صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

في رحاب سورة يس

سورة يس "مكية، عدد آياتها: 83" وهي تتضمن تسعة مجالس تقديم أما سورة "يس" فهي مدرسة أخرى تماما! إنها سورة الدعوة والداعية!

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-06-2014 ~ 07:38 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


رحاب, سورة

سورة يس
"مكية، عدد آياتها: 83"
وهي تتضمن تسعة مجالس

تقديم

أما سورة "يس" فهي مدرسة أخرى تماما!

إنها سورة الدعوة والداعية! الداعية الذي عرف ربه فأحبه! عرفه بما تجلى عليه من أنوار الجلال والجمال، فانطلق يسعى حثيثا يحمل وهج الدعوة إليه، وتعريف الناس بما أنعم الله عليه من جمال المعرفة به جل جلاله! وليس كاسم الله الأعظم أدل على الله، ولا أبلغ في الكشف عن أنوار عظمته سبحانه جل علاه؛ ولذلك كانت هذه السورة تفيض بما لا ينحصر من تجليات الجلال والجمال، الصادرة عن الاسم الأعظم؛ لتزويد الداعية المخلص بما يملؤه يقينا في الله، ويعمره محبة في مولاه! ويجعله - قبل ذلك وبعده - يتحقق بمقام التوحيد الخالص، مشاهدة حسنى لا يضام فيها أبدا!

فالسورة تمد العارف الداعية إلى الله بمدد من الحكمة والمعرفة لا قِـبَلَ للسالكين به! إنها تفيض بمعاني الحياة بكل طبقاتها، وبكثير من أسرار الخلق والإحياء على اختلاف ألوانها وأشكالها، وإنها لتنبض بجلال القيومية، وبعظمة التقدير والتدبير؛ ما يجلي للعبد - من شؤون الربوبية - حقائق اليقين على منـزلة الشهود الكامل! فيسترخص دمه في طاعة الله ويهرق أنفاسه رجاء نيل رضاه!

تلك هي سورة يس، فمن أوتيها فقد أوتي خيرا عظيما وفتحا مبينا!

إنها سورة تمنح المتلقي لحقائقها منـزلةً خاصة من المعرفة بالله! وتجعله يعتلي مقاما من المشاهدات النورانية لا مثيل له! فمكابدتها تورث السائر إلى الله - جل جلاله - حقيقة المحبة! بل تورثه الفناء في بحارها، والغرق في أنوارها! فعبر مسالكها ارتقى شهيد المحبة إلى عين اليقين!

كانت رياح الشوق تحمله بأجنحتها إلى وطيس الصراع الدائر بين الحق والباطل، فجاء من أقصى المدينة يسعى ليدلي بشهادته النازفة! (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى!) فكان ثمنها إهراق دمه الْمَشُوقِ بحب الله! فنادى المرسَلين وهو يجود بدمائه الحرى: (إِنِّيَ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) وجاء الجواب من ملائكة الرحمن سريعا، جاءه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، مودعا عالم التراب الفاني: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ!) فلما رأى ما رأى ووجد ما وجد (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) قالها بعد استشهاده مباشرة، وهو ينطلق محلقا بأجنحته الخضراء في فضاءات الجنة العريضة! مشرفا من أعاليها على مَنْ خَلَّفَهُمْ تحت أدران التراب، من جموع الطغاة الجهلة بالله!

ثم ترتقي السورة بالسالك المحب عبر معارج المشاهدات والكرامات، ومباهج السياحات، لِيَتَمَلَّى بما أُذِنَ له من ملكوت الله العظيم، ويتغذى بالنظر في آيات الله الممتدة من دقائق الأنفس إلى عجائب الآفاق، وحركة النجوم السيارة والأفلاك الدوارة، المتفانية في عبادتها لله تسبيحا وتفريدا؛ بما يرسخ يقين المحب في محبوبه، ويذكي شوقه إلى لقائه! حتى إذا اكتملت له النعمة، وغمرته السكينة والرحمة، وشاهد من آيات الجمال والجلال ما بهر فؤادَه؛ خَرَّ قَلْبُهُ مسبحا بين يدي مولاه، فتجلى له نور الطابع الرباني، الخاتم لشهادة تخرجه من مدرسة المحبين، تلاوة تهدهد آلام أشواقه بوعد جميل: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)

تلك كانت إشراقات من حقائق الإيمان، النابضة في سماء هذه السورة العظيمة([1]).

فما بقي الآن إلا أن نحاول تلقي إشاراتها وأنوارها. وذلك من خلال تسعة مجالس هي كما يلي:



[1]قد وردت أحاديث كثيرة في فضل سورة "يس"، وما لها من خصائص وبركات، لكن أغلبها ضعفه أهل الصناعة من علماء الحديث. إلا أن القرآن يشهد بنفسه على نفسه بفضله وعظمته. ونحن لا نستبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى شيء من ذلك - فيما يخص هذه السورة بالذات – فحض عليها حضا! خاصة وأن الكلام عنها قد ورد عن عدد من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، كما تداولته كتب الحديث والتفسير. وإن في هذا لدلالة كافية على تفردها وعظمتها!

المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:38 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الأول
في مقام التلقي لأصول العمل الدعوي:
تعريف الداعية بمقامه، وبطبيعة رسالته، وأصناف مخاطَبيه


1- كلمات الابتلاء:

يَسِ(1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(4) تَنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ(8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ(9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12).


2- البيان العام:

"ياء" و"سين"، من ههنا يكون البدء في تلقي أنوار الحكمة! حرفان كريمان من حروف القرآن الكريم، يفيضان أنسا وجمالا! ويربطان قلب المؤمن بالعمق الغيـبي لهذا الكتاب العظيم! ولقد تضاربت أقوال المفسرين في معنى الأحرف المقطعة الواردة بفواتح بعض السور، وذهبت آراؤهم فيها مذاهب شتى، إلا أنه لم يصح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، فليس لنا أن نقرر في شأنها إلا ما يليق بخطاب العرب وبمقام القرآن العظيم.
أما الشيء الذي لا خلاف فيه، فهو أن هذه الأحرف قد بقيت لغزا من ألغاز القرآن الكريم! ولا أحد استطاع أن يأتي فيها بقول يكشف سرها، ثم يستقيم ومقاييسَ العلم روايةً أو درايةً! فكل ما قيل حولها تخمينات وظنون لا تغني عن الحق شيئا! وبعض المفسرين مال إلى ربطها بحساب الجمل، وهو أمر لم تعرفه العرب، ولم تفسر به خطابها قط. وكل ما ورد في ذلك من الروايات ينتهي أغلبه إلى الإسرائيليات! وفي بعضها من الباطل ما كشفه التاريخ! كتحديدهم عمر هذه الأمة بناء على جمعٍ لأعداد بعض تلك الحروف على حساب الجمل! ثم امتدت الأمة في الزمان أكثر بكثير مما عدوا لها!

الشيء الوحيد الذي بقي مقبولا في تفسير هذه الأحرف هو أنها - كما ذكرنا - من متشابه القرآن الذي لا يعلمه إلا الله! وهذا مُعْطَى علمي مهم جدا، نبني عليه بياننا - بحول الله - ههنا، وذلك بتسجيل الملحوظات التالية:

- أولا: أن هذه الأحرف لها في مواضعها من كتاب الله دلالتها الخاصة! وهي دلالات مختلفة؛ لاختلافها هي في نفسها، فـ "اَلَمِ" مثلا ليست هي "اَلَرَ"، ولا هي "اَلَمِرَ"، ولا هي "اَلَمِصَ"، ولا هي "كَهَيَعِصَ"، ولا هي "يَسِ" أو "صَ" أو "قَ" ...إلخ. فكل زيادة أو اختلاف في المبنى، يدل على زيادة أو اختلاف في المعنى.

- ثانيا: أن لها معاني خاصة عند الله تعالى، مرتبطة قطعا بسورها المذكورة في أوائلها من جهة، ومرتبطة – من جهة ثانية - بطبيعة هذا القرآن، الذي هو كلام الله جل جلاله. فالله تعالى لا يتكلم عبثا، بل لا يتكلم إلا بالحق، سبحانه جل جلاله!

- ثالثا: أن الله تعالى استأثر بحقائق تلك الأحرف في علم الغيب عنده، كما استأثر بكثير من أسمائه الحسنى وصفاته العلى عنده أيضا! وفي هذا دلالة عظيمة على ثمرة إيمانية كريمة، وهي كما يلي:

- رابعا: أن حقيقة هذا القرآن كله – ما علمنا منه وما لم نعلم - مرتبطة بعالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله! وأنه تعالى إنما بين لنا منه ما تقوم به حياتنا التعبدية، وتتوجه به التكاليف الشرعية العقدية والعملية، ويصلح به العمران البشري، وتقوم به الحجة على الناس! وذلك هو ما يُسِّر منه تيسيراً! كما قال جل جلاله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟)(القمر: 17). وإلا فمن ذا قدير على أن يتلقى كلام رب العالمين – المحيط بكل شيء في هذا الوجود العظيم - وأن يرتله ترتيلا!؟ ولقد صدق سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، إذ قال في هذا قولته الشهيرة: (لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل!)([1])

ومن هنا وردت هذه الحروف في كتاب الله من الغوامض التعبيرية؛ وفي ذلك إشارة إلى هذا الأصل الإعجازي العظيم! كأنها تقول للإنسان: انتبه! إن هذا الكتاب الذي يُسِّرَ لك أن تقرأه اليوم كتاب غير عاد تماما! إنه كتاب غريب عجيب! إنه بحار غير متناهية من الحقائق الغيبية والكونية مما لا يحيط بحقيقته إلا الله رب العالمين! فتأدب يا عبد! تأدب بأدب العبودية بين يدي الملك العظيم، وأنت تستفيد – فيما أُذِنَ لك - من نعمة تيسير القرآن المجيد تلاوةً وتدبراً!

