صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-06-2014 ~ 11:46 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
  مشاركة رقم 6
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الباب الرابع
العصر الأوربي
الفصل الأول
أوربا المادية
طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها :
قبل أن ننظر ماذا أثّر تحول القيادة من الأمم الإسلامية إلى الأمم الأوربية في عقلية العالم وأخلاق الشعوب والأمم والمدنية والاجتماع واتجاهات الإنسانية وميولها ، وماذا جنى منه النوع الإنساني ، وهل كان ربحه أكثر من خسارته ورزئه أو بالعكس ؟ .. يجب علينا أن نعرف طبيعة الحضارة الغربية ووضعها وروحها وفلسفة حياة هذه الأمم وكيف نشأت ؟
ليست الحضارة الغربية في القرن العشرين المسيحي وليدة هذه القرون المتأخرة التي تلت القرون المظلمة في أوربا أو حديثة كما يتوهم كثير من الناس ، بل يرجع تاريخها إلى آلاف من السنين ، فهي سليلة الحضارة اليونانية الحضارة الرومية قد خلفتهما في تراثهما السياسي والعقلي والمدني ، وورثت عنهما كل ما خلفتا من ممتلكات ونظام سياسي وفلسفة اجتماعية ، وتراث عقلي وعلمي ، وانطبعت فيها ميولهما ونزعاتهما وخصائصهما. بل انحدرت إليها في الدم ، فقد كانت الحضارة اليونانية أول مظهر رائع – حفظه لنا التاريخ – للعقلية الأوربية . وأول حضارة – سجلها التاريخ – قامت على أساس الفلسفة الأوربية تجلت فيها النفسية الأوربية ، وعلى أنقاضها قام صرح الحضارة الرومية تحمل روحاً واحدة هي الروح الأوربية ، وظلت الشعوب الأوربية طيلة قرون محتفظة بخصائصها وطبيعتها ، وارثة لفلسفتها وعلومها وآدابها وأفكارها ، حتى برزت بها في القرن التاسع عشر في ثوب برّاق يوهمك – بطلاوته وزهو ألوانه – أنه جديد النسج ولكن لحمته وسداه من نسج اليونان والرومان .
إذاً يحسن بنا أن نتعرف بالحضارة اليونانية والرومية أولاً وأن نعرف طبائعهما وروحهما ، حتى نكون على بصيرة في انتقاد الحضارة الغربية والحكم عليها في القرن العشرين
خصائص الحضارة الإغريقية :
اليونان أمة موهوبة ، من أنجب أمم العالم وأذكاها وأكثرها استعداداً للعلم والأدب ، ومن أخصبها أذهاناً وعقولاً ، وقد مثلت في العالم دوراً خالداً بفلسفتها وأدبها ووفرة من نبغ فيها من العلماء والحكماء والعبقريين تزهو بآثارهم مكتبات العالم .
والذي يعنينا الآن هو أن نعرف طبيعة الحضارة التي أنشأوها ، فإذا نظرنا فيها نظرة تحليل وانتقاد وصرفنا النظر عما تشترك فيه مع الحضارات من مظاهر وظواهر وبحثنا عن طبيعتها وخصائصها وجدنا من المزايا التي تمتاز بها عن المدنيات الأخرى – خصوصاً المدنيات الشرقية – ما يلي :
(1) الإيمان بالمحسوس وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس .
(2) قلة الدين والخشوع .
(3) شدة الاعتداد بالحياة والاهتمام الزائد بمنافعها ولذائذها .
(4) النزعة الوطنية .
ويمكن أن نحصر هذه المظاهر المتشتتة في كلمة مفردة هي (( المادية )) فكانت الحضارة اليونانية شعارها (( المادية )) وهي التي ينم بها كل ما يتصل باليونان من ثقافة وعلم وفلسفة وشعر ودين ، فلم يستطيعوا أن يتصوروا صفات الله وقدرته إلا في شكل آلهة نحتوا لها تماثيل وبنوا لها معابد وهياكل ، فللرزق إله وللرحمة إله ، وللقهر إله ، ثم نسبوا إليها كل ما يختص بالجسم المادية ونسجوا حولها من أساطير وخرافات ، وصوروا المعاني المجردة وتصوروها في أجسام وأشكال ؛ فللحب إله وللجمال إله ، وليس نظام العقول العشرة والأفلاك التسعة في فلسفة أرسطاطاليس إلا رشحه من رشحات هذه المادية التي تتخلى عنها الطبيعة اليونانية .
وقد سلم العلماء الأوربيون بغلبة المادية في الحضارة اليونانية ، ونوهوا بها في كتبهم وبحوثهم العلمية ، وقد ألقى العالم الألماني الدكتور (( هاس )) ( Haas ) ثلاث محاضرات في جنيف عنوانها (( ما هي المدينة الأوربية ؟ )) وهو من العلماء الذين يرون أن المدنية الغربية لم تتأثر بالشرق ، وأنها مدينة مفردة ممتازة ، ونلخص هنا كلامه فيما نحن بصدده :
(( المدنية اليونانية هي مركز المدينة الغربية الحاضرة ، وكان المهم عند رجالها نشوء قوى الإنسان نشوءاً مناسباً وكان المثل الكامل عندهم الجسم الجميل المتناسب ، وليس هذا إلا اعتداداً بالمحسوسات اعتداداً كبيراً ، وكان أكبر عنايتهم بالرياضة البدنية والألعاب الرياضية والرقص وغيره ، وكان التثقيف الذهني الذي يحتوي على الشعر والغناء والتمثيل والفلسفة وعلوم الطبيعة لا يتجاوز حداً خاصاً حتى لا يكون ارتقاء الذهن على حساب الجسم ، وكان الدين خلواً من الروحانية المعنوية ؛ لم يكن فيه علم الدين ولا طبقة رجال الدين . أما اللون الروحي الذي في تقاليد (( أزفس )) وغيرها فإنما هو مستعار من الشرق ولا يصح أن ينسب إلى المدينة اليونانية )) .
ولاحظ كثير من العلماء الأوربيين رقة الدين في اليونان وقلة الخشوع والجد في أعمالهم وكثرة اللهو والطرب في حياتهم . يقول ليكي في كتابه (( تاريخ أخلاق أوربا )) : (( إن الحركة اليونانية كانت عقلية وذهنية محضة ، وكانت الحركة المصرية بالعكس من الأولى ، روحية باطنية . وينقل (( أبوليس )) المؤلف الرومي قوله : (( إن المصريين كانوا يعظمون آلهتهم بالتضرع والبكاء ، وكان اليونانيون يعظمون آلهتهم بالرقص والغناء )) ويعلق عليه بقوله : (( لا ريب أن التاريخ اليوناني يصدق ذلك ويؤيده ، فلا نعلم ديناً من الأديان يزاحم دين اليونان وتقاليده في كثرة الأفراح والأعياد والألعاب وفي قلبه الخشية والخشوع ، فلم يكن اليونان يعظمون الله تعالى إلى كما يعظمون شيوخهم وعظماءهم ، وكانوا يكتفون في تعظيمه وتمجيده برسوم عادية وتقاليد جارية )) .
وكان لليونان فلسفة إلهية وعقائد يستغرب معها الخشوع لله وعبادته والتضرع له والالتجاء إليه والاطراح على عتبته ، فإن من ينفي الصفات عن الله تعالى ويعطله وينفي عنه الاختيار والأفعال والخلق والأمر في هذا الكون ، ويربط هذا العالم بما يسمونه (( العقل الفعال وحركات الأفلاك )) فإنه بطبيعة هذه العقيدة لا يقصد الله في حياته العملية إلا تقليداً ، ولا يرجوه ولا يهابه ولا يحبه ولا يخر لعظمته ، ولا يستغيث به في شدته ولا يسبح بحمده ويعيش كأنه إله ولا رب ؛ فإذا سمعنا أن اليونان لم يكونوا خاشعين لله وكانت عبادتهم وأعمالهم الدينية أجساداً بغير أرواح ، وأنهم كانوا يعظمون الله كما كانوا يعظمون شيوخهم وكبارهم لم نستغربه البتة ، وإنما نتعجب إذا سمعنا عكس ذلك ، وقد أثرت شدة الاعتداد بالحياة الدنيا والمبالغة في قيمتها ، وكذلك الولوع بالتماثيل والصور والغناء والموسيقى التي يسميها اليونان الفنون الجميلة ولهج الأدباء والمؤلفين بالحرية الشخصية التي لا تعرف قيداً ولا تقف عند حد تأثيراً سيئاً في أخلاق اليونان ومجتمعها ، فانتشرت الفوضى في الأخلاق وحدثت ثورة على كل نظام ، وأصبح شعار الرجل الجمهوري ( وهو كناية عن الحر والمتنور ) الجري وراء الشهوات العاجلة ، وانتهاب المسرات ، والتهام الحياة التهام الجائع النهم . يصف سقراط – كما ينقل عنه أفلاطون في كتابه (( المملكة )) – الرجل الجمهوري فكأنما يصف ناقد من نقاد هذا القرن فتى القرن العشرين في إحدى عواصم المدينة الغربية :
(( إذا قيل له : إن بعض المسرات من الرغبات التي هي طيبة وتستحق الاحترام وبعضها من الشهوات التي هي قبيحة ، وإن الأولى ينبغي أن يعمل بمقتضاها وتحترم والأخرى مما ينبغي أن يمنع عنها ويقام عليها الحجر ، لم يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ولا يسمح بسماعه ؛ فإذا عرضت عليه هذه الحقائق أنغض إليك رأسه مستهزئاً وأكد أن جميع الشهوات سواء وتستحق الاحترام بغير فرق بينها ، وهكذا يعيش ويقضي أيامه مرضياً شهواته التي تعتريه أحياناً ، ذات يوم تراه سكران ثملا مصغياً إلى الغناء ، وفي يوم آخر تراه صائماً يجتزئ بالماء ، وتارة يدخل في التربية والتمرين ، وأخرى تراه كسلان عاطلاً يهمل كل شيء ، ومرة تراه يعيش عيش فيلسوف ، وأحياناً يدخل في السياسة وينهض ويخطب بمقتضى الوقت ، ربما يمدح بعض رجال الحرب والجندية ويميل إليهم أو يشرع في التجارة لأنه يغبط التاجر الرابح ، ليس لحياته نظام ولا ضبط ولكنه يعد هذه الحياة هنيئة ناعمة سارة ويواصلها إلى النهاية )) .
أما الوطنية فهي من لوازم الطبيعة الأوربية ، وهي أظهر وأقوى في أوربا منها في آسيا ، وقد أغرى بذلك الطبيعة الجغرافية وأوحته ، لأن المناطق الطبيعية في آسيا واسعة جداً وتشمل على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثيرة للبشر ، وهي غنية مخصبة في وسائل المعيشة ؛ فالمملكة في القارة الآسيوية تجنح بحكم الطبيعة إلى السعة والعموم ، وظهرت في أرضها وازدهرت أوسع ممالك عرفها التاريخ ، أما في أوربا فالتنازع على البقاء فيها شديد ، والكفاح للحياة دائم مستمر ، لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة ، وقد حصرت الجبال والأنهار الأجناس الأوربية ، في نطاق طبعي دائم ، وبالأخص الجزء الأوسط الغربي والجزء الجنوبي من أوربا ، لا يسمح لممالك واسعة عظيمة ، وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون منشأ لممالك ضيقة صغيرة ، لذلك كان التصور السياسي في أوربا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالاً تاماً ، وأكبر مظهر لهذا التصور أرض يونان حيث وجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغيرة مستقلة .
فلا عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونها ، وقد سلم (( ليكي )) أن الفكرة الوطنية هي الفكرة السائدة في اليونان ، وكانت الفكرة العالمية التي قد نطق بها بعض حكمائهم كسقراط وانكساغورس شاذة لم تنل أنصاراً وانتصاراً في يونان ، فكان نظام أرسطاطاليس الأخلاقي مبنياً على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني ، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان ، وأن أرسطاطاليس لم يكتف بحب وطنه والولاء له فحسب ؛ بل قال : إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم ؛ وقد راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية وتغلغلت في الأحشاء ، حتى لما قال فيلسوف إنه لا يخص مواطنيه بمواساته بل سيكون بره عاماً لجميع اليونانيين استشرفه الناس عجباً ونظروا إليه شزراً .

