر إيكو الشعار الذي رفع أثناء إبادة السحرة والزنادقة أو ما عرف تاريخياً بمحاكم التفتيش: " أقتلوهم جميعاًًًًًًًٌٌَ فسيتعرف الله على أوليائه".
وهكذا يتداخل الواقع بالخيال لتتحول فكرة الصراع إلى قدر لامناص من التسليم به، وحتى يجرؤ مفكر بقدر إيكو على طرح مثل هذا السيناريو الوحشي الذي يذكرنا بمشاهد فيلم Mad Max، فإنه لا بد وأن الرأي العام الغربي قد أضحى على استعداد لتقبل مثل هذه الطروحات دوم أدنى تساؤل، وهذا مؤشر خطير على ما آلت إليه علاقة الغرب بالشرق.
لقد أضحى العنف و الإرهاب الخط البارز للوحة الإسلامية التي يرسمها المخيال الجمعي الغربي، ولقد تعددت ألوانه فهو تارة إرهاب الدولة وطورا إرهاب المتطرفين ودائما وأبدا إرهاب الرجل ضد المرأة.
وفي هذا السياق و في محور (إسلام وحداثة)، ومن نفس وجهة النظر المنحازة التي تضع الإسلام والحداثة وجها لوجه/ مع ما يعنيه هذا التقابل من التسليم بداهة بملازمة الصفة الإيجابية للحداثة والصفة السلبية للإسلام، يقع اختيار المجلة على مقال منشور في جريدة النهار(10) لقلم عربي متغربن (فادي توفيق) يحلل فيه ظاهرة تحجب الفنانات المصريات، معربا في بداية المقال عن قلقه من تزايد عدد الفنانات الملتزمات، متسائلا إن كانت مصر سترتدي الحجاب مرة أخرى، في إيحاء إلى أن الحقبة التي لزمت فيها مصر الحجاب كانت معادلا للجهل والظلامية و السلطة الباتريركية. وهو التساؤل الذي يطرحه مجموع المثقفين المصريين اللائكيين الذين يقدمون إجابات سريعة وسطحية إذ تتلخص تحليلاتهم للظاهرة في وهم المؤامرة التي يقف وراءها رجال أعمال خليجيون قصد تحطيم الفن في مصر لحساب دول عربية أخرى.
ولتفسير هذه الظاهرة، يشرع الكاتب في تقديم شهادات لفنانات معتزلات تختصر أسباب الإعتزال في حالة " الهداية – المعجزة التي سقطت على رؤوسهن من حيث لا أدري" (التعبير للكاتب)، مغفلا بذلك البعد الإنساني في بحثه الذاتي عن الخلاص والأمان بعد حالة من القلق الوجودي التي تفضي ببعضهم إلى الإنتحار وبالبعض الآخر إلى البحث عن ملاذ روحي آمن توفره الديانات ومنها الإسلام، وهو البعد الذي بدأ علم الإجتماع الغربي يهتم به كإحدى تمظهرات الهوية الدينية في سياقها الفردي بمعزل عن التفسيرات الجمعوية التي تخضع الفرد لسطوة الجماعة والمؤسسة(11) . وبدلا من ذلك يرى الكاتب أن التكوين النفسي والإجتماعي للفنانة المصرية على العموم تكوين تقليدي لم يمكن الفنانة من التخلص من هيمنة منظومة القيم الرجعية التي تجعل من الفن مرادفا للفجور مع أنها تمتهنه بحرفية إلا أنها ما زالت أسيرة نظرة المجتمع إليها؛ فهي أبعد من أن تكون حداثية حيث لم تجرؤ أن تؤدي أدوارا وقد تجردت من كل ملابسها على غرار ناهد الشريف وطروب وذلك في عز تحرر السينما المصرية إبان الستينيات. وهكذا تغدو الحداثة معادلا للتخلص مما بقي من ثياب المرأة رمز التحرر النسوي الذي تسعى إليه بعض النخب العربية، بينما لا تدخر قريناتها في الغرب جهدا في مقاضاة وسائل الدعاية الغربية التي تجعل من جسد المرأة العاري محملا لكل منتوج بغية تسويقه. وإن مثل هذا التفسير للظاهرة الدينية لم يعد يستجيب للقوالب النظرية التي وضعها علماء الإجتماع في الغرب، مما اضطرهم إلى إعادة النظر في هذه النظريات حتى تتمكن من استيعاب المشهد الديني الذي يعيشه عالم اليوم، متجاوزين بذلك الخلفية العلمانية إلى البحث عن نظريات أكثر مرونة وحركية تمكنهم من مقاربة الظاهرة الدينية في دينامكيتها وتعقدها(12) .
وإجمالا، لقد اعتمد خطاب كورييه على انتقاء ظاهرة العنف الملازمة لخصوصية الواقع الإسلامي لرسم صورة الإسلام والمسلمين القائمة على ترسيخ فكرة التفاضل بين الغربي المحب للسلام، المؤمن بالديموقراطية مقابل الشرقي المتخلف، العنيف الذي أضحى يشكل خطرا على نفسه وعلى الإنسانية جمعاء. و هذا من شأنه أن يأسر القارئ الغربي في أطر دلالالية تجعل من فهمه للإسلام مقاربة فانتازماتية أكثر منها واقعية. إن المجلة لم تكترث بالقارئ كفرد، فهي في خطابها راحت تبحث عن علاقات بين الإسلام المتخيل والإسلام الواقعي في نظام شبه غيبي قافزة بذلك على خصوصية الواقع وتعقده جاعلة من القارئ مجرد صدى يردد بعض " الحقائق"، منطلقا من تصورات قبلية مبعدة فكرة الممارسة والتجربة والتي تترجم هنا باللقاء الإنساني بين ضفتي الشرق والغرب. فالتحليل كان استجوابا لأجزاء من الواقع لتحقيق افتراضات قبلية تعزز طمأنينة القارئ الغربي وتدعوه إلى الإستسلام لمسلمات أفرزتها تجاذبات تاريخية، فبدل أن يغريه بالسؤال يقوده إلى الرضوخ إلى العلم اليقيني.
مادام قطاع من المؤسسات الثقافية الغربية يتعامل مع الذات الشرقية كموضوع، ومادام هذا الموضوع مقابلا للذات، فليس على كورييه من بأس في أن تستولي على هذا الواقع وأن تغتصبه في داخل مقولات وتصورات أسيرة إرث تاريخي معقد.
ولقد تجلى هذا الإغتصاب الإعلامي على صفحات مجلة أخرى (Sciences humaines) تسعى إلى مقاربة جديدة للظاهرة الدينية لكنها للأسف لا زالت أسيرة ثقة مصطنعة بالذات أسستها عقلية إستشراقية رافقت رحلة تدمير الآخر، ثقة للأسف حالت دون تمحيص القراءة ومناقشتها مناقشة متأنية عميقة، وولا ضير من الإستعانة ببعض الأقلام المتغربنة لإضفاء شيئ من عدم الإنحياز، وتعزيزا لنفس الصورة الطاغية على الذات الإسلامية وخاصة في شقها الأنثوي، نجد أن عبد الرحيم لمشيشي وفي معرض تعريف بالإسلام دينا وجغرافيا وثقافة على مساحة صفحتين من صفحات المجلة المذكورة آنفا(13) ، يقرر أن الإسلام في أصوله يعطي مكانة أدنى لنصف المجتمع (مقارنة بالرجل). وللتدليل على حكمه يستدل بما ورد في الفقه من أن كلمة المرأة تعادل نصف كلمة الرجل، وهنا نشهد انزلاقا دلاليا خطيرا لمفهوم الشهادة يلفه كثيرمن التسطيح والتعميم اللذين يخفيان عن ذهن القارئ الغربي العادي ذي الثقافة المحدودة عن الإسلام. وهكذا يجد هذا القارئ نفسه في وضعية ثقافية مريحة لأن مخاوفه من أن الإسلام كرٌم المرأة ليس لها ما يعضدها من واقع الإسلام، بشهادة أحدهم، فبدل إثارة القلق الثقافي فيما يتعلق بالآخر، يظل القارئ الغربي عبر مثل هذه الجرعات الإعلامية التي تستعير بواعث التعبير عن نفسها من نظرة قروسطية وشعبية يغط في سبات الأنا المركزية.
ونفس آليات التفكير والتحليل المحكومة بالنظرة المركزية نجدها تتكرر على صفحات مجلة Le Monde des religions والتي صدر أول عدد في أكتوبر 2003. ففي هذا العدد، إختارت مجلة عالم الديانات محور موضوعها " المجددون في الإسلام ومحاولتهم التوفيق بين القرآن والحداثة". وفي مقاله الإفتتاحي(14) ، يرسم رئيس التحرير غيتري خط سير المجلة محاولا التأكيد على تفردها بالتعاطي مع المسائل الدينية بذهنية لائكية تقوم على تحليل الوقائع ومواجهة الأفكار من خلال تنوع حقولها المعرفية وتعدد وجهات النظر. وبذلك تضمن صفة التعددية التي تريد أن تمتاز بها عن بقية النشريات إثراءا للتفكير و التأمل في أجواء من التسامح.
ونحن لا يضيرنا أن تتبنى المجلة هذه الوجهة اللائكية، بل بالعكس من ذلك، فإن هذا الطرح قد يكون صمام الأمان الوحيد ضد كل تحيز ديني أو مركزية ثقافية من شأنه أن يقدم الواقع الإسلامي في تعقده وتنوعه وثرائه للقارئ الغربي. لكن هذا الحلم الطوباوي لم يصمد أمام أول امتحان له؛ إذ وفي نفس صفحة الإفتتاحية وحتى يدلل الكاتب على أهمية التزود بالثقافة الدينية من أجل معرفة أفضل بالمجتمعات، يعمد الكاتب إلى طرح تساؤل: هل بإمكاننا أن ندعي الثقافة إذا جهلنا كل شيئ عن كانط و فان كوخ و فرويد و أنشتاين؟ طبعا لا. وهكذا و من غير وعي، يحصر الكاتب الثقافة في حيزها الأوربي، ضاربا صفحا عن كل الأسماء غير الأوربية، نافيا صفة الثقافة عن العطاء الفكري والثقافي الإنساني غير الأوربي. ولذلك لم يكن غريبا أن تلجأ المجلة في دراستها للتجديد الإسلامي إلى عملية انتقاء الأسماء المتغربنة التي تحاول أن تعيد قراءة الإسلام من منظور حداثي. ليس يعنينا هنا إدانة المقاربة الحداثية للتراث الإسلامي، فهي قبل وبعد كل شيء جزء من إفرازات العقل الإسلامي في لقائه الحضاري بالثقافة الغربية، وإنما بغيتنا هو الكشف عن مدى تلازم الخطاب الغربي في بعض تجلياته بالمركزية الثقافية حين يحاول تقديم الإسلام إلى الإنسان الغربي العادي عبر أقلام إسلامية متغربنة معرضة عما يروج في الفضاء الإسلامي من ثورات فكرية يقودها أبناء الحركات الإسلامية ممن تشبعوا بالروح الإسلامية وانفتحوا على ثقافة الآخر، فانطلقوا في عملية تجديد للفكر الإسلامي تستمد من مبادئ الإسلام العامة ما يستجيب لروح العصر دون أدنى عقدة نقص أمام الآخر الغربي. وإن مثل هذا الطرح لن يخدم صورة الغربي المصدر للحضارة. وللدلالة على أهمية الطرح الحداثي في مواجهة الخطاب التقليدي، لا تسأم المجلة من التذكير بما يتعرض له هؤلاء من اضطهاد وملاحقات وتهديد بالموت ومصادرة لكتبهم من التداول في السوق، وكأن جدية الفكر تستمد شرعيتها من تعرض هذا الفكر إلى الإبادة وهو الشجرة التي تسعى بعض الدوائر إلى إبرازها لتغطية ما تموج به غابة الفكر الإسلامي من حركة وتفاعل مع العصر.
1- ومن تجليات هذه القراءة المركزية للتجديد الحداثي للإسلام ورود التساؤل عن إمكانية إخضاع العقائد الإيمانية للمعايير العقلية النقدية النابعة من فلسفة التنوير والثورة العلمية. (15) ما يمكن أن نستخلصه من هذه الرؤية قراءة قسرية لواقع الإسلام الفكري تفقده خصوصية سيرورته التاريخية. إذ يتماهى مساره ومسار تاريخ الفكر الأوربي إلى درجة أن كل ثورة فكرية في الإسلام لا بد وأن تصب في نفس مسار تحرر العقل الأوربي من هيمنة الفكر الكنسي. وكأن شرط تحقق الحداثة في الفكر الإسلامي ملازم لحتمية التنصل من الإرث الإسلامي وتبني المقولات العقلانية الغربية المنبثقة من سياقات تاريخية وثقافية خاصة بأوربا. و تتلاشى عقدة الشعور بالمركزية الثقافية لدى القارئ الغربي، إذا أدرك أن الذي يروج لمثل هذا الطرح ليس مستشرقاًً متحاملا على الإسلام كما اعتادت أن تصوره أدبيات الفكر الإسلامي وإنما هو صادر من إسم ثقافي مسلم يقدم نفسه كخبير في الفكر الإسلامي. وهكذا يجد هذا القارئ الغربي نفسه في حالة من الطمأنينة التي تئد الشعور بالتأنيب بالضمير.
2- ومن أمثلة تلك القراءة محاولة تفسير انتشار المذهب الحنبلي المتشدد في باكستان منذ 1977 وانحسار المذهب الحنفي المتساهل بتراجع الأفكار اللائكية لصالح الحركات الإسلامية (16). وهو تفسيراعتباطي و عشوائي يحاول الربط بين معطيات موضوعية ضاربة الجذور في تاريخ الفقه الإسلامي و إسقاطات ذاتية لقراءة استعجالية لواقع الحركات الإسلامية المعاصرة في باكستان. ولكن لمن يجهل تعقيدات المشهد الثقافي الإسلامي من القراء الغربيين، فإنه سوف يدفع دفعا إلى اتخاذ مواقف عدائية تجاه إحدى قراءات الفقه الإسلامي دون أدنى شعور باحتمال مجانبة الصواب على اعتبار أن الذي أصدر الحكم إنما هو في الأصل " خبير في الشأن الإسلامي" وخاصة بعد تراجع شعبية المستشرقين الكلاسيكيين ليحل محلهم خبراء الشأن الأمني في اٍلإسلام كما هو شأن أنطوان صفير.
إن إسقاط مثل هذه المفاهيم على واقع متخيل يثبت لنا أن استخلاص دلالات من ظواهر معينة ثم تعميمها على واقع معقد يؤدي في كثير من الأحيان إلى تشويه هذا الواقع وتبسيطه لمن لا يعرفه واختزاله إلى مجموعة تيمات تختزن صورا فانتازمية تعمق الهوة بين الأنا والآخر وتجعل الحوار بينهما أمرا عسيرا. لكن كل ذلك لن يعفينا من محاولة قراءة بعض من واقعنا في ضوء هذه الدلالات في إطار ما يسمى بالنقد الذاتي و لا تضيرنا السهام من أي قوس انطلقت، فإن تعلق الأمر بنقد داخلي يتأسس على أوهام و تطرحه أسماء إسلامية لكنها متغربنة، فهي لاتعدو أن تكون مضادات حيوية تزيد الجسم الثقافي الإسلامي مناعة وحيوية. أما إذا أصاب النقد كبد الحقيقة، فلا تأخذنا العزة بالأيديولوجيا والتيولوجيا، ولنعترف بقصورنا وتقصيرنا ولنبد استعدادا صادقا لمراجعة الذات دون عقدة دونية أو تفوق.
إن طرح المجلات الآنفة الذكر يبرز عيانا أزمة التنكر لصفة ملازمة للواقع الإسلامي ألا وهي التعقد، إذ تسعى إلى أن تدخل تفاصيل الواقع الإسلامي في ألفاظ تشمل فئات مجردة، معتقدة اعتقادا راسخا أن الألفاظ (إسلام – إرهاب - إستبداد) تحمل في ذاتها دلالات مطلقة، وليست مجرد علامات لا يمكن فض غموضها إلا من خلال الإحالة المستمرة على الوجود الذي من المفترض أنها انبثقت منه. لم تحاول المجلات أن تفحص تشخيصها الدلالالي من خلال عملية تقاطع بين اللغة والموقف الذي تحيل عليه مبرزة تعقد الظاهرة. وليس يعنيني في هذا المقام الوقوف على التاريخ الدلالي لهذه الألفاظ ولا متابعة تجلياتها في الفضاء الإسلامي، وإنما الذي يعنيني بالدرجة الأولى إنما هو مدى تأثير مثل هذه التجريدات ذات الصبغة " العلمية" في صياغة صورة الآخر المسلم في الذهنية الغربية من خلال تتبع انعكاس هذا الطرح على القارئ الغربي.
وهكذا يصبح هذا الواقع الإسلامي في قبضة ألفاظ ( ديكتاتورية – تطرف- إرهاب) تسعى إلى تحويل تأويلاتها إلى قانون أو تفسير سلطوي تغلب عليه الميكانكية والجمود المنغلق والمنطوي على فرضيات أخذت سلطة المسلمات.
صحيح أن ممارسة النقد الإجتماعي والسياسي والتاريخي للظاهرة الإنسانية التي تنطلق من خصوصيات معرفية تختلف جذريا عن الأسس المعرفية التي يبنى عليها ذلك النقد لا يمكن إلغاء نتائجها بجرة قلم بحجة الإختلاف، لكن تطبيق هذا النقد من خلال اعتماد قوالب جاهزة وأنظمة معرفية بمثابة القوانين لا يخلو مخاطر وخيمة العواقب. وهو ما بدأ الغرب اليوم في تداركه من خلال مراجعة للأسس المعرفية التي تأسست عليها العلوم الإنسانية في الغرب، وخاصة تلك التي تتناول الآخر. لكننا لو حاولنا أن نسبر أغوار هذه النظرة العلموية للإسلام قد نجد لها جذورا ضاربة في عمق فلسفة تحليل الظواهر والتي تخضع منذ عصر الأنوار للنزعات التجريبية والوضعية للعلوم الطبيعية والتي حاولت إسقاط آليات هذه النزعات على العلاقة بالآخر(17). لقد قضت الثقافة الغربية ردحا من الزمن تبحث فيه عن سلطة معرفية تؤسس لعلاقتها بالآخر بواسطة العلم الدقيق، مما أفضى إلى نوع من التماهي بين ما هو معطى في إدراك واقع هذا الآخر وبين هذا الواقع، ليتحول هذا الآخر إلى حقيقة علمية هي خلاصة خبرة المستشرق الشخصية أو تحليلات عالم النفس أو أنماط بنيوية للأنتروبولوجي. إن مثل هذا النقد لا يعني دعوة للإستغناء عن المناهج العلمية في تحليل الظواهر الإنسانية لكنها دعوة لأن تتخلص هذه المعرفة من نزعتها الأيديولوجية والتسلطية التي هي في الأصل مبرر وجودها منذ أن استدعت الآلة العسكرية الإستعمارية العقل الغربي لدراسة الآخر لا للتواصل معه وإنما للسيطرة عليه. فكان أن ارتبطت بهذه النزعة العلمية فكرة التقابل والتضاد والمواجهة والتي هي " عماد فلسفة و تجارب كثيرة في الدراسات السيكولوجية والعلمية واللغوية"(18). فنشأ هذا التقابل الإفتراضي بين الذات الغربية وما أطلقت عليه بالموضوع. وعلى هذا الآخر الذي نفت عنه هذه النزعة صفة الذات أن يتحول إلى فئران مخابر. ولو حاولنا أن نبحث عن الدوافع الهوياتية في تبني مثل هذه النظرة "العلموية" لوجدنا أن ذلك يعود في أصله إلى تجذر النظرة المركزية الأوربية في تعاملها مع ثقافة الآخر حيث عمدت إلى بناء سور تاريخي يفصلها عن بقية الثقافات الأخرى ويحدد خصوصيتها التي تقصي كل العناصر الأجنبية التي ساهمت في بلورتها، لتتحول الأنا إلى ذات والآخر إلى موضوع خارجي قابل للدراسة والفحص والملاحظة والتجربة.
وإن المتأمل في تاريخ الفكر الأوربي، منذ عصر التنوير ومرورا بالفترة الإستعمارية، يدرك مدى ترابط النزعة المركزية بالأيديولوجيا العلمية من حيث استخدام الأولى للثانية لغاية بناء هوية لا فضل فيها للآخر الغريب في المساهمة في تشكيلها. وحتى يتم إقصاء هذا الآخر ذي الماضي الحضاري الفاعل والحاضرالسلبي، كان لا بد من تجريده من صفة الفعالية الحضارية وحصره في دور الحالة الباتولوجية التي تستدعي تشخيصا علميا لإبراز أعراض مرض التخلف بغية إيجاد علاج " علموي" حداثي على النمط التنويري.
ومثلما يؤكده سمير أمين في كتابه (التمركز الأوربي، نحونظرية للثقافة) :" قد لعبت خرافة [الأسلاف الإغريق] دورا جوهريا في البناء الأيديولوجي للتمركز الأوربي يقوم على فرضية استمرارية تاريخية تمتد من اليونان القديم فروما إلى القرون الوسطى فعصر التنوير فالحداثة. وفي هذا الإطار لم يعمل حساب الفلسفة العربية الإسلامية إلا كوسيلة نقل الوراثة اليونانية. وكان الرأي السائد أن الإسلام لم يضف شيئا مثيرا للفكر اليوناني، بل وإنه في حدود محاولته لإنجاز إضافات إلى السابق قد فشل أو على الأقل فعله بأسلوب غير مرض." (19)
ولا يعنينا من وراء قولنا انتماء اليونان إلى الشرق القديم التقليل من شأن الإرث اليوناني ولا بحثا عن سلوى نوستالجية ماضوية تسد ثغرة من شعورنا بالنقص أمام التفوق الغربي ، وإنما الذي يعنينا بداءة هو الكشف عن الحالة الإستثنائية التي فرضها التنوير الغربي على تاريخ العلاقات بين الحضارات ألا وهي حالة التضاد والتقابل المفضي إلى الصراع والغلبة والتي استمدت شرعيتها مما يسمى بالأيديولوجيا العلمية. (20)
بصرف النظر عن أهميتها البالغة في رسم تاريخ الأيديولوجيات الغربية خلال القرنين الماضيين، فإن ما يلفت انتباهنا، نحن أبناء الشرق الإسلامي، فيما يتعلق بالأيديولوجيا العلمية إنما هو محافظتها على جوهرها المركزي إلى اليوم على الرغم من دخول كثير من العوامل الثقافية والسياسية في تشكيل العلاقة بالآخر، والأهم من ذلك مدى انعكاس ذلك على أنواع الخطاب الغربي بما فيها الإعلامي في تحديده لعلاقته بالآخر خاصة الشرق الإسلامي. إن اعتبار النموذج التنويري الغربي المستند إلى الحداثة العقلانية حتمية عالمية ليس وليد اليوم وإنما هو ضارب بجذوره في تاريخ فلسفة عصر الأنوار، وهو ما حاول رصده المفكر Tzvetan Todorov في كتابه " نحن والآخرون"، حين اعتبر أن كوندورسيه كان من بين الآوائل ممن قرروا أن العقل وحده مصدر الفصل بين الحق والباطل وبين العدل والظلم (21). وبما أن العقل ظاهرة مشتركة بين جميع البشر، فأحكامه واحدة وصالحة لكل زمان ومكان. وعليه فالقوانين والأحكام لم تعد محصلة الحق الطبيعي وما يصاحبه من شروط مادية واجتماعية وتاريخية لأمة ما، وإنما هو الحق العقلاني الذي يقرر أن قانونا جيدا وصالحا يجب أن يكون صالحا لكل البشر(22). ليأتي بعده خليفته سان سيمون ليحاول تجسيد نظريات أستاذه من خلال البحث عن دستور عالمي يستند على مبادئ صحيحة ،مطلقة، عالمية، مستقلة عن الزمان والمكان. وهو ما عثر عليه في الدستور البريطاني الذي أسست قوانينه على الملاحظة التجريبية والمنطق الرياضي، لتحقيق الحرية والسعادة، فراح يدعو الدول الأوربية إلى تبنيه ومن ثم الإنطلاق في ضوئه لإعمار أرجاء الكرة الأرضية من أجل تصدير هذا الدستور العالمي (23). أعقبه أوجست كونت الذي يعتقد أنه بالإمكان استصدار دستور قائم على العلم تجبر كل الشعوب على الإنصياع لقوانينه، متجاوزا الفروقات القومية، لتتحول الإنسانية في نهاية المطاف إلى مجتمع واحد. مهمة النزعة العلمية هي أن تساعد البشر على التقدم نحو هذا الهدف الذي أضحى في رأي كونت حتمية مستقبلية. خاصة وأن الغرب قد انطلق في ثورة صناعية مكنته من بلورة نظام للعمل والإنتاج وقد أحكم إلى جانب ذلك السيطرة على الثروات الطبيعية بفضل العلم وقد أسس نظاما سياسيا قوامه الجمهورية والديموقراطية (24) .وعليه فرئاسة الإنسانية قد آلت إلى الغرب بشكل لا يمكن التراجع عنه (25).
ومن خلال مثل هذه الطروحات الشوفينية، كان الغرب لا يني يعلن عن نفسه بأنه واحد ووحيد ص (26) في مواجهة الباقي اللامتميز للعالم وذلك بعد أن استطاع أن يستفيد من الإسهامات العلمية للحضارات الأخرى. حينما وثق الغرب من نفسه ولم يعد يبالي بما يصمه به الآخر (27) راح يبلور مشروع هوية يقوم على تمجيد الذات مع استحضار للآخر لكن ليس كعامل مساهم في تأسيس هذه الذات وإنما كأبشع صورة سلبية يمكن أن يعكسها هذا اللآخر بالنسبة لهذه الذات. فإذا كات هذه الذات تنويرية فالآخر الشرقي ظلامي، وإذا كانت عقلانية فالآخر الشرقي أسطوري خرافي، وإذا كانت متقدمة فالآخر الشرقي متخلف وهكذا دواليك.
وهو ما يترجم بالرغم من الفارق الزمني، إصرار مجلة Courrier International على ترديد هذه المقولة من خلال التساؤل عن تردد العالم الإسلامي في تبنيه للديموقراطية والليبيرالية الغربية مصرا على البقاء حبيس الثالوث الخطير ( الإستبداد – الإرهاب – التخلف) (28) إن مثل هذه القراءة التاريخية لأثر التمركز الغربي في صياغة الأيديولوجيا العلمية المؤسسة للتضاد ذات / موضوع والتي لامسنا تداعياتها على بعض أوجه الخطاب الإعلامي الغربي، يجب ألا تستغرقنا في تحليل تجريدي يشل فكرنا عن متابعة المسارات الثقافية التي اتخذتها هذه النظرة بفعل هزات تاريخية ألجأتها إلى مراجعة مسلماتها.

· الإسلام وهوية أوربا:
ولقد ظهرت على الساحة الإعلامية شريحة من المثقفين الغربيين تدعو إلى إعادة تعريف الهوية الأوربية – الغربية من خلال إعادة الإعتبار للعامل الثقافي الإسلامي الذي ساهم ذات يوم في بعث فكر تنويري كان المحرك الحقيقي لنهضة اليوم، فحينما يعلن Alain De Libéra في مجلة Manière de voir (29)، أن الغرب قد نسي إرثه العربي فإنه يعبر تعبيرا مضادا عن نظرية عجز أصحابها عن إقامة الحجة على صدقيتها لكنها صاحبة السيادة عند الرأي العام في كل من ضفتي المتوسط: إن العرب كانوا وما يزالون وسيظلون أجانب عن الغرب. هذا الغرب الذي تحول إلى مفهوم خاضع للمناورة وآلة لقضم الذاكرة هو الذي لا يني يردد مقولة تغييب المنابع العربية للفكر الأوربي، مما يوحي أن الفكر العربي – الإسلامي هو جسم أجنبي أقبل من الخارج وعليه أن يعود من حيث اتى. والجديد في الأمر أن هذا الصوت يعمل على الدعوة إلى الحديث عن عناصر عربية مكونة للفكر الأوربي.
ويعتبر الكاتب أن هذا الرفض الواعي لهذا المركب الثقافي قد انغرس في الذهنية الغربية بحيث أضحى إحدى السمات التي تأسست عليها الهوية الأوربية. ويستدل على ذلك بالإقصاء الذي تمارسه المناهج العلمية في حق الإسلام المتوسطي، فجمهور الطلبة يجهل كلية الفلسفة والعلوم العربية في العصر الوسيط. وفي مراجعة تاريخية لمسار تشكل الهوية الأوربية يقف الكاتب عند المحطتين الأسطوريتين لتأسيس الهوية الثقافية لأوربا هما: النهضة والتنوير. وإن لهما نقطة مشتركة هي كراهية الشرق والعرب والتي تجلت في نظرية المؤرخ البلجيكي Henri Pirenne (1935) في كتابه " محمد وشارلمان" وخلاصتها: إن الإسلام فكك الوحدة المتوسطية التي أسستها الهجمات الجرمانية على الضفة الجنوبية من المتوسط". فبلدان أفريقيا وإسبانيا التي كانت تنتمي إلى الأمة الغربية، إنها الآن تدور في فلك بغداد. إنه دين آخر وثقافة أخرى التي اكتسحت كل ميادين الحياة. يتحول البحر المتوسطي إلى بحيرة إسلامية فإنه قد توقف عن أن يكون سبيلا إلى تبادل الأفكار" (30). مما أتاح الفرصة تاريخيا لنشأة تكتل ثقافي- ديني قائم على فكرة أوربا والذي بحث له عن سند تاريخي فوجده في أسطورة الإرث الفلسفي اليوناني – الألماني الذي أقصى من سجلاته كل آثار غير مسيحية وغير رومانية.
فالفلسفة الغربية المعاصرة لا تفتر تذكر أبناءها بأصولها اليونانية والألمانية ليتحول إقصاء المساهمة العربية إلى هاجس ثقافي يلاحق مروجي فكر الهوية الأوربية. من مثل هذا السيناريو اليوناني – الألماني يدعو الكاتب المفكرين الغربيين والعرب على السواء للتخلص منه لأنه السيناريو الذي يخدم أفكار العنصرية التي يتبناها اليمين المتطرف وهو ذات السيناريوالذي يتكؤ عليه الأصوليون المسلمون لتعزيز الإنطواء حول الذات.
وللخروج من هذا الإنطواء المزدوج، تقترح مجلة Manière de voir إطلالة على الإسلام من خلال عرض صفحاتها على أقلام إسلامية، مستهلة افتتاحيتها بطرح أهم العوامل السياسية والثقافية التي ساهمت في تغذية الشعور بالخواف من الإسلام لدى المواطن الغربي، وفي محاولة منها لتفكيك صورة الإسلام المرعبة التي صنعتها المخيلة الغربية، تعمد الإفتتاحية إلى تقديم الإسلام في بعده الديني (الأركان الخمسة) وبعده القيمي (إمتثال المسلم إلى قانون أخلاقي كوني : تحريم القتل،تحريم الزنا، شهادة الزور..) وبعده العقدي (مسؤولية الإنسان عن أفعاله، الجزاء للمحسن والعقاب للمسيء). (31)
ثم وبلغة هادئة، خالية من التشنجات الثقافية والحساسيات السياسية، يعرف كاتب الإفتتاحية رامونيه مصطلح " الإسلاميون" أو ما اصطلح على تسميته في الخطاب الإعلامي الغربي بـ (الأصوليون، المتطرفون) بأنه يضم في دلالته نضال مجموعة من المسلمين من أجل أن ينسجم المجتمع والدولة مع أحكام الشريعة الإسلامية من خلال إقامة نظام " الجمهورية الإسلامية" التي من شأنها أن تأتي على الفساد والإنحطاط الخلقي والحيف الإجتماعي. ولتحقيق هذه الأهداف، اختارت بعض التنظيمات الطريق السلمي والديموقراطي من خلال المشاركة في الحياة السياسية والإنتخابات إذا سمحت بها الدولة، وبعضها الآخر، وهم أقلية، قد اختار العنف لتحقيق هذه الأهداف. ويضرب مثالا على ذلك لكنه هذه المرة يسيء الإختيار حين يقع على النضال الفلسطيني متهما إياه بالإرهاب، لأنه يستهدف حياة المواطن الإسرائيلي، ويخطئ مرة أخرى حين يختار أحداث العشرية الجزائرية، مختزلا المأساة الوطنية في صراع بين إسلاميين إرهاببين ونظام لائكي ديموقراطي. عدا هاتين الهفوتين، يظل المقال ذا قيمة إعلامية؛ إذ يدين الكاتب في الأخير الحملة الإعلامية الغربية التي تلاحق إسلام المليار، ناعتة إياه بالإرهاب والعنف والوحشية عبر صورة مضخمة إلتقطتها عدسة الإعلام لأقليات تمتهن العنف. (32)
إن مثل هذه الإفتتاحية تدعونا إلى الوقوف أمام ظاهرة تبني بعض من الخطاب الإعلامي الغربي لرؤية جديدة يحاول عبرها إعادة اكتشاف الإسلام والمسلمين بعيدا عن لغة الخشب الإستشراقية، مستعيرا قاموس من يتبنون الطرح الإسلامي، داعيا إلى النظر إلى الإسلام ليس كدين وحسب وإنما كثقافة وحضارة ساهمت عبر التاريخ في دفع عجلة التقدم الإنساني.
وانسجاما مع قناعاتها في إعطاء مساحة للطرف الآخر الذي ظل مغيبا عن التعبير عن ذاته مدة من الزمن بحجة تطرفه وأصوليته، عرضت مجلة Manière de voir صفحاتها على قلم المثقف الإسلامي ذي النشأة الغربية طارق رمضان الذي استعرض في مقاله(33) بعضا من إرهاصات الثورة الداخلية لتجديد الفكر الإسلامي، مشخصا بداءة الأزمة التي يمر بها الفكر الإسلامي والمتجلية في التخبط الثقافي بحثا عن مشروع مجتمع فقط بالإعتماد على استنساخ نمط حياة يضاد كل ما هو غربي / تغريبي. فهو يرى أن الهلع الذي انتاب العقل الإسلامي بسبب الخطر المحدق بهويته من غرب يبغي استلابها، دفعه إلى تطوير آليات ثقافية توفر له مناعة حضارية لكنها تغرقه في دوامة التقوقع على الذات مسببة عطبا عقليا يشل حركية فكرية تحاول أن تبعث المبادئ الإسلام الكبرى في عصر ما بعد الحداثة.
وهكذا يجد قطاع من الرأي العام الغربي نفسه أمام كوة انفتحت على مشهد ثقافي إسلامي تعتمل بين جنباته حركة فكرية تعمل على مراجعة معطيات ثقافية لبست لبوس المسلمات حين ساهمت ذات يوم في تشكيل الهوية. والجديد في الطرح أنه لم يعد مرتبطا بالنظرة المانوية التي حملها مثقفون متغربنون والتي تجعل من كل عملية نقد للفكر الإسلامي دعوة للبديل الحداثي العلماني الذي يرنو إلى إفراغ الإسلام من كل خصوصياته.
وللخروج من هذا المأزق يدعو طارق إلى مراجعة الإرث الثقافي الإسلامي في ضوء المبادئ العامة للإسلام مع إخضاع التاريخ إلى قراءة نقدية شاملة، بدءا من محاولة الخروج من الثنائية التقابلية ( غرب / إسلام) التي تتجلى في فكرة ( كلما ابتعدنا عن الغرب كلما اقتربنا من الإسلام).
فلا شيء يمكن أن يحول دون أن يستعيد المسلمون حركيتهم الفكرية التي أتاحت للفكر الإسلامي عبر التاريخ أن يتحدى العقبات الحداثية وأن يؤسس لحوار مثمر مع الحضارات الأخرى (فارسية، هندية، يونانية...). إن التجديد حتمية حضارية لامناص منها، وإن التفاعل مع الفكر الغربي أمر سيكون له الأثر الفعال في مساءلة الفضاء الإسلامي، إلا أن أصالة التجديد المعاصر تكمن في أن الإجابات المقترحة لا تستقي شرعيتها من الثنائية ( مع / ضد الغرب ) وإنما في البحث عن منهج يتميز بالخصوصية والتعددية والمعاصرة ويرمي إلى تهيئة الأجواء لكي تتصالح الحضارة الإسلامية مع نفسها. ويركز طارق رمضان على فكرة أن مثل هذا التجديد بحاجة إلى عامل الزمن لأنه موجه إلى شعوب وذهنيات تعيش حالة من الفقر والتخلف وخاضعة لأنظمة ديكتاتورية. وهو ما يفسر عجز كثير من المثقفين والمفكرين في المساهمة في هذا التجديد؛ إما لأنهم منفصلون عن الواقع ويرصدونه من بروج عاجية، وإما أنهم يعتمدون على مرجعية خارجة عن الدائرة الإسلامية. ودون إنقاص من شأن إسهامات هؤلاء إلا أنها في كثير من الأحيان تصاب بشلل كامل حين يستقبلها الرأي العام الإسلامي بعدها جهدا فكريا يرمي إلى تقديم إسلام مفرغ من محتواه الديني إرضاء لدوائر ثقافية في الغرب.
ودون إهدار للمجهودات الفكرية التي تعرفها الساحة الثقافية في العالم الإسلامي، فإن طارق يعول كثيرا على الجهد الفكري الذي أفرزته وتفرزه النخبة الإسلامية المقيمة في الغرب والتي انطلقت في مساءلة التراث الإسلامي بفعل تأثيرات محيط المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية لكن انطلاقا من مرجعية إسلامية. إذ بدأت هذه الجهود الفكرية في الغرب تمارس تأثيرها في حركية الفكر في العالم الإسلامي؛ فشرع مثقفوه وعلماؤه في الإستماع باهتمام إلى الأسئلة والإقتراحات والممارسات التي أفرزتها المجتمعات الغربية بعد أن كانوا يكتفون فقط بتصدير فكرهم وفتاواهم في اتجاه واحد. إن التجديد الذي يعيشه مسلمو الغرب وأجياله الجديدة من الملتزمين بالإسلام وإرادتهم في أن يظلوا أوفياء لمرجعيتهم الإسلامية في محيط علماني يوفر لهم قدرا كبيرا من حرية ممارسة الشعائر الدينينة من شأنه أن يكون أهم علامة على الثورة التي يعيشها الفكر الإسلامي المعاصر الذي لم تعد إجاباته القديمة قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة. وفي الأخير يدعو رمضان الغرب إلى أن يكون أكثر إصغاء للثورات الداخلية التي يعيشها الفكر الإسلامي وأن يقبل أن يتخلى عن مركزيته الثقافية في حكمه على الآخر. فحالة التخلف التي يعيشها العالم الإسلامي لا تجبره على سلوك نفس المسار الحضاري الغربي التنويري حتى يلتحق بالركب وحتى تُتَجنب مثل هذه النظرة النرجسية، يدعو طارق إلى دراسة معمقة للفضاء الإسلامي في تعقده وتعدديته وخصوصيته. وأيسر السبل لتحقيق ذلك هو إرساء جسور حوار مع الفعاليات الإسلامية التي لا تفكر " مثلنا" (أي مثل الغرب) ومحاولة تفهم قاموسهم ومرجعيتهم ومحاولة تفادي الحوار ذي الإتجاه الواحد الذي يعقده الغرب مع أسماء إسلامية تستند في مرجعيتها على الإرث الثقافي الغربي ولا تجد لها صدى في حمى الثورة الداخلية التي يعيشها الفضاء الإسلامي.
من خلال هذه الطروحات، تنبثق ملامح صورة المثقف المسلم الذي يبغي التجديد في مقابل صورة المثقف المتغربن الذي يرنو إلى المسخ. وهكذا لم يعد الحديث عن الإسلام حكرا على أسماء انحصرت مهمتها في إرضاء الأنا الجمعي الغربي، بل أضحى يزاحمها تيار فكري إسلامي ظل إلى وقت قريب حبيس تصورات تختزل ماهيته في جملة من الدلالات السلبية ( إرهاب – تطرف...) مثلما ألمحنا إليه آنفا.
وخلاصة الأمر، إن الخطاب الإعلامي الغربي تجاه الإسلام ليس واحدا، ولا يمكننا أن نتغاظى عن طرح منفتح على الإسلام، وإن بدا خافت الصوت، وذلك بحجة أن الخطاب الغالب هو خطاب عدائي إستفزازي يجعل وبشكل آلي من الإسلام مرادفا للعنف. فحصرنا لظاهرة التشوه الثقافي في تتبعنا وإحصائنا أخطاء الغرب في تقويمه للإسلام(34) سيضطرنا إلى اعتماد نظرة قاصرة تنفتح على جانب ضيق من الثقافة الغربية وتحرمنا من التعامل مع هذه الثقافة انطلاقا من نظرة متفاعلة وإيجابية ترصد التحولات الطارئة على تعامل الغرب مع الآخر الشرقي.
إذا كان الإعتقاد بأن التمركز الثقافي متأصل في بنية الثقافة الغربية تأصلا مطلقا خارج حدود التاريخ والجغرافيا قد يساعدنا على تشخيص التشوه الثقافي الذي لحق الحضارة الغربية في تقييمها للآخر الشرقي، إلا أن ذلك سوف يفوت علينا فرصة متابعة التحولات التي طرأت وتطرأ على التصورات والمناهج المعتمدة لاكتشاف الآخر. الأمر الذي يعزز عزلتنا ويقدم تبريرا غير منطقي لانطوائنا حول ذاتنا الثقافية. وعلى أية حال سنكون الأكثر تضررا لأننا نحن الأحوج إلى الإنفتاح على العالم والبحث عن قنوات تواصل مع الآخر تسهم في كسر القطيعة التاريخية المفتعلة.
في الأخير،إن نظرة التمركز الحضاري التي نعيبها على الغرب ليست سمة دائمة للثقافة الغربية وملازمة لها ملازمة مطلقة تنبع من طبيعتها العقلانية، وإنما هي إفرازات عوامل تاريخية أكسبت الغرب قوة أضفت على إرادته في السيطرة شرعية حضارية (35). بمعنى أن هذه النظرة قد تتزحزح عن طبيعتها البديهية لتتحول إلى تساؤل مؤرق تترجمه كتابات نخبة مثقفة وتفاعل قطاعات كبيرة من الرأي العام الغربي مع قضايا الشرق المغلوب على أمره. ثم إن إصرارنا على اتهام الغرب بالنظرة المركزية للعالم مع إعراض مطلق عن كل المتغيرات الطارئة على مسارالفكر الغربي في علاقته بالآخر قد يخفي بين طيات خطابنا الثقافي رغبة انتقامية في تحطيم هذا الآخر لإعادة الاعتبار للأنا الجريحة وذلك من خلال رد فعل ثقافي ظاهره كشف سؤة الغرب وباطنه إرادة بناء ذات نرجسية يتمحور حولها الوجود.
فحتى نتخلص من عقدة الدونية، وحتى يتخلص الغرب من عقدته الفوقية، فالكل مدعو إلى أن يرتقي بالمواجهة إلى مصاف الحوار حيث نبحث كلنا عن لقاء ثان بين الإنسان والعالم، لقاء أكثر سماحة وترفعا، قوامه تفتح أصيل على العالم وتواصل حرم منه الإنسان حين حصر علاقته بأخيه في فكرة السيطرة، لقاء يتطلع خلاله الإنسان إلى تحقيق غائية الوجود الإنساني ألا وهي التعارف. " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عمد الله أتقاكم إن الله عليم خبير" سورة الحجرات، الآية 13








د.نصرالدين بن غنيسة
المعهد المتوسطي للدراسات الإسلامية
مرسيليا فرنسا
















الهوامش

Geisser Vincent, La nouvelle islamophobie, La Découverte,Paris, -1 2003 p.108
2- المصدر السابق، ص.109
3- المصدر السابق، ص.97
Courrier International, op.cit, p.55 -4
Ibid, p.63 -5
Ibid, p.66 -6
Ibid, p.69 -7
Ibid, p.84-85 -8
Ibid, p.55 -9
Ibid, p.101 -10
Xavier Molénat, "Identités et religions", in Sciences humaines, op.cit, -11
p.59
Y.Lambert, "Le devenir de la religion en Occident. Reflexion -12 sociologique sur les croyances et les pratiques", in Futuribles, n° 260, Janvier 2001.
Sciences humaines, op.cit, p.32-33 -13
Le Monde des Religions, op.cit, p.3 -14
Benzine, Rachid, "Les axes de la recherches", in Le Monde des -15
Religions, op.cit, p.40
Sfeir, Antoine, Treize siècles d'interprétations, in Le Monde des -16
religions, op.cit, p.40
17- ناصف، مصطفى، اللغة والتفسير والتواصل، عالم المعرفة، الكويت، يتاير 1995، ص209
18- المرجع السابق، ص.211
19- أمين، سمير، التمركز الأوربي، نحو نظرية للثقافة، موفم للنشر، الجزائر، 1992، ص.101-102
Todorov, Tzvetan, Nous et les autres, la reflexion française sur la -20 diversité humaine, Seuil, Paris, 1989, p.48
Ibid, p.49 -21
Idem -22
Ibid, p.52 -23
Ibid, p.53 -24
Ibid, p.55 -25
26- لقاء الرباط مع جاك دريدا، لغات وتفكيكات في الثقافة العربية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، توبقال، الرباط، 1998، ص.50
27- المرجع السابق، ص.54
Saghiè, Marc, La bataille de la démocratie, in Courrier International, -28 op.cit, p.10
De Libéra, Alain, Fractures en Méditérranée, in Manière de voir, op. -29
Cit, p.10-14
Ibid, p.13 -30
Ramonet, Ignacio, "Plus qu'une religion", in Manière de voir, op.cit -31
p.6
Ibid, p.7 -32
Ramadan, Tarik, Le temps de la réforme, in Manière de voir, op.cit -33
p.84-88
34- أمين، سمير، التمركز الأوربي، مرجع سابق، ص.113
35- المرجع السابق، ص.117
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الخوف, الفرنسي, الإسلام, الإعلام


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ندوة دولية حول صورة الإسلام في الإعلام الأوروبي نور الإسلام أخبار منوعة 0 01-06-2014 06:20 AM
عندما يشكل الإعلام الغربي صوراً نمطية عن الإسلام ونبيه نور الإسلام المقالات 0 09-11-2013 09:11 AM
الفرنسي عبدالكريم ميتسو في ذمة الله نور الإسلام لماذا أسلموا؟؟ 0 30-10-2013 07:13 PM
طرد المستشار العسكري الفرنسي من حفل رسمي بأنقرة مزون الطيب أخبار منوعة 0 19-02-2012 07:13 PM
قصة إسلام الدكتور الفرنسي علي سلمان بنوا نور الإسلام لماذا أسلموا؟؟ 0 10-01-2012 12:42 PM


الساعة الآن 09:50 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22