ويكفيك دلالة على هذا التأصيل الأصيل، قول الله تعالى عن كلامه جل جلاله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ!)(لقمان: 27) ولقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تفرد كل حرف من حروف القرآن العظيم بقيمة ذاتية، لكن ليس بما هو حرف عربي؛ ولكن بما هو جزء من كلام الله جل جلاله! ولذلك رتب الأجر للقارئ على عدد ما قرأ من حروف! رغم أن الحرف في اللغة البشرية وحدة صوتية لا معنى لها! لكنه ههنا شيء آخر، إنه حرف مختلف عن أي حرف في أي لغة، إنه حرف قرآني! ويكفيه ذلك ليضرب بجذوره في عمق الغيب! ذلك هو مقتضى الحديث النبوي المشهور، من قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)([2]).

ومن هنا أيضا وردت أغلب الأحرف المقطعة في أوائل السور مرتبطة بالإشارة إلى عظمة القرآن، أو مصدريته، أو في سياق قَسَمِ الله جل جلاله به! كما في قوله تعالى من فاتحة البقرة: (اَلَمِ. ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ!) وقوله سبحانه في الأعراف: (اَلَمِصَ، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ). وفي يونس: (اَلَرَ. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) وفي هود: (الَرَ. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وفي الرعد: (اَلَمِرَ. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ!) وفي إبراهيم: (اَلَرَ. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ!) وقال هنا في "يس" مُقْسِماً: (يَسِ. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ!) كما قال بعدُ في "ق": (قَ. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ!) وغير هذا وذاك في القرآن كثير.

وعليه؛ فقوله تعالى: "يس" بمفتتح هذه السورة العظيمة إشارة منه - جل جلاله - إلى عمقها الرباني الممتد في بحار الغيب! وإلى أنها تزخر بنفائس الأسرار وكرائم الأنوار! فهي محملة بنور خاص من قوله تعالى العام في القرآن كله: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً!)(الفرقان:6) فلها أسرارها التي تخصها من ذلك، كما أن لكل سورة في كتاب الله أسرارها التي تخصها.

لكن الافتتاح بهذين الحرفين ههنا على الخصوص "ياء" و"سين"، بما لهما - على المستوى الصوتي - من لطف وجمال، ثم القَسَم بعدهما مباشرة بالقرآن موصوفا بالحكمة؛ يجعل من ذلك كله إشارة إلى أن هذه السورة مكتنـزةٌ بالحِكَم الربانية، ذات اللطف الخفي والجمال البهي! وهي حِكَمٌ لها من الخصوص ما يربط القلب بكرامات الغيب مباشرة، ويجعله محفوظا بالله، لا يرى إلا بنور الله! على ما سنبينه بحول الله عند تلقي رسالات الهدى الواردة بالآيات.

فنأخذ ههنا في هذا البيان العام أن المقسَم عليه، المقصود بالخطاب أصالةً، هو أن هذا النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم - رسولٌ من رب العالمين حقيق، رسول ماض على سَنَنِ المرسلين، يتلقى الوحي كما تلقوه من رب العالمين. (يَسِ. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ! عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. تَنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ!) وقد يتساءل المرء بادئ النظر: لماذا هذا التوكيد الشديد من الله - جل جلاله – في خطابه الموجه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم – قصد إثبات قضية هي من أولى المسلَّمات بينهما ابتداءً؟!

إنها توكيدات متتالية متضافرة! بدءاً بالقَسَمِ ثم جعلِ جوابه مسلحا بالحرف الناسخ: "إنَّ"، وبلام التوكيد، ثم جعل السياق كله متعاضدا بجمل اسمية متتابعة! كل ذلك من أجل القول: إنك - أيها الرسول - لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده، على طريق مستقيم، وهو الإسلام الذي هو مسلك كل الأنبياء والرسل قبلك. تنـزيل العزيز في انتقامه من أهل الكفر والمعاصي، الرحيم بمن تاب من عباده وعمل صالحا. إن التوكيد المتضافر ههنا هو مدد من الله لرسوله! صحيح أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه رسول الله، ولكنه الآن في خضم معركة! معركة الدعوة إلى الله ومواجهة طغاة الكفار الذين يكذبون الرسول ويحمون الباطل بقوتهم وجبروتهم! فيثيرون ضده - عليه الصلاة والسلام - وضد دعوته الشبه والتلبيسات، مما يفتن الناس ويحزن الرسول! على غرار ما جاء في قوله تعالى من سورة الأنعام: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ!)(الأنعام: 33) ومثل هذا في القرآن كثير. ومن ثَمَّ كان الرسول في حاجة إلى دعم إلهي ومدد رباني، وهو يخوض معركة الحق ضد الباطل. فتتنـزل عليه هذه الآيات مسلحة بهذه التوكيدات؛ لتمده بقوة جديدة، وتزيده ثباتا وصبراً في مواجهة الباطل! فَتُذَكِّرُهُ بأنه بشر غير عاد، بل هو بشر مرسل من رب العالمين إلى كل العالمين! بشر نعم، ولكنه من نوع آخر، إنه من نوع المرسلين الموصولين بالله أبداً، الممدودين منه تعالى بروح القدس، يحمل راية الإسلام ويجدد دعوته! حجته هذا القرآن العظيم، الذي هو كلام الله رب العالمين! هكذا تتنـزل عليه هذه الحقائق القرآنية مدداً عظيما في ساعة الشدة! وفي لحظة الضيق والحرج؛ فتضاعف قوته وعزيمته؛ بما يجعله من أولي العزم من الرسل، بل يجعله سيدهم وسيد المرسلين أجمعين! عليهم وعلى نبينا أفضل الصلوات والتسليم. فأي تسلية هذه وأي تثبيت!؟ وأي مدد هذا وأي عطاء!؟

ثم يحدد القرآن للرسول الوظيفة الأساس التي هي مناط رسالته: (لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ!) وأفرد النذارة بالذكر – في هذا السياق - دون البشارة؛ لضخامة حجم الضلال، وشدة قتامة التيه الذي كانت تتخبط فيه البشرية زمن الرسالة، عربا وعجما! ثم لخطورة النبأ العظيم الذي نزل به هذا القرآن نذيراً للناس! والناس يومئذ قد تعاقبت عليهم الأجيال دون ورود خبر من السماء نبوةً أو رسالة، إلا ما كان من بقايا صحف أهل الكتاب التي اختلط حقها بباطلها، فلم تعد تغني من الحق شيئا! فاشتدت وطأة الجاهلية في الأرض واشتد ليلها وضلالها! إنها غفلة شديدة مديدة، طالت حتى استحكمت الأهواء في الأنفس وأُشْرِبَتْ طغيانَها! فعُبِدت الطواغيتُ الحجرية والبشرية من دون الله الواحد القهار! وسيطرت شريعة الغاب على العالمين! وصار للظلم والظلمات سَدَنَةٌ غلاظ شداد يحمونهما! فلا رغبة لديهم لسماع كلمة الحق والاستجابة لنداء الهدى! (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ!) فقد صار ما أُشْرِبُوا من حب الكفر والضلال، أغلالاً تربط أيديهم إلى أعناقهم؛ فهم بذلك مُقْمَحُونَ أي مُشَكَّلو الرؤوس والوجوه إلى أعلى، لا يستطيعون عن هذا الوضع تحولا! فلا قدرة لهم على إبصار مواضع أقدامهم، ولا على إبصار علامات الهدى المنصوبة على الطريق من الآيات البينات! ولذلك لا يصدقون مما يقال لهم عنها شيئا! ولقد صوَّرهم الحقُّ تعالى – بهذا الانقماح العجيب – تماما على صورة ما يكونون عليه فعلا من هيأة، عندما يغشون النوادي برؤوس مرفوعة إلى السماء تكبرا وغطرسة وطغيانا! ولذلك فقد أحاط بهم كبرياؤهم الجاهلي، وانتصب سدودا منيعة من بين أيديهم ومن خلفهم، فوقعت بذلك الغشاوة على أبصارهم؛ فأنى يهتدون؟

ثم يلتفت الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – من بعدما بيَّن له حجمَ الضلال الذي تعاني منه البشرية في زمانه، منبها إياه إلى أن هذا الضرب من الكفار، ممن انتصب كبرياؤه طاغوتا في الأرض، لن يهتدي أبدا ولن يصدق من خبر السماء شيئا، سواء بلغته نذارتك أم لم تبلغه؛ إذ كشف الحقُّ - جل جلاله - ارتباطهم الشديد بكفرهم وكبريائهم! فلا استعداد لديهم للخير ولا للهدى أبدا!

وإنما سيستجيب لدعوتك - أيها الرسول – من أنصت لهذا القرآن بتواضع، صادق الرغبة في معرفة الحق! والقرآن هو كلام الله المعرف بالله؛ ولذلك ما قرأه أحد بهذا المنهج إلا انفتحت بصيرته على الحق، فتجلت له عظمة الله جل جلاله! وامتلأ قلبه خشية وتعظيما وكان من المؤمنين. أما هذا فبشره بمغفرة لما كان عليه من كفر وضلال، وبشره بأجر كريم على ما استأنف من حياة إيمانية مباركة!

