صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > إسلاميات > هدي الإسلام

هدي الإسلام معلومات ومواضيع إسلامية مفيدة

الفوائد والعبر من قصص الأنبياء

تأليف فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-05-2013 ~ 04:07 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي الفوائد والعبر من قصص الأنبياء
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012





تأليف
فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب


مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . ثم أما بعد :
فإن الأنبياء أكمل الناس عقولاً ، وأحسنهم أخلاقاً ، وأشدهم صبراً عند الأبيتلاء ، اختارهم الله ليكونوا سفرائه إلى أقوامهم ، ليبشروهم برحمة الله وفضله إن هم أطاعوه ، وينذرونهم غضب والله ومقته إن هم عصوه وخالفوا أمره .
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز طائفة من الرسل والأنبياء ، وعددهم خمسة وعشرون نبياً ، منهم ثمانية عشر نبياً في أربع آيات متتاليات من سورة الأنعام وهي قوله تعالى:{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم . ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين .وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين. وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين} ( ) والسبعة الآخرون هم آدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.اهـ . ولايعني ذكر هؤلاء الأنبياء في القرآن أنهم هم الذين نُبئوا أو أُرسل إليهم فقط من دون الناس . لا. ليس هذا المراد ، بل إن هناك كثير من الأنبياء والرسل لانعلمهم ولم يرد ذكرهم في القرآن قال تعالى:{ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} ( )وتلك لحمكمةٍ الله أعلم بها . وينصر ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلمالفوائد والعبر من قصص الأنبياء frown.gif إني خاتم ألف نبي وأكثر مابعث نبيٌ يتبع إلا وقد حذر أمته الدجال...الحديث ) ( ) وفي حديث أبي ذر قال: قلت يارسول الله كم المرسلون ؟ قال: ثلاث مائة وبضعة عشر جماً غفيراً ،وقال مرة خمسة عشر ..الحديث ( ) .
قال القاسمي : ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص ، وإنما هي عبرة للناس، كما قال تعالى في سورة هود ، بعدما ذكر موجزاً من سيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم : { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ...} إلخ ... وقال : وفي تلك القصص فوائد عظيمة، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية... إلخ ( ).















الفوائد والعبر من قصص الأنبياء


القسم الأول: دعوة الأنبياء والرسل وحالهم مع أقوامهم .

1- التوحيد هو أول شيء بدء به الرسل .
أول أمر بدء به الرسل في دعوتهم لأقوامهم، أنهم أمروهم بتوحيد ربهم الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم، وبينوا لهم أن الله هو المستحق وحده للعبادة، فمن أخلص له في توحيده كان من الفائزين بجنته، ومن أشرك به خسر الدنيا والآخرة ، قال تعالى: { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } ( ) . فهذا عيسى عليه السلام يحكي الله جل في علاه عنه دعوته لقومه فقال: { … وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } ( ) . وهذا إبراهيم يحذر أباه وقومه من بعده :{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } ( ) . وهذا نوح عليه السلام يقول: {… ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } ( ). وهود ( )، وصالح ( )، وشعيب-عليهم السلام- ( ) ، كلهم قال لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . ومن جاء بعدهم ومن كان قبلهم من الأنبياء والرسل، بدءوا بدعوة التوحيد قبل كل شيء، لأنه إذا صح التوحيد ونُقي من أدران الشرك، وسلمت العقيدة من الضلالات الباطلة، كان ذلك إيذاناً بغفران الذنوب وقبول العمل .
والدعاة إلى الله لهم في رسل الله وأنبيائه سلف -وهم خير سلف-، فحريٌ بهم أن يعتنوا بهذا الأصل العظيم، وأن يصححوا عقائد الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن لا يسكتوا عن المخالفات التي تقدح في التوحيد بدعوى تأليفهم وتجميع أكبر قدر منهم، فإنهم وإن حصل لهم ما يريدون من التجمع الكبير إلا أنهم غُثاء كغثاء السيل، ليس معهم ما يحصنهم ضد الشبهات المضللة والآراء الفاسدة . وهل أتُي الإسلام إلا من قبل أهل الكلام وأهل البدع والخرافات ؟ .

2- تقرير الأنبياء: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية .
لم تنكر أمة من الأمم توحيد الربوبية، فجميعهم يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت… ولكنهم مع ذلك كانوا يُشركون معه في العبادة أو يدعون الأصنام والأنداد من دونه . والرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقررن أمراً واضحاً جلياً وهو: أن من كان خالقاً رازقاً محيياً مميتا، كان أحق بالعبادة وأن يُخلص له فيها وأن لا يشرك به أو معه غيره . ولكن لتسلط الشيطان عليهم، ومتابعتهم للآباء والكبراء، استكبروا وأبوا أن ينقادوا للحق .
قال الله تعالى حاكياً مناظرة موسى-عليه السلام- لفرعون : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } ( ). فانظر إلى كلام موسى –عليه السلام- حيث يقرر لفرعون وقومه أن المستحق للعبادة هو رب السموات والأرض، وربهم ورب آبائهم، ورب المشرق والمغرب.
وأمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89) }( ). وهذا تقريرٌ آخر، حيث أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين، لمن الأرض ومن فيها، ومن رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ومن بيده ملك كل شيء . والجواب معروفٌ لديهم، ولذا قال تعالى: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } . ولذا كان ختم كل آية فيه توبيخ وتقريعٌ للمشركين، كيف أنكم تعلمون ذلك وتقرون به ثم تشركون به ولا تفردون له العبادة . قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له…اهـ ( ).



3- فائدة كون الأنبياء بشر .
كذبت الأمم السابقة وكفار مكة من هذه الأمة بما جاء به الرسل، واستندوا في تكذيبهم على أن الذين أُرسل إليهم بشر . فقال قوم نوح لنوح: { … مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ(24) } ( ). وقال قوم موسى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47) }( ) .
ومثل هذا في القرآن كثير، حيث رد الله عليهم وبين الحكمة من جعل الرسل من البشر، وأن هذا من لطفه بالخلق ورحمته بهم، فقال-تعالى-: { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا(95)}( ) . وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(164) } ( ) .
قال ابن كثير عند قوله تعالى -{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ… الآية }- : ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه ( ). وفي قوله تعالى: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9) }( ) . بيان من الله أن الرسول لو كان ملكاً لجُعل على هيئة رجل، لكي يألفوه ويأخذوا عنه الدين والعلم، لأن الناس لا يألفون إلا من كان من جنسهم، ولو جاءهم الملك على هيئة رجل لكذبوه كما كذبوا الرسل من قبل ( ).
ويتحصل من هذا أن الله لو بعث إليهم ملكاً رسولاً إليهم لما استطاعوا أن يأخذوا عنه العلم والإيمان لاختلاف الجنس والطبع ... ولو أنزل الله إليهم ملكاً رسولاً لجعله على هيئة رجل، ولو كان كذلك لكذبوه كما كذبوا الرسل من قبل، فعاد الأمر إلى التكذيب، وعندئذ تكون دعواهم بإرسال ملكاًَ رسولاَ باطلة أرادوا بها المعاندة والمشاقة .


4- تكذيب الرسل .
من الأمور التي ينبغي الوقوف عندها عندما نتكلم عن قصص الأنبياء، أن الأمم التي أرسل إليها الرسل، كذبت برسلها وألصقت بهم التهم، مع أن الرسل لم يأتوا بأمور مستنكرة، بل جاءوهم بعبادة الله وحده ونبذ الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، وجاءوهم بصلة الأرحام، وإطعام الطعام، والإحسان إلى الناس… وغير ذلك من صنائع المعروف؛ وهي أمور يستحسنها العقل بداهة، وترغب إليها النفوس، ولكن هو العناد و الاستكبار والتكذيب . ولما كان مصير صفوة خلق الله التكذيب والاتهام والسخرية، لم يخذل الله رسله، فكل أمة كذبت رسولها هلكت ونالها العقاب الأليم ولعذاب الآخرة أشق .
قال الله تعالى مسلياً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، عندما كذبه قومه : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } ( ) . فقوم نوح قالوا له : { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ(24)إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ(25)قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(26) } ( ) . فنصره الله لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ }( ) . ونصر الله نبيه هود لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } ( ) . ونصر الله نبيه شعيب لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ( ) . وكذا صالح ولوط وغيرهم من الأنبياء-عليهم السلام- .
فائدة :
المكذب برسول واحد مكذب لكل الرسل لقوله تعالى: { كذب أصحاب الحجر المرسلين } ( ) . وأهل الحجر لم يُرسل إليهم إلا نبي واحد وهو صالح عليه السلام ، ولكن لما كذبوه وردوا دعوته والتي هي دعوة الأنبياء والرسل من قبله ومن بعده كان تكذيبهم له تكذيب لكل الرسل . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والأنبياء كلهم دينهم واحد ، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم،... ولهذا كان من صدق محمداً فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي، ومن كذبه فقد كذب كل نبي، ومن عصاه فقد عصى كل نبي ) ( ) . وقال : (من أطاع رسولاً واحداً فقد أطاع جميع الرسل، ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع، ومن عصى واحداً منهم فقد عصى الجميع، ومن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول: إنه رسول صادق، ويأمر بطاعته. فمن كذب رسولاً فقد كذب الذي صدقه، ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته ) ( ) . وقال ابن سعدي : ( ومن كذب رسولاً فقد كذب سائر الرسل، لاتفاق دعوتهم . وليس تكذيب بعضهم لشخصه، بل لما جاء به من الحق الذي اشترك جميع الرسل بالإتيان به ) ( ) .