خصائص الحضارة الرومية :
خلف اليونان الروم وفاقوهم في القوة والتنظيم للمملكة واتساع الدولة وصفات الجندية ، ولكن لم يلحقوا بهم بعد في العلم والفلسفة والآداب والشعر والتهذيب واللباقة والمدنية التي كان للإغريق فيها فضل وتقدم على جميع الأمم المعاصرة وعلى الروم أيضاً الذين كانوا لا يزالون في دورهم العسكري ، فخضعوا لهم علمياً وتطفلوا على مائدتهم واقتبسوا من علومهم وفلسفتهم وأفكارهم .
يقول ليكي :
(( إن اليونان كانت لهم ثروة علمية ضخمة أنتجوها وزادوا فيها على مر القرون والعصور ، وكانت رومة لا تزال في طورها الجندي لا تملك أثراً من الآثار الأدبية ، بل كانت لغتها قاصرة في التعبير عن الأفكار والمعاني العالية ، فغُلب الروم بتخلفهم وقصورهم في العلم ، وانقلبوا صاغرين للمدنية اليونانية التي غُلب أهلها في السياسة ، ولم يزالوا مأخوذين بسحرهم في كل قسم من أقسام العلم ، فكان المؤرخون الأقدمون في الروم يؤلفون كتبهم باليونانية ، واستمرت اليونانية لغة التأليف والعلم بعد ما بدأ شعراء الروم ينظمون الشعر في اللاتينية )) .
ولم يكن هذا الخضوع خاصاً في عالم التأليف والأدب فحسب ، بل غلبت المدنية الإغريقية المدنية الرومية في الأخلاق والسجايا والعشرة والاجتماع وفي العواطف والنزعات ، وفي كل ناحية من نواحي الحياة العامة ، وأصبح الروم يقلدون الإغريق ويتنبلون بذلك ويتظرفون .
وهكذا انتقلت الفلسفة اليونانية والثقافة اليونانية ، بل النفسية اليونانية إلى الروم ، وجرت منهم مجرى الروح والدم ، ولم يكن الروم – بطبيعتهم الأوروبية – يختلفون عن اليونان في الخصائص الفطرية كثيراً ، بل هناك شبه عظيم بين الأمتين ، إيمان بالمحسوس وغلو في تقدير الحياة وشك في دين ، وضعف في يقين ، واضطراب في العقيدة ، واستخفاف بالنظام الديني وطقوسه ، واعتزاز بالقومية وتعصب لها ، وحب مفرط للوطن . زد إلى ذلك كله اعتداداً بالقوة واحتراماً زائداً لها يبلغ العبادة والتقديس .
يظهر من التاريخ أنه لم يكن للرومان إيمان راسخ في دينهم ، وإني أعذرهم في ذلك ، فإن النظام الديني الوثني الخرافي الذي كان سائداً في رومية يقتضي بطبيعته الشك والاضطراب وضعف الإيمان ، فكلما تقدموا في العلم وتنورت أفكارهم ، ازدادوا استخفافاً به ، وقد قضوا من أول يوم أن الآلهة لا يدخل لهم في السياسة وأمور الدنيا .
يقول ( سيسرو Cicero ) :
لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل أبياتاً معناها أن الآلهة لا دخل لها في أمور الدنيا يصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة .
ويقول الراهب ( أغستين Auguostine ) :
(( إن الروم الوثنيين كانوا يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل )) وقد فقد الدين الرومي سلطانه الروحي على معتنقيه ، وبردت العاطفة الدينية في قلوب الناس حتى تجرأ الناس على الآلهة وأهانوها في بعض الأحيان ، فإن التاريخ يحدثنا أنه لما غرق أسطول للأمبراطور أغسطس Augustus استشاط غضباً ، وحطم تمثال نيبتون Neptone إله البحر ، ولما مات جرمينيكس Germanicus رجم الناس أنصاب الآلهة (التي كانوا يذبحون عليها ) (198).
فلم يكن للدين تأثير في أخلاق الأمة وسياستها ومجتمعها ، ولم يكن يملك عليهم شعورهم وميولهم ويراقب عليهم أخلاقهم ونزعاتهم ، ولم يكن ديناً عميقاً يحكم على الروح وينبعث من أعماق القلب ، بل كان تقليداً من التقاليد ، كانت السياسة تقتضي البقاء عليه ولو بالاسم والرسم . يقول ليكي :
(( إن الدين الرومي كان أساسه على الأثرة ، ولم يكن يرمي إلا إلى رفاهة الأفراد وسلامتهم من المصائب والمتاعب ؛ والشاهد على ذلك أنه ظهر في رومية مئات من الأبطال والعظماء ، ولكن لم ينهض فيها زاهد في الدنيا عزوف عن ملذات الحياة ، ولا تسمع مثالاً في تاريخ الروم للتضحية والإيثار إلا وتجده لا تأثير فيه للدين ولكن مبنياً على الوطنية(199) )) .
والظاهرة التي يمتاز بها الروم من بين أمم الأرض المعاصرة بل بعدها ، والتي أصبحت لها ديناً تدين به وشعاراً تعرف به هي روح الاستعمار والنظر المادي البحت إلى الحياة . وذلك ما ورثته أوربا المعاصرة عن سلفها الروميين وخلفتهم فيه .
وقد أجاد وصفه العالم الألماني المسلم الأستاذ محمد أسد في كتابه النفيس الإسلام على مفترق الطرق )) ، قال :
(( إن الفكرة التي كانت تسيطر على الإمبراطورية الرومانية هي احتكار القوة لها واستغلال الأمم الأخرى لمصلحة الوطن الرومي فقط ، لم يكن رجالها والقائمون عليها يتحاشون من أي ظلم وقسوة في سبيل حصول خفض العيش لطبقة ممتازة . أما ما اشتهر من عدل الروم فلم يكن إلا للروم فقط ، إن هذه السيرة لا يمكن أن تقوم إلا على إدراك مادي محض للحياة والحضارة ، وإن كانت ماديتهم قد هذبت بذوق عقلي ولكنها بعيدة عن جميع القيم الروحية ، إن الروم لم يدينوا بالدين جدياً أبداً ، كانت آلهتهم التقليدية محاكاة شاحبة لأساطير الإغريق وخرافاتهم، وقد آمنوا بهذه الأرواح محافظة على الرابطة الاجتماعية التي كانت تربطهم وتوحدهم ، فلم يكونوا يسمحون لهذه الآلهة بالتدخل في حياتهم العملية ، كان لها أن يأذنوا أن تتكهن بالغيب – إذا سئلت عن ذلك – على لسان الكهان ولكن لم يحلوا لها أبداً أن تفترض شرائع أخلاقية على الناس(200) ))

الانحطاط الخلقي في الجمهورية الرومية :
وفي نهاية دور الجمهورية سال بالروم سيل الانحطاط الخلقي والبهيمية ، وفاض بحر الترف في العيش والبذخ فيضاناً عظيماً – غاص الروم فيه إلى القاع وسالت فيه النظم الأخلاقية التي كانت الروم معروفين بها كالغناء ، وتزعزع البناء الاجتماعي حتى كاد ينهدم ، وقد صوره ((درابر )) الأمريكي بقلمه البليغ :
(( لما بلغت الدولة الرومية في القوة الحربية والنفوذ السياسي أوجها ، ووصلت في الحضارة إلى أقصى الدرجات هبطت في فساد الأخلاق وفي الانحطاط في الدين والتهذيب إلى أسفل الدركات . بطر الرومان معيشتهم وأخلدوا إلى الأرض واستهتروا استهتاراً ، وكان مبدؤهم . أن الحياة إنما هي فرصة للتمتع ، ينتقل فيها الإنسان من نعيم إلى ترف ومن لهو إلى لذة ، ولم يكن زهدهم وصومهم في بعض الأحيان إلا ليبعث على شهوة الطعام ، ولم يكن اعتدالهم إلا ليطول به عمر اللذة ، كانت موائدهم تزهو بأواني الذهب والفضة مرصعة بالجواهر ، ويحف بهم خدام في ملابس جميلة خلابة وغادات رومية حسان وغوان عاريات كاسيات غير متعففات تدل دلالاً ، ويزيد في نعيمهم حمامات باذخة وميادين للهو واسعة ومصارع يتصارع فيها الأبطال مع الأبطال أو مع السباع ، ولا يزالون يصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعاً يتشحط في دمه ، وقد أدرك هؤلاء الفاتحون الذين دوخوا العالم أنه إن كان هنالك شيء يستحق العبادة فهو القوة ، لأنه بها يقدر الإنسان أن ينال الثروة التي يجمعها أصحابها بعرق الجبين وكد اليمين ، وإذا غلب الإنسان في ساحة القتال بقوة ساعده فحينئذ يمكن له أن يصادر الأموال والأملاك ويعين إيرادات الإقطاع ، وإن رأس الدولة الرومية هو رمز لهذه القوة القاهرة فكان نظام رومة المدني يشف عن أبهة الملك ، ولكنه كان طلاء خداعاً كالذي نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها (201))) .

تنصر الروم :
وها هنا حادثة عظيمة يجب أن يسجلها المؤرخ وينوه بها، وهي اعتلاء عرش رومة الوثنية، وكان ذلك بجلوس قسطنطين الذي اعتنق النصرانية على سرير الأباطرة سنة 305م فانتصرت فيه النصرانية على الوثنية ونالت فجأة ما لم تكن تحلم به من ملك عريض ودولة مترامية الأطراف وكلمة لا تعلوها كلمة . ولما كان قسطنطين إنما توصل إلى الملك على جسر من أشلاء النصارى وأنهار من دمائهم التي أريقت في الذب عنه والنصر له ، عرف لهم الجميل وبذل لهم وجهه، ووطأ لهم أكنافه وقلدهم مفاتيح ملكه.

خسارة النصرانية في دولتها :
ولكن انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان ،ربحوا ملكاً عظيماً وخسروا ديناً جليلاً، لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح ومسخه أهله، وكان أكثر مسخاً له وتحريفاً هو قسطنطين الكبير حامي ذمار النصرانية ورافع لوائها .
يقول ((درابر)) :
((دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين ، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام ، وكذلك كان قسطنطين فقد قضى عمره في الظلم والفجور ، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره (337 م) .
أن الجماعة النصرانية وأن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولَّت فسطنطين الملك ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها ، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ، ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء – هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى الإسلام على منافسه (الوثنية) قضاء باتاً ، ونشر عقائده خالصة بغير غش .
وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً رأى لمصلحته الشخصية والمصلحة الحزبين المتنافسين- النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما ، حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طمست ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها )).

الرهبانية العاتية :
فلم تستطع هذه النصرانية الملقحة بالوثنية المشوهة التي فقدت روحها وجمالها أن تغير من سيرة الروم المنحطة وأن تبعث فيهم حياة جديدة ، حياة دينية نقية طاهرة وأن تفتح عهداً زاهراً في تاريخ الروم ، بل إنها ابتدعت رهبانية لعلها كانت شراً على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية ، وقد جن جنون هذه الرهبانية في العالم النصراني وتخطى حدود القياس ، وإنا نلتقط أمثلة من كتاب تاريخ أخلاق أوربا وهو قليل من كثير جداً :
(( زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة ، وعظم شأنهم واستفحل أمرهم واسترعوا الأنظار وشغلوا الناس ، ولا يمكن الآن إحصاؤهم بالدقة ، ولكن مما يلقي الضوء على كثرتهم وانتشار الحركة الرهبانية ما روى المؤرخون أنه كان يجتمع أيام عيد الفصح خمسون ألفاً من الرهبان ، وفي القرن الرابع المسيحي كان راهب واحد يشرف على خمسة آلاف راهب ، وكان الراهب (( سرابين )) يرأس عشرة آلاف ، وقد بلغ عدهم في نهاية القرن الرابع عدد أهل مصر )) .

عجائب الرهبان:
ظل تعذيب الجسم مثلاً كاملاً في الدين والأخلاق إلى قرنين ، وروى المؤرخون من ذلك عجائب ، فحدثوا عن الراهب ماكاريوس ( Makarius ) أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرص جسمه العاري ذباب سام ، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد ، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس ( Eusebius ) يحمل نحو قنطارين من حديد ، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح ، وقد عبد الرهب يوحنا ( St. Jhon) ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طول هذه المدة ، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة ، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائماً ، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام . وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ، ويأكل كثير من الكلأ والحشيش ، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون عن غسل الأعضاء ، وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس ، يقول الراهب اتهينس : إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره ، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة ؛ وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمن متلهفاً : واأسفاه ! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً فإذا بنا الآن ندخل الحمامات ، وكان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهربونهم إلى الصحراء والأديار وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية والحكومة لا تملك من الأمر شيئاً ، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمهم ، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب ، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب أمبروز ( Ambrose ) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئاً وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس(202) .