ثم يقرر القرآن بعد ذلك حقيقة النبأ العظيم، وهو البعث بعد الموت! تلك الحقيقة التي رفضها مَرَدَةُ الكفار قديما وحديثا؛ سخرية منهم بالحق واستكباراً! فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍَ) فلا شيء من عمل ابن آدم يضيع أو ينسى، خيرا كان أم شرا، سواء في ذلك ما عمله في دنياه فانقطع بموته أو ما خلفه متوارثا بعده! كل شيء يثبته الحق تعالى في أُمِّ الكتاب! وسماه ههنا "إماما" لأنه ما أمَّهُ أحد – بمعنى قصده - لمعرفة شيء إلا وجده فيه! فهو إمام مبين في كل شيء! ولذلك قال تعالى في سورة الكهف: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا!)(سورة الكهف:49)

تلك إذن قصة هذه النذارة، وذلك هو مناط هذه الرسالة، وإنه لِمَنْ مَلَكَ البصيرةَ لنبأٌ عظيم! إليه يصير الوجود البشري كله!


[1] تفسير ابن كثير: 4/337.

[2]رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح. انظر سنن الترمذي، (كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر). كما رواه الحاكم أيضا في المستدرك.

  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:39 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 3
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


3- الهدى المنهاجي:


وهو ينقسم إلى ست رسالات، هي كالتالي:


- الرسالة الأولى:

في بيان العمق الغيبي للقرآن الكريم، وما فيه من حكمة ظاهرة، وأخرى خفية لا تظهر للناس، بل إنها لا تتجلى للعبد إلا بعد الشروع في العمل أو بعد الانتهاء منه، وربما تراخت عن ذلك زمانا! على سبيل الابتلاء؛ حتى يدخل العبد في العمل دخول المؤمن بالغيب، المسلم لله رب العالمين! ثم إن هذا القرآن - بما هو منـزل من لدن العزيز الرحيم، عالم الغيب والشهادة – يتضمن خريطة الحياة البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها بدقة متناهية، لكنها خريطة في أغلب معالمها خفية! فهي تشرف على عالم الشهادة من عالم الغيب. وواجب على العبد المؤمن أن يستشرفها باتباعه الدقيق لتعاليم القرآن!


- الرسالة الثانية:

في ضرورة اقتناع الداعية برسالته قصدا ومنهجا إلى درجة اليقين. وذلك بتحقيق الاستيقان الشهودي بمصدرها الرباني؛ بما يجعله على إيمان راسخ متين بدعوته! وإلا فأي تذبذب يقع له في الإيمان برسالته؛ فإنه يكون قطعا من الفاشلين! وليس معنى هذا التذبذب في مطلق الإيمان، كلا، فقد يكون من المؤمنين الصالحين، وإنما المقصود التذبذب في حمل أمانته، وأداء وظيفته، والغفلة عن حقيقة نصرة الله لجنده، وعدم مشاهدة معيته! فتلك أمور متى غابت عن الداعية فشل في دعوته!


- الرسالة الثالثة:

في أن استبطان حقيقة النذارة لدى الداعية وتحمل أمانتها، أنشط له في العمل المتواصل الدؤوب، وفي إشعال جذوة الحماس في قلبه! وتلك هي حقيقة النبأ العظيم الذي جاءت به كل الرسالات! قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ!)(سورة فاطر: 24) ولنا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصوير دقيق لحاله وهو يدعو الناس، تصوير فيه من الشفقة البالغة والرحمة الشديدة؛ ما يبين الوضع النفسي والإيماني الذي وجب أن يتحلى به المؤمن الداعية إلى الله إزاء مخاطبيه! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال: (مَثَلِي كمَثلِ رَجُلٍ استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفَرَاشُ وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها! وجعل يَحْجُزُهُنَّ، ويَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فيها! فذلك مَثَلِي ومَثَلُكُمْ، أنا آخذُ بِحُجَزِكُمْ عن النار: هَلُمَّ عن النارِ! هَلُمَّ عن النارِ! فتغلبوني فتقتحمون فيها!)([1]). وفي رواية جابر: (وأنا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عن النارِ، وأنتم تُفْلِتُونَ من يدي!)([2]) ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (وإني أنا النذير العريان! فالنَّجَاءَ النَّجَاءَ!)([3])


- الرسالة الرابعة:

في أن انقطاع النذارة في بيئة ما، وتوارث أجيالها للجهل بالدين، يجعلها تدخل في غفلة شديدة، وتضرب في ظلمات من التيه، يصعب جدا التخلص منها، حيث تصير إلى التطبع العميق مع المنكر واستغراب المعروف! وتنتهي إلى حال انقلاب المفاهيم! مما يثقل مسؤولية الدعاة ويعقدها! ولذلك وجب مداومة النظر في معالم الآيات الدعوية من كتاب الله عز وجل؛ لمعرفة خصائص النفس البشرية: مَنْ له قابلية للخير ومن أغلق قلبه دونه، ثم ختم عليه بالضلال المبين، فلكل من هذين الصنفين علامات في كتاب الله. ثم إن على الداعية أن يستفيد من مناهج النذارة النبوية، خاصة في المراحل الأولى من دعوته عليه الصلاة والسلام؛ لتشابه أحوال التجديد بأحوال البدء والتأسيس. أعني في مثل هذه الظروف المذكورة، من انقطاع النذارة وتوارث الأجيال للجهل والضلال.


- الرسالة الخامسة:

في التنبيه على عدم الانشغال الكثير بمجادلة الطواغيت المستكبرين، من سَدَنَةِ الضلال وصُنَّاعِ الفجور وحماة المنكر، إلا على سبيل إقامة الحجة. وإنما يجب الاهتمام الأكبر بأهل التواضع من المستضعفين، وجموع الحيارى الغافلين، الباحثين عن الحقيقة، ممن إذا عَرَّفْتَهُ بالله وقعتْ في قلبه خشيته! وانقاد للحق؛ فكان من المهتدين بإذن الله.


- الرسالة السادسة:

في أن قضية البعث والحساب وما تضمنه اليوم الآخر من حقائق إيمانية، هي أهم قضية - بعد الإيمان بالله - وجب على الداعية أن يجعلها أساس خطابه ومناط نذارته! فالمصير الأخروي هو قضية القرآن الكبرى، فهو الأصل وأما ما سواه من الوعود الدنيوية – من صلاح المعاش ورغد العيش - فإنما هو تَبَعٌ، وليس مقصودا للقرآن دعويا إلا على سبيل الابتلاء! وعدم التزام الخطاب الدعوي بهذه المراتب قَلْبٌ لموازين القرآن! ففي غزوة الخندق كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يَرْجُزُ بصوت عال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة!)([4]) وكان أول بيانه لقريش - وهو واقف على الصفا خطيبا - قوله صلى الله عليه وسلم: (إني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذاب شديد!)([5])


4- مسلك التخلق:

لتحقيق الداعية اليقينَ بدعوته وجب عليه الاستمداد الدائم من حقائق الغيب، مما أحكمه الله في كتابه، وقراءة كل ما يقع من حوادث هذا العالم من خلال منظاره. والتزود من مراتب العلم بالله ما يملأ قلب العبد خشية، ويجعله مهموما ببلاغ النذارة! وإنما تحصل مراتب العلم بالله تدرجا؛ وذلك بالتدبر الدائم لكتاب الله، والدخول في صالح الأعمال من خالص العبادات! مع الاقتداء في كل ذلك بأسوة الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل أحواله في سنته وسيرته نصب العين أبداً.


وأما النذارة الواقعة من خطاب الداعية، فلا يمكن أن تكون ذات تأثير، إلا إذا صدرت عن قلب تَمَلَّكَهُ الخوفُ حقيقةً من الله جل جلاله! أما تَصَنُّعُ ذلك وتَكَلُُّفُهُ فلا تُرجى منه فائدة دعوية! ومن هنا فالمسلك العملي للتحقق من ذلك خُلُقاً خالصا، هو التعرف على مقام الله العظيم، ومشاهدةُ الآيات المعرفة بِقَدْرِهِ تعالى وعظمةِ سلطانه! قال جل جلاله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ!)(سورة إبراهيم: 14) وقال سبحانه: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاْلأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(سورة الزمر: 67)


كما يتم ذلك بالمطالعة الدائمة لحقوقه - جل جلاله – المترتبة على عباده؛ بما نالهم منه تعالى من النعم التي لا تحصى! ثم ما وقعوا فيه – بدل الشكر - من العصيان لأمره ونهيه! والشرود بعيدا عن صراطه المستقيم! ثم على العبد تطبيق ذلك كله على نفسه، وإخضاعها لمقاييسه؛ ليرى حجم تقصيره في حق ربه، وعظمة ذنبه وكثرة خطيئاته، وما بَاءَ به من هذا وذاك؛ فذلك كله أدعى لتحقيق الخوف من مقام الله العظيم! وأرجى للداعية في التحقق بخطاب النذارة من دعوته، خُلُقاً مخلصا لله الواحد القهار! فما يصدر عنه آنئذٍ إلا نذير خالص تتخلله الزفرات الصادقة والآهات المكابدة! قال تعالى في حق خليله إبراهيم عليه السلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ!)(سورة التوبة :114)


[1] متفق عليه.

[2] رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع.

[3] متفق عليه.

[4] متفق عليه.

[5] متفق عليه.

  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:40 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 4
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012



المجلس الثاني

في مقام التلقي لوظيفة البلاغ المبين


1- كلمات الابتلاء:

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ(14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ(17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ(19)


2- البيان العام:

هذا يوم من أيام الله! وقصة من قصص القرآن البليغة! كان ذلك في مدينة أنطاكية الواقعة اليوم في شرق تركيا، وكان يحكمها آنئذ ملك طاغية يعبد الأصنام ويفرضها على قومه! كان ذلك زمان أنبياء بني إسرائل، وقيل زمن المسيح عليه السلام، والرسل الثلاثة المذكورون في القصة قيل: هم رسله – من الحواريين - إلى أهل أنطاكية بأمر الله. وقيل: بل هم رسل مباشرون من رسل بني إسرائيل، وهو الذي عليه جمهور المفسرين([1]) وهو الذي يؤيده سياق الآيات. وكل ذلك ههنا سواء، لا تعارض فيه من حيث الحكمة والمقصد الدعوي.
ونظرا لما تكتنـز به هذه القصة من حِكَمٍ بليغة، وسنن ربانية عظيمة، فقد ضربها الله مثلا لقوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبقيت - بعد ذلك - عبرة للبشرية، شاهدة على صراع الحق والباطل إلى يوم القيامة! بقيت - من حيث مقاصدها الدعوية والتربوية - قصة جديدة لا تبلى أبداً!

فقد أرسل الله - جل جلاله - إلى طاغوت أنطاكية وقومه رسولين اثنين، يعزز أحدهما الآخر ويؤيده. كانا يحملان رسالة واحدة، مدارها على الدعوة إلى توحيد الله رب العالمين، ونبذ عبادة الأصنام، وما دأب عليه أهل المدينة من الشرك! لكن الملأ من سدنة الكفر والضلال كذبوا الرسولين، فعززهما الله برسول ثالث! كل واحد منهم كان يتحدث بما آتاه الله من بلاغة وبيان، ويخاطب القوم بحجج تقوي حجج صاحبه وتبينها، فهذا يفصل مجمل ذاك، وذاك يفسر مبهم هذا؛ بما يجعل كل ردود الكفرة باطلة وحججهم داحضة، وينير طريق الإيمان أمام جموع المستضعفين؛ مما أفزع طغاة القوم، فعدلوا - عند الهزيمة - إلى إلغاء الحوار، والتجؤوا إلى لغة العنف والتنكيل بالرسل والتهديد بتعذيبهم وقتلهم؛ قصد إخراس كلمة الحق، وحرمان المستضعفين من تلقي رسالات الهدى! شأنَ سائر الطغاة في كل زمان ومكان!

كانت حجة الكفرة قائمة على رفض أن يرسل الله - جل جلاله - رسولا إلى الناس من جنسهم! وهي حجة راجعة إلى الرغبة في التعجيز، وإلى ما تنطوي عليه النفس المريضة من الكبرياء، لا إلى الجدل المثمر البناء الرامي إلى التحقق من صحة الرسالة وصدق حاملها. وتلك كانت نفس حجة كثير من الأمم الذين كذبوا رسلهم، كما كانت حجة قريش في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. حجة واحدة تحقق بطلانها مئات المرات عبر التاريخ! ومع ذلك لم يزل الكفار يلجؤون إليها؛ إذ لا محيص لهم عنها، فما من حجة لهم إلا وهي أَوْهَى وأوهن منها! (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ!)

وقد أجمل الحق - جل جلاله - خطاب الأنبياء الثلاثة في هذه القصة، وعرضه بأدوات التوكيد التي وردت في السياق، من مثل قولهم: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ!) بما يفيد أنهم أقاموا الحجج القوية الدامغة على أهل القرية؛ حتى لم يبق معها مجال للشك أو التردد في صدق الرسالة التي جاؤوا بها، وفي بطلان ما عليه القوم من الشرك وعبادة الأوثان. كما أن الخطاب اللاحق في السياق للرجل المؤمن، المتدخل في اللحظة الحاسمة، بما فيه من بيان قوي وتفصيل محكم، دالٌّ على مضمون خطاب الرسل الثلاثة وما أقاموه من حجج على قومهم. فلواحق السياق تبين سوابقَه. وهذا من جمال بلاغة القرآن العظيم!

وقولهم: (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ!) مفيد أنهم قد أدوه على أتم ما يكون الأداء، وأن القضية بعد ذلك إنما هي قضية هداية! وهذا أمر لا يملكونه ولا هم مكلفون به. فالهداية إنما هي بيد الله وحده. وذلك على غرار ما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ! وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ!)(سورة القَصص: 56)

وذكرت كتب التفسير أن الله - جل ثناؤه - قد ابتلى القرية بشتى ضروب البلاء، من حبس الغيث وضنك العيش والأوبئة؛ لعلهم يرجعون! لكن ذلك ما زادهم إلا طغيانا! بل اتهموا الرسل بأنهم هم سبب ما أصابهم من بلاء؛ بما سفَّهوا من عبادتهم لأصنامهم وأوثانهم! فكأنما تلك الأصنام قد غضبت فانتقمت من أهل القرية جميعا! وقد حكى القرآن مقالة الطغاة ههنا: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ!) وبهذا الجهل من اعتبار الرسل شؤما على القرية كلها، ثم تهديدهم بالرجم والتعذيب؛ قطع الطغاة كل أسباب الحوار! ومنعوا المستضعفين - ظلما وعدوانا - من سماع كلمة الحق!

لكن الرسل مكلفون بالاستمرار في أداء الرسالة، والثبات على بلاغها للناس أبداً، وعدم الرضوخ لتهديد الطغاة، مهما كلفهم ذلك من ثمن! فردوا عليهم ردا قويا حاسما! لا مجاملة فيه ولا رَهَب! (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ! أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ!) أي: إن كفركم وضلالكم من الإصرار على الشرك، وتكذيب رسل الله هو الشؤم عينه! ثم رموا الكفارَ بسؤال إنكاري شديد! مفاده: أبسبب أننا ذكَّرناكم بالله ربكم ورب العالمين، وبيَّنا لكم بطلان ما أنتم عليه من الشرك؛ حرصا على هداكم، وبلاغا من الله ربنا وربكم، أبسبب ذلكم قابلتمونا بالتهديد والوعيد؟ ألا إن هذا لهو الظلم والطغيان المبين!

فما كان من الطغاة آنئذ إلا أن أحاطوا بالرسل واقتادوهم للتعذيب والقتل!

وهنا ينتقل السياق القرآني إلى مفاجأة كبرى في إبراز مأساة هذه القصة العجيبة! وهي تَدَخُّلُ الرجل المؤمن - المسمى حبيب النجار - في اللحظة الحاسمة، تَدَخَّلَ بخطاب عجيب لخص فيه بيان الرسل الثلاثة، وأقام الحجة بطريقة أخرى، على شناعة ما أقدم عليه الطغاة من الهم بقتل رسلهم! فكان في قصته من العبر البليغة، ما نجعله مدار حديث المجلس الثالث إن شاء الله.


3- الهدى المنهاجي:

وهو ينقسم إلى الرسالات الثلاث التالية:

- الرسالة الأولى:

في أن تعاون الدعاة وتنسيقهم فيما بينهم، من أهم أسباب نجاحهم، وأقرب إلى مرضاة ربهم. فالتعاون على الخير والاجتماع عليه قوة له ونصرة. أما اختلافهم بَلْهَ تشاحنهم وتباغضهم فهو الخسران المبين! ولا يجوز اختلاف فيما الأصل فيه عدم الخلاف؛ إلا بسبب تدخل الأهواء! ولذلك كان الإخلاص أول عمل ذاتي، وجب تحقيقه لدى الداعية في نفسه قبل الانطلاق في دعوته. وما اختلف قوم مخلصون لربهم قط في أصول دعوة لا اجتهاد فيها. وإنما هي بلاغ لحقائق إيمانية معلومة من الدين بالضرورة.

- الرسالة الثانية:

في أن الحق قوي بذاته، فإذا بلَّغه الداعية الحكيم بما يليق به من بيان، كان منتصرا بمجرد الكلمة! وذلك كان هو أساس دعوة جميع الأنبياء والرسل، قال تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ!)(سورة النحل: 35) فلا يستهينن أحد بقوة الكلمة وخطورتها في الخير والشر! فأما كلمة الحق والهدى في الدعوة إلى الله فهي الغالبة بإذن الله أبداً! فما ينبغي أن تقدم عليها وسيلة من الوسائل مهما كانت براقة! بل يجب أن توظف وسائل العصر الإعلامية، والتقنيات الجديدة كلها؛ لإعلاء كلمة الحق ونشر الهدى؛ بيانا للناس وبلاغا. ولو تيسر هذا الأمر بغير موانعَ ولا مَقَامِعَ، لكانت الأمة اليوم في نهضة دينية جديدة! وإنَّ صُبْحَهَا بإذن الله لقريب!

- الرسالة الثالثة:

في أن أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان، إزاء كلمة الحق إنما هو القمع الهمجي والمنع التعسفي لحرية الكلام! ثم التنكيل بالدعاة وتقتيلهم! ولذلك وجب على الدعاة إلى الله تجنب أسباب الفتنة، والحرص على عدم استفزاز الطغاة ما أمكن؛ لأن الحق هو المستفيد الأول من أجواء الحرية والأمن العام، وهو المنتصر في النهاية على كل خطاب، وعلى كل إعلام، مهما بلغت قدرته المهنية ودهاؤه التضليلي! فالحق يعلو ولا يعلى عليه! وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحصول على هدنة من قريش في صلح الحديبية، بعَقد فيه ما فيه من شروط مجحفة بالمؤمنين ظالمة! لأن الحصول على فترة من حرية الكلام والأمان للمسلمين، كانت كفيلة بإسلام أغلب الناس بمكة! ولذلك كان بعدها الفتح المبين!


4- مسلك التخلق:

أما مسلك التخلق في هذا الابتلاء ههنا فقضيته - كل قضيته - في التحقق بحكمة البلاغ المبين! كيف يتمكن الداعية من خُلُقِ الْحِلْمِ، ومن امتلاك البيان الرباني الكريم؟! حتى إذا تكلم وجد الناسُ صدقَه الخالصَ في كل سيماه! وتدفق نور الخشية من وجهه وعلى لسانه، هُدًى يفتح أبواب القلوب على مصاريعها! فكيف السبيل إلى ذلك وكيف الطريق؟

لابد للداعية أن يديم النظر في شمائل سيد الخلق محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة والتسليم، فلا أحد أبلغ منه في الحلم! ومطالعة مواقفه - صلى الله عليه وسلم - في اللحظات الحرجة! كيف كان أقوى على ضبط نفسه عليه الصلاة والسلام، وكيف كان أعظم في الحلم على جهل الجاهلين! بما يُعجز حكماء الزمان وفلاسفة الأخلاق! انظر إليه هنالك وتعلم! فهو القائل عليه الصلاة والسلام: (إنما العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإنما الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ! ومَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ.)([2])

وأما المسلك العملي للتمكن من بيان دعوي بليغ، فإنما هو المدارسة المتواصلة للقرآن الكريم، خاصة في مساقات البيانات الربانية التي حكاها الله - جل ثناؤه - عن أنبيائه، في مواطن البلاغ المبين لأقوامهم، ففي تلك المواطن من قوة البيان الدعوي المقصود ههنا ما كان في مقام الإعجاز. وإن كثيرا من الدعاة الناجحين قديما وحديثا، إنما امتلكوا جمال تعبيرهم، وقوة حجتهم، ونصاعة بيانهم، من الإدمان على كتاب الله، تلاوةً ومدارسةً. وخُطبة حبيب النجار الآتية في المجلس الثالث نموذج لذلك البلاغ المبين. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خُلُقُهُ القرآن في خطابه وبيانه، كما كان خُلُقَهُ في كل شيء([3]).



[1] ن. تفصيل ذلك في تفسيري الطبري وابن كثير.

[2] رواه الدارقطني في الأفراد، و الخطيب في التاريخ عن أبي هريرة. كما رواه الخطيب في التاريخ عن أبي الدرداء أيضا. وقد حسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. حديث رقم : 2328.

[3]مشهور حديث عائشة - رضي الله عنها - في حقه صلى الله عليه وسلم أنه: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم.

  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:41 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 5
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الثالث

في مقام التلقي لعزيمة البلاغ المبين شهادةً واستشهاداً


1- كلمات الابتلاء:

وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ(21) وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ(23) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ(24) إِنِّيَ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزِلِينَ(28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!(30)


2- البيان العام:

ههنا يبلغ القص القرآني لهذه الواقعة أوجه! ههنا تتدفق المحبة الخالصة دماءً تروي مقام المعرفة بالله توحيداً وإخلاصاً! ههنا تخرس كلمات الشراح والمفسرين، وتنجذب القلوب واجفة إلى مقام المشاهدة! حبيب النجار رجل من أهل أنطاكية، رجل من عامة الناس، لكنه رجل ليس كأي رجل، إنه فحل من فحول الإيمان! بلغته دعوة الرسل الثلاثة، فعرف الحق وآمن، ثم لبث يتلقى أنوار الهدى. كان يسكن بعيدا في أطراف المدينة. اشتغل بعبادة الله والتعرف إليه تعالى؛ حتى تجلت عليه أنوار الحكمة الربانية؛ فتدفقت على جنانه ولسانه. عرف ربَّه فأحبه! فسلك إليه عبر العبودية الخالصة، يَحْدُوهُ الخوفُ ويَشُوقُهُ الرجاء، وتؤرقه مواجيدُ المحبة!

بلغه خبر الجريمة الكبرى؛ من عزم طغاة أنطاكية على قتل رسل الله! فانتفض فزعا! وانطلق من هنالك، من أقصى المدينة، انطلق إلى مَلَئِهِمْ يُسرع الخطى بشجاعة نادرة، متوجها كالسهم إلى حيث اقتيد الرسل للقتل! ما كان أحد يتصور أن يتدخل امرؤ للدفاع عنهم، ولإعلان كلمة الحق! كيف وها السيف الفاجر مصلت؟ كيف وها الطغاة جبابرةٌ عتاة! ولكن جذوة الإيمان في قلب حبيب أشد التهابا! وحر المحبة في قلبه أشد من حر السيف ونار التعذيب! فلا صبر على المنكر إذا نادى منادي الشهادة! وما هي إلا لحظات حتى توسط الرجل ناديهم الظالم، وكانت المفاجأة الكبرى!.. ها هو ذا يكشف عن وجهه المتوهج بالنور، ناظرا مرة إلى ملأ الطغاة، وناظرا أخرى إلى الرسل الثلاثة، ثم إخرى إلى جموع المستضعفين! فما أعظمها من مناسبة أن يتركها كلمة خالدة في أذن الزمان، تمتد أنوارها إلى يوم القيامة! وما أعظمها من مناسبة أن يلقيها ذكرى في قلوب المستضعفين، يبلغها الشاهد للغائب؛ عسى أن تستيقظ القلوب الواجفة من غفلتها، وتخرج من خوفها الوهمي! وليكن دمُه - بعد ذلك - ثمنا لظهور الحق وانتصاره، ولانتشار الهدى بين الناس، وليهنأ هو بعدها بالمصير الكريم، شهادةً يَحْيَى بها ولا يموت أبداً!

وانطلق الشهيد يلقي خطبته الرفيعة ويعلن بلاغَه المبين، ويؤدي شهادتَه الملتهبة:

(قَالَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ! اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ! وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ! إِنِّيَ إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ! إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!)

كانت الكلمات من القوة بحيث تربك الطغاة إرباكا، وتفتح بصائر المستضعفين على الحقيقة بَيِّنَةً ناصعة! فهؤلاء الطغاة الذين يهمون الآن بقتل الرسل، يسمعون نداءً شديداً وأمراً قويا باتباع الهدى الذي جاء به المرسلون! بدل البوء بجريمة قتلهم، وهم رسل الله رب العالمين! فهؤلاء هم المهتدون وهم الذين على الحق! يبلغون رسالات الله ولا يتقاضون على ذلك أجراً إلا أجر الآخرة! ويلتفت حبيب النجار إلى نفسه ليجعلها مَثَلاً – وقد كان من أول المؤمنين – ويوجه إليها سؤالا إنكاريا شديداً، القصد به أن يقرع قلوب الطغاة الكفرة، ويكسر أغلال المستضعفين: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟) وإنه لحجاج قوي مبين! كيف لا أعبد الذي خلقني أول مرة؟ وعلى غير مثال سابق! أي أنه - جل جلاله - أبدع خلقي إبداعاً! وذلك معنى الفطر. وحجة الخالقية هي أعظم حجة رحمانية على الخليقة كلها! ولذلك فقد توجه الداعية حبيب إلى الملأ مناديا: فمن منكم له مثل هذه الخاصية المعجزة؟ وأَيٌّ من هذه الأحجار الصماء البكماء يصنع مثل ذلك؟ ثم إنكم أيها الملأ جميعا لميتون! فمن لم يمت اليوم مات غدا! وإلى الله وحده المرجع والمصير الذي لا محيد عنه أبداً! فتلك حقيقة يوم الحساب الذي ينتظركم أيها الكفرة الظلمة! ثم كيف لي أن أتخذ من دون هذا الخالق العظيم آلهة زور وبهتان؟ أي جهل هذا وأي سفه؟! كيف؟ ولو قضى الله عليَّ بضر فإن أصنامكم لا تستطيع كشف شيء منه عني أبداً! لا بذاتها ولا بشفاعتها عند الله! لأنما هي أحجار صماء، غدا ستكون هي نفسها حطبا لجهنم! فالفاعل في هذا الكون إنما هو الله رب العالمين وحده! هو الخالق له، وهو المدبر له، وهو الراعي له، هو الحي القيوم، القائم على كل نفس وعلى كل مخلوق في السماوات والأرض! لا يغيب عنه شيء ولا يعجزه شيء سبحانه جل جلاله! ولو أنني اتخذت آلهة من دون رب العالمين، فمعنى ذلك إذن أنني في ضلال مبين! وأي ضلال أبين من العدول عن توحيد خالق كل شيء إلى ظلمات الشرك ومتاهاته، واتخاذ الأوثان والأصنام - الحجرية أو البشرية - أربابا من دون الله الواحد القهار!؟ ألا ذلك هو الضلال المبين حقا! كلا! كلا! بل أنا مؤمن بالله مصدِّق بما جاء به رُسُلُ الله! ثم التفت الرجل بقوة إلى الرسل الثلاثة وهو يعلن بصوت عال في الملأ كلهم: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) كلمة أَشْهَدَ الرسلَ عليها؛ توثيقا لإيمانه – وهو يرى خناجر الغدر تمتد إليه بسرعة - فأعلنها كلمة حق في العالمين!

كانت الكلمات أقوى مما تطيقه آذان الطغاة الكفرة! وكانت أشد مما يتحمله كبرياؤهم العنيد! فما استطاعوا سماع المزيد! أما حبيب فقد كفى وشفى! وبَلَّغَ على أتم ما يكون البلاغ، وألقى في الجموع ما يكون ذِكْرَى: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(سورة ق: 37) ولذلك ما أن وصل الرجل قمة بيانه وأوج استدلاله، فتبين الحق أبلج لذي عينين؛ حتى انقض عليه الطغاة طعنا فأردوه على التو قتيلا! كلا! بل شهيداً يحلق من لحظته تلك في فضاءات الرضى الرباني الكريم! وكانت البشرى عظيمة! وكان المقام رفيعا! فالله أكبر ولله الحمد!

وما أن فاضت روحه الطاهرة حتى سَمِعَ الإذن الإلهي الكريم، تبشره به الملائكة أن: "اُدْخُلِ الجنَّة!" فدخلها مباشرة! ولا رأى بعدها من كرب أو ضنك، ولا حتى ذاق عنت لحظة انتظار! بل طار على التو بين أشجار الجنان وأنهارها، يسرح حيث يشاء، حيا كريما، يرزق بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!([1])


فلله دره من رجل! كان كريما في حياته الأولى، وكان كريما في حياته الآخرة! فلم ينس قومَه وهو في الجنة، ولا ترك الشفقة عليهم، حتى ولو أنهم قتلوه ظلما وعدوانا! فبدل أن ينتقم منهم بالدعاء عليهم تَأَوَّهَ متحسرا عليهم! وتَمَنَّى: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ!) وكأن في نفسه شيئا من تتمة خطابه الذي ألقاه فيهم قبل لحظات، يريد إتمامه الآن..! الله أكبر! أي رجل هذا؟ بل أي مؤمن صِدِّيق هو؟ وأي مخلص لله على أتم ما يكون الإخلاص!؟ يا ليت! يا ليت! نداء تمن وحسرة! يا ليت قومي يعلمون بما صرتُ إليه من رحمة الله، غفرانا شاملا لما تقدم من ذنبي وما تأخر، وكرما فياضا من لدن رب غفور رحيم! آه لو علموا لتبرؤوا من شركهم ولصاروا مؤمنين! عسى أن يغفر لهم الله كما غفر لي، وعسى أن يكرمهم كما أكرمني! فنلتقي ههنا أجمعون! فيا ليتهم يعلمون!

وتنتهي قصة حبيب النجار ببيان سُنَّةٍ ربانية ثابة! هي عبرة للمؤمن وحسرة وندامة للكافر! وذلك قوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزِلِينَ. إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ! يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!)

لكنَّ الأسف الكبير أن الإنسان قلما يتعظ بسنن الله في التاريخ! ويظن أن ما مضى لم يكن ليتكرر أبدا! بينما الحياة اليومية تشهد أن سنن الله في الاجتماع البشري ثابتة لا تتبدل ولا تتحول! والإنسان الضال أعمى لا يبصر منها شيئا! فيا لخسارة البشرية! ها هي ذي تضرب في تيه الظلمات، ومنادي الرحمن على رأسها ينادي أنْ: هذا نور الله فوق رأسكِ على مد ذراع؛ فَاقْدَحِي زِنَادَ الإيمان تَسْتَنِرْ لك الطريقُ، محجةً بيضاء ليلها كنهارها! ولكنْ وَا أسفاه! أين من يمد يده!؟ فالمؤمنون هم القليل أبداً! (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ!)( سبأ: 13)

فما من رسول أرسله الله إلا كذَّبه قومُه، ولقي منهم عنتا! وما من قوم غلب كفارهم على مؤمنيهم إلا أهلكهم الله وقطع دابرهم! سنة الله التي لا تتبدل أبداً! (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا!)(الفرقان: 39)

والتتبير هو الإبادة الشاملة التي تقطع دابر القوم ونسلهم إلى الأبد! وتلك كانت عاقبة أهل القرية الذين قتلوا حبيب النجار الصديق الشهيد! فكان ذلك يوما من أيام الله! قال جل جلاله: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ. إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ!) أي: وما أنزلنا ملائكة القتال من السماء لتعذيب هؤلاء الطغاة، وما كنا منـزلين لها على الأمم التي قضينا عليها بالهلاك العام، بل نبعث عليهم عذابًا شاملا يدمرهم ويقطع دابرهم! فما كان هلاك هؤلاء إلا بصيحة واحدة، فإذا هم موتى هالكون! والخمود: انقطاعُ النفَس وانعدام الحركة!

وهذا من عجيب أمر الله وحكمته البالغة. فهو - جل جلاله - قد أنزل ملائكة القتال نصرةً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ تخويفا لكفار قريش وتثبيتا للمؤمنين! وقد عَلِم سبحانه أن بعضا ممن قاتل رسولَه في بدر من الكفار، سيسلم قريبا ويقاتل معه يوم أحد! وأن كثيرا ممن قاتله في أُحُدٍ سوف يسلم في نهاية المطاف – بعد الفتح أو قبله - وينصر الله به الدين في مواطن عديدة، في عهد النبوة وبعدها! فكانت الملائكة لذلك لا تقتل إلا من قَدَّر الله ألا يسلم أبدا! وربما لم تقتل أحدا وإنما أفزعت القوم إفزاعا؛ فيكون النصر بذلك للمؤمنين. فهي لا تنـزل إذن للإبادة الجماعية. بل إذا أراد الله أن يقطع دابر قوم فإنه - جل جلاله - إنما يرسل عليهم عذابا سريعا – وربما امتد أياما - يفنيهم عن آخرهم! كما وقع لقوم نوح، ولعاد، وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وغيرهم كثير، نعوذ بالله من عذابه وعقابه! قال جل جلاله: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا! وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ!)(العنكبوت: 40).

والصيحة نزلت بهؤلاء القوم كما نزلت بمدين قوم شعيب، وبثمود قوم صالح، ونزلت أيضا بقوم لوط مع الخسف والرجم بالحجارة! والعياذ بالله!
والصيحة صوت عظيم يقع على القوم الظَّلَمة من السماء كالصاعقة، فيزلزل الأسماع بما لا تطيقه الأعصاب؛ حتى يهلكوا عن آخرهم! قال ابن كثير رحمه الله: (قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم! لم يبق فيهم روح تتردد في جسد!)([2])

سُنَّةَ الله في الذين طغوا في الأرض وسخِروا من أمر الله العظيم! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون!) وإنه لتعبير قرآني عجيب! إنه يحكي شعور المؤمن العالم بالله وبأمره؛ إذ يرى إصرار البشرية على الضلال والتيه! ويرى المآل المأساوي الرهيب الذي ينتظرها؛ فلا يملك إلا أن يتأسف ويتحسر! كما يجوز أن يكون المعنى أنه يحكي حسرة الكفار على أنفسهم وندمهم على ما سخروا من الرسل وكذبَّوا؛ لَمَّا عاينوا عذاب الله يوم القيامة!([3]) والأول أنسب للسياق، فهو تعبير دال على الأسف على هلاك القوم وخسرانهم، تتميما لقول حبيب النجار: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) فهو أسف وحسرة محكية عن المؤمن المتدبر لحالهم، الناظر في مصيرهم! كما في قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ! إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ!)(فاطر: 8) فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأسف ويتحسر على إصرار الكفار على كفرهم؛ لِمَا جعل الله في قلبه – عليه الصلاة والسلام - من الرحمة والشفقة الشديدة. فأرشده الله تعالى إلى أن أمثال هؤلاء لا يستحقون ذلك! وكذلك قال تعالى - من قبل - في حق إبراهيم عليه السلام: (فَلَمَّاذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ! إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ!)(هود: 74-75)

تلك كانت قصة حبيب النجار ومآلاتها الجليلة، وما حكم الله به بينه وبين قومه! إنها قصة رجل أدمن الإيمان حتى تعلق قلبه بالله، ثم تدفقت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه! فكان مثلا ربانيا لِخُلَّصِ الدعاة المؤمنين، وصارت قصته قرآنا يتلى إلى يوم القيامة! وإنها لقصة تنبض بما لا ينحصر من رسالات الهدى، ما يضيء ظلمات هذا العالم كله لو أشعلت البشرية منها قنديلا واحدا!


3-الهدى المنهاجي:

وهو ينقسم إلى إحدى عشرة رسالة هي كالتالي:


- الرسالة الأولى:


في أن البلاغ المبين ليس في زخرف القول، ولا في ترصيف الجمل وتنميق العبارات، وإنما هو في إصدار الكلام الصادق الذي ينبض بالحياة، الكلام الذي ينبع من أعماق القلب، فلا تفارقه حرارة الوجدان ومواجيد المحبة والإخلاص، حتى يقع في قلوب السامعين غضا طريا! فالبلاغ المبين هو تعبير عن حرارة الإيمان ومكابدة القرآن، في زمن التيه والضلال! حرصا صادقا، وإشفاقا خالصا، على جموع التائهين، وقوافل الضالين، وقياما بحق رب العالمين!


- الرسالة الثانية:


في أن البلاغ المبين – بهذا المعنى - هبة من الله تعالى، هبة يتلقاها الداعية على قدر إخلاصه وعلى درجة إيمانه! وليس صناعة كسبية يستدعيها متى شاء! فإن كان فيها شيء من هذا فبالتبع لا بالأصالة! وقد حدث ذات يوم أن قُدِّمَ رجلٌ صالح لوعظ الناس في مجمع، لكنه لم يكن قد تعلم من بلاغة الخطاب شيئا، حتى إذا استجاب بعد إلحاح شديد عليه من بعضهم؛ نظر في الجمع لحظة، ثم بكى حتى بلغ الناسَ نشيجُه، ولم ينبس بكلمة! فبكى الجمع كله ببكائه! وكان ذلك أبلغ خطاب وأنصع بيان! وبالمقابل قد نرى آخرين يتصدرون المجالس، ويعتلون الكراسي، يرصفون الكلام ترصيفا، وينمقون التعبير تنميقا، لكنهم لا يَلقون قبولا ولا ترحيبا؛ لأن مفاتيح القلوب بيد الله وحده، لا يفتحها إلا للصادقين!


فالبلاغ المبين قبل أن يكون خطابا هو شعور! والشعور لا يُكْتَسَبُ، ولكنه يُتَلّقَّى من الله، على قدر تفاني العبد في محبته تعالى وطلب رضاه! وذلك هو أساس الطريق إلى القلوب.


- الرسالة الثالثة:


في أن المحبة الخالصة من أهم أسباب القوة والشجاعة، فعلى قدرها تكون عزيمة المرء في خوض غمار البلاء! وقديما قالوا:"من عرف ما قصد هان عليه ما وجد!" وقال آخر مناجيا ربَّه عز وجل:


لقد وَضَحَ الطريقُ إليكَ قَصْداً *** فما أحدٌ أرادكَ يَسْتَدِلُّ
فإنْ وَرَدَ الشتاءُ ففيكَ صَيْفٌ *** وإنْ وَرَدَ الْمَصِيفُ فَفِيكَ ظِلُّ!

فمن عرف ربَّه حق المعرفة، تعلق به قلبُه رَغَباً وَرَهَباً، وسعى إليه محبةً وإجلالا! فالله جل جلاله رب كريم! له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، تجمَّلَ سبحانه بخصال الكمال، وتنَـزَّهَ عن النقص والمثال! وأفاض على عباده بالنعم خَلْقاً ورزقاً ورعايةً، ثم أرسل رُسُلَهُ الكرام بالهدى والنور؛ لبيان الطريق إلى تفريد جماله وجلاله! (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ!)(الأنعام: 102)



فمن نظر إلى ذلك ببوارق الصدق، وسعى إليه عبر منازل الإخلاص؛ امتلأ قلبه محبة ويقينا، فباع نفسه لله، وصار له عبدا حقا! ثم أكرمه الله تعالى بعزيمة الصِّدِّيقِينَ!


ولقد أكرم الله عددا من الصحابة الكرام بهذا المقام العظيم، منهم الصحابي الجليل خُبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من أصحابه إلى قريش، فغدروا بهم وقتلوهم من بعد ما أعطوهم الأمان! فلما رأى خبيب أنهم قاتلوه أنشد:


وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ([4])

ومنهم أيضا: حَبيب بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه، الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسيلمة الكذاب، فغدر به وقتله! فقد روى الإمام الطبري بسنده أنَّ كعب الأحبار - رضي الله عنه - لما (ذُكِرَ له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار، الذي كان مسيلمةُ الكذابُ قَطَّعَهُ باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم! ثم يقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع! فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول: نعم! فجعل يُقَطِّعُهُ عُضْواً عُضْواً، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه! فقال كعب: - حين قيل له: اسمه حَبيب – "وكان والله صاحبُ يس اسمه حَبيب!")([5])


ما كان لهؤلاء جميعا أن يهرقوا أرواحهم بهذه الطرق الشجاعة، ولا أن يشهدوا تعذيبهم وتقتيلهم البطيء على ثبات عجيب، ولا أن يتفانوا في نثر أشلائهم شلوا شلوا على بساط استشهادهم الطاهر، لولا ما سكن قلوبَهم من وهج الإيمان التحقيقي، ونور المحبة الكاشف لهم عن جلال المقام الإلهي العظيم وجماله! فأولئك هم الأولياء صدقا، وأولئك هم السادة حقا! (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ!)(البقرة: 165)


- الرسالة الرابعة:


في أن الدعوة إلى الخير، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، تقتضي المسارعة والمبادرة. وذلك هو مقتضى الإيمان الصادق، فالمحب السائر إلى محبوبه لا يعرف التثاقل في طريقه ولا التراخي، بل يقطع المسافات سعيا! وكيف لا؟ والقلب قد التهبت مواجيده بأشواق الوصول، وتعلقت آماله بنيل الرضى والقبول..! وقد جاء حبيب النجار من أقصى المدينة يسعى! والسعي: سير سريع أقرب إلى العَدْوِ! جاء يسعى غيرةً على محبوبه، ودفاعا عن حماه حتى نال ما نال من كرم الشهادة!


ومن ثَمَّ فالداعية الصادق لا يتأخر في طريق دعوته، ولا يتوانى عن إجابة داعي الخير كلما دعا، بل يبادر إليه ويسارع، ويجعل تلبية ندائه أول همه ومسعاه. فتلك صفة الصالحين حقا التيبها نالوا مقام القبول عند الملك الكريم: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ!)(آل عمران: 114).


- الرسالة الخامسة:


في أن من تمام الحكمة أن تدخر الكلمة المناسبة للموقف المناسب زمانا ومكانا! وأن مواجهة الباطل بالقوة قد تكون جهادا واستشهادا وقد تكون فتنة وتهورا! والضابط في ذلك أمران اثنان هما:


- أولا: التحقق من إخلاص العمل لله نيةً وقصدا، فكثير من التهورات المدمرة المسماة اليوم (جهادا) إنما تكون مدخولةً بهوى خفي وعُجْبٍ شقي؛ فتنقلب فتنةً على صاحبها وعلى الناس!


- ثانيا: تحري الحكم الشرعي الصحيح في العمل! ولا يكون ذلك إلا بمراجعة أهل العلم، ممن اشتهر بتخصصه الشرعي، وورعه الديني وفضله الخُلقي، من العلماء الأتقياء الناصحين الفضلاء، فهم أهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور. ولا يُرَاعَى في ذلك صاحب الرأي الشاذ، ولا قول من لم يتمرس بفقه النصوص واستنباط أحكامها، ولو كان من حفاظ المتون! فإنما العلم فَهْمٌ عن الله ورسوله. وهذا أمر يلتبس على كثير من الناس! وهو واضح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ! وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً!)(النساء: 83).


- الرسالة السادسة:


في أن التعريف بالله من أهم عوامل نجاح الخطاب الدعوي. وإنما الغفلة تقع للناس بسبب نسيانهم ربَّهم الذي خلقهم، فبدل أن يعبدوه يعبدون أهواءهم! (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ!)(سورة الحشر: 19) فالتعريف بالله - جل جلاله - وبحقوقه على العباد، وما له عليهم من حق الإخلاص والتوحيد؛ بما خَلَقَ ورَزَقَ ورَعَى وهَدَى، هو أساس خطاب الأنبياء جميعهم. وأن له سبحانه يوما – هو اليوم الآخِر بمآلاته - لعرض ذلك كله جميعا. فمن عَرَفَ اللهَ خاف مقامَه! وذلك هو مضمون خطبة حبيب النجار.


- الرسالة السابعة:


في أن نصرة المؤمنين المستضعفين - متى ما تبين صدقهم وإخلاصهم - واجبة على المسلمين عامة، وعلى الدعاة منهم خاصة! فلربما تعرض المسلمون أو الدعاة، إلى الأذى في الله، بهذا البلد أو ذاك، فإذا تبين أنهم أهل صدق في سيرهم وعملهم، وتحققت مظلمتهم، بمعنى أنهم ليسوا أهل فتنة وأهواء؛ فقد وجبت نصرتهم! ولو كلفت ما كلفت من المشقة! هذا هو الأصل الجاري في الدين، والأمر العام المستمر فيه. اللهم إلا إذا تبين لأهل العلم أمر آخر؛ لفقهٍ خاص بنازلة معينة، فيتصرفون على غير الأصل؛ مراعاةً للمآل والمصلحة الشرعية الراجحة في تلك المسألة. لكنهم لا يخرجون عن إحدى المراتب الثلاث من مراتب النصرة: النصرة باليد أو باللسان أو بالقلب. سواء كان ذلك سرا أو علنا، على حسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية، التي يحددها العلماء الحكماء.


- الرسالة الثامنة:


في أن إعلان الإيمان والالتزام بالدين - حيث يكون الإعلان دعوةً إلى الله وتترجح حكمته - من أهم أسباب التقرب إلى الله، ولو أدى ذلك إلى ما أدى إليه من المشقة؛ لما فيه من مصلحة انتشار الهدى وانتصار الحق. وقد سنَّها حبيب النجار كلمةً باقية في عقبه إلى يوم القيامة، عندما صاح في الملأ: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) فإعلان الدين هو الأصل.


وقد شرع الإسلام بعض الشعائر على هذا الأساس مثل الأذان، وصلاة الجماعة بالمساجد، والحج، وغيرها من الشعائر الإعلانية، فالأمر المعلن أقرب إلى الحفظ والاستمرار. ولذلك كان إعلان المرء إسلامه والاعتزاز به أصلا بذاته؛ لما فيه من نصرة الدين وتكثير سواد المسلمين. خاصة في الظروف الحرجة حيث يكون الاضطهاد والظلم لاحقا بالمسلمين عامة، وبالمؤمنين المتدينين منهم خاصة! كما هو واقع بعض البلدان اليوم.


وقد كان الصحابي الجليل بلال رضي الله عنه – كما هو مشهور في السيرة – يُعَذَّبُ بالحجر الصلد في الرمضاء بمكة؛ رجاء أن يتراجع عن دينه، لكنه يعلنها أمام جلاديه بقوة: "أحَدٌ أحَدٌ!" تلك هي العزيمة. وللرخصة محالها المعروفة في مثل قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(النحل: 106). ولا خلاف في أن الأجر على قدر المشقة! اللهم إلا أن تدعو المصلحة الشرعية إلى خلافه استثناء من الأصل. فتلك مقادير يقدرها أهل العلم. وإنما العبرة ههنا بالأصول التربوية الكلية الجارية على العموم.


والمشكلة أنه ربما أخفى بعضُهم دينَه أو صلاتَه؛ خوفا من مجرد السخرية – فقط - اللاحقة بالمتدينين في بعض البيئات المغتربة والأوساط العلمانية الفاجرة! وهو قطعا خلاف الأَوْلَى. بل وجب أن يعلنها بقوله وسلوكه، كما أعلنها حبيب: (إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ!) وإلا فلو تَخَفَّى كل ذي دين بدينه لاندثر الهدى والصلاح في المجتمع! وتلك أسوء مفسدة قد تلحق بالأمة! ولذلك قال الله جل جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ!)(فصلت:30). فقوله تعالى: (قَالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي: صرحوا بتوحيده والتبرء مما سواه، كما هو في أغلب كتب التفسير. والأصل في القول الإعلان. ويشهد لذلك أحوال الصحابة الذين أوذوا في الله في المرحلة المكية وبعدها. فقد كانوا يعلنونها وسط نوادي قريش إعلانا! فهم إذن قد أعلنوا إيمانهم بالله وتوحيدهم له جل علاه وأظهروه إظهارا! وهو من مقتضيات قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنتُ بالله ثم استقم!)([6]).


- الرسالة التاسعة:


في أن على الداعية أن يتخذ الشفقة على الناس، والرحمة بهم، والحرص على نجاتهم، مسلكا لخطابه ومعاملته لهم. فقد كان أول خطاب حبيب النجار في ملأ الطغاة قوله: (يَا قَومِ!) بما في هذا النداء من الاحتضان العاطفي، واللطف والعطف والإيناس. وقد بقي ذلك هو شعوره حتى بعد قتلهم إياه كما تبين من قبل! فكان نداؤه المتأسف المتمني: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ!) وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا آذاه قومه قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ!) ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ!)([7]) وهو مقتضى قول الله تعالى في محكم كتابه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة: 128). وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران: 159).


- الرسالة العاشرة:


في أن على الداعية أن يحرص على التبرؤ من شهوات الحياة الدنيا والتقلل من متاعها، وألا يجعل لنفسه حظا دنيويا يجنيه من دعوته! فالدعوة الصادقة إنما هي الخالصة لله! لا مطمع فيها ولا مغنم، ولا غاية إلا ابتغاء وجه الله ورضاه، والاجتهاد في أداء حقه العظيم، دعوةً وبلاغاً. وقد كانت أول حجة حبيب النجار على قومه قوله: (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ!) كما أن الله - جل ثناؤه – قال لرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً!)(الفرقان: 57) فمعنى ذلك أن هذا يجب أن يكون واضحا في ذهن الداعية والمدعويين على السواء! فهي سبيل واحدة ترتقي مدارجها عبر منازل الزهد والإخلاص، سيرا إلى الله وحده دون سواه. وأن أي انحراف عنها فمعناه خسران الداعية حالا ومآلا؛ إلا أن يتغمده الله برحمته!


- الرسالة الحادية عشر:


في أن الله - جل جلاله - مطلع على عباده كلهم، يشكر لمحسنهم، ويمهل مسيئهم حتى تقوم عليه الحجة، فإذا تمادى في طغيانه أخذه أخذ عزيز مقتدر! فَمُدَبِّرُ أمرِ الهدى والضلال إنما هو الله تعالى، وأما الدعاة إليه سبحانه فإنما يقومون بوظيفة البلاغ. فلا يظنن أحد أنه هو الصانع لصلاح الناس والمانع لفسادهم! وإنما أسند الله الدعوة والبلاغ للمؤمنين ليبتلي الناسَ بعضهم ببعض. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً!)(الفرقان: 20).


وعليه؛ فمن أخلص العمل لله في الدعوة إليه تعالى، ليكن على يقين من أن الله - جل ثناؤه – يقربه وينصره! فهو تعالى رب شكور، لا يخذل عبده أبدا! فوجب على الداعية المخلص السَّعْيُ لتحصيل اليقين في معية الله تعالى له، فلا يفقد المشاهدة في أن الله إنما يسوقه للتي هي أحسن؛ ما دام قد صدق اللهَ، واجتهد وُسْعَهُ، واتخذ جميع الأسباب الشرعية في عمله. فليوقن أن كل ما يحدث له ولدعوته - بعد ذلك – من عسر أو يسر، إنما هو مراد الله، وأن الخير - كل الخير - هو في مراد الله. فلا يسيئن الظنَّ بالله أبداً!


4- مسلك التخلق:


البلاغ المبين إنما هو عزيمة! وأما مسلك الدخول في ابتلاءاته فهو راجع إلى تدشين سير تعبدي عميق، يفضي بصاحبه إلى مقام المشاهدة، الذي عنه تتولد منـزلةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وهي أعلى منـزلة إيمانية بعد النبوة. كذلك جاءت رتبتها – ذِكْراً - في قول الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)(النساء: 69)


وقد كان حبيب النجار صِدِّيقاً شهيداً. فالشهادةُ كانت مآلَه، والصدِّيقيةُ كانت حالَه ومقالَه. وكثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كذلك. وفيهم نزل قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(الأَحزاب: 23)


والصِّدِّيقِيَّةُ في ذاتها منازل ومراتب. وأبو بكر الصديق – رضي الله عنه – كان إمامَ الصِّدِّيقِينَ في هذه الأمة! وعلى الداعية أن يجعل هؤلاء الفحول نماذج يقتدي بها في دعوته؛ عسى أن ينال من صفاتهم ما يجعله على طريقهم، وإن لم يصعد إلى قممهم العالية([8]). فجبال الإيمان مدارج، كلما اجتهد العبد في مكابدتها ازداد رفعة وعلوا؛ حتى يكون من أهل العزائم بإذن الله؛ فَيُجْرِيَ الله على لسانه عزيمةَ البلاغ المبين!


وإن الطريق العملي لذلك إنما هو الصدق مع الله في القول والعمل، فلا يصدر المؤمن في شيء من ذلك إلا عن خالص الصدق، يتحراه تحريا في كل شيء. فلو صلى أو صام أو تصدق أو جاهد، لم يخط خطوة واحدة في فعله حتى يُخَلِّصَها تخليصا لله! فلا يتصرف في شيء من أمره إلا لله وبه! وذلك هو الصِّديق. فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ! فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً! وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ! فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا!)([9])



[1] عن أبن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة تحت العرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل! فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ فيفعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لم يُتْرَكُوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نرجع إلى الدنيا؛ فنُقْتَلَ في سبيلك مرة أخرى! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكُوا!) رواه مسلم.

[2]تفسير ابن كثير: 6/573.

[3] وهو الذي رجحه جمهور المفسرين. وقال القرطبي: (قال ابن عباس: " يا حسرة على العباد " أي يا ويلا على العباد! وعنه أيضا: حل هؤلاء محلَّ مَنْ يتحسر عليهم! وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد ههنا الرسل، وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: " يا حسرة على العباد!" فتحسروا على قتلهم وترك الإيمان بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان. وقال مجاهد وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل! وقيل: " يا حسرة على العباد " من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم لقتله. وقيل: إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قَتل القومُ ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحل بالقوم العذاب: يا حسرة على هؤلاء...) تفسير القرطبي: 15/23.

[4] رواه البخاري

[5] تفسير الطبري بتحقيق أحمد شاكر: 20/505. والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: 1/ 95.

[6] رواه مسلم.

[7] متفق عليه.

[8]عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ! لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ! فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ! يَعْنِي أَصْحَابَهُ. وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ! يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ! الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ! إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ! قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ! وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ! فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ! قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: "مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه"، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَالَ: إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا! فَرَضُوا بِالْأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ!") متفق عليه، واللفظ للبخاري.

[9] متفق عليه.


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رحاب, سورة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أساليب الإقناع في سورة الإسراء نور الإسلام كتب ومراجع إسلامية 0 05-06-2013 06:45 AM
تفسير سورة الفاتحة نور الإسلام خطب إسلامية 0 26-04-2013 11:57 AM
صورة أعجبتني جمال الإسلام أخبار منوعة 0 11-05-2012 09:27 PM
في رحاب المصطفي صلي الله عليه و سلم مزون الطيب هدي الإسلام 0 03-02-2012 09:51 PM
صورة من الحياة نور الإسلام هدي الإسلام 0 11-01-2012 11:21 AM


الساعة الآن 10:18 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22