5- الأدلة على صدق الأنبياء والرسل وصحة دعوتهم .
أ-معجزات الأنبياء .
أيد الله -سبحانه- أنبيائه ورسله بمعجزات، تدل على صدق رسالتهم، والمعجزات هي الأمور الخارقة للعادة، التي لا يستطيعها لا الجن ولا الإنس . وهذا من رحمة الله بعباده فهو يعلم أن النفوس مولعة بالتكذيب، فكان في معجزات الرسل ما يقمع هذا التكذيب ويلجمه، حتى ينقادوا لرسولهم الذي أرسل إليهم ويتبعوه . والرسول والنبي قد تكون له أكثر من آية تدل على صدق رسالته ونبوته ولكن أغلب آيات الأنبياء والرسل جاءت من جنس ما برع فيه أقوامهم لأعجازهم وتحديهم وأنهم وإن بلغوا ما بلغوا فأمر الله فيهم نافذ، وقدرته عليهم قاهرة .
فآية صالح –عليه السلام- قال تعالى: { وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ } ( ) .
وآية موسى- عليه السلام- قال تعالى:{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108) } ( ) .
وآية عيسى عليه السلام- قال تعالى: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ( ).
وآية نبينا عليه الصلاة والسلام، أعظم معجزة، قال تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } ( ) .
قال ابن كثير: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام؛ السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار، وأما عيسى عليه السلام، فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد عليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً … إلخ ( ).
ب- صدق الأنبياء والرسل وصلاحهم وحسن أخلاقهم .
وهذا من أعظم الأمور التي تجعل الناس تقبل الدعوة وتتلقاها، لأن الصدق والصلاح وحسن الأخلاق من المحاسن التي تحبها النفوس وترغب إلى صاحبها فتحبه وتقبل عليه، والكذب والفساد وسوء الأخلاق، من المساوئ التي تنفر منها النفوس، وصاحبها بغيضاً إلى الخلق .
والأنبياء والرسل جميعهم اصطفاهم الله واختارهم لحمل رسالاته، وكانوا من خيار أقوامهم وأنفسهم وأحسنهم أخلاقاً . فقال قوم ثمود لصالح عليه السلام : { قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ( ) . أي : قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع. وهذا شهادة منهم، لنبيهم صالح، أنه ما زال معروفاً بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وأنه من خيار قومه. قاله ابن سعدي ( ) .
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اشتهر في قومه بأنه الصادق الأمين، وزكاه الله جل في علاه بقوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ( ) . ولذلك لم يستطع أهل الضلال من الأمم المكذبة أن تطعن في صلاح الأنبياء وتقواهم وحسن أخلاقهم، ولم تجد إلى ذلك سبيلاً . فاحتالوا وخلعوا عليهم ألقاب السحر والكهانة والسفه والضلال وغير ذلك مما هم منه براء .



ت- الأنبياء والرسل لا يطلبون أجراً على دعوتهم .
مما يدل على صحة وصدق دعوة الأنبياء والرسل، أنهم لا يطلبون أجراً على دعوتهم لأقوامهم؛ بل يدعونهم بالمجان، لا يريدون من أحد جزاء ولا شكوراً، وإنما قصدهم تبليغ رسالة ربهم التي كُلفوا بها من لدن ربهم . فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب كلٌ قال لقومه : { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ( ) . والمعنى: أننا لا نسألكم شيئاً من أموالكم أجراً على دعوتنا إياكم، فهي بالمجان، ولكننا رسل ربنا، وأجرنا على ربنا، رب العالمين .
والنبيون من قبلهم ومن بعدهم، لم يكونوا يرجون من قومهم شرفاً ولا مالاً ولا جاهاً ، وإنما كانوا يرجون الأجر من ربهم .
والمتأمل في مقالة النبيين، يرى أنها من الأدلة الظاهرة على صحة دعواهم وصدقهم .
ث- عجز المكذبين عن إبادتهم واستئصالهم .
فهم منصورون بنصر الله لهم {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ( ) . والله حافظ رسله وأنبيائه من كيد أعدائهم، ولذلك تحداهم هود عليه السلام بقوله : {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54)مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ( ) . فتبرأ من آلهتهم، وتحداهم أن يمسوه بسوء وهم جماعة كثيرة قوية وهو فرد واحد، لكنه توكل على ربه واعتمد عليه في دفع الضرر عنه، ونعم الوكيل هو .
يقول ابن سعدي : (وفي هذا كالإشارة من الرسل، عليهم الصلاة والسلام لقومهم بآية عظيمة وهو أن قومهم-في الغالب- أن لهم القهر والغلبة عليهم. فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله، في دفع كيدهم ومكرهم، وجازمون بكفايته إياهم . وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم علىإتلافهم، وإطفاء ما معهم من الحق. فيكون هذا ، كقول نوح لقومه: { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله ، فعلى الله توكلت ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي و لاتنظرون} ... ( )
ومن أعظم المواقف التي تدل على حفظ الله لرسله وأنبيائه، قصة نبينا صلى الله عليه وسلم مع قومه لما أراد الهجرة من مكة إلى المدينة، ففي الليلة التي تآمرت فيها قريش على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وأحاطوا بداره ترقباً لخروجه، ألقى الله عليهم النوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع على روؤسهم التراب نكاية بهم، ولم يناله أذى، وكذلك حفظ الله له حال هجرته وخروج قريش في طلبه . وفي نزول قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ( ) . أبلغ الأدلة على حفظ الله لرسوله وعصمته له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس .
ج- هلاك المكذبين واستئصال الله للظالمين المعاندين للرسل .
ومما يدل على صحة دعوى الرسل وصدقهم، أن الله عاقب مكذبيهم بعقوبات تستأصلهم وتبيدهم عن آخرهم، وذلك لظلمهم وتجبرهم وتكذيبهم بالحق لما جاءهم، ولم يستطيعوا أن يردوا تلك العقوبات عن أنفسهم وأنى لهم ذلك ! . والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن، فعلى سبيل المثال: قال تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} ( ) . وقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ(66)وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِين َ} ( ) . وقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ } ( ) . وقال:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ( ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وكذلك ما يفعله الله من الآيات، والعقوبات بمكذبي الرسل، كتغريق فرعون، وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر العاتية، وإهلاك قوم صالح بالصيحة، وأمثال ذلك، فإن هذا جنس لم يعذب به إلا من كذب الرسل ، فهو دليل على صدق الرسل .اهـ ( ) .

6-تنوع العقاب على الأمم المكذبة .
يخبر الله تعالى عن الأمم المكذبة أنه -جل في علاه- أهلكم بذنوبهم، لما كذبوا الرسل وعصوهم ولم يتبعوا النور الذي معهم، فعاقب كل أمه بعقاب من عنده، قال تعالى: { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ( ) . فأرسل الحجارة من سجيل منضود على قوم لوط، وعذب قوم ثمود بالصيحة وقوم شعيب بالظلة، وخسف بقارون وبداره الأرض، وأغرق قوم نوح وقوم فرعون، وغيره من أنواع العذاب . وكل أمة من الأمم التي كذبت وجحدت الحق أتاها من العذاب الذي تستحقه وعذاب الآخرة أكبر . وفي تنوع العذاب على الأمم المكذبة فوائد يستشعرها المسلم، وهي:
أ‌- معرفة عظيم قدرة الله، وأن ليس لقدرته حد .
ب‌- تنوع صنوف العذاب، يزيد المؤمن خوفاً من ربه، فيدعوه ذلك للاستكثار من العمل الصالح حتى ينجو من عذابه .
ت‌- هوان العباد على الله لما كذبوا رسله، وخالفوا أمره، وعبدوا غيره، فلم يبال الله فيهم، ولا في أي واد هلكوا .

7- كثرة الاتباع وقلتهم، وكذا حالهم ليست عاراً على الأنبياء وليست دليلاً على صحة الدعوة أوفسادها .
صحة الدعوة من عدمها، لا تخضع لكثرة الاتباع، أو حال المتبعين من فقر أو غنى أو شرف…إلخ . وإنما تعرف صحة الدعوة بما يجريه الله من البراهين والآيات على أيدي الرسل، وبما يحملونه من الرسالات السماوية من عند ربهم، التي لا يمكن أن يأتي بها بشر . والمكذبون المعاندون من الأمم السابقة كانوا يحتجون بقلة أتباع الرسل، ويجعلونه مقياساً للحق ‍‍‍‍! .
فقال قوم نوح لنوح : {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} ( ) .
الأراذل هنا: هم الضعفاء والفقراء ، وبادي الرأي : أي بديهة الرأي أ ي ضعاف العقول . وكون الاتباع فقراء لا مال عندهم ولا جاه لديهم ليس عار يوصم به الأنبياء والرسل . يقول القرطبي : ( وكان هذا جهلاً منهم؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهو يرسلون إلى الناس جميعاً ، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام من أسلم منهم ) ( ). ثم إن الغالب أن الكبراء يأنفون من اتباع الحق ولذا تجد أكثر أتباع الأنبياء والرسل هم فقراء الناس وضعفائهم، واستفد من مقالة هرقل لأبي سفيان عندما سأله عن حال محمد صلى الله عليه وسلم وقومه فكان مما جاء فيه : ( وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل ) ( ) . وعلى هذا فحال التابعين للرسل لا يوجب نقصاً في حال المرسل ولا حال الرسالة، بل ظهر لك أن الفقراء والضعفاء هم الأقربون عند الله إذا ما اتقوا .