تأثير الرهبانية في أخلاق الأوربيين :
كان نتيجة هذه الرهبانية أن خلال الفتوة والمروءة التي كانت تعد فضائل ، عادت فاستحالت عيوباً ورذائل ، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها ، وكان من أهم نتائجها أن تزلزلت دعائم الحياة المنزلية ، وعم الكنود والقسوة على الأقارب ، فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حناناً ورحمة ، وعيونهم من الدمع ، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد ، فيخلفون الأمهات ثكالى والأزواج أيامي والأولاد يتامى ، عالة يتكففون الناس ، ويتوجهون قاصدين الصحراء . همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة لا يبالون ماتوا أو عاشوا ، وحكى (( ليكي )) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب(203) .
وكانوا يفرون من ظل النساء ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن ، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن ولو كن أمهات وأزواجاً أو شقيقات تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية . وروى (( ليكي )) من هذه المضحكات المبكيات شيئاً كثيراً .

عجز الرهبانية عن تعديل المادية الجامحة :
ولا يتوهم أحد أن هذه الرهبانية الغالية قد عدلت من شره المادية الرومية ، وكبحت من جماحها وغلوائها في البهيمية والشهوات ، فإن هذا لم يكن ولا يكون في الغالب وتأباه الفطرة الإنسانية ويكذبه التاريخ ؛ فإن الذي يوجد الاعتدال ويخفض من المادية الجامحة ويجعل منها حياة معتدلة هو النظام الروحي الديني الخلقي الحكيم الذي يوافق الفطرة الإنسانية الصحيحة ، والذي لا يتصدى لأن يزيل الفطرة الإنسانية ، بل يوجهها توجيهاً نافعاً ، فإنها لا تزول ولكن تميل من شر إلى خير ؛ وهكذا فعل الإسلام ، وهكذا فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد صرف شجاعة العرب من المنافسات القبلية والتقاتل وأخذ الثأر والأحقاد القديمة إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله ، وصرف تبذيرهم وسماحتهم إلى الإنفاق في سبيل الله ، وشغلهم عن الجاهلية بالدين الإسلامي ، وأبدل الشيء بالشيء ، وأعطى النفس حقها من النشاط والترويح ، فإن النفوس كما قال عالم من علماء المسلمين لا تترك شيئاً إلا بشيء ، وإن النفوس قد خُلقت لتعمل لا لتترك(204) ، وإن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتكريرها لا بتبديلها وتغييرها (205).
قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ما هذان اليومان ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما ، يوم الأضحى ويوم الفطر(206) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت : وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك يوم عيد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا . وفي رواية أنه قال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد (207).
أما النصرانية الرومية فقد حاولت عبثاً تغيير الفطرة وإزالتها وجاءت بنظام لا تطيقه الفطرة الإنسانية ولا تسيغه . وحملت النفوس ما لا طاقة لها به فرغبت فيه كرد فعل ضد المادية الطاغية واحتملته كارهة ، ثم تخلصت منه وثارت عليه ولم تقدر النصرانية – بإسرافها في الرهبانية والزهد ومكابرتها للفطرة والواقع أن تصلح ما فسد من أخلاق الناس وعوائدهم ، وتمسك بضبع المدينة الساقطة إلى الهاوية وتمنعها من التردي . فكانت حركة الفجور والإباحة وحركة الغلو في الزهد والرهبانية تسيران في البلاد النصرانية جنباً إلى جنب ، بل الأصح أن الرهبانية كانت معتزلة في الصحارى والخلوات لا سلطان لها على الحياة . وحركة الخلاعة والإباحة كانت زاخرة طامة في المدن والحواضر .

بين الرهبانية العاتية ، والمادية الجامحة :
يصور (( ليكي )) ما كان عليه العالم النصراني في ذلك العصر من التأرجح بين الرهبانية والفجور فيقول :
(( إن التبذل والإسفاف قد بلغا غايتهما في أخلاق الناس واجتماعهم ، وكانت الدعارة والفجور والإخلاد إلى الترف والتساقط على الشهوات والتملق في مجالس الملوك وأندية الأغنياء والأمراء والمسابقة في زخارف اللباس والحلي والزينة في حدتها وشدتها ، كانت الدنيا في الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى ، وإن المدن التي ظهر فيها أكثر الزهاد كانت أسبق المدن في الخلاعة والفجور ، وقد اجتمع في هذا العصر الفجور والوهم اللذان هما عدوان لشرف الإنسان وكرامته ، وقد ضعف رأي الجمهور حتى أصبح الناس لا يحلفون بسوء الأحدوثة والفضيحة بين الناس ، وكأن الضمير الإنساني ربما يخاف الدين ووعيده ، ولكنه أمن واطمأن ، لاعتقاده أن الأدعية وغيرها تكفر عن جميع أعمال الإنسان ، لقد نفقت سوق المكر والخديعة والكذب حتى فاق هذا العصر في ذلك عصر القياصرة ، ولكن قل الظلم والاعتداء والقسوة والخلاعة ، مع انحطاط في حرية الفكر والحماسة القومية(208) )) .

الفساد في المراكز الدينية :
ولم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة ، فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي وساعدتها عوامل أخرى ، ثم قهرت الطبيعة وتسرب الضعف والانحراف في المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور ، لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية التي كانت ترمي إلى عقد الألفة والأخوة بين المسيحيين وأعياد الشهداء والأولياء وذكرياتهم التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً ، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات .
ويقول الراهب (( جروم )) ( Jarum) :
(( إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين ، وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً واستحوذ عليهم الجشع وحب المال وعدوا طورهم ، حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع ، وقد تباع بالمزاد العلني ، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران . ويأذنون بنقض القانون ، ويمنحون شهادات النجاة وإجازات والمحرمات والمحظورات كأوراق النقد وطوابع البريد ، ويرتشون ويرابون ، وقد بذروا المال تبذيراً حتى اضطر البابا انوسنت الثامن أن يرهن تاج البابوية . ويذكر عن البابا ليو العاشر أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة وأموال ، وأنفق نصيبه ودخله ، وأخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه ، ويروى أن مجموع دخل مملكة فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم(209) )) .

تنافس البابوية والإمبراطورية :
وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر ، فاشتدت بعنف وحمي وطيسها ، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى إن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر سنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن شفع له الرجال ، فسمح له بالمثول بين يديه . فدخل الإمبراطور صاغراً حافياً لابساً الصوف وتاب على يديه فغفر له البابا زلته . وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية ، وبقي الناس هذه المدة الطويلة يتنازعهم عاملان ديني ودنيوي وبقوا يرزحون تحت نيرين إمبراطوري وبابوي .
وكان البابوات يتمتعون في هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم لم يكن للملوك والأباطرة ، وكان يمكن لهم أن يتقدموا بأوربا تقدماً صحيحاًَ في العلم والمدنية تحت ظل الدين ، لأن نوابهم وممثليهم كانوا يتجولون في البلدان الأوربية وينزلون من أهلها في جناب مَربع وظل ظليل ، ويتفاهمون معهم بلغة واحدة ويتدخلون في أمور سياسية مهمة ، ووجدوا في كل بقعة أنصاراً لهم من ذوي الرأي والسياسة يتكلمون بلغة واحدة ويساعدونهم في مهمات الدولة .


شقاء أوربا برجال الدين :
ولكن رجال الدين من سوء حظ النصرانية ومن سوء حظ الأمم التي دانت بها أساؤوا استعمال هذا السلطان الهائل فاستغلوه لأنفسهم ونفوذهم وجاههم ، وبقيت أوربا تتسكع في دياجير الجهل والخرافة والانحطاط ، وأصيبت المدنية بحكمهم ورهبانيتهم في صميمها ، فلم يتضاعف عدد سكان القارة الأوربية في ألف سنة ، ولم يتضاعف عدد سكان إنكلترة في خمسمائة سنة . ولا شك أن من أسبابها حياة العزوبة التي كان القسوس والرهبان يزينونها للناس ويرغبون فيها ، ولم يشأ الكهان والأساقفة أن يساهم الأطباء في مرافقهم وغلاتهم فانتشرت الأوبئة والأمراض في طول القارة وعرضها ، وتعرف من رحلة أنبيس سلوئيس الذي اشتهر بعد بلقب ( Pus the Second ) التي قام بها في الجزائر البريطانية حوالي سنة 1430 م ما كانت عليه هذه الجزائر من بؤس وانحطاط في المدنية وفقر مدقع .

جناية رجال الدين على الكتب الدينية :
ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر ، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني ، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض ؛ فإن العلم الإنساني متدرج مترق ، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصرًا على كثيب مهيل من الرمل . ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين ، فإن ذلك ، كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم الذي انهزم فيه ذلك الدين المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل والخالص والزائف – هزيمة منكرة ، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده ، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا أصبحت لا دينية.
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة ، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية ، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها ، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف ، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية ( Christian Topography ) وعضوا عليها بالنواجذ وكفروا كل من لم يدن بها .

اضطهاد الكنيسة للعلم :
وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا ، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة ، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب ، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم ، فقامت قيامة الكنيسة ، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي ، وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب – كما يقول البابا – أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول ، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها ، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة ، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها ، وأحصت على الناس الأنفاس ، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول عالم نصراني : (( لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه )) ، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف ، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو ، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم ، وحكمت عليه بالقتل ، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه ، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً ، وكذلك كان .
وهكذا عواقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس .
ثورة رجال التجديد :
هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم ، ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب ، وعادوا الدين المسيحي أولاً والدين المطلق ثانياً ، واستحالت الحروب بين زعماء العلم والعقلية ، وزعماء الدين المسيحي ، - وبلفظ أصح الديانة والبوليسية – حرباً بين العلم والدين مطلقاً ، وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان ، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان ، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر ، ومن آمن بالأول كفر بالثاني ، وإذا ذكروا الدين ، ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق ، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم ، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة ، وجباه مقطبة ، وعيون ترمي بالشرر ، وصدور ضيقة حرجة ، وعقول سخيفة بليدة ، فاشمأزت قلوبهم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء وكل ما يمثلونه ، وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم .

تقصير الثائرين وعدم تثبتهم :
ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمثابرة على الدراسة والتفكير ، ومن الوداعة والهدوء ، ومن العقل والاجتهاد ما يميزون به بين الدين ورجاله المحتكرين لزعامته ، ويفرقون بين ما يرجع إلى الدين عن عهدة ومسئولية ، وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود وجهل واستبداد وسوء تمثيل ، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة ، ولكن الحفيظه وشنآن رجال الدين والاستعجال لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار في أكثر الإعصار والأمصار .
ولم يكن عندهم من صدق الطلب والنصيحة لأنفسهم وأمتهم وسعة الصدر ما يحملهم على النظر في الدين الإسلامي الذي كان يدين به أمم معاصرة لهم ، الدين الذي يخلصهم من هذه الأزمة و { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }. ولكن حمية الجاهلية والسدود التي أقامتها الحرب الصليبية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي ودعاية الكهنة ورجال الكنيسة ضد الإسلام وصاحب رسالته عليه الصلاة والسلام ، وعدم تجشم التعب والمطالعة ، وقلة الحرص على النجاة الأخروية والاهتمام بما بعد الموت ، زد إلى ذلك تفريط المسلمين في التبشير الإسلامي ، ونشر الإسلام في أوربا ، كل ذلك منعهم من الرجوع إلى الدين الإسلامي والأخذ به في ساعة كانوا يحتاجون إليه حاجة السليم إلى راق والمسموم إلى ترياق .

اتجاه الغرب إلى المادية :
وعلى كل فقد وقع المحذور وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها ، وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم ، وكان ذلك تدريجياً، وكان أولاً ببطء وعلى مهل، ولكن بقوة وعزيمة، فقام علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون في الكون نظراً مؤسساً على أنه على أنه لا خالق ولا مدبر ولا آمر ، وليس هناك قوة وراء الطبيعة والمادة تتصرف في هذا العالم وتحكم عليه وتدبر شئونه ، وصاروا يفسرون هذا العالم الطبيعي، ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي بحت ، وسموا هذا نظراً علمياً مجرداً وسموا كل بحث وفكر يعتقد بوجود إله ويؤمن به طريقاً تقليدياً لا يقوم عندهم على أساس العلم والحكمة ، واستهزأوا به واتخذوه سخرياً ، ثم انتهى بهم طريقهم الذي اختاروه وبحثهم ونظرهم إلى أنهم جحدوا كل شيء وراء الحركة والمادة ، وأبوا الإيمان بكل ما لا يأتي تحت الحس والاختبار ، ولا يدخل تحت الوزن والعد والمساحة ، فأصبح – بحكم الطبيعة وبطريق اللزوم الإيمان بالله وبما وراء الطبيعة ، من قبيل المفروضات التي لا يؤيدها العقل ولا يشهد بها العلم .
إنهم لم يجحدوا بالله إلى زمن طويل ، ولم يكاشفوا الدين العداء ، ولم يجحدوا به كلهم ، ولكن منهج التفكير الذي اختاروه ، والموقف الذي اتخذوه في البحث والنظر لم يكن ليتفق والدين الذي يقوم على الإيمان بالغيب وأساسه الوحي والنبوة ودعوته ولهجه بالحياة الأخروية ، ولا شيء من ذلك يدخل تحت الحس والاختبار ويصدقه الوزن والعد والمساحة ، فلم يزالوا يزدادون كل يوم شكاً في العقائد الدينية .
افتضاح المادية في الدور الأخير :
ولكن رجال النهضة الأوربية ظلوا قروناً يجمعون بين النظر المادي الجاحد والحياة المادية ، والطقوس الدينية المسيحية ، بالتقليد أو بتأثير المحيط الذي لا يزال في العالم النصراني ، أو بمصالح خلقية واجتماعية كانت تقتضي البقاء ولو بالاسم على نظام ديني يؤلف بين أفراد الأمة ويحفظها من الفوضى ، حتى افتضحوا في الأخير وصعب الجمع بينهما بسرعة سير الحضارة المادية ، وتخلف الدين والتقاليد وعجزها عن مسايرتها وما في الجمع بينهما من متاعب وضياع للوقت وتكلف هم في غني عنه ، فطرحوا الحشمة ورموا برقع النفاق .

جنود المادية ودعاتها :
ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوربا ينفخون صور المادية ، وينفثون بأقلامهم سمومها في عقل الجمهور وقلبه ، ويفسرون الأخلاق تفسيراً مادياً ، تارة ينشرون الفلسفة النفعية ، وطوراً فلسفة اللذة الأبيقورية .
والسياسيون أمثال ميكيافيلي الفلورنسي ( 1469 – 1527 م ) دعوا من قبل إلى فصل الدين عن السياسة ، وتقسيم الأخلاق إلى شخصية واجتماعية ، وقرروا أن الدين – إذا كان لابد منه – قضية شخصية لا ينبغي أن تتدخل في أمور السياسة والدولة ، وأن الدولة عندهم أعز وأهم من كل شيء ، وأن النصرانية إنما موضوعها الحياة الأخروية ، وأن المتدينين والصالحين لا يفيد وجودهم الدولة ، وإن كان يفيد الكنيسة ، لأنهم يتقيدون بأحكام الدين ، ولأنهم لا يستطيعون أن يحيدوا عن أحكام الدين ومبادئ الأخلاق إذا اقتضت المصلحة غير ذلك ، وأن الملوك والأمراء يجب عليهم أن يتخلقوا بأخلاق الثعالب ، ولا يحتشموا من نقض العهود والكذب والخيانة والغش والنفاق إذا كان في ذلك أدنى مصلحة للدولة إلى غير ذلك ، ونجحت هذه الدعوة وساعدتها عوامل كثيرة من الوطنية والقومية التي خلفت الديانة القديمة .
وأحدث الأدباء والمؤلفون وأصحاب البراعة والقريحة والذكاء ، خصوصاً في ثورة فرنسا وبعدها ، الثورة على الأخلاق القديمة ، والنظم الاجتماعية ، وزينوا للناس الإثم ، ونشروا دعوة الإباحة ، وإطلاق الطبائع من كل قيد ، والفرد من كل مسئولية ، ودعوا إلى التهام الحياة البهيمية ، وإرضاء الشهوات ، وانتهاب المسرات ، واستعجال الطيبات ، وغلوا وأسرفوا في تقدير قيمة هذه الحياة وجحدوا كل شيء سوى اللذة العاجلة والنفع المادة الظاهر المحسوس

نسخة صادقة من الحضارة اليونانية :
فأصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة صادقة من الحياة في يونان وروما الوثنيتين الجاهليتين ، وعادت الطبيعة الأوربية ( التي كانت النصرانية الشرقية قد قهرتها ) جذعة .
ولا غرابة في ذلك ، فالأوربيون اليوم إنما ينحدرون من أولئك اليونان والرومان ، والسلائل الأوربية الأخرى ترى ديناً خلواً من الروحانية ، كما لاحظ الدكتور (( هاس )) في ذكر الحضارة اليونانية .
وترى رقة الدين وقلة الخشوع والجد في أعماله . وكثرة اللهو والطرب في الحياة ، كما ذكر (( ليكي )) عن الديانة اليونانية ، وهو نتيجة الوضع الديني الذي وصلت إليه أوربا ، فإنه لا يتفق والخشوع لله والجد في عبادته ، ونتيجة تلك النظريات والغايات التي وصل إليها علماء الطبيعة والحكمة في أوربا وأعلنوها تلقاها الجمهور بالقبول وحلت محل الدين .
وترى كذلك تهافتاً على ملذات الحياة تهافت الظمآن على الماء والفراش على النار ، والحرص على اقتطاف جني الحياة وثمارها باليدين ، كما وصف به سقراط الرجل الجمهوري اليوناني في عصره .
وكذلك ترى شكاً في الدين واضطراباً في العقيدة واستخفافاً بالنظام الديني وطقوسه وتقاليده ، كما رأيت في روما بعد التنور .

ديانة أوربا اليوم المادية لا النصرانية :
فمما لاشك فيه أن دين أوربا اليوم الذي يملك عليها القلب والمشاعر ويحكم على الروح هو المادية لا النصرانية ، كما يعلم ذلك كل من عرف النفسية الأوربية واتصل بالأوربيين عن كثب لا عن كتب ، بل وعن كتب أيضاً – ولم ينخدع بالمظاهر الدينية التي تزيد في أبهة الدولة والتي يجد فيها الشعب ترويحاً للنفس وتنوعاً ، ولم ينخدع بزيارتهم للكنائس وحضورهم في تقاليدها .
وقد بين ذلك في وضوح وصراحة الأستاذ الألماني المهتدي محمد أسد السابق ذكره في كتابه : (( الإسلام على مفترق الطرق )) قال :
(( لا شك أنه لا يزال في الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب ديني ويبذلون جهدهم في تطبيق عقائدهم بروح حضارتهم ، ولكنهم شواذ ، إن الرجل العادي في أوربا ، ديمقراطياً كان أو فاشياً ، رأسمالياً كان أو اشتراكياً ، عاملاً باليد أو رجلاً فكرياً ، إنما يعرف ديناً واحداً ، وهو عبادة الرقي المادي والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة غير أن يجعلها الإنسان أسهل ، وبالتعبير الدارج (( حرة مطلقة )) من قيود الطبيعة ، أما كنائس هذا (( الدين )) فهي المصانع الضخمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية ودور الرقص ومراكز توليد الكهرباء ، وأما كهنتها فهم رؤساء الصيارف والمهندسون والممثلات وكواكب السينما وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون والمبرزون الذين يضربون رقماً قياسياً ، ونتيجة هذه النهامة للقوة ، والشره للذة ، النتيجة اللازمة ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلاح ، والاستعدادات الحربية ، مستعدة لإبادة بعضها بعضاً إذا تصادمت أهواؤها ومصالحها ، أما في جانب الحضارة فنتيجتها ظهور طراز للإنسان يعتقد الفضيلة في الفائدة العملية ، والمثل الكامل عنده والفارق بين الخير والشر هو النجاح المادي لا غير (210))) .
((إن الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدة وصراحة ، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله في الحقيقة ولا تعرف له فائدة ولا تشعر بحاجة إليه(211) )) .
ربما يقلل من قيمة هذه الشهادات على مركز الدين في الحياة الأوربية ومدى تأثيره كون صاحبها قد انتقل من النصرانية إلى الإسلام ومن أوربا إلى الشرق الإسلامي ، فها هنا شهادة أصرح منها وأدل على اضمحلال الدين الرسمي في أكبر مراكزه ، واستنكاف أهله من الانتساب إليه لأحد كبار المعلمين في (( لندن )) وكتاب الإنكليزية البارزين .
قال الأستاذ جود ( Joad ) رئيس قسم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن في كتابه : ( Guide to Modern Wickedness ) :
(( سألت عشرين طالباً وتلميذة كلهم في أوائل العقد الثاني من أعمارهم : كم منهم مسيحي بأي معنى من معاني الكلمة ، فلم يجب بـ(( نعم )) إلا ثلاثة فقط ، وقال سبعة منهم : إنهم لم يفكروا في هذه المسألة أبداً . أما العشرة الباقية فقد صرحوا أنهم معادون للمسيحية ، أنا أرى أن هذه النسبة بين من يؤمن بالمسيحية ويدين بها وبين من لا يؤمن في هذه البلاد ليست شاذة ولا غربية ، نعم إذا وجه هذا السؤال إلى مثل هذه الجماعة قبل خمسين سنة أو عشرين ، كانت الأجوبة مختلفة . بناء على ذلك الذين يتفقون في الرأي مع (Canon Barry ) ويزعمون أن نهضة مسيحية كبيرة يمكن أن تنقذ العالم سيكونون قليلاً جداً ، فإني لا أرى لرأيه هذا مؤيداً ومبرراً إلا أن يكون ذلك رغبته وهواه ، فإن الأهواء كثيراً ما تخلق الأفكار ، ولكنها لا تولد الشهادات والوثائق ، وإن الأحوال والآثار في هذه البلاد لتدل على أن الكنيسة النصرانية ستموت في القرن الآتي ، وإليك ما يؤيد هذا الرأي نقلاً من صحيفة يومية :
اخترع رجل في السابعة والسبعين من عمره طريقة تحول بها نسخ الكتاب المقدس العتيقة إلى حشو البنادق والحرير الصناعي واللدائن وأوراق النقد الثمينة ، وإن آلته قد نصبت في (Cardiff Factory ) وفي ثمانية مصانع أخرى وتصنع بنسخ التوراة القديمة أسلحة حربية وقد استثمر المخترع بالآلة ثروة عظيمة بعد ما عاش في ضنك من العيش .
ويختم الأستاذ مقالته هذه بجملة من التوراة – ولا أجمل منها – لمخاطبة القسوس ورجال الدين أمثال ( كينين بيري ) وغيره (( فليسمع من له أذنان(212) )) .
ويقول هذا المؤلف في كتابه الثاني (Philosophy for our Times ) .
(( لم يزل سائداً على عقلية انكلترا منذ قرون شرهُ المال والتملك ، وكانت رغبة نيل الثروة أقوى عامل في حياة البلاد وأكبر باعث على العمل ، لأن الثروة وسيلة للتملك ، وضخامته ووفرته مقياس لكفاءة الإنسان ، ولم يزل الناس يتلقون من طرق السياسة والأدب والتمثيل والسينما والإذاعة اللاسلكية ، وفي بعض الأحيان من منابر الكنائس في ظل عام وشهر – التحريضات على جمع المال واقتنائه والإقناع بأن الأمة المتمدنة هي التي ارتقت فيها عاطفة الشره والتملك .
إن هذه العبادة للمال تناقض عقائدنا الدينية ، لأن الدين يمدح الفقر ويذم الغنى ، ويقول : إن الفقير أقدر على الصلاح من الغني ، ومع أن الحكمة والنعيم الديني متفقان على أن الفقر أوفق لعبادة الله ودخول الجنة ، ولكن الناس لم يرغبوا إلى تصديق الدين في ذلك والعمل بأحكامه ، ولم يزالوا يؤثرون الثروة الحاضرة على نعيم الجنة الموعود ، لعلهم يظنون أنهم إذا تابوا في آخر عهدهم بالدنيا فإنهم يحرزون حسنى الآخرة ، كما ظفروا بحسنى الدنيا بأموالهم المودعة في المصارف .
وقد أعرب عن فكرتهم هذه ( Sammuel Butler ) في كتابه بقوله : (( إن بعض المؤلفين يقولون : إنا لا نستطيع أن نجمع بين عبادة الله وعبادة المال ، وأنا أسلم أن الأمر ليس بميسور ، ولكن متى تكون المهمات في الدنيا ميسورة سهلة ؟
فمهما اختلفنا في المبادئ فإن الحقيقة الراهنة أن كلنا راسخ في تقليد بتلر واتباعه ، فنحن مشغوفون بحب المال ، وعقيدتنا أن الثروة هي المقياس الصحيح لعظمة الفرد والحكومة ، وكانت سبباً لظهور مبدأين لهما الأهمية التاريخية الكبرى .
أحدهما : مبدأ عدم التدخل الاقتصادي الذي كان سائداً على القرن التاسع عشر ، ويدعي أصحاب هذا المبدأ أن الإنسان يبني عمله على أعظم نفع يجلبه ، وأن ليس الباعث على الأعمال الالتذاذ بالعواطف القلبية بل الالتذاذ بالثروة .
والمبدأ الثاني الذي يسود القرن العشرين : هو مبدأ التنظيم الاقتصادي المنسوب إلى ماركس ، ويقوم هذا المبدأ على أن نظام الإنسان الاقتصادي إنما يتأسس على حوائج الإنسان المالية ، وهذا النظام هو الذي يخلق الأدب والأخلاق والدين والمنطق ونظام الحكومة ، ولم يكن هذان المبدآن لينالا القبول الذي نالاه لولا شغف الناس في بلادنا بالمال والاهتمام الزائد به )) .
ويقول في مكان آخر من هذا الكتاب :
(( إن نظرية الحياة التي تسود على هذا العصر وتحكم عليه : هي النظر في كل مسألة وشأن من ناحية المعدة والجيب ( stomach and pocket view of life) .
وقد أجاد الصحفي الأمريكي المشهور (Jhon Gunther) تمثيل هذه النفسية في كتابه في (( داخل أوربا )) ( Inside Europe) بقوله :
(( إن الإنجليز إنما يعبدون بنك إنجلترا (Bank of England) ستة أيام في الأسبوع ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة )) .

مظاهر الطبيعة في أوربا :
إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بحياة أخرى ولا يعتقدون وراء اللذة والتمتع بالحياة والعلو في الأرض غاية عليا ، ولا يذكرون الله إلا نادراً ، ولا يرجون له وقاراً ، كيف يرجى منهم أن يتضرعوا إلى الله إذا مسهم الضر ، ويخبتوا إليه وينيبوا إذا دهمهم الخطر كما ذكر الله عن المشركين الذين كانوا يؤمنون بالله : { َإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } **{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ولكن هؤلاء – بإمعانهم في المادية والتمسك بالأسباب الظاهرة والتعلل بها واستغنائهم عن الله – قد وصلوا من القسوة والغفلة إلى حيث صدق عليهم قول الله : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } فلا تكاد تشعر في خطب الزعماء والوزراء في أوربا برقة قلب وانكساره وإخبات إلى الله في أدهى ساعات الحرب وأمرِّها ، ولا تشاهد شيئاً من ذلك في أخلاق الشعب وأعماله وأفراحه ، ويعد ذلك مفكرو الغرب وأدباؤه من باب التجلد وقوة القلب وإباء الضيم ، وقد افتخر أحد زعماء الإنجليز وكبار رجال السياسة في البرلمان الإنجليزي بأن رجال الشعب الإنجليزي لم يستسلموا للحوادث والنوازل ، واستشهد على ذلك بأن المشتغلين بالرقص واللهو في سنغافورة لم يتحولوا عن مكانهم ولم يؤخروا أدوار الرقص والغناء ، وطيارات اليابان تمطر المدينة شآبيب القنابل . ويحكي هندي عن سهرة شهدها قال : (( بينما نحن في الرقص إذ سمعنا الإنذار بالغارة الجوية فساد الهدوء في المكان ، ثم قال أحد أصحاب المجلس : ماذا ترون ؟ هل يستمر الرقص أم يؤخر ؟ فأجابت فتاة : بل نستمر راقصين ، وهكذا كان ، ودوَّت الحارة فضلاً عن النادي الذي كنا فيه بالأغاني(213) )) ، ويقول : ((من العادات اليومية أنه يعلن في السينما : تبدأ الغارة الجوية ولكن يستمر هذا الفصل ومن أراد أن يذهب إلى المخبأ فطريقه أسفل إلى اليسار ، ولكن الناس يستمرون جلوساً ولا أحد يبرح من مكانه ويبدأ الفصل (214))) ويقول كاتب إنجليزي تعليقاً على صورة نشرت في (Statesman) الصحيفة الإنجليزية اليومية الكبرى في الهند في 24 من يناير 1942 م : ((من الغريب أن أجمل التمثيليات إنما ظهرت أيام الحروب الكبرى في التاريخ ، كذلك الشأن في بريطانيا اليوم فالناظر يرى الملاهي والسينما والتمثيليات والصور ما لم يرى أجمل وأبدع منها قبل الحرب ، والمتفرج يجد في ملاهي لندن كل ما يسليه ويرضي ذوقه )) وفي عدد آخر من هذه الجريدة الصادر في 15 من ديسمبر 1943 م (( إن صناعة الأفلام في (( لندن )) و (( لشبونة )) و (( موسكو )) إلى تقدم وفي ازدهار )) . ولا تجد مثالاً لهذا التجلد والعكوف على اللذة واللهو في أشد ساعات الحرج وفي آخر ساعات العمر إلا في يونان وروما في العهد القديم .
وقد روى مراسل روتر كيف استقبل المستر تشرشل رئيس الوزارة البريطانية العام المقبل وودع العام الراحل وذلك في يوم عصيب من أيام الحرب يلجأ فيه الإنسان إلى الله ويفيق السكران ويخشع القاسي ، وإليك نص البرقية :
(( واشنطن ، اليوم الأول من يناير ( عام 1942 م ) البارحة لما كان العام الجديد يلتقي بالعام المنصرم وكان المستر تشرشل رئيس الوزارة مسافراً من كندا إلى الولايات المتحدة في قطار رسمي خرج رئيس الوزراء مستصحباً سير شارليس بورتل بغتة ودخل مطعم القطار والسيجار في فمه وكأس شمبانية في يده ، وتعجب ممثلو الصحف الذين كانوا سائرين معه تناول المستر تشرشل الكأس مبتسماً وقال : (( باسم عام 1941 م ذلك العام القائد إلى الاجتهاد والتعب والفتح )) في ذلك الوقت لفظ العام الراحل نفسه الأخير وتنفس العام الجديد وأعلنت الساعة بوفوده وهنأ الصحفيون ورؤساء القطار المستر تشرشل ، وأخذ رئيس الوزراء يد سير شارليس بورتل بيد ، وأخذ يد كاربورل هارنر بيده الأخرى وأخذ كل بيد الآخر وبدأوا يغنون في رقصة وانطلق المستر تشرشل إلى الباب وقال ليهنكم جميعاً ورزقنا الله الفتح ، وجعلت الجماعة تغني في حدة وتصفيق ، وخط رئيس الوزراء حرف v وانصرف إلى عربته سعيداً مسروراً )) .
قارن هذه الطبيعة المادية بالنفسية الدينية وتعاليم الدين وعمل المتدينين وسيرتهم في الحروب والأخطار ففي القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبهُ أمر فزع إلى الصلاة ، وفي سيرة ابن هشام في وقعة بدر الكبرى قال ابن إسحاق : ثم عدَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليس معه غيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد .
والمادية لأسباب حتمية طبيعية وتاريخية وعلمية قد أصبحت شعار الحضارة الغربية والحياة الغربية منذ عهد عريق في التاريخ ، ولم تزدها النشأة الجديدة والنهضة العلمية والسياسية في أوربا إلا حدة وقوة ، وقد لاحظ هذا الامتياز كثير من علماء الغرب والشرق ، فمن علماء الشرق الأستاذ الألمعي الرحالة ذو النظر الثاقب عبدالرحمن الكواكبي في مستهل هذا القرن فقد قال في كتاب (( طبائع الاستبداد )) :
(( الغربي مادي الحياة ، قويُّ النفس شديد المعاملة ، حريص على الاستئثار حريص على الانتقام ، كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق ، فالجرماني مثلاً جاف الطبع يرى أن العضو الضعيف الحياة من البشر يستحق الموت ، ويرى كل الفضيلة في القوة وكل القوة في المال ، فهو يحب العلم ولكن لأجل المال ويحب المجد ولكن لأجل المال ، واللاتيني منه مطبوع على العجب والطيش ، يرى العقل في الانطلاق ، والحياة في خلع الحياة ، والشرف في الزينة واللباس ، والعز في التغلب على الناس )) .
وهذا تصوير صادق للطبيعة الأوربية وتحليل صحيح للنفسية الغربية ، ولا نظن المرحوم الكواكبي قد تحامى الكلام على غير الجنسين الألماني واللاتيني إلا تفادياً من الوقوع في العنت ، فجعل الألماني واللاتيني مثلاً لسائر الأوربيين .

الغايات المادية للحركات الروحية العلمية :
وترى هذا الروح المادي في جميع نظم أوربا السياسية والاجتماعية والخلقية التي ابتكرتها أو جددتها شعوبها لهذا العهد ، حتى إن الحركة الروحية التي شغلت الناس كثيراً في أوربا في الزمن الأخير إنما روحها المادية ، فقد أصبحت صناعة وفناً كسائر الصناعات والفنون في أوربا ، غايتها مشاهدة عجائب إقليم الروح والاطلاع على أسرارها والتحدث إلى أرواح الموتى وترويح النفس والتلهي ، وليست من تزكية النفس وتصفية القلب والخشوع لله والعمل الصالح والاستعداد للموت والصبر على مكاره الحياة وهضم النفس في شيء ، خلافاً للحركة الروحية والتصوف في الشرق الإسلامي .
كذلك الأعمال التي يضحي فيها الناس بنفوسهم وأرواحهم في الغرب إنما ترجع في الغالب إلى غايات مادية كحسن الأحدوثة وانتشار الصيت وخلود الذكر في التاريخ والتبريز على الناس وأن يتمجد به شعبه ويفتخر ويتشرف به وطنه ويغتبط ، خلافاً للأعمال التي يبتغي بها وجه الله ، فالمسلم يخاف أن يشوب عمله شيء من الرياء والسمعة فيحبطه ويسمع قول الله تعالى : { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً{103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً{104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } ، وقوله عز وجل : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يقاتل شجاعة ويقاتل رياء : أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : (( اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله كله لوجهك خالصاً ولا تجعل لغيرك فيه شيئاً )) واجتهاد الصالحين من هذه الأمة في إخفاء عبادتهم وصدقاتهم معروف في كتب التاريخ والسير .

التصوف المادي الغربي ووحدة الوجود الاقتصادي :
وقد بلغ النظر المادي والفكر المادي في أوربا درجة الاستغراق فيه والفناء ونسيان ما سوى القيم المادية ، ولنضرب بذلك مثلاً بكارل ماركس 1818 – 1883 م مؤسس الفلسفة الشيوعية .
يرى كارل ماركس أن النظام الاقتصادي هو روح الاجتماع وأن الدين والحضارة وفلسفة الحياة والفنون الجميلة كلها عكس لهذا النظام الاقتصادي ، هو يقول : إن في كل عصر وفي كل دور من أدوار التاريخ طريقة خاصة للإنتاج الصناعي وعلى وفقها تتعين العلاقات الاجتماعية ، ولكن بغد قليل لا تبقى هذه العلاقات الاجتماعية متوافقة متناسبة مع طرق الإنتاج ويجتهد بعض الناس لتشكيل هذه العلاقة تشكيلاً جديداً ، وهذه هي التي تعرف في التاريخ بالانقلابات والثورات . والمؤرخ يجهل ماهيتها ولكن لا غرابة في ذلك ، فإن الذين يشتركون في هذه الثورات قد لا يشعرون أنفسهم بالغاية التي يقاتلون لأجلها ، ولكن يمكن لنا أن نحل هذه الألغاز ونعلم أن الارتقاء السياسي والتعديلات والتحسينات في النظم السياسية وما يطرأ عليها من التغيير والتطور ليست إلا صوراً جديدة للعلائق الاجتماعية تظهر لتجعل هذه العلائق متناسبة متوافقة بطرق الإنتاج الجديدة من جديد ، ولما كان الاختلاف بين طرق الإنتاج الصناعي والعلائق الاجتماعية التي تقوم عليها مستمراً فيكون الجهد لتطبيقها مستمراً أيضاً ، وإذا تجاوز الاختلاف واشتد ظهر في شكل ثورة ، ولكن لا ينبغي لنا – إذا لم يكن الاختلافات واضحة – أن ننفي وجودها وننكرها ، والاختلاف بين مناهج الإنتاج الصناعي والوشائج الاجتماعية يظهر في حرب الطبقات ، لأن جميع طبقات الاجتماع إنما هي أجزاء النظام الاقتصادي ، ويستنتج من ذلك كارل ماركس أن التاريخ البشري غير العهد الذي كانت الحياة البشرية في طفولتها ليس إلا قصة حرب الطبقات الاجتماعية المختلفة .
وهكذا جحد الرجل جميع نواحي البشرية غير الناحية الاقتصادية ولم يعر غيرها شيئاً من العناية ، ولم يقم للدين والأخلاق والروح والقلب وحتى العقل وزناً وقيمة ، ولم يعترف أن أحداً منها كان عاملاً من عوامل التاريخ ، وأن جميع الحروب والثورات في التاريخ لم يكن إلا ثاراً لبطن من بطن ، وجهاداً في سبيل تنظيم جديد للنظام الاقتصادي وطرق الإنتاج الصناعي ، وحتى الحروب الدينية لم تكن عنده إلا حرب الطبقات الاقتصادية استأثرت إحداها بموارد الثروة ووسائلها وطرق الإنتاج ، واجتهدت الأخرى في أن تنافسها وتتناول قسطها أو أن تنظمها من جديد فوقعت الحرب ، ويجب أن تكون كذلك في رأيه (( بدر )) و (( أُحد )) و (( الأحزاب )) و (( القادسية )) و (( اليرموك )) ، ووقائع ومعارك حفظها التاريخ .
فهذا هو – كما ترى – التصوف المادي الغربي ، وهذه هي فلسفة وحدة الوجود وحدة الاقتصاد ، ولما كان الشرقيون إنما يغلبهم الروح الديني والتأله نفى المتألهون منهم والمغلوبون وجود كل شيء سوى الله ، وهتفوا في سكرهم وغلبة الحال عليهم : لا موجود إلا الله ، ولما كان المفكرون الأوربيون إنما تغلبهم المادية نفوا وجود كل شيء سوى الناحية الاقتصادية وهتفوا : لا موجود إلا البطن والمعدة . إن صوفية الشرق كانوا يرون الإنسان ظلاً ربانياً ، أما الماديون في الغرب فلا يرونه إلا وجوداً بهيمياً حيوانياً .

نظرية دارون وتأثيرها في الأفكار والحضارة :
وساعدهم في وجهة نظرهم هذه في جميع مسائل الإنسان وزاد الطين بلة ، النظرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر عن ارتقاء الإنسان ، وكونه حيواناً مترقياً عما دونه من الحيوانات ، لم يزل يجتاز بمرحلة بعد مرحلة في رحلته النوعية التي استغرقت ألوفاً من السنين ولم يزل ينتقل من طور حيوان إلى طور آخر ، من أميبا (Amoeba) إلى قرد ومن قرد إلى إنسان حتى بلغ كماله النوعي ، وزعيم هذه النظرية وبطلها دارون الذي ظهر كتابه أصل الأنواع (Origin of species) سنة 1859 م فكان حديث النوادي والمجامع والمدارس وشغل الناس الشاغل ، وكانت هذه النظرية اتجاهاً جديداً لم يسبق في المسائل البشرية وما يتعلق بها ، تقلب تيار الفكر وتصرف نظر الإنسان في الاستعلام والاستهداء في مسائله وفي تاريخه من الإنسان إلى الحيوان ، وتجعله يعتقد أن هذا الكون سائر بغير عناية إلهية ، وبغير أن تتداخل فيه قوة غير طبيعة ، وأن لا علة في الكون سوى السنن الطبيعية ، وأن الموجودات ترتقي من مراتب الحياة الأولى إلى مراتبها العليا بعمل فطري تدريجي عار من العقل والحكمة ، وأن الإنسان وسائر أنواع الحيوان ليس من صنع صانع حكيم بل هو نتيجة نواميس طبيعية انتهى بها التنازع للبقاء وناموس بقاء الأصلح والانتخاب الطبعي الذي هو سائر في الكون إلى إنسان ناطق ذي شعور .
إن مناقضة هذه النظرية للدين والعقل في المبادئ والغايات والنتائج الفكرية والخلقية وآثارها العملية واضحة ، بل كان هذا ديناً جديداً يهدم الدين القديم من الأساس ويحل محله ، فلا غرابة إذاً اضطرب لها رجال الدين وحسبوا لها كل حساب ، وخافوا على مصير الدين في أوروبا .
يقول الأستاذ جود في كتابه :
(( يصعب علينا الآن أن ندرك تلك الدهشة والاستغراب الذي فاجأ أجددنا عندما ظهر كتاب أصل الأنواع لدارون ، وعندما جاءت النتائج أن دارون اثبت – أو يظن أنه أثبت – أن عمل ارتقاء الحياة على هذا الكوكب ( الأرض ) لم يزل مستمراً متوصلاً من ظهور الأميبا (Amoeba) وفرخ البحر (Jelly Fish) في أشكاله الأولى إلى أشكاله النهائية العليا وهي أرقى أشكال الحياة وأعلاها ، فلم يزل عمل الارتقاء من الأميبا إلى طورنا متواصلاً غير منقطع )) .
(( بالعكس من ذلك أن الذين عاشوا في عصر فكتوريا إنما أرشدوا أن الإنسان خلق مستقل ، وهو في الحقيقة نوع من ملك منحط ، أما إذا كان دارون مصيباً فالإنسان لم يكن إلا قرداً راقياً ، فعز على أهل عصر فكتوريا أن يكون الإنسان قرداً راقياً بدل أن يكون ملكاً منحطاً ، وما طابت لهم هذه النظرية واجتهدوا أن يخلصوا الإنسان من هذه السبة التي لحقتهم من هذه العقيدة في الإنسان واقترحوا لذلك اقتراحات(215) )) .

إقبال الجمهور على نظرية الارتقاء :
ولكن الجمهور والدهماء من الناس تلقوا هذه النظرية بالقبول – رغم ما فيها من ضعف ونقص من الوجهة العلمية – فهموها أو لم يفهموها – وكأن الأذهان كانت متهيئة لمثل هذه النظرية ، وكأن الناس وجدوا فيها منافساً للدين ورجاله ، وصعب على رجال الدين أن يعارضوا هذا التيار الجارف من أفكار الناس وأذواقهم والسيل العرم من المنشورات والمحاضرات ، فوضعت الكنيسة أوزارها في هذه الحرب حتى إذا مات دارون سنة 1883 م منحته الكنيسة الإنجليزية أكبر شرف تمنحه لإنسان ، وذلك بأنها أذنت بدفنه في ويست منسترايبي محل دفن الرجال الدينيين .
وكان تأثير هذه النظرية بعيداً عميقاً في الأفكار والحضارة والأدب والسياسة تراه وتلمسه في أخلاق الناس ، وفي نزعات الرجوع إلى الفطرة وإلى العهد الذي كان الإنسان يعيش فيه على الفطرة عارياً حراً ، وفي تعيين المثل الكامل للإنسان وفي جميع الأعمال والأخلاق التي لا تصدر إلا على تسليم أن الإنسان إنما هو حيوان راق ، وفي فساد الحياة المنزلية الذي يعبر عنه المستر شبرد أحد علماء الإنجليز بقوله : (( لقد ظهر في إنجلترا جيل من الناس يجهل الحياة المنزلية جهلاً باتاً ، ولا يعرف غير حياة القطعان والبهائم )) .

من جنايات المادية :
وكان من نتائج هذه المادية الجارفة ، والتربية اللادينية التي ليس فيها نصيب للأخلاق ومخافة الله عز وجل ، والإيمان بالآخرة أن أصحاب المراكز الكبيرة ، ورجال السياسة والمسئولية يرتكبون في بعض الأحيان جنايات لا يتنزل إليها أكبر الآثمين . وذلك لمصلحة سياسية وهمية لبلادهم وأمتهم أو لجاه شخصي أو ربح مالي ، فمن أغرب ما روي في تاريخ البشر من القسوة والظلم ، أن الإنجليز قد أوقعوا في بنغال (الهند) مجاعة مزورة غير طبيعية ، لأنهم منعوا استعمال القوارب التي يحصد الناس عليها مزارع الأرز – وهو غذاء بنغال – واحتكروا الحبوب في مقدار عظيم للجند ، ولم يمكنوا الناس منها حتى فسدت وضاعت ، ومات مئات الألوف من الناس جوعاً ، والحبوب وفيرة في البلاد ، والمواصلات ميسورة ، والقطر غادية رائحة ، والهند بلاد مخصبة تستطيع أن تغذي بلاداً أخرى . وذلك كله لما توقعوه من إقبال الناس على التجنيد , وليرهنوا على فشل الحكم الذاتي في إدارة البلاد .

(198) تاريخ أخلاق أوربا .
History of European morals ( The pagan empire ) .

(199) المصدر نفسه .

(200) Islam at the Cross Roads p . 38 – 39 .

(201) Conflict of Religion & Science .

(202) اقرأ تاريخ أخلاق أوربا (( ليكي ))
Lecky : History of European Morals Chapter IV .

(203) History of European Morals .part II Chapter IV, from Constantine to Charlemagne .

(204) من كلام شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية م 727هـ في كتابه ((اقتضاء الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم)) ص143 .

(205) ابن تيمية في كتابه (( النبوات )) .

(206) رواه أبو داود بإسناده عن أنس ، وأحمد ، والنسائي .

(207) حديث متفق عليه .

(208) History of European Morals II Chapter IV

(209) Conflict of Religion and Science .

(210) Islam At the Cross Roads, p . 50 . Fifth Edition .

(211) . Islam At the Cross Roads, p, 40

(212) Guide to Modern Wickedness p . 114 – 115 .

(213) الغارات الجوية لأغا محمد أشرف الدهلوي ص 71 .

(214) أيضاً ص 70 .

(215) Guide to Modern Wickedness p . 235 – 236 .

  رد مع اقتباس
قديم 02-06-2014 ~ 11:47 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
  مشاركة رقم 7
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


وقد تغافل لورد ماونت بيتن حاكم الهند العام سنة 1947 عما يدبر من الفتك بالمسلمين في دلهي وبنجاب الشرقية , فقد اتصلت به أنباء المؤامرات والخطط التي كانت تبيت ضد العنصر الإسلامي في هذه المنطقة , وأنذره الخبراء بوقوع اضطراب طائفي هائل , فنام على كل ذلك انتقاماً من أن المسلمين لم ينتخبوه حاكماً عاماً لباكستان كما فعل أهل الهند ، ولتكون هذه الاضطرابات الطائفية , والحروب الأهلية حجة على عدم أهلية أهل البلاد للاستقلال , وكونهم عيالاً على الإنجليز في الأمن والنظام ، فكان نتيجة ذلك , تلك المجزرة البشرية الهائلة التي عقمت القرون أن تلد مثلها .
ومن ذلك أن (( ريدكلف )) الذي اختاره الفريقان الهنديان حكماً في مسألة بعض مدن بنجاب هل تنضم إلى هندوستان ، أو إلى باكستان حكم حكماً جائراً ، فكان نتيجة ذلك جلاء المسلمين من فيرزوبور ، وكورداسبور ، ومتاعب عظيمة ، وخسائر كبيرة في النفوس والأموال .
أما تأييد ترومان للصهيونية ، ودولة إسرائيل في فلسطين ، ومعارضته للقضية العربية التي لا غبار عليها ، لأجل أن يكسب ود اليهود ويتمتع بنفوذهم السياسي والمالي والصحافي ، وليكسب انتخابه ، وتعاميه عن براهين الدولة العربية الساطعة ، وسكوت أمريكا على فظائع فرنسا في الجزائر ، ووقوفها بجوار هذه الدولة الجائرة في قضية الجزائر العربية الإسلامية ، وتعاونها على الإثم والعدوان ، فقضية تنبئ عن ضعف أخلاق العظماء في أوربا وأمريكا ، ودوران الحياة السياسية على الفوائد لا المبادئ .

*********************************

الفصل الثاني
الجنسية والوطنية في أوربا

انكسار الكنيسة اللاتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية :
قدمنا أن الوطنية والقومية والاعتداد الشديد بالشعب والموقع الجغرافي من خصائص الطبع الأوربي الذي سرى في العنصر الأوربي مسرى الروح ، وجرى منه مجرى الدم وأصبح طبيعة ثانية له ، ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة ، لأنها – على علاتها ، وبرغم ما طرأ عليها من التحريف والتبدل – لا يزال عليها مسحة من تعليم المسيح ، وفيها أثارة من علمه ، والدين السماوي مهما تحرف وتغير لا يعرف الفرق المصطنعة بين الإنسان والإنسان ، ولا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان ، فجمعت النصرانية الأمم الأوربية تحت لواء الدين وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدةِ ، وأخضعت الشعوب الكثيرة للكنيسة اللاتينية فغلبت العصبية القومية والنعرة الوطنية ، وشغلت الأمم عنها لمدة طويلة ، ولكن لما قام لوثر سنة 1483 – 1526 م بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية ، ورأى من مصلحة مهمته أن يستعين بالألمان جنسه ونجح في عمله نجاحاً لا يستهان بقدره ، وانهزمت الكنيسة اللاتينية في عاقبة الأمر فانفرط عقدها ، استقلت الأمم ، وأصبحت لا تربطها رابطة ، ولم تزل كل يوم تزداد استقلالاً في شؤونها وتشتتاً . حتى إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوربا قويت العصبية القومية والوطنية ، وكان الدين والقومية ككفتي ميزان كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى ، ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تحف كل يوم ، ولم تزل كفة منافسته راجحة ، وقد أشار إلى هذه الحقيقة التاريخية الفاضل الإنجليزي المعروف لورد لوثين Lord Lothian السفير البريطاني السابق في أمريكا في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة 1938 م .
(( لما قضت حركة لوثر التي تدعى حركة إصلاح الدين على وحدة أوربا الثقافية والدينية ، انقسمت هذه القارة في إمارات شعبية مختلفة ، أصبحت منازعاتها ومنافساتها خطراً خالداً على أمن العالم )) .
وكان نتيجة الانحطاط الديني ، وانخفاض مبادئ الدين والأخلاق ، رجحان كفة الوطنية والجنسية ؛ يقول (( لورد لوثين )) في نفس هذه الخطبة :
(( إن الدين الذي هو المرشد اللازم للإنسان والوسيلة الوحيدة لحصول الغاية الخلقية ، والشرف المعنوي للحياة البشرية ، كان نتيجة الانحطاط في سلطانه أن فتن العالم الغربي بمذاهب سياسية تقوم على أساس اختلاف الأجناس والطبقات وآمن - بتأثير العلوم الطبيعية- أن الرقي المادي هو الغاية العليا ، والوطر الأكبر ، ولا يزال يزيد هذا الأمر في مشاكل الحياة وأثقالها وتكاليفها ، وكان من نتائج ذلك أيضاً أنه صعب على أوربا أن توفق بين روحها وحياتها توفيقاً ينقذها من القومية ، داهية هذا العصر الكبرى(216) )) .

طوائف العصبية الجنسية في أوربا :
كان نتيجة انحلال النظام الديني وانتعاش النعرة القومية أولاً ، أن أصبحت أوربا معسكراً واحداً ضد الشرق كله ، وخطت خطّاً فاصلا بين الغرب والشرق أو بين أوربا وبين سواها من القارات والأقاليم ، والجنس الآري وبين ما عداه من أجناس البشر ، يعد أن كل ما دون هذا الخط له الفضل على كل ما وراءه من نسل وشعب وثقافة وحضارة وعلم وأدب ، وأن الأول خلق ليسود ويحكم ، والثاني ليخضع ويدين ، والأول ليبقى ويزدهر ، والثاني ليموت ويضمحل ، وهذا بعينه ما امتاز به اليونان والروم في عهدهم ، فقد كانوا لا يعدون مهذبين إلا أنفسهم فقط ، وكانوا يسمون كل شيء غريباً ، خصوصاً كل ما كان واقعاً في شرق المحيط الأطلانتيكي – بربرياً .
وكان نتيجة هذه النفسية الجنسية والعصبية ضد كل ما جاء من الخارج ويعزى إلى أجنبي ، أن صار بعض الشعوب الأوروبية ينظر إلى الدين المسيحي وإلى المسيح كطارئ ونزيل يريدون أن ينفوه من بلادهم ويتبرأوا منه ، يمثل ذلك ما قال أحد المعلمين في ألمانية وهو البروفسور أترني :
((لأي شيء يدرس أولادنا تاريخ أمة أجنبية، ولماذا يقص عليهم قصص إبراهيم وإسحق؟ ينبغي أن يكون إلهنا أيضاً ألمانياًَ )) .
ونشأت في ألمانيا طائفة تتبرأ من سيدنا المسيح عليه السلام لكونه من بني إسرائيل ، والذين لا يزالون يدينون له بالحب والتعظيم يجتهدون أن يثبتوا أنه كان من سلالة آرية ، وظهرت في ألمانية نزعة إلى إحياء الآلهة القومية القديمة التي كان يعبدها الشعب الألماني في عهده القديم .
وليست روسيا العالمية بأقل حماسة للعصبية الجنسية والوطنية من منافسها القديم ألمانيا .
فيعتقد الناس في روسيا أن أغلب الاختراعات الكبرى في العصر الحديث إنما يرجع الفضل فيها إلى الروس .
فليس (( لافوازييه )) هو واضح القانون الخاص بتركيب الأجسام ، بل هو مدين بما ينسب إليه للعالم الروسي (( ميشيل لوموتوسوف )) وليس (( لأديسون )) فضل في استخدام الكهرباء في الإضاءة فقد سبقه (( لووجين )) الروسي بست سنوات إلى غير ذلك ، ونشرت جريدة برافدا : أن العلماء الروسيين توصلوا إلى اختراع التلغراف قبل (( مورس )) وإلى تسيير القاطرة البخارية قبل (( ستفنسن )) ، إلى غير ذلك من تحديات للتاريخ ليس الباعث عليها إلا العصبية الجنسية وتقديس (( روسيا )) .

عدوى الجنسية في الأقطار الإسلامية :
ومما يدعو إلى الأسف والاضطراب ، أن هذه العدوى الجنسية قد سرت إلى بعض الأقطار الإسلامية التي كان يجب وكان من المترقب أن تكون زعيمة لدعوة الإسلام العالمية ، حاملة في عصرها لرسالة الأمن والسلام ، وأن تكون جبهة قوية ضد الجنسية والوطنية ، وذلك بانحلال الدين في هذه البلاد ، وبتأثير الآداب الأوربية والحضارة الغربية ، فترى في الترك النزعة الطورانية والدعوة إلى إحياء جاهليتها القديمة وآدابها وثقافتها ، والنظرة إلى الدين الإسلامي الذي انتشر على أيدي العرب وشريعة الإسلام وثقافته ولغته نظرة شبه نظرة ألمانيا الجديدة إلى الأديان التي جاء بها الأنبياء من غير النسل الآري والآداب السامية وثقافتها ، فاعتقد بعض المفكرين في تركيا الفتاة أن الإسلام دين طارئ غريب لا يصلح للترك ، وأن الأولى بهم أن يرجعوا إلى وثنيتهم الأولى قبل أن اعتنق آباؤهم الدين الإسلامي ، تقول الكاتبة خالدة أديب هانم عن (( ضياء كوك ألب )) من كبار مؤسسي تركيا الجديدة أدباً وتهذيباً :
(( كان ضياء كوك ألب يريد أن ينشئ تركيا جديدة تكون صلة بين الأتراك العثمانيين وبين أسلافهم الطورانيين ، فقد كان يريد أن يقوم بإصلاح مدني بواسطة المعلومات التي جمعها عن التنظيمات السياسية والمدنية في عهد الأتراك قبل الإسلام ، كان ضياء يعتقد ويؤمن بأن الإسلام الذي وضعه العرب لا يصلح لشأننا ، ولابد لنا من إصلاح ديني يوافق طبائعنا إذا لم نرجع إلى عهدنا الجاهلي (217))) .
ومما لا شك فيه أن هذه النزعة قد وجدت في الترك وكذلك في الإيرانيين في الزمن الأخير:
قال المرحوم الأمير (( شكيب أرسلان )) وهو الخبير الثقة فيما يتعلق بالترك فضلاً عن العرب لطول مكثه في تركيا وكان عضواً في مجلس الأمة :
(( وهناك فئة ثانية تدعى الفئة الطورانية تخالف الفئة الأولى ، - أي الفئة التي تقول بالقومية العثمانية الإسلامية – في كل هذه النظريات ، وأشهر دعاتها ضياء كوك ألب وأحمد أغائف ، ويوسف أقشورا اللذان قدما من روسيا ، وجلال ساهر ، ويحي كمال ، وحمدالله صبحي رئيس وجاق (( تورك بوردي )) ومحمد أمين بك الشاعر الملي ، وكثير من الأدباء والمفكرين ، وأكثر الطلبة والنشء الجديد . وهؤلاء يزعمون أن الترك هم من أقدم أمم البسيطة وأعرقها مجداً ، وأسبقها إلى الحضارة ، وأنهم هم والجنس المغولي واحد في الأصل ، ويلزم أن يعودا واحداً ، ويسمون ذلك بالجامعة الطورانية ، ولم يقتصروا منها على الترك الذين في سيبريا وتركستان الصين وفارس والقوقاس والأناضول والروملي ، بل مبدؤهم مد هذه الرابطة إلى المغول في الصين ، وإلى المجر والفنلانديين في أوربا ، وكل ما يقال إنه ينتمي إلى أصل طوراني ، وهم يقولون بخلاف ما يقول الأولون ، فهم ترك أولاً ومسلمون ثانياً ، وشعارهم عدم التدين وإهمال الجامعة الإسلامية ، إلا إذا كانت خادمة لنفوذ القومية الطورانية ، فتكون عندئذ واسطة لا غاية ، وقد غلا كثير من هذه الفئة في الطورانية حتى قالوا : نحن أتراك فكعبتنا طوران ، وهم يتغنون بمدائح جنكيز ، ويعجبون بفتوحات المغول ، ولا ينكرون شيئاً من أعمالهم ، وينظمون الأناشيد للأحداث في وصف الوقائع الجنكيزية ليطبعوهم على الإعجاب بها ويرقوا مستوى نفوسهم بزعمهم(218) )) .. وقال أيضاً :
(( وهذا ولما كان هذا العصر عصر القوميات كما لا يخفى اقتداء بالأمم الأوربية في الزمن الأخير كانت القومية الفارسية قد أخذت تشتد أكثر من ذي قبل ، وذلك نظير ما حصل عند الترك ، وصار كثير من ناشئة الفرس يبحثون عن دين فارس القديم ، وذلك نظير ناشئة الترك الذين أخذوا يبحثون عن عبادات أجدادهم وعن الذئب الأبيض الذي كانوا يعبدون ، حتى صوروه في بعض كتبهم الحديثة ، وقال لهم المرحوم ( موسى كاظم ) شيخ الإسلام – وهو الذي أخبرني بذلك - : إن العرب كانت عندهم عبادات كهذه تقشعر منها الأبدان ، ولكنهم اقتلعوها بالإسلام وافتخروا بأن الله لطف بهم وأنقذهم منها ورفعهم عن مستوى تلك السفالات . وأما أنتم فتريدون أن تتناسوا الاعتقاد بالبارئ تعالى وتتذكروا عبادة الذئب الأبيض ، فيا للأسف )) .
(( فكما حصل عند الترك حصل عند الفرس وصار ناشئتهم يبحثون عن أديانهم القديمة التي منها الكيومرتية ( أي تعظيم النور ) والتحرز من الظلمة . ومن هنا جاءتهم عبادة النار ، ومنها فرقة ( زرادشت ) الذي كان يدعو إلى وحدانية الله ، ويقول : إنه خالق النور والظلمة وإن الخير والشر إنما حصلا بامتزاجهما ، وإنهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم ، إلى غير ذلك من العقائد والأوابد والآثار التي كانت عند قدماء الفرس : كالثنوية ، والزردشتية ، والمانوية ، ومنهم من يبحث عن المزدكية التي كانت تدعو إلى الإلحاد والإباحية (219))) .



الديانة القومية الأوربية وأركانها :
والخطوة الثانية في هذا الطريق أن أصبحت الشعوب والدول في أوربا ، الصغيرة منها والكبيرة ، عوالم مستقلة لا ترى العالم خارج الخطوط التي خطتها الطبيعة من جبال وأنهار ، أو خطتها بيدها من غاية سياسية واستعمار ، ولا تعترف بوجود الإنسان في غير منطقتها فلا تحترمه ولا تعرفه ، واتخذت نفسها إلها تدين له بكل ما يدين به العباد المخلصون من عبادة وتقديس وأضاح هي دماء الآخرين ونفوسهم وأموالهم وبلادهم ، وقتال في سبيله ، وتفان في طاعته ، ومحيا وممات لأجله ، وهذا الدين القومي يشتمل على شيئين : إيجابي وسلبي ، أما الإيجابي فهو الاعتقاد بأن الشعب أو الأمة فوق كل شيء ، وأفضل من كل شيء ، وأن الله – إذا كانت الأمة تعترف به وتعتقد أو ترى أن من المصلحة أن تستعمل هذه الكلمة – لم يخلق أفضل من هذه الأمة ، ولا أنجب منها ، ولا أذكى ولا أقوى ولا أحق بالحكم والسيادة والولاية على الأمم ، والرعاية للعالم منها ، وأنها أمينة ووكيله ووصيه في الأرض ، ولم يخلق بلاداً أحب إليه من هذه البلاد ، ولا تربة أذكى من تربتها ، وهذا هو الدين القومي الذي لا يسمح لإنسان أن يعيش في بلاده حتى يؤمن به .
ولا تختلف شعوب أوربا الحاضرة ودولها في هذه الديانة القومية إلا في الصراحة والنفاق ، وأن بعضها تقول وتفعل ، وبعضها تفعل ولا تقول ، فإن بذرة القومية والوطنية إذا ألقيت في أرض فإنها لا تلبث أن تنشأ وتمد عروقها في الأرض ثم تصير شجرة ، فدوحة تظلل الأمة ، ولا يمكن لشعب أن يؤمن بالقومية ، ثم لا يعتدي ولا يتطاول أو لا يريد أن يعتدي ويتطاول ولا يمقت الآخرين ، ولا يزدريهم ، كما لا يمكن أن يسرف الإنسان في الخمر ، ثم لا يسكر ولا يهذي كما قال الشاعر :
ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء
خصوصاً إذا كان العلم والأدب والشعر والفلسفة والتاريخ وحتى العلوم الطبيعية متعاونة على إنشاء العاطفة القومية والنعرة الشعبية والخيلاء الجنسية والفخر بالآباء والتعظيم بالماضي ، ولا يكون رادع من خلق ولا وازع من دين ، وتولى القيادة رجال لا يعرفون غير القومية والمجد القومي غاية مرمى ، ومن مقومات هذه الحياة القومية التي لا تقوم بغيرها ، الكراهة والخوف ، وذلك هو الجزء السلبي في دين القومية ، فإن الحماسة القومية لا تظهر ولا تبقى حتى يكون للشعب ما يكرهه ويخافه ، فلا يزال القائدون يثيرون الكامن من عواطفه ، ويذكرون الخامد من حميته ويضربون على الوتر الحساس وهو الكراهة والخوف ، فلولاهما لانقشعت سحابة القومية وتراجع سيلها .
وقد حلل ذلك الأستاذ (( جود )) تحليلاً فلسفياً نفسياً فقال :
(( إن العواطف التي هي مشتركة والتي يمكن إثارتها بسهولة هي عواطف المقت والخوف التي تحرك جماعات كبيرة من الدهماء ، بدل الرحمة والجود والكرم والحب ، فالذين يريدون أن يحكموا على الشعب لغاية ما ، لا ينجحون حتى يلتمسوا له ما يكرهه ويوجدوا له من يخافه ، وإذا أردتُ أن أوحد الشعوب ينبغي أن أخترع لهم عدواً على كوكب آخر – على القمر مثلاً – تخافه هذه الشعوب ، فلم يعد من دواعي العجب أن الحكومات القومية في هذا العصر في معاملتها لجيرانها إنما تقاد بعواطف المقت والخوف ، فعلى تلك العواطف يعيش من يحكمونها ، وعلى تلك العواطف يقوى الاتحاد القومي(220) )) .

الحل الإسلامي لمعضلة الحرب والمناقشات الشعوبية :
إن هذا الحل الذي قدمه الأستاذ (( جود )) لمشكلة الأمم ومعضلة الحروب والمنافسات الشعوبية حل عادل وتوجيه معقول ، فلا تنصرف عداوة الشعوب والأمم بعضها لبعض حتى يكون لها عدو من غيرها تشترك في عداوته وكرهه والمخافة منه . وتتعاون في الحرب معه ، ولكن هذا لا يحتاج إلى اختراع وإبداع ، ولا يلزم أن يوجد لها عدو على كوكب آخر كالقمر والمريخ ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟ فالدين ينبه إلى أن هذا العدو للنوع الإنساني ولذرية آدم يوجد على الأرض نفسها ، وحق على كل إنسان أن يعاديه ويحترس منه ويتعاون مع بني نوعه في معاداته ومحاربته يقول القرآن : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ويقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .
وقد قسم الإسلام العالم البشري إلى قسمين فقط ، أولياء الله وأولياء الشيطان ، وأنصار الحق وأنصار الباطل ، ولم يشرع حرباً ولا جهاداً إلا ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما كانوا ومن كانوا ، فقال : { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } . وهذه الحروب التي لم يشهد التاريخ أيمن منها وأقل إراقة للدماء وذهاباً بالنفس ، ولا أعود منها على الإنسانية بالصالح العام والخير المشترك والسعادة جمعاء فلا يربو عدد المقتولين من الفريقين ( المسلم والكافر ) في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ، ودامت إلى السنة التاسعة على ألف وثمانية عشر نفساً 1018 المسلمون منهم 259 والكفار 759(221) أما المصابون في حرب 1914 – 1918 الكونية فيبلغ عددهم على الأصح واحداً وعشرين مليون نسمة(222) 000,000, 21 عدد المقتولين منهم سبعة ملايين 000 ,00, 7 وقدر المستر مكستن (Maxton) عضو البرلمان الإنجليزي أن المصابين في الحرب الثانية الكبرى 1939 .... لا يقل عددهم عن خمسين مليون 000 ,000, 50 وقد كلف قتل رجل واحد في الحرب الأولى عشرة آلاف جنيه ، أما مجموع نفقاتها فيبلغ 000,000,000,37 جنيه أما نفقات الحرب الثانية لساعة واحدة فمليون من الجنيهات 000,000,1 (223).
ثم كانت الحروب الدينية الإسلامية حاقنة للدماء عاصمة للنفوس والأموال وفاتحة عهد السعادة والغبطة في العالم ، أما حرب التنافس والحمية الجاهلية التي تدعى الحرب الكبرى فقد كانت مقدمة حروب متسلسلة ؛ وإليك ما قال المستر لويد جورج بطل الحرب الكبرى ورئيس الوزارة الإنجليزية حينئذ :
(( لو رجع سيدنا المسيح إلى العالم لما عاش إلا قليلاً ، إنه سيرى الإنسان لا يزال بعد ألفي سنة مشغوفاً بالشر والإفساد والقتل والفتك بيني نوعه ، والنهب والإغارة ، بل إن أكبر حرب في التاريخ قد استغرقت دم جسم الإنسانية وأهلكت الحرث والنسل حتى أصابت الناس مجاعة ، وماذا يرى السيد المسيح يا ترى ؟ هل يرى الناس يتصافحون كالإخوان والأصدقاء ؟ لا . بل يراهم يتهيأون لحرب أشد هولاً من الأولى وأعظم فتكاً وتعذيباً ؛ يراهم يتسابقون في اختراع الآلات الجهنمية ويبتدعون وسائل التعذيب (224))) .
وليس اشتغال هذه الشعوب بالعداوة والحروب فيما بينها ، وما هذه القومية والوطنية الخ إلا لانصراف هذه الشعوب عن عداوة عدوها الحقيقي ونسيانها له ، فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكل ، وكما قال الشاعر الجاهلي :
وأحياناً على بكر أخينا *** إذا ما لم نجد إلا أخانا
فإذا عرفت عدوها وعرفت ضرره على نفسها ، وعرفت خطره وقوته كان ذلك مشغلة لها عن كل حرب وعداوة وشح ومنافسة وأحقاد وهمية وتراث مصطنعة . وقد قالت العرب قديماً : (( عند الحفيظة تذهب الأحقاد )) وهكذا جعل محمد صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب المتعادية التي كانت سيوفهم تقطر من دمائهم كالأوس والخزرج في المدينة ، وبني عدنان وبني قحطان في الجزيرة ، والأجناس المتباينة في العالم ، أمة واحدة ومعسكراً واحداً إزاء الكفر والجاهلية ، إذ جعل لها في خارجها ما تكرهه وتعاديه ، وهو الباطل والطاغوت ووكلاؤه وأنصاره ، وشغلها بحربه وقرأ : { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } فنسيت أحقادها وتراثها ولم تتذكرها إلا لما انصرفت عن عدوها وتشاغلت عن قتاله ومعاداته فكانت حروب داخلية وفتن يعرفها الجميع .


دعاية القوميين وإضرارهم بالشعوب الصغيرة :
ولا يزال القوميون في داخل البلاد وخارجها يزينون للشعوب الصغيرة القومية ويطرون أدبها ولسانها وثقافتها وتهذيبها ، ويمجدون لها تاريخها حتى تصبح نشوانة بالعواطف القومية والخيلاء والكبرياء ، وتدل بنفسها وتظن أنها مانعتها حصونها وما أعدت للحرب ، وتنقطع عن العالم وتتحرش أحياناً بالدول الكبيرة غروراً بنفسها ، أو تهجم عليها الدول فلا تلبث إلا عشية أو ضحاها ، وتذهب ضحية لقوميتها وانحصارها في دائرة ضيقة ، ولا يغني أولئك المسئولون عنها شيئاً { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } كذلك وقع لبولندة وبلجيكا وهولاندة ويونان ودنمارك ، وهكذا وقع لإيران والعراق في الحرب الثانية .

مطامح الدول الكبيرة :
أما الدولة الكبيرة فترى من واجب قوميتها أن تبسط سيطرتها على أكبر رقعة من الأرض وترفرف أعلامها على مساحات واسعة وإن كانت قفاراً أو صحارى وتكون لها مستعمرات وممتلكات في قارات مختلفة ، وأن كان ذلك يكلفها جيوشاً وأموالاً بغير فائدة جدية تعود عليها ويصعب عليها حراستها والقيام بشئونها ، كل ذلك مما توجبه عليها شريعة القومية ، وليس لها غاية أخلاقية وتمرة أدبية غير ما تسميه (( المجد القومي والشرف القومي )) .
وقد شرح الأستاذ (( جود )) المجد القومي بقوله :
(( إن المجد القومي إنما يعني أن يكون الشعب يملك قوة يسلط بها رغبته وهواه على آخرين إذا مست الحاجة ، ويكفي لشناعة ما يسمونه ( المثل الكامل للشعب ) وهو المجد القومي إنه يناقض الصفات الخلقية والفضيلة إذا كانت بلاد لا تقول إلا صدقاً ، وتفي بوعودها وتعامل الضعفاء معاملة إنسانية فمستوى شرفها عند الأمم منحط فالشرف – كما قال المستر بلدون - : عبارة عن قوة تنال الأمة بها المجد والفخار وتستلفت إليها الأنظار وتشغل الأفكار ، ومعلوم أن هذه القوة التي تنال الأمة بها هذه الدرجة من الشرف إنما تتوقف على قنابل نارية متفجرة ومشعلة للنيرات ، وعلى وفاء الشبان وولائهم للوطن ، الذين يحبون إلقاء تلك القنابل على المدن . فالشرف الذي يمدح لأجله شعب يناقض تلك الصفات والأخلاق التي يمدح بها الفرد ، فأرى أن الشعب يجب أن يعد همجياً وغير مهذب بالمقدار الذي يملكه من الشرف ، إذا ليس من الشرف أن ينال الإنسان أو الشعب الشرف بالخديعة والمكر والظلم (225))) .
(( إن الكبر – أكثر من الطمع – هو الذي يحمل الطبقة الحاكمة في بريطانيا على اتباع خطط لا تتفق مع ما يتظاهرون به من حب الصلح والوئام ، دع رجلاً يقترح على ولاة الأمر في بريطانيا أن يهجروا قيراطاً من رمل من ممتلكاتها التي لا تغرب فيها الشمس ومن أشدها قحولة وجدباً ، تر المحافظين الأبطال في إنجلترا يقيمون العالم ويقعدونه سخطاً وحنقاً ، وترى الصحافة الإنجليزية المعتدلة تتميز غيظاً ، إذاً تعلم أن هؤلاء المحافظين ليسوا طماعين فقط بل هم مستكبرون معاندون(226) )) .

منافسة الشعوب في المستعمرات والأسواق :
وقد سبقت إلى هذا الاستعمار والامتلاك أمم وتخلفت أخرى ، ثم نهضت الأخيرة تنافسها وتطالب بأسهامها وتبحث لها عن مستعمرات وأسواق لبضائعها وشرفات تغزو عليها على المجد والفخار ، وتعد بفضلها من الإمبراطