صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

الكتاب : الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض

تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة الكتاب : الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض المؤلف : د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-02-2012 ~ 03:30 PM
مزون الطيب غير متواجد حالياً
افتراضي الكتاب : الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية مزون الطيب
 
الله اكبر
تاريخ التسجيل : Jan 2012


http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
المؤلف : د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني
الناشر : مكتبة وهبة
الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م
عدد الأجزاء : 1
تنبيه :
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب : الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
المؤلف : د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني
الناشر : مكتبة وهبة
الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م
عدد الأجزاء : 1
تنبيه :
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.
(1/8)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مدخل الدراسة
مع مطلع هذا العام 1999 م اشتد الهجوم على السنة النبوية ونشطت بعض الأقلام في الطعن في الحديث النبوي بشكل عام ، ودعوة الناس إلى الإعراض عن السنة الشريفة ، وعدم التعويل عليها في علاقة المسلم بربه ، ومجتمعه ، وأسرته ودنياه وآخرته ؟!
زقد راقبنا ما نشر حول هذا الموضوع ، فرأيناه يزداد عنتا وضراوة وقبحاً يوماً بعد يوم ، ورأينا الذين تولوا كبر هذه الفتنة كلهم - بلا استثناء - دخلاء أعياء على المجال الذي زجَّوا بأنفسهم فيه إذ لا صلة لهم بالدراسات الإسلامية بعامة ، ولا بالحديث وأصوله بخاصة ، وكل حظهم أن قرأوا بعض كتب التراث ، وأخذوا يبحوث عن "العورات" التي ظنوا أنها تفيدهم في تشوية حقائق الإسلام ، وعزله عن المسلمين ، أو عزل المسلمين عنه ، لحاجات في نفوس "اليعاقيب" بدت أفواهم ، وما تخفي صدورهم أكبر.
وقد ساعد على ضراوة هذه الحملة المسعورة عندنا في مصر أمور :
أولاً : التوغل اليهودي بعد لاتصالح مع "إسرائيل" وقيام سفارة لها في أرض الكنانة ، أصبحت هذه "السفارة" وكراً لنفث السموم ومحاربة الإسلام ، على أيدي عملاء لها من بنيجلدتنا ويتحدثون بلساننا ، ويتحركون وهم آمنون ، لأنهم "مصريون" بل "مسلمون" وهذا هو مكن الخطر.
ثانياً : إسهام الجامعة الإمريكية بالقاهرة في الإستاءات السافرة إلى الإسلام ، ففي عام 1998م عثر على كتاب يدرس فيها للكاتب اليهودي (ماكسيم رودنسون) بعنوان (محمد) ويقوم بتدريسه للشباب المصريين أستاذ أمريكي الجنسية. وهذا الكتاب عبارة عن خطة موضوعة لتحقيق غرضين كبيرين :
(أ) - هدم الإسلام أصولاً وفروعاً ، وكلمة "هدم" هنا لا نقصد منها
(1/9)
________________________________________
معناها "المجازي" بل معناها "الحقيقي" كما يدل على ذلك موضوع الكتاب نفسه لمن اطلع عليه ، أو على ملخص له ، واكتفينا بعد العثور على هذه الجريمة بمصادرة "الكتاب" ولم نوجه للجامعة الأمريكية بالقاهرة أي "لوم" ولو على سبيل "الهزاز" ؟!
وهذا ما شجع هذه الجامعة على العودة إلى الإساءة إلى الإسلام مرة أخرى. حيث عثر على رواية "ما جنة" تدرس بين جدران هذا الوكر الاستعماري ، وهي رواية "الخبز الجاف" التي تدعو إلى قتل الأخلاق والفضائل عند أجيال المستقبل وتشجع على "الدعارة" والانتحار الخلقي ؟!
وليس بين جامعة الأزهر (راعية الإسلام) وبين الجامعة الأمريكية (عدوة الإسلام) إلا بضعة كيلو مترات تقريباً.
ثالثاً : مركز ابنن خلدون : وهو وكر استعماري جديد ، قد تكشفت خفاياه من خلال أعمال مشهورة له ، مثل مؤتمر الأقليات ، الذي كان مزمعاً عقده في مصر ، لكن ولاة الأمر منعوا انعقاده فيها عندما أحسوا بخبث المراد منه ، وهو إثارة الفتنة الطائفية في مصر.
ثم تبنى هذه المركز لدعوة تزويج الشباب المصري من فتيات "إسرائيل" وروَّج لهذه الفكرة بما أوتى من وسائل الدعاية ولكن الوعي المصري وأد هذه الفكرة في مهدها والحمد لله ، ثم إقحامه نفسه فيما ليس له فيه ناقة ولا جمل ، وهو إعداد مناهج للتربية الدينية الإسلامية في المراحل الثلاث : الإبتدائي والإعدادي والثانوي ، تضمنت تلك المناهج اعتداءات صارخة على الإسلام ، وكان من أشنع ما ورد فيها إنكار السنو النبوية والقول بأن الأحاديث النبوية كلها "مزورة" ولا يصح منها شيء على الإطلاق ؟!
وقد تصدت صحيفة "عقيدتي" لهذه المناهج ، وكشفت ما فيها من باطل خلال أشهر الشتاء الماضي ، ثم تتابعت الحملات في بعض الأخرى ، الأمر الذي حمل السيد وزير التربية والتعليم على أن يتصل برئيس تحرير
(1/10)
________________________________________
"عقيدتي" الأستاذ السيد عبد الرءوف ، ويعلن براءة الوزارة من أباطيل مركز ابن خلدون.
كما أعلن ذلك في مجلس الشعب أمام لجنة "التعليم" وخمدت تلك الفتنة بسبب الوعي المصري ، والحرص على الإسلام عقيدة وشريعة.
رابعاً : النظام العالمي الجديد أو "العولمة" ذلك النظام الذي حدث بعد انهيار النظام السوفيتي الشيوعي ، حيث ترك انهياره فراغاً أمام الدول الرأسمالية ، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ، وفرضت أمريكا نفسها - بمعونة بعض حلفائها - أن تتزعم هذا النظام ، الذي يصبح فيه العالم كله مثل القرية الواحدة ، أو قرية واحدة بدون "مثل" ويستهدف هذا النظام محو الفوارق بين الشعوب ، أو محو شخصية العالم الإسلامي ، وتجريده من "مقوماته" وفي مقدمتها الدين واللغة العربية ، وما يتصل بهما من حضارة ، ولذلك فإن أوروبا - كلها - تسعى - الآن - لإسقاط الإسلام بما تملك من وسائل "ساخنة" أو "باردة".
ولا يستطيع "عاقل" أن يبرئ أمريكا وبعض حلفائها مما يعتري العالم الإسلامي - الآن - من عمليات المحو والقرض والجذر وإن كان عملاؤها هم الذين يتحركون ، فإن "الوقود" صليبي صهيوني بلا أدنى ريب.
وفي أثناء الهجوم الشرس على السنة النبوية اتصلت بي "شخصية" من العالمين بما وراء الكواليس ، وأكدت لي أن إحدى السفارات الأجنبية الغربية تدبر مركزاً لجمع المعلومات الشاذة من التراث العربي الإسلامي ، وتود بها أولئك العملاء الذين يناصبون الإسلام العداء في الصحف والمجلات المصرية ، وأن أميراً من أسرة المالكة في الدولة التي تتبعها تلك السفارة ، هو الذي ينفق على المركز من ماله الخاص.
وصدق الله العظيم القائل :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ....} [الأنفال : 36]
خامساً : استثمار آثار العنف ، والفتنة التي مرَّت بها البلاد فكدرت الصفو
(1/11)
________________________________________
العام والخاص ، ثم توقف العنف الذي كانت الدولة قد تصدت له ، وخاضت معارك شرسة مع عناصر الفتنة. وكان من المحن أن حوادث الإرهاب نسبت إلى الإسلام ، فأراد هؤلاء المشاغبون الجدد أن يطرقوا الحديد وهو ساخن ، حيث ظنوا أن الدولة أصبحت في موقف قلق من التمسك بالدين ، والدعوة إليه ، وأنها تغمض عينها عن كل من يحذر من الحماسة الدينية ، في هذا الجو أرخى هؤلاء المشاغبون لأنفسهم العنان ، فأداروا ظهورهم للإرهارب وبواعثه ، وأخذوا يصوبون "سهامهم" نحو الإسلام نفسه وصوروا كل ما هو إسلامي في صورة التطرف والعنف والإرهاب أو التشدد المتزمت ، فصرنا نسمع أو نقرأ لأناس لم يكن لهم ذكر من قبل ، ومنهم من وصف علماء الحدثي وشراحه بأنهم إباحيون ؟!
ومنهم من اتعم الإمام الشافعي بأنه ابتدع أشنع بدعة في الإسلام بجعله السن مصدراً للتشريع في كتابه المعروف بـ "الرسالة" ؟!.
وإذا فتشت عن صلة هؤلاء بالدراسات الإسلامية تجدها "صفر" غير مسبوق بأرقام ، ولكنهم قرأوا بعض الكتب فظنوا أنهم صاروا أئمة يشار إليهم بالبنان ؟!
سادساً : الصحف الجديدة : في السنوات القليلة ، الماضية ، انتشرت ظاهرة جديدة ، لم يكن لها وجود من قبل ، تلك هي ظاهرة الصحف الجديدة ، التي تواصل الصدور هذه الأيام.
وتجاوزت هذه الصحف نطاق الحياة الحزبية ، فأخذ بعض الأفراد يتسارعون في إصدارها بهدف الكسب المالي واستثمار رءوس أموالهم. ولهم حيل كثيرة في استصدار التراخيص الرسمية ، التي تمكنهم من مزاولة المهنة في جو آمن.
انتهى الوقت الذي كانت فيه الأهرام والأخبار والجمهورية نجوم العمل الصحفي في مصر ، واصبحت ترى على الأرصفة وفي الأكشاك ومع الباعة حشداً هائلاً من الصحف اليومية والأسبوعية. بالإضافة إلى المجلات العتيقة والحديثة ،
(1/12)
________________________________________
ربما كان المتوسط اليومي يتراوح بين العشر والثماني صحف تعرض للقراءة صباح كل يوم.
والصحيفة بلا قراء أشبه بـ "السقط" الذي لم يكتمل تكوينه في رحم أمه فكان لابد لهذه الصحف الجديدة من السعي لإيجاد قراء لها.
وأقرب وسيلة ، وأقصر طريق هو الكتابة "في الممنوع" و"عن الممنوع" وهذه هي الخطة التي سارت عليها "الصحف الجديدة" واتخذت من الكتابة "في الممنوع" ، "وعن الممنوع" في الشئون الدينية الإسلامية معيناً لا ينضب ، وبحراً لا تتوقف أمواجه ، ولا يجف ماؤه فظفرت باهتمام القراء ، ومتابعتها في ما تكتب عن الإسلام ،
هنا وجد الموتوروت من الإسلام الفرصة أمامهم ، فلم يألوا حهداً في الإساءة إليه والكيد له ، والتحامل عليه واستثمروا - مع هذه - كل المغريات المشار إليها من قبل ، وركزوا جهودهم على محورين :
* الدعوة إلى إلغاء الفقه الإسلامي ؛ لأنه في نظرهم فقه متخلف رجعي ، تجاوزه الزمن أو نتاج أموات فكيف يتحكم أهل القبور في سكان القصور ، فقه كتب لخدمة الحكام الذين كتب في عصورهم وإن شئت فانظر كتابى : ثقافتنا في مواجهة العصر ، وتجديد الفكر العرب وكلاهما للدكتور/ زكي نجيب محمود.
* الدعوة إلى إلغاء السنة النبوية ، إما لأنها مزورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!.
وإما لأنها - وإن كانت غير مزورة - ليست من الدين في شيء. والإيمان بها والاحتكام إليها أكبر بدعة حدثت في الإسلام ، تولى كبرها "الشافعي" ثم تابعه الفقهاء من بعده ؟! وأن العمل بالسنة هو سبب تخلف المسلمين ؟!
والملاحظ الآن أن الحملة على الفقه بدأت تتراجع ، أما الحملة على السُّنة فقد تضاعف حجمها ، ورأينا أشخاصاً يكتبون حولها بهم من قبل ، و عهد لهم بالكتابة ، ولولا وجود الصحف الجديدة ما وجد هؤلاء الأدعياء من
(1/13)
________________________________________
ينشر لهم حرفاً واحداً ، ولكن " لكن ساقطة ، في الحي لا قطة" كما جاء في المثل الحكيم.
* * * * *
ونسأل : لماذا اشتداد الهجوم على السنة ؟ وكأن بين هؤلاء وبينها ثاراً دامياً ؟
والإجابة في إيجاز :
قال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه المعروف : "الإسلام في القرن العشرين" ما خلاصته :
أن أوربا في وضع الخطط لمحاربة الإسلام كلفت خبراءها ومفكريها أن يدرسوا الإسلام ، ويحددوا القوة فيه ، ليحاربوه وهو به عالمون.
وكانت تلك العناصر - كما أسفر البحث - هي :
القرآن الينة ، شخصية النبي ، وبدهي أنهم كانوا يحدودن عناصر القوة الرئيسية في الإسلام ، وإِلأَ فإن في الإسلام عناصر قوة أخرى ، لكنها فروع بالنسبة إلى هذه الأصول الثلاثة.
هذه خلاصة ما نقله المرحوم العقاد عنهم ، ذكرناها لأن لها ارتباطاً وثيقاً بما نحن فيه الآن. حيث توضح هذه الخلاصة الإجابة على هذا السؤال الذي طرحناه :
لماذا اشتداد الهجوم على السنة ؟
إن المراد بالسنة في تقرير الخبراء الأروبيين المشار إليه هو الجانب النظري من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو أحاديثه المتعمدة عند المسلمين الآن.
أما شخصية النبي فالمراد بها - عندهم - الجانب السوكي العملي الأخلاقي ، باعتباره "القدوة الحسنة العليا" لمن آمن وعمل صالحاً.
ثم إن أحاديث الني - السنة - هي الحافظة لسلوكياته وعناصر شخصيته "الفريدة".
(1/14)
________________________________________
في هذا الإطار - نفهم بوضوح اشتداد الهجوم على السنة النبوية ، لأنها تمثل - عندهم - عنصرين من عناصر القوة في الإسلام ، وهما :
* الثروة الحديثية النبوية.
* شخصية النبي العملية.
وهذه أولويات وضعها خصوم الإسلام للقضاء عليه ، ها دنوا القرآن ليأسهم من النيل منه فهم لا يستطيعون أن يدعو أنه "مزَّور" ويكون لادعائهم هذا رواج.
ولكنهم استسهلوا الهجوم على السنة ، واضعين في حسابهم أنهم إذا اسقطوا السنة من حياة المسلمين فقد أسقطوا معها القرآن دون أن يمسوه بقول ؛ لأن المسلمين لا يستطيعون أن يقيموا القرآن إلا بإقامة السنة ، فهي البيان الذي لا بد منه لما جاء في القرآن.
ومع مهادنتهم للقرآن ، فإنهم وضعوا بإزائه مقولة هي في الواقع آفه قاتلة :
هذه المقولة هي "القرآن ثابت الأصل متغير المحتوى" يعنون : إبقاء النص القرآني كما هو بلا تخريف في ألفاظه ولا تراكيبه وإنما التحريف المستساغ هو عدم ثبات معناه ، فيعترى المعنى بمرور الأزمان ، واختلاف المكان ، وتباين الأحوال ما يعتريه وعلى هذا فليس ببعيد أن يصبح مفهوم "الربا" الآن هو هو مفهوم "الزكاة" في زمان آت ، أو مكان آخر.
يعني أن عناصر القوة الثلاثة قد واجهوها بالحروب الباردة وعن طريق عملائهم منا {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة : 47].
ومرت أوقات كان الغرب فيها يزاول هذه المهمات بنفسه. ثم اهتدوا إلى "البديل" وهم العملاء من الداخل. الذين يحملون معاول الهدم الآن ، وهي أقلامهم الملعونة ، ضد الإسلام ، ونبي الإسلام وسنة نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تابعت ما كتبوه عن السنة خلالهم الأشهر الماضية من هذا العام
(1/15)
________________________________________
(1999م) فوجدتهم يرددون ثلاثا وثلاثين شبهة كلها موجهة للنيل من السنة الشريفة المطهرة ، على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تسليم.
كما تابعت الردود السديدة التي كتبها المخلصون من أهل العلم على هؤلاء الزنادقة الموتورين من الإسلام. لكني لحظت على هذه الردود أنها لم تستوعب كل ما أثاره الخصوم من شبهات ، ولم تستقص وجوه الرد عليهم ، وأنها جاءت مفرقة غير مجموعة.
وهذا ما حملنا على كتابة هذه "المواجهة" التي رصدت كل ما أثاروه من شبهات وأغاليط ، فبلغت ثلاثاً وثلاثين شبهة ذكرناها واحدة ولحدة ، وعرضناها بكل أمانة وصدق ، وبينا الهدف منها عندهم.
ثم أتبعنا كل شبهة بالرد المناسب عليها ، وكشفنا عما فيها من جهل وجهالة ، وزيف وباطل ، وذلك في أسلوب علمي موضوعي نرجو أن يكون مقنعاً ممتعاً بإذن الله.
وأغفلنا أسماء هؤلاء الحاقدين ولم نقم لهم وزناً ، لأننا نعلم أنهم يحبون أن تذكر أسماؤهم في مثل هذه الأعمال ، لينالوا بها شهرة وبطولة محمومة.
ولأن من ورط نفسه منهم في إنكار السنى يكاد يكون معروفاً عند القراء وقد اثبتنا في عنوان الدراسة الإشارة إلى ثلاثين شبهة ، وهي في الواقع ثلاث وثلاثون ، لمجرد الإختصار ، كما هو الشأن في العنوانات والتراجم.
والشبهات التي تصدينا لها في هذه الدراسة - وإن كان هدفها العام واحد هو محو السنة النبوية - تنقسم ثلاثة أقسام من حيث الأهداف المرادة من كل شبهة :
القسم الأول : شبهات يراد بها مجرد التشكيك في صحة الأحاديث النبوية ، وفي نسبة صدورها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مثل شبهتى : ندرة الصحيح في محفوظ الإمام البخاري - رضي الله عنه - ، وندرة الأحتكام إلى السنة عند الإمام أبي حنيفة" ؟!
(1/16)
________________________________________
القسم الثاني : وهو شبهات يراد بها محو السنة من الأساس مثل شبهتى : نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة السنة وإدعاء أن القرآن الحكيم نهى عن الإيمان بالسنة والعمل بها ؟!.
أما القسم الثالث : فهو شبهات أرادوا منها عزل السنة عن حياة المسلمين حتى وإن صحت كل الأحاديث المروية فيها ، وذلك مثل شبهتى :
القرآن وحده فيه كفاية للأمة عن كل ما سواه ؟!.
السنة ليست مصدراً تشريعياً ، لا مع القرآن ، ولا منفردة ، وسيجد القراء الكرام ردوداً مفحمة على هؤلاء الزنادقة الموتورين من الإسلام ، حيث لم تصح لهم شبهة واحدة مما أثاروه ، وكان الخزى - دائماً - حليفهم.
وهذا هو شأن كل أدعياء الباطل في كل زمان ومكان ونذكر القراء الكرام أننا لم نراع - في الغالب - ترتيباً معينا في ذكر هذه الشبهات وتفنيدها ونقضها ، لأن المقصود من هذه الدراسة هو إبطال مدعياتهم ، ورد كيدهم في نحورهم ، وقدكان والحمد لله ولي الذين آمنوا.
والأملفي الله كبير ، أن يكون ما في هذا الكتاب "بيان للناس" ينصر الحق ، ويزهق الباطل.
وقبل أن نودع هذا المدخل أحب أن أدعو الله للأستاذين الفاضلين :
وهبة حسن وهبة صاحب ومدير الدار الناشرة لهذه الدراسة على سرعة قيامه بالطبع والنشر انتصاراً لسنة نبي الرحمة على أولياء الشيطان.
ومحمد محمود هاشم ، رجل البر والتقوى ، لما قدمه من عون يعلمه الله في سبيل نشر هذه الدراسة ، فاللهم ضاعف ثوابهما وأعف عنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا على أعداء الحق والدين.
القاهرة في 10 صفر 1420 هـ
الموافق 5 يوليو 1999م
المؤلف
عفا الله عنه
(1/17)
________________________________________
الشبهة الأولى النهي النبوي عن كتابة الحديث
من أبرز الشبهات التي يستند إليها منكرو السنة النبوية ، الحديث الذي ورد في النهي عن كتابة الحديث النبوي ، وجمعه وتدوينه في صحف خاصة به.
فقد روى مسلم في صحيحه ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن ، ومن كتب عني شيئاً فليمحه".
ومنكرو السنة النبوية قديماً وحديثاً يرددون ها الحديث كثيراً ، وبخاصة في هذه الأيام التي نشطوا فيها نشاطاً واسعاً ، لم يكن معهوداً من قبل فهم يقولون إن السنة لو كانت من أصول الدين لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها وجمعها في صحف كما كان يصنع مع القرآن حين ينزل ، حيث كان يأمر كتبه الوحي بكتابة ما ينزل عليه أولاً فأولاً ، أما وأنه قد نهى عن كتابتها ، فهذا دليل على أنها ليست من الدين في شيء. ومن المحال أن تكون السنة من الدين وينهى النبي عن كتابتها ، بل ويأمر بمحو ما كتب منها.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
هذه الشبهة التي يستند إليها خصوم السنة أوهى من بيت العنكبوت ، وهم يعلمون هذا ، ولكن العناد هو المسيطر عليهم ، لأن هذا الحديث الذي تمسكوا به لم يكن هو الموقف الوحيد في مسألة كتابة الحديث النبوي وروايته وجمعه وتدوينه. فقد وردت أحاديث أخرى أذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - برواية الأحاديث عنه ، وتدوينها وكتابتها.
أحاديث الإذن :
روى أبو داود والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال :
(1/18)
________________________________________
" قلت يا رسول الله : إني أسمع منك الشيء فأكتبه. قال : نعم. قلت : في الغضب والرضا ؟ قال : نعم فإني لا أقول فيهما إلا حقاً".
وروى الترمذي عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه - يعني كان سريع النسيان - فقال له النبي : استعن عليه بيمينك ، وأومأ بيده إلى الخط"
هذا الرجل شكا إلى النبي ضعف ذكراته عن حفز الأحاديث. فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يكتب ما يسمعه من أحاديثه ليسهل عليه الرجوع إليها إذا نسى شيئاً منها.
وروى البخاري عن أبي هريرة أنه قال :
"لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أكثر حديثاً مني ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص. فإنه كان يكتب ، وأنا لا أكتب" ففي كلام أبي هريرة هنا توكيد لما رواه أبو داود والحاكم من اشتغال عبد الله بن عمرو بكتابة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإقرار النبي له على الكتابة.
وروى الشيخان - البخاري ومسلم - أن رجلاً من أهل اليمن ، اسمه أبو شاه سمع خطبه النبي بمكى عام الفتح ، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، فطلب من النبي أن يكتب له شيئاً مما قال. فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه "اكتبوا لأبي شاه".
وروى البخاري في صحيحه أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سُئل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل عندكم من رسول الله شيء غير القرآن ؟ قال : لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا أن يعطى الله عبداً فهما في كتابه وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر".
وروى ابن عبد البر في كتابه المعروف "جامع بيان العلم وفضله" سبباً
(1/19)
________________________________________
لسؤال عبد الله بن عمرو بن العاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، الذي تقدم "إني أسمع منك شيئاً فأكتبه".
قال ابن عبد البر ما خلاصته :
إن الصحابة لما رأو عبد الله يكثر من كتابة الحديث عن رسول الله قالوا له :
"إنك تكتب عن رسول الله كل ما يقول ، ورسول الله قد يغضب ، فيقول ما لا يتخذ شرعاً عاماً فرجع عبد الله بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له :
"اكتب عني ، فو الذي نفسي بيده ما خرج من فمي إلا الحق".
ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل إلى رؤساء الشعوب والعشائر كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام ، ويختمها بخاتمه ، ما تزال هذه الكتب موجودة في وثائق خاصة بها.
وهي بلا نزاع تمثل جانباً عظيماً من سنته القولية الطاهرة.
كما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب لولاته وعما له كتبا يبين فيها أحكام الصدقات (الزكاة) والديات والفرائض (المواريث) وبعض السنن ، هذه الوقائع والآثار تدل دلالة قاطعة على أن النبي كان قد أذن في كتابة أحاديثه للعمل بها في حياة المسلمين. وليزود عما له وولاته بما يعينهم على أداء مهماتهم في إدارة الأمور على هدى من كتاب الله وسنة رسوله الكريم.
التوفيق بين النهي والإذن :
علماء الأمة - رضي الله عنهم - ، لهم موقف سديد من حديث النهي عن كتابة الحديث النبوي ، الذي رواه أبو سعيد الخدري ، وأحاديث الإذن بكتابته وروايته ، التي رواها عبد الله بن عمر بن العاص وأبو هريرة. وغيرهما.
وخلاصة موقفهم أن النهي كان أولاً ، وأن السبب فيه كان خشية اختلاط الحديث بالقرآن ، وبخاصة لأن الأمية كانت منتشرة ، ولكي تتوفر عناية المسلمين بالقرآن أولاً ، لأن الأصل ، ولما حصل التمييز الكامل بين أسلوب القرآن وأسلوب
(1/20)
________________________________________
الحديث النبوي ارتفع الحظر ، فأذن عليه السلام برواية أحاديثه وكتابتها على النحو الذي تقدم ذكره.
ونضيف إلى ما قاله علماؤنا - رضي الله عنهم - ، أن القرآن يجب حفظه وتلاوته على الصورة التي أنزله عليها لفظاً ومعنى وتراكيب ، فلا يجوز فيه إبدال حرف بحرف ، ولا كلمة بكلمة ، ولا الإخلال بنظم تراكيبه مهما كان الأمر ، وأنه متعبد يتلاوته كما نزل.
أما الحديث النبوي فيجوز عند الضرورة روايته بالمعنى دون اللفظ نطقاً لا كتابه ، كما يجوز للراوي إذا نسى لفظاً ، أو اشتبه عليه الأمر ، أن يذكر لفظاً آخر يدل على معنى اللفظ الذي نسيه مع التنيه على ذلك. لهذا كان من الضروري كتابة القرآن ، والاكتفاء في رواية الحديث بالحفظ.
ويؤيد هذا ما روى عن الضحاك من قوله :
"لا تتخذوا للحديث كراريس ككراريس المصاحف" فأنت ترى علماؤنا أهل الحق يقرون بصحة حديث النهي الذي رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، كما يقرون بأحاديث اإذن دون تفرقة ، وقد أزالوا التعارض الحاصل بن حديث النهي وأحاديث الإذن بما قد رأيت من توجيه :
النهي كان أولاً ، والإذن كان ثانياً ، ولهذا نظائر في السنة ، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن زيارة القبور أولا ، ثم عاد فأذن فيها ثانياً للعظة بما كما نهى عن ادخار لحوم الأضاحي أولاً ، ثم عاد فأذن بادخارها ثانياً. وكل هذا حدث لحكمة تزيل من النفوس الريبة. وتبعث فيها برد اليقين.
موقف منكري السنة :
أما منكرو السنة فأمرهم عجب. وهم أمام هذه المسألة فريقان.
فريق منهم يذكر حديث النهي وحده ، ولا يشير من قريب أو من بعيد إلى أحاديث الإذن ؟! وكأنها - عندهم - لم تكن. وهم بهذا يبرهنون على أنهم طلاب باطل لا طلاب حق ، وأنهم أبعد ما يكونون عن المنهج العلمي النزيه.
(1/21)
________________________________________
أما الفريق الثاني ، فيعترفون - وهم كارهون - بأحاديث الإذن. ثم يقفون منها موقفين :
الأول : هو الطعن فيها بعدم الصحة ، ودعاة الطعن منهم قلة.
الثاني : هو القول بأن أحاديث اذن كانت أولاً. ثم جاء حديث النهي ثانياً فنسخ الإذن في كتابه الأحاديث ، وصار النهي هو الموقف النهائي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا من أفحش الأخطاء بلا نزاع.
فقد تقدمت الإشارة إلى حديث أبي شاه الذي أمر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يكتبوا له خطبة رسول الله عام الفتح ، أي العام التاسع الهجري.
كما تقدم خبر الصحيفة التي كتب فيها الإمام علي - رضي الله عنه - بعض أحاديث الأحكام. وهذا بالقطع كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان حديث النهي عن كتابة الحديث هو الناسخ لأحاديث الإذن ما ساغ للإمام علي - رضي الله عنه - أن يحتفظ بتلك الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة" لأن احتفاظه بها يكون حينئذ معصية لنهي رسول الله. وهذا لا يصح صدوره من أي صحابي غير علي.
فكيف يصح عنه وهو من هو طاعة لله ولرسوله ؟!
وللقارئ أن يتبين حجم الضلال وشناعته الذي يغدو فيه منكرو السنة ويروحون ؟
فقد تمسكوا بحديث واحد ، وأعرضوا عن طائفة من الأحاديث والوقائع ، وضربوا بمواقف علماء الحق عرض الحائط ، لأن هدفهم هو تحقيق مطامع أعداء الإسلام في الإسلام ، فركزوا على محو السنة من حياة المسلمين ، والسنة نصف الإسلام فإذا تمكنوا محوها ، أو التشكيك فيها تمكنوا في الوقت نفسه - لا قدر الله - من تحنيط القرآن وعزله عن حياة المسلمين. والله لهم بالمرصاد وهو لا يصلح عمل المجرمين.
* * *
(1/22)
________________________________________
الشبهة الثانية ادِّعاء النهي القرآني عن الإيمان بالسنة والعمل بها ؟!
هذه الشبهة (الطريفة الظريفة) من اختراعات زنادقة العصر ، وقد رددها شرذمة منهم عندنا في مصر ، من خلال الصحف الجديدة ، التي تبحث لها عن قراء ، ودأبت على السير في الممنوع ، أو أقتحام الحواجز بلا وازع من دين أو خلق ، وتحت مقولة "قبول الآخر".
وإنما أطلقنا عليها عبارة "الشبهة الطريفة الظريفة" لأنها تثير الضحك من الأعماق على جهل وجهالة من يذيعونها ، ويروجون لها. وهم إذ يستخفون بعقول القراء ، وإدارات الصحف التي تنشر لهم ، يقيمون أقطع الأدلة على أنهم لا عقول لهم ، لأن هذه الغرائب لا تصدر على من له مثقال ذرة من عقل.
ولا يوجد على ظهر الأرض مؤمن ولا كافر يقبل هذا الهراء.
فالمؤمن والكافر لا يريان أن بين القرآن وبين سنة من أنزل الله عليه القرآن عداء أو مجافاة.
والعنوان الذي ضغناه لتصوير هذه الشبهة يقتضي أن يكون لهؤلاء الزنادقة ، الذين اخترعوا هذه الشبهة أدلة من آيات القرآن يكون معناها : لا تؤمنوا بسنة رسول الله ، ولا تتبعوها في حياتكم ، لأن الإيمان بها كفر ، والعمل بها ضلال ؟!
والواقع أن هؤلاء الزنادقة عمدوا إلى آيتين من كتاب الله العزيز ، واستدلوا بهما - جهلاً وحماقة - على هذه الشبهة النكراء.
إحدى الآيتين خي قوله تعالى : {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف : 3].
(1/23)
________________________________________
والثانية هي : {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 185]
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
فقد صوَّر لهم جهلهم ، أو أرادوا هم أن يصوروا للناس بعنادهم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ولي من دون الله ؟ وأن هديه وإرشاده وبيانه للقرآن الذي أنزله الله عليه دين آخر غير الدين الذي بعثه الله به ، فحذرهم الله من الإيمان بسنته والعمل بها ؟!
أرأيت جهلاً أجهل من هذا الجهل ؟ أم أرأيت عناداً وحماقة أشنع من هذا العناد ، وتلك الحماقة ؟ وكيف يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه المنزلة التي يناصب الله فيها العداء ؟ والله يقول له قبل هذه الآية مباشرة :
{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 2]
أما قوله تعالى : {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} فهي تثبيت للمؤمنين على ما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ونهى عن إتباع سبل الباطل وعبادة الأصنام والأوثان ، والاعتقاد في غير الله تعالى نافعاًَ ضاراً ، خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ، رافعاً خافضاً ، مبدئاً معيداَ... إلخ.
هلا سأل رءوس الجهل والضلال هؤلاء أنفسهم : كيف يبعث الله رسولاً ، وينزل عليه وحياً ، ثم يتخذ منه منافساً له ، ويحذر من أرسله إليهم من اتباعه ؟
إنهم - بهذا - يسيئون إلى الله جل شأنه ، ويصفونه بما لا يليق بجلاله وحكمته.
رحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم القائل :
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء
أما الآية الثانية ، فهي حديث صريح عن المكذبين بآيات الله ، الذين آثروا الكفر على الإيمان.
(1/24)
________________________________________
وقد جاءت الآية في هذا السياق القرآني الحكيم {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 182 - 185]
إن هذه الآيات جميعاً تنعى على الكافرين كفرهم ، وتشير إلى دلائل الإيمان اللائحة امامهم ، وتضفى هالة من الثناء على رسوله الكريم ، والحديث المذكور في هذه الآية {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} هو حديث الإيمان في دلائله ، ومظاهره العلوية والسفلية ، فكيف فهم هؤلاء الأغبياء أن الآية فيها تنظير بين القرآن وبين حديث من أنزل عليه القرآن ، وأن الاستفهام الإنكاري ورد في الآية للتحذير من اتباع الحديث النبوي ؟ أليس هذا أغرب ما يقع في وهم واهم ، أو تخليط محموم ؟ لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - عند الله كما يزعم هؤلاء الأغبياء لما أرسله رحمة للعالمين ، وهادياً ومبشراً ونذيراً.
إن سوء النية باد على افواهم ، وفيما تطسر أقلامهم وإلا فما الذي أعماهم عن قوله تعالى في السورة نفسها : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف : 157 - 158]
(1/25)
________________________________________
دقق النظر في نظم الآيتين ، تجد التصريح باتباع الرسول الكريم ورد مرتين : مضارعاً وأمراً : "يتبعون" - "اتبعوه".
ثم تأمل هذه الجمل :
(يأمرهم - ينهاهم - يحل - يحرم - يضع) تجد الفاعل فيها عائداً على الرسول ، فهو الآمر ، والناهي والمحلل ، والمحرم ، والواضع ، فما هي دلالة هذا الصنع مع أنه مبلغ عن الله في الأمر ، والنهي ، والتحليل ، والتحريم ، وفي وضع الإغلال.
إن دلالة هذا النظم البديع أن لرسول الله دوراً في تأدية الرسالة ، وبيان ما أنزل الله عليه في القرآن وما هداه إليه من ير القرآن ، مما تضمنته سنته المطهرة ، وأحاديثه المشرقة ، لأن الله آتاه القرآن ومثله معه".
لم يكن السلاح الذي قاوم محمد به الباطل هو القرآن وحده ، بل كان القرآن والسنة معاً.
القرآن ضياء كالشمس ، والسنة نور كالقمر ، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي مفاتيح ما في القرآن من كنوز ، والأداة التي وصلت الأمة بما في القرآن من قيم ومبادئ وأسرار.
والذي نقوله لمنكري السنة : قد بدت البغضاء من أفواهكم. وما تخفى صدوركم أكبر ، فموتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور.
* * *
(1/26)
________________________________________
الشبهة الثالثة منع الخلفاء رواية الحديث وترديده
الذين يسعون الآن لعزل سنة خاتم النبين عن حياة الأمة يتصيدون الشبهات بغير روية ولا حياء ، ولم يتركوا اقوالآً مما عثروا عليه مسْطوراً في الكتب مهما كان وزنها خفيفاً إلا أضفوا عليه ثالة من الترويج ، ليشككوا من استطاعوا من العوام في الحديث النبوي.
وقد رأينا عند الحديث عن الشبهة الأولى كيف حرصوا على التمسك بحديث النهي عن كتابة الحديث ، وفي الوقت تفسه أعرضوا عن أحاديث الإذن في الكتابة ، والوقائع العملية الثابتة ، أما في هذه الشبهة فيركزون اهتمامه كل التركيز على مواقف عابرة عرفت عن الشيخين أبي بكر وعمر ، بل ويهولون من شأن روايات لم تثبت ، لأنها تخدم غرضهم من قريب أو من بعيد.
والمعروف أن خطتى أبي بكر وعمر تهدفان إلى أمرين بالنسبة للقرآن والحديث النبوي.
أما بالنسبة للقرآن فكان الهدف توفير العناية به حفظاً وتأملاً زتلاوة ، لأنه أصل الأصول في الدين كله ، وبخاصة أنه لم يكن مجموعاً في أول الأمر في صحف خاصة به.
وأما بالنسبة إلى حديث رسول الله فكان الهدف التثبت فيما يروى منه ، والإقلال من روايته حتى يتمكن القرآن في القلوب ، ويقف المسلمون على معانيه ومقاصده ، وهو الأمر نفسه الذي من أجله نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة حديثه. ثم عاد فاذن بكتابته كما تقدم.
وهذه الحقائق اللائحة لم ترق أعداء السنة فاغمضوا أعينهم عنها ، وصوروها في غير صورتها ، وروجوا بين الناس أن السنة لو كانت من الدين ما
(1/27)
________________________________________
وقف منها الشيخان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - هذا الموقف ، ولاهتما بها اهتمامهم بالقرآن نفسه.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
ليس صحيحاً أن الشيخين كانا يكرهان الإكثار من كل الأحاديث المروية عن رسول الله ، وإنما كانا يكرهان الإكثار من رواية أحاديث الرخص لئلا يتكل الناس عليها ، كما كانا لا يحبان الإكثار من الأحاديث "المشكلة" أو "المتشابهة" لئلا يستعصى فهمها على عامة الناس.
أما أحاديث العزائم ، والأحاديث التي تتعلق بأفعال المكلفين في العبادات والمعاملات والأخلاق ، فلم يطلب الشيخان الإقلال من ذكرها والتحدث بها.
بل إن المحفوظ عنهما أنهما كانا كثيراً ما يسألان الصحابة عما عندهم من رسول الله إذا عرضت لهما خصومة للفصل فيها ، فإذا وجد عند الصحابة شيئاً عن رسول الله من قضاء أو قول عملاً به ، واعتبراه الفصل الواجب اتباعه في إصدار الحكم الشرعي.
روى قبيصة بن ذؤيب أن جدة جاءت إلى أبي بكر تطلب إرثاً. فقال أبو بكر : ما أجد لك في كتاب الله شيئاً ، ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر لك - اي للجدة مطلقاً - شيئاً ثم سأل الناس ، فقال المغيرة بن شعبة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيها السدس. قال أبو بكر : هل معك أحد ؟ فشهد محمد بن مسلمة الأنصاري بمثل ما قال شعبة. فأنفذه أبو بكر - رضي الله عنه -. [نيل الأوطار : 6/175 للشوكاني].
وما روى أن أبا موسى الشعري استأذن على عمر ثلاثاً فلم يأذن له. فرجع ، فاستدعاه عمر ولامه ، فاعتذر أبو موسى بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا اساذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع" فقال عمر :
"لتأتيني على هذا (الحديث) ببينة ، أو لأوجعن ظهرك. وأجعلك عظة.
(1/28)
________________________________________
فشد أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك" فعفا عنه عمر [فتح الباري ج 11 ص 21/23 لابن حجر العسقلانى].
ولهاتين الواقعتين نظائر عن الشيخين وغيرهما.
فإذا كان هذا موقفهما من السنة القولية والعملية ، فكيف يصح عند العقلاء المنصفين أن ابا بكر وعمر كانا ينهيان عن رواية الحديث النبوي باعتبار أن الحديث ليس من الدين ، ولا هو مصدر من مصادر التشريع ؟! وكيف يفهم عاقل ذلك ، وابو بكر حين بدا له أن الجدة لا ترث ، لخلو القرآن من ذكرها في بيان الورثة ولم يكن يعلم بسنة رسول الله فيها ، ولكنه لم يتعجل في الحكم وسأل الصحابة إن كان عندهم قول من رسول الله في هذه المسألة ؟ فلما شهد بذلك شاهدان ، وأن الرسول أعطى الجدة السدس - قياساً على الأم - عدل أبو بكر عن رأية الذي أبداه أولاً. ثم ورثها السدس بسنة رسول الله - رضي الله عنه -. وبهذا يُعلم سقوط هذه الشبهة التي يلغط منها منكرو السنة الأغبياء.
* * *
(1/29)
________________________________________
الشبهة الرابعة تشدد الخلفاء في الرواية وحبس المكثرين منها
ما يزال منكرو السنة يتصيدون الشبهات من عصر صدر الإسلام الأول ، باعتباره العصر المؤسس لقيام الحضارة الإسلامية الشامخة.
وعلى عادتهم فإن منكري السنة يهولون من شأن هذه الروايات ، ويعكسون المقصود منها لتكون النتائج متوافقة مع أهوائهم.
ففي مجال التشدد يتكئون كثيراً على أن الخلفاء. وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر ما كانوا يقبلون الحديث إذا سمعوه من راو واحد ، حتى يؤيده راو ثان سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلما سمع الراوي الأول.
هذه الظاهرة كانت كثيرة الوقوع في عصر الخلفاء ، ونحن نقربها ولا نرفضها ، ولكنا لا نفهم منها فهما معوجاً كما يفهم أو يدعي منكرو السنة.
وقد ذكرنا من قبل مثالين لهذا التشدد ، واحداً بكرياً والثاني عُمَرِياً ، ولدينا مزيد عنهما وعن غيرهمت. وإننا لسُعَداء بهذه الرويات كما سيأتي.
منكرو السنة يرون في هذه التشدد منقصة للسنة ، ويقولون لو كانت السنة من الدين لما وقف في طريقها الخلفاء الراشدون ؟! ثم يضيفون واقعة تساند هذا التشدد ، وهي ما روى عن عمر بن الخطاب أن استشار الصحابة حين أراد أن يجمع السنة في صحف خاصة بها ، فوافقة الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين ، ولكن عمر ظل يستخير الله شهراً كاملاً في كتابة السنة فلم يحبب الله إليه كتابتها فانصرف عنها.
منكرو السنة يوظفون هذه الواقعة - إذا صحت - للحكم على السنة بأنها ليست من الدين.
(1/30)
________________________________________
ثم يذكرون أن علياً - رضي الله عنه - لم يكن يقبل الحديث من راو واحد ، حتى يستحلفه بالله أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كما يدعون أن عمر بن الخطاب كان يحبس المكثرين من رواية الحديث ، فحبس ابن مسعود ، وأبا الدرداء ، وأبا ذر - رضي الله عنهم - أجمعين ، وربما أضافوا إلى هؤلاء الثلاثة رابعاً.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
نبدأ بما بدأوا به ، وهو رد الحديث من الراوي حتى يشهد معه راو ثان.
إن هذه الخطة لم تكن هي الوحيدة في هذا المجال. وهي بالنسبة لبي بكر لم تتكرر [ينظر الإحكام لابن حزم (1/141)] ، حيث لم يطلب في غير مسألة ميراث الجدة راوياً ثانياً قط. وأبو بكر - رضي الله عنه - ففيه قاض ، والشهادة في الحقوق المالية أو المدنية بشاهدين عدلين لا بشاهد واحد ، فربما كان الحامل لأبي بكر في مسألة ميراث الجدة على طلب راو ثان يؤيد ما شهد به الراوي الأول ، هم إكمال الشهادة ليكون الحكم صحيحاً غير مشوب بخطأ أو قصور في إجراءات التقاضي.
ويقوى هذا الفهم - عندنا - قبول أبي بكر الحديث من راو واحد في غير مسألة "الجدة" هذه.
أما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، مع تكرار التوثيق منه بالراوي الثاني مرات. فإنه جمع بين هذه الخطة وبين قبول الحديث من راو واحد ، والعمل يه. وسيأتي هذا في مبحث "أخبار الآحاد" فلا داعي لذكره هنا خشية الإطالة والتكرار وكذلك الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فمع ما عرف عنه من استحلاف الراوي الواحد إذا لم يكن معه ثان ، فإنه عرف عنه - كذلك - قبول الحديث من راو واحد دون أن يستحلفه.
(1/31)
________________________________________
فقد نقل الرازي أنه قبل رواية المقداد بنن الأسود في حكم "المذى" دون تحليف.
وأياً كان الأمر فإن تشدد الخلفاء في قبول الحديث وروايته كان نبراساً لمن بعدهم ، حين نشطت الأمة في عصر عمر بن عبد العزيز في جمع السنة وتدوينها. وهذا أمر كان ينبغي أن يثير الطمأنينة ، ويبهج النفوس بالسعادة لحرص الأمة على حفظ سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأنها لم تجمع جمعاً عشوائياً ، بل أحيطت بكل عناية ودراية بداءاً من عصر الخلفاء الراشدين.
تذدد الخلفاء فتشدد علماء الحديث من بعدهم ، وكان نتيجة هذا التشدد هو تنفية السنة من الدخيل والعليل وهذه محمدة يسجلها وعي التاريخ.
كان الأولى بمكنري السنة أن يحترموا أنفسهم فلا يرون الأبيض حالك الظلام.
فهل مان يسعدهم لو تساهل الخلفاء في رواية الحديث ؟ إن الله لطيف لما يشاء. ولوكان الخلفاء قد تساهلوا في رواية السنة ، لكان هذا التساهل مدعاة لتساهل من جاء بعدهم. ولنزعت الثقة عن سنة من أرسله الله رحمة للعالمين.
استخارة عمر :
أما ما ذكروه من مسألة استخارة عمر - رضي الله عنه - شهراً في كتابة السنة ، فلن يأذن االه له ، فهذه المسألة الخطب فيها يسير ، إن كان فيها خطب. بل هي - في الواقع - حجة على منكري السنة ، وليست حجة لهم ، لو كانوا يعقلون فأولاً : فقد ظهر ما كان مكنوناً في على الله وقت استخارة عمر - رضي الله عنه - في كتابة السنة ، ثم انصرافه عنها لما لم يشرح الله صدره لكتابتها.
ظهر ما كان مكنوناً في علم الله وقتئذ ، فقد قدَّر الله لحكمة هو يعلمها أن ميقات جمع السنة وكتابتها هو عصر عمر الثاني لا عمر الأول :
عمر بن عبد العزيز لا عمر بن الخطاب.
(1/32)
________________________________________
ولو كان الله كان قد قدَّر جمعها وكتابتها في عصر عمر الأول (النصف الأول من القرن الهجري الأول) لشرح صدر ابن الخطاب لجمعها وكتابتها وتدوينها.
ولإن كان عمر قد انصرف عن كتابتها فهو ما انصرف عن تعظيمها والعمل بها مع كتاب الله في الفتيا والقضاء.
فقد كان الشيخان يحتكمان إلى كتاب الله في كل شئون الدولة والأفراد فإن وجد في كتاب الله قضاء أخذا به ، ولم يعدلا عنه إلى سواه.
وإن لم يجدا في كتاب الله بغيتهما طلباها في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ظفرا بها أسرعل إلى إنقاذها ولم يعدلا عنها إلى سواها. هذا هو المحفوظ بالتواتر من سيرة الشيخين - رضي الله عنهما - ومن ادعى غير ذلك فهو جهول. إذن فسواء عندنا كتب عمر السنة أو لم يكتبها فإن السنة عند عمر روح القرآن ومفتاحه الذي لا غنى عنه بمحال.
وثانياً : إن هذه الواقعة لو تدبروها لعلموا أنها سلاح ضدهم ، قد أصابهم في مقتل لو كانوا يشعرون.
الواقعة الثانية : إن عمر استشار الصحابة في متابة السنة فوافقوه.
أفلا تدل هذه العبارة على إجماع الصحابة الرائع على جواز كتابة السنة ، وأن عمر كان اول من فكر في موضوع هذا الإجماع لولا ما كان من أمر الاستخارة.
ونحن أمام حقيقة يجب الإعلان عنها والانتصار لها :
هذه الحقيقية هي أن الصحابة - جميعاً - مجمعون على كتابة السنة ماعدا عمر بعد الاستخارة.
وانصراف عمر عن كتابة السنة لا يؤثر في قوة إجماع من سواه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إنه موقف فردي بحت أمام إجماع جماعي رائع ، وإجماع الصحابة حجة لا تنكر.
(1/33)
________________________________________
وعمر ، وإن كان خليفة ورئيس الدولة ، فإن رأيه يُعد مجرد رأي فردي خاص. ولن يرد رأي الفرد - أيا كان - رأي الجماعة وعلماء الأصول مجمعون على أن قول الصحابي لا يُلزم غيره بالإنصياع له ، ولن يتعدى اثره صاحبه القائل به إلا إذا ووفق عليه من غيره.
ونحن لا نعلم أن الصحابة غيَّروا موقفهم من جواز كتابة السنة بعد انصراف عمر - رضي الله عنه - عن كتابتها ، فبقى الإجماع على جواز كتابتها ، وانفراد عمر بارأي الي ارتآه. فماذا يقول منكرو السنة إذن ؟!
ونسألهم : لماذا قبلتهم هذه الرواية عن عمر - رضي الله عنه - ، وفي الوقت نفسه تدعون أن السنة النبوية مزورة وأنتم تعلمون أن نسبة هذه الواقعة إلى عمر ، لم تحظ بما حظيت به السنة من عناية الرواة ، والتدقيق في صحة روايتها ؟ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟!
* * *
(1/34)
________________________________________
الشبهة الخامسة حرق كتب الحديث ؟!
رددت الصجف والمجلات في الآونة الأخيرة هذه الشبهة كثيراً ، في مقالات لزنادقة العصر ، الكارهين لما أنزل الله وما قال رسوله.
كما رددها بعضهم في كتب وضعوها خصيصاً لنسف السنة النبوية من الوجود. ثم أحاطوها بهالة جوفاء من التهويل ، حتى ليخيل لقارئ مقالاتهم وكتبهم أن دخان الحرائق التي اشتعلت في كتب الحديث كاد يحجب ضوء الشمس ، وأن رائحته ما تزال تزكم الأنوف.
ومبالغة في التهويل ادعوا إشعال هذه الحرائق في ثلاثة أعصر شديدة الحساسية في الإسلام.
* عصر النبي نفسه - صلى الله عليه وسلم - ؟
* عصر الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - ؟
* عصر الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ؟
إنهم يريدون أن يوهموا العامة أن التمسك بالسنة والإيمان والعمل بأحاديث ذي الخلق العظيم ، إنما هو بدعة وضلالة ليست من الدين في شيء ، وإذا كان حرق كتب الحديث قد حدث في عصر النبوة ، وعصرى صاحبيه الجليلين أبي بكر وعمر ، فمذا تنتظر الأمة - الآن - من بقاء البخاري ومسلم وسائر كتب الحديث إلا خيبة الرجاء ؟ إنهم يهيبون بالأمة أن تشعل الحرائق من جديد في ما يعرف بـ "كتب الحديث" لتنجو من الضلال والضياع الذي هي فيه.
بل يرى بعضهم أن إيمان الأمة بالحديث النبوي والعمل به ، واعتباره مصدراً للتشريع هو التحول الخطير الذي نُكبت بسببه الأمة ، وأن القرآن كان قد تنبأ به وأعلنه في قوله تعالى :
(1/35)
________________________________________
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران : 144]
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
هذه الشبهة مبالغ فيها من قبل الذين يروجون لها الآن ، بل هي أقوال مذكورة على عواهنها لا تثبت أمام النقد.
وأشهرها ، بل وأقواها الواقعة المنسوبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.
فقد ذكرها الإمام الذهبي في كتابه [تذكرة الحفاظ : ج 1 ص 5] مع سند طويل لها نقله الحاكم ، والقصة بيمامها مع حذف السند ، جاء فيها :
"قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلب كثيراً ، فمعنى فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها ، فدعا بنار فأحرقها ؟ فقلت : لم أحرقها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عنها ، رجل أئتمنته ووثقت [فيه] ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك".
هذه هي القصة ، والإمام الذهبر من عادته في هذا الكتاب أن يسرد الأقوال دون التعليق عليها ، ولكنه علق على هذه الرواية بقوله : "فهذا لا يصح ، والله أعلم".
والذهبي إمام لا يشق له غبار في علوم الحديث ونقده وعبارته هذه ذات دلالة قاطعة على شكه في صحة هذه الرواية.
أما نحن فنرى صحتها وعدم صحتها سواء في أنها تخلو من الغرض الذي أراده منها زنادقة العصر ، وأعداء سنة صاحب المقام المحمود.
هم يريدون منها أن ابا بكر - رضي الله عنه - أحرق ما عنده من أحاديث باعتبارها زيادة في الدين لم يأذن الله بها ، أو - على الأقل - لعدم الثقة في رواة الأحاديث جميعاً. وما دام أبو بكر - مع صحبته وقرب عهده بالرسول قد
(1/36)
________________________________________
تشكك إلى هذا الحد في بطلان الرواية عنه ، فما بال الأمة في عصر "العولمة" تحتفظ بهذه الأحاديث ؟ أليس لهم في صنع أبي بكر أسوة حسنة ؟ أم هي الآن أدرى بالسنة من أبي بكر رفيق النبي في الغار ، وصاحبه الذي ما كان يمر يوم دون أن يراه ويسمعه ؟!
إن هذه القصة على فرض صحتها ليس فيها دليل على ما أرادوه منها :
فأبو بكر - رضي الله عنه - تردد في صدق الذي أملى عليه مجموعة الأحاديث ، فسارع - احتياطاً - إلى إعدامها بالحرق ، حتى لا ينشر بين الناس أحاديث لم يتثبت كل التثبت من صدق صدورها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إنه لم يحرقها - إن كان حقاً قد حرقها - لأنها ليست من الدين كما يدعى منكرو السنة.
ولم يحرقها لعدم الثقة في رواة الأحاديث كلهم كما يروج الآن منكرو السنة الأغبياء.
وإنما حرقها لتردده في صدق راو واحد ، هو الذي أملى عليه تلك الأحاديث.
وأبو بكر - مع هذا - لم يتهم من روي له تلك الأحاديث بالكذب عن رسول الله متعمداً ، لأنه صحابي ، والصحابة كلهم عدول بشهادة القرآن نفسه ، وإنما هناك أسباب أخرى ، مثل النسيان ، وعدم الضبط ، والسهر والغفلة وهي كلها أسباب تحمل أصحاب الورع والتقوى من أمثال أبي بكر على دقة التحري ، وترك ما يريب.
إن الحق قريب من طلابه المخلصين له ، ولكن العناد يورد صاحبه المهالك. وأولى الناس وأقربهم من الهلاك المعاندون.
* * *
(1/37)
________________________________________
الشبهة السادسة تأَخُّر تدوين السنة
هذه الشبهة يُعوَّل عليها منكرو السنة كثيراً في تحقيق أغراضهم ضد السنة ، لهذا تراهم يبالغون في توظيفها للتهوين من منزلة السنة ، وكونها - عندهم - دخيلة على الإسلام ، وزيادة في الدين ما أذن الله بها ؟!
فهم يقولون : لو كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون للسنة أهمية في الدين ، لعجلوا بجمعها وكتابتها كما صنعوا بالقرآن ، ولكن الصحابة أهملوها طيلة حياتهم وماتوا ولم تدون السنة في عهدهم ، وإنما تولى تدوينها التابعون بعد مائتى سنة من بدء التقويم الهجري بل إن تدوينها تم في القرن الثالث الهجري ، عصر البخاري ومسلم وابن حنبل وغيرهم هكذا يقولون.
ويرتبون على هذا السؤال الآتي :
فهل لو كانت السنة ضرورة من ضروريات الدين كان الصحابة يهملونها هذات الإهمال ، وهل كان النبي يهمل تدوينها وهو يعلم أنها مصدر ثان بعد القرآن من مصادر التشريع الإسلامي ؟
هذا التساؤل ردده زنادقة العصر في الصحف والمجلات في النصف الأول من هذا العام : 1999م رددوه بصيغ مختلفة ، لكن المعنى والهدف واحد في جميعها ، هو حمل المسلمين على الشك في السنة ، والتهوين من شأنها قولاً وعملاً ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
هذه الشبهة مهما غالى المعاندون في دلالتها على مراهم منها ، فإنها اشبه ما تكون بسحابة صيف في سماء صافية ، سرعان ما تنقشع.
ولنا في تفنيد ونقد مرادهم منها عدة مسالك :
(1/38)
________________________________________
الأول : ليس صحيحاً أن عصر صدر الإسلام خلا تماماً من تدوين السنة ، إذ من المعلوم أن أجزاء من السنة تم تدوينها في حياة الرسول نفسه ، وبتوجيه مباشر منه.
من ذلك كتبه ورسائله لرؤساء الشعوب وزعماء العشائر والاتفاقات والمعاهدات والتصالحات ، التي جرت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ، وهي مجموعة الآن في وثيقة قيمة ، وبعضها مختوم بخاتمة - صلى الله عليه وسلم - [ينظر : الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. لمحمد حميد الله - دار النفائس].
ولا ريب أن كل هذه الوثائق جانب من جوانب السنة فيه من هدى النبوة ما فيه.
كما تقدمت الإشارة إلى كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى عماله ، وكان يذكر لهم فيها ما يعينهم على الفصل في الخصومات التي ترفع إليهم في ولاياتهم.
مثل أحكام الصدقات (الزكوات) والديات والميراث وبعض السنن.
وكما تقدمت الإشارة إلى صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وصحيفة الإمام علي ، ومكا كتب عام فتح مكة بأمر من النبي لأبي شاه اليمني ، فالقول بأن عصر النبوة خلا تماماً من تدوين السنة قول فيه بعد عن الصواب.
إن الحق الذي لا محيد عنه أن عصر النبوة يوصف بقلة التدوين للحديث النبوي ، ولا يوصف بالخلو التام من تدوين الحديث.
وممن عُرفُوا بكتابة الحديث في صدر الإسلام الأول عبد الله بن عباس ، وسعيد بن جبير ، وابن هشام وغيرهم [ينظر : دفاع عن السنة ص 22]. د/ محمد محمد أبو شهبة - رحمه الله -.
الثاني : أسباب قلة التدوين في العصر النبوي :
قلة التدوين للحديث النبوي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما تلاه حتى نهاية القرن الأول الهجري ، لها أسباب وجيهة تُعزى إليها.
ذلك أن حال القرن الأول كانوا أما من الصحابة ، وإما من كبار التابعين (الطبقة الأولى) وكان هذا القرن يتميز بميزتين :
(1/39)
________________________________________
الأولى : أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القولية كانت محفوظة في صدور الرجال ، حاضرة ماثلة في ذاكرة الأمة. فلم تدع ضرورة إلى كتابتها وتدوينها.
الثانية : أن الصحابة الذين عاصرهم رجال الطبقة الأولى من كبار التابعين كانوا محيطين إحاظة كاملة بالسنة العملية ، يهتدون بها وبالسنة القولية دون الحاجة إلى الرجوع إلى كتاب مكتوب ، وربما كان الصحابة وكبار التابعين يتذاكرون هذه السنن فيما بينهم أو يسأل من جهل شيئاً من السنن من هو عالم بهان وكل هذا قام مقام التدوين فلم يُحْتَج إليه.
ويضاف إلى هاتين الميزتين ميزة ثالثة ، لا تقل عنهما قيمة وجدلاً : د
وهمى أن السنة خلال القرن الأول كانت صافية نقية محفوظة في الصدور على الصور التي سُمِعَتْ بها من فم النبي الطاهر.
صافية نقية من كل دخيل وعليل ومكذوب ، لأن هذه الآفات والقوادح ألَّمت بالسنة في وقت متأخر عن القرن الأول - كما سيأتي - وفي ظروف وملابسات طارئة ما كان لها وجود فب القرن الأول الهجري ، قرن الصفاء والنقاء.
هذه هي الأسباب في قلة تدوين السنة في القرن الهجري الأول تدويناً واسعاً ، وليست أسبابها ما يروجه منكرو السنة زوراً وبهتاناً ، أن السنة ليست من الدين ، فلم يهتم بتدوينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا الخلفاء ، ولا جمهور الصحابة ؟! إن قولهم هذا تحريف شنيع لدلالات هذه الظاهرة وكما قيل : إن الإصرار على الخطأ مع يسر الوصول إلى الصواب أمر يدعو إلى الإتهام بسوء النية ، أكثر من الدعوة إلى مجرد الخطأ في الاستدلال.
الثالث : تدوين السنة في أول القرن الثاني :
من التهويل الممقوت أن منكري السنة يدعون أن السنة دونت في القرن الثالث الهجري ، وقصدهم التأكيد على طول المدة التي أهمل فيها تدوين السنة توصلاً للتشكيك في صحة الرواية ، لبُعد ما بين التدوين وبين حياة الرسول التي قيلت أو حدثت فيها السنة القولية والعملية.
(1/40)
________________________________________
وهذا خطأ فاحش. لأن تدوين السنة بدأ مع بداية القرن الثاني الهجري [عام 101هـ] في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -.
فقد رأى هذا الإمام المسارعة إلى جمع السنة وكتابتها وتدوينها ، خشية أن يضيع منها شيء ، أو يلتبس الحق منها بالباطل من غيرها.
فكتب إلى بعض الراسخين من العلماء ، في نهاية القرن الأول الهجري ، وبداية القرن الثاني ، حسب مواقعهم من الأمصار الإسلامية.
روى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابي بكر بن محمد بن حزم : أن أنظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو سننه ، أو حديث عمر ، أو نحو هذا فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم ، وذهاب العلماء.
وروى الإمام البخاري نحو ما رواه الإمام مالك - رضي الله عنهما - ، بعد توجيهات الخليفة الراشد الخامس ، عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث النبوي ، بدأت حركة التدوين في الاتساع وزال الأثر الذي كان عالقاًَ في النفوس من النهي عن كتابة الحديث ، والإقلال من الرواية فيه ، والتحدث به. واستقر الأمر على جواز الكتابة ، بل والحث عليها ، بل وجوب كتابته إذا خيف عليه النسيان والضياع [فتح الباري : جـ 1 ص 165].
وشمر العلماء عن ساعد الجد ، ونشطوا في جمع الحديث والسنن مع التثبت والنقد والتمحيص ، وبدأت ثمرة التشدد في الرواية ، التي كانت في عصر الخلفاء ، تظهر بكل وضوح بيد أن حركة التدوين في هذه المرحلة كانت تجمع إلى الحديث النبوي أقوال الصحابة وفتاويهم ، وبعض أقوال كبار التابعين.
وفي القرن الثالث اضيفت دراسات وجهود جديدة في التدوين ، فدونت الأحاديث والسنن النبوية في أسفار خاصة بها ، مع الترتيب الدقيق ، واتسعت حركة النقد لأسانيد الحديث ومتونه ، والجرح والتعديل والتهذيب والاستدراك والاستخراج.
(1/41)
________________________________________
كل هذا كان يهدف إلى تنقية السنة من الدخيل والعليل والمكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولم يتوقف جهد العلماء في خدمة السنة على القرن الثالث ، بل أخذ جهدهم ينمو وينمو حتى القرن السابع الهجري ، وفيه بلغت الجهود الحديثية درجة الكمال ، وأسفرت هذه الجهود المباركة عن الآتي :
* استجابة لدعوة الخليفة عمر بن عبد العزيز هب العلماء في كل الأمصار الإسلامية على جمع السنة وتدوينها :
الإمام مالك في المدينة ، وابن جريح بمكة ، والأوزاعى بالشام ، ومعمر بن راشد باليمن ، وابن عروبة ، وحماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثوري في الكوفة ، وعبد الله بن المبارك بخراسان ، وهشيم بن بشير بواسط ، وجرير بن عبد الحميد بالرى ، وغيرهم ، وغيرهم.
* تلت هذه المرحلة مرحلة أخرى أحكم وأدق ، خلال القرن الثالث الهجري ، حيث قُصِرت كتب الحديث على رواية الحديث النبوي وحده ، وبرز خلال هذه المرحلة منهجان في التدوين :
أولهما : منهج المسانيد ، وهو جمع أحاديث كا راوٍ فب مكان واحد مهما كان موضوع الحديث ومعناه. والمسند هو معجم صغير أو كبير يسرد مرويات الصحابى الواحد من أولها إلى آخرها.
ومن أشهرها مسند الإمام أحمد ، ومسند عثمان بن شيبة ومسند إسحاق ابن راهويه.
وهؤلاء جمعوا في مسانيدهم الصحيح والحسن والضعيف.
أما المنهح الثاني فعْنى بتدوين الحديث على حسب موضوع الحديث كأحاديث الصلاة ، وأحاديث الزكاة ، وأحاديث الجهاد ، وهكذا.
ومن أشهرها صحيحا البخاري ومسلم وغيرهما. وهما قصرا عملهما على جمع الحديث الصحيح دون غيره.
فطريقة المسانيد تقوم على وحدة الراوي ، والأخرى تقوم على وحدة
(1/42)
________________________________________
الموضوع ، فالقول بأن السنة لم تدون إلا في القرن الثالث خطأ متعمد ، وشأن السنة شأن غيرها من العلوم الإسلامية والعربية من حيث النشأة ، والتدوين ، وهي بالقياس إلى غيرها نرى تدوينها بدأ مبكراً ، وإن كان على نطاق ضيق في أول الأمر ، ثم أتسع بمرور الأيام.
والقرآن نفسه ، وهو اصل أصول الإسلام ، لم يدون في صحف في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما تم جمعه وتدوينه في مصاحف في خلافة أبي بكر ، باشارة من عمر - رضي الله عنه - ، وكان أبو بكر أولاً يمانع في جمعه ويقول لعمر : كيف نفعل شيئاً لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فما زال بأبي بكر حتى أقنعه بجمع القرآن خشية ضياع شيء منه بسبب استشهاد الحفاظ في الحروب.
ولما أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت ، وكان من كتبة الوحي في حياة النبي ، قال زيد لأبي بكر ما قاله أبو بكر لعمر من قبل :
"كيف تفعلون شيئاً لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ومازال أبو بكر بزيد حتى أقنعه بجمع القرآن. ثن قال زيد : "والله لو كلفني - يعني أبا بكر - نقل جبل أحد ، أو نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن. [ينظر صحيح البخاري : كتاب فضائل القرآن].
فإذا كان هذا هو موقفهم من القرآن ، وهو أصل الملة ، فكيف يتخذ منكرو السنة من بطء تدوين السنة قدحاً في منزلة السنة نفسها ؟ فهلا اتخذوا من عدم تدوين القرآن في صحف في حياة النبي ، ومعارضة أبي بكر وزيد لجمعه وتدوينه وسيلة للحط من منزلة القرآن ، وأنه ليس من الدين ؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ، لقد كانت الدولة الإسلامية في صدر الإسلام الأول في مرحلة النشأة والنمو ، فكان لابد من أن تمر بتجارب تعمل فيها عقلها وفكرها ، فمن مؤيد ، ومن معارض ، ولكن بعد تمحيص القول وظهور الصواب من الخطأ ، فإن قادة الدولة ورجالها كانوا يُعرضون عن الخطأ ويولون وجوهم نحو الصواب بلا ارتذاد أو انتكاس.
(1/43)
________________________________________
وحركة التدوين - عموماً - بدأت لمحات خاطفة في كل المعارف والعلوم ، ثم استوت على سوقها بمرور الأيام والليالي ، حتى صارت صروحاً شامخة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء.
هذه خلاصة ردنا على هذه الشبهة ، والقارئ يدرك أننا لم نحد عن الصواب في الرد عليهم ، فوجه الحق في هذه المسألة ظاهر ظهور الشمس ، ثابت ثبات الجبال الرواسي ، أما منكرو السنة فإن مطيتهم العناد والمكابرة ، وكل أمرئ بما كسب رهين.
وهلاَّ سألوا أنفسهم : لماذا تأخر تدوين كتب التفسير ، والفقه وأصوله ، وعلوم اللغة ، والسيرة والتاريخ... إلخ ؟! إنهم - بذلك - يتنكبون سواء الصراط ويتجاهلون أو يجهلون سنن الحياة ، وتطور المعارف والعلوم ، الذي لم يخل منه عصر من العصور ، حتى يوم الناس هذا.
* * *
(1/44)
________________________________________
الشبهة السابعة السنة دُوَّنَتْ في قصور الأمراء ؟!
أعداء السنة ظهروا من قديم ، وشغبوا حولها كثيراً ورددواً من الشبهات ما املاه عليهم الشيطان ، ليكونوا من أصحاب السعير ، وعلى كثرة ما افتروا على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يتوسعوا في الشقاق مثل ما توسع فيه منكرو السنة المعاصرون.
فقد ملأوا صفحات الجديدة والقديمة صخباً وعويلاً وكررواً مراراً أن الحديث النبوي دَّوَّن في قصور الخلفاء والأمراء ، وخضع مدونوها إلى أهواء أولئك الخلفاء والأمراء ، مُلاَّك الدنيا ، الذين كانوا يملكون الرفع والخفض والجاه والسلطان ، والدرهم والدينار ؟
وأسهمت مجلة "روز اليوسف" خلال شهري مارس وأبريل من هذا العام (1999م) بنصيب وافر من نشر هذه الأكاذيب في أربع مقالات إضافية ، مع شبهات أخرى مما نتعرض له في هذه المواجهة.
والهدف من هذه الشبهة (السادسة) واضح ، هو تصوير السنة في صورة أكاذيب وافتراءات على صاحب الرسالة ، وأن الأحاديث النبوية المتداولة الآن بين يدى الأمة في كتب الجوامع والمسانيد والصحاح وغيرها ، لم يقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنها من اختراع أناس لا خلاق لهم وضعوها من أجل خدمة السلاطين والحكام ، واشتروا بها ثمناً قليلاً ؟!.
هذا هو هدفهم. وكفى بذلك للسنة ضياعاً ؟
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
لن نطيل الوقوف أمام هذه الشبهة ، لأنها من أكذب الأكاذيب ، ونكتفي في الرد عليها بما يأتي :
(1/45)
________________________________________
أولاً : أن من له إلمام بالحديث النبوي وأغراضه التي قيل من أجلها ، لن يعثر على حديث فيه محاباة للأمراء والحكام والسلاطين ، بل سيجد فيها أحاديث تشدد النكير على تصرفات ولاة الأمور مهما علا سلطانهم في الأرض.
فهل لو كانت السنة دونت في قصور السلاطين تبعاً لأهوائهم كنا نجد فيها هذا الحديث :
"أفضل الجهاد كلمة ، حق عند سلطان جائر" رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. ؟ ورواه غير أبي داود.
فمن هو السلطان الذي يسمح بتدوين هذا الحديث وأمثاله في قصره ، ويمنح واضعه العطايا ؟ أليس في هذا الحديث تحريض وترغيب في التصدى للسلاطين والإنكار عليهم ؟ وأنت ترى أن هذا الحديث يجعل مقاومة الظلمة من السلاطين أعلى مرتبة من مراتب الجهاد.
وهل لو كانت السنة قد دونت في قصور السلاطين تبعاً لأهوائهم كنا نجد فيها هذا الحديث :
"من بايع ايمراً من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه" رواه الإمام أحمد.
إن هذا الحديث يسد منافذ كثيرة يمكن من خلالها أن يستبد الحكام بأمور المسلمين ، فمن هو السلطان الذي يسمح بوضع هذا الحديث في قصره ؟ ويمنح العطايا الجزيلة لمن يلف حبل المشنقة حول عنقه ؟
إن هذين الحديثين ، وغيرهما كثير ، كافيان في تبرئة السنة من هذه الشبهة القاصمة.
ثانياً : إن علماء الحديث أنفسهم كانوا لا يقبلون حديثاً في سنده رجل عُرف بالتردد على السلاطين أو قبول هدايا منهم ، أو كانت له خطوة عندهم وهذا منهم احتياط عظيم لحماية السنة من الدخيل والعليل والمكذوب.
ثم غنه تطبيق عملي لحديث يروى في هذا المعنى : "شرار العلماء الذين يغشون الأمراء ، وخيار الأمراء الذين يغشون العلماء".
(1/46)
________________________________________
فكيف يصح مع هذا اتهام علماء الحديث بأنهم كتبوها في قصور الأمراء والسلاطين ، استجابة لأهوائهم وشهواتهم.
إن علماء الأمة - بوجه عام - كانت علاقاتهم بالحكام والسلاطين قلقة ، وكان العلماء يترفعون عن التردد على قصور الحكم وبلاط الرياسات ، سواء كانوا فقهاء أو محدثين ، وما كانوا يتهاونون في الثورة والاحتجاج على الباطل وإن اعتصم الباطل بالعروش والصولجانات الرهيبة ونكتفي بذكر واقعة واحدة هنا توخياً للإيجاز :
دخل الإمام الزهري المحدث على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد :
ما حديث يحدثنا به أعل الشام ؟ قال الزهري : وما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال : يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعية - أي جعله حاكماً - كتب له الحسنات ، ولم يكتب عليه السيئات.
قال الزهري : باطل يا أمير المؤمنين ، أنبى خليفة أكرم على الله ، أم خليفة غير نبي ؟
قال الوليد : بل نبي خليفة أكرم على الله من خليفة غير نبي.
قال الزهري : فإن الله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام :
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص : 26]
فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة ، فما ظنك بخليفة غير نبي.
قال الوليد : إن الناس ليغووننا عن ديننا. [العقد الفريد : جـ 1 ص 60]
أنظر شجاعة الزهري وجرأته على دحر الباطل ونصرة الحق. وهذه الواقعة جرت أحداثها في قصر الوليد بن عبد الملك حاكم زمانه ، والزهري من أعلام علماء الحديث وموقفه هذا هو المنهج الذي سار عليه رجال الحديث الأتقياء البررة ، فأين الزر الذي يروج له منكرو السنة في زماننا هذا من خذا الحق ، الذي زين الله به خدام سنة رسوله الكريم.
(1/47)
________________________________________
ومن شاء المزيد من هذه "البطولات" فليقرأ سيرة الأئمة الأربعة ، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، ليرى مواقفهم الناصعة أمام حكام عصورهم ، وتشددهم في إقرار الحق ودفع الباطل ، والاعتزاز بكرامة الإيمان والعلم.
* فأبو حنيفة تؤدي به الجفوة بينه وبين الحكام إلى الزج في غياهب السجون المظلمة الظالمة ، ويلقي منيته وهو مسجون كما في بعض الروايات.
* ومالك لما خالف هوى حكام عصره آذوه وخلعوا ذراعه وأصابوه بالأمراض.
* والشافعي يضيق به الأمراء ذرعاً ويطاردونه من قطر إلى قطر ، دون أن ينيلهم ما يؤجون.
* وأحمد يقف كالطود العظيم شامخاً بإيمانه وعلمه ويحل به العذاب الظالم حتى يفقد وعيه ، ولا ينحرف قيد أنملة نحو الباطل الذي كانوا يراودونه عليه.
هذه قبسات مضيئة سجلها التاريخ بأحرف من نور للفقهاء والمحدثين ، الذين يتطاول عليهم الآن شرذمة لا خلاق لهم من بني جلدتنا. ويتكلمون بلساننا ، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ، قلوبهم قلوب الذئاب ، إنهم جنود إبليس وإن صابوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون ، والله لهم بالمرصاد ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
* * *
(1/48)
________________________________________
الشبهة الثامنة الرواية بالمعنى دون اللفظ
بين هذه الشبهة والشبهة التي تقدمت عليها (تأخُر تدوين السنة) ارتباط وثيق عند منكري السنة المحاربين لله ورسوله ، المرجفين في الأرض.
فالشبهة السابقة كالتمهيد والتوطئة لهذه الشبهة ، فما دامت السنة قد تأخر تدوينها عن زمن صدورها ، فهي إذن عرضة للنسيان والسهر ، وحين فكروا في تدوينها كانت قد ضاعت بفعل طول العهد ألفاظها ، وهذا ما جعل جامعي الحديث النبوي يدونون الحديث بالمعنى دون اللفظ ، فالألفاظ من عند الرواة ، أما الماعني فهي صُوَر مشوشة لما بقى عالقاً بالذاكرة عند الرواة من معاني الحديث.
أما هدفهم من هذه الشبهة فيجمله أحدهم في الأمور الآتية :
* إن الذي اشتملت عليه كتب الحديث من أقوال منسوبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي ليست أقواله ؟ وإنما هي أقوال رجال يخطئون ويصيبون ، ولا يوثق بهم.
* إن الأحكام الفقهية التي تفهم من هذه الأقوال إنما هي آراء أولئك الرجال ، وليست أحكاماً شرعية ؟
* إن رجال الحديث خدعوا الأمة طوال أربعة عشر قرناً وأوهموها بأن هذه الأحاديث هي من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي ليست من كلامه ، ولم يصرحوا بحقيقة الأمر للأمة ، لئلا تفزع من تلك الحقيقة ؟!
* وأم أئمة المذاهب الفقهية قد أضلوا الأمة بجعل هذه الأحاديث المزورة اصلاً ثانياً من أصول التشريع ؟!
وكان قد مهَّد لهذه الأوهام فقال :
"إن الرواية بالمعنى كانت هي الصل بالفعل عند السابقين ، ولكن علماء الحديث ظلوا يخففون من ثقل هذه الحقيقة على العقول ، حتى لا يفزع الناس
(1/49)
________________________________________
من تلقى أحكام تقال في الدين ، عبر أجيال متلاحقة بطريق الرواية بالمعنى ، حتى أن الإمام الشافعي جعل ذلك اصلاً من الأصول الشرعية ، التي لا ينبغي أن يفزع الناس منها" ؟!
فالمسألة عند هؤلاء المرجفين لا تقف عند حد التشكيك في السنة ، بل تشمل الفقه واصوله مع السنة ، لأن أصول الفقه والفقه من أبرز مصادرهما سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومادامت السنة مزورة وباطلة فما انبنى عليها مزور وباطل كذلك.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
هذا الكلام الذي نقلناه عن أحد جنود الشيطان ، أعاداء الله ورسوله. ينطوي على عدة أخطاء وأوهام أملاها عليهم الشيطان. وهانحن أولاء نتصدى لبيان جهلهم وعنادهم ونكشف عن زيفهم في الخطوات الآتية :
فأولاً : إن الصل المجمع عليه عند علماء الأمة المحققين أن رواية الحديث النبوي وقعت باللفظ والمعنى لا بالمعنى فقط كما يدعي هؤلاء المرجفون.
لأن الذين روَوْا الحديث سماعاً عن رسول الله هم أصحابه - رضي الله عنهم - ، وهم مشهود لهم بالأمانة والعدالة والتقوى والورع. وقد جاء ذلك في صريح القرآن الحكيم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.
ألم يقل الله - عز وجل - مادحاً أياهم وتابعيهم الذين نقلوا عنهم الحديث النبوي والسنن النبوية :
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 100].
فلو كان رواة الحديث النبوي وهو الصحابة الناقلون عن الرسول سماعاً مباشراً مزورين عليه ، ولو كان التابعون الذين نقلوا الحديث سماعاً من الصحابة
(1/50)
________________________________________
مزورين على رسول الله ، هل كان الله يزكيهم هذه التزكية ، ويثنى عليهم هذا الثناء ؟
إن تحريف الألفاظ كتحريف المعاني ، وهما منافيان للأمانة والعدالة والصدق. فكيف ساغ لهؤلاء المرجفين أن يصموا الصحابة والتابعين بالتزوير على الله ورسوله ؟ إنهم رجال القرون الأولى ، وهي خير القرون ، لقرب اصحابها من عصر الوحي الأمين ، ومشاهدة الرواة لرسول الله ، وشرف الصحبة ، الذي لا يعادله بعد الإيمان شرف مهما كان.
ثانياً : إن الرواية بالمعنى كانت موضع حرج شديد عند الرواة ، وهي استثناء أو رخصة نادرة الوقوع فقد كان الصحابة يروون السنة مع الحرص الشديد على ألفاظها ومعانيها ، وكانوا إذا أضطر أحدهم إلى رواية بالمعنى في لفظ من عنده. نبَّه على هذا حتى لا يظن ظان أن ذلك اللفظ من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على أن وقوع الرواية بالمعنى - مع ندرتها لم يجزها العلماء إلا في الواية الشفهية عند الضرورة القاهرة ، أما في تدوين الحديث في كتب ، فلم يجز علماء الحديث إبدال اللفظ النبوي ، وإذا شك الراوي فإن عليه أن ينبه على ذلك بأن يقول : أو قال. وكذلك فإن مخرجي الأحاديث يحرصون على ذلك كأن يقولوا "شك من الراوي".
وأحيانأً يضيف الراوي عبارة أو جملة توضيحية ، بين أجزاء الحديث النبوي. وهذا قد وضع له رجال الحديث ضابطاً أسموه "الإدراج" أو "المدرج" ليميزوا بينه وبين متن الحديث النبوي.
وايا كان فإن الرواية بالمعنى جائزة في أضيق الحدود إذا دعت إليها ضرورة.
قال الماوردي : "إذا نسى اللفظ جاز - يعني الرواية بالمعنى - لا سيما أن تركه قد يكون كتماناً للأحكام فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره ، لأن في كلامه - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة ما ليس في غيره.
وقال الجلال السيوطى عن الصحابة إذا روَوْا بالمعنى : "وكان أصحاب
(1/51)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذا اضطروا إلى الرواية بالمعنى ، أو شكوا في اللفظ النبوي أو في بعضه ، أوردوا عقب الحديث لفظاً يفيد التصون والتحوط ، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام ، لعلمهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر ؟ ؟
يعني أن الصحابة إذا لجأوا إلى الرواية بالمعنى نبهوا على تلك الرواية.
وهذا التنبيه له فائدتان :
الأولى : دفع اعتقاد السامع أن اللفظ المروي بالمعنى من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثانية : الحث على التثبيت عند تدوين الحديث من اللفظ النبوي الذي عبَّر عنه الراوي بلفظ غيره.
كل هذه الحقائق الثوابت جهلها ، أو تجاهلها أعداء الله ورسوله لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة ، والغاية هو عزل سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حياة المسلمين ، تحقيقاً لمطامع أعداء الأمة. وهذه الغاية تستوي عند أهلها أعداء السنة ، كل الوسائل.
ثالثاً : ومن الجهل المنادي على أهله بالزراية والاحتقار أن يدعي منكرو السنة أن الإمام الشافعي هو الذي ابتدع مصدرية السنة في التشريع الإسلامي ، وأن الفقهاء قلدوه في هذه الضلال ؟!
وفي إفحام الرد على هذا الغباء نذكر ثلاث آيات كريمات ثم نعقبها بسؤال إلى هؤلاء المرجفين :
* {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء : 59].
* {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب : 36].
* {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : 7].
خذخ الآيات الثلاث ، ولها نظائر ، هي التي جعلت السنة مصدراً ثانياً للتشريع.
(1/52)
________________________________________
فهل هذه الآيات - يا بهاليل - كلام الشافعي أم كلام الله ؟
إذن فمن الذي جعل السنة مصدراً ثانياً للتشريع ؟
الله - عز وجل - أم الإمام الشافعي ؟!
أليس لكم قلوب تفقهون بها ؟ أو عقول تعقلون بها ؟
أو أعين تبصرون بها ؟ أو آذان تسمعون بها ؟
وصدق ربنا القائل {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46].
الرواية باللفظ والمعنى توجيه نبوي :
ونضيف إلى ما تقدم في نقض دعوى منكري السنة أنها رويت بالمعنى دون اللفظ ، أن النبي - نفسه - - صلى الله عليه وسلم - قد حث أصحابه أن يرووا عنه أحاديث باللفظ والمعنى ، بل قد نهى من سمعه يبدل لفظاً مكان لفظ ردده الراوي ، أمام الرسول في مجلس السماع.
فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "... وحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
فهذا تحذير شديد ، ووعيد قاس على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإبدال لفظ مكان لفظ - مع التعمد - يندرج تحت الكذب على رسول الله. وهذا الحديث بلغ مبلغ التواتر الذي لا مثيل له ، وقد أشتهر بذلك عند المحدثين فمن يا ترى - من أصحاب رسول الله ، وهم الذين رَوَوْا لنا كل أحاديثه القوليه ، وكل سنته العملية ، من منهم يجرؤ على الكذب على رسول الله ؟
وقال - صلى الله عليه وسلم - حاثا ومرغباً في الأمانة في النقل عنه :
"نضَّر الله امرءاً سمع مني شيئاً فبلغه كما سمع فرب مْبَلَّغٍ أوعى من سامع".
فأنظر إلى قوله "فبلغه كما سمع" أنه دعوة إلى نقل الحديث عنه بألفاظه ومعانيه ، لا بمعانيه فحسب كما يدعي هؤلاء المرجفون الأفاكون.
(1/53)
________________________________________
وبقى ما هو أجلى من ذلك وأقوى على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرواية عنه باللفظ والمعنى :
فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
"إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن. ثم قل :
"اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت ، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تتكلم به" انتهى الحديث.
قال البراء : فرددتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بلغت : آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت : ورسولك الذي أرسلت.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : : لا ، ونبيك الذي أرسلت" رواه الستة.
فأنظر إلى اي مدى كان حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يكون تَحَمُّلُ الحديث وأداؤه عنه كما نطق به هو عليه السلام بألفاظه ومعانيه ، لذلك لم يقر البراء بن عازب أن يذكر "رسولك" مكان "نبيك" وأعاده إلى الصواب كما نطق هو ، مع قرب معنى "رسولك" من معنى "نبيك" لأن للألفاظ وإن تقاربت معانيها خصوصيات دقيقة تجعل اللفظ لا يسد مسد اللفظ الذي قاربه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق : 37]
* * *
(1/54)
________________________________________
الشبهة التاسعة اقتحام السنة حواجز الغيب
من الأمور القادحة في صدق السنة وصحتها عند منكريها المعاصرين ، ما فيها من أحاديث تتحدث عن الأمور الغيبية وهذا - عندهم - لا يصح ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر والبشر لا يعلمون الغيب ؟
إن علم ما في الغيب مقصور على الله وحده ، وإن القرآن أمر النبي أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب ، إذن فوجود أحاديث في صحاح كتب السنة ، كالبخاري ومسلم ، تتحدث عن أمرو فيبية ، كأحاديث نعيم القبر وعذابه ، وأهوال القيامة وصفة الجنة والنتار ، وما حدث به النبي في حياته عن أمور ستحدث بعده في الحياة الدنيا ، أو ما حدث عن أمور وقعت في مكان غير المكان الذي هو فيه ، كمقتل أحد زعماء الفرس ، وما جرى على هذا المنوال كل هذه علامات على أن السنة المرويةُ في الكتب الآن ، لا تصح نسبتها إلى الرسول ، وإن استوفت شروط الصحة التي تواطأ عليها علماء الحديث ؟!
ويتساءلون : كيف علم النبي أن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار ؟
وكيف علم أن صاحبى القبرين اللذين مر عليهما يعذبان ، وما يعذبان في كبير ، وأن أحدهما كان لا يستبرئ من بوله ، والآخر كان يمشي بالنميمة ، بين الناس.
وكيف لعم أن الله يصلح بين بعض عباده يوم القيامة ، ويقول لمن اصلح بينهما : "خذ بيد أخيك وادخلا الجنة" ؟!
وعلى اي أساس بشَّر عشرة من اصحابة بالجنة ، حتى صارت هذه البشارة عنواناً عليهم "العشرة المبشرون بالجنة" ؟!
(1/55)
________________________________________
وكيف علم أن في يوم القيامة شفاعات لغير الله يدخل بسببها أناس الجنة ، وهم حسب أعمالهم من أصحاب النار ؟
وكيف أقتحم استار الجنة والنار وأطلع على أهلها فوجد أكثر النار من النساء ؟
ويقولون : إن هذه الأخبار موضوعة ولو بلغت أعلى درجات الصحة ، لأن الله تعالى كرر في كتابه العزيز أن الغيب لا يعلمه أحد سواه :
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام : 59]
ويقول - عز وجل - :
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل : 65]
وقال مخاطباً رسوله :
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 188]
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام : 50]
أليست هذه أدلة قاطعة على أن ما رواة منسوباً إلى النبي من شئون الغيب الزماني والمكاني تزوير على رسول الله ؟!
هذا ما يردده هؤلاء المضلون ، ونريد أن نذكر - هنا - القارئ الكريم بحقيقة اشرنا إليها من قبل ، لأهمية هذه الحقيقة في هذه الدراسة الكاشفة لأوهام منكري السنة النبوية حزب الشيطان ، ونصوغها في العبارة الوجيزة الآتية :
(1/56)
________________________________________
* إن منكري السنة ، إما أن يكونوا جهلاء جهلاً مركباً إن كانوا حسني النية فيما يقولون.
وإما أن يكونوا معاندين عملاء لأعداء الأمة والوطن ، ومحال أن يكون وراء هذين السببين سبب ثالث.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
مسئولية الجهل وراء هذه الشبهة تعلن عن نفسها بصوت عالٍ ، ولندع مسئولية العناد جانباً الآن.
والجهل - هنا - مركب ، وهو داء عياء.
* فهم أولاً جاهلون بمنزلة رسل الله ، وفي مقدمتهم خاتم النبيين.
* وهم ثانياً جاهلون بالقرآن ومقاصده وقيمه ومبادئه.
* وهم ثالثاً جاهلون بالسنة من ألفها إلى يائها.
* وهو رابعاً جاهلون بأنهم جاهلون.
وإذا اجتمعت ضروب الجهل هذه في أناس ، فالصمت خير لهم من الكلام ، والموت أستر لهم من الحياة.
جاهلون بمنزلة رسل الله عند الله ، وهم بسبب هذا الجهل ينظرون إلى الرسول كأنه واحد منهم ، ليست له خصوصية كرامة وتكريم عند الله ، ولا خصوصية تأييد بالنصر وخوارق المألوف عند عامة الناس. وأن الله يجرى على أيديهم ما يضن به على سائر خلقه ، تثبيتاً لهم ، وتصديقاً لرسالاتهم.
وجاهلون بالقرآن ، ولو كانوا قد رُزقوا حسن فهمه ووقفوا على ظواهر معانيه ودقائقها لما ساغ لهم أن يرددوا هذا القول الناعي عليهم بالويل والثبور ، وعظائم الأمور.
(1/57)
________________________________________
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أول رسول يمزق الله له حواجز الزمان والمكان ، ويطلعه على بعض الغيوب التي لم يكن ليعلمها لولا فتح الله عليه بها.
ألو يخبرنا القرآن أن الله أطلع يوسف عليه السلام ، وهو غلام ، حين ألقاه إخوته في الجب ليتخلصوا منه ويصفو لهم قلب أبيهم ووجهه ؟
ألم يقرأوا قوله تعالى :
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف : 15]
ثم دار الفلك دورته ، وجاءت لحظة الإنباء ، فقال لهم يوسف عليه السلام :
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف : 89]
أليس هذا غيباً كان الله قد أنبا به نبيه يوسف عليه السلام ، فوقع كما أنباه الله به.
ثم ألم يقرأوا أن الله منَّ على يوسف مرة أخرى إذا أطلعه على غيب زماني قبل أن يقع بعشرات السنين ، أنباه به عن طريق الرؤيا الصادقة.
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4]
ثم دار الفلك دورته فصدق الله رسوله يوسف تلك الرؤيا لما رأى إخوته وأباه وأمه يحيونه بمصر بعد قدومهم إليها. وفي هذا يقول الحق - عز وجل - :
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف : 100]
ثم ألم يخرق الله ليعقوب عليه السلام أستار الغيب المكاني فنقل إليه ريح
(1/58)
________________________________________
(رائحة) ولده يوسف من مصر إلى الشام حتى لكأنهما يتعانقان في مكان واحد ، وقد حكى القرآن هذه "المعجزة" على لسان يعقوب عليه السلام : {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف : 94]
إن هذه الريح (الرائحة) التي حملتها يد القدرة الإلهية فأمتعت بها مشاعر يعقوب لم يشعر بها مجالسوه في المكان نفسه ، فنسبوه إلى التخريف قائلين :
{... تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف : 95]
ولم يقف عطاء الله الإعجازي على يوسف وأبيه ، بل كان لأم موسى - عليه السلام - منه نصيب.
ألم يقل لها أصدق القائلين مخبراً بوحيه إليها : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص : 7]
فقد أخبرها بأنه سيرده إليها ، ويجعله رسولاً ، وهذا غيب زماني كما ترى.
ثم وقع هذا الغيب بشقيه : الرد ، والرسالة ، كما أخبر الله أم موسى :
أما الرد فقال الله فيه :
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ....} [القصص : 13]
وأما الرسالة ، فقد قال الله فيها :
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص : 14]
أفليست هذه غيوباً أطلع الله عليها بعض رسله وأوليائه ؟
وكذلك صنع الله - عز وجل - مع رسوله الكريم عيسى بن مريم عليه السلام ،
(1/59)
________________________________________
وتحدَّث بذلك عيسى باعتباره آية من آيات الرسالة ، التي كرمه الله بها إلى بني إسرائيل.
أفلم يقرأ هؤلاء الجهلة. أو المعاندون ما حكاه القرآن الأمين عن عيسى عليه السلام :
{... وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 49]
هل كان مع عيسى أجهزة تجسس يرصد بها أسرار الناس في البيوت ؟!
أم أن عيسى - عليه السلام - رسول مؤيد من عند الله بالمعجزات زمانية كانت أم مكانية.
وهل لمن يجهل هذه الحقائق أن ينصب من نفسه عالماً جهبذاً أوتى علوم الأولين وألاخرين ، بل تفوَّق في العلم على أنبياء الله ورسله ، وعلا جهله على حقائق الوحي الأمين ، وإذا كان هذا هو فضل الله على يعقوب ويوسف وعيسى عليهم السلام ، وعلى أم موسى - رضي الله عنها - ، فكيف يستكثر هؤلاء (البهاليل) على خاتم الأنبياء والرسل أن يطلعه على بعض الغيوب الزمانية والمكانية ، وهو رسول الله إلى الناس جميعاً حتى قيام الساعة ؟!
إن الرسل لا يملكون الإطلاع على الغيب بذواتهم ، وإنما يمن عليهم علام الغيوب بما يشاء هو لا بما يشاءون هم.
وقد أعلن الله في كتابه أنه وحده هو عالم الغيب وفي القوت نفسه أعلن أنه يُطلع من يشاء من رسله على أشياء من الغيب بمقتضى إرادته وحكمته ، وإذا أطلع بعض رسله على بعض الغيوب فليس معناه أن هؤلاء الرسل صاروا شركاء الله فب علم الغيب ، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ولكن جهل منكري السنة هو مصيبة فوق كل المصائب عندهم ، قاتلهم الله.
ألم يقرأوا قول أحكم الحاكمين :
(1/60)
________________________________________
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن : 26 - 27]
ونسأل منكري السنة هذا السؤال ، تعليقاً على إنكارهم إخبار السنة ببعض الغيوب :
هل محمد عندكم رسول أم غير رسول ؟
فإن قلتم هو رسول قلنا لكم إن الله في كتابه أعلن أنه يطلع من ارتضى من رسله على بعض الغيوب ، فيلزمكم التصديق بالأحاديث النبوية ، التي تتحدث عن بعض الغيوب.
وإن قلتم هو ليس رسولاً ، قلنا لكم : لكم دينكم ولما ديننا وأي الإجابتين أحب إليكم يا ترى ؟
أدلة من الواقع المشاهد :
ولنفترض أن منكري السنة لم يقتنعوا بالبراهين القاطعة التي واجهناهم بها حتى الآن ، فإن لدينا ما يقسرهم على التسليم قسراً ، بأن الأحاديث التي تحدثت عن بعض الغيوب فيما صحت روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حقائق إيمانية ومعجزات إلهية أجراها العلي القدير على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أنبات يوم قالها على أمور كانت ستحدث بعد دهر طويل ، وقد حدثت فعلاً ، وما تزال تحدث حتى الآن على مرأى ومسمع من جميع الناس.
فهي إذن تجارب خاضعة للفحص والملاحظة والمشاهدة ، لا ينكرها عاقل ، ولا يماري فيها منصف أو عنود.
حديث علامات الساعة :
نعني - هنا - حديث جبريل ، ذلك الحديث الذي رواه الإمام مسلم ، الذي جاء فيه جبريل عليه السلام في صورة رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه من الجلوس حول رسول الله أحد ، وأخذ يسأل الرسول ، والرسول يجيب ، وهو من مرويات عمر بن الخطاب
(1/61)
________________________________________
- رضي الله عنه - ، والذي جاء ضمن الأسئلة التي سألها هذا السؤال : "قال : فأخبرني عن الساعة" ؟!
فقال الرسول : "ما المسئول عنها بأعلم من السائل".
قال جبريل : "فأخبرني عن أماراتها".
قال الرسول : "أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة ، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"
وشاهدنا في هذا الحديث ذكرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمارتين من أمارات الساعة.
* ولادة الأمة سيدها.
* تقلُّب أحوال المجتمعات.
ولعامائنا شروح "حرفية" لهاتين العبارتين ، ومع تقديرنا لشروحهم فإن العبارتين تحتملان معاني أخرى :
فلا مانع شرعاً ولا بياناً أن يكون المارد من العبارة الأولى الإشارة إلى تسويد الأمور إلى غيرها - كما جاء في حديث آخر رواه البخاري "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
فالجاهل يحكم العالم ، والوضيع يسود الشريف ، والحقير يسيطر على الكريم ، والخسيس يعلو على النبيل والسفيه يؤم الراشد ؟
يعني أن في هذه العبارة إيماء بليغاً إلى أختلال الأوضاع بين الناس ، وتعكيساً للأمور عن سننها القويم.
أما العبارة الثانية فلا يبعد أن يكون معناها الزحف الحضاري المادي ، حتى يشمل البوادى والصحارى والمراعي والوديان فيصبح من كان حافيا ، عارياً ، راعياً للماشية ، مالكاً للقصور والدثور ، بعد أن كان يننَّبع بماشيته شعب البرارى ، ومواقع القطر.
وهذا كله واقع مشاهد الآن ، ولم يكن له وجود يوم أخبر به النبي المعصوم.
(1/62)
________________________________________
أفليس هذا دليلاً قاطعاً على صدق الأحاديث النبوية التي تتحدث عن أمور غيبية ، ثم وقعت بعد الإخبار بها بدهور كما وصفها النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم -.
تكوين الأجنة في الأرحام :
لم يكن في عصر النبوة طب كما فب هذه الأيام ، ولا وسائل كشف أو أشعة تلتقط ما وراء المستور ، ومع هذا فقد تحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مراحل تكوين الجنين في رحم أمه ، وحدد كل مرحلة تحديداً دقيقاً في حديثه الذي سمعه منه أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، ونص الحديث كما فس صحيحى البخاري ومسلم :
"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، يم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة ، مثل ذلك ، ثم يكون مضغة ، مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، وينفخ فيه الروح".
والشاهد في هذا الحديث هو تحديد مدة كل مرحلة من المراحل الثلاث بأربعين يوماً. بعدها يبعث الله الروح فيه. ثم دجاء الطب الحديث ، والتقط صوراً لأجنة وهي في الرحم وعرف الأطباء أن الروح لا تبعث إلا مائة وعشرين يوماً ، وتطابقت نتائج المراقبة الطبية مع دلالات الحديث تماماً. فكان هذا الحديث معجزة نبوية خاللدة ، وموضوعه غيب مكاني وزماني معاً.
نعم. القرآن ذكر اسماء المراحل في آيات منها ما جاء في سورة المؤمنون : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون : 12 - 14]
ولم يذكر القرآن مدة كل مرحلة ، فحددتها السنة بأربعين يوماً.
ولم يذكر القرآن لحظة بعث الروح ، فبينت السنة أنه يكون على رأس المائة والعشرين يوماً (حاصل مجموع 40 + 40 + 40) أو ليس هذا غيباً لم يكن يمكن الأطلاع عليه يوم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث الإعجازي.
(1/63)
________________________________________
والله - عز وجل - هو الذي أعلم رسوله بهذا الغيب بما شاء من وسائل الإعلام.
أفبعد هذا يتطاول جاهل أو معاند ، فيجعل من أدلة إنكار السنة أنها اقتحمت ستور الغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله ؟!
لو لم تكن أحاديث الغيب صادقة كل الصدق لكان لهم عذر.
ولكن كيف يكون لهم عذر وهي صادقة كل الصدق أنهم لسوء حظهم عكسوا دلائل الإيمان ، فجعلوها دلائل كفر وإلحاد ؟ وللناس فيما يعشقون مذاهب. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
(1/64)
________________________________________
الشبهة العاشرة رواة السنة بشر غير معصومين
أعداء الحق منذ قديم الزمان ، لهم حيل وأساليب ماكرة في رفض الحق ، وتشويه صورته ، لأنهم لا يكتفون برفض الحق ، وحرمان أنفسهم منه ، ولو كانوا قد فعلوا ذلك لكانوا أنصاف عقلاء.
ولكن كراهيتهم للحق ، من حيث هو حق ، جعلتهم يعملون - جاهدين - على صد غيرهم عن الخق. وهذا من الطباع المنكوسة في أخلاق بعض الناس ، لذلك سهل على الشيطان مقادهم ، وأخذ يمدهم بما هم في حاجة إليه في وقف الحق عن الزحف والانتصار ، ولكي يظلوا في ضلالهم يعمهون.
ومن هذه الحيل والأساليب الماكرة عند منكري السنة المعاصرين ، قولهم : إن رواة السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يخطئون ويصيبون ، فهم إذن غير معصومين ، فكيف نؤمن بصحة وصدق ما رووه لنا من مئات الآلاف من الحديث المنسوب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ويضيفون إلى شبههم هذه شبهة أخرى عارضة ، خلاصتها أن الواحد منا إذا قال كلاما في مجلس ، ثم أراد حكايته في مجلس آخر ، فإنه لا يستطيع أن يحكيه على صورته الأولى ، بل لابد من التغيير والتبديل في الألفاظ والمعاني وإن قرب العهد بين المجلسين : مجلس البداية ومجلس الحكاية.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
إن لله في الحياة سننا نافذة في خلقه ، ومن سننه أنه خلق الملائكة ، والجن ، والبشر ، وركب في البشر طبيعتين : طبيعة الخير ، وطبيعة الشر.
أما الملائكة ، فقد جبلهم على الطاعة والخير ، والشياطين مطبوعون على الشر.
(1/65)
________________________________________
وأرسل رسله إلى خلقه من الجن والإنس فمنهم من يهتدي حتى يبلغ أعلى عليين ، ومنهم من يضل حتى يهوي أسفل سافلين ، وصلحاء البشر فيهم صلحاء شبيهون بالملائكة في الإيمان والطاعة والاستقامة وفي مقدمة هؤلاء الصلحاء الرسل وتابعوهم.
فليس الوصف بالبشرية نقصا من حيث البشرية نفسها وإنما معايير النقص والكمال رهينة بكسب الإنسان وعمله.
ومن سنن الله النافذة أن جعل البشر يديرون شئون أنفسهم بأنفسهم على هدى من رسالات الله إليهم لا تديرها لهم ملائكة ولا شياطين ، وهذا هو مقتضى التكليف أو المسئولية كما يعبر عنه في الفكر الحديث.
إذن فإن رواية الحديث عن طريق البشر بدعاً من السلوك ، ولا سبة تقدح في سلامة السنة من التحريف في ألفاظها ومعانيها.
وتوصلا إلى هذه الغاية نشأ فن أو علم الجرح والتعديل ، هذا الفن ، أو العلم وقفه علماء الحديث على معرفة أحوال الرواة من التابعين وتابعيهم ومن غيرهم ، وصنفوا الرواة اصنافاً مختلفة ، ووضعوا لقبول الرواية من كل راو شروطاً محكمة.
والتعديل يعني وصف الرواي بالعدالة إذا توفرت فيه شروطها ، والتجريح ، يعني معرفة الرواة غير العدول الذين لا تقبل رواية الحديث عنهم.
فالحديث الذي يقبل من حيث رواية ينبغي أن يكون الراوي ، ضابطاً ثقة ، وهو المسلم البالغ العاقل ، السالم من أسباب الفسق وخوارم المرءوة ، المتيقظ غير المغفل (الغافل) وأن يكون حافظاً إذا حدَّث من حفظه ، فاهما إذا حدَّ على المعنى في الرواية الشفهية (ينظر الباعث الحثيث : ص 92 وما بعدها) للإمام ابن كثير.
أما رواية ما خالف حاله هذه الأوصاف فلا تقبل ، وكذلك لا تقبل رواية أصحاب الأهواء إذا رووا ما يوافق هواهم ولا مجهول الحال.
(1/66)
________________________________________
ويلاحظ أن هذه الضوابط وضعت لهدف سام وهو دفع احتمال الخطأ أو الكذب في رواية الحديث ، حتى تطمئن النفس إلى أن ما روى صح صدوره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولم يكن علماء الحديث يقبلون كل ما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى تتوفر فيه شروط الرواية الصحيحة وهذا يدفع بكل قوة ما اثاره منكرو السنة من أن رواة السنة بشر يخطئون ويصيبون ، هذه العبارة وإن كانت صحيحة من حيث الجملة ، فلا مفهوم لها هنا لأن الشروط التي وضعها علماء الحديث - رضي الله عنهم - كانت لتحقق الإصابة في الرواية ودفع الخطأ ، وهم أعلم بأسباب الإصابة والخطأ عشرات المرات من هؤلاء الببغاوات ، الذين يرددون ما قاله المبشرون والمستشرقون الحاقدون على الإسلام ، دون أن تكون لهم ممارسة أو خبرة ذاتية في هذا المقام الجليل.
إنني على يقين من أن الذين يهاجمون السنة الآن في الصحف والمجلات لو عقد لأحدهم اختبار في علوم الحديث مهما طال أو قصر ، سهل أو صعب لرسب فيه بالخط الثلث ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
إنهم يتصايحون في الفضاء ، ويحاربون في الهواء ، أو في غير مواجهة ولو ووجهوا لأنكشفوا وافتضح أمرهم عند الناس ، وقديماً قال الشعر :
إذا ما الجبان خلا بأرض ... تمنَّى الطعنَ فيها والنزالا
مقلدون لا مبتكرون :
منكرو السنة في هذه الشبهة : شبهة بشرية الرواة مقلدون - كعادتهم - لا مبتكرون ، ما في ذلك ريب أنهم مقلدون لمكذبي الرسل على مدى التاريخ النبوي كله ، فالقرآن الأمين يقص علينا مسالك مكذبي الرسل كلما بلغوهم ما أنزله الله عليهم ، وإليك البيان.
في سورة إبراهيم عليه السلام ورد هذا الحوار المحكي بين الرسل والذين كذَّبوهم من أقوامهم :
(1/67)
________________________________________
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم : 10 - 11]
أنظر إلى هذا المنطق المعوج الذي واجه به مكذبو الرسل الرسل الذين أرسلهم الله إليهم.
رفضوا رسالاتهم والإيمان بها ، بحجة أنهم بشر مثلهم ليس لهم عليهم سلطان.
وهذه شبيه بموقف السنة ، الذين يرفضون السنة بحجة ، أو شبهة أن رواتها من الصحابة ، والتابعين بشر ؟!
ثم أنظر إلى صوت الحكمة العالية في رد الرسل على هؤلاء المكذبين : {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.
ونذكر القارئ أن منكري السنة رفضوها في هذه الشبهة ، لأن روايتها بشر يخطئون ويصيبون نذكر القارئ بهذا لنبين له لطيفة من لطائف بلاغة القرآن ، وهي أنهم وصفوا البشر بأنهم يخطئون ويصيبون وهذان الوصفان متحققان فيما حكاه القرآن في هاتين الآيتين : أعني الإصابة والخطأ.
فالمخطئ هم مكذبو الرسل ، ومثلهم منكرو السنة ، لأنهم جميعاً أعتمدوا في تكذيب الرسل ، وتكذيب السنة على علة واحدة ، هي بشرية الرسل والرواة.
أما المصيبون فهم الرسل ، والمؤمنون بسنة خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - ، المحتكمون إليها في حياتهم طاعة لله ورسوله ومثل هذا ورد في سورة "يس" في الحديث عن أصحاب القرية :
(1/68)
________________________________________
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس : 13 - 15]
هذا هو التقليد الذي سار عليه منكرو السنة ، فليس لهم من قدوة إلا مكذبو الرسل ، وليس لمكذبي الرسل من إمام إلا الشيطان ، الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
وقد حكى عنهم القرآن هذه المقولة في سور أخرى كالأعراف والفرقان والقمر وغيرهما ، من السور التي فيها قصص الأنبياء ومما حكاه عن مشركي العرب من رفضهم لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قوله - عز وجل - :
{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء : 3]
وقولهم عن القرآن في بيان رفضهم له :
{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر : 25]
فهل ترى من كبير فروق بين مكذبي الرسل ، وبين منكري السنة المطهرة. ؟!
إنهم - جميعاً - مكذبون للرسل في أصول ما جاءوا به ، وفي فروعه.
* * *
(1/69)
________________________________________
الشبهة الحادية عشرة نُدْرة الصحيح في محفوظ البخاري
كنا ، ونحن صغار في الريف المصري ، نسمع كبارنا يرددون مثلاً أو حكمة ، والحكّم والأمثال يودعها أصحابها خلاصات تجارب الحياة ، ويرددنها في مناسباتها التي ينكرر وقوعها في الحياة.
ومن الأمثال التي تعيها الذاكرة الآن ، مثل يقول :
"الغريق يتعلق بالقشة" والقشة جزء صغير من حطام النبات ، وهي تمثل منتهى الضعف ، ولذلك كان العرب يصفون الأمر الهين الذي يكون سبباً في هلاك صاحبه بالقشة ، ويقول : "القشة التي قضمت ظهر البعير" اي تسببت في تحطيم كائن عظيم ، المرموز له بـ "البعير" في القوة والضخامة.
ومنكرو السنة في تصيدهم الشبهات لإنكارها ، ذكَّرونا بالمثل الأول :
"الغريق يتعلق بالقشة" والقشة لا تنقذ الغريق من الغرق ، بل سيجذبها معه الغريق إلى قاع البحلا ، والمراد من هذا المثل عند مردديه ، أن الغريق لما فقد كل وسيله لإنقاذه ، ولم يبصر إلاَّ قشة حمله اليأس على التمسك بها. ولعل ، وعسى. كذلك منكرو السنة تراهم يتهافتون وراء اقتناص الشبهات لإنكار السنة ، مهما كانت تافهة ، ضعيفة ولسان حالهم يقول : لعلَّ ، وعسى.
والشبهة التب نحن بصدد تفنيدها ونقضها - الآن - أوضح شاهد على تهافت منكري السنة ، وهي كما قد رأيت :
"ندرة الصحيح في محفوظ البخاري" يعني أنهم نظروا في مقدمته التي سدَّر بها صحيحه ، وما نُقل عنه من أنه كان يحفظ ستمائة ألف حديث ، ومع ذلك لم يدوَّن منها في صحيحه إلا أربعة آلاف حديث مع حذف المكرر ، وحوالي سبعة آلاف حديث مكرر.
(1/70)
________________________________________
وقد استنتج منكرو السنة ، والقادحون فيها ، من هذا التنظير بين المحفوظ والمكتوب أن البخاري - رضي الله عنه - لم يصح عنده من ستمائة ألف حديث إلا ما كتبه هو في صحيحه.
بل إن بعض منكري السنة يهوَّل كثيراً في التشكيك في الحديث النبوي ، فادعى أن 97% من الأحاديث النبوية الشريفة مكذوب على رسول الله لأسباب سياسة ؟! (ينظر الأهرام العربي 26/6/1999م).
يعني أن جملة الأحاديث النبوية كلها لم يصح منها إلا 3% ؟!
وهذه دعوة صريحة إلى نزع الشقة عن السنة النبوية كلها ومحوها من الوجود ، ليضرب لذلك مثلاً :
لو أن جائعاً كاد يهلك من الجوع وجد مائة تمرة صالحة للأكل ، فهمَّ بأن يتناول بعضاً منها لإنقاذ نفسه من الجوع ولكن رجلاً آخر صاح به قائلاً :
أحذر الأكل من هذا التمر ، لأن 97 ثمرة منها محقونة بمادة سمية تقتل من أكلها في الحال. فماذا يكون رد الفعل ؟
رد الفعل سيكون التوقف الحذر عن الأكل ، لأن فيه تعرضاً للموت ، أو قل للانتحار.
وهذا ما يريده منكرو السنة من هذه الحملات التي يشنونها ضد السنة النبوية ، لحاجة في نفس يعقوب.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
هذه الشبهة المثارة هنا ، خفيفة الوزن جداً ، ومنكرو السنة يعلمون أنها خفيفة الوزن ، ولكن إغرامهم بتصيُّد الطعون والمعايب ، حملهم على هذا العناد الممقوت ، مع علمهم كذلك برد خصومهم عليهم.
صحيح أن البخاري - كما قال هو نفسه - كان يحفظ ستمائة ألف حديث ، وصحيح أنه لم يدوَّن منها إلا أربعة آلاف حديث.
وليس معنى هذا أن الإمام البخاري لم يصح عنده من محفوظة (ستمائة ألف حديث) إلا هذا القدر القليل (أربعة آلاف حديث).
(1/71)
________________________________________
لأن البخاري - رضي الله عنه - ألزم نفسه منهجاً في تدوين الحديث ، وهو كتابة اثنين في اليوم الواحد ، وكان يتوضأ ويصلي ركعتى الإستخارة قبل أن يضعهما في صحيحه المعروف.
ولذلك استغرق تأليف صحيحه ست عشرة سنة ، وقد حرص البخاري على تدوين الصحيح ، ولكنه لم يدون كل مت صح عنده ، حيث قال :
"ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح ، وتركت من الصحيح مخافة الطول" (تدريب الراوي : 1/98).
ونحن لا نقول إن الستمائة ألف حديث التي كان يحفظها البخاري كلها صحيحة ، ولم يدع هو ذلك. ولكن الذي نرفضه أن ما عدا ما دوَّنه في صحيحه كان ترك تدوينه عدم صحته كما يدعى منكرو تالسنة المغالون في الحمل عليها بغية عزلها عن حياة المسلمين.
وهب أن الصحيح من محفوظ البخاري خمسمائة ألف حديث فكم كان يلزمه من الوقت حتى يفرغ من تدوينها كلها ، والمعروف أنه لم يكن يكتب إلا حديثين في اليوم الواحد ؟
إنه يحتاج إلى 714 سنة تقريباً كان ينبغي أن يعيشها البخاري بعد الطفولة ، وقبل الشيخوخة ، والمعروف أن عمره لم يتجاوز الستين إلا بقليل شاملاً سنى نشأته الأولى.
كما أن للإمام البخاري عذراً ، أو أعذاراً أخرى ، فهم لم يكن مجرد سارد لما دوَّنه من الأحاديث ، بل كان تدوينه موزعاً على أبواب الفقه وفروعها الدقيقة ، وكان يقطَّع الحديث الواحد أجزاء ، يضع كل جزء في مقامه من علم الفقه. ، مع وضع عناوين لمسائل الفقه المسوق من أجلها الحديث.
ومن له دراية بعمل البخاري في صحيحه يراه يبدى آراءه في كثير من المسائل ، مع رغبته في عدم الطول في صحيحه كما صرَّح بذلك هو في العبارة التي نقلناها عنه في ما تقدم.
هذا هو الصواب الذي ينبغي أن يقال في تدوين البخاري - رضي الله عنه -.
لا ما يقوله منكرو السنة المرجفون.
(1/72)
________________________________________
الشبهة الثانية عشرة البخاري ومسلم لم يسلما من النقد
في كثير من العلوم الإسلامية والعربية ، قمم شامخة ، احتلت تلك القمم مكان الصدارة في مجالاتهم ، ففي علوم العربية ، يشار إلى سيبويه بالبنان ، وفي علوم النقد الأدبي ترى الآمدى صاحب الموازنة ، والقاضي الجرجاني صاحب الوساطة منارتين سامقتين ، وفيى علوم القرآن والإعجاز تجد الإمامين القاضي أبا بكر الباقلانى ، وعبد القاهر الجرحاني فارسين لا يشق لهما غبار ، وفي علوم أصول الفقه تجد الإمام الغزالي صاحب المستصفى ، والآمدي الإحكام في أصول الأحكام بحرين زاخرين.
أما في علوم الحديث فقد سطع في سمائها الإمام البخاري ، والإمام مسلم - رضي الله عنهما - ، وصار لكتابيهما منزلة لا تضارع في هذا المجال.
وهذه القمم الشامخة ، والأئمة الأعلام صاروا "حجة" في تخصصاتهم ، ورموزاً في تاريخ الحركة العلمية الإسلامية ، وخصوم الإسلام المعاصرون ، يصوبون سهامهم دائماًً نحو هذه القمم ، وتلك الرموز ، لأن في النيل منهم نيلاً من المعارف التي برزوا فيها ، إنهم أصحاب "العروش"التي تحمي حمى الدين. فكان إسقاطهم عند خصوم الإسلام ، وعملاء خصوم الإسلام مطلباً "استراتيجيا" يسعون لتحقيقه بكل ما أوتوا من دهاء ومكر وخديعة.
وجريا على هذا "المنهج" ترى منكري السنة يتخذون منها غرضاً لقذائفهم ، لأنهم يعلمون أن الأمة شديدة التقدير لهما الثقة في صحيحيهما ، لأنهم يعلمون أن الأمة شديدة التقدير لهما عظيمة الثقة في صحيحيهما ، فإذا نجحوا في العصف بهما أصابوا السنة والأمة معاً في مقتل يصعب بعده استمرار الحياة ، فقد جعلوا من اسبابهم (شبهاتهم) لإنكار السنة الطعن فيهما ، وفي عملهما ، لتنهار بعد ذلك صروح السنة في غيرهما من الكتب والمصنفات الأخرى.
(1/73)
________________________________________
هذا هو السر في التركيز على صحيحى البخاري ومسلم في هذه الآونة.
وعلى عادتهم من التهافت في تصيد المعايب والمآخذ ، تراهم يرددون كثيراً أن صحيحى البخاري ومسلم لم يسلما من نقد علماء الحديث ، الذين جاءوا بعدهما ، كالحكام والبيهقي ، والدارقطنى وابن الجوزى ، وغيرهم.
ثم اتخذوا من نقد العلماء لهما وليجة ، لنزع الثقة عنهما وإخضاعهما لغربلة ، بغربال واسع "الثقوب" ليسقط كل أوجل ما فيهما من الأحاديث الصحاح (ينظر جريدة الجيل التي تطبع في قبرص وتوزع في مصر [مارس 1999م].
إنهم يدعون أن في صحيحى البخاري ومسلم مما عدوه صحيحاً من الأحاديث :
ما يخالف القرآن ، وما يخالف العقل ، وما يخالف الواقع المحسوس وما يقدح في عدالة الله ، وما يوافق مكايد للإسلام ؟! وما يوافق هوى النصارى ، وما هو خرافة خالصة ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
ونعتمد في تفنيد هذه الشبهة - بعد الاعتماد على الله - على ما يأتي :
أولاً : أن صحيحى البخاري ومسلم كتب الله لهما الذيوع ، وقد تلقتهما الأمة بالرضا والقبول ، وأجمعت على اعتمادهما بعد كتاب الله في العمل للدنيا والآخرة. والأمة لا تجتمع على ضلالة ، كما جاء في الحديث الشريف في طرق متعددة.
ثانياً : أن حركة النقد التي دارت حول ما في البخاري ومسلم من أحاديث ، أسفرت عن ملاحظات شملت مائتى حديث وعشرة أحاديث من أكثر من أربعة آلاف حديث اتفقا عليها ، تفصيلها الآتي :
* ثمانية وسبعون حديثاً في صحيح البخاري.
(1/74)
________________________________________
* مائة واثنان وثلاثون حديثاً في صحيح مسلم.
وهذه الأحاديث التي انتقدت في الصحيحين لم يكن نقدها موضع إجماع عند المحدثين ، وليس فيها أحاديث موضوعة ، وقد أعلن بعض النقاد من علماء الحديث أن هذا النقد بنى على قواعد أو علل ضعيفة غير قادحة في سلامة الحديث كما أن الأحاديث التي انتقدت عند البخاري ليس لها مساس بأصل الكتاب ، بل هي من الأحاديث التي ذكرها البخاري على سبيل الاستئناس [ينظر مقدمة ابن حجر لشرح البخاري ، فتح البارى (346)]
وأيا كان الأمر فإن نقد علماء الحديث لبعض ما في البخاري ومسلم ليس فيه لمنكري السنة حجة ، بل هو حجة عليهم ، حيث لم ينظر المحدثون إلى هذين الإمامين الجليلين نظرة تقديس ترفعهما إلى درجة العصمة من الخطأ والسهو ، وإنما كملوا بنقدهم لبعض ما في الصحيحين الاتقان الذي يبث في النفوس الاطمئنان إلى سلامة السنة المعتمدة لدى الأمة من التزوير والخلل ، وهذا ما يريده منكرو السنة من شغبهم وصياحهم الآن.
ثالثاً : إن بعض هذه الأحاديث التي انتقدت عند البخاري ومسلم كان مرجع النقد فيها إلى عدم التزام شروطهما التي التزماها في الرواية ، وهذا لا يعني أن هذه الأحاديث ضعيفة أو مكذوبة ، ولم يقل بذلك أحد من علماء الحديث الخبراء بأصول الرواية متناً وسنداً ، بل قال بعض هؤلاء النقاد إن ما أخذ على الإمامين معتمد عند الحفاظ ووراد من جهات أخرى.
ومنكرو السنة المعاصرون لا يعلمون من اصول هذا الفن إلا صوراً شائهة ، ولو أنهم اطلعوا على بعض أمهات كتب الحديث ، مثل "توضيح الأفكار" لظهرت لهم قماءة أنفسهم ، وجهلهم بفنون السباحة والغوص في هذا الخضم العميق ، الذي لا شواطئ له. ولكن علوم الدين - الآن - اصبحت كلاً مباحاً لكل "من فك الخط" من الأميين الجلهة الذين يتركون ما يعرفون ، ويهرفون بما لا يعرفون ويدعون أنهم "تنويريون" مجددون.
(1/75)
________________________________________
رابعاً : إننا نحيلهم ليعرفوا لأنفسهم قدرها في مجال الحديث وعلومه ، إلى الفصل الضافي الذي عقده العلامة ابن حجر العسقلاني ، في دراسة عشرة أحاديث ومائة من الأحاديث التي انتقدت عند البخاري ، ومشاركة مسلم في تخريج اثنتين وثلاثين حديثاً منها ، ناقشها ودرسها حديثاً حديثاً ، مستعملاً في دراسته إياها قواعد نقد الحديث التي لا يعرف منكرو السنة عنها شيئاً.
إننا ندعوهم - ليرحموا أنفسهم بالسكوت - إلى الإطلاع على هذا الفصل ليبين لهم أنهم محرمون تماماً من أدوات السير في هذا الطريق ، وإلا فعليهم أن يقدموا للأمة نقداً علمياً دقيقاً لما يرونه موضوعاً للغربلة عند الإمامين البخاري ومسلم. أما هذا التهريج الذي دأبوا على نشره فهو بضاعة المهزومين.
* * *
(1/76)
________________________________________
الشبهة الثالثة عشرة السنة ليست وحياً ؟!
في هذه الشبهة يحاول منكرو السنة الحط من شأنها ، وتجريدها من خصائصها الدينية ، فهي عندهم مجرد كلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كلامه ليس فيه إلزام للأمة.
ويطعنون في الحديث الشريف : "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" ويعتمدون في طعنهم فيه على حديث النهي عن كتابة أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ، ويوقولن لو كانت السنة من عند الله لما نهى عن كتابتها النبي ، بل كان المتعين الأمر بكتابتها مثل القرآن تماماً.
ويقول بعضهم : لو كانت السنة وحياً من عند الله ما أهمل النبي تدوينها وكتابتها ، إلى أن يأتي البخاري ومسلم في القرن الثالث فيقوما بمهمة كان ينبغي أن يدعو إليها النبي نفسه في حياته.
كما يحرفون معنى قوله تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 3 ، 4]
يحرفون معناه ، لأن أنصار السنة يستدلون به على أن السنة التي صح صدورها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند الله. وإليك ما قالوه فذ هذا الشأن :
قال بعضهم : إن ما كان يقوم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هو وحي كله ، لقوله تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} والاستناد إلى هذه الآية الكريمة لا مسوغ له هنا ، فالضمير "هو" لا يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يعود بووضح - وحصرا - إلى الكتاب المنزل. [الكتاب والقرآن : 545] د/ محمد شحرور.
هذه خلاصة وجيزة لما قالوه حول تفريغ السنة من محتواها الديني ، باعتبارها شطر الرسالة الثاني بعد القرآن ، وتراهم في سبيل الوصول إلى هذه الآية.
(1/77)
________________________________________
ينتحلون الأساب الواهية ويتجرأون على إهدار قيمة النصوص ، التي تقف في طريقهم على النحو الذي رأيت.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
السنة التي استوفت شروط الصحة سنداً ومتناً لا ريب أنها كلام نطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه من مقومات الرسالة ، ومتصل بمهمة التبليغ ، التي من أجلها أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ليقيم على الناس الحجة ، وتتم عملية التكليف.
وما كان هذا شأنه فهو صادق كل الصدق ، والناس ملزمون به مثل إلزامهم بالقرآن سواء بسواء. إذ لا فرق بين أمر أو نهي طريقه القرآن ، وأمر ونهي طريقه السنة النبوية.
وهذا ما يفيده الحديث المشهور : "الأ وإني أوتيت القرآن ومثله معه".
فالمثلية بين القرآن ، وبين ما أو تيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست مثليه (الكم) - أعني العدد - وإنما هي مثلية (الكيف).
ليست مثلية العدد فيكون عدد الأحاديث النبوية مثل عدد آيات القرآن ، أو جُمَل مساوية لـ (جُمَل) القرآن) ولا ينبغي أن يخطر هذا المعنى على بال أحد.
وإنما هي مثلية (الكيف) ويمكن توضحيها في الآتي :
* مثلية "الحقية" فالقرآن حق لا باطل فيه ، والسنة حق لا باطل فيها.
* مثلية الطاعة والامتثال ، فتجب طاعة الرسول في ما أمر به أو نهى عنه.
وبعد هذا ليس مهماً عندنا أن يكون طريق السنة هو الوحي الحرفي ، أو الوحي المعنوي ، أو يكون طريقها الإلهام ، أو يكون طريقها الاجتهاد كما ذهب إلى هذا بعض العلماء ، وبالغ فيه منكرو السنة.
يكفينا أن السنة التي صح صدورها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كلام فخرج من فمه الطاهر ، أو فعل كان هو فاعله ، أو تقرير لفعل صدر من غيره فلم ينهه عنه وكان المراد بكل ذلك التبليغ عن الله - عز وجل -.
(1/78)
________________________________________
أقول يكفينا هذا ، ولا نتطلب شيئاً آخر بعده ، لأن به تقوم الحجة ، ويتضح المراد.
تحريف معنى الآية :
رأينا كيف حرّضف منكرو السنة معنر آية "النجم" وجزموا بأن {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وصف للقرآن وحده ، ولا تدخل السنة في هذا الوحي بحال ، ويقدح في هذا الجزم سياق الآيات :
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.
منكرو السنة فرَّقوا بين الضمير المستتر في "ينطق" وهو فاعل النطق فجعلوه للنبي أو أبقوه على دلالته الظاهرة - وهذا حق لا نزاع فيه - وبين الضمير الظاهر المنفصل في {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فجعلوا الضمير (هو) عائداً على القرآن وحده.
وهذا تعسف محض ؛ لأن القرآن لم يرد له ذكر هنا حتى يعود عليه الضمير ، ولأن لهذا الضمير مرجعاً في الآية قبله ، وهو "النطق" المفهوم من الفعل المضارع "ينطق" أي : وما نطقه - صلى الله عليه وسلم - إلا وحي يوحى. سواء في ذلك القرآن والسنة. ولأن المقام مقام ثناء وتزكية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. من طهارة قلب ، وصدق لسان.
وقد أكد الحق - عز وجل - هذا الثناء بالتوكيد القسمي {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}.
ثم نزه الله رسوله بعد ذلك فنفى عنه الضلال والغواية {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}.
ثم نفى تاثير أهواء النفس في قوله وحديثه (نطفه) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}. ثم حصر نطقه في كونه وحياً.
فمن اين فهم هؤلاء المرجفون أن الضمير في {إِنْ هُوَ} عائد على القرآن وحده ؟
(1/79)
________________________________________
إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان ينطق بالسنة كما ينطق بالقرآن ، فكان حرياً بهم - لو كانوا منصفين - أن يقولوا إن الضمير في {إِنْ هُوَ} شامل لما نطق به النبي كله ، سواء كان نطفه قرآنا ، أو سنة مراداً بها التبليغ عن الله - عز وجل - ، ولما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ينطق بالقرآن وبالسنة وقد سميت هذه السنة وحياكما تقدم ، فرَّق كثير من العلماء بين وحي القرآن ووحي السنة :
* فوحي القرآن ما كان باللفظ والمعنى ، ولا تجوز بحال روايته بالمعنى فحسب.
ووحي السنة ما كان بالمعنى ، واللفظ من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجوز روايتها عنه - عليه الصلاة والسلام - بالمعنى عند الضرورة. نطقاً لا كتابة.
* أو أن القرآن وحي جَلِىُّ ، والسنة وحي خَفِىٌ وكون السنة من عند الله ، بأي كيفية أعلم الله بها رسوله ، هذا المعنى يؤيده القرآن الحكيم مرة أخرى في قوله تعالى : {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء : 113].
فهل -بعد هذا - يكون لشبهة منكري السنة هذه رواج أو قبول ، عند ذوي العقول.
ولا يقدح في كون السنة وحي معنى لا وحي الفاظ ، أن بعض الأحاديث تختلف رواياتها بوضع لفظ مكان آخر أو بالزيادة والنقص ، أو بالتقديم والتأخير. لأن هذه "الاختلافات" إن كانت بسبب اختلاف السماع عن رسول الله ، فإن كل راو يروي ما سمع كما سمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فمرة نطق بهذا ، ومرة نطق بذاك حتى وإن ترتب على ذلك اختلاف المعنى.
وما أشبه هذه في السنة الصحيحة باختلاف القراءات في القرآن ، والقراءات الصحيحة كلها قرآن. ولا تقدح هذه القراءات في مصدرية القرآن ، وهو الوحي المتعبد بتلاوته.
* * *
(1/80)
________________________________________
الشبهة الرابعة عشرة نُدْرة الاستدلال بالحديث عن أبي حنيفة ؟!
الإمام أبو حنيفة النعمان - رضي الله عنه - ، أول الأئمة الأربعة الكبار ، أصحاب المذاهب الفقهية : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رضي الله عنهم -.
ولد بالكوفة عام (80 هـ) وتوفى ببغداد عام (150هـ) فهو رائد الفقه الإسلامي المذهبي.
وكان هذا الإمام العظيم له خصوم سياسيون ، هم الأمويون والعباسيون وكان له هو مواقف حازمة معهم من كثرة نقده لهم ، وبخاصة حول بعض الأمراء الأمويين ، وقد رفض الإمام أبو حنيفة منصب القضاء حين عرضوه عليه ، وأعتذر بأنه لا يصلح له ، كما كان يرفض هداياهم ، ويظهر تعففه عنها.
وإعمالاً بمبدأ الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، كان - رضي الله عنه - ينقذ في مجالسه العلمية الأحكام التي يصدرها بعض القضاة خطأ ، أو فيها شيء من الخطأ.
ومن أشهر مواقفه في هذا المجال نقده لقاضي القضاة ابن أبي ليلى في حكم جلدٍ نفذه خطأ.
والقصة بتمامها : أن امرأة مجنونة قالت لرجل : يا ابن الزانيين فأقام ابن أبي ليلى عليها الحد في المسجد ، وجلدها وهي قائمة. وجلدها مائة وستين جلدة ، لأنها قذفت أبا الرجل وأمه ؟ فبلغ ذلك أبا حنيفة ، فقال : أخطأ ابن أبي ليلة في هذه الواقعة في ستة مواضع :
* أقام الحد في المسجد ، والحدود لا تقام في المساجد.د
* وضربها وهي قائمة ، والنساء يضربن في الحدود قاعدات.
(1/81)
________________________________________
* وأقام عليها حدين ، أحدهما للأب ، والآخر للأم ، ولو أن رجلاً قذف جماعة فليس عليه إلا حد واحد.
* وجمع بين حدين في مجلس واحد ، والحدود لا يجمع بينها حتى يجف السابق منها.
* وأقام الحد والمقذوف غائب ، ولم يحضر ولم يدع (يرفع الدعوى).
* وأقام الحد على مجنونة ، والجنون يرفع المسئولية. هذه المواقف الجادة أكثرت من شدة الخصومة على الإمام أبي حنيفة وأشاع عنه خصومه ، وهو حي ، أنه يرفض الاستدلال بالحديث النبوي ، ويفتى في المسائل التي لم يجد لها دليلاً في القرآن ، يفتى فيها برأيه ولا يَعْمَل فيها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تصدى الإمام أبو حنيفة لهذه الافتراءات التي روجها خصومه ضده.
ومنكرو السنة وجدوا هذه الشبهة جاهزة ، فتلقفوها كما تتلقف "الجلالة" القاذورات من أكوام القمامة ثم أخذوا يعجنون منها ويخبزون ، ويبالغون فيها ويضيقون زعموا أن أبا حنيفة لم يكن يقبل من السنة إلا سبعة عشر حديثا وأن فقهه متأثر بالثقافة الفارسية الوثنية ، وهو فارسي الأصل ، والحنين إلى الأصل غريزة مركوزة في طباع الناس ، والهدف من هذه اللجاجة إلى العامة بأن السنة لا يثق في صحة رواياتها الإمام أبو حنيفة ، وهو ما من هو في الإمامة والريادة والفقه. فمن الضلال إذن اعتبار السنة مصدراً للتشريع في الإسلام ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
إن فيما تقدم جانبا كبيراً في تفنيد هذه الشبهة ونقضها فقد عاش الإمام ، وهو عالم ، أكثر من ثلاثين سنة في ظل الدولة الأموية ، وثماني عشرة سنة في ظل الدولة العباسية ، وقد ضيق عليه الأمويون الخناق ففر من دمشق عاصمة دولتهم إلى مكة المكرمة ، ثم عاد إلا بغداد لما آل الأمر إلى بني العباس ولكن تمسكه بالحق ، والانتصار له أنشأ بينه أمراء الدولة العباسية خصومة جديدة ، إلى درجة أن منعوه من الفتوى ودرس العلم ، وزجوا به إلى السجن في آخريات حياته
(1/82)
________________________________________
ولم يجد خصوم أبي حنيفة من السياسين والقضاة عيبا يسوئون به سمعته سوى أن يفتروا عليه بإعراضه عن السنة وإحلال الرأي محلها.
وقد دافع الإمام عن نفسه ، ورد على إدعاءات خصومه القدماء ردوداً مفحمة سجلتها الرواية الأمينة بكل إخلاص وصدق ، قال الإمام رحمة الله :
"كذب والله وافترى علينا من يقول : إننا نقدم القياس - يعني الرأي - على النص - يعني الحديث - وهل يحتاج بعد النص إلى قياس" ؟ (ينظر الميزان للشعراني : 51).
وقال : "نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة ، وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة ، أو أقضية الصحابة ، فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذ مسكوتاً عنه على منكوق به" (نفس المصدر السابق) هذا كلام إمام يقدر السنة حق قدرها ، ويجعلها تالية للقرآن في الاستدلال ، وإن إدعى خصومه عليه وأكثروا وكان يقول : "إنا نأخذ أولاً بكتاب الله ، ثم السنة ، ثم بأقصية الصحابة ، ونعمل بما أتفقوا عليه ، فإن أختلفوا قسنا حكماً على حكم ، بجامع العلة بين المسألتين ، حتى يتضح المعنى".
وكان يقول : "ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين ، بأبي وأمي - أي أفدي رسول الله بأبي وأمي - وليس لنا مخالفته. وما جاء عن أصحابه تخيرنا. وما جاء عن غيرهم - يعني التابعين - فهم رجال ونحن رجال".
وفي رواية أخرى : "زاحمناهم" يعني : لنا حق إبداء الرأي في المسألة معهم. إذن ، فما الذي يريده منكرو السنة من الإمام أبي حنيفة حتى يقلعوا عن الإفتراء عليه ، ويعرضوا عن إتخاذه منبع شبهة للطعن في سنة خاتم الأنبياء والمرسلين ؟!
إن الإمام أبا حنيفة لم يختلف عن بقية الأئمة الكبار أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة.
(1/83)
________________________________________
فأصول مذهبه هي أصول مذاهبهم المتفق عليها بينهم ، وهي على الترتيب : الكتاب - السنة - القياس - الإجماع. فعلام الإساءة إلى هذا الإمام العظيم ؟ وكيف يتخذ منه الضالون المضلون قدوة لهم في الإساءة إلى سنة رسول الله الكريم ؟!.
وقد فاتهم أن أحاديث رسول الله لم تكن قد جمعت جمعاً موسعاً مدروساً في حياة أبي حنيفة ، فكان - رضي الله عنه - إن أعرض عن اعتماد شيء من الأحاديث فإنه يريد التثبت والتأكد من صحته ، لا أنه يرفض السنة رفضاً مطلقاً.
وقد جهل هؤلاء الزنادقة أن لأبي حنيفة مسنداً في الحديث النبوي ، جمع فيه أكثر من خمسمائة حديث ، وهو مطبوع متداول ، ولكن العناد يصيب أهله بعمى حالك ، وإن كانوا يبصرون.
* * *
(1/84)
________________________________________
الشبهة الخامسة عشرة ضياع خمسمائة خطبة نبوية ؟!
هذه شبهة جديدة أملاها الشيطان على بعض منكري السنة المعاصرين ، ثم أخذ الآخرون يرددنها ويهولون من شأنها ظانين أنهم اكتشفوا معول هدم للسنة لم يعرفه من قبلهم أحد.
ومن صور التهويل عنوان طالعتنا به مجلة (روز اليوسف) في منتصف عمود من مقال لواحد من منكري السنة المعاصرين ، والعنوان كتب بشكل بارز لافت للنظر ، وهو : "التدوين الباطل أستبعد 500 خطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأسباب سياسية ؟!
والنظر العابر في هذا الكلام يريك أن منكري السنة وظفوا هذه الشبهة للاستدلال على أن رواية الحديث النبوي ينبغي أن لا يثق فيها أحد ، فقد كان تدوينها باطلاً ، بدليل أنه لر يرو لنا خطبة واحدة من خطب النبي التي ألقاها في المسلمين ؟!
فليس من المقصزد عند هؤلاء الماكرين مكر السوء أن يعاد النظر في الحديث النبوي (غربلته) للتمييز بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث المدونة - الآن - في كتب الحديث المعتمدة عند الأمة ، ليس هذا هو المراد ، ولن يكون ، بل مرادهم هو الحكم على جميع الأحاديث بالزيف والإفتراء.
فقد زعم كاتب روز اليوسف أن التدوين باطل اصلاً ، عرفوا هم هذا البطلان من خلال فرز ثان قاموا به بعد الفرز الأول لعلماء الحديث رواية ودراية.
ثم يتمادى في الوهم ، ويدعى أن سبب استعباد ألـ 500 خطبة النبوية كان لأسباب سياسية نجمت في عصر تدوين الحديث ، يعني عصر رجال القرن الثالث
(1/85)
________________________________________
ومنهم الإمامان البخاري ومسلم ويقول : لأن تلك الخطب المستبعدة كانت ضد نظم الحكم في الدولة العباسية. فما كان من الإمراء إلا أن اغروا رواة الحديث على استبعاد تلك الخطب الخمسمائة عن التدوين ؟! (ينظر روز اليوسف 10/4/1999م).
طبعاً ، منكرو السنة سعداء جداً بهذا الإختراع ، الذي لم يسبقهم إليه أحد على مدى التاريخ الإسلامي كله.
وسعداء أكثر لأنهم فهموا أنهم اوقعوا نصراء في حرج شديد زسدوا عليهم منافذ الدفاع ، وحبسوا في خندق حاجب للرؤية عازل للصوت. خانق للأنفاس.
ولم يدركوا أنهم هم الذين هووا إلى الحضيض ، ولفوا حول أعناقهم حبل الخزى ، ووضعوا فوق رءوسهم تاج الجهل. وهم لا يشعرون أو لا يعقلون.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
أنصار الباطل حين ينتشون باستنشاق رائحة الباطل الخبيثة تأخذهم حالة من الغيبوبة ، فلا يدرون ماذا يقولون ، وإذا قالوا وقعوا في (الهجر) وأضحكوا عليهم ومنهم طوب الأرض.
وهذه الشبهة واحدة من أفضح فضائحهم على الإطلاق ، وإن ظنوا أنهم فيها عباقرة ومغاوير.
ولعل القارئ يتساءل : من أين لهم هذه الإحصائية (500 خطبة) هو لم يقولوا من أين لهم ذلك ، لكن المتبادر إلى الذهن أهم قدَّروا خطب الجمعة التي كان يلقيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة المنورة بعد الهجرة (عشر سنوات) بواقع السنة في تقديرهم خمسون حطبة ونحن لا يدخل في حسابنا عدد الخطب وكيفية إحصائها ، ولكن الذي نركز عليه بيان الجهل المركب عندهم فرداً وجماعة ، لأن الجهل ملازم لهم في إنكارهم للسنة ، ملازمة الظل لمصدره.
(1/86)
________________________________________
أما مواجهتنا لهم في هذه الشبهة فتقوم على المحاور الآتية :
الأول : ونبدأ بتمهيد يتولد عنه سؤال :
التمهيد : إن الطريق الوحيد لمعرفتنا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو التدوين والرواية. فمت دٌوٌن فيها هو المعروف عندنا ولا طريق لنا لمعرفة ما لم يُدوَّن إن كان لد يُدَوَّن منها شيء.
هذه حقيقة لا ينكرها أحد ، ولا منكرو السنة ينكرونها بداهة.
السؤال : فمن أين إذن عرف منكرو السنة أن سبب استبعاد خطب النبي الـ (500) هو أن تلك الخطب كانت تتناقض مع نظم الحكم التي كانت سائدة في عصر التدوين.
إنهم يدعون أن تلك الخطب لم تُدوَّن ، يعني حجبت بألفاظها ومعانيها عن رؤية النور.
سلمنا لكم جدلاً - بهذا الإدعاء - ولكن الذي نريده منكم أن توضحوا لنا من أين ، وعلى أي أساس حكمتم على الخطب التي لم تدون بأنها كانت تناهض نظم الحكم ؟
هل اطلعتم عليها ؟ إن كنتم اطلعتم عليها الآن (القرن الخامس عشر الهجري) فهذ إذن مدَوَّنة فتسقط دعواكم (الساقطة) بطبيعتها.
وإذا لم تكونوا قد اطعلتم عليها جاريناكم جدلاً أنها لم تدون وسألناكم هل أنتهم تعلمون الغيب ، لذلك وصفتم بألسنتكم ما لم تره أعينكم ، ولم تسمعه آذانكم.
إنكم محاطون بالخيبة والخزي كيفما كان جوابكم على ما طرحناه عليكم من أسئلة.
إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، هذه قاعدة من قواعد العقل المسلَّمة عند كل العقلاء.
(1/87)
________________________________________
فإما أن تقروا بتدوين هذه الخطب فيسقط أصل دعواكم وإما أن تقروا بعدم اطلاعكم عليها فيسقط سبب داعوكم فماذا أنتم قائلون ؟.
ألستم معنا أن هذه فضيحة ، من أفضح فضائحكم ، أيها البهاليل العظام ؟
الثاني : خطب الرسول لم تستبعد عن التدوين :
إن ما أخذناه عليكم في المحور الأول هو ثلمة في العقل ، أعني أنكم أوتيتم من قِبَل عقولكم ، فكان خزي الخلل مضروباً عليكم من كل جهة.
أما ما نأخذه عليكم في هذه المحور (الثاني) فسببه الجهل بموضوع النزاع وهو خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أنتم تقولون أنها لم تدوَّن بسبب رفض الأمراء لها ، وطاعة علماء لهم في هذا الرفض ونحن نقول : هذه فرية فيها من الرعونة ، ما يحجب ضوء الشمس ونور القمر. وأقبح الجهل ما كان أرعن.
مصادر جمع وتدوين خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ليس من حق الجاهل بأمر أن يجعل جهله هو الفاصل في حقيقة ذلك الأمر ، وهذا ما وقع فيهو منكرو السنة المعاصرين. فإن جهلهم بتدوين خطب الرسول حملهم على القول الشنيع الذي تقدم ، وهو أن أكثر من خمسمائة خطبة نبوية لم يدونها رواة الحديث بأمر من حكام عصر التدوين ، لأن تلك الخطب ضد أنظمة الحكم التي كانت سائدة في عصر التدوين.
وهذا ادعاء كاذب بكل تصوراته ، فقد شمل التدوين الأمين خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ جمعت السنة مع مطلع القرن الثاني الهجري.
ولها الآن وجودان :
الأول : تدوين خطب النبي تدويناً مفرقاً ومبثوثاً في كتب الحديث والسيرة والتاريخ ، وبعض كتب الإعجاز القرآني. وهذا هم المصدر الأول للوقوف على خطبه عليه الصلاة والسلام.
(1/88)
________________________________________
الثاني : في العصر الحديث قام اثنان من علماء تونس بجمع خطب النبي في مصنفين متداولين.
الأول : للشيخ محمد خليل الخطيب بعنوان (إتحاف الآنام بخطب رسول الإسلام).
والثاني : وهو رسالة علمية جامعية بعنوان (خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -) جمعها وتبويبها ودراستها للدكتور عمر القطيطى التونسي.
وقد حرص على جمع تلك الخطب ، وتوثيقها علمياً ببيان المراجع التي ذكرتها ، وحققها تحقيقاً ممتازاً ، وقام تبويباً فنياً منتظماً. ثم وضع عليها دراسة فقهية وبلاغية لم يسبقه إليها أحد ، وتقع في أكثر من ستين ومائتى صفحة من القطع المتوسط|. ولم يقتصر على جمع الجمعة ، بل شمل عمله الخطب التي قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المناسبات المختلفة. كالعيدين ، والخسوف والكسوف.
وذكر المؤلف إمارات التمييز بين الخطب والأحاديث النبوية المجردة :
مثل : يا أيها الناس - وكان على المنبر ، حمد الله واثنى عليه ثم قال - كان رسول الله يخطب - كان على الصفا - كان على القصواء إلخ .... إلخ.
هذا ما جهله منكرو السنة ، الذين جعلوا من جهلهم إماماً يأتمون به ؟!.
فماذا يقولون بعد هذه الحقائق الناصعة ؟ ، هل ما يزالون يدعون أن خطباً خمسمائة أهملها التدوين الباطل لأسباب سياسية قاتل الله اللجاج. فإنه يورث أهله المهالك.
الثالث : ولجهلهم بمنهج البيان النبوي دَحْلٌ من جهة أخرى ورطهم في هذه الفضيحة الفاضحة :
لقد فهموا أن الرسول مثل خطباء العصر ، يرقى المنبر فلا تقل مدة الخطبه الواحدة عن نصف الساعة ، وقد تصل الساعة الكاملة ولما لم يجدوا هذا النوع في
(1/89)
________________________________________
كتب الحديث وغيرها قالوا : أن خطبه عليه السلام أضاعها التدوين الباطل لأسباب سياسية.
هذه مواجهة قصيرة لما اثاره منكرو السنة في هذه الشبهة مواجهة حاسمة ، قاطعة لدابر افتراءاتهم ، ونحن لا يهمنا أن يظل منكرو السنة بعد ذلك على مواقفهم المعادية لله ولرسوله الكريم أو يشوبوا إلى رشدهم ، فهم أحرار في ما يعتقدون. ولكن الذي يهمنا أن نكشف للعامة ولشباب الأمة جهل وعناد هؤلاء المكابرين ، أعداء الإسلام ، وأعداء الأمة ، والله من ورائهم محيط ، ولن يغلب باطلهم حقه. والله هو الغالب على أمره في الدنيا والآخرة.
* * *
(1/90)
________________________________________
الشبهة السادسة عشرة مصدر السنة ليس معصوماً ؟!
هذه الشبهة مما ردده منكرو السنة المعاصرون ، وعوَّلوا عليها كثيراً في النيل من السنة ، والطعن في أساسها ، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتراهم وهم يرددونها يحملون أطناناً من الحقد على من أرسله الله رحنة للعالمين ، وفي الوقت نفسه يحملون على المسلمين الموقرين للنبي - كما أمرهم الله - حملات أشبه ما تكون بذفرات المصدور ، أو تخليطات المحموم ، أو بذاءات المخمور يحملون على المسلمين لأنهم - في نظر هؤلاء الزنادقة - يقدسون النبي ويدعون له العصمة من الخطأ ، وهو بشر ، وكأنه إله ؟!
وليس لهم من سند يتكئون عليه في هذا المكر الخبيث إلا حديث تأبير النخل المعروف.
وقصته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على قوم نخلا لهم ، أي يضعون طلع الذكور في "أكمام الإناث" فأشار عليهم - صلى الله عليه وسلم - أنهم لو لم يفعلوه لا يضرهم ، فتركوه فشاص التمر ولم يكتمل نموه فعادوا إليه وأخبروه ، فقال : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" بالغ منكرو السنة في هذه "الواقعة" واتخذوا منها وليجة للتطاول البذئ على مقام الرسالة والرسول ، وجزموا بأن الرسول بشر يخطئ ويصيب كسائر البشر ، وأنه ليس معصوماً من الخطأ ولا مقدساً.
وقبل التصدي لهذه الحماقة نعرض بعض ما قاله منكرو السنة حول هذا الحديث في هذه الأيام وإليك ما قالوه.
(1/91)
________________________________________
ولو كان كل ما قال النبي أو صدر عنه من أفعال وحياً من السماء ، فماذا عن حادثة تأبير النخل ، ونهى النبي عن التأبير مما أدى إلى فساد المحصول ، وتعقيبه - صلى الله عليه وسلم - بالقول : "أنتم أعلم بشئون دنياكم" .... وإذا كان موحى من الله فهل كان الله ينلقض نفسه ؟ .... لقد كان قول النبي "أنتم أعلم بشئون دنياكم" أعتذاراً مهذباً بأدب نبوي ، عن خطأ بشري أرتكبه بنهيه عن تأبير النخل ، وفساد المحصول على أصحابه ، بكلام بشرى لا عصمة فيه عن الخطأ والسهو والنسيان ، لأن محمداً كان إنساناً لا إلهاً" (روز اليوسف 3/4/1999م).
هذا كلامهم ، وهم يتحدثون عن خاتم النبيين وكأن بينهم وبينه - صلى الله عليه وسلم - ثاراً يحاولون التشفي منه قاتلهم الله. مما ينبغي أن يدركه القارئ أن مرادهم بأن ما يصدر عن الرسول ليس وحياً ، هو نفي العصمة عنه ؛ لأنه بشر ، والبشر يخطئون ويصيبون. إذن فالرسول ليس معصوماً من الخطأ ، وحديث تأبير النخل ساقوه دليلاً على صحة دعواهم ، لا أنه هو الحديث الوحيد الذي قد أخطأ فيه. بل إن هذا الخطأ يسري - عندهم - على كل ما صدر عنه مما رواه الثقات من علماء الحديث. ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
إن هؤلاء الجهلة الأغمار ، أو الزنادقة الأشرار ، لا يتورعون في الإساءة إلى سنة الرسول الكريم عن اي شيء يقولون مهما كان من المنكر والزور.
وقد تصدى لهم من قبل العلامة المحقق الكبير أحمد محمد شاكر فقال فيهم ما نصه :
"هذا الحديث مما طنطن به ملحدو مصر ، وصنائع أوربة فيها من عبيد المستشرقين ، وتلامذة المبشرين ، فجعلوه اصلاً يحجون به أهل السنة وأنصارها ، وخدام الشريعة وحماتها ، وإذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من الشنة ، وأن ينكروا شريعة
(1/92)
________________________________________
من شرائع الإسلام في المعاملات وشئون الإجتماع وغيرها ... والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين ، ولا بالألوهية ، ولا بالرسالة ....".
الملاحدة الذين وصفهم الشيخ شاكر - هنا - كانوا يستدلون بهذا الحديث على أن كل شئون الدنيا لا تخضع لتوجيهات الإسلام ، وقد طوَّر منكرو السنة المعاصرون هذا الاستدلال ، وجعلوه مفيداً لنفي العصمة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والدعويان من وادٍ واحدن بيد أن دعوى المنكرين المعاصرين اشد قبحاً من دعوى سلفهم الذين تحدث عنهم الشيخ شاكر رحمه الله لأن منكري السنة المعاصرين يحاولون هدمها من الأساس كما قد رأيت في شبهاتهم المذكورة من قبل.
النبي معصوم وإن جحد الحاقدون :
أجمع علماء الأمة على أن الأنبياء معصومون في مجال التبليغ عن الله - عز وجل -. وجملة ما ذكروا عصمة الأنبياء عنه هي الأمور الآتية :
"كتمان الرسالة - الكذب في دعواها - الجهل بأي حكم أنزله الله عليهم - أو الشك فيه - أو التقصير في تبليغه. ظهور الشيطان لهم في صورة ملك - تلبيس الشيطان عليهم - أو تسلطه على خواطرهم - تعمد الكذب في الإخبار عن الله ، تعمد بيان أي حكم شرعي على خلاف ما أنزل إليهم ، سواء كان ذلك البيان بالقول ، أو بالفعل ، أو بالرضا والموافقة.
فذلك كله قد انعقد من أهل الشرائع على وجوب عصمة الأنبياء جميعاً منه" (ينظر حجية السنة : 96) د/ عبد الغني عبد الخالق دار الوفاء - القاهرة.
وهذه العصمة الواجبة لأنبياء في مجال التبليغ وعدم وقوع ما يخالفها منهم من قول أو فعل ، أو رضا ، ليست مقصورة على الوحي المنزل إليهم من ربهم ، بل هي عامة لكل ما يتصل بأصول الرسالة وفروعها وشئون التكليف.
(1/93)
________________________________________
والدليل الشرعي على ذلك متعدد ، ومنه الآيات التي أمر الله فيها بطاعة رسله واتباعهم إذ لو كانوا موضع تهمة أو خطأ أو سهو أو نسيان ما أمرنا الله بطاعتهم طاعة مطلقة ، هذا في شأن كل الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومما ورد في شأن رسولنا الكريمن الذي يتطاول عليه الآن المرجفون قوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] ومحال أن يكون الإخبار من الله غير مطابق للواقع ، لأنه حينئذ يكون الخبر كاذباً ، وكلام الله - عز وجل - صدق كله. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء : 122] وما أكثر الآيات المزكية للنبي ، الآمرة بطاعته طاعة مستقلة ، المادحة للذين آمنوا به واتبعوه.
وعصمة الأنبياء كما وجبت بإخبار الرشع وجبت باقرار العقل لأن رسل الله أمناء وحي الله ورسالاته ، وتصديقهم الجازم واجب ولو جاز - عقلاً - الخطأ عليهم في التبليغ عن الله ، لسرى الشك في أقوالهم وأفعالهم إلى كل ما بلغوه عن الله من وحي ومن غير وحي ، ولما أمكن تصديقهم تصديقاً جازماً ، ولفقدت الشرائع هيبتها ، وهذا محال في حكم العقل ، كما هو محال في لسان الشرع. هذا هو الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
هذه هي عقيدة المؤمنين الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم - أي بشك - كما جاء في الحديث الشريف.
فالذين ينفون العصمة عن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - تمهيداً لرد سنته وإبطالها - يرتكبون كبيرة ، وينكرون معلوماً من الدين بالضرورة ، ويقترفون إثماً عظيماً.
ليس في الحديث دليل :
وحديث تأبير النخل ، الذي توهموا أنه دليل لهم على نفي العصمة عن رسول الله ، ليس لهم فيه دليل ، بل هو دليل على جهلهم وعنادهم ، شعروا أو لم يشعروا. وإن خيبة الأمل ملازمة لهم في كيدهم للسنة وصاحبها ، والأمة جميعاً وويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون.
(1/94)
________________________________________
إن هذا الحديث لم يرد به النبي - صلى الله عليه وسلم - التبليغ عن الله ، ولا وضع قاعدة فقهية ، ولا بيان حكم شرعي ، وإنما هو رأي أبداه حول أمور تخضع للتجارب ، وعمل العقل ، فهو عليه السلام ، لم يُبعث خبيراً زراعياً ، ولا هذا من شأن الرسل والرسالات والأعمال الدنيوية البحتة لم ينزل الله فيها كتاباً ، ولم يرسل من أجلها رسلاً ، وإمما هي أمور يمارسها الإنسان بحرية ، وينتقل من تجربة إلى تجربة ويرصد النتائج ، ويختار الأصلح.
هذا هو مجال العقل والعلم التجريبي ، لا يتدخل فيه الشرع إلا فيما يتعلق بالحل والحرمة ، والجواز والكراهة.
يبين هذا كله قوله - صلى الله عليه وسلم - لما راجعه أصحاب النخل حين لم يكتمل لهم تمرهم بعد أن تركوا التأيير :
"إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر" رواه مسلم.
وفي رواية : "ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به" رواه مسلم.
وقد حدث شبيه بهذا في مناسبات أخرى ، مثلما حدث في غزوة بدر لما عسكر النبي بالجيش في موضع ، ثم انتقل منه إلى موضع آخر ، نزولاً على رأي بعض أصحابه.
ومثلما حدث في موادعة "غطفان" حين اقترح عليه السلام منحهم جزءاً من ثمار المدينة ، نظير ألا يكونوا ظهيراً للمشركين على أهل المدينة ، ثم رجع عنه نزولاً على رأي "السعدين" زعيمى الأوس والخزرج - رضي الله عنهم -.
هذا هو فقه هذه المسألة ، ومنه يظهر جلياً أن منكري السنة قد ضلوا وأضلوا في دعواهم نفي العصمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرددين مزاعم خصوم الإسلام من المبشرين الحاقدين والمستشرقين الحاسدين ، والعلمانيين الجاهلين. وسيذهب كيدهم ، ويبقى الحق شامخاً حتى قيام الساعة :
وهل يضر البحر أمسى زاخراً ... إن رمى فيه غلام بحجر ؟!
(1/95)
________________________________________
الشبهة السابعة عشرة الطعن في رواة السنة
دأب منكرو السنة على تلمس النقائص لرواة السنة النبوية من الصحابة والتابعين ، والصحابة هم وحدهم الذين روَوْا الحديث النبوي والأفعال والموافقات. فهم رجال الطبقة الأولى من الرواة ، سواء كانت الرواية عن السماع والرؤية المباشرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو روى من لم يسمع منهم من النبي مباشرة عن من سمع منه أو رأى.
والتابعون هو الذين نقلوا السنة عن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين. ولولا هؤلاء جميعاً ما وصلنا منها شيء قط لذلك نجد منكري السنة شديدى الحقد على الرواة جميعاً ، وهم يرسلون القول على عواهنه ، ويطلقون ألسنتهم في سيرتهم الطاهرة ليدنسوها ، من أجل الوصول إلى إسقاط السنة من عليائها لو استطاعوا ، وهيهات هيهات فالصحابة عندهم غير عدول ، يعني لا يوثق في قولهم ولا في فعلهم ، ويدعون أنهم كان يطعن بعضهم في بعض ، وأن منهم الخزنة والمنافقين ؟.
ويلوم منكرو السنة المسلمين لأنهم اتخذوا الصحابة قدوة حسنة ، ونسوا - يعني المسلمين - ما قاله القرآن في الصحابة ، من ذم ونقد وتعنيف ؟!.
أما التابعون ، فقد رأينا كبار كهنة منكري السنة يتهمونهم بأنهم هم الذين زوَّروا الأحاديث النبوية ونسيوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكأنها أقواله وأدخلوا الغش على الناس ، وجعلوا هم والفقهاء السنة مصدراً ثانياً للتشريع في الإسلام بعد القرآن ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
عدالة الصحابة جميعاً أمر متفق عليه بين المسلمين ، إلا ما كان من أصحاب الأهواء من الفرق الكلامية والسياسية وهؤلاء هم الذين مهدوا الطريق للمبشرين
(1/96)
________________________________________
والمستشرقين وأعداء السنة النبوية للقدح في الصحابة رواة الحديث والسنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما اتخذوا من تشدد عمر في قبول الحديث الذي رواه واحد من الصحابة حتى يشهد معه راو آخر ، ومن تصحيح أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حديثاً سمعته من ابن عمر سها في حفظه على الصورة التي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها.
وكذلك النقد الخفيف الذي علق به ابن عمر على حديث سمعه من أبي هريرة.
اتخذوا من كل ذلك وسيلة لتهويل ما حدث ، على أن بعض الصحابة كان يُكذَّب البعض الآخر.
وقد قال أنس - رضي الله عنه - لما أفشى بعض الفرق مقولة أن الصحابة كان يكذب بعضهم بعضاً ، قال : "لم يكن بعضنا يعضاً".
ويقول البراء بن عازب - رضي الله عنه - مؤكداً ثقة الصحابة بعضهم في بعض وأنهم كانوا يتداولون سماع الحديث فيما بينهم "ما كل الأحاديث سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يحدثنا أصحابه عنه".
يعني لم يسمع كل صحابى كل حديث قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان من سمع منه حديثاً يحدَّث به من لم يسمعه منه مباشرة ، وسماع الصحابة وروايتهم بعضهم عن بعض ، لا حصر له في كتب الحديث المعروفة بين المسلمين.
ويقول الذهبي في عدالة الصحابة : "فأما الصحابة - رضي الله عنهم - فبساطهم مطوى .... إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل ، وبه ندين الله تعالى" الرواة الثقات [4].
وقال الحافظ ابن كثير :
"والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة ...." وقول المعتزلة : "الصحابة عدول إلا من قاتل علياً" قول باطل.
(1/97)
________________________________________
وقال : وأما طوائف الروافض وجهلهم ، وقلة عقلهم ، ودعاويهم أن الصحابة كلهم كفروا إلا سبعة عشر صحابياً فهو من الهذيان" (اختصار علوم الحديث : 220 - 222) أقول : إن الصحابة كلهم عدول بشهادة الله لهم وشهادة الرسول الكريم.
وكذلك التابعون لهم بإحسان ، وبعد الذي قدمناه نختم الدفاع بشهادة الله ، وشهادة رسوله ، وكفى بذلك فضلاً من الله ونعمه :
أما شهادة الله فنكتفي منهابما يأتي :
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 100]
فهذه شهادة وتزكية غالية من الله - عز وجل - للصحابة والتابعين معاً. رجال خير القرون في أمة الإسلام فماذا يقول منكرو السنة الحاقدون في من أثنى الله عليه هذا الثناء. والله لا يحابي أحداً ، ولا يقول إلا الصدث فقد رضى عنهم ، ورضوا عنه... وذلك هو الفوز العظيم.
وقال - عز وجل - : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح : 29]
وهذه شهادة وتزكية خاصة بالصحابة - رضي الله عنهم - أما شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما أكثر ما ورد فيها ، وحسبنا منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : {خير الرقون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم...." رواه الشيخان - رضي الله عنهما -.
(1/98)
________________________________________
وخير القرون الثلاثة هو قرنه - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه عاش أصحابه الأبرار ، وبهم صار خير القرون.
هذا هو الحق ، ولكن مكنري السنة يريدون أن يخلطوا بين سيرة الصحابة ، البررة ، وسيرة المنافقين ، فيجعلون المنافقين من الأصحاب ، ويئبتون لهم الخيانة. والمنافقون كفرة وإن أظهورا الإيمان. فسقة وإن تظاهروا بالتقوى.
وما نخال أن هذه الحقائق تغيب عن منكري السنة ولكن العناد والمكر السيء هو الذي ران على قلوبهم فقست ، وغشى أبصارهم فعميت ، ولله في خلقه شئون.
* * *
(1/99)
________________________________________
الشبهة الثامنة عشرة أُمّية أبي هريرة ، وتأخر إسلامه
من كره شيئاً كره كل ماله صله به ، ويكون أكثرهم صلة بذلك الشيء المكروه أكثرهم كرهاً عند الكاره لذلك الشيء ، هذا طبع مغروز في النفس البشرية ، وما بالطبع لا يتخلف.
وأبو هريرة - رضي الله عنه - أكثر اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية للحديث النبوي سماعاً مباشراً من فم النبي الصادق المصدوق (روى أكثر من خمسة آلاف حديث) ومنكرو السنة يكرهون حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك كان الصحابي الجليل أبو هريرة أكثر الرواة كراهية عندهم ، لأنه نقل من السلاح الذي يرهبونه خمسة آلاف قذيفة ، وتزيد. فأخذوا يصوبون سهامهم نحو هذا الرجل العظيم كي يصيبوه في مقتل ، ويبطلوا بإصابته مفعول القذائف التي يحملها.
وكان قصارى ما وجهوه إليه من عيوب :
* أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
* إن إسلامه إلى ما بعد خيبر في العام السابع الهجري.
* أنه كان عرضه لطعن الصحابة فيه ، وردهم لروايته.
* أنه "وضَّاعٌ" للحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* أنه كان مريضاً بالصرع ، خفيف العقل ؟!
والهدف من هذه الانتقاضات - عندهم - إسقاط أكثر الرواة سماعاً عن النبي - عليه السلام - ليسرى هذا "الإسقاط" من الراوي إلى "المروي" وهو المطلوب.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
كان أول سهام النقد والطعن في أبي هريرة هم المستشرقون وبخاصة جولد
(1/100)
________________________________________
زيهر اليهودي الأصل. ثم نحا نحوه الأستاذ أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" في المبحث الذي كتبه عن الحديث النبوي ثم أبو رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية ، ثم حملة الأقلام المأجورة التي تكتب في الصحف (الجديدة) والمجلات في هذه الأيام في ظل النظام العالمي الجديد (العولمة) الذي ترعاه أمريكا وحلفاؤها ونسير في تفنيد هذه الشبهة ونقضها على الركائز الآتية :
ما ذكروه من أمية أبي هريرة ، ليس نقصاً في الرجل ، فقد كانت الأمية هي طابع العرب قبل الإسلام ، واستمر وجودها بعد الإسلام إلى فترة ما وهذه الأمية كانت من تدبير الله الحكيم لأمرين :
الأول : اعتماد العرب على الذاكرة ، فبلغوه في الحفظ الذهني لبعض المعارف كالأنساب ، والشعر ، وايام العرب مبلغاً لم تبلغه أمة سواهم ، لأن الحفظ الذهني كان وسيلتهم الغالية على ضبط واستحضار ما يحتاجون إليه في حياتهم والملكات النفسية تنمو بالممارسة.
ولو كان العرب يقرأون ويكتبون لضعفت عندهم هذه الملكة ، والشواهد على ذلك كثيرة.
فمن يتعود القراءة بالنظارة يعجز عن قراءة كلمة واحدة بدونها ، والذي يتعاطى مهدئاً لينام ويصبح له هذا التعاطي عادة ، لا يذوق النوم بدونه مهما طال السهر.
والذي لا ينتقل أبداً إلا بركوب السيارة يعجز عن السير على قدميه أو يعاني من المشي مهما كان جسمه قوياً.
إن العرب كانت موهبتهم (المعروفة) هي قوة الذاكرة والحفظ ، فكانوا خزائن معرفة تتحرك على الأرض.
الثاني : وفي تلك الأمية خدمة لقضية الإعجاز القرآني ، وقطع لألسنة الحقد ، إذ لو كان العرب يقرأون ويكتبون لكان قول خصوم الدعوة في تحديد
(1/101)
________________________________________
مصدر بشري للقرآن "إنما يعلمه بشر" شبهة تقوي هذا الزعم ؛ لأن نبوغ فرد من أمة ذات حضارة علمية ظاهرة لا ينازع فيه ، فقد أراد الله - عز وجل - أن يهيئ الأسباب لتلك الأمة الأمية فيعلم هو احداً منهم ليعلمهم مما علمه الله.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة : 129]
لقد أراد الله لهذه الأمة التي أخرجها من العدم خير أمة للناس أراد أن يكون هو معلمها ومعلم رسولها ، فلم تكن أمة ذات حضارة موروثة عن الآباء والأجداد ، بل أمة وليدة ، ولدت معها حضارتها السامية بوحي من السماء ، لا من مناجم الأرض وكنوزها.
أمة هي معجزة لله وحده في تعليمها وتزكيتها ، إنها من صُنْع الله لا من صنع أحد سواه :
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة : 2].
وأمية أبي هريرة أعلم من حملة الدرجات العلمية الحديثة وإن بلغوا الذرة في معارف العصر ، التي إن رفعت الجهل عن حامها من جانب ، لن ترفع "الجهالة" عنه من عدة جوانب.
وما الذي يعين ابا هريرة وقد وهبه الله ذاكرة واعية حافظة استوعبت خمسة آلاف حديث ، وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً وقد رزقه الله روحاً فقهية مع هذا الكم الهائل من مصابيح الهدى النبوي.
* أما تأخر إسلامه فلا عيب فيه ، العيب كان ألا يُسلم ، وقد أسلم وحسن إسلامه ، فكان من شيوخ العلم وشيوخ العبادة في آن واحد ، كريم القلب واليد مع قلة ما كان يملك ، والله - عز وجل - يقبل التوبة المخلصة من عبادة في أي حين تصعد تلك التوبة إلى الله.
(1/102)
________________________________________
وبإسلامه أبي هريرة بدل الله كل سيئاته حال كفره حسنات وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، وهو القائل في محكم كتابه :
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان : 70]
وهم يستكثرون أن يروى أبو هريرة عن الرسول هذا القدر من الحديث في أربع سنوات فقط صاحبه فيها ، ويريدون من هذا أن يقولوا : إنه نسب إلى النبي ما لم يقله أو يسمعه منه ، ومنكرو السنة ، حين يتهمون أبا هريرة هذا الإتهام ، بفصلون أنفسهم عن الواقع المعروف في حياة أبي هريرة ، فكان الرجل مصاحباً لرسول الله خارج بيوته ، حريصاً على السماع منه بل كان ملازماً له ، لأنه كان فقيراً لا يملك قوت يومه ، وكان في ملازمته للرسول - صلى الله عليه وسلم - مخرج له من الحرمان والجوع.
على أن هذه الكثرة المروية عن أبي هريرة من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قوبلت بعدد أيام السنين الأربع التي عاشها مسلماً في صحبة النبي كان متوسط اليوم الواحد أربعة أحاديث ، وليس في هذا غرابة يلام عليها أبو هريرة ، ويتهم بالكذب على رسول الله الكريم من أجلها.
* ولم يكن أبو هريرة عرضة لطعن الصحابة فيه ، ولا رد حديثه أحدٌ منهم ، كما يدعي المستشرقون وأذيالهم من منكري السنة في مصر الآن ، بل إن هؤلاء الصحابة الكرام ، أكثروا من الثناء على أبي هريرة ، وقالوا فيه ما لم يقولوه في أحد سواه.
قال طلحة بن عبيد الله : " لا أشك أن ابا هريرة سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع".
وقال ابن عباس : "أبو هريرة خير مني وأعلم مني بما يحدث".
وقال الإمام الشافعي : "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".
(1/103)
________________________________________
وقال الحاكم : كان أبو هريرة من أحفظ اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد روى أبو هريرة ما لم يسمعه هو من رسول الله عن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد - رضي الله عنهم - وروى عنه من الصحابة جماعة. منهم ابن عمر وجابر وابن عباس - رضي الله عنهم-. وجملة من روى عنه من الصحابة والتابعين ثمانمائة راوٍ.
فهو - إذن - موضع إجلال وتقدير من الصحابة والتابعين معاً فهل يكون رجل هذه منزلته عند خير رجالات الرعيل الأول موضع طعن وريبة ؟
ومن أين استقى المستشرقون هذه المعلومات عن أبي هريرة ، ولم تكن لهم مراجع غير المراجع العربية الإسلامية ، ولم تخْلُ هذه المراجع من الطعن فب أبي هريرة فحسب ، بل هي عامرة بالثناء عليه ، وعلى دوره في رواية الحديث النبوي أليس هذا هو الكذب الصريح ؟
وإذا كان للمستشرقين عذر في حقدهم على أبي هريرة ، لأنهم خصوم الداء الإسلام ، فكيف يكون العذر لمن يدعون أنهم حماة الإسلام ، الغيورون عليه ، الحريصون على تنقيته من الفكر الخرافي الزائف.
وإذا كانوا يرون السنة فكراً خرافياً فعليهم أن يعلنوا عما في بواطنهم صراحة ويريحونا ويريحوا أنفسهم من اللت والعجن ، واللف والدوران ؟!
* أما رد حديث أبي هريرة من إخوانه الصحابة فلم يحدث قط ، وما حدث من عبد الله بن عمر ، وابن عباس فر مراجعة أبي هريرة ظاهرة طيبة تحمد للصحابة فهم يتذاكرون الحديث ، ويذكر الحافظ الناسي ، واليقظ الغافل.
وقد ثبت أن عمر - رضي الله عنه - راجعه مرة ، فذكر له أبو هريرة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
: من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" فأذن له عمر بالتحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(1/104)
________________________________________
وما يروى من منعه أو ضربه على كثرة التحديث فهذا لا يثبت ، وخصوم أبو هريرة القدامى أهل للتزيد عليه ، وخصومه المعاصرون أشد إغراماً في الحط من قدره من اسلافهم الأقدمين.
ونضيف إلى ما تقدم أن لا غرابة في حفظ أبي هريرة لخمسة آلاف حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الرسول أوتى جوامع الكلم ، وأحاديثه قصيرة المبنى غزيرة المعنى. فقد يكون الحديث جملة واحدة ، مثل "لاتغضب" أو جملتين مثل : "اعقلها وتوكل". وبعضها متوسط الطول ، وقليلها طويل ، ومحفوظ أبي هريرة جمع بين المستويات الثلاثة إلى ما في الحديث من نرو النبوة وبلاغة الكلام التي تجعل حفظه ميسوراً.
* أما اتهام أبي هريرة بالصرع وخفة العقل ، فهذا رجم بالغيب ، ووسوسة شيطان ، ليس لها من الواقع سند ، وإن وضعوا الأرض موضع السماء ، فهل جولد زيهر ومنكرو المعاصرون عاصروا الرجل ، فرأوه يصرع ويهذى ويبهلل كما يبهللون هم الآن ؟
هل حملوه في نوبات الصرع وذهبوا به إلى مصحة ، وأوقعوا عليه الكشف الطبي وفحصوه ، فوجدوه مصاباً بالصرع وخفة العقل ؟
إن المعروف أن أبا هريرة كان كثيراً ما يتلوى من الجوع ، ويصيبه دوار طارئ - كما تحدث هو عن نفسه - فإذا طعم عاد إليه وعيه وشدة توقده الذهني.
استسمن المستشرقون ورم هذه الرواية فكبروها وهولوا من شأنها ، وجعلوها صرعاً قاتلا ، وخفة عقل مزرية.
ولا عجب ، فقد رمى المبشرون وتلامذتهم المستشرقون من هو أعلى مقاما ، وأجل شأناً من أبي هريرة بهذه العيوب ؟
رموا بها النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، حين كان يأتيه الوحي من السماء فيقبل عليه بكل مشاعره وحواسه ليتلقى القرآن من لدن حكيم حميد.
(1/105)
________________________________________
فإذا انقضى الوحي عاد فأملى من حوله من كتبة الوحي ما أنزله عليه ربه.
فبم فسر المبشرون والمستشرقون هذه الحالة ؟ فسروها بالصرع أو المرض العضوي الذي يصيب بعض الناس فيفقدهم الوعي الظاهر والباطن ، أو الوعي الخارجي والداخلي. هذا ما قالوه في شأن ضاحب الرسالة العظمى. [ينظر : الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي].
ونسأل منكري السنة : هل أنتم مع المستشرقون في وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - بالصرع ؟ إن كنتم معهم فلا كلام لنا معكم وإن كنتم لستم معهم فكذلك ينبغي أن تكونوا في تبرئة أبي هريرة. وإنه لمطلب عزيز المنال ؟
* * *
تعليق المستخدم :ذ
(1/106)
________________________________________
الشبهة التاسعة عشرة نقد السند دون المتن
السند هو سلسلة الرواة الذين روَرْا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمتن هو الكلام المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويبدأ السند من الرواي الذي سمع الرسول يتحدث بحديث في التبليغ عن الله ، ثم الذي سمعه منه - من السامع الأول - ثم الذي سمعه من السامع الثاني وهكذا حتى المنتهى.
وقد تكون الرواية رؤية بصرية لفعل فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو سكوتاً منه عن فعل فعله صحابي أمام الرسول فلم ينهه عنه ، فيكون ذلك السكوت دالاً على إباحة ذلك الفعل لفاعله ولغيره.
وهذه هي السنة بأقسامها الثلاثة :
* الأقوال الصادرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* الأفعال الواقعة منه.
* التقريرات السكوتية عما قيل أو فُعل في حضرته عليه السلام ، وعلماء الحديث لما نشطوا لجع الأحاديث والسنن ، بعد رغبة الراشد عمر بن عبد العزيز في ذلك ، وضعواً شروطاً حكيمة لمن تقبل رواياتهم. ولمن ترد رواياتهم ، وبذلوا في هذا المجال جهوداً مضنية ، وفحصوا أحوال الرواة فحصاً دقيقاً ، تطمئن إليه النفس ، ويستريح القلب كل هذا تم من خلال "علوم الجرح والتعديل" ومعنى الجرح الوقوف على "النقائص" التي تمنع من قبول رواية الرواة ومعنى التعديل الثناء على الرواة الذين تتوفر فيهم شروط قبول الرواية ، وعلوم الجرح والتعديل ، أو الذم والتزكية من أعم علوم الحديث ، وأعلاها شأناً. وقد نتج عنها عمل قوائم للرواة ، كما نتج عنها تقسيم الوراة "طبقات" بينها تفاوت في الدرجات ، سواء في ذلك المجرَّحين والمعدَّلين ، كما وُضِع المعدلون في درجات ؛
(1/107)
________________________________________
والمجرحون في درجات ، إذ ليس كل المعدلين في درجة واحدة ، ولا كل المجرَّحين في درجة واحدة.
وإذا غضضنا النظر عن المجرحين بدرجاتهم ، ووقفنا وقفة قصيرة أمام المعدلين فإننا نستطيع أن نقول : إنهم عند علماء الحديث ضربان :
* الأقوياء أو الثقات.
* الضعفاء.
ولو يرو الحديث أي حديث عن غير هذين الفريقين ، وما أكثر الألقاب التي أطلقوها على أفراد هؤلاء الذين قبلوا روايتهم ، مثل :
صدوق ، ثقة ، لا بأٍ بحديثه ، مقبول... إلخ.
أما غير هذين الفريقين فهم "الوضاعون" والمتروكون ، كل هذا - وغيره كثير - نتج عن نقد "السند" أو سلسلة الرواة.
وقد هال منكري السنة ما رأوه أو سمعوا عنه من الجهود الجبارة التي قام بها علماء الحديث لنقد السند ، وبدل من أن يعظموا هذا الجهد ، ويتخذوا منه مدخلاً للإقرار بالسنة ، عكسوا الوضع فاتخذوه مسبة قادحة في السنة ، وخطط لهم الشيطان ليجعلوا الأبيض أسود ، والحق باطلاً ، فقالوا :
إن علماء الحديث اهتموا بنقد السند ، وأهملوا نقد المتن ، وهم الأهم ؟ لأن المعاني في المتون ، وليس في الأسانيد.
والهدف الذي يريدون الوصول إليه هو الطعن في متون الأحاديث ، أي الطعن في كلام النبي نفسه ، ثم في أفعاله ، ثم في موافقاته ، على ما وقع في حضرته من أفعال أو أقوال.
ومسلك هذا ال
عن عندهم أن الأحاديث المروية عن الرسول ما تزال في حاجة إلى نقد (غربلة) لأن علماء الحديث لو يقوموا بهذه المهمة ، ولم يميزوا بين الحديث السليم ، والحديث الدخيل ، فلابد من إاعدة النظر فيها لنبقى الصالح منها ، ونلغي غير الصالح ؟ يعني أن السنة ما زالت غُفْلاً فيها باطل مجهول.
(1/108)
________________________________________
تفنيد هذه البشهة ونقضها :
اعتناء علماء الحديث بنقد السنة نقداً دقيقاً واسعاً حقيقة لا يماري فيها أحد. وآثارهم تشهد بذلك الإهتمام أما نقد المتن فلم يبلغ عشر معشار نقد السند ، وهذه حقيقة ، لا يماري فيها أحد كذلك.
ففي نقد السند تتبعوا الرواة واحداً واحداً ، حتى لكأنهم كانوا يرونهم رأي العين.
أما في نقد المتن ، فقد وضعوا قواعد كلية ضابطة يمكن بمراعاتها معرفة الحديث المقبول ، ومعرفة الحديث المردود. فهم - أعني علماء الحديث - لم يهملوا نقد المتن كلية ، بل لهم فيه عمل حكيم محمود ، وإن جحده الجاحدون فليس ما تقدم موضع جدل عندنا ، وإن كان كلام منكري السنة يوهم بأن علماء الجديث لم ينقدوا المتون أي نقد واسعاً أو ضيقاً.
لكن هل يؤاخذ علماء الحديث على هذا لاسلوك ؟ وهل عدم التوسع في نقد المتون دليل على أن الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضاعة مغشوشة ، يجب اطراحها ونزع الثقة عنها ؟!
وفي الرد على هذين السؤالين نقول في إيجاز شديد :
لا يؤاخذ علماء الحديث على توسعهم في نقد السانيد ، وقلته في نقد المتون ، لأن لكل من الأمرين ما يقتضيه.
لأن النقد الأول موضوعه الرجال الذين تسلسلت الرواية عنهم ، وهم لا يحصوزن عدداً ، فالحديث الواحد يكون في سنده عشرة رجال أو أقل أو أكثر.
ولابد من فحص كل واحد منهم فإذا فرضنا أن (أ) كتب مصنفاً في الحديث خرَّج فيه ألف حديث ، وكان متوسط السند خمسة رواة في كل حديث فمعنى ها أنه لابد أن يكون لدية دراية بسيرة خمسة آلاف رجل. وليس هذا بالأمر السهل اليسير ، ومعرفة سيرة هؤلاء الرواة كلهم ضرورة لابد منها لتوثيق الحديث المروي ، ومعرفة لقبه :
(1/109)
________________________________________
صحيح - حسن - ضعيف - موضوع. ونقد السند هو في حقيقة الأمر خادم لمتن الحديث ، ولولا خدمة الحديث نفسه ما كان نقد السند ، فالأمران متصلان لا منفصلان ، وإن غابت هذه البدائه عن منكري السنة أجمعين.
نقد السند أولى :
وعلى نقيض ما يدعى منكرو السنة وأعداؤها. من رمي علماء الحديث بالقصور في الإهتمام بنقد السند دون نقد المتن ، فإن علماء الحديث كانوا موفقين كل التوفيق من الله في ما صنعوا لأن نقد السند أولى من نقد المتن.
فقد عرفنا أن نقد السند موضوعه أخبار وسير الرواة ، وهي أمور مخبوءة ، لأنها أسرار حياتهم وسلوكياتهم ، فذكر الراوي في الحديث لا يكشف عن سيرته ، ولا يُحدَّث عن أخباره ، فكان تتبع هذه السير والأخبار والأسرار ضروريا في توثيق الحديث والسنن.
ونحن - الآن - إذا قرأنا حديثا بسنده ، وعرفنا أسماء الرواة لا تتضح لنا من رسم أسمائهم أخبارهم وسيرهم التي كانوا عليها وهم أحياء ، وكفانا هذا كتب الجرح والتعديل ، وما قاله علماء النقد في كل راوٍ منهم.
أما متن الحديث فهو يحمل في طياته أخباره ومعانيه. وفي استطاعة أهل العلم أن يعرفوا الحديث المقبول من الحديث المردود النظر العابر في معناه ومضمونه ، فمثلاً ما يروى في الموضوعات على أنه حديث مثل :
"النظر إلى الوجه الجميل عبادة" ندرك ببديهة النظر أنه مكذوب موضوع لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان سنده من أصح الأسانيد : مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا.
فالمتن يحمل معه مقتضيات الحكم عليه دون السند ، ولو كان علماء الحديث قد عكسوا فتوسعوا في نقد المتن واقتصدوا في نقد السند لكانوا فعلاً أهلاً للمؤاخذه واللوم.
(1/110)
________________________________________
نقد المتون :
جارينا منكري السنة على أن علماء الحديث تركوا النقد التفصيلي للمتون ، بل إن الشائع عند الدارسين من غير منكري السنة هو هذا القول :
علماء الحديث لم ينقدوا المتون نقداً تفصلياً ، بل وضعوا لها أمارات وعلامات كلية ، يعرف بها المتن السليم من العليل.
لكننا نرى إضافة إلى هذا الفهم ، أن علماء الحديث لهم عمل آخر في نقد المتون :
هو أن الأحاديث السليمة متونها يذكرونها دون إبداء اية ملاحظات عليها. وهذا معناه أن متون هذه الأحاديث بريئة من النقد والمؤاخذات. فهو نقد إيجابي صامت كما في البخاري ومسلم ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي.
أما الأمارات والضوابط التي وضعوها لنقد المتون فهي موضوعة لغير الثقات من جامعي الأحاديث ، أي للكتب التي تجمع الأحاديث بدون تمحيص. فهذه الكتب ، التي لم تحظ من جامعيها بعناية فائقة. أو ما يروى في كتب التفسير والفقه - أحياناً - فإن هذه القواعد مفيدة لمن يطالع فيها حتى يسهل عليه معرفة ما ليس بحديث.
وبهذا تندفع هذه الشبهة التي هوَّل من شأنها منكرو السنة. وقد ظهر لنا بكل وضوح أن ترك نقد المتن فرداً فرداً ليس معناه بطلان تلك المتون ، أو شيوع الشك في صدقها. والصواب هو ما صنعه علماء الحديث ، لا ما أخذه عليهم منكرو السنة الأغرار.
* * *
(1/111)
________________________________________
الشبهة العشرون ندرة المتواتر في السنة
تقدمت الإشارة إلى أن علماء الحديث من تقسيماتهم له باعتبار كثرة الرواة وقلتهم في الرواية الواحدة ، التقسيم الثنائي الآتي :
* الحديث المتواتر ، وهو ما رواه جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب من أول حلقة في السند إلى آخر حلقه وما بينهما.
* حديث الآحاد ، وهو ما رواه واحد فأكثر ولم يبلغ رواته في الكثرة مبلغ كثرة رواة المتواتر.
والمعروف عندهم أن المتواتر يفيد اليقين من جيث ثبوت الخبر المروي فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أما الحديث الأحادي فالمشهور عندهم أنه يفيد الظن ، وقد ذهب بعضهم إلى أنه يفيد العلم إذا سلم من العلل والقوادح وكذلك من المعروف عند أهل العلم أن الحديث المتواتر قليل في نفسه ، وقليل باعتبار الحديث الآحادي والتنظير بينهما هذه بدهيات في علوم الحديث.
وما كان لمنكري السنة أن يغفلوا عن هذه البدهيات ، أو يقفوا منها موقف علماء الأمة ويبقونها في نطاق دلالاتها بل سارعوا إليها ليتخذوها سلاحاً يشهرونه في وجه السنة أو معولاً يهدمون به أوصلها وفروعها.
فادعوا أن الأحاديث المتواترة لا تزيد على سبعة عشر حديثاً ويبالغ بعض منهم فيدعى أن المتواتر منها حديث واحد ، هو :
"من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" أما ما عداه من أحاديث فهي كلها أحاديث آحاد ؟!
(1/112)
________________________________________
ومن العجيب أن بعضهم يذهب إلى الضد فيتهم هذا الحديث بأنه موضوع ومكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!
ويرتبون على هذا أن السنة لا تصلح أن تكون مصدراً للتشريع ، لعدم الثقة فيها ، وضعف سندها ؟!
تفنيد هيه الشبهة ونقضها :
هذه الشبهة لا مساس لها من بعيد أو من قريب بصحة مصدرية السنة للتشريع ، ونوضح ذلك في الخطوات التالية ، بادئين بمغالطاتهم في قضية التواتر :
* ليس المتواتر قليلاً إلى الحد الذي ذكروه (سبعة عشر حديثاً ، أو حديث واحد) فهذا جها منهم بحقيقة التواتر الاصطلاحي ، أو عناد ومكابرة.
وذلك لأن علماء هذا الفن (علماء الحديث) قسموا الحديث المتواتر قسمين :
الأول : المتواتر اللفظي ، وهو الحديث الواحد الذي يرويه جمع يستحيل نواطؤاهم على الكذب ، يرويه ذلك الجمع بلفظه ومعناه كحديث رقع اليدين في الصلاة ، وحديث المسح على الخفين.
الثاني : الحديث المتواتر تواتراً معنوياً لا لفظياً ، كحديث رفع اليدين في الدعاء. فقد روى فيه نحو مائة حديث في هذا المعنى. مختلفة ألفاظها ، ومعناها واحد.
وقد وضع العلماء مصنفات في المتواتر اللفظي ، بلغت عند بعضهم مائة وعشرة أحاديث. وزاد بعضهم على هذا العدد (ينظر : نظم المتناثر من الحديث المتواتر - المقدمة -) للكتاني.
فإذا انضم إلى هذه العدد المتواتر المعنوي ظفرنا بكم هائل من الأحاديث المتواترة ، على أن بعض العلماء يجعل من أمارات التواتر تلقى الأمة للحديث بارضا والقبول. وبهذا ندخل في المتواتر جميع ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما لأن إجماع الأمة على قبولهما قائم منذ وضعا وإلى يوم الناس هذا.
(1/113)
________________________________________
* إن غير المتواتر من الحديث يفيد ما يفيده المتواتر بمعونة القرائن المناصرة له ، كرواية الثقة ، فإنها تبعث في النفس الإطمئنان ، وموافقة الحديث لقواطع الإسلام وقيمه ومبادئه.
* إن الظن الذي يتكئ منكرو السنة عليه في إنكارهم إياها أن القرآن نفسه اعتمده أساساً في تقرير الأحكام الشرعية في الآية الكريمة :
{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة : 230]
ومن يسر هذه الشريعة الرحيمة ، ابتناء الكثير جداً من أحكام التكليف على الظن ؛ لأن الظن هو إدراك الطرف الراجح دائماً ، وقد يكون الظن قوياً ، والله لم يجعل علينا في الدين من حرج ، ولو كلفنا بالتحري الشديد في كل شيء لوقعنا في ضيق من أمرنا.
* إن الفقه الاجتهادي كله ناشئ عن الاحتمال الدلالي وهو الظن ، ومعلوم أن الفقه الاجتهادي في الإسلام أضعاف أضعاف الفقه القطعي الدلالة.
الفقه الاجتهادي قائم على غلبة الظن ، أما الفقه القطعي فهو قائم على العلم أو اليقين.
* ليس كل الظن مذموماً ، والقرآن نفسه أورد الظن موارد اليقين ، ومن ذلك قوله تعالى :
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة : 45 ، 46].
فقد مدح الخاشعين - كما ترى - وعبَّر عن إيمانهم اليقيني بلقاء الله والرجوع إليه بالظن.
وقوله - عز وجل - :
{... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 249].
(1/114)
________________________________________
وعبَّر عن إيمان هؤلاء الراسخين في العلم والإيمان بالظن فقال : "يظنون" ولم يقل : يؤمنون ، أو يعتقدون ، للدلالة على أن الظن قد يكون قوياً فيعمل به ولا حرج.
كما حكى عمن يؤتي كتابه بيمينه يوم القيامة أن من أسباب فوزه في الآخرة وابتهاجه أنه كان يظن في الحياة الدنيا أنه سيبعث بعد موته ، ويقف أمام الله - عز وجل - فيوفيه أجره :
{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة : 20]
فليس الظن كله مذموماً ، أو مردوداً ، ولكن المذموم منه هو الظن السييء كما قال - عز وجل - : {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات : 12] وهذا معناه أن بعضه حق وصواب. وهو المقصود عند علماء الحديث هنا والظن الذي تفيده بعض الأحاديث والسنن هو الظن الممدوح الذي يكفي حصوله في امتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وعلى ذلك تنزَّلت آلاف الأحكام الفقهية في هذه الشريعة الرحيمة.
فما يبقى - بعد ذلك - لمنكري السنة من تمسك بهذه الشبهة الواهية ؟
وددنا لو أنهم لم يلقوا القول على عواهنه ، ولم يُسْلِسُوا مقادهم للأهواء ، والحق - لو أردوه - أقرب إليهم من حبل الوريد.
* * *
(1/115)
________________________________________
الشبهة الحادية والعشرون ظنية السنة
علماء الحديث - رضي الله عنهم - ، بعد الجهود المضنية ، التي بذلوها في جمع الحديث النبوي ، ووضع المناهج الدقيقة الحكيمة ، الجامعة المانعة ، للتمييز بين الحديث المقبول ، والحديث المردود ، ولم ينسبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما أطمأنت إليه أنفسهم ، ومالت إليه عقولهم ، ولم ترتبْ فيه قلوبهم ، وبعد أن قسموا الحديث المقبول أقساماً ثلاثة ، نتيجة للمناهج التي وضعوها في فحص الحديث ونقده ، فكانت تلك الأقسام الثلاثة هي على الترتيب المعروف لدى جميع المحدثين ، وعامة الأمة :
* الحديث الصحيح ، وهو أعلى الأقسام الثلاثة.
* الحديث الحسن. وهو يلي الحديث الصحيح في القوة.
* الحديث الضعيف. وهو يأتي في الدرجة الثالثة في قوة السَّند.
ثم قسموه تقسيناً ثنائياً باعتبار رواة الحديث ، وهما :
* الحديث المتواتر ، وهو ما رواه جماعة مستفيضة عن مثلهم من بداية السند إلى نهايته مع استواء العدد في كل حلقة.
* حديث الآحاد ، وهو ما كان رواته أقل عدداً من رواة الحديث المتواتر : وإن كانوا لم يجمعوا على بداية عددهم ، أقول بعد هذا كله ، الذي بذلوا فيه أقصى ما يملكونه من طاقات ، حملهم الورع ، وحساسية التقوى ، على أن يقولوا إن دلالة حديث الآحاد هي الظن لا القطع ، قالوا هذا الكلام لا عن تقصير منهم - كما عملت - ولكن إبراءً للذمة بينهم وبين الله - عز وجل -.
وليس هذا هو قول جميع المحدثين ، لأن منهم من يذهب إلى أن حديث الآحاد ، المستوفى شروط الرواية ، سنداً ومتناً - يفيد اليقين ، وليس الظن.
(1/116)
________________________________________
لكن المشهور هو القول الأول ، وهو لا يعدو تفويض الأمر إلى الله ، كما يقول المفتي الواثق من صحة فتواه بعد أن يفتى بها "والله أعلم" مفوضاً الأمر لله وحده.
تلقف منكرو السنة هذا القول ، الذي هو احتراز ، مجرد احتراز مبعثه الورع عند المحدثين ، تلقفه منكرو السنة ووظفوه في إنكار الاستدلال بالسنة ، مهما بلغت من القوة ، واستندوا في ترويج رفضهم للسنة - عملاً بهذه الشبهة إلى بعض الآيات القرآنية ، التي أساءوا فهمها ، أو عبثوا بدلالتها عمداً ، لكي يوهموا الناس بما يقولون ، من تلك الآيات قوله تعالى :
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام : 116]
يعنون أن الله ذم الذين يتبعون الظن ، والسنة ظن ، وقوله تعالى : {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم : 28]
يعنون من هذه الآية أن الله ذم من يتبع الظن ثم قضى بأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً ، ويرتبون على هذا أن من يتبع السنة ، وهي ظن ، مذموم عند الله وهو على باطل في مسعاه ، فكيف تكون السنة مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي ، وهذا هو حالها ومنزلتها ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
عرفنا من خلال هذه الدراسة أن منكري السنة لم يذكروا - وليس لهم في الواقع - دليلاً واحداً يؤيد دعواهم في إنكار السنة ، وأن كل ما ذكروه من قبل شبهات وأوهام الباعث عليها الجهل ، إن فرضنا عند بعضهم حسن النية ، أو الباعث عليها العناد عند سيئى النية منهم.
وهذه الشبهة مثل الشبهات التي تقدم ذكرها ، لا قدم لها ولا ساق.
والرد المفحم عليها يتمثل في الخطوات الآتية :
(1/117)
________________________________________
أولاً : إن ظنية السنة إصطلاح خاص بعلماء الحديث ، والذي دعاهم إلى القول به هو شدة التحري والورع كما تقدم ، وإبراء الذمة أمام الله بتفويض الأمر إليه تأدباً معه - عز وجل -.
ولموقفهم هذا نظير في سلوك الأنبياء والرسل - صلى الله عليهم وسلم -. فتعال نقرأ ما حكاه الله - عز وجل - عن شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، وهو يحاور قومه في عقيدة التوحيد ودحض عقيدة الشرك والوثنية :
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام : 80].
تأمل قول إبراهيم عليه السلام :
{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} كيف أسلم قيادة لله ، وأنه لا يخاف أصنامهم إلا أن يشاء الله شيئاً. والله لا يشاء الإشراك به للرسل الذين أرسلهم ليدعوا الناس إلى توحيد الله والإيمان به ، والرجاء والخوف منه وحده.
فكيف استثنى عليه السلام من إعلانه عدم الخوف من أصنامهم ما يوهم في النفس أنه سيخافها إذا شاء ذلك الله - عز وجل - ؟
نقول : ليس لقول إبراهيم هذا محمل إلا تفويض الأمر كله لله وإعلان كماله المطلق جل شأنه.
وهذا نظير موقف علماء الحديث ، الذين يخافوتن الله فبعد أن أدوا أقصى ما عليهم في تمحيص الحديث ، لم يجعلوا هذا هو نهاية الأمر في الظاهر والباطن فأحكموا هم "الظاهر" وفوضوا الأمر لله في "الباطن" الذي لا يعلمه إلا هو. طلباً منهم للحق من كل وجه ، واحتياطاً مما عسى أن يكون غاب عنهم من دقائق الأمور وخفاياها.
* ومثل هذا السلوك ، الذي سلكه إبراهيم عليه السلام سلك نبي الله شعيب عليه السلام ، فقد حكى عنه الله - عز وجل - قوله لقومه حين دعوه في الدخول في عقيدتهم الوثنية :
(1/118)
________________________________________
{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف : 89].
محال ، بل وألف محال أن يكون رسول من رسل الله الأطهار مستعداً للدخول في عقيدةة الشرك ، ترك عقيدة التوحيد ومع هذا نرى قول شعيب عليه السلام - هنا - يفيد هذا المعى ؟ فهل كان شعيب يقصد حقيقة ما يقول يا ترى ؟ كلا ، بل وألف كلا.
وإنما أراد شعيب عليه السلام إظهار كمال الله ، ونفاذ مشيئته وإن تعلقت بمحظور من أقبح المحظورات ، وهو الإشراك بالله الواحد القهار مع حسن التأدب مع الله ، وتفويض الأمر إليه ، فليست مشيئات خلقه وأقوالهم هي القاضية في بت الأمور بل مشيئة الله وقوله : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
فعلماء الحديث - إذن - أحكموا عملهم الظاهري في تحري الصحة فيما ينسب إلى النبي الكريم ، فهم من حيث الظاهر على يقين. أما الباطن فموكول علمه إلى الله ، ولذلك قالوا في بيان هذا "قد يكون في الواقع ونفس الأمر على غير ما ظهر لنا" وقد قالوه على سبيل الاحتياط وشدة التحري.
هذا قصدهم ، لا أنهم أرادوا أن يهدموا بالشمال ما بنوه باليمين ، كما يروَّج منكرو السنة ، بهاليل العصر.
ثانياً : إن الحكم على السنة بالظنية ، على الوجه الذي شرحناه اصطلاح خاص بعلماء الحديث كما تقدم ، وهم فصيلة من فصائل علماء الأمة الثلاث ، العاملة في مجال التشريع والفقه. والفصيلتان الأخريان هما :
* علماء أصول الفقه ، العاملون في دراسة أدلة الأحكام الكلية ، وهي : الكتاب - السنة - الإجماع - القياس ، ثم الأدلة الأخرى المختلف فيها.
* الفقهاء ، وهم العاملون في مجال استباط الأحكام العملية التفصيلية من أدلتها الكلية.
(1/119)
________________________________________
هاتان الفصليتان لهما مذهب غير مذهب علماء الحديث في ظنية السنة ، التي هاج منكرو السنة حولها وماجوا ؟
هاتان الفصيلتان ، وهم أمس رحما بأعمال التشريع والفقه من علماء الحديث ، تقسم أدلة الأحكام من حيث الثبوت والدلالة معاً أربعة أقسام :
الأول : أدلة قطعية الثبوت والدلالة معاً.
الثاني : أدلة قطعية الثبوت ظنية الدلالة.
الثالث : أدلة ظنية الثبوت قطعية الدلالة.
الرابع : أدلة ظنية الثبوت والدلالة معاً.
فالقسمان الأولان شركة بين أدلة الأحكام القرآنية ، وأدلة الأحكام النبوية (السنة).
والقسمان الثالث والرابع خاصان بالسنة النبوية فليست السنة كلها ظنية كما يقولون بل فيها ما هو قطعي الثبوت كالقرآن في الروايت التي توفرت فيها شروط الصحة فما الذي حمل منكري السنة على التمسك بالظنية دون القطعية الشائع القول بها في علمى الفقه وأصوله ، اللهم إلا العناد والمكابرة.
وبعض العلماء يقول : إن الأحاديث المروية عن رسول الله كلها قطعية بالنسبة للصحابة ، الذين سمعوها منه ، لأنهم ما كانوا يشكون في سماعها. فإذا روى عن الصحابة الثقات بعض التابعين فينبغي أن تكون رواياتهم موصوفة بالقطعية التي كانت وقت السماع المباشر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا فهم وجيه وقوي كما ترى ، وإن لم يشتهر بين العلماء ، وأيا كان الأمر فإن ظنية الثبوت لا ينظر إليها إلا في الدلالة ، لأننا نعمل بدلالات النصوص لا بالنصوص نفسها ، فالنص أنارة وعلامة على مراد الشرع ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - في شأن الاقتداء به في الصلاة : "صلوا كما رأيتموني أصلى" دلالته المعمول بها ، هي طلب محاكاة الرسول في صلاته.
(1/120)
________________________________________
إذن فالمعول عليه في كلام منكري السنة أن دلالة الحديث على المعنى المراد منه ظنية لا قطعية ، لاحتمال أن يكون الحديث لم يقله - صلى الله عليه وسلم -.
إذا تمهد هذا نقول لمنكري السنة :
إن الدلالة الظنية ليست وقفاً على السنة ، التي هي ظنية الثبوت عندكم ، بل هي في القرآن ، وهو قطعي الثبوت ، لا تكاد تحصى من كثرتها في كثير من الآيات والألفاظ.
فمثلاً قوله تعالى في عدة المطلقات {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة : 228] نجد كلمة "قروء" محتملة لمعنيين :
أن تكون بمعنى الحيضات ، وأن تكون بمعنى الأطهار (جمع طُهر) فالدلالة - هنا - ظنية. فهل نلغي هذه الآية من القرآن ، وننكر وجودها ؛ لأنها ظنية الدلالة ؟!
وقولع تعالى في شأن المطلقة ثلاثا متى تحل للزوج الأول الذي طلقها إذا طلقها الزوج الثاني أو مات عنها :
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة : 230] فإن النكاح في هذه الآية يحتمل أن يراد به مجرد العقد ويحتمل أن يكون المراد به الوطء فالدلالة - كذلك - ظنية فهل تنكر قرآنية هذه الآية ، لأن دلالتها ظنية وإن كانت قطعية الثبوت يقيناً ؟!د
وقوله تعالى في بيان نكاح المحرمات من النساء : {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء : 22] فإن كلمة {نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} محتملة - كذلك - لأمرين :
* أن يكون المراد من النكاح ما يشمل العقد الشرعي والوطء لا غيرهما. أي عقد النكاح والوطء المترتب عليه.
* وأن يكون شاملاً لهما وللزنى. وقد ترتب على هذا الاحتمال خلاف مشهور بين الفقهاء حول إذا زنى الأب بامرأة ، على يجوز لابنه أن يتزوجها أم لا يجوز له زواجها لزنى أبيه بها ؟
(1/121)
________________________________________
فقال فريق لا يجوز ، لأن النكاح في الآية بمعنى الوطء مطلقاً سواء كان عن علاقة شرعية أم لا ، يعني : الوطء بوجه عام ، وفريق قال يجوز للابن أن يتزوج من زنى بها أبوه ، لأن المراد من نكاح الأب في الآية الوطء المشروع.
فالدلالة في الآية ظنية ، فهل ننكر قرآنيتها - كذلك - لأنها ظنية الدلالة ؟
ثالثاً : أن القرآن الحكيم في صريح لفظه ومعناه جعل الظن المجرد أساساً لحكم شرعي بناه عليه ، وذللك في قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة : 230]
فقد أباح للزوجين اللذين بينهما طلاق أن يعودا إلى الإقتران مرة أخرى إذا ظن كل منهما استقرار الحياة الزوجية ، الجديدة.
فما رأيكم يا منكري السنة ؟ والقرآن نفسه جعل الظن أساساً للحكم الشرعي ؟.
* * *
(1/122)
________________________________________
الشبهة الثانية والعشرون هداية السنة "ظرفية" لا دائمة ؟!
مكر جديد يمكره منكرو السنة المعاصرون ، هذا المكر وليد الحاضر ، ولم يقل به أحد من منكري السنة القدامى. وفي عرضهم لهذه الشبهة يفرقون بين دلالة السنة ، ودلالة الأحاديث النبوية. فالسنة - عندهم - هي حياة النبي ، التي انتهت بوفاته ، يعني أن السنة على هذا التعريف "الشيطاني" ماتت يوم مات الرسول ، وبموت السنة توقف دورها في الهداية والتوجيه ؟!
أما الأحاديث النبوية ، التي بين أيدى المسلمين فيتخلصون منها ، كما تخلصوا من السنة ، فيقولون : أنهلا ليست كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هي مفتراة عليه ؟!
ويعودون لبيان السنة فيقولون أنها فهم "شخصي" خاص بالنبي لما في القرآن ، العمل به مقصور زمنية محددة هي حياة النبي من يوم بعثه الله رسولاً إلى يوم أن توفاه الله فدور السنة كان مرتبطاً بزمن معين ، وهذا هو معنى "ظرفية السنة" عندهم.
باختصار شديد : يريدون محو كل أثر قولي ، أو فعلي ، أو تقريري لصاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم -.
ويزعمون أن فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن غير ملزم لغيره ممن جاء بعد من أجيال الإسلام ، بل لكل جيل أن يفهم القرآن فهماً جديداً خاضعاً للظروف والأحوال ، فما كان من السنة في القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب لا يصلح للقرن العشرين ، ولا لمكان آخر غير شبه الجزيرة ، فالزمان والمكان عاملان في نتاج أفكار جديدة متطورة. أما الاحتكام إلى ما فهمه النبي وأصحابه من القرآن في زمانهم ومكانهم فهذا "تحنيط للإسلام" ؟!
ويدعون أن النبي واصحابه لم يدونوا والحديث لأنهم يعلمون أن
(1/123)
________________________________________
السنة والحديث مرتبطان بزمانهم ومكانهم فقط ، ولا يصلحان لزمان آخر ولا لمكان آخر ، لذلك تركوا تدوين السنة حتى لا يتسببوا في إرباك من يجئ بعدهم من المسلمين ؟!
هذه السواقط ، وغيرها ، كان أول من تولى كبرها في العصر الحديث مهندس سوري شيوعي (محمد شحرور) من الذين درسوا في جامعات روسيا ، أيام كان الاتحاد السوفيتي يضع في كل غرفة في المدت الجامعية فتى وفتاة يعيشان في الغرفة معاً ، وكأنهما زوجان ؟! (ينظر الكتاب والقرآن 541 وما بعدها).
وردت هذه "السواقط" في كتاب ضخم له دعاه : (الكتاب والقرآن. قراءة معاصرة) يقارب ألف صفحة من القطع الكبير ، ثم صار هذا الكتاب مرجعاً عندنا في مصر - الآن - لكل اصحاب الفكر الشاذ ومن أبرزهم منكرو السنة ، الذين نواجه شبهاتهم في هذه الدراسة.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
قليل من النظر الواعي حول ما بيناه من هذه الشبهة ، يريك أن هؤلاء المرجفين يركزون على أمرين :
الأول : أن السنة هي الفهم الشخصي للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل الله عليه في القرآن ، يعني نوعاً من تفسير القرآن صدر عن النبي مع حصر السنة في أنها (حركة حياة الرسول) ؟!.
الثاني : أن السنة - بهذا المعنى - لابد أن تكون ظرفية مقصورة على مرحلة تاريخية من مراحل التاريخ الإسلامي ، وهي من بدء الرسالة إلى وفاة الرسول.
هذان الأمران كانا تمهيداً أو وسيلة لهدف آخر ضخم : هو أن معاني القرآن قابلة للتطور - دائماً - ولو من النقيض إلى النقيض ، وأن لكل جيل حق فهم القرآن حسبما يرى وما تمليه عليه الظروف غير ملزم بفهم من سبقه للقرآن ، حتى
(1/124)
________________________________________
لو كان النبي وصحبه ؟! وهذا - منهم - زيادة توكيد وتأصيل لقاعدة مدمرة وضعوها وأخضعوا لها القرآن كله. وهي :
"القرآن ثابت الأصل ، متغير المحتوى" يعني أسلوب القرآن لا يغير ولا يبدل ، ولكن معانيه تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان ، بل ومن شخص وآخر.
فمكر منكري السنة هنا ، ليس مقصوراً على السنة بل هو شامل للقرآن كذلك.
وهذا كله غثاء في غثاء فلا السنة مرحلة مخصوصة من مراحل التاريخ الإسلامي ، بدأت وانتهت ، ولم تعد صالحة للحياة ، ولا هي غير الحديث النبوي : فالسنة حديث ، والحديث سنة ، وما يوقله منركو السنة في هذا المجال وَهْمٌ من أهى الأوهام.
ولا القرآن متغير المحتوى ، من النقيض إلى النقيض. هذه الدعوى لو أدركها المجنون لأنكرها.
وقد أعطى شحرور نماذج لتغيير المحتوى في مفاهيم الشريعة وقيمها ففي العبادات قال إن أقل قدر منها يرضي الله ، ولو أكتفى المسلم بصلاة ركعتين في اليوم بدلاً من سبع عشرة ركعة موزعة على خمس صلوات واجبات.
وفي لباس المرأة قال إن أقل ما هو مطلوب ، وأنه يرضى الله من المرأة إذا فعلته هو أن تستر "العورتين المغلظتين" ولها أن تظهر بعد ذلك خارج بيتها عارية لا تغطي شيئاً من بقية الجسد ؟!
ونحا نحوه كاتب علماني من منكري السنة طالب بأن تعتبر الأمة احتساء الخمور والزنا أفعلاً مباحة لا عقاب ولا لوم شرعاً وقانوناً ، اقتداء بالمجتمع الأمريكي ، وبخاصة في تعامله مع فسق كلينتون - مونيكا ، حيث عوتب على كذب الرئيس الأمريكي أما فسقه وزناه فلم يكونا موضع مؤاخذة في ذلك البلد المتحضر ؟!
(1/125)
________________________________________
كما فسَّر قطع يد السارق الوارد في صريح القرآن بأنه حبس اليد وصاحبها في السجن (ينظر روز اليوسف 1/5/1999م).
إن المسألة إذن مسألة عبث ، إو إزالة للإسلام كله ، وليست مسألو "تحنيط" للسنة النبوية ، وهي روح القرآن بلا جدال ، ومفاتيح كنوزه التي لا تنفد.
إن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء في ذلك القولية والعملية ليس فيها شيء قابل للتحنيط أو العزل عن حياة المسلمين ، لأنها مصابيح هدى في قلوب الأمة كالروح في الجسد.
وصلاحية السنة لكل عصر ومصر أمر لا ربية فيه وهي ظاهرة صالحة للعرض والاختبار الآن ، وفي كل لحظة ، سواء أُحِذَتٌ العينة من العقائد ، أو العبادات ، أو المعاملات ، أو الأخلاق.
أي مثال من السنة ، من هذه المجالات إذا نظرت فيه بوعي تجده يمزق حدود الظرفية الزمانية ، والمكانية ، التي يدعى منكرو السنة تقييدها بها :
خذ إليك - مثلاً - قوله - صلى الله عليه وسلم - :
"تكونوا إمَّعة ، تقولون : إن أحسن الناس أحسناً ، وإن ظلموا ظلمنا ؟ ولكن وطنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا" رواه الترمذي في باب البر والصلة عن حذيفة.
تأمل المعاني السامية التي تتجلى في هذه التوجيه النبوي الرفيع أنه يدعو غلى ما يسمى الآن بـ "قوة الشخصية" واستقلالها ، وأن لا تكون الأمة ، ولا فرد منها عبداً للتقليد الأعمى ، تعيش فاقجة التمييز والإرادة ، لا بصر لها بالأمور. تجري وراء كل ناعق ، لا تملك أن تقول (لا) ولا تملك أن تقول (نعم) وإنما تسلس قيادها لغيرها ، فتلغي وجودها من الحياة.
ومن كان هذه شأنه فهو في عداد الحيوانات العجماوات المدريات على الخسف والإذلال.
(1/126)
________________________________________
ولن تستطيع الأمة أن تحدد لها مواقف خاصة بها ، إلا بعد وعي وبصر بحقائق الأمور ، لتعرف متى تقول "لا" ومتى تقول "نعم".
والفرد مثل الأمة في هذا الميدان ، أما أن يكون كالريشة ، تعبث بها الرياح كيف تشاء ، أو يكون كالجبل الأصم ، لا تنال منه عوامل المحور والقرض والتعرية.
فقل لي بربك : هل هذا التوجيه النبوي السديد ، وهل هذه التربية الراشدة لم تكن صالحة إلا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أم هي صالحة لكل الأزمنة ، ولكل الأمكنة مهما تباعدت عن زمن النبوة وموطنها الأول.
إن أمتنا الآن انتابتها حالة مفزعة من الضياع ، حين صارتى "إمَّعة" لا موقف لها ولا رأي ، حتى في الأمور التر تراد بها هي نفسها. وقد قوَّى ضعفُها من تبعيتها المهينة لمن لا يرعى فينا عهداً ولا موثقاً.
ومثل آخر ، هو قوله - صلى الله عليه وسلم - :
"أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس" رواه ابن أبي الدنيا والأصبهاني هذا الحديث من جوامع الكلم كما ترى ، وقد أورده النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر حديث جواباً عن سؤال وُجَّه إليه ، ولم نذكر بفيته اختصاراً.
وهو - كما ترى - تفجير لطاقات الخير الكامنة في أهل المرءوة والفضل من الناس. وحين يتمكن هذا التوجيه في القلوب تصبح الحياة ساحة للتنافس في صنع الخير ، ليكون صانع الخير مع الناس أحب عباد الله إلى الله ، وفي شيوع الخير في المجتمع محو للشرور والأنانية البغيضةن التي تولد الضغائن بين الناس ، حتى يصبح كل إنسان حرباً على الآخر ، ويزول كل طعم جميل للحياة ، ونسأل منكري السنة هذا السؤال ونتركه بلا جواب ، لأنه معروف.
هل هذا الحديث أصبح الآن "عملة زائفة" ، أو هو روح فياضة بالتراحم والتآلف ؟.
* * *
(1/127)
________________________________________
الشبهة الثالثة والعشرون (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
الجهل ، وصنوه الغباء ، لهما اثر واضح في مغالطات منكري السنة ، وقد أشرنا إلى هذا مرات في ما تقدم وها هو ذا يتضح مرة أخرى ، في ترديدهم هذه الشبهة ، لأننا رأيناهم يستدلون على أن السنة زيادة في الدين وبدعة ضالة استناداً إلى هذه الآية الحكيمة : "اليوم أكملت لكم دينكم".
ووجه استدلالهم بهذه الآية على إنكار السنة وأنه بدعة وزيادة في الدين :
أن هذه الآية نزلت في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للسنة وجود ، لأن السنة جُمِعَتْ ودونت في القرن الثالث الهجري ، فلو كان الدين وكماله متوفقاً عليها ما قال الله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ولما كان لهذه الآية معنى على الإطلاق يوم نزلت.
ويستخدم واحد منهم هذا الغباء في عدم الاحتياج إلى صحيحى البخاري ومسلم خاصة ، فيقول :
هل كانت الأمة ضالة حتى كتب البخاري ومسلم صحيحيهما ؟ جاء هذا في مناظرة أذاعتها محطة "اوريت" الفضائية مساء الجمعة 2/6/1999م.
كما ذكرها كاتب سوري اسمه "محمد شحرور" في كتاب له دعاه : الكتاب والقرآن ، قراءة معاصرة ، وعقد فصلاً ضافياً عن السنة أخرجها عن منزلتها عند المسلمين وقد تقدمت الإشارة من قبل إلى هذا الكاتب والكتاب.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
لا نرانا في حاجة ، إلى تطويل في تفنيد هذه الشبهة ونقضها ، فهي أخف من جناح البعوضة ، ولو كان عند منكري السنة ذرة من الفهم لآثروا السكوت على النطق بها ، ولكن بغضهم لسنة الرسول الكريم أعماهم حتى عن رؤية موضع أقداميهم.
(1/128)
________________________________________
إن وجود السنة - عندهم - يبدأ بجمعها وتدوينها فقط لذلك جزموا بعدم وجودها في القرنين الأول والثاني الهجريين ، وشطر من القرن الثالث ؟!
ونوجه إليهم هذا السؤال :
من أين جمع علماء الحديث السنة في القرن الثالث ؟! هل هم ابتدعوها ابتداعاً من عند أنفسهم ، وانتحلوها كانتحال الشعر الجاهلي حسب مزاعم المستشرقين أسيادكم ؟ أم جمعوها من حفاظها ومصادرها التي سمعتها عن الرواة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
إن قلتم ابتدعوها ابتداعاً من عند أنفسهم فلا كرم لنا معكم ، وإن قلتم جمعوها من صدور حفاظها الثقات قلنا لكم :
إذن السنة كان لها وجود في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة ، وبعد الهجرة ، لأن السنة هي أقواله وأفعاله وتقريراته. فهي كانت كالزرع ينمو ويتكاثر على مدى حياة من أرسله الله رحمة للعالمين.
وإذا كان هذا هو الواقع فلماذا تفرقون بين الحفظ في الصدور ، والخط في السطور.
إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار عقب وفاة صاحب الرسالة ، وأحلوا بها وفي صدورهم وعلة ألسنتهم أحاديث النبي عليه السلام وسمعها منهم التابعون في كل مصر من الأمصار التي فتحها الإسلام ، وكانت هذه السنة مصابيح هدى بعد القرآن لدى المسلمين الأوائل.
ولذلك لما رأى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز جمع السنة وتدوينها على نطاق واسع ، دبت حركات الجمع في كل الأقطار.
في المدنية ، وفي مكة ، وفي البصرة ، وفي الكوفة ، وفي اليمن وفي خراسان ، وفي واسط ، وفي مصر ، وفي غيرها.
وإن النهي عن كتمان العلم ، والسنة من أشرف العلوم الإسلامية ، كان يوحي لحفاظ السنة من الصحابة - رضي الله عنهم - أن يحدثوا بها الناس ، ويبلغوها كما يبلغون القرآن.
(1/129)
________________________________________
ومن هذا يتبين أن السنة كان لها وجود قوي يوم نزل قوله - عز وجل - :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وكانت هي من عناصر كمال هذا الدين الخالد العظيم.
كما كان لهذه السنة حياة ، وأي حياة ، في عصر الخلفاء الراشدين الأربعة ، قبل عصر عمر بن عبد العزيز بأكثر من خمسين عاماً ، فكل منهم - رضي الله عنهم - كان يعمل في حكمه وقضائه وسلوكه وفتاويه بالكتاب العزيز ، ثم بالسنة الطاعرة إذا لم يجدوا في كتاب الله نصاً فيه حكم ما يعرض لهم من مشكلات.
الحفظ أمكن للوجود من التدوين :
إن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلة الحفظ لقصرها وسداد معانيها وجمال ألفاظها وبلاغة مبانيها والعرب لأنهم كانوا أميين ، كان اعتمادهم على الحفظ ملكة راسخة فيهم ، وقل منهم من كان يخلو من هذه الملكة وحفظهم للأحاديث القصار لم يكن أصعب عليهم من حفظ الأنساب ووقائع الأيام والقصائد الطوال.
والذاكرة التي استطاعت حفظ كتاب الله - عز وجل - على طوله - لم يكن ليعجزها أن تحفظ عشرات الأحاديث التي سمعتها من صاحب الرسالة.
وحفظ السنة أمكن لوجودها قبل الجمع والتدوين من الجمع والتدوين.
لأن الحافظ يُحدَّث بما يحفظ أكثر وأيسر وأسرع من أن يحدث من كتاب. والكتب لا يحملها صاحبها أين حل ، أما حفظه في صدره فهو ملازم له ملازمة الظل للعود.
إن ضخامة الخطأ في هذه الشبهة وترديدها لا ينازع فيه منصف ، فكفاكم يا منكري السنة تهافتاً ومكابرة ، وأعلموا أنكم لن تفلحوا أبداً في إنكار السنة ولو شاب الغراب أو باض الديك.
* * *
(1/130)
________________________________________
الشبهة الرابعة والعشرون الاكتفاء بالقرآن عن السنة
من يتأمل في مجموع الشبهات التي اثارها منكرو السنة ، يظهر له أنها قسمان مهما تعددت. وهذا التقسيم ناشئ بالنظر في الآثار التي رتبوها على كل شبهة ، شبهة وإن كنا اشرنا في المدخل إنها ثلاثة أقسام.
ويظهر له - كذلك - أن أحد هذين القسمين هو الأصل الذي يبدأون به على افتراض نجاحه عندهم.
أما الآخر فهو بديل لذلك الأصل يركزون عليه إذا فشلوا في تحقيق الآثار المترتبة على القسم الأول.
يعني أنهم مصرون على أن لا يضعوا السلاح في وجه السنة ابداً مهما كانت الهزائم وخيبة الآمال.
فالقسم الأول يهدفون من ورائه إلى محو السنة من الوجود ويقطعون الصلة بينهما وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - تماماً ، باعتبار أنها مكذوبة عليه ، ومزورة ؟!
والقسم الثاني - البديل - هو السلاح الدائم الشهر في وجه السنة إذا استعصى عليهم محوها والحكم عليها بالتزوير ، أي أنهم يشهرون هذا السلاح في وجه السنة مع افتراض صحتها عندهم ، واستمرار تمسك المسلمين بها. وكأن لسان مقالهم ولسام حالهم يقولان للمسلمين :
إن هذه السنة الصحيحة النسبة للنبي ليست من الدسن ولا المسلمون محتاجون إليها ، وتسألهم : ما وجه استغناء المسلمين عنها ؟
والجواب عندهم : القرآن وحده يكفي المسلمين في كل شئونهم سواء الشئون الدنيوية ، والشئون الدينية.
فهذه الشبهة من أفراد القسم الثاني - البديل - أي التعامل مع السنة في
(1/131)
________________________________________
حالة التسليم بصحة صدورها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فماذا تقدمت معهم خطوة أخرى فقلت لهم : وما دليلكم على أن القرآن وحده يغني المسلمين عن السنة ؟
اسمعوك - بسرعة - قول الله - عز وجل - :
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام : 38].
ثم قوله تعالى مع شدة الحرص والتركيز عليه :
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت : 51]
وليس لهم بعد هاتين الآيتين من دليل.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
ونقض هذه الشبهة يسير ، وهو يقوم على محورين :
الأول : بيان خطأ الاستدلال بالآيتين على ما أرادوه منهما.
الثاني : الواقع العملي في حياة المسلمين على مر العصور ، وتطاول الدهور.
إن الاستدلال بالآية الأولى خطأ ، لأن المراد من الكتاب فيها هو اللوح المحفوظ ، فهو الكتاب أحصى الله فيه ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون أبد الآبدين.
قال - عز وجل - في سورة "يونس" :
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس : 61].
ولهذه الآية نظائر. فإذا كان المراد من الآية هو اللوح المحفوظ ، وهو ما ذهب إليه المحققون من أهل العلم سقط استدلالهم بالآية.
(1/132)
________________________________________
وحتى لو كان المراد من الكتاب فيها القرآن فلا دليل لهم في الآية على أن القرآن يغنى عن السنة ، لأن القرآن لم يفصل إلا قليلاً من الأحكام - كما سيأتي - ويكون معنى احتوائه على كل شيء :
الدلالات "الكلية" على أصول التشريع ، لا أنه فصَّل جميع الأحكام في كل مجالات الحياة تفصيلاً شاملاً لكل ما يقع للناس في الحياة. ومن يدعى ذلك فهو أحمق جاهل ، أو عنيد مكابر لا يستحق شرف المخاطبة هذا ما يتصل بخطأ استدلالهم بالآية الأولى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.
أما خطأهم في الاستدلال بالآية الثانية {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} فبيانه يتوقف على ذكر الآية التي قبل هذه الآية ، وهي قوله - عز وجل - :
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت : 50].
القرآن يحكي - هنا - قول المشركين ، الذين يتساءلون في ما بينهم ويقولون لو أن الله أنزل على محمد آيات من عنده.
قالوا هذا الكلام ، وكان قد نزل على قدر عظيم من القرآن سوراً وآيات ، وأسمعهم النبي هذا القرآن ، وكرره على مسامعهم مرات ، وراعهم بيانه ، وأعجزتهم بلاغته ، وهم قد وصفوه بالسحر في شدة تأثيره على القلوب والعقول والمشاعر.
ووصفوه بالشعر ، وللشعر في دولتهم دولة ، وفي حياتهم حياة. وهو صناعتهم التي عرفوا بهان ولم تكن لهم صناعة غيرها لقد جردوا القرآن من دلالاته "الاعجازية" وهم بها مقرون واعتبروه كأن لم يكن ، واعتبروا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، رسولاً أو مدعى رسالة بلا معجزات ؟!
فأنزل الله - عز وجل - قوله المفحم الحكيم :
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
(1/133)
________________________________________
أي : ألم يكن القرآن معجزة كافيه لهم في التصديق برسالة الرسول ، وهم قد تأكدوا من سموه فوق كلام أعقل العقلاء وأفصح الفصحاء ، وأبلغ البلغاء ، وأبين البيناء من الخلق أجمعين ؟
فأنت ترى أن معنى الآية في السماء وهم في أغوار الأرض عامهون - لقد نقلوا الآية من مقامها وحرفوا معناها عامدين - وتحريف المعاني لا يقل شناعة عن تحريف الألفاظ ، وبهذا سقط استدلالهم بالآيتين.
المحور الثاني : وهو الواقع العملي للأمة بالقرآن والسنة معاً منذ صدر الإسلام حتى يوم الناس هذا.
الإكتفاء بالقرآن مستحيل :
أي ورب السموات والأرض وما فيهن وما بينهن ، أن القول بالاكتفاء بالقرآن مستحيل :
القرآن لم يشمل على كل كبيرة وصغيرة مما يحتاج إليه المسلمون في حياتهم.
بل إن السنة - رغم ما فيها من كثرة التفاصيل ، لم تشتمل على كل صغيرة وكبيرة مما يحتاج إليه المسلمون في حياتهم.
لذلك هدى الله الأمة من صدر الإسلام الأول ، والقرون التي جاء بعده إلى ملء كل الفراغات المتروكة - قرآنا وسنة - لحكمة بوسائل أخرى وقت المطلوب ، مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله الكريم ، وهي :
القياس ، والإحماع ، ثم الاستحسان الشرعي ، والاستصحاب ، وسد الذرائع ، والمصالح المرسلة ، وشرع من قبلنا وعمل أهل المدينة عند المالكية والعرف والعادة ، على اعتبارات متفاوتة عند الفقهاء فالحياة واسعة ، والمستجدات فيها لم ولن تتوقف ، فكان لابد من أن يملك التشريع الإسلامي أدوات فرعية مستمدة من أصلى التشريع الأول والثاني (الكتاب والسنة) لملاحقة الوقائع والأحداث المستجدة.
فمن الجهل والغباء حصر مصدر التشريع في القرآن وحده ، نعم أنه أصل
(1/134)
________________________________________
أصول التشريع. أما أنه يغني عن جميع الأصول والأدوات المستمدة منه ، فهذا لا يقوله من عنده ذرة من علم وفهم.
إن في هذا دعوة إلى "تحنيط القرآن" وحرمانا للأمة من الانتفاع به ، ومنكرو السنة يعلمون ذلك ، ولكنهم يريدون أن يحلوا الأمة دار البوار ، تحقيقاً لمطامع خصومها الألداء.
تعطيل أركان الإسلام العملية :
لولا السنة لتعطلت أربعة أركان الإسلام العملية ، وهي : الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج إلى بيت الله الحرام.
* فليس في القرآن من أحكام الصلاة سوى تقرير وجوبها وحسن أدائها.
* وليس في القرآن عن الزكاة إلا الأمر بأدائها وبيان الجهات الثماني (المصارف) التي تستفيد منها.
* وليس في القرآن عن الصيام إلا بعض من أحكامه بعد بيان وجوبه على المكلفين.
* وليس في القرآن عن الحج إلا طائفة من أحكامه.
أما أركان الصلاة وواجباتها وسننها وشروطها وعدد ركعات الفرض الواحد ، وإفراد الركوع وتثنية السجود وكيفية كل منهما ، والصلوات المفروضة والمسنونة والمندوبة ، وكيفية القراءة فيها ، والدخول فيها والخروج منها ، إلخ ، إلخ ، فهذا ما لا وجود له في القرآن ، وطريق معرفته السنة.
وأما ما هي الأموال التي تجب فيها الزكاة ، وشروط الزكاة ومقاديرها ، إلخ ، فهذا ما لا وجود له في القرآن ، وطريق معرفته السنة.
وهذا يقال عن كل من الصيام والحج ، فكيف تكتفي الأمة بالقرآن عن السنة ، والسنة روح القرآن ومفاتيح فهمه والعمل به.
ونسأل منكري السنة : أين نجد صيغة الآذان في القرآن الكريم ؟
وأين نجد زكاة عيد الفطر في القرآن الكريم ؟
(1/135)
________________________________________
وأين نجد صيغة العقد الشرعي للزواج في القرآن الكريم ؟
وأين نجد طريقة زكاة الأنعام لحل أكل لحمها في القرآن الكريم ؟
إن آلاف الأحكام في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق لا وجود لها تفصيلاً في كتاب الله ، وإن دل عليها "جملة" فكيف يمكن الاستغناء بالكتاب عن السنة يا "بهاليل" العصر ؟
دفع مرفوض :
لمنكري السنة دفع لهاذ الاعتراض الذي أوردناه عليهم في ادعائهم أن القرآن وحده يكفي الأمة حاجتها دون الافتقار إلى السنة.
وكان حاصل الاعتراض الذي أوردناه لابطال دعواهم هذه أن أربعة أركان الإسلام العملية سوف تتعطل ، وهي الصلاة والزكاة وصيام رمضان والحج مع تكاليف أخرى كثيرة سوف تتزقف في حياة الأمة للجهل بأحكامها.
هذا الاعتراض القوي يدفعه منكرو السنة فيقولون :
هذه الأركان العملية يكفينا فيها محاكاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كيفية أدائها ، وهي سنن علمية منقولة إلينا بالتواتر.
فالصلاة مثلاً فيها هذا الأمر بمحاكاة تأدية رسول الله لها : "صلوا كما رأيتموني أصلي".
والحج قال فيه : "خذوا عني مناسككم"
والجيل الذي عاصر الرسول حاكى الرسول كما رآه يصلي ويحج ونقل هذه المحاكاة إلى الجيل الذي بعده ، وهكذا دواليك حتى وصلت المحاكاة إلى جبلنا ، ويأخذها كل جيل عن الجيل الذي قبله حتى قيام الساعة ؟
ويضيفون : أن كلامنا في السنن القولية ، وليس في السنن العملية.
تفنيد هذا الدفع ونقضه :
زهذا الدفع مرفوض ، مرفوض ، لأن للسنن العملية سننا قولية لا حصر لها ، وهذه السنة القولية لا تُدرك من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويحج ويصوم ويزكي ومن أبرز ما يحتج به على منكري السنة الحديثان اللذان ذكراهما ، وهما :
(1/136)
________________________________________
"صلوا كما رأيتموني اصلي".
"خذوا عني مناسككم".
هذان الحديثان هما الأصل في "حجية السنة العملية الأول في وجوب محاكاة الصورة والكيفية ، للصلاة التي صلاها النبي.
والثاني لأعماله وأقواله في الحج.
وهما - أعني الحديثين المذكورين - من السنة القولية لا من السنة العملية.
ومعنى هذا أن السنة القولية اصل للسنة العملية ، فكيف إذن يستعغنى عن أصل ثبتت به السنة العملية ؟!
أعني - مرة أخرى - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو لم يقل "صلوا كما رأيتموني أصلي" ما ثبت شرعاً - وجوب محاكاة صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ولو لم يقل "خذوا عني مناسككم" ما علمنا أن الأمة يجب أن تتأسى بأفعال النبي وأقواله في الحج ، وإلا وقع الحج باطلاً إذا خالف كيفية حج النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الفقه القولي :
هب أننا شاهدنا النبي يصلي صلاة العشاء من تكبيرة الإحرام إلى الخروج منها بالسلام. فهل هذه المشاهدة تميز لنا أركان الصلاة التي تبطل الصلاة بترك واحد منها ، ثم سنن الصلاة ، ثم مندويات الصلاة وفضائلها.
هل كنا ندرك أن قراءة "أم الكتاب" فرض ، وأن قراءة سورة قصيرة بعدها ، أو ىية سنة ، لا تبطل الصلاة بتركها سهواً.
وما يجرينا أنه - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه "سبحان ربي العظيم ثلاثاً" ، ويقول في سجوده "سبحان ربس الأعلى ثلاثاً" ومن يدرينا أن السلام الأول على اليمين فرض والثاني على الشمال ليس فرضاً ، أن لكل سنة عملية سنناً قولية ، لا في الصلاة وحدها بل في كل التكاليف ، وبهذا يندفع هذا الدفع الباطل.
* * *
(1/137)
________________________________________
السنة الخامسة والعشرون
عدم الاعتداد بالسنة في الدرس اللغوي
هذه الشبهة نظن أن منكري السنة ذكروها من باب "كبُرْ الكوم ولا شماتة العِدَا" كما يقول المثل الشعبي المعروف ؛ لأنها شبهة خفيفة الوزن ، فهم يدعون أن علماء اللغة والنحو والصرف لم يعولوا في الاستشهاد على ثبوت اللغة ، وأحكام بنية الكلمة "الصرف" وأحكام ضبط المفردات في الجملة (النحو) لم يعولوا فذ هذه الجهات على السنة ، وتركوا الاستشهاد بها إلا النادر منهم ، هكذا يقول منكرو الجهات ويرددون بلا ملل ولا خجل أن علماء اللغة إنما تركوا أن يذكروا شواهد من الحديث النبوي ، لأنه روى بالمعنى في عصور شيوع اللحن والخطأ في اللسان العربي ، وضعف الملكات اللغوية ، وموت السليقة ، ولو كانوا قد استسهدوا بها على شيء من ذلك لنسبوا للسان العربي الفصيح ما ليس منه ، لذلك أهملوها إلا قليلاً منهم لم ير مانعاً من الاحتجاج بها.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
منكرو السنة جمعوا في هذه الشبهة بين غرضين كلاهما فيه إنكار للسنة ومحو أي أثر لها في الوجود.
الأول : إنكار صلاحية السنة في الهداية والتشريع وهذا هو الهدف الرئيسي لهم في كل ما قالوه وكتبوه.
الثاني : إنكار صلاحية السنة في مجال اللغة والنحو والصرف فهي لا خير فيها ابداً ، لا في شئون الدين ، ولا في شئون اللغة والنحر والصرف. إذن هي مجرد عبء حملته الأمة فوق ظهرها على مدى أربعة عشر قرناً أو تزيد ، دون جدوى تُرجى منها ؟ ؟
ومما يؤكد سوء نياتهم أنهم اهتموا بعرض وجهة نظر من يرى عدم الاحتجاج بالحديث النبوي في قضايا اللغة ، وهوَّلوا من شأنهم ، ولم يقيموا وزناً
(1/138)
________________________________________
للكثرة الكاثرة من اللغويين والنحاة الذين لم يروا حرجاً في الاستشهاد بالحديث النبوي على ثبوت اللغة ، واللهجات العربية ، وقضايا النحو والصرف ولو كانوا طلاب حق لعرضوا وجهتى النظر بحيدة وإنصاف ولكن فاقثد الشيء لا يعطيه ، كما جاء في المثل.
والصحيح في هذه القضية هو عكس ما ادعوه ، وهوَّلوا من شأنه ؛ لأن أئمة اللغة ، والنحو والصرف المشهود لهم بالكفاءة العالية في الدرس اللغوي والنحو والصرف ، لم يعزلوا السنة عن هذه المجالات الواسعة الجادة.
من هؤلاء - على سبيل التمثيل - ابن مالك صاحب الآلفية المشهورة ، والتي تُعد "الدستور الدائم" للدراست النحوية والصرفية وعليها ، وعلى كتاب سيبويه قام صرح النحو والصرف ، وكثرت الشروح الموضوعة عليهما ، ما تزال الحركة العلمية حولهما نشظة ومنهم ابن جنى ، وابن هشام ، والبدر الدمامينى ، وابن الحاجب وابن منظور صاحب لسان العرب ، والفيروز أبادى صاحب القاموس المحيط ، وغيرهم وغيرهم ، لا يحصون عدداً.
كما أن الحديث النبوي نفسه قامت حوله دراسات لغوية ذات شأن ، ومعروفة لأهل العلم المعاصرين.
منها إعراب الحديث للعكبرى ، وغريب الحديث ، وقد وضع فيه بعض العلماء الأعلام أسفاراً متعددة :
منها الفائق فير غريب الحديث للإمام الزمخشري في اربعة اجزاء ثم غريب الجديث للهروى في خمسة أجزاء ، وغريب الحديث للخطابى في أربعة أجزاء. كل هذا أغمض عنه منكرو السنة أعينهم ليحققوا أغراضهم وسط هالات كثيفة من الظلام.
إن من يرجع إلى كتب ابن هشام كالقطر والشذور وشرح ابن عقيل أو الخصائص لابن جنى ، أو لسان العرب لابن منظور يجد كماً هائلاَ من الحديث النبوي سبق للاستشهاد به على مختلف الأغراض ، مما يؤكد أن علماء اللغة - بوجه عام - يثقون في مفردات وتراكيب الأساليب اللغوية بما لا حصر له من كلامه - صلى الله عليه وسلم -.
(1/139)
________________________________________
نماذج من مصنفاتهم :
في الأمالى النحوية لأبن الحاجب (جـ 4 ص 185) وردت الأحاديث الاتية ، في فهرس خاص بها مما استشهد به في الجزء المشار إليه على المسائل اللسانية الخالصة.
"لا ترموا جمرة العقبة - الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة - استحللتم فروجهن بكلمة الله - كان رسول الله أجود الناس - كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وىسية بنت مزاحم - وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام - لا يموت لواحد ثلاثة من الولد فتمسه النار - نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه".
ومما استشهد به في مقدمة الجزء الثالث قوله - صلى الله عليه وسلم - "أو مخرجيَّ هم" (جـ 3 ص 25) وحلله صرفياً ونحوياً ، وغيره كثير وما تركناه إلا توخياً للإيجاز.
وفي الدر المصون للسمين الحلبي ، وهو كتاب تفسير لغوي نحوي صرفي يقع في عشرة أجزاء غي جزء الفهارس. في هذا السفر العظيم ساق المؤلف واحد وستين ومائتى حديث ، وبعضها كرره مرات. ساقها شواهد على مسائل نحوية وصرفية ولغوية. وبهذا تسقط هذه الشبهة العمياء كما سقطت نظائرها من قبل.
* * *
(1/140)
________________________________________
الشبهة السادسة والعشرون مخالفة السنة للواقع المشاهد
منكرو السنة المعاصرين حاطبو ليل ، لا يفرقون وهم يجمعون الحطب بين أعواده وبين أجسام الحيات والثعابين ، ثم أنهم - كما أشرنا من قبل - يفرضون جهلهم على حقائق الإيمان ، ويجعلونه هو المقياس عندهم بين الحق والباطل ، والخطأ والصواب.
وقد حشدوا في معركتهم مع السنة كل ما وصت إليه جهالاتهم وأوهاوهم ظانين أن بضاعتهم الكاسدة يكون لها رواج في يوم ما عند الناس.
وفي هذه الشبهة يدعون أن من الحديث الصحيح ما يخالف الوافع المشاهد ، فهي إذن أحاديث كاذبة إن كان الني قالها ، أو مكذوبة عليه ، وإن صح سندها عند علماء الحديث.
ومما ذكروه دليلاً على هذا جملة من الأحاديث نذكر منهما اثنين توخياً للإيجاز :
الحديث الأول :
ما رواه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال فيه" "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قُبِرَ الميت أتاه ملكان أسودان" ثم جاء في الحديث :
"فيقال للأرض التئمي عليه ، فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله".
هذا الحديث عندهم مكذوب على رسول الله رغم صحته ، وسبب الحكم عليه عندهم بالكذب أمران :
* مخالفته للقرآن.
* مخالفته للواقع المشاهد.
(1/141)
________________________________________
يقول أحدهم بالحرف الواحد :
إن هذا الحديث مكذوب ، لأنه يخالف الحس والواقع فما أكثر القبور التي تفتح ، بعد دفن الموتى فيها ، سواء في ذلك قبور المؤمنين والكافرين ، فلم يشاهد فاتحوها جدران القبر قد التصقت ببعضها ، ولا أضلاع الموتى قد تداخلت ، ولا أجسادهم قد تهتكت" ، كما يدعون - جميعاً - أن القرآن يخلو من ذكر عذاب القبر.
وهكذا اجتمعت عندهم علتان قادحتان في صحة هذا الحديث ، فحكموا - فض الله فاهم - بأنه حديث باطل مكذوب ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
منكرو السنة لازم مذهبهم أنهم لا يؤمنون بها ، وكثيراً ما أعلنوا أنهم لا يؤمنون إلا بالقرآن وحده ، لذلك فإننا لن نحتج عليهم بالحديث النبوي ، لأنهم له رافضون ونكتفي في تفنيد ونقض شبهتهم هذه بالاحتجاج عليهم بالقرآن ، الذي يعلنون أنهم لا يؤمنون إلا به ، وهم به جاهلون ؟
إن بين منكري السنة ، وبين العلمانيين شبهاَ واضحاً في المذهب. وهذا ما طبقوه في رفضهم لهذا الحديث ، رفضوه لأن معناه لم يدرك بالبصر ، ولا بواحدة من الحواس الأربع الأخرى ؟
وها نحن أولاء نضع أمامهم وقائع وردت في القرآن الذي يؤمنون به وحده ، هذه الوقائع مثل الواقعة التي وردت في هذا الحديث سواء بسواء.
ففي سورة "الأنفال" ورد قوله تعالى :
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال : 50 ، 50]
إن ضرب الملائكة وجوه وأدبار الذين كفروا عنده الوفاة ، وقولهم لهم : "ذوقوا عذاب الحريق"
(1/142)
________________________________________
قولهم لهم : "ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد" مثل التئام القبر على صاحبه ، وتداخل أضلاعه بعضها في بعض.
والذين كفروا يموتون وأهلهم جلوس حولهم ، فهل سمع منكرو السنة أن أهل الذين يموتون من الكفار أنهم قالوا أنهم أحسوا بضرب الملائكة لوجوه وأدبار موتاهم ؟! أو أنهم سمعوا الملائكة يقولون لموتاهم ما حكاه القرآن عنهم ؟!
بالطبع لم يروا ولم يسمعوا ، ولو كانوا قد رأوا أو سمعوا ما بقى في الدنيا كافر واحد ، ولآمن أهل كل ميت كافر ، ولا نمحى الكفر من الوجود.
فما رأيكم يا منكري السنة ؟
هل هاتان الآيتان مكذوبتان على الله ؟ مثل الحديث الذي قلتم - جهلاً - أنه مذكوب على رسول الله.
لن تستطيعوا - ولعدة أسباب - أن تقولوا إن هاتين الآيتين مكذوبتان على الله. وهذا يلزمكم بأن تؤمنوا بصحة هذا الحديث ، وبصحة أمثاله ؛ لأنكم آمنتم بنظائره من القرآن ، وإلا فأنتم أهل عناد ومكر ، والمكر السيء لا يحيق إلا بأهله.
ونحن نساعدكم على سهولة السيلا في طرق الإيمان إن كنتم طلاب حق.
إن الوقائع التي ذكرتها الآيتان والحديث وقائع صحيحة صادفة ، وإن لم نرها بعين ، ولم نسمعها بأذن لأنها من شئون الآخرة ، وشئون الآخرة - الآن - غيب ، يجب الإيمان بها إذا جاء بها الخبر الصادق عن الله في قرآنه ، أو عن الرسول في حديثه.
هذا ما لم تعلموه فأتيتم بمنكر من القول وزوراً. وها هي ذي فرصة العلم بد قد أتيحت لكم ، فهل أنتم مؤمنون أم على قلوب أقفالها ؟
(1/143)
________________________________________
الحديث الثاني :
"إذا أنزل الله بقوم عذاباً ، أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" رواه الإمام البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهم -.
منكروا السنة حكموا على هذا الحديث - كذلك - بأنه مكذوب على رسول الله. وهدفهم كما هو معروف إثارة الريب حول كتب السنة ، وفي مقدمتها صحيحاً البخاري ومسلم.
أما السبب في هذا الكذب عندهم ، فأمران كذلك :
الأول : مخالفته للقرآن ؟!
الثاني : مخالفته للواقع والحس الشاهد ؟!
قال أحدهم بالحرف الواحد :
"فهذا الحديث أيضاً مما يكذبه الحس ، فضلاً عن تكذيب القرآن الكريم له" ؟!
أما مخالفته للقرآن فقد استدل عليها بآيات من الكتاب العزيز ، منها :
{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ : 17]
{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص : 59]
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء : 40]
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء : 15]
وخلاصة استشهادخم بهذه الآيات أنها تقرر وتؤكد العدل الإلهي.
أما الحديث فإنه يقدح في العدل الإلهي عندهم ؟!
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
هذه الآيات التي استشهدوا بها على تكذيب الحديث الصحيح قرأوها بأبصارهم حروفاً ، وعميت عنها قلوبهم فقهاً.
فبعض هذه الايات خاص بعذاب الاستئصال في الدنيا كما حدث لعاد وثمود ، وقد أشار القرآن وهو ينذر مشركي العرب إلى هذا فقال :
(1/144)
________________________________________
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 58] ثم قال : {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص : 59]. ولهذه الايات نظائر في القرآن الكريم.
وبعضها خاص بالجزاء في الآخرة ، ومنها قوله تعالى : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء : 15].
ومن أصول الإيمان أن الله لا يظلم أحداً شيئاً لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، وهذا هو الذي أُريدّ من هذه الآيات.
ولم يخرج الحديث عن هذه المعاني التي دلت عليها هذه الآيات ، ولكن منكري السنة أبصروا من الحديث جزءاً وعموا عن جزء فضلوا سواء السبيل.
الجزء الذي أبصروه هو "إذا أنزل الله بقوم عذاباً اصاب العذاب من كان فيهم".
والجزء الذي عموا عنه هو : "ثم بعثوا على أعمالهم". فالحديث يقرر عدالة الله كما قررتها الآيات سواء بسواء :
فإذا غضب الله على قوم ، وسلط عليهم عذاباً عاماً أو خاصاً فهلكوا أو ماتوا ، وفيهم صالحون ، فإن الجميع يستوون في المصير الدنيوي ، ثم يفترقون في الآخرة ، فريق في النار ، وفريق في الجنة.
بل إن السنة النبوية ترفع هؤلاء الصالحين ، الذين يموتون في الكوارث إلى درجات الشهداء. فأين نسبة الظلم إلى الله في الحديث ، التي يدعيها هؤلاء الماكرون ؟
هذه واحدة ، أما الثانية فنقول لهم فيها بصوت عال يسمع من في القبور : إن هذا الحديث يتفق مع القرآن بدرجة 100% ، ولا يوجد بين الحديث والقرآن ولا حبة خردل من خلاف.
لأن القرآن يقرر ما قرره الحديث بكل قوة ووضوح فالله - عز وجل - يقول في
(1/145)
________________________________________
سورة الأنفال ما يأتي : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال : 25]
الم يصرَّح القرآن بأن الفتنة - يعني العذاب إذا نزل ، ولا يصيب الظالمين وحدهم ، بل يصيب الظالم والعادل ، والعاصي والطائع.
فما رأيكم يا منكري السنة ؟ هل هذه الآية - كذلك - مكذوبة على الله ، كما كذب البخاري وابن عمر - في زعمكم - على رسول الله في حديث إنزال العذاب ؟!
إن عليكم أن تؤمنوا بالآية والحديث معاً ، أو تكفروا بهما معاً ؛ لأنهما يدلان على معنى واحد.
والإيمان بالعدل الإلهي ، وبصدق الرسول لا ينفك أحدهما عن الآخر.
فأين - إذن - تذهبون ؟
دعوى مخالفة الحديث للحس المشاهد :
منكرو السنة يدعون أن الله إذا قرر هلاك قوم ، وفيهم صالحون ، عزل الصالحين وأهلك المجرمين ، ويدعى واحد منهم أن هذا هو الواقع المشاهد ؟! فهل سمعتم بكلام اي بهلول يشبه كلام هؤلاء "البهاليل" العباقرة وبارئ النسم إن هذا القول مردود على قائله بمجرد سماعه والنطق به ، ولا يحتاج لدليل يبطله أكثر من خروجه من "خياشيم" الناطق به ، ومع ذلك نقف أمامه وقفه قصيرة قاهرة :
* حادث الطائرة المصرية ، التي كانت قادمة من ليبيا في أوائل السبعينات ، وحطمتها إسرائيل على أرض سيناء وفيها أكثر كم ثلاثمائة راكب مدني ، منهم الشيوخ والشباب والرجال والنساء والأطفال.
أليست هذة كارثة قد وقعت ، وبعلم الله ، فهل كان كل ركابها مجرمين فسقة ظالمين ، وأنهم هم وحدهم المجرمون في الدنيا ، لذلك جمعهم الله في مكان واحد ثم أشعل فيهم النار بعيداً بعيداً عن الصالحين ؟!
(1/146)
________________________________________
فهل يتهم منكرو السنة الله بالظلم على هلاك الأطفال من ركاب الطائرة. والأطفال أبرياء 100% ؟
ومثال ثان : الزلزال الذي ضرب مصر عام 1992م كان ضحاياه من الفقراء والشيوخ والشباب والأطفال ، فهل ضحايا هذه الكارثة هم وحدهم الطالحون في مصر ، وبقية المصريين الذين لم يضرهم الزلزال هم الملائكة الأطهار ؟!
لو أن منكري السنة احترفوا حرفة التمثيل الكوميدي لأصبحوا نجوماً وأقماراً وشموساً في دنيا التهريج والإضحاك ، والسفاسف.
ولكنهم لسوء حظهم اقتحموا مجالاً ليس لهم فيه موضع قدم فانقلبوا على أعقابهم خاسرين.
ورحم الله الشاعر الذي قال :
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها ... هواناً بها ، كانت على الناس أهونَ
* * *
(1/147)
________________________________________
الشبهة السابعة والعشرون دعوى مخالفة السنة للعقل
ومما يروجه منكرو السنة ادعاؤهم أن السنة ورد فيها أحاديث كثيرة تخالف العقل ، وهدفهم إحداث ثلمة في صرح السنة ، تضاف إللاى ما قدموه من شبهات ، معتقدين أن هذه الشبهات يقوى بعضها بعضاً ، وأنها لابد من إحداث الهدف المقصود في النهاية إذا أمكن لهذه الشبهات أن تترسب في أذهان الناس ، أو فإنها ستحدث إرباكاً عندهم يزعزع إيمان العامة في السنة ، ويزيل عنها ثواب القداسة الذي ألبسها إياه القائمون على شئون التقديس كما يحلو لبعضهم أن يقول.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
نريد أولاً أن نلفت نظر القراء إلى أن المقصود بهذه الشبهة فوق المقصود "الأم" لهم من هذه الشبهات جميعاً ، وهو إنكار السنة النبوية الظاهرة. المقصود الخاص بهذه الشبهة هو تكذيب المعجزات المادية ، التي أجراها الله على يد رسوله الكريم بالإضافة إلى المعجزة المعنوية الخالدة ، وهي القرآن الكريم. وهي معجزات كثيرة أوصلها الإمام البيهقي في كتابه العظيم المسمى دلائل النبوة إلى ما يقارب الألف معجزة.
كما أحصى كثيراً منه الإمام ابن كثير في كتابه المسمى "شمائل الرسول" وتحدث عنها الإمام ابن تيمية في كتابه المسمى "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" وقد بيَّن أن الله تعالى أيد محمداً - صلى الله عليه وسلم - بمعجزات من جنس ما أيد به جميع رسله الكرام.
وقد صرَّح بعضهم بإنكار بعض المعجزات مع ورود الإشارة إليها في القرآن الكريم :
(1/148)
________________________________________
مثل شق الصدر ، والمعراج ، والبراق ، والصلاة في بيت المقدس بالأنبياء وانشقاق القمر.
ومثل حنين الجزع إليه ، وتكليم بعض الحيوانات العجماوات له ونبع الماء من بين اصابعه ، وتكثير الطعام القليل حتى يشبع العدد الكثير. والعلم بالحديث النفسي لدى الآخرين.
كل هذه عندهم أكاذيب ؛ لأنها تخالف العقل ، فيجب ردها وعدم الإيمان بها.
كما يدرجون تحت هذه الشبهة كل ما تحدث به - صلى الله عليه وسلم - من الغيبيات ، وإن كانوا يدعون إلى تكذيب الغيبات بإعمال شبهة أخرى هي "مخالفة القرآن" ، وقد تقدم لنا تفنيدها ونقضها".
هل من الممكن مخالفة السنة للعقل ؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد من تمهيد ، وخلاصته : أن الممنوع عقلاً نوعان :
الأول : ماله سبب أو علة يتوقف عليها وجوده ، فإن العقل يمتع وقوعه إذا لم يسبقه سببه أو علته ، مثل الارتواء بدون شرب الماء ، والشبع بدون تناول غذاء والصعود إلى الفضاء بدون حامل أو دافع ، والإحراق بدون مماسة نار ، والإنجاب بدون لقاء الزوجين أو ذكر وأنثى ، والإسماع بدون صوت ، وعبور البحر بدون وسيلة ناقلة أو سباحة ، ومماسة جسم لآخر بدون اقتراب. والعلم بما يدور في النفس بدون إفصاح ، والإبصار بالأشياء بدون إيقاع النظر عليها.
هذه الصور كلها يمنع العقل وقوعها لعدم تقدم أسبابها أو عللها عليها.
ومنع العقل لوقوع هذه الأشياء نسبي كما سيأتي.
النوع الثاني : ما ليس له سبب أو علة بتوقف وجوده عليها وهذا يمنعه العقل منعاً مؤبداً ، ولا يحدث في المنع خلل أبداً.
(1/149)
________________________________________
وهذا ما يسمى بالبدائة العقلية ، أو الضرورات العقلية مثل ما تقدم الوالد على ابنه في الوجود الزمني ، وكون الجزء أصغر من الكل ، والواحد نصف الاثنين ، واليوم واسطة بين أمس وغد ، وامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما من المحل كالموت والحياة ، والوجود والعدم ، فلا يكون إنسان ما ، أو اي كائن مما تحله الحياة ، لا يكون حياً ميتاً في آن واحد ، ولا يكون لا حياً ولا ميتاً في آن واحد.
ومثل اجتماع الضدين فلا يكون الشيء أبيض وأسود في آن واحد.
ومقل أن الشيء غير نفسه ، وأن يكون أمس هو اليوم أو غداً.
هذه الصور كلها ، وغيرها كثير ، يمنع العقل حدوثها منعاً قاطعاً في جميع الأزمان والأكوان.
وبناء على ما تقدم نقول بكل حزم وإصرار :
أن الحديث النبوي لم يرد فيه مثال واحد يخالف حكم العقل في النوع الثاني ، ومن يدعي هذا فعليه أن يأتينا بالدليل ونتحدى منكري السنة مجتمعين ومفترقين أن يجدوا في السنة ما يدل على هذه المخالفة لأنه مستحيل ، والمستحيل لا تتعلق به إرادة ولا قدرة. فهو - كاسمه - مستحيل أبداً أما النوع الأول ، وهو تخلف السبب أو لعلة مع وجود المسبب فإن السنة تتفوق فيه على العقل ، ولا يكون إلا على سبيل المعجزة لنبي ، أو الكرامة لولي ، أو الاستدراج لشقي.
وما جعل الله هذه المعجزات الخارقة لكل مألوف عقلي أو علمي ، إلا ليقهر بها غرور العقل وغرور العلم.
وإلا فماذا يملك العقل من نجاة إبراهيم - عليه السلام - من النار التي أضرمها له أولياء الشيطان ثم ألقوه فيها فلم تمسه بسوء قط وماذا يملك العقل من شأن عصى موسى - عليه السلام - في أوضاعها الثلاثة :
مرة تنقلب ثعباناً يبطل السحر ، ومرة ينفلق بها البحر اثنى عشر فلقاً كل فقل كالطود العظيم.
ومرة يضرب بها الحجر فيتدفق منه الماء عيوناً اثنتى عشرة كالفلوق التي حدثت في الضربة الأولى.
(1/150)
________________________________________
إن ضربة من الضربتين هرب بها الماء ، والأخرى حضر بها الماء فكم - يا ترى - يلزم الآن من التجهيزات التكنولوجية لفلق البحر اثنى عشر فلقاً ؟!
وكم يا ترى يلزم من الإجراءات التكنولوجية الحديثة لتدفق اثنتى عشرة عيناً من الصحراء.
وهل تستطيع كل الوسائل الحديثة المتطورة أن تفجر الماء من حجر ؟!
وهل تستطسع الوسائل العلمية الحديثة ، العالية الكفاءة أن تسخر الجن والطي وجميع القوى الطبيعية كالريح وإسالة الطاقة من الأرض كما حدث من قدرة الله لسليمان عليه السلام ؟
وهل تستطيع جميع القوى البشرية ومخترعاتها المذهلة أن تعيد الروح بعد مفارقتها لجسد ميت ، كما أجرى الله ذلك على يد عبده ورسوله عيسى عليه السلام ، معجزة له على عناد بني إسرائيل وكفرهم.
وهل تستطيع وسائل النقل المعاصرة أن تقتلع قصراً لرئيس أو ملك أو أمير في لحظة هي خارج نطاق الزمن عبر آلاف الكيلو مترات دون أن يصيبه أدنى خلل في نظامه وديكوراته كما صنع الله ذلك معجزة لرسوله عليه السلام ؟!
وهلا يستطيع جيش حديث مزود بكل أسلحة الدمار الشامل أن يقتلع قرية من أساسها ويعلو بها إلى طبقات الفضاء الأعلى ثم يلقيها على الأرض مرة أخرى سطحها أسفل ، وقاعها أعلى كما صنعت القدرة الإلهية مع قوم لوط ؟
أين العقل هنا ؟ وماذا يملك إلا التسليم العاجز الخذول ؟
ونسأل منكري السنة ، أو منكري أحاديث المعجزات النبوية لرسول الإسلام نسألهم هذا السؤال وعليهم أن يجيبوا عليه لأنفسهم - بكل صراحة ، لتعرفوا حجم باطلكم.
هذه الوقائع المذهلة ، التي ايد الله بها بعض رسله ، واشرنا إليها دون الآيات التي قصتها علينا توخياً للإيجاز ، هذه الوقائع - بلا ريب - تخالف العقل مخالفة ، من النوع الأول الذي بيناه في التمهيد الذي تقدم.
(1/151)
________________________________________
هل أنتم مؤمنون بها ؟ إن كنتم مؤمنين بها فيلزمكم الإيمان بالأحاديث التي قصت علينا مثل ما قص القرآن في سور : (الأنبياء والمائدة وآل عمران وغيرها).
وإن اصررتكم على تكذيبكم لهذه الآحاديث لزمكم أن تكذبوا القرآن لأنه روى مثل ما روت هذه الأحاديث. فأنتم محجوجون من كل جهة ، مقهورون أمام صولة الحق. فماذا أنتم فاعلون ؟!
وبهذا تندفع هذه الشبهة كما اندفع غيرها. ويفوت منكري السنة غرضهم الذي رتبوه عليها.
إن ورود أحاديث المعجزات في سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس عيباً ترد به هذه السنة ، ويحكم عليها بالتزوير والبطلان بل هي دعامة من دعائم الإيمان ، كان من الممكن أن تقود هؤلاء الآبقين من رحابة الحق ، إلى سجين الباطل ، كان من الممكن أن تقودهم إلى الإيمان الراسخ والتصديق الجازم بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه (كتاباً وسنة) لو أنهم فتحوا للإيمان قلوبهم وأصغوا إليه أسماعهم ، وأرحبوا لهة عقولهم وقطعوا ما بينهم وبين الشيطان من علائق ووساوس ، أيعجز الله عن شق القمر لرسوله ، وقد شق البحر لموسى عليه السلام.
ايمتنع على الله أن يجري الماء بين أصابع رسوله الكريم وقد فجره من حجر أملس لموسى علسه السلام.
أيستحيل على الله أن يكثر الطعام لرسوله ، وقد أنزله مائدة جاهزة من السماء لعيسى عليه السلام ؟!
لقد أخلصنا لكم القول ، وبقى بيننا وبينكم قوله تعالى :
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف : 29].
* * *
(1/152)
________________________________________
الشبهة الثامنة والعشرون دعوى مخالفة السنة للقرآن .... ؟
إن منكري السنة المعاصرين ، يكثرون من ذكر هذه الشبهة - الآن - فقد طالعتنا كثير من الصحف الجديدة ، والمجلات التي لها غرام بالسير في الممنوع ، وتاريخ في ترويج الأباطيل ، وكل ما ينافي الإسلام ، طالعتنا هذه الصحف والمجلات بمقالات متكررة ، يستخدم كاتبوها شبهة مخالفة السنة للقرآن ، في الوصول إلى أغراضهم الخبيثة ، وسعيهم الدءوب في إزالة الإسلام ، وفي مقدمتها سنة من أرسله الله رحمة للعالمين ، ظانين أن هذه الشبهة هي الضربة القاضية للهدى النبوي ، والمصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام ، لأن مخالفة القرآن أمر مرفوض عند المسلمين فلماذا - إذن - لا ينسفون السنة بإدعاء مخالفتها للقرآن ؟ إنها فرصة ذهبية لهؤلاء المارقين الجهلة ، اليذن يقتفون آثار الزنادقة القدامى ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه.
فالزنادقة - قديماً - ادعوا هذه الدعوة ، من الذين آمنوا بأفواهم ولم تؤمن قلوبهم. وساقوا بين يدى هذه الدعوى الشيطانية حديثاً قالوا فيه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
"ما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته ، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا".
قال أهل العلم والبصر بالحديث النبوي : إن هذا الحديث موضوع ومكذوب على رسول الله ، وأن الزنادقة والخوارج هم الذين اخترعوه من عند أنفسهم تبعاً لأهوائهم. وممن قضى عليه بالوضع الإمام عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام البخاري.
وبعض العمانء جارَوْا الخصم الذين وضعوا هذا الحديث ليبطلوا دعواهم ، فقالوا :
قج عرضنا حديثكم هذا على كتاب الله فوجدناه مخالفاً للقرآن ، لأننا لم
(1/153)
________________________________________
نجد في القرآن "أن لا نقبل من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما وافق القرآن ، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي والأمر بطاعته ويحذر من مخالفة أمره على كل حال".
تطبيقات :
ولهم على هذه القاعدة تطبيقات كان الباعث عليها عندهم أحد أمرين :
أما الجهل إن كانوا صادقين عند أنفسهم فيما يقولون وإما العناد والتجاهل ، ليشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً من مال أو شهرة أو هما معاً ، ونسوق فيما يأتي نماذج من تطبيقاتهم الجاهلة.
رجم الزاني المحصن :
عدالة الإسلام اقتضت أن تكون جميع العقوبات الدنيوية مناسبة للجرائم المعاقب عليها ، فلم يضع القرآن عقوبة شديدة على جرائم خفيفة ، ولا عقوبة خفيفة على جرائم "غليظة" هذا مبدأ عام في الإسلام.
وقد تكون الجرائم المعاقب عليها واحدة في حقيقتها وصفاتها ثم تختلف العقوبة الموضوعة لها مراعاة للظروف التي وقعت فيها الجريمة.
وهذا نراه بكل وضوح في جريمة "الزنى" إذا وقعت من غير متزوج ، وهو ما يعبر عنه الفقه بـ "غير المحصن" أو وقعت من المتزوج ، وهو المعبر عنه في الفقه بـ "المحصن" وعدم الإحصان يكون غالباً في مرحلة الشباب ، وهي أكثر مراحل العمر إحساساً بالغريزة "الجنسية" وإلحاحاً لإشباعها ، ويكون الشباب أضعف ما يكونون على قدرة على كبح جماحها ومقاومتها. وهذا ظرف مخفف للعقوبة على جريمة الزنى إذا وقعت في هذه الأحوال.
لذلك جعل الإسلام عقوبتها الجلد مائة مرة ، جاء ذلك في قوله تعالى :
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور : 2].
(1/154)
________________________________________
أما المتزوج إذا زنى ، وعنده من الحلال ما يغنيه عن الزني رجلاً كان أو امرأة ، فهذه الجريمة تقع منه ولا عذر له فيها ، ولذلك جعل الإسلام عقوبة هذه الجريمة هي الرمي بالحجارة حتى الموت ، ويطلق الفقه على هذه العقوبة مصطلح "الرجم".
والعقوبة الأولى (الجلد مائة) ثابتة بالنص القرآني كما تقدم.
أما العقوبة الثانية "الرجم" فطريق ثبوتها هي السنة النبوية القولية والعملية على حد سواء.
السنة القولية :
* حديث عبادة بن الصامت : "... البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة ، والرجم".
* حديث ابن مسعود مرفوعاً : "لا يحل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
*وروى أبو دواد والحاكم مثله من حديث عائشة - رضي الله عنها - ، مع بعض الاختلاف في اللفظ ، لكن المعنى فب الحديثين واحد.
السنة العملية :
الوقائع التي حدثت في عصر النبوة ، وتم فيها رجم الزناة المحصنين مشهورة ، واشهرها واقعتان هما : رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزا لما جاءه مقرأ بأنه زنى ، ثم رجم "الغامدية" التي صلى عليها النبي صلاة الجنازة بعد رجمها ، وأثنى على حسن توبتها والرجوع إلى الله.
ثم نهج الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - نهج الرسول في رجم الزناة المحصنين ، واتفق على عقوبة "الرجم" علماء الأمة. ومن يرجع إلى مباحث "الحدود" في كتب الفقه يتبين له أن رجم الزناة المحصنين هو الموقف الثابت في الإسلام قولاً وعملاً ، وما تزال بعض الأقطار الإسلامية تطبق هذه العقوبة ، ولا ترى فيها خروجاً عن شريعة الله ، وهذا هو الحق والصواب.
(1/155)
________________________________________
مغالطات منكري السنة :
منكرو السنة يقولون إن أحاديث ووقائع رجم الزناة المحصنين أحاديث ووقائع باطلة ، لم يقلها النبي ولم يرجم زانياً ، حتى وإن وردت هذه الأحاديث والوقائع في صحيحى البخاري ومسلم ، وفي غيرهما من كتب الصحاح ؟!
هكذا يقولون بكل إصرار وجزم ، والسبب عندهم أن هذه الأحاديث والوقائع مخالفة للقرآن ، لأن القرآن حدد عقوبة الزنا بالجلد مائة ، في الآية الثانية من سورة "النور" ولم يفرق بين الزاني المحصن وغير المحصن.
ومادامت هذه الأحاديث والوقائع مخالفة للقرآن فهي إذن باطلة ، ومكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
ونحن نواجه هذه الشبهة - هنا - شبهة مخالفة السنة للقرآن نواجهها باعتبارين :
الأول : مواجهة الشبهة نفسها دون النظر إلى النماذح التطبيقية التي يذكرونها شواهد عليهت. وهذه المواجهة سنرجئها إلى نهاية الحديث عنها.
الثاني : مواجهة الشبهة بالنظر إلى النماذج التطبيقية عنهدم واحداً واحداً. وهذا ما نبدأ به الآن ، فتقول.
أن قولهم أن أحاديث رجم الزاني المحصن باطلة ؛ لأنها جاءت مخالفة للقرآن. هذا القول لا يصدر إلا عن أحد رجلين :
رجل حسن النية ، ولكنه جاهل بالقرآن والسنة ، معاً ورجل سيء النية ، سواء صحب سوء نيته جهل أو لم يصحبه جهل فهذه الأحاديث وما صاحبها من وقائع عملية لا مخالفة بينها وبين القرآن ، إلا في أوهام الجهلة ، والمعاندين.
تحريم الفساد : د
فالقرآن الكريم يجرَّم الفساد والإفساد في الأرض في عدة مواضع :
ففي سورة البقرة : يقول - عز وجل - : {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة : 60].
(1/156)
________________________________________
وفي سورة الأعراف يقول : {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا...} [الأعراف : 56]
وفي سورة القصص يقول : {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ....} [القصص : 77]
عقوبات المفسدين
وما دام الفساد والإفساد في الحياة مُحَرَّماً ومنهياً عنه كان من الحكمة وضع عقوبات دنيوية عاجلة ، على أنواع من الفساد تضر بحياة الأفراد والجماعات. وفي هذا ورد قوله تعالى في سورة المائدة :
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة : 33]
في هذه الآية الحكيمة وضع الله أربع عقوبات لجرائم الإخلال بالأمن العام والخاص وانتهاك الحرمات. وهي الجرائم التي يصدق عليها وصف محاربة الله ورسوله ، والإفساد في الأرض.
الزنى محاربة وإفساد :
والزني ، من أبشع الجرائم الخلقية ، المسقطة للمروءة والشرف. وقد أجمعت الرسالات السماوية على تأثيمه وزجر مقترفيه.
ونظرة خاطفة إلى سرد العقوبات الأربع التي وردت في آية "المائدة" تريك أن القرآن جعل الغقوبة الأولى هي "التقتيل" وهو مأخوذ من الفعل : "أن يُقَتَّلوُا".
فالزنى من أفحش أنواع الفساد والإفساد في الأرض.
والرجم الذي ورد في السنة الطاهرة عقوبة للزناة المحصنين نوع من "التقتيل" الذي ورد في آية "المائدة" عقوبة أولى على محاربة الله ورسوله والإفساد في الأرض.
فالقرآن والسنة في توافق تام في تحديد هذه العقوبة. فأين - يا ترى -
(1/157)
________________________________________
مخالفة السنة للقرآن في تحديد الرجم للزناة المحصنين ، كما يزعم منركو السنة النبوية ؟!
بل إننا نرى دقة متناهية بين معنى الرجم ومعنى التقتيل. فالرجم هو الرمي بالحجارة حتى الموت. فأسباب الموت فيه بطيئة ومتكررة.
وهذا المعنى هو الذي يفهم من "التقتيل" لأنه مصدر الفعل الثلاثي المضعف (قتَّل) على وزن "فعَّل" وهو يفيد معنى التكرار والتتابع المفهوم من لفظ "الرجم" لإن فيه تتابعاً بين القذف بالحجارة حتى الموت فأين دعاة مخالفة السنة للقرآن من هذه الدقائق والأسرار الملجمة لكل أفَّاك أثيم ؟
لا وصية لوارث :
ومن الأحاديث التي عدوها مخالفة للقرآن ، قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا وصية لوارث" وهذا الحديث له منزلة عظمى في التشريع الإسلامي غابت عن منكري السنة ، ثم قابلوا بين هذا الحديث وبين قوله تعالى :
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...} [البقرة : 180].
وظهر لهم من خلال هذه المقابلة ، أن الآية والحديث متعارضان :
الآية تحث على الوصية عند الموت للوالدين والأقربين ، والوالدان من ورثة الميت بلا جدال ، وكذلك الأقربون كالإخوة والأخوات والأبناء ، وهم أقرب فروع الميتن أما الحديث فينفي صحة الوصية للوراث ، سواء كان اصلاً للميت كالأب والجد ، أو فرعاً كالابن زابن الأبن وهذا حملهم على القول بأن الحديث باطل لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه - عندهم - مخالف للقرآن.
لقد حفظوا شيئاً وعغابت عنهم اشياء. ولو أنهم كانوا بصراء بتاريخ التشريع لما وقعوا في هذه الورطة ، أو هه الفضيحة الناشئة عن جهلهم بالقرآن والسنة معاً ، لأن مخالفة التي خُدعوا بها مخالفة ظاهرية ، أما عند التحقيق فلا مخالفة أبداً بين هذه الآية وبين هذا الحديث.
(1/158)
________________________________________
هذه الآية نزلت قبل آيات المواريث في سورة النساء والتي بدأت بقوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ....} [النساء : 11].
وكان المتبوع عند الناس قبل نزل آيات التوريث أن المالك حر في توزيع تركته ، غير ملزم بنظام معين وربما حرم الأبناء آباءهم وأمهاتهم من منحهم شيئاً من أموالهم وهم في ساعة الاحتضار ، وهذا غبن للأباء والأمهات ، فنزلت الآية تذكر الأبناء بما لوالديهم عليهم من حقوق ، تستوجب الإحسان إليهم ، وتخصيص مقدار من أموال التركة لهم ، وللأقربين الأدنين ولما نزلت آيات التوريث ، ووزع الله تركة الميت توزيعاً عادلاً بين أصوله وفروعه ، وبين الأزواج ، وحدد الله أنصباء الأباء والأمهات فيما بين الثلث والسدس وكذلك الأبناء والإخوة والأخوات.
وبعد هذا التحديد الإلزامي لانصباء الوالدين والأقربين صار من الظلم أن يجمع الوالدان والأقربون بين نصيب كل منهم من تركه المتوفي ، وبين مال يستحقونه عن طريق الوصية.
لذلك اذن الله لرسوله الكريم أن يقول "لا وصية لوارث" تحقيقاً للعدل والإنصاف. فالوصية شرعت في ظل حرمان الوالدين والأقربين من تركة المتوفي ، وبعد توزيع التركة إلزامياً على الوالدين والأقربين ، لم يعد للوصية لهم سبب وجيه.
هذا هو فقه هذه المسألة ، وبه يزول توهم مخالفة السنة للقرآن ، ومحال أن يكون بين السنة والقرآن مخالفة ظاهرة أو خفية.
لكن منكري السنة يتخذون من جهلهم المركب بالقرآن والسنة ، وقيم الإسلام ومبادئه السامية ، يتخذون من هذا الجهل قاضياً على حقائق الإسلام.
ومع هذا الجهل يتباكون بدموع "الثعالب" على حاضر الأمة ومستقبلها ، ويجعلون سنة خاتم النبين هي السبب في تخلف الأمة وضياعها {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف : 5].
(1/159)
________________________________________
من بدل دينه فاقتلوه :
من الأحاديث التي قضى هؤلاء الجهلة ، بأنها مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا الحديث : "من بدَّل دينه فاقتلوه" وهو حديث صحيح ، مروي عن رسول الله من ثلاث طرق :
فقد أخرجه البخاري في كتاب الجهاد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
وأخرجه الطبراني المعجم الكبير من حديث معاوية بن حيدة كما أخرجه في الأوسط من حديث عائشة مرفوعاً - رضي الله عنها -.
وكلهم رواه عن رسول الله بهذه الصياغة "من بدَّل دينه فاقتلوه".
ومع هذا لم يتورع منكرو السنة من الحكم عليه بالبطلان لأنه - عندهم - مخالف للقرآن ، ولهم في توهم هذه المخالفة مقولات منكرة ، نكتفي بذكر اثنتين منها ، الأولى : أنه مخالف لقوله تعالى : {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...} [البقرة : 256].
الثانية : فهمهم المغلوط لقوله تعالى في سورة النساء :
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء : 137].
فقد فهموا هذه الآية على غير المراد منها ، وقالوا إن المرتدين في هذه الآية كانوا يخرجون من الإيمان إلى الكفر ، ثم من الكفر إلى الإيمان ، ثم إلى الإزدياد من الكفر ، ولو كانت عقوبة المرتد هي القتل ، كما ورد في الحديث ، لقُتِل هؤلاء المرتدون من أول مرة خرجوا فيها من الإيمان إلى الكفر ، أما بقاؤهم يترددون بين الإيمان والكفر ثلاث مرات ، فهذا دليل على أن المرتد لا يقتل على ردته ؟!
وخلاصة القول عندهم أن القرآن لم يحدد عقوبة دنيوية للمريد عن دينه. والقرآن هو الأصل ، إذن فلا يقام أي وزن لهذا الحديث المخالف للقرآن ؟!
(1/160)
________________________________________
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
قاتل الله الجهل ، فإنه سبب كل بلية ، وقاتل الله العناد ، فإنه مطية الهلاك. هذه الشبهة سواء كان الباعث عليها الجهل أو العناد ، فهي شبهة واهية ، لا تثبت أمام الحق. والحديث الذي قضوا فيه بمخالفته للقرآن متفق مع القرآن تمام الأتفاق ، وإليك البيان :
أولاً : قوله تعالى : {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لم يرد في مقام الحديث عن الدرة والمرتدين ، وإنما ورد في مقام الدعوة إلى الإيمان بوجه عام ، فهو نظير قوله تعالى : {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف : 29].
والمعنى أن الرسول ، والدعاة معه أو من بعده ، ليس من الواجب عليهم حمل الناس بالإكراه على الدخول في الدين ، بل عليهم البلاغ الواضح ، فمن آمن فقد اهتدى ، ومن ظل على كفره فحسابه على الله.
هذا هو معنى هذه الآيات. والحديث بيان لعقوبة من كان مؤمناً فكفر.
وبهذا يتبسن أن للآية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} مقاماً غير مقام الحديث "من بدَّل يدنه فاقتلوه" إذن فالجهة - كما يقول الأزهريون - منفكة ، وهذا معناه أنه لا تعارض بين الآية والحديث ، ولا مخالفة في الحديث للقرآن.
ثانياً : أما آية النساء ، التي حكت قصة آمنوا ثم كفروا ، ثم آمنوا ثم كفروا ، ثم أزدادو كفراً ، فلا تعارض بينها وبين الحديث كذلك.
لأن هذه الآية تصف أحوال المنافقن "السرية" أو النفسية ، والمنافقون - كما هو معروف - كانوا يحرصون دائماً على إظهار الإيمان. سواء كان إيماناً مصطنعاً أو شعروا بإيمان حقيقي في لحظات عابرة. إذن فإن تنقلهم بين الكفر والإيمان كان أحوالاً نفسية ، لم يظهروها لغيرهم. والإسلام - في الدنيا - يجرى أحكامه على ظاهر الحال ، أما السرائر فأمرها موكول إلى الله قطعاً.
(1/161)
________________________________________
وصفوة القول مما تقدم أننا أزلنا شبهة مخالفة هذا الحديث للقرآن بأقطع البراهين. وبقى علينا أن تثبت موافقته للقرآن رغم أنوف آباء ذر.
موافقة الحديث للقرآن :
هذا الحديث الذي عده هؤلاء الحمقى مخالفاً للقرآن هو في الواقع الذي لا يُدفع موافق للقرآن ، ودليلنا من القرلآن هو الآتي :
أولاً : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - "من بدَّل دينه فاقتلوه" هو - بلا نزاع - قضاء قضى به رسول الله ، وقضاء رسول الله واجب الطاعة كقضاء الله نفسه - عز وجل -. بل هو قضاء الله نفسه ، لأنه هو الذي قرر هذا في قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب : 36]
أليس هذا هو كلام الله - عز وجل - ؟
ثانياً : أن هذا القضاء النبوي "من بدَّل دينه فاقتلوه" حكم أتانا به الرسول ، الذي لا ينطق عن الهوى ، ولم يقل إلا حقاً.
ونحن بصريح القرآن مأمورون بطاعة هذا الرسول في كل ما أمر به ، أو نهى عنه : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا....} [الحشر : 7]
ومن قبل هاتين الآيتين كان قوله - عز وجل - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء : 59]
وقد بينت هذه الآية أن للرسول طاعة كطاعة الله. والطاعة الخاصة له - صلى الله عليه وسلم - تكون في سنته المضافة إلى القرآن وسنة الرسول هي بالإجماع :
* أحاديثه التي صح صدورها عنه.
* أفعاله في مقام التشريع والتبليغ عن الله.
* تقريراته وموافقاته لأعمال تقع أمامه من غيره ، فلم ينه عنها.
هذا هو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال.
(1/162)
________________________________________
خطأهم في فهم المخالفة :
منكرو السنة النبوية ، ليس لهم في هذه السوق بضاعة رائجة ، ولا سلاح يحققون به انتصاراً ، لذلك تكبو كل خطوة يخطونها في هذه المسالك الوعرة. وعلى كثرة ما يكتبون لا تجد لهم صواباً واحداً يعتد به ، وهذا أمر بدهي لأن العود الأعوج لا يستقيم له ظل. ولو شاب الغراب.
ففي هذه الشبهة ، شبهة مخالفة السنة للقرآن ، تراهم يسيئون فهم هذه المخالفة المدعاة ، ويوسعون - جهلاً - من مفهومها على خلاف ما يرى علماء الأمة ، وأئمة الهدى منذ عصر الإسلام الأول وإلى الأن. وهذا الفهم المعوج لمفهوم المخالفة ، أوقعهم في الوحل ، أو في خندق ضيق خانق للأنفاس.
فموافقة ، السنة للقرآن - عندهم - تكون يترديد السنة معاني القرآن بألفاظها ، أو ما هو قريب من ألفاظها.
فمثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم - "أدَّ الأمانة إلى من أئتمنك" موافق للقرآن ، لأن الله يقول : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء : 58]
وكل ما عدا هذا فهو من قبيل المخالفة للقرآن لا الموافقة فقد ضيقوا مفهوم الموافقة ووسعوا مفهوم المخالفة فوقعوا في نحاذير لا نهاية لها ، لأن موافقة ، الأحاديث للقرآن في اللفظ والمعنى معاً أمر نادر الوقوع ، والتمسك به يحدث فجوات واسعة بين القرآن والسنة ، وهذا ما جعل منكري السنة أضحوكة الأضاحيك عند العقلاء وأهل العناد منهم يقصدون ذلك قصداً ، لأنه أعون لهم على تحقيق مآربهم ومآرب أعداء الإسلام من الإسلام نفسه.
الموازنة على ثلاث درجات
علماء الحق - رضي الله عنهم - ، جعلوا الموازنة بين السنة والقرآن على ثلاث درجات ، بالنظر إلى جميع ما أطلق عليه أنه حديث ، أي ما يشمل الأنواع الأربعة ، وهي :
(1/163)
________________________________________
* الحديث الصحيح.
* الحديث الحسن.
* الحديث الضعيف.
* الحديث الموضوع.
والدرجات الثلاث هي :
الأولى : ما وافق القرآن من الأحاديث.
الثانية : ما لم يوافق القرآن منها.
الثالثة : ما لم يوافق القرآن ولم يخالفه.
وأحاديث الدرجة الأولى ، وهي ما وافق القرآن هي من السنة إذا صح سندها ، وسلم متنها.
أما ما يندرج تحت مفهوم الدرجة الثانية ، وهي ما ثبت مخالفته للقرآن ، فهذه ليست من السنة ، ومحال أن تكون نسبتها إلى الرسول صحيحة ، فهي أحاديث مكذوبة قطعاً. ثم اصطلحوا على تسميتها بالأحاديث "الموضوعى" أما أحاديث الدرجة الثالثة ، وعي ما لا مخالفة فيها للقرآن ولا موافقة ، فهي مثل أحاديث الدرجة الأولى إذا صح سندها ، وسلم متنها ، فهي من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهي أكثر أحاديث السنة في الواقع ونفس الأمر.
وليس في قولهم : "ما لم يوافق القرآن ولم يخالفه" جمع بين النقيضين كما يبدو من ظاهر العبارة ، لأن مرادهم منها ما سكت عنه القرآن ولم يذكره ، أو هو "المسكوت عنه في القرآن" وهذا النوع لا ترى فيه موافقة ، للقرآن ولا ترى فيه مخالفة له في الوقت نفسه.
فمثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول" لا موافقة فيه للقرآن ؛ لأن القرآن لم يذكر هذا القول.
(1/164)
________________________________________
وليس فيه مخالفة للقرآن ، لأن القرآن لم يرد فيه ما ينهى المسلم عن هذا الترديد لقول المؤذن.
ومثلاً آخر ، قوله - صلى الله عليه وسلم - : "الخيل معقود في نواصيها الخير" لا مخالفة فيه ولا موافقة للقرآن ، لأن القرآن سكت عنه ، ولم يرد فيه نص يخالف ما قرره النبي في فضل الخيل.
هذا هو الحق الأبلج الذي عليه العلماء البررة الورعون فقد أجمعوا على أن الحديث النبوي لا يمكن أن تقع بينه وبين القرآن مخالفة لأن السنة بيان أمين صادق للقرآن ، ولن يخالف البيان الأمين الصادق مقاصد المبَّين قال - عز وجل - : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل : 44]
وأحاديث الدرجة الثالثة من درجات الموازنة بين السنة والقرآن لا تكاد تحصى ، لأنها دارت مع مقاصد الكتاب العزيز في كل شئون الحياة.
ومنكرو السنة لما وسعوا من دائرة المخالفة ، بين السنة والقرآن قضوا على أحاديث الثالثة ، وهي الأحاديث التي نطقت حيث سكت القرآن ، قضوا عليها بالبطلان جميعاً لأنها عندهم مخالفة للقرآن ، أو أن البطلان هو لازم مذهبهم ومن يتتيع ما يكتبونه - الآن - في الصحف والمجلات ، أو الكتب التي يصدرونها ، يجدهم يتهافتون حول الإسراف في رفض الأحاديث ، ورفض ما بني عليه من تشريعات وأحكام فقية تتعلق بالعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك وربما العقائد والأصول.
نوعا الموافقة :
علماء الأمة - سلفاً وخلفاً - مجمعون على موافقة كل ما صح صدوره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقرآن ، سواء في ذلك أقواله وأفعاله وتقريراته ، ولم يشذ منهم أحد ، ولكن لا على طريقة منكري السنة ، الت ي تقدم بيانها.
وقالوا : إنة موافقة السنة للقرآن على نوعين :
أحدهما : موافقة جلية واضحة لا تحتاج إلى طول نظر وفكر وذلك
(1/165)
________________________________________
مثل الأحاديث في تاثيم الربا ، وبر الوالدين ، والتمسك بالكتاب والسنة فهذه تجد الموافقة بينهما وبين آيات القرآن جلية واضحة كالشمس في صافية النهار.
والثاني : موافقة دقيقة فيها نوع خفاء ، تحتاج إلى طول نظر وفكر.
وقد ظفرنا - نحن - بقبس منها حين أثبتنا الموافقة بين رجم الزناة المحصنين ، الذي ثبت بطريق السنة ، وبين مبادئ القرآن الكلية في تحديد العقوبات الأربع على جرائم محاربة الله ورسوله ، والسعي في الأرض فساداً في قوله - عز وجل - : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا....} [المائدة : 33] حيث ظخر لنا توافق الرجم مع "التقتيل".
أصلان كليان :
فإذا لم يسعفنا النظر في كتاب الله بوجه للموافقة بين حديث صح صدوره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبين القرآن فإن في القرآن أصولاً كلية عامة تضفى على الحديث صفة الموافقة ، وتنفي عنه وصمة المخالفة. ويكفينا هنا أن نذكر منها اصلين ، وإن كانت الإشارة إليهما قد تقدمت :
أولهما : قوله تعالى في سزرة الأحزاب :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب : 36]
والثاني : في سورة الحشر :
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : 7]
أن هذين الأصلين كافيان لمواجهة الشغب الذي يثيره زنادقة العصر من منكري السنة ، وادعائهم أنها ، أو كثير منها مخالف للقرآن.
ورحم الله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فقد قال في هؤلاء المارقين وأمثالهم :
(1/166)
________________________________________
"ستأتي أقوام يجادلونكم بمتشابه القرآن ، فخذوهم بالأحاديث ، لأن أهل السنن أعلم بكتاب الله".
متى تجب موافقة السنة للقرآن ؟
لا خلاف بين علماء الأمة سلفاً وخلفاً حول موافقة السنة للقرآن ، وأن في القرآن أصولاً لا تحمل عليها السنة في كل ما ورد فيها ، وأن ما ثبت خلافه للقرآن - يقيناً - مما ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو صحيح النسبة إليه ، وقد عرفنا أن طريقة علماء الأمة من موافقة السنة للقرآن تختلف عن تصورات منكري السنة وأوهامهم الباطلة في هذا المجال.
وبقى فرع مهم ينبغي الإشارة إليه ، وهو أن موافقة السنة للقرآن واجبة وجوباً قطعياً في الأحاديث والأفعال والتقريرات المتعلقة بأفعال المكلفين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. هذا موضع إجماع بين العلماء على اخالاف تخصصاتهم في علوم الإسلام :
مفسرون ، ومحدثون ، وأصوليون ، وفقهاء ، ومتكلمون قال الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات [4/57] ما يلي "والثاني : أن لا يقع - يعني الحديث النبوي - موقع التفسير ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي ، فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن ، لأنه امر زائد على موقع التكليف ... فالسنة إذا خرجي عن ذلك فلا حرج ، وقد جاء من ذلك في الصحيح ، كحديث أبرص وأقرع وأعمى ، وحديث جريح العابد ، ووفاة موسى ، وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام ، والأمم قبلنا ، مما لا ينينى عليه عمل ، ولكن في ذلك من الاعتبار على نحو ما في قصص القرآن..."
وصفوة القول : أن موافقة السنة للقرآن إنما تجب في شئون التكليف الاعتقادي والعملي ، أما فيما عذا هذا فالموافقة ليست واجبة ، فقد تنفرد السنة بأمور ليس لها وجود في القرآن ، وقد يكون لها وجود في القرآن والسنة معاً ، لكن التوافق ليس مطلوباً ، وقد أشار الإمام الشاطبي - كما تقدم - إلى بعض ما انفردت
(1/167)
________________________________________
به السنة ، ونحن نضيف إلى ما قاله قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم سأل هل له من توبة ، فأفتى المسئول بأنه لا توبة له فقتله وأكمل به المائة ، ثم سأل آخر : هل له من توبة ، فأفتاه بأن له توبة فتاب.
هذه القصة لم ترد في القرآن ، ومع هذا لا يعتبر الحديث الذي قصها مخالفاً للقرآن.
وقصة اصحاب الأخدود وردت في القرآن في سورة "البروج" كما وردت في أحاديث القصص النبوي ، ولو كانت السنة قد انفردت بذكرها لما كانت مخالفة للقرآن مخالفة ينسحب اثرها على الحديث بالبطلان.
* * *
(1/168)
________________________________________
الشبهة التاسعة والعشرون الوضع في الأحاديث
المقصود من الوضع في الحديث النبوي ، هو الافتراء والاختلاق أي صياغة كلام في الشئون الدينية ، وإسنادها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، على أنه هو قائلها زوراً وافتراء عليه ، وهذه الظاهرة لا ينكرها أحد ، وهي موضع إجماع عند علماء الحديث وغيرهم من علماء الأمة.
لكن منكري السنة المعاصرين وبعضاً من أسلافهم يملأون الدنيا صياحا للتهويل من شأن هذه الشبهة ، والقصد عندهم معروف ، وهو التشكيك في ميراث الأمة من رسولها - صلى الله عليه وسلم - ، يريدون أن يعتقد للناس سريان الوضع على الأحاديث المتداولة في كتب الصحاح والسنن وغيرها ، وهم يعولون على هذه الشبهة كثيرا لأن علماء الأمة - كما تقدم - معترفون بظاهرة الوضع في الحديث ، وما دام الأمر - كذلك - فلماذا لا يطرقون الحديد وهو ساخن ؟! ويتصل بهذه الشبهة شبهة أخرى ، وهي ما يطلق عليه عند علماء الأحاديث مصطلح "الاسرائيليات" ولم نفرد لهذه الشبهة مبحثا خاصا بها ، لأنها تندرج - في الواقع - في ظاهرة الوضع بمعناها العام. وإن كان بين الشبهتين فرق فهو الآتي :
إن الباعث على الوضع عند غير بني إسرائيل له صور متعددة سيأتي الحديث عنها بإذن الله.
أما الوضع عند اليهود (بني إسرائيل) فيكاد الباعث عليه أن يكون محصوراً في الكيد في الإسلام ، وتضليل المسلمين في عقيدتهم وسلوكياتهم في الحياة.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
لو كانت ظاهرة الوضع في الحديث قد غفل عنها علماء الأمة من محدثين
(1/169)
________________________________________
ومفسرين ، وأصوليين وفقهاء ، ولم يكتشفها إلا منكرو السنة المعاصرون ، لكان لهم حق في ترويجها والاستناد إليها في إنكارهم للسنة ، ولما استطاع أحد الوقوف أمامهم فيما يقولون ولكن لسوء حظهم ، وفضح أمرهم ، وتسجيل الخزي عليهم ، أن علماء الأمة منذ البدء الواسع في تدوين الحديث وجمعه ، فطنوا إلى وجود هذه الآفة ، وحاصروها من كل جهة ، وأبطلوا مفعولها تماماً ، ومنكرو السنة ذرات في عالم الغيب ، ليس لهم وجود إلا في علم الله المحيط ، الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء وصدق رسولنا الكريم القائل : "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
جهود السلف الصالح :
لقد بذل سلفنا الصالح ، رضوان الله عليهم - جهوداً شاقة في التصدي لظاهرة الوضع ، ونشأ علم النقد "الحديثي" من أجل تمييز الحديث النبوي من الحديث الموضوع المختلق ، الذي لم يقله - صلى الله عليه وسلم - .
بل تناول النقد الأحاديث غير الموضوعة ، وصنفوها أصنافاً ثلاثة على معايير النقد الدقيق الذي أخضعوا له كل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت هذه الأصناف.
* الحديث الصحيح.
* الحديث الحسن.
* الحديث الضعيف.
كما صنفوا الأولين باعتبار كثرة الرواة وقلتهم للحديث الواحد صنفين آخرين : حديث مشهور (متواتر) وحديث غير مشهور (آحاد) ثم صنفوا الحديث الضعيف أصنافا عدة ، مثل :
المرسل - المقطوع - الموقوف - المعضل - المرفوع - الغريب - الشاذ - المسند - المتصل - المدلس - المتروك - المنقطع - المضطرب - المنكر - إلخ ... إلخ.
تعليق المستخدم :ها
(1/170)
________________________________________
وكل هذه "الألقاب" أو الأوصاف ، كانت ثمرة لقواعد النقد الدقيقة الحكيمة ، التي وضعها هؤلاء الرجال الأفذاد.
الحديث الموضوع :
درس علماء الحديث ظاهرة الوضع دراسة فاحصة ، سواء كان الواضع من بني إسرائيل أو من غيرهم. وما وضعه بنو إسرائيل أطلقوا عليه مصطلح "الإسرائيليات" سواء كانت في الحديث أو التفسير أو في السيرة والتاريخ.
أما ما وضعه غير بني إسرائيل فقد درسوا أسباب الوضع فيه ثم نصوا على الأحاديث الموضوعة ، وجمعوها في مصنفات خاصة بها ، وبينوا الأسباب التي حملتهم على الحكم عليها بالوضع ، أحيانا من دراسة السند ، وأخرى من دراسة المتن.
فلو أن حديثا في سلسلة سنده عشرة رواة عدول تقبل روايتهم ، إلا واحداً منهم مطعون فيه ، فإنهم لا يقبلون روايته ، ويحكمون بوضع الحديث أو ضعفه - ولم يجعلوا كثرة الرواة العدول شفيعا في قبول الحديث ، الذي في سنده كذاب أو مدلس ، وهذا شدة حيطة منهم في نسبة الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
كما نصوا على أسباب الوضع فأحكموا القول ، وأصابوا ، ومن أسبابه التي ذكروها :
* التعصب للأجناس أو البلدان.
* التعصب للفرق الكلامية والفقهية والسياسية.
* أصحاب الأهواء والبدع الذين يرجون لأهوائهم ويدعون الناس لاتباع بدعهم.
* القصاصون والإخباريون الذين يريدون جذب الناس للاستماع إليهم ، مثل الفنانين - الآن - المغرمين بالشهرة وإعجاب "الجماهير" بهم.
(1/171)
________________________________________
والمعروف أن ظاهرة الوضع في الحديث ظهرت متأخرة عن بدء التدوين ، ولما فشا أمرها شمر لها العلماء عن ساعد الجد ، ونشأ نتيجة لذلك :
علم الجرح والتعديل :
وفيه رصد العلماء أحوال الرواة مثل الكذب ، والابتداع والتساهل ، والغفلة والنسيان. والتعصب ، واتباع الهوى في جانب التجريح.
أما في جانب التعديل فسجلوا ما كان عليه المعدلون واحداً واحداً من العدالة والضبط ، والعدالة وصف جامع لصفات الكمال في الرواة.
فعلم الجرح والتعديل ديوان شامل لكل الرواة ، سواء كانوا رواة الحديث الصحيح ، أو رواة الحديث الحسن ، أو رواة الحديث الضعيف ، أو رواة الحديث الموضوع ؛ أسماؤهم ، وكناهم ، وألقابهم ، وصفاتهم الخلقية ، إنه أشبه ما يكون بـ"ذاكرة الكمبيوتر" الحديث خازن لمعلومات تسعف المحتاج إليها عند الطلب. وبمعونتها يحكم على الحديث المروي بما يستحقه من الصفات والألقاب :
الصحة والحسن ، والضعف والوضع كل ذلك تم ومنكرو السنة المعاصرون لم يكونوا في الوجود شيئاً مذكورا.
وبعض الوضاعين كانوا كما يزورون متن الحديث يزورون السند ، ويختارون الرواة - أحياناً - من المعروفين بالصدق والعدالة والضبط ، وهذا ما كان يخدع نقاد الحديث ، لأنهم كما يعرفون الوضع عن طريق المتن ، يعرفونه عن طريق لسند ، وهذه هي محاصرة للوضع من كل جهة ، التي أشرنا إليها في بداية هذا المبحث.
والأمارات التي تدل على الوضع من النظر في المتن هي كما يأتي :
* ركاكة التركيب أو الألفاظ ، مما يقطع أنه لا يصدر عن فصيح عالم بصحة البيان ، ومرامي الكلام ، أو وجود خطأ لغوي نحوي أو صرفي.
* مخالفة الحس والمشاهدة - (في غير المعجزات) كما ورد في
(1/172)
________________________________________
حديث موضوع أن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا ، وصلت متجهة إلى الكعبة.
* مخالفة ضرورات العقل ، التي أشرنا إليها في شبهة ادعائهم أن السنة تخالف العقل ، لا مخالفة مطلقاً ، لأن أحاديث المعجزات الصحيحة خارقة للمعهود العقلي.
* مخالفة الحقائق التاريخية المقطوع بها ، مثل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع الجزية على أهل خيبر عام (7 هـ) والجزية شرعت بعد فتح خيبر ، ولم تكن مشروعة فبلها ولا في أثنائها.
* إذا وافق الحديث هوى الراوى المتعصب لهواه.
* دلالة الحديث على ثواب عظيم مرتب على طاعة يسيرة ، أو على وعيد شديد عقوبة على معصية صغيرة وهذه مجرد نماذج تدل على الوضع في الحديث من ناحية المتن.
أمارات الوضع فب السند :
أمارات الوضع في السند كثيرة ، من أشهرها :
* أن يكون الراوي معروفاً بالكذب فيحكم على الحديث بالوضع ، لكن بشرط أن لا يكون للحديث طريق أخرى راويها ثقة معروف عند نقاد الحديث بالعدالة.
* أن يعترف الراوي بالكذب ، كنوح بن أبي مريم الذي أعترف بأنه وضع بعض أحاديث فضائل سور القرآن ، ليجذب الناس إلى القرآن ويصرفهم عن اللهو. ؟
* أن يثبت أن الراوي روى عن شيخ ثبت أنه لم يلقه أو مات قبله ، أو ولد بعده.
* أن يفهم من الحديث أن راوية يروج لشيء نافع له خاصة كبائع الهريسة الذي وضع "الهريسة تشد الظهر" وهكذا.
تعليق المستخدم :و
(1/173)
________________________________________
والخلاصة :
إن هذه الشبهة لا جدوى فيها لمنكري السنة ، وهي شبهة بائرة كما بارت كل الشبهات المتقدمة ، وذلك لأن آفة الوضع حسمها العلماء - رضي الله عنهم - ، قبل انصراف القرن الثامن الهجري ، ووصلت إلينا محسومة. وغضافة إلى أمارات الوضع في السند والمتن ترك لنا سلفنا العظيم مصنفات عديدة نصوا فيها على الأحاديث الموضوعة ، منها :
* الموضوعات لابن الجوزى (3 أجزاء)
* الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكانى (جزء واحد)
* تنزية الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضعة (جزآن) للكتانى.
* الالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (جزءان) للجلال السيوطى.
* * *
(1/174)
________________________________________
الشبهة الثلاثون جامعو السنة كتبوها مكرهين ؟!
عنوان ضخم ، ووصف مفزع ، فإذا فتشت وراءه لم تجد لهذا "القول" أبا ولا أما. وهذا يؤكد أن منكري السنة يتهافتون - دائماً - وراء تصيد الشبهات لإنكار شطر الإيمان.
وفي هذه الشبهة يزعمون أن جامعي السنة لم يكتبوها مختارين ، بل كتبوها مكرهين ، وأن الأمراء أكرهوهم على كتابتها ، ولولا إكراه الأمراء ما كتبوها ، وما كنت تسمع عن رجل اسمه البخاري ، أو مسلم أو غيرهما ؟!
ويستندون في هذه التهمة "الضخمة" على كلام كتبه المستشرق اليهودي الأصل (جولدزيهر) عن الإمام الزهرى نقله محرَّفاً ولو كان نقله "صواباً" ما وجد فيه منكرو السنة الآن أو شياطين الإنس مغمزاً في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وها نحن أولاً نكشف باطلهم بحق الله ، فإذا هو زاهق.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
لم يكن تدوين المعارف والعلوم منتشراً في صدر الإسلام بل كانوا سعتمدون على الحفظ ، وقوة الذاكرة. وقد كان هذا ملاحظاً في كل العلوم العربية والشرعية ، وليس مقصوراً على علم الحديث وحده ، لأن التدوين بدأ وئيداً في أواخر القرن الثاني الهجري ، ثم فشا أمره في القرنين الثالث والرابع ، وبلغ ذروته في الرابع كما هو معروف. والقرنان الثالث والرابع الذهبي في التأليف والتدوين العربي الإسلامي.
الواقعة قبل التحريف : جاء في طبقات ابن سعد وتاريخ ابن عساكر أن الإمام الزهرى كان يمتنع عن
(1/175)
________________________________________
كتابة الأحاديث الشريفة للناس ، ويكتفي بإسماعهم الحديث لئلا يتكلوا على الكتابة ويهملون الحفظ ، وفي عهد هشام بن عبد الملك أشار على الزهرى أن يكتب لولده - ولد هشام - اربعمائة حديث ليحفظها ، فامتنع الزهرى ، لكن هشاماً ألح عليه حتى وافق الزهرى. ولما كتب الأحاديث الأربعمائة خرج فقال للناس ، الذين كانوا يطلبون أن يكتب لهم الأحاديث فيمتنع ، قال لهم بصوت عال :
"أيها الناس : إنَّا كنا منعناكم أمراً - اي كتابة الأحاديث لهم - وقد بذلناه الآن لهؤلاء. وأن هؤلاء الأمراء اكرهونا على كتابة الأحاديث ، فتعالوا حتى أحدثكم بها ، فحدثهم بالأربعمائة حديث".
هذه هي الواقعة بكل ملابساتها ، ومما يحمد للزهرى فيها أنه أبراً ذمته ، وسوَّى بين جميع طلاب العلم ، وبين ابن الحليفة كما وضح للناس السبب في كتابته الأحاديث لابن هشام وهو غلحاح هشام عليه كما جاء ذلك واضحاً في كلامه ، الذي رواه ابن عساكر وابن سعد ، وشاركهما الخطيب في ذكره.
الواقعة بعد التحريف :
كان جولدزيهر أول من حرَّف عبارة الإمام الزهرى تحريفاً خطيراً أفسد المعنى المراد عند الإمام الزهرى.
فقد حرَّف عبارة الزهرى "أكرهونا على كتابة الأحاديث" إلى قوله : "أكرهونا على كتابة أحاديث" ؟!
والفرق بين العبارتين كبير وخطير :
فعبارة الإمام الزهري معناها أن هشاماً أكرهه على كتابة أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى عبارو زيهر أن هشاما أكره الزهرى على كتابة أحاديث مفتراة لم يقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟!.
(1/176)
________________________________________
والمقصود من هذا التحريف عند زيهر ومشايعيه أن الزهرى كان أول من تعمد الكذب على رسول الله ثم تتابع جامعو السنة في "فبركة الأحاديث" دون أن يكون لها من الصحة نصيب ؟!
هذه هي الحقيقة ، وأنت ترى أن هذه الشبهة لم تقم على أي أساس سوى التحريف المتعمد ، ولا عجب ، فإن اليهود - ومنهم جولدزيهر - لهم مهارة في التحريف والخيانة ، فقد حرَّفوا التوارة وشوهوا صورة الحق فيها ، فما الذي يمنع زيهر من تزوير النصوص الإسلامية تزويراً يحقق بعض أو كل مطامع اليهود في تشويه الإسلام ، أو القضاء عليه ؟! وليست مشكلتنا اليوم مع جولدزيهر ، فقد هلك هو وهلك معه حقده على الإسلام.
وإنما مشكلتنا معه هؤلاء "الخوانة" الذين اتخذوا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "غرض" يطلقون عليه سهامهم الطائشة بسوء نية ، وسوء لسان.
وتراهم لم يقفوا عند المعنى الذي أراده سلفهم "زيهر" بل ضخَّموا هذه "الفرية" وادعوا أن السنة "كلها" كتبت في "قصور الأمراء" وعلى "أهوائهم" وهي الشبهة التي رصدناها وعرضناها من قبل ثم فندناها ونقضناها بأسلوب علمي موضوعي لا تهافت فيه ولا تحامل والحق لا يحتاج أنصاره في الدفاع عنه إلى استخدام سلاح الباطل فدعائم انتصار الحق كامنة في الحق نفسه.
امتناع الزهرى أولاً :
وليس في امتناع الزهرى عن كتابة الحديث أولاً ، ولا في إعلانه عن كراهيته للكتابة أمام هشام ثانياً ، ليس في هذين ما يمكن ترشيحاً وتقوية لادعاءات منكري السنة الآن ، ولا لجولدزيهر من قبل.
جولدزيهر يقلو إن الإمام الزهرى اعترف بصراحة عن تزويره أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استجابة لرغبة الخليفة هشام بن عبد الملك.
وهذه كله وَهْم مغلوط ، ولا يُفهم منه أن موقف الزهرى كان لاعتقاده أن السنة مزورة ، لأن هذا الموقف مثله الخليفة الأول أبو بكر الصديق من جمع
(1/177)
________________________________________
القرآن في مصاحف كما وقفه زيد بن ثابت الأنصاري حين عهد إليه الشيخان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - بجمع القرآن ، وقال إنه لو كُلَّف بنقل جبل لكان أهون عليه من جمع القرآن.
والأمور العظيمة يخشى الأتقياء وأهل الورع الإقدام عليها تقديراً لها ، ورؤية أنفسهم أضأل ما يكونون أما عظمتها مثل الفتيا ، ما أكثر من كان لا يجرؤ عليها من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل التقوى والقضاء.
فهل يقول هؤلاء الآبقون إن معارضة أبي بكر - رضي الله عنه - أولاً في جمع القرآن في مصاحف كانت لريب في نفسه نحو القرآن ، وهل يقولون إن زيد بن ثابت كره أن يقوم بجمع القرآن من صدور الحفاظ ، ومن الرقاع لاعتقاده أن القرآن لا يوثق بروايته وحفظه ؟!
إنهم لن يستطيعوا - لأسباب كثيرة - أن يقولوا بهذا. ونسألهم - بناء على ما تقدم - ما الفرق بين موقفى أبي بكر وزيد بن ثابت ، وبين موقف الزهرى ؟! هل عندكم من علم فتخرجوه لنا يا حزب الشيطان ؟!.
* * *
(1/178)
________________________________________
الشبهة الحادية والثلاثون السنة لا تستقل بالتشريع
هذه الشبهة من القسم الثالث ، كما أشرنا في المدخل ، والقسم الثالث هو الشبهات التي يتعامل بها منكرو السنة مع السنة إذا يئسوا من التشكيك فيها ، ومن محوها من الوجود.
في هاتين الحالتين : اليأس من التشكيك ، واليأس من المحو ، يتعامل هؤلاء الماكرون مع السنة بشبهات لا تمس صحة صدورها على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يحاولون "تحنيط" السنة ونزع ما فيها من فيوضات روحانية ، وهي كالماء في حياة الأمة ، الذي لا تحيا بدونه أبداً.
وخلاصة هذه الشبهة أن السنة غير صالحة لتشريع ما لم يرد في القرآن ، بل هي بيان للقرآن وكفى. ويعتبرون كل حكم تشريعي كانت السنة هي الدليل عليه ، مخالفاً للقرآن ، وما يخالف القرآن يكون باطلاً.
وصدور هذه منهم يتطبق عليه القول المأثور : "كلمة حق أريد بها باطل".
وقد بيَّنا في شبهة "مخالفة السنة للقرآن" أن لا مخالفة قط بين السنة والقرآن ، سواء كانت بياناً له ، أو دليلاً تشريعياً مستقلاً ، فليرجع إليه من يريد خشية الإطالة ، بذكره مره ثانية.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
لا ينكر منصف ، ولا عاقل أن أحكام الشريعة حوت كثيراً من الأحكام التي دليلها المباشر هو السنة ، أما القرآن فسكت عنها تفصيلاً وإن لم تخل "كلياته" من الإيماء إليها إجمالاً ، وهذه هي عقيدة السلف والخلف ، وإن جحد الجاحدون ، أو جهل الجاهلون ، أو أرجف المرجفون ، أو نكب عن الصراط القويم الناكبون.
(1/179)
________________________________________
والأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين ، التي وردت عن طريق السنة أكثر من أن تّحصى ، ومنها على سبيل التمثيل :
* زكاة الفطر ، وما يتعلق بها من أحكام ، لم يكن لها دليلاً إيجاب إلا ما ورد في السنة ، وكذلك الأنواع التي تُخرج منها.
* تحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في عصمة زوج واحد في وقت واحد ، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكمة التشريعية في منع هذا الجمع.
ولم يرد في القرآن إلا تحريم هذا الجمع بين الآختين فحسب.
* أضافت السنة إلى المحرم نكاحهن من "القريبات" عن طريق العلاقة النسبية ، ما ماثل تلك العلاقة من الرضاع ، فقال : "يحرم من الرضاع ما حرم من النسب".
والذي ورد تحريمه من الرضاع في القرآن هو : الأمهات من الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة ؟ (أنظر الآية [23] من سورة النساء.)
* أضافت السنة إلى المحرم أكله في القرآن من الميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح ، إلخ تحريم أكل كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي ناب من السباع ، وأكل لحوم الحمر الأهلية ، وهذه لم يرد تحريمها في القرآن منصوصاً عليه مفصلاً.
* واستقلت السنة بتقرير "الشفعة" للجار ، وكونه أحق من غيره بما جاوره من مملوكات عقارية لجاره إذا زهد فيها وعرضها للبيع. ولا نجد في القرآن إلا الأمر والترغيب في الإحسان إلى الجار.
* والقرآن حرم أكل الميتات على الإطلاق ، وورد في السنة ميتة البحر فهي حلال ، وعليه العمل حتى اليوم ، والحديث رواه أبو هريرة "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" جواباً لمن سأل النبي عن الوضوء من البحر.
* بينت السنة ميراث ما زاد على الاثنتين من البنات في قوله تعالى {فَإِنْ
(1/180)
________________________________________
كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء : 11] وسكت القرآن عن ميراث البنتين ، فبينت السنة أن لهما الثلين إذا لم يكن لهما معصب.
فقد روى جابر - رضي الله عنه - أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد مات زوجها. فأخذ أخوه كل ماله ولها بنتان منه ، فقضى - صلى الله عليه وسلم - للزوجة بالثمن وللبنتين بالثلثين ، لأخي الميت الباقي ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - قاس شأن البنتين على شأن الأختين ، إذ جعل الله لهما ثلثى ما ترك أخوهما إذا لم يكن له ولد وارث ، أنظر الآية رقم [176] من سورة النساء.
* لم يرد في القرآن أن حكم الجنين الذي يوجد في بطن أمه ميتاً بعد ذبحها شرعاً.
هل يحرم أكله لأنه ميت ؟ فبينت السنة أن زكاة أمه زكاة له فيجوز أكله. قال - صلى الله عليه وسلم - : "زكاة الجنين زكاة أمه" والحديث مروي من عدة طرق أنظر الموافقات للشاطبي [جـ 4 ص 39].
هذا غيض من فيض من الأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين استقلت السنة فيها بالتشريع.
ومعنى استقلال السنة بالتشريع أنها كانت دليل الحكم وأمارته ، لا أن الرسول هو المشرع من غير إذن من الله فصاحب التشريع هو الله سواء كان دليل الحكم هو القرآن أو الحديث النبوي. لكن منكري السنة يتعامون عن كل هذا مع وضوحه. ولا جرم فإن الغاية عندهم تبرر الوسيلة. ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين.
* * *
(1/181)
________________________________________
الشبهة الثانية والثلاثون مَنْعُ العمل بأحاديث الآحاد
هذه الشبهة كالتي قبلها ، موضوعة للتعامل مع السنة في حالتى الفشل في التشكيك فيها ، وفي محوها كلية. وكان لسان حالهم - بعد لسان مقالهم - يقول : سلمنا أن السنة صحيحة وبريئة ، من كل المآخذ ، ومع هذا فليس لها درو في التشريع ، لأنها أحاديث رواها أفراد (آحاد) وأحاديث الآحاد لا يجوز العمل بها ، لأنها لا تفيد اليقين ، أما غير الآحاد من الأحاديث فهو نادر الوجود في السنة. فماذا بقى لنا - بعد ذلك - من الأحاديث النبوية تتخذه مصدراً تشريعياً ثانياً بعد القرآن ؟ لا شيء يبقى منها!
إذن ، فالسنة سواء سلمت من الطعون ، أو لم تسلم لا غناء فيها للمسلمين ، فينبغي إبعادها عن حياتهم فوراً ؟! وهو - الآن - أعني منكري السنة - يُعَوَّلون على هذه الشبهة ، لأن خلافاً قديماً وقع بين العلماء حول حديث الآحاد.
هل يُعْمَلُ به أو لا يُعْمَل ؟ و'ذا كان يُعْمَل به فما هو مجال العمل به ؟ عام يشمل العقائد والحدود ، أم خاص في غير العقائد والحدود ؟
هذا الخلاف مشهور ، وقد أولاه علماء أصول الفقه والفقه عناية فائقة ، ووصلت إلينا هذه القضية محسومة بأدلتها ، وواقعيتها. في حياة المسلمين ، بما لا يدع مجالاً للغط أو تشوية جانب الحق فيها ، ولكن منكري السنة قوم يشغبون.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها :
تقدم في شبهة "ندرة المتواتر" أن الحديث النبوي ينقسم قسمين باعتبار كثرة رواة الحديث الواحد وقلتهم. فما كان عدد رواته قليلاً ، واحداً فما فوقه ، سمى الحديث "حديث آحاد" وما كان رواته كثرة مستفيضة سمى "الحديث
(1/182)
________________________________________
متواتر" وهذان اصطلاحان فنيان لعلماء الحديث ، أرادوا بهما ضبط بعض المسائل المتعلقة بشأن الحديث النبوي ، وهما مصطلحان طرآ بعد عصر صدر الإسلام ، ما في ذلك من ريب على أن هؤلاء العلماء حين قسموا الحديث هذا التقسيم الثنائي لم يحددوا بالضبط نهاية العدد الذي يعتبر به الحديث آحادياً ، ولا بداية العدد الذي يعتبر به الحديث متواتراً. فبقى قدر مشترك بعد الحديثين الآحادي والمتواتر.
وقد فهمت من كلام بعض ممنكري الحديث النبوي المعاصرين أنهم يفهمون أن حديث الآحاد هو ما رواه واحد عن واحد من بداية السند إلى نهايته ، وهذا غير صحيح فقد يُروى حديث الآحاد عن عشرة في سلسلة السند ومع ذلك يظل حديث آحاد ، ما داموا لم يحددوا بداية العدد الذي يكون به الحديث متواتراً.
وقد تقدم أن حديث "من بدَّل دينه فاقتلوه" له ثلاث طرق سمعته من رسو الله - صلى الله عليه وسلم - :
طريق عن عائشة - رضي الله عنها - ، وطريق عن ابن عباس - رضي الله عنه - ، وطريق عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه -.
وهذا جهل فاضح ، إن لم يكن تجاهلاً قادحاً في سلامة النية ، ونبل القصد.
أقول : إن تقسيم الحديث النبوي إلى آحاد ومتواتر اصطلاح حادث بعد عصر صدر الإسلام ، أما في صدر الإسلام الأول فإن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا يعملون بالحديث النبوي الصحيح ، دون التفرقة بين ما كثر سامعوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما قل سامعوه. إن الشرط الوحيد في قبول الحديث والعمل به هو "الصحة" وما كانوا - رضي الله عنهم - يطلبون امراً زائداً على الصحة ولا يقدح في ذلك أنهم كانوا - أحياناً - يطلبون مع راوي الحديث راوياً آخر قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما سمعه الراوي الأول.
(1/183)
________________________________________
أقول : ليس هذا قادحاً في قبول الصحابة الحديث مطلقاً دون النظر في كثرة الرواة وقتلهم ، لأمرين :
الأول : أن طلب الراوي الثاني لم يكن غالباً ، بل ورد في بعض الحالات النادرة ، ولم يحدث من أبي بكر إلا مرة واحدة ومن عمر - رضي الله عنهما - مرات قليلة.
وكذلك عثمان وعلي - رضي الله عنهما -.
الثاني : أن طلب الخلفاء راوياً ثانياً يعاضد سماع الراوي الأول ، لا يخرج الحديث من "الآحاد" إلى "التواتر" وهذا لا نزاع فيه.
ويستنتج من هذا أن الخلفاء الراشدين ، والصحابة ، جيمعاً كانوا يعملون بالسنة الصحيحة ، ولا يتجاوزون شرط الصحة من الحديث إلى أمر آخر زائد عن الصحة.
فشرط العمل بالحديث هو رواية "الثقة" عن مثله. ومتى استوفى الحديث شرط الصحة وجب قبوله والعمل به ، وعلى هذا جرى العمل عند رجال القرن الأول ، وهو خير القرون مع تالييه الثاني والثالث.
وقد يرد حديث الآحاد ولا يعمل به ، لكن لا لأنه حديث آحاد. بل لأمر آخر يتعلق بسنده أو متنه مثل أن يكون له معارض أقوى منه.
أو تكون في الحديث علة قادحة من علل المتن أو السند أو يكون مخالفاً لعمل أهل المدينة عند الإمام مالك - رضي الله عنه -.
أو دل دليل على نسخه ، أو تخصيصه بواقعة معينة. فإذا لم يكن في المسألة إلا حديث واحد مما أطلق عليه علماء الحديث أنه "حديث آحاد" وجب العمل به في المسألة المعروضة للفتوى أو الحكم ، إذا كان راوية ثقة عن مثله ، ولا يجوز رده. وهكذا كان يفعل الخلفاء الراشدون فإذا رددناه فلا يخلو الحال من أحد أمرين :
الأول : أن نعمل بالرأي وهذا لا يجوز ، لأن الرأي مقطوع بأنه ليس حكماً
(1/184)
________________________________________
لله ولا لرسوله ، وحديث الآحاد الذي يرويه الثقة فهو فتوى أو حكم منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سواء في ذلك أن يكون مفيداً للعلم ، أو الظن القوى. فيكون العدول إلى الرأي مع وجود النص الشرعي حكماً بغير ما أنزل الله على رسوله ، وبغير ما قضى به رسوله.
الثاني : ألا نقضي في المسألة المعروضة ، للفتوى أو للحكم بشيء, وحينئذ يكون فيما انتهينا إليه تعطيل لشرع الله - عز وجل - وتعريض مشاكل الناس للاستفحال.
وبعض الفقهاء يقدمون الحديث الضعيف على العمل بارأي ، وهذه حيطة محمودة ، فما بالك بالحديث الصحيح ، الذي رواه العدل الضابط عن مثله ؟!
إن أكثر الأحكام الفقهية قائمة على الظن القوي وما في ذلك من حرج. وحديث الأحاد الذي رواه الثقة يفيد الظن القوي إن لم يفد العلم ، فيجب العمل به. هذا ، وقد حكى الإمام الرازي إجماع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العمل بحديث رسول الله آحاد أو غير آحاد ولأهل العلم المحققين أدلة من عمل الرسول نفسه تؤكد وجوب العمل بأحاديث الآحاد.
* منها : رسله وكتبه التي كان يبعث بها إلى رؤساء الشعوب والعشائر يدعوهم فيها إلى الإسلام ، كالفرس والروم وأهل مصر وعشائر شبة الجزيرة العربية ، مع جلال المهمة التي كانوا يضطلعون بها وهي أصل الدعوة إلى الإسلام.
* ومنها كتبه وعماله إلى البلاد التي دخل أهلها الإسلام ولم يكونوا آلات صماء كما يقول بعض الناس ، بل كانوا ينوبون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتوى والقضاء والفصل في الخصومات.
وعلى نهجه سار الخلفاء الراشدون من بعده.
* ومنها الأذان للصلوات الخمس ، إن الذي كان يقوم به بلال - رضي الله عنه -
(1/185)
________________________________________
فيصحو من كان نائماً ، ويتنبه من كان غافلاً ، ويتذكر من كان ناسياً ، ثم يهرع الجميع إلى المسجد ، ومن كان ذا عذر صلى في بيته ، بمقتضى الأذان الذي سمعه ، وهو خبر آحاد ما في ذلك نزاع.
وبعض الخلفاء كان يهم ليحكم في المسألة تعرض عليه برأية ، ثم يتوقف ويسأل اصحاب رسول الله إن كان عندهم علم عن رسول الله في المسألة ، فإذا وجد قضاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به وقال : لولا هذا لقضينا برأينا ، حتى كان الذي أخبره بقضاء رسول الله رجلاً واحداً ، وهذه أولى درجات حديث الأحاد ، أعني رواية الواحد الفذ ، فهل بعد هذا يسوغ أن يقال : أن أحاديث الآحاد لا تقبل ولا يعمل بها ؟!.
ثم ما أكثر الوقائع التي قضى فيها الخلفاء الراشدون بحديث الآحاد سواء كان الراوي أكثر من واحد أو واحداً فقط.
فقد قضى به أبو بكر - رضي الله عنه - في توريث الجدة من الأم السدس لما ذكر له الغيرة بن شعية ، ومحمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس.
وقضة به عمر بن الخطاب في دية "الجنين" إذا سقط بفعل فاعل ، لما أخبره جمل بن مالك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة (أمه - أو عبد).
وقضى به عمر بن الخطاب في أخذ الجزية من المجوس لما أخبره عبد الرحمن بن عوف بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب".
وقضى به عثمان - رضي الله عنه - في اعتداد المرأة المتوفى عنها زوجها في بيت الزوجية حتى تنقضي عدتها ، لما أخبرته الفريعة بنت مالك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد في بيت زوجها عقب مقتله وقال : "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" فقضى عثمان واقعة أخرى مماثلة لواقعة الفريعة عملاً بحديث الآحاد الذي أخبرته به الفريعة.
وكذلك فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وقد روى عنه قوله : "كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله به ما شاء أن
(1/186)
________________________________________
ينفعني ، وإذا حدثني أحد من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته" ؟!
هذا هو موقف الأمة من صدر الإسلام إلى يوم الناس هذا ، يعملون بالحديث النبوي (الصحيح) ولم يفرقوا بين حديث رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة وحديث رواه أربعون ، فما أبعد منكري السنة عن الحق في كل شبهاتهم التي يثيرونها لإبطال سنة نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم الله أنى يؤفكون.
* * *
(1/187)
________________________________________
الشبهة الثالثة والثلاثون السنة ليست حُجَّة في الدين
هذا هو المراد لمنكري السنة من كل محاولاتهم اليائسة وشبهاتهم الفارغة ، التي أثارها ضد السنة المطهرة وكما يرى القارئ أن هذه الشبهة موضوعة لكي يتعاملوا بها مع السنة وهي حقيقة لم ينالوا منها ، أعني أنها شبهة وضعت متضمنة الاعتراف منهم ببقائها رغم محاولات التشكيك والمحو الكلي للسنة ، فقد قدروا في أنفسهم أنه من المستحيل أن يصيبوا السنة في مقتل ، أو ينجحوا في عزلها عن الأمة ، أو عزل الأمة عنها. وما دام الأمر كذلك فليحولوا كيدهم إياها وجهة أخرى ، وليقولوا للمسلمين :
إن هذه السنة التي تبتت لديكم ثبوت ضوء الشمس لقرص الشمس ليست مصدراً للتشريع مع القرآن ، فالقرآن وحده يكفي ، وضم السنة إليه بدعة وضلالة ، هي التي كانت السبب في نكبة المسلمين ، من عهد الشافعي إلى هذا اليوم ؟!
وإنكار حجية السنة أمر بدأه الزنادقة قديماً في حياة الإملم الشافعي ، وقد رد عليهم هذا الإمام الجليل في المناظرة القيمة ، التي جرت بينه وبين أحد الزنادقة. وسجلها الإمام - رضي الله عنه - في كتابه "جماع العلم" فليرجع إليه من شاء فإنه - والحمد لله - مطبوع ومتداول بين أهل العلم كما أنه مطبوع ضمن كتاب "الأم" الجزء السابع.
وممن أنكر حجية السنة قديماً الغلاة من الروافض وغيرهم وليس لهم سند واحد مقبول ، سوى المغالطات والأوهام.
أما حديثاً فقد استندوا في إنكارهم لحجية السنة بشبهات أوهى من بيت العنكبوت.
(1/188)
________________________________________
منها استدلالهم بقوله تعالى : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام : 38]
فقد جزموا أن المراد من الكتاب في الآية الكريمة هو القرآن ، ومعنى هذا عندهم أن القرآن مشتمل على جميع الأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين ولو كان عند هؤلاء ذرة من عقل لبان لهم خطأ قولهم ، إذ لا دليل على أن الكتاب في الآية هو "القرآن" فقج ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد به اللوح المحفوظ ، الذي حوى ما كان وما هو كائن وما سيكون حتى يرث الله الأرض ومن وما عليها.
وهذا التفسير لا يترتب عليهى أي حرج عند من يقول به.
أما من قال إنه القرآن فإنه يضع نفسه في مأزق خانق للأنفاس.
فماذا يقولون لمن يسألهم عن أعداد الركعات في كل فريضة من الصلوات الخمس.
وماذا يقولن لمن يسألهم أين نجد في القرآن أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة ؟
وماذا يقولون لمن يسألهم أين نجد في القرآن الأموال الربوية وغير الربوية ؟
وماذا يقولون لمن يسألهم أين نجد في القرآن صيغة الأذان الذي يردد خمس مرات كل يوم وليلة ؟!
إن هذه الأسئلة لا نهاية لها ولن يجدوا لها جواباً في القرآن الكرم مهما تكلفوا أو تماحكوا.
وحتى من قال من غير منكري مصدرية السنة في التشريع إن المراد من الآية يحتمل أن يكون القرآن قالوا :
إن القرآن احتوى على كليات التشريع لا تفصيلاته وإنما تركت التفصيلات للسنة فوفت بها حق الوفاء وكانت السنة - بهذا الاعتبار - مصدراً للتشريع عند هؤلاء المعتدلين المؤمنين بالله ورسوله ، أما منكرو مصدرية السنة في التشريع فقد قضوا على أنفسهم بالجهل والسفه ، أو بالجهالة والعناد.
(1/189)
________________________________________
كما استدلوا بقوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9]
ووجه الاستدلال بهذه الآية عندهم : أن الله تعهد بحفظ الذكر ، وهو القرآن ، ولم يتعهد بحفظ السنة فلو كانت السنة مصدراً تشريعياً مع القرآم لتعهد الله بحفطها كما تعهد بحفظ القرآن ؟!
وهذا القول ينم عن جهل فاضح لا محالة ، لأن السنة النبوية بيان أو تبيين للذكر ، وفي ذلك يقول الحق - عز وجل - :
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل : 44]
* اشتملت الآية على ثلاثة أعمال ، هي :
* إنزال الذكر على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا العمل هو عمل الله - عز وجل -.
* تبيين الذكر للناس ، وهو عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* العمل الثالث هو التفكير ، وهو عمل الناس المنزل إليهم الكتاب ، والصلة بين هذه الأعمال محكمة فالتنزيل ينشأ عن التبيين ، والتبيين ينشأ عنه التفكير وإقامة الحجة لله على الناس.
فدور الرسول - هنا - تبيين ما في التنزيل ، وتبيين الرسول هو سنته القولية والعملية ، ولولا هذه السنة ما عرف الناس للتفكر طريقاً.
ويترتب على هذا أن التبيين له عند الله ما للمبيَّن ، وهو الذكر ، أو أن النبيين هو الذكر الثاني بعد القرآن ، وحفظ هذا الذكر ضرورة من ضرورات الرسالة والتبليغ لذلك هيأ الله لسنة رسوله رجالاً أفذاذاً جمعوها ودونوها ونقوها من الدخيل والعليل ، والمكذوب الموضوع.
ولو لا عناية الله وحفظه لسنة رسوله ، لأنها تبيين لكتابه العزيز ، لضاعت في ركام التاريخ.
ومن هذا يتضح أم الآية الحكيمة : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
(1/190)
________________________________________
لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] لا دليل فيها لمنكري حجية السنة مهما احتالوا. فالخيبة ملازمة لهم ملازمة ظلالهم لأجسادهم.
اما استدلالهم بأن السنة ظنية لا قطعية ، فمردود عليهم هذه "الظنية" كما توصف بها السنة يوصف بها كثير من أدلة الأحكام في القرآن :
لأن القرآن وإن كان قطعى الثبوت فدلالاته الاحتمالية أو الظنية لا تكاد تحصى. ولم يجرؤ أحد أبداً على القول بأن القرآن ليس مصدراً للتشريع فيما كانت دلالته احتماليه ظنية وهؤلاء يلزمهم أن يسووا بين ظنيات السنة ، وظنيات القرآن ، فإما أن يقروا بهما معاً فيهتدوا وإما أن ينكروهما معاً فيضلوا.
وإذا قالوا إن بين ظنيات القرآن وظنيات السنة فرقا هو :
أن ظنيات السنة تكوزن في أصل الدليل ، وهو الحديث ، ثابت أم غير ثابت.
وظنيات القرآن لا تكون في أصل الدليل ، وإنما في فهم معنى الدليل.
إذا قالوا هذا ، قلنا لهم :
إن المعتبر في القرآن والسنة معاً هو النظر في الدلالة لا في أصل الدليل وحده ، لأن ظنية الدليل يترتب عليها ظنية الدلالة.
فالمعول عليه في القرآن والسنة هو الدلالة المستفادة من الدليل (الآية - الحديث) فالأمر يؤول في النهاية إلى الدلالة. وظنية الدلالة كما توجد في السنة توجد في القرآن. فماذا تفرقون بين المتساويين أيها المرجفون. ؟
إن الإصرار على الباطل ، مع جلائل الحق ، أمر يدعو إلى الإتهام يسوء النية والقصد ، لا بالخطأ في الاستدلال. وهذا ديدن منكري السنة ، منذ أول شبهة تصدينا لها من شبهاتهم إلى هذه الشبهة التي هي آخر مسمار في نعوشهم. ولكنه مسمار غليظ وستكوى به وجوههم وجنوبهم وظهورهم في نار جهنم.
حجية السنة :
لم تطاوعنا النفس أن نكتب "أدلة حجية السنة" لأن السنة ليست في
(1/191)
________________________________________
حاجة - ورب السموات والأرض - إلى سوق أدلة على أنها حجة في الدين ، لذلك اكتفينا بعبارة "حجية السنة" بدلاً من ذكر كلمة "أدلة" قبلها ، لما عرفت من أن السنة ليست في حاجة إلى أدلة على إثبات حجيتها في الدين ، بل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلمين : أفراداً وجماعات ، وشعوباً ، وأمة.
ولكننا - من باب إلزام الخصم الجاهل العنيد - نذكر شيئاً من الحقائق الدامغة ، التي تبين أن السنة أصل عظيم من أصول الدين ، بل هي شطر الإيمان ، ولا إيمان لمن يجحد سنة خاتم النبيين.
وهذه الحقائق إما من القرآن نفسه ، الذي يدعى هؤلاء الزنادقة أنهم يؤمنون به - وحده - وإما من غير القرآن أما التي من القرآن فهي الحقائق الآتية :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء : 59]
أثبتت هذه الآية طاعة خاصة للرسول بعداعة الله وأوجبت عند النزاع في شيء الرد إلى الرسزل بعد الرد إلى الله وقد أجمع علماء الأمة أن الرد إلى الله هو الاحتكام إلى كتابه العزيز وأن الرد إلى الرسول هو الاحتكام إلى سنته القولية والعملية ولو يم يكن في القرآن عن السنة إلا هذه الآية لما طلبنا مزيداً يثبت لنا حجية السنة.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء : 64]
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة الرسل جميعاً ، سواء في ذلك طاعتهم فيما أنزل إليهم ، وما قالوه هم ، لأنهم معصومون من الخطأ في التبليغ ، وإن كره الكافرون.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء : 65]
(1/192)
________________________________________
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة رسولنا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الإيمان لا يتحقق قط إلا بالإيمان به بعد الإيمان بالله ، وتحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيمه شخصياً في حياته ، والاحتكام إلى سنته بعد وفاته حتى تقوم الساعة.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب : 36]
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة الرسول مثل وجوب طاعة الله - عز وجل -. وطاعة الرسول الخاصة تكون باتباع سنته ، ومن يحد عنها ضل ضلالاً ظاهراً.
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : 7]
وهذه الآية نص إلهي محكم قطعي الثبوت والدلالة ، يأمر الله فيها الأمة بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ما أمر به وفيما نهى عنه.
أي الإيمان بسنته القولية والعملية ، والاحتكام إليها إذا لم نجد الحكم في كتاب الله.
ولكن هؤلاء المرجفين ، او منكري السنة قد يملى عليهم الشيطان ليقولوا : إن المراد هو القرآن يبلغه النبي ، وليس المراد سنة النبي ؟ إذا قالوا هذا كان الرد المفحم عندنا جاهزاً ، وهو قوله تعالى في شأن خصوم الدعوة :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء : 61]
فقد أفرد الله رسوله بالمجئ إليه وإلى سنته ، بعد أن أفرد المجئ إلى ما أنزله عليه وهو القرآن.
فهل بعد هذا يطلب مؤمن عنده ذرة من عقل دليلاً على حجية السنة من القرآن ؟
(1/193)
________________________________________
الحقائق من غير القرآن :
ونعني - هنا - بغير القرآن أمرين :
الأول : موقف أهل الذكر من علماء الأمة.
الثاني : واقع الأمة في حياتها.
أما ألول فقد أجمع علماء الأمة على أن أدلة الأحكام المتفق عليها بينهم أربعة ، هي :
الكتاب - السنة - الإجماع - القياس. فجعلوا السنة كما عملوا من كتاب ربهم ، هي مصدر التشريع الثاني بعد القرآن ولم يشذ منهم واحد عن هذا الإجماع ، وهو المشار إليه في قوله تعالى :
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء : 115]
ثم أجمعوا - مرة أخرى - على علاقة السنة بالقرآن فحصروها في ثلاث :
* سنة مؤكدة لما في القرآن كتحريم الزنى ، والربا.
* سنة شارحة ، بإذن الله ، كتحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في عصمة رجل واحد في وقت واحد ، والشارع الحق هو الله. أما السنة فهي أمارة ذلك الشرع عن الله. رغم أنوف آباء ذر ؟!
هذه هو إجماع الأمة ، ولا يشذ عنه إلا هاك له سوء المصير.
وأما الأمر الثاني ، وهو واقع حياة الأمة ، فإن كل طاعة تقع منها لله فيها توجيه من كتابه وتوجيه من سنة رسوله الكريم ، بل إن التوجيهات النبوية في أمور التكليف أكثر من التوجيهات القرآنية ، ولولا السنة ما اهتدت الأمة إلى كيفى تُصلي ، وكيف تصوم ، وكيف تزكي ، وكيف تحج ، وكيف تبيع وكيف تشتري ، إن السنة هي روح الكتاب ، والإسلام هو القرآن والسنة ، ليس القرآن
(1/194)
________________________________________
فحسب ، وليس السنة فحسب ولن يُقبل الله إيمان من آمن بالقرآن وحجد السنة ، ولا إيمان من آمن بالسنة وجحد القرآن. ولا عداء ولا منافرة بين كتاب الله وسنة رسوله.
هذا ، وقد بدأنا هذه المواجهة مع منكري السنة وكان رصيدهم ثلاثاً وثلاثين شبهة أوحاها إليهم الشيطان وها نحن قد فرغنا من هذه المواجهة ، ورصيدهم ثلاثة وثلاثون صفراً من الأوهام ، لم ينالوا من سنة خاتم النبيين شيئاً. وسيظل الحق هو الحق ، والباطل هو الباطل والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على من أرسله الله رحمة للعالمين. ورضى الله عن أصحابه وتابعيه إلى يوم الدين {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء : 81].
المؤلف : عفا الله عنه
القاهرة عصر الأحد 19/4/1420 هـ الموافق 1/8/1999م
(1/195)
________________________________________
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام نور الإسلام المقالات 0 17-05-2013 04:46 PM
شبكة السنة النبوية تفرد باباً جديداً عن "الحديث الموضوع" مزون الطيب أخبار منوعة 0 05-02-2012 02:09 PM
الصواعق السماوية علي منكري آيات الكتاب و صحيح السنة النبوية مزون الطيب كتب ومراجع إسلامية 0 02-02-2012 03:31 PM
مؤسسة انتقاص السنة النبوية مزون الطيب هدي الإسلام 0 02-02-2012 03:24 PM
تعليقاً على "توحش" الكاتب يحيى الأمير تنبيه على شناعة وخطورة وصف السنة النبوية بالأوصاف البذيئة مزون الطيب هدي الإسلام 0 02-02-2012 03:22 PM


الساعة الآن 10:31 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22