8- أهل الرياسة والغنى-غالباً- هم أول من يرد دعوة المرسلين، ويستكبر عنها .
فمن خلال تتبع قصص الأنبياء في القرآن، نرى أن أهل الرياسة والغنى (الملأ) هم أول من يرد دعوة المرسلين، وهو الغالب عليهم، وذلك لأن الرسل يأتون بالتوحيد، والعدل، وإقامة شرع الله في الأرض . وتلك المهمات العظام يأنف منها أهل الرياسة والغنى –غالباً- لأنهم يرون أنهم إن تابعوا الرسل فيما جاءوا به، ستنحط رتبتهم، ويقل شأنهم، ويتسلط عليهم الأصاغر ! ، وما علموا لو أنهم آمنوا وصدقوا الرسل، وعملوا الصالحات، وأقاموا شرع الله في أرضه، وأنفقوا من فضول أموالهم في سبيل الله، لحازوا قصب السبق، وسعدوا في الدنيا قبل الآخرة، ولرفعهم الله درجات عظيمة . ولكن هو الجهل، وحب الدنيا، أورثهم الاستكبار والعناد فخسروا الدنيا والآخرة .
قال تعالى حاكياً قول الملأ من قوم هود : {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } ( ) .
وقال تعالى : {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} ( ) .
وكذلك حال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد لقي من أذى صناديد قريش واستكبارهم وعنادهم شيئاً كثيراً .

9-طرق ووسائل أهل الباطل لرد دعوة الأنبياء والرسل .
يحاول أعداء الدين في كل زمان وحين رد دعوة الرسل بكل طريق يجدون إليه سبيلاً، متخذين بذلك كافة الوسائل التي من خلالها يشوهون الحق، ويشوشون على أهل الحق، ليوهموا أنفسهم، ويصدوا اتباعهم، زاعمين أنهم على الحق المبين، وما عداهم في ضلال مبين . فمن طرقهم ووسائلهم :
أ- محاولات أهل الباطل في استمالة الأنبياء وصرفهم عن بعض الحق .
من طرق أهل الضلال والغي التي حاولوا بها صد الأنبياء والرسل عن تبليغ دعوتهم، هو استمالتهم وملاطفتهم لكي يتنازل لهم النبي أو الرسول عن بعض ما جاء به .. ويظهر هذا جلياً في قوله تعالى واصفاً محاولة المشركين في صرف محمد صلى الله عليه وسلم عن إلزامهم ببعض ما جاء به فقال : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَه وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًاُ} ( ) . فمما جاء في كلام المفسرين حول هذه الآية أن قريشاً أو ثقيفاً لا ينت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يترك لهم بعض ما عندهم من الباطل على أن يتبعوه إن هو وافقهم على ما أرادوا ، ولكن الله ثبت نبيه وعصمه من موافقتهم { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} ( ) .
وتلك إحدى وسائل أهل الباطل دوماً، أنهم يتقربون إلى الأنبياء وورثتهم أولاً، ليكسبوهم إلى صفهم وليتغاضوا عن بعض أعمالهم، فإن نالوا منهم ما أرادوا قربوهم ووالوهم، وإلا عادوهم ونابذوهم .
ب- التماس سقطات أهل الحق التي تكون منهم في زمن الجهل، أو تضخيم الزلات .
والمرء في زمن جهالته لا يؤاخذ بما كسبه فيها، إذا تاب وآمن وعمل صالحاً، ولا يعيب عليه ذلك، وإنما العيب كل العيب أن يستمر المرء في غيه وضلاله حتى مع بيان طريق الحق له . وكذلك قد يزل المرء في حال استقامته على الطريق، والعصمة لا تكون إلا للأنبياء والرسل، ومع ذلك من تاب من زلته وأناب إلى ربه فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ولا يشين المرء ذلك، بل يُحمد على رجوعه وإنابته إلى ربه .
فمن أمثلة ذلك : تضخيم فرعون لما حدث من موسى عليه السلام في زمن شبابه، عندما قتل القبطي ثم فر هارباً، ثم تاب إلى ربه وتاب الله عليه ، واصطفاه مولاه وجعله من المرسلين ، وبعثه إلى فرعون وملأه فاستكبر فرعون ومن معه، وعيره بأمر فعله في حال جهله رغبة منه في صد الحق ورد دعوته فقال: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}( ) . فرد عليه موسى بقوله : {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ( )، حيث صدر مني ما صدر في حال الجهل، وعن طريق الخطأ، فلماذا أعير بذلك ؟ .
ت- وصف الأنبياء والرسل بالسحر والجنون والكذب... .
وتلك طريقة الظالمين، يلصقون التهم بشخص الداعي حتى يتسنى لهم ولاتباعهم رد دعوته، والقدح فيها، فأي دعوة تقبل من ساحر أو كاهن أو مجنون ؟! .
قال تعالى عن فرعون مشهراً بموسى عليه السلام : {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌْ} ( ) وفي سياق نفس السورة –سورة الذاريات- وبعد أن قص الله شيئاً من أخبار قوم هود وقوم نوح قال تعالى : {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } ( ) . يقول ابن كثير: أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم. اهـ ( ) . وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يسلم من أذى قومه له فأخبر الله عنهم أنهم قالوا فيه أنه ساحر وكذاب : { ...وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } ( ) . وقالوا عنه شاعر : { ... بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} ( ) . يقول ابن سعدي : وإنما يقولون هذه الأقوال فيه، حيث لم يؤمنوا به، تنفيراً عنه لمن لم يعرفه ( ) .
ث- استخدام الإعلام لتشويه صورة الأنبياء والنيل منهم .
يظهر هذا جلياً في مقالة فرعون لما أعيته الحيل، وخروج موسى ببني إسرائيل، اشتد غضب فرعون فأمر منادياً : {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(53)إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54)وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55)وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)} ( ) . يقول ابن كثير : واشتد غضبه على بني إسرائيل –أي فرعون- لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين، أي من يحشر الجند، ويجمعهم كالنقباء والحجاب ونادى فيهم {إن هؤلاء} يعني بني إسرائيل {لشرذمة قليلون} أي لطائفة قليلة {وإنهم لنا لغائظون} أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا {وإنا لجميع حاذرون } أن نحن كل وقت نحذر من غائلتهم ... ( ). وفي السياق السابق من الإعلام والتشويه ما فيه، حيث وصفهم فرعون بالقلة وأنهم قد أغاظوا ملكهم، وهم أصحاب غدر . وكل ذلك من أجل تسويغ قتالهم واستئصالهم .
قلت : والعلماء ورثة الأنبياء أتباع الرسل لهم من ذلك نصيب كبير، فكم نالهم من الأذى والتشويه، وكم أشيع عنهم من قول باطل، وكم رموا بوصف نفر الناس عنهم، ولا أدل على ذلك مما رُمي به الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- ودعوته بأنها (وهابية)، لأجل تنفير الناس عنها . وما زال العلماء الربانيون إلى لدن اليوم يأتيهم من هذا شيء كثير، ولا ينبغي لأهل العلم والفضل الحزن من جراء ذلك، فإن هذا الإيذاء لدليل على صحة الدعوة .
فائدة :
الذي ينهى عن الفاحشة وينكر المنكر ، يحاول أعدائه نفيه وإخراجه قال تعالى في بيان مقالة قوم لوط لما أنكر عليهم الفاحشة { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ( ) . يقول شيخ الإسلام : وهذا حال أهل الفجور إذا كان بينهم من ينهاهم، طلبوا نفيه وإخراجه . أهـ ( ) .
قلت: والتاريخ والواقع يشهد لذلك .
ج- قتال الأنبياء والرسل وقتلهم .
وتلك هي آخر وسائلهم، إذا أعيتهم الحيل، ونفد صبرهم، قاتلوا الأنبياء والرسل وحاربوهم، أو قتلوهم إن تمكنوا منهم، كحال اليهود مع أنبيائهم، فإنهم عليهم لعائن الله المتتابعة قتلوا كثيراً من أنبيائهم، والله الموعد . {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} ( ) .
وهذا هو حال الأنبياء كلهم، فما من نبي إلا وعودي وقوتل من قبل قومه، من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ولكن الغلبة تكون لله ولرسوله ولكتابه ولعباده الصالحين . والآيات في ذكر الملاحم التي دارت بين أنبياء الله و أ عدائه، وفي ذكر أخبار هلاك الأمم التي كذبت رسلها وحاربتها كثيرة في القرآن الكريم، وكثرتها ومعرفتها أغنتنا عن سردها ههنا .
فائدة :
يخبر الله سبحانه وتعالى عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة اتباع المرسلين : ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم ، ثم يختم القصة بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(174)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175) }( ) . ، فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة ، وهو : { العزيز الرحيم } فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله واتباعهم برحمته . أهـ ( ).



10- شبهات ومعارضة المشركين للرسل والرد عليها .
تتابع أعداء الرسل من لدن نوح حتى محمد عليهم الصلاة والسلام على إثارة الشبه، ومطالبة الأنبياء والرسل، واقتراح الآيات عليهم، لا لرغبة في زيادة الاطمئنان –وإلا فالآيات والبراهين التي أتى بها الرسل كافية لإيمان من أراد الحق – وإنما أرادوا مشاقة الرسل وإظهار عجزهم، حتى يوهموا أنفسهم وأتباعهم أنهم على الحق، وأن رسلهم على ضلال مبين .
ولقد قص الله علينا في كتابه شيئاً من مطالب المشركين والآيات التي اقترحوها، وتولى الله بنفسه الرد على شبههم، مما لا يدع مجالاً للشك بأن المعاندين للرسل ما اقترحوا الآيات إلا عناداً واستكباراً .
أ- قو له تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً }... إلى قوله : { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } ( ) .
طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات تدل على صدق نبوته وهي :
{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ... } فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا(93) } ( ) .
ولو أجابهم الله إلى ما سألوا، ثم لم يؤمنوا لحلّ بهم من العذاب والنكال ما حلّ بالأمم التي سبقتهم، ولكن الله أمهلهم . قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} ( ) . وقال تعالى : {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ(5)مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ(6)} ( ) .
يقول ابن كثير : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ } : أي نبعث بالآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك، فإنه سهل علينا يسير لدينا، إلا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها ، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بعد نزولها . اهـ ( ) . وقال ابن سعدي : ... وهؤلاء كذلك ، لو جاءتهم الآيات الكبار، لم يؤمنوا . فإنه ما منعهم من الإيمان، خفاء ما جاء به الرسول واشتباهه ، هل هو حق أو باطل؟ . فإنه قد جاء ومعه من البراهين الكثيرة، بما دل على صحة ما جاء به، الموجب لهداية من طلب الهداية فغيرها مثلها، فلا بد أن يسلكوا بها، ما سلكوا بغيرها، فترك إنزالها والحالة هذه ، خير لهم وأنفع. اهـ ( ) .
ب- قو له تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا }.
وهذا طلب آخر من المشركين المكذبين للرسل، حيث طلبوا نزول الملائكة عليهم لتخبرهم بصدق الرسول وصدق رسالته، أو يرون ربهم فيخبرهم بحقيقة رسوله. فأجابهم الله بقوله :
{ ... لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا(21)يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } ( ) . فيقول القرطبي بعد هذه الآيات : .. حيث سألوا الله الشطط؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه . اهـ ( ) .
ت- قو له تعالى: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم ٍ }
يقترح كفار مكة على الله أن لو أُنزلت الرسالة على رجل عظيم من مكة أو الطائف، كالوليد بن المغيرة، أو أبي مسعود عروة الثقفي، فهؤلاء المذكورون هم أهل لحمل الرسالة وليس محمداً ! . فرد الله عليهم بقوله :
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } ( ) .
يقول القرطبي : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } : يعني النبوة فيضعونها حيث شاءوا . { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي أفقرنا قوماً وأغنينا قوماً؛ فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم . اهـ ( ) . ويقول ابن كثير : ي ليس الأمر مردوداً عليهم، بل إلى الله عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً، وأشرفهم بيتاً، وأطهرهم أصلاً ( ) .
ويقول السعدي : فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى ، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوة والرسالة، أولى وأحرى، أن تكون بيد الله تعالى، فالله أعلم حيث يجعل رسالته ( ).
ث- قو له تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} ( ) .
وهذا لون آخر من ألوان المعارضة والتكذيب، حيث يجعل المشركون الحق في جانب من هو أكثر أموالاً وأولاداً، وأحسن منظراً وصورة ! . يقول ابن سعدي : أي : وإذا تتلى علىهؤلاء الكفار آياتنا بينات، أي: واضحات الدلالة على وحدانية الله، وصدق رسله توجب لمن سمعها ، صدق الإيمان، وشدة الإيقان- قابلوها بضد ما يجب لها، واستهزءوا بها، ومن آمن بها، واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا، على أنهم خير من المؤمنين فقالوا معارضين للحق : { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ }أي : نحن والمؤمنين { خَيْرٌ مَقَامًا } أي: في الدنيا ، من كثرة الأموال والأولاد ، وتفوق الشهوات { وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } أي مجلساً .
أي : فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة، بسبب أنهم أكثر مالاً وأولاداً وقد حصلت أكثر مطالبهم من الدنيا، ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة مزوقة . والمؤمنون بخلاف هذه الحال، فهم خير من المؤمنين، وهذا دليل في غاية الفساد . وهو من باب قلب الحقائق، وإلا فكثرة الأموال والأولاد، وحسن المنظر، كثيراً ما يكون سبباً لهلاك صاحبه، وشقائه، وشره، ولهذا قال تعالى :
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا } ( ) . أي متاعاً ، من أوان وفرش، وبيوت وزخارف { وَرِئْيًا } أي : أحسن مرأى ومنظراً ، من غضارة العيش، وسرور اللذات، وحسن الصور. فإذا كان هؤلاء المهلكون أحسن منهم أثاثاً ورئياً ، ولم يمنعهم ذلك من حلول العقاب بهم، فكيف بهؤلاء، هم أقل منهم وأذل، معتصمين من العذاب، {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر} ؟ . وعُلم من هذا، أن الاستدلال على خير الآخرة بخير الدنيا، من أفسد الأدلة، وأنه من طرق الكفار . اهـ ( ) .
ج- قو له تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ } .
وهذا لون آخر من ألوان التكذيب والمشاقة للرسل، وهو أن المشركين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم –تعنتاً- أن يأتيهم بقرآن غيره أو يبدله . أي: رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر ، قاله ابن كثير( ). فأمره الله رسوله أن يقول :
{ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي : ليس إلي إنما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}ثم قال محتجاً عليهم في صحة ما جاءهم به : { قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ}. أي : هذا إنما جئتكم عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا أفتريه، أنكم عاجزون عن معارضته وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل لا تنتقدون عليّ شيئاَ تغمصوني به ولهذا قال : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(16) } ( ) أي : أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت : لا ، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق – والفضل ما شهدت به الأعداء- فقال هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله ( ).
وفي قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } . يقول ابن سعدي : أن الذي حملهم على هذا التعنت، الذي صدر منهم، هو عدم إيمانهم بلقاء الله، وعدم رجائه، وأن من آمن بلقاء الله، فلا بد أن ينقاد لهذا الكتاب، ويؤمن به، لأنه حسن القصد ( ).
ح- قو له تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : القرآن .
لقد كذب أهل الباطل محمداً صلى الله عليه وسلم، بآية عظيمة لا يستطيعون لها دفعاً ولا معارضة، فقالوا: إن القرآن الذي أتى به محمداً مختلق، مفترى ليس من عند الله –وهم أهل الفصاحة!-؛ بل إنهم كذبوا وقالوا إثماً وزوراً : إن هذا القرآن أخذه محمد من رجل أعجمي كان في مكة لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع في الصفا ( ) ، فأكذبهم الله بقوله :
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103) } ( ) .
ثم تحداهم الله وتدرج معهم في التحدي ، فتحداهم أولاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن المختلق المفترى بزعهم، فقال : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)} ( ) . وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(14) } ( ) . ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة ولن يستطيعوا أبداً . { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(38)بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ( ).
خ- قو له تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}
يعترض الكفار –تعنتاً وسؤالهم فيما ليس لهم به علم- ، هلا نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة كنزول التوراة والإنجيل ونحوهما من الكتب السابقة ؟ . فرد عليهم ربهم بقوله :
{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا(32)وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا(33) } ( ) . يقول الحافظ ابن كثير-رحمه الله- : أنه إنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث، وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به، كقوله : {وقرآنا فرقناه} . ولهذا قال : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } قال قتادة: بيناه تبيينا، وقال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم : وفسرناه تفسيراً { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي بحجة وشبهة { إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } أي : ولا يقولون قولاً يعارض به الحق، إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وافصح من مقالتهم . اهـ ( ) .
د- طلب المكذبين المعاندين من رسلهم آيات تدل على صدقهم .
الآيات والبراهين التي تظهر على أيدي الرسل من عند الله، ينزلها على رسله متى شاء تأييداً لدعوتهم وإظهاراً لصدقهم وصحة رسالتهم، والرسل ليس لهم من أمر الآيات شيء قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78)}( ).
وما زال المكذبون بالرسل والرسالة يطالبون رسلهم بالآيات والبراهين التي تدل على صدقهم وصحة رسالتهم، فمما قالوه في ذلك مع رد الله عليهم موبخاً لهم ومظهراً إفكهم وباطلهم :
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ ءَايَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(37)}( ). { وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ(20)} ( ) . { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(118)} ( ) .{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} ( ) . { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ(27)} ( ).{ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى(133)}( ).{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ(6)}( ).
بل قد أقسم بعضهم أنهم إذا جاءتهم آية ليؤمنن ! : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} فرد الله عليهم: { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ(109)} ( ) .
وقد بين الله عز وجل حال الكفار المعاندين، وذكر أساليبهم وكلامهم في رد الرسل والتكذيب بالآيات الواضحة البينة، فقال عز من قائل :
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ ءَايَةٍ مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(4)}( ). وقال : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(25)} ( ). وقال :
{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ(124)}( ).
وقال : { وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(132)} ( ). وقال : { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ(97)}( ). وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ(14)}( ). وقال : { وَإِنْ يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2)}( ). وقال : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ(58)}( ).
وقد أخرج الله بعض الآيات لما سألها بعض الأقوام السابقين –تعنتاً - ، كما سأل قوم ثمود صالحاً أن يخرج لهم آية، فأجابهم الله لما أرادوا، ولما كفروا عاجلهم الله بالعقوبة ، فقالت ثمود لرسولها :
{ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155)وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ(156)فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ(157)}ثم عاجلهم الله بالعقوبة لما خالفوا أمر ربهم وكذبوا رسوله : {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(158)}( ) .
ولو شاء الله لأنزل آية تجعل الناس مؤمنين، كما قال تعالى : { إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(4)}( ). ولكن لا حاجة إلى ذلك ، ولا مصلحة فيه، فإنه إذ ذاك الوقت، يكون الإيمان غير نافع . وإنما الإيمان النافع، هو الإيمان بالغيب . قاله السعدي ( ).

11- شبهات في قصص الأنبياء والرد عليها .
أ- ما نوع الخيانة المذكورة لامرأتي نوح ولوط عليهما السلام .
ذكر الله عز وجل في كتابه أن امرأة نوح وامرأة لوط خانتا زوجيهما، ولم يُفصح القرآن الكريم عن نوع الخيانة، وقد يعلق بالذهن أنها خيانة الفراش، وذلك لما كان عليه قوم لوط من فعل الفاحشة . ولكن ما قد يعلق بالذهن لا يصح أبداً، فإن الله قد عصم نساء أنبيائه ورسله من الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء، وإنما الخيانة المذكورة في الآية هي خيانة الدين، وكيف أنهما كانتا تحت نبيين وبينهما من العشرة والمخالطة، ثم تخالفهما إلى غير دينهما . وتفسير الآية كما جاء عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما قال : (ما زنتا ، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه . وقال العوفي عن ابن عباس : كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا ضاف لوط أحداً أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء . وقال الضحاك عن ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين .. ) ( ) .
ب- ما مراد لوط عليه السلام بقوله لقومه { يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ( ) . عندما جاءوا يريدون أضيافة ؟
لما علم قوم لوط بأضيافه الذين كانوا عنده، وكانوا ملائكة أرسلهم الله على صورة شباباً حسن الصورة فتنة لقوم لوط، فلما علموا بهم جاءوا سريعاً إلى بيت لوط طالبين فعل الفاحشة بهم، وكان يوما عصيباً على لوط : {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ(77)وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ(78)قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ(79)قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(80)} ( ) . فاعتذر لوط عن تقديم أضيافه لهم وقال : {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } .
ومن ثم اختلفت عبارات المفسرين في مراد لوط عليه السلام بكلامه هذا، مع قطعهم أن لوط عليه السلام لم يرد منهم فعل الفاحشة ببناته، فإن هذا مما ينزه عنه كثير من الناس، فما بالك بالأنبياء والرسل الذين هم صفوة البشر .
ونحن نورد لك بعضاً من كلام أهل العلم في تفسير هذه الآية : قال ابن كثير : قال مجاهد : لم يكن بناته، ولكن كن من أمته، وكل نبي أبو أمته، وكذا روي عن قتادة وعن غير واحد. اهـ ( ) . ومراده أن النبي للأمة بمنزلة الأب ونساؤه بمنزلة الأمهات، كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ( ) . فأرشدهم لوط عليه السلام إلى نكاح بناته من قومه الذين أرسل فيهم . وقد قوى هذا القول القرطبي في تفسيره فقال بعدما ساق جملة من الكلام السابق : (ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود : {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم } ) ( ) .
وقال القرطبي : قالت طائفة : (إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه، روي هذا القول عن أبي عبيدة؛ كما يقال لمن يُنهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة : لم يعرض عليه بناته ولا بنات أمته، وإنما قال هذا لينصرفوا ) ( ) . وقيل غير ذلك .
ت- قال إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } وقال زكريا عليه السلام : { رَبِّ اجْعَلْ لِي ءَايَةً } . هل كان طلبهما شكاً في موعود الله والإيمان به ؟ .
قد تستعظم النفس أن يطلب الخليل إبراهيم عليه السلام من ربه أن يريه كيف يحيى الموتى ! ، وكذلك طلب زكريا عليه السلام أن يجعل ربه له آية عندما بُشر أنه سيولد له ولد على كبره ومن زوجه العاقر .
ولكن باستعراض سياق الآيات، ومعرفة كلام المفسرين للآيات السابقات يزيل الإشكال ويرفع اللبس . ففي مقالة إبراهيم عليه السلام يقول الله تعالى :
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ( ) .
طلب إبراهيم الخليل عليه السلام من ربه أن يريه كيف يحيى الله الموتي، وسأله ربه : أو لم تؤمن ؟ أي هل تشك في قدرتي على إحياء الموتى ؟ . فجاء الجواب من إبراهيم عليه السلام: بلى آمنت بك يا رب، ولا أشك في قدرتك على إحياء الموتى .
فسؤال إبراهيم عليه السلام، طلب طمأنينة القلب، لأن القلوب تعتريها وساوس الشيطان ونزغاته، التي تكذب بالحق، وتزين الباطل، فطلب إبراهيم أن يرى إحياء الله للموتى عياناً حتى تسكن نفسه ويهدأ قلبه، ولا يكون فيها ما يعكر صفو الإيمان، فأراه الله ما أراد، فسكنت نفسه، وازداد إيماناً فوق إيمانه بما رأى من آيات ربه .
قال القرطبي – في تفسير صدر هذه الآية- : اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا ؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكاً في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال عليه السلام : (ليس الخبر كالمعاينة ) . .. وقال في تأويل قوله تعالى : { قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } : أي سألتك ليطمئن قلبي بحصل الفرق بين المعلوم برهاناً والمعلوم عياناً . اهـ ( ) .
ونظير هذا ما حصل لزكريا عليه السلام فإنه الله عز وجل لما بشره على كبره وعقم زوجه بالولد، وكانت العادة التي أجراها الله على خلقه أن كبير السن ، أو العقيم لا يأتي منهما الولد، فكيف إذا اجتمعا ؟
قال تعالى : { يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا(7)قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا(8)قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا(9)قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا(10) } ( ) . فلما بشر الله زكريا بالولد على كبره وعقم زوجه ، طلب آية لا شكاً في قدرة الله؛ ولكن ليزول ما في قلبه من خطرات الشيطان ووساوسه، التي تُضعف الإيمان بالله، ولتحصيل الطمأنينة القلبية . فكانت الآية أن منعه الله من الكلام ثلاثة أيام من غير خرس ولا آفة، فسكن قلب زكريا عليه السلام بتلك الآية وأيقن بموعود الله .
قال ابن سعدي في تفسير قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي ءَايَةً } وليس هذا شكاً في خبر الله، وإنما هو، كما قال الخليل عليه السلام { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فطلب زيادة العلم ، والوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين، فأجابه الله إلى طلبته رحمة به. اهـ ( ) .
ث- هل همَّ يوسف بامرأة العزيز حقيقة ؟
اختلفت أقوال المفسرين في الهم الذي كان من قبل يوسف عليه السلام ما نوعه ؟ فقال بعضهم كلاماً لا يُجزم به لكونه منقولاً من كتب أهل الكتاب . وسلك ابن كثير مسلك السلامة فقال : وأكثر أقوال المفسرين هاهنا متلقى من كتب أهل الكتاب، فالإعراض عنه أولى بنا. والذي يجب أن يعتقد: أن الله تعالى عصمه وبرأه، ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ( ) أهـ ( ). ومال القرطبي إلى أن همَّ يوسف كان خطرات النفس ليس إلا ، فقال : ..وإذا كان نبياً فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر، وهو الذي رفع ا لله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه.. أهـ ( ).
فائدة:
قال الحسن البصري -رحمه الله- : إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكن ذكرها ليكلا تيأسوا من التوبة. أهـ ( ) .
ج-سجود أبوي واخوة يوسف ليوسف ؟ .
قال تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} ( ) . ما نوع السجود الذي سجده أبوي واخوة يوسف، هل هو سجود عبادة ؟
والجواب: لا . فإن الأنبياء أبعد ما يكونون عن الشرك. ولكن السجود كان تحية الملوك والعظماء في زمن يوسف عليه السلام ، فهو سجود تحية لا سجود عبادة .
ح-الأنبياء والرسل كلهم رجال .
ذهب بعض أهل العلم إلى أن مريم بنت عمران نبية، لأن الله أوحى إليها، ولما أظهر الله على يديها من خوارق العادات حيث ولدت عيسى عليه السلام من دون أب . ولكن الأدلة متضافرة على أن الله لم يبعث رسلاً أو أنبياء من جنس النساء .
قال ابن كثير : (وقوله { وأمه صدّيقة } ( ) : أي مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى ، استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} وهذا معنى النبوة ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال، قال الله تعالى : {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك ) ( ) .


القسم الثاني : الفوائد واللطائف من قصص الأنبياء

نعرض في هذا القسم لبعض الفوائد اللطيفة، والنكت البديعة التي جاءت في سياق القصص القرآني، وسوف نتجوز في سرد تلك الفوائد إلا ما اقتضى المقام بسطه .

1- الإخلاص والالتجاء إلى الله سبب في حصول الهداية والنجاة .
الإخلاص والالتجاء إلى الله على الدوام والرجوع إليه في كل أمر هو السبب الأعظم في حصول الهداية إلى الصراط المستقيم علماً وعملاً ، قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين }، ( ) . وفي قوله تعالى في سياق قصة يوسف عليه السلام : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ( ) . قال ابن سعدي في فوائده حول سورة يوسف : (ومنها: أن من دخل الإيمان قلبه، وكان مخلصاً لله، في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه، من أنواع السوء والفحشاء واسباب المعاصي ، ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله (( وهم بها لولا أن رآى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )) على قراءة من قرأها بكسر اللام . ومن قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص الله إياه ، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه . فلما أخلص عمله لله، أخلصه الله ، وخلصه من السوء والفحشاء ) ( ) .
قلت : وقد امتدح الله عباده المخلصين في آيات عديدة، مما يدل على أن صاحب هذه المرتبة محبوب ومقرب عند الله، وفي حفظ الله وعنايته .

2-من ترك شيئاًَ لله عوضه الله خيراً منه .
قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} ( ) . وقبل ذلك حاج قومه ودعاهم بشتى الطرق إلى التوحيد، وخاطب أباه آزر وألان له في القول، ولكن لا تنفع المواعظ مع قوم حكم الله عليهم بالشقاء، فقال آزر لإبراهيم : {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ ءَالِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46)} ( ) . ولما رأى إبراهيم إعراضهم عن التوحيد، وإيثارهم للأصنام والأحجار على العزيز الجبار ترك ما هم عليه وقال : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا(48)} ( ) .
وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم ، فأتبعوا أهوائهم، فلم تنجع فيهم المواعظ، فأصروا في طغيانهم يعمهون . فمن وقع في هذه الحال فعليه أن يشتغل بإصلاح نفسه ، ويرجو القبول من ربه، ويعتزل الشر وأهله .
ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه، من أشق شيء على النفس،لأمور كثيرة معروفة، ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر، وكان من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، واعتزل إبراهيم قومه، قال الله في حقه : {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا[من إسحاق ويعقوب ] جَعَلْنَا نَبِيًّا} ( ) .. ( ) .

3-إزالة الباطل بالكلية حتى يُقطع كل تعلق به .
يؤخذ ذلك من قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا(97)} ( ) . فموسى عليه السلام حرّق العجل الذي عكف عليه بنو إسرائيل وعبدوه من دون الله ، ثم نسفه في اليم، ولم يستفد بشيء منه مع أنه كان من الذهب، وكان بالإمكان تغيير صورة العجل والاستفادة من الذهب؛ ولكن أراد موسى عليه السلام قطع كل تعلق بالأصنام والأوثان التي تعبد من دون الله، حتى تخلص القلوب لربها وإلهها ولا يكون فيها شائبة من شرك . ونبينا على أفضل الصلاة وأتم التسليم، لما فتح مكة أزال وكسر كل الأصنام والأوثان التي تعبد من دون الله، وأمر بعض أصحابه بإزالة الطواغيت التي كانت تعبد في الجزيرة كالعزى وغيرها.
يقول ابن سعدي : ( فأراد موسى عليه السلام، إتلافه [أي: العجل] وهم ينظرون، على وجه لا تمكن إعادته- بالحراق والسحق ذَرْرِيهِ في اليم ، ونسفه، ليزول ما في قلوبهم من حبه، كما زال شخصه . ولأن في بقائه ، محنة لأن في النفوس أقوى داع إلى الباطل . فلما تبين لهم بطلانه ، أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له ، فقال : {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} ( ) .

4- مقام الرسالة والنبوة لا يمنع من الابتلاء .
الرسل والأنبياء هم أقرب الناس إلى الله، وأعظمهم منزلة عنده؛ ولكن تلك المنزلة لا تمنع من ابتلاء الله لهم واختباره إياهم؛ بل هم أشد الناس بلاءً كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن سعد بن أبي وقاص قال قلت: يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ... الحديث ) ( ) .
فإبراهيم الخليل عليه السلام أُمر بذبح ابنه، فانقاد لأمر ربه، ولما رأى الله عزم إبراهيم على الأمر، رفع الله عنه هذا الابتلاء العظيم {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}( ) .
ومحمد صلى الله عليه وسلم أًبتلي في نفسه وفي أهله، ففي أحد شُج وجهه وكسرت رباعيته، وابتلي في زوجه عائشة-شهراً كاملاً - لما رماها أهل الإفك بما برأه الله منه، ولقي في دعوته من قومه أشد الإيذاء؛ ولكنه صبر في ذات الله .
وموسى وزكريا وأيوب ويوسف عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء والرسل، ابتلوا وصبروا واستحقوا الإكرام من ربهم . وهذا الابتلاء مما يرفع الله به درجات رسله وأنبيائه، ويقربهم عند مولاهم زلفى.

5- إذا خالط بشاشة الإيمان القلوب، هان عند النفس كل عظيم في ذات الله .
وذلك أن السحرة من قوم فرعون أتوا بسحرٍ لا يعلم عظمه الله، ووصفه الله بوصف مطابق لحقيقته فقال تعالى : {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} ( ) . ولما أمر الله موسى بأن يلقي عصاه وقضت على إفك السحرة، أيقن السحرة هنالك أن ما جاء به موسى ليس سحراً إنما هو آية من آيات الله تدل على صدقه وصدق رسالته، فآمنوا حينئذٍ بدون مشاورة أو تردد، فما عاينوه من الآيات كافٍ في صدق دعوة موسى .
واغتاظ فرعون وتهددهم بقطع أيديهم وأرجلهم وأن يصلبهم على جذوع النخل، فلم يأبهوا لقوله وردوا عليه أن قالوا : {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(125)وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}( ) . وقالوا: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ( ). وقالوا : {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(50)إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} ( ) .
فلم ينفع تهديد فرعون لما تمكن الإيمان في قلوبهم، وآثروا الموت في ذات الله ، على الحياة في طاعة فرعون . -فسبحان الله- كيف أنهم في أول النهار أعظم الناس كفراً ، وفي آخره أطوع الناس لربهم وأشدهم طلباً لمرضاته . إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب .

6-محاورة موسى لفرعون .
لما عرض موسى –عليه السلام- دعوته على فرعون، أظهر له من الآيات الكونية وغيرها التي تدل على أن الله الخالق الرازق المحيي المميت، هو المستحق للعبادة ، فلنستمع إلى تلك المحاورة : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)} ( ) .
فبين لهم موسى عليه السلام الأدلة على وجود الله وأن المستحق للعبادة هو الذي خلق السموات والأرض ، الذي خلقهم وخلق آبائهم، وهو رب المشرق والمغرب .
ولما أعيت فرعون الحيل، وأعجزهم موسى، وسُقط في أيديهم، لجأ الظالم فرعون إلى أسلوب التهديد والوعيد :
{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)} ( ) .
ولما رأى موسى أن فرعون وقومه حُجبوا عن الاهتداء إلى ربهم بما أظهره الله في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات التي يهتدي بها ذو سليم الفطرة إلى ربه؛- ولكنه الكبر والاستعلاء صدهم عن اتباع الحق-، أراد أن يظهر لفرعون وقومه من الآيات الباهرة التي لا يأتي بها إلا الرسل :
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(31)فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(32)وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(33)} ( ) .
فقال فرعون-عناداً واستكباراً- :
{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(34)يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35) } ( ) .
فانظر –رعاك الله – إلى طريقة موسى-عليه السلام- ومحاورته لفرعون في إثبات وجود الله واستحقاقه للعبادة، ثم ترتيبه للآيات فبدأ بالكونية أولاً ثم لما لم يفد ذلك معهم لجأ إلى الآيات المعجزة التي لا تعارض أبداً .

7- عمل الفاحشة و السيئات والاستمرار عليها يؤدي إلى فقدان العقل للتمييز بين الحق والباطل .
وهذا جليٌ في قصة قوم لوط، فإنهم كانوا قد أدمنوا الفاحشة، وإتيان الذكور دون الإناث، فخالفوا الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولما كانت تلك حالهم، وهذا دأبهم، ابتلوا بفقدان التمييز بين الحق والباطل، فلم يقيموا وزناً لدعوة نبيهم لوط-عليه السلام- ولم يرتدعوا عما هم عليه من فعل القبائح ومخالفة الفطرة السوية؛ بل لم تكن لهم قلوب يفقهون بها أو عقول ترشدهم إلى ما فيه صلاحهم وتقواهم، لما اعتادوا الفاحشة وكانت دأبهم وديدنهم .
يقول تعالى مخبراً وواصفاً حالهم : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ(77)وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ(78)قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ(79)قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(80)} ( ) .
فانظر إلى وصف الله لمجيئهم للوط عليه السلام بعد أن علموا أن عنده أضياف حسان الوجه: { وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي جاءوا مسرعين يريدون فعل الفاحشة بأضياف لوط عليه السلام. قال ابن عباس وقتادة والسدي : يهرعون : يهرولون . [وقال] الضحاك: يسعون، [وقال] ابن عيينة: كأنهم يدفعون . اهـ ( ) . وإسراعهم دليلٌ على شدة تعلقهم بالفاحشة، وسفه عقولهم . وقوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي كان من عادتهم إتيان الرجال دون النساء، فسبب لهم مدوامتهم على فعل الفاحشة أن لم يصبروا حتى جاءوا مهرولين مسارعين .
وقال تعالى : { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ(67)قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ(68)وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ(69)قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ(70)قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(71)لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72) } ( ) .
والشاهد هنا قوله تعالى : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } : وهذه السكرة، سكرة محبة الفاحشة، التي لا يبالون معها بعذل ولا لوم ( ) .

8- حال الداعي مع المدعو .
أ- اللين في الخطاب الدعوي .
ونلمح ذلك في أمر الله لموسى وهارون أن يُلينا في القول لفرعون : {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ( ) . ففرعون مع جبروته وعلوه وظلمه، إلا أن اللين في الدعوة قد يزيل قسوة القلب . وثمة موقف آخر، وهو موقف إبراهيم –عليه السلام- من أبيه (آزر) الذي آثر الشرك والتنديد على التوحيد، ومع ذلك نرى خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه من ألين القول وأرقه : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(41)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42)يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43)يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا(44)يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)}( ) .
وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت يدعو قومه ويلين لهم الكلام والخطاب، ويجادلهم بالتي هي أحسن، حتى يرغبهم في دين الله .
ب-الاستمرار في الدعوة وعدم اليأس .
وهذا حال الداعي المسلم المتأسي بأنبياء الله ورسله، فإنه يستمر على دعوة الناس والصبر على أذاهم، وتحمل المشاق في ذات الله، كما كانت الأنبياء والرسل تفعل ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم سلف -بأبي هو وأمي -وخير سلف .
ولنستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تسوق ما أخبرها به النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء قومه له وصبره عليهم وعدم يأسه منهم : (قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد قال لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) ( ) .
ت- إذا استبان للداعي حال المدعو من الصدود والإعراض فلا أسف ولا حزن عليه .
فالدعاة إلى الله، يدعون الخلق امتثالاً لأمر ربهم، وشفقة عليهم من أن تزل بهم الأقدام فيخسرون الدنيا والآخرة . والداعي إن استفرغ وسعه، نصحاً ووعظاً وتذكيراً بالله، ثم أصر المدعو على غيه وبطره، وأعرض عن الحق ، فلا ينبغي حينئذ للداعي أن يأسف أو يأخذه الحزن كل مأخذ؛ لأن الحزن يفوت على الداعي أموراً كثيرة؛ بل قد يترك هذا الطريق لما يراه من إعراض المدعوين .
ونوح عليه السلام استمر يدعو قومه طويلاً ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فقال : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9) } ( ) . ولكنهم أصروا على عنادهم واستكبارهم، ولما رأى نوح عليه السلام من قومه الصدود والعناد والاستكبار، بعد أن مكث يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، دعا عليهم ولم يبال بهم ولم يأسف عليهم : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(26)إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(27)} ( ) . فاستجاب الله دعائه وأغرق المكذبين من قوم نوح .
وفي قوله تعالى : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} ( ) . وقوله : {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ( ) .
يقول ابن سعدي : ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم، حريصاً على هداية الخلق، ساعياً في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم ، يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم، عليهم ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الأخرى . {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}( ) . وقال : { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أي : مهلكها، غماً وأسفاً عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله .
وهؤلاء لو علم الله فيهم خيراً ، لهداهم . ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم ، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غماً وأسفاًَ عليهم، ليس فيه فائدة لك ، وفي هذه الآية( ) ونحوها عبرة :
فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ، والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه ، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف . فإن ذلك مُضعف للنفس، هادم للقوى ، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله، الذي كُلف به وتوجه إليه . وما عدا ذلك فهو خارج عن قدرته . اهـ ( ).

9- الإيمان بموعود الله، وأن الله ناصر رسله وعباده الصالحين .
فإن الداعي الموحد المتقي المخلص لربه وإن ضاقت عليه السبل، وصدت في وجهه الأبواب، ورمته الناس عن قوس واحدة، فمهما بلغت به الحال فإن الله ناصره ومؤيده والعاقبة له . {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ( ) ، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ( ) . وموسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر، و اتبعهم فرعون، ورأي بنو إسرائيل جيش فرعون خافوا على أنفسهم وقالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)} ( ) قال موسى واثقا بموعود ربه وأنه الله لا يخزي رسله أبداً { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(62)}. ففرج الله عن رسوله هذه الشدة ونجى نبيه ومن معه من المؤمنين وأهلك فرعون وقومه الظالمين {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(63)وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ(64)وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(65)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ( ) .


10- الإنكار وإن كان قليلاً لا بد أن يعمل عمله في النفوس .
لا ينبغي للمسلم أن يترك إنكار المنكرات، ولا يقلل من شأن الكلمات القليلة، فإنها إن خرجت من قلب مخلص ناصح، يبتغي بذلك رضى الله، عملت عملها في نفس المنكر عليه . ولا أدل على ذلك من إنكار موسى عليه السلام لجموع السحرة التي جاءت بسحرها العظيم، لإطفاء نور الله، فقال لهم موسى عليه السلام : { وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} ( ) . فأحدثت هذه الكلمة أثراً في أنفس السحرة، وعملت عملها فيهم، ووصف الله سبحانه وتعالى حالهم بعد الإنكار عليهم فقال : {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} ( ) . يقول ابن سعدي : وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب، لاجرم، ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة، لما سمعوا كلام موسى ، وارتبكوا . ولعل من جملة نزاعهم، الاشتباه في موسى، هل هو على الحق أم لا ؟ .. اهـ ( )

11- الاستفادة من كل فرصة تسنح للداعية في الدعوة إلى الله .
على الداعي إلى الله أن يوظف كل الإمكانات في سبيل الدعوة إلى الله، وأن يستغل كل الفرص في الدعوة إلى ربه، ولا يحقر من ذلك شيئاً، وفي قصة يوسف عليه السلام مع صاحبي السجن أبلغ الأثر في استفادة الداعية من كل الفرص . قال تعالى حاكيا ً قصة يوسف في السجن : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(36)قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(38)يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ( ) .
فانظر إلى يوسف عليه السلام لما سأله الفتيان عن تأويل رؤياهما، أجابهما أولاً بما هو أنفع لهما وهو الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك، وعبادة الله وحده، ثم لما بين التوحيد لهما ودعاهما إلى عبادة الله وحده ، قص عليهما تأويل الرؤيا . وهذه فائدة يستفيد منها المفتون والمعلمون والدعاة إلى الله .
قال ابن سعدي : ومن فطنته عليه السلام ، أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا : {إنا نراك من المحسنين } وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما ، فرآهما ، متشوقين لتعبيرها عنده – رأى ذلك فرصة، فانتهزها، فدعاهما إلى الله تعالى ، قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده، وأقرب لحصول مطلوبه أ هـ ( ) .

12-القوة والأمانة .
القوة والأمانة صفتان تطلبان في أصحاب الرياسة والقيادة، والتكليف بالأعمال، وذلك أن العامل القوي في أي منصب كان إن لم يكن أميناً ظلم العباد، واغتصب الحقوق، وخان الأمانات، وكذلك العامل الأمين إن لم يكن قوياً، أُتي من قبل ضعفه وعدم قدرته على إدارة الأمور وتسييرها على الوجه المطلوب . فكلا الصفتين مطلب لضمان نجاح الأعمال .
ويدل على ذلك آيتين في كتاب الله : الأولى قوله تعالى في حكايته قول ابنة شعيب لما أراد أبوها من موسى عليه السلام أن يعمل عنده .
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } ( ) .
والثانية قوله تعالى في حكايته عن كلام عفريت من الجن لسليمان عليه السلام ، لما قال لحاشيته من يأتني بعرش بلقيس قبل أن تقدم إليه ؟ :
{ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } ( ) .
وعليه فإن المرء عندما يبحث عن رجال لتسلم وظائف معينة، أو لأداء مهام، أو أعمال، فإنه يراعي تلك الصفتين، حتى يحصل على نتائج مرضية .

13-إني حفيظ عليم .
تلك كانت مقالة يوسف عليه السلام في سياق ذكر قصته التي قصها الله علينا في كتابه، ويوسف عليه السلام قال تلك المقالة بعد أن عبّر الرؤيا لعزيز مصر، وأظهر الله صدق يوسف وبراءته من التهمة التي أُدخل بسببها السجن، فأراد ملك مصر أن يجعله مقرب عنده ممكن أي كالمستشار { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ( ) . ولكن يوسف عليه السلام أراد أمراً آخر فيه مصلحة عامة للخلق فقال : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ( ) . وليس هذا من باب سؤال الإمارة المنهي عنها، والتي جاءت في حديث عبد الرحمن بن سمرة عند مسلم ، أن رسول الهل صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من مسألة وُكِلت إليها، ,وإن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها ) .
وليس هذا أيضاً من باب تزكية النفس ؛ بل هذا من باب النفع العام للخلق، ومعرفته –عليه السلام- من نفسه الكفاية والأمانة والحفظ والإصلاح ( ).
ويستفاد من هذه الآية، أن المسلم لا يحرص على طلب الإمارة، أو تسنم المناصب القيادية ونحو ذلك، إلا أن يجد من نفسه قدرة وكفاية وأمانة، و لا يكون هناك من يقوم بالواجب غيره، فعندئذ ليطلبها وليسأل الله العون، وليحذر من التأويلات المسوغة له الإقدام على طلب المناصب، فإنه إن سألها وُكِل إليها، كما جاء في الحديث .

14- فائدة جليلة من قوله تعالى : ( إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ) .
الإنسان تطمح نفسه لنيل مراتب، أو تحصيل علم، أوتحصيل منفعه دينية أو دنيوية. ولكن ليس كل ما تمناه المرء مدركه، ولله في منع الناس من نيل بعض مبتغاهم حكم، فلله الأمر من قبل ومن بعد . ولا ينبغي الحزن على ما لم يتحقق من الأماني، بل تُسلى النفس بما أنعم الله عليها من النعم الدينية والدنيوية فذلك أدعى لسكون النفس وراحتها . وفي هذا المقام نسوق كلاماً نفيساً للشيخ عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله – فقال : ينبغي لمن طمحت نفسه لما لا قدرة له عليه، أو غير ممكن في حقه ، وحزنت لعدم حصوله أن يسليها بما أنعم الله به عليها مما حصل له من الخير الإلهي الذي لم يحصل لغيره؛ ولهذا لما طمحت نفس موسى عليه السلام إلى رؤية الله تعالى وطلب ذلك من الله، فأعلمه الله أن ذلك غير حاصل له في الدنيا وغير ممكن ، سلاّه بما أتاه فقال { يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ( ). أهـ ( ) .

15- الرؤيا من العلوم الشرعية التي لا يفتى فيها إلا بعلم .
قال بن سعدي –رحمه الله- : أن علم التعبير من العلوم الشرعية ، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير الرؤيا ، داخل في الفتوى، لقوله [أي يوسف عليه السلام] للفتيين : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } وقال الملك : { أفتوني في رؤياي } . وقال الفتى ليوسف : { أفتنا في سبع بقرات } الآية . فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم . أهـ ( ) .
قلت : وفي هذا الزمن، كثر المعبرون، وتناقل الناس رؤى عجيبة، وإخبارٌ عن وقائع ستحدث في تواريخ محدده،وهو بابٌ من أبواب الكهانة لا تعبير الرؤيا ! . وتهافت الناس على تعبير رؤاهم، وأكثرها أضغاث أحلام. وكان يكفي أحدهم إن رأى ما يسره أخبر بها من يحب، وإن رأى سوءً تعوذ بالله من شرها وتفل عن يساره ثلاثاً، وهي لا تضره بعد ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ) ( ) .

16- دفع الإنسان التهمة عن نفسه طريقة شرعية .
لا يخلو المرء أن يتعرض لبعض المواقف والتي قد تثير الريبة فيه عند الآخرين، وسواء كان هذا الموقف شكاً وريبة، أو أمراً شاع عند الناس وتناقلوه كالخبر المصدق؛ وأيهما كان فإن المرء مطالب بدفع التهمة عن نفسه بكل ما يستطيع وبكل وسيلة، ويظهر هذا في قصة يوسف عليه السلام، فإنه قد حُبس في السجن ومكث فيه مدة طويلة ظلماً، ولما عبّر رؤيا الملك، وأمر الملك بإطلاق سراحه وجاءه البشير، أبي الخروج إلا بعد ثبوت براءته، وهو من باب دفع التهمة عن النفس . قال تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ(50)قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ( ) . وفي موقف يوسف هذا ظهور فضيلة ومنقبة له –عليه السلام- حيث أن لبثه في السجن تلك المدة الطويلة، لم تدفعه للخروج من السجن، حتى تندفع التهمة عن نفسه .
وثمة موقف آخر لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فعن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ( ) . فقوله صلى الله عليه وسلم : (على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي) هو من باب دفع التهمة عن النفس . ومهما كان المرء واثقاً من نفسه فإن الطريق الشرعية هي التي سلكها أنبياء الله من قبل محمد ويوسف عليهما الصلاة والسلام .

17- التأني والتثبت قبل الإقدام يقي من الندامة .
ومن أظهر المواقف في هذا قصة نبي الله سليمان مع الهدهد، فإن الهدهد لما أخبره بشرك بلقيس وقومها، وسجودهم للشمس وعبادتهم لها من دون الله، تأنى سليمان عليه السلام، ولم يعاجلهم بغزو أو نحو ذلك بل قال : {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ( ) . ثم أرسل مع الهدهد رسالة يدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته وحده .
والله سبحانه أمر عباده بالتثبت والتبين إن جاءهم فاسق بنبأ، وأن لا يتعجلوا حتى يتيقنوا من صحة الخبر فقال تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ( ) . وكم تعجل أناس في أمور فأعقبهم ذلك ندماً شديداًَ، وتمنوا أن لو تثبتوا وتيقنوا .

18- المؤمِّن على الدعاء شريك للداعي .
ونستفيد هذا الحكم من دعاء موسى على فرعون وقومه، فقال موسى :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} ( ). قال الله تعالى مخاطباً موسى وهارون : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ( ) . فكان الدعاء من موسى، وكان استجاب الدعاء من موسى وهارون، قال العلماء: كان موسى يدعو وكان هارون –عليهما السلام- يؤمن على دعائه، وهذا دليل على أن المؤمن على الدعاء شريك للداعي .

19- ختم الدعاء بما يناسب حال الداعي.
من آداب الدعاء، أن يسلك الداعي في سؤاله ربه سبيل التذلل والخضوع، وأن ينتقي الألفاظ المناسبة التي تناسب حاله وحاجته، فهو أدعى لقبول دعائه، وإجابته سؤله . وتلك كانت طريقة الأنبياء والرسل، فهذا أيوب عليه السلام بعد أن مسه النصب والضر يدعو ربه برحمته أن يرفع عنه الضر والمرض: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)} ( ) . وزكريا عليه السلام لما حُرم الولد تضرع إلى مولاه أن يرزقه الذريه ووصفه بأنه خير الوارثين : {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ( ) . وموسى عليه السلام لما فر هارباً من مصر متوجهاً إلى مدين، وكان لا يملك شيئاً، وكان من أمره ماكان مع المرأتين اللتين سقى لهما ثم : { تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ( ) . فسأل الله مبيناً حاله وأنه فقير إلى الخير الذي يأتيه من مولاه ! .

20- تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة .
لما كان من يونس – عليه السلام- من أمره ماكان وابتلاه الله بأن يمكث في بطن الحوت ما شاء، ولما كان يونس مسبحاً لله ذاكراً لله في وقت الرخاء، هون عليه أمره في الشده، ورفع عنه الابتلاء.
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ(143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ( ) . يقول ابن كثير على هذه الآية : قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء ... ( ) . وقال القرطبي : أخبر الله عز وجل أن يونس كان من المسبحين ، وأن تسبيحه كان سبب نجاته، ولذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر . أهـ ( ) .
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة) ( ) .
وحريٌ بنا الإتساء بالأنبياء، فنضرع إلى الله غدوة وعشية، ونتعرف إليه في الرخاء ليعرفنا في الشدة .

21- العاقبة الحميدة لمن اتقى وصبر .
وذلك أن من أتقى الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى أقدار الله المؤلمة، فإن العاقبة الحميدة له، وكان من المحسنين . وقد لقي يوسف عليه السلام من اخوته ما لقي فاتقى الله وصبر، وابتلي بالدعوة إلى الفاحشة من امرأة العزيز فاتقى الله وصبر، وحبس في السجن مدة طويلة فاتقى الله وصبر، وابتلي بالملك فاتقى الله وصبر . ولهذا لما عرف نفسه لأخوته { قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ( ) . فكانت العاقبة الحميدة له، جزاء على إحسانه وتقواه وصبره –عليه السلام- .
22- كتمان بعض النعم خوف الحسد أو استعمال الأسباب الدافعة للمكاره .
فالمُنعم عليه إن كان يخشى من إظهار نعمة الله عليه الحسد أو الإصابة بالعين ونحوها من المكاره، جاز له كتمانها أو استعمال ما يقوى عليه من الأسباب المشروعة لدفعها .
فمن الأول : قوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ(4)قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(5)} ( ) . فيعقوب عليه السلام لما رأى كرامة الله ليوسف، من خلال الرؤيا، نهاه أن يقص على إخوته تلك النعمة التي اختصها الله به، لئلا يحسدونه عليها، أو يضمروا له شراً بسببها .
والثاني : قوله تعالى : { وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ(67)وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(68)} ( ) .
وهنا أمر يعقوب عليه السلام بنيه أن يدخلوا المدينة من أبواب متفرقه، ولا يدخلوا من باب واحد، لئلا يصابوا بالعين، وذلك لكثرتهم وحسن بهائهم ، فخشي يعقوب عليه السلام إن دخلوا من باب واحد أن يصابوا بالعين أو مكروه، وهذا من باب استعمال الأسباب الدافعه للعين ونحوها ( ).

23- سر تكرير قصة موسى مع فرعون .
قال شيخ الإسلام بن تيمية : َثَنَّى قِصَّةَ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ ; لِأَنَّهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ حَيْثُ كَفَرَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبِالرِّسَالَةِ وَمُوسَى فِي غَايَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةً مِنْ خَلْقِهِ فَهُوَ مُثْبِتٌ لِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَكَمَالِ التَّكَلُّمِ وَمُثْبِتٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ النُّعُوتِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْحَدُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِلرُّسُلِ مِنْ التَّكْلِيمِ مَا لِمُوسَى ; فَصَارَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ أَعْظَمَ الْقِصَصِ وَأَعْظَمُهَا اعْتِبَارًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ ; وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ عَلَى أُمَّتِهِ عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَانَ يَتَأَسَّى بِمُوسَى فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَلَمَّا بُشِّرَ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ ; وَلِهَذَا كَانَ يَعْبُدُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مُسْتَيْقِنًا لَهُ لَكِنَّهُ كَانَ جَاحِدًا مَثْبُورًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } الْآيَةَ ( ).

تم الفراغ منه في العشرين من شهر شعبان لعام الف وأربع مائة وثلاث وعشرين بعد الهجرة النبوية المباركة ، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً ، والحمد لله رب العالمين .


المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كنوز سورة الأنبياء في سبب استجابة الدعاء نور الإسلام هدي الإسلام 0 25-03-2014 09:25 AM
الفوائد الصحية للصوم نور الإسلام هدي الإسلام 0 24-06-2013 07:43 AM
مَن هو النبى المُخّلِص ,هل يسوع آخر الأنبياء؟ نور الإسلام لاهوتيات 0 03-08-2012 12:14 PM
ومضات من حياة إمام الأنبياء - صلى الله عليه وسلم- مزون الطيب هدي الإسلام 0 01-02-2012 08:28 PM
الفوائد المترتبة على التقوى في الدنيا نور الإسلام هدي الإسلام 0 14-01-2012 12:27 PM


الساعة الآن 05:33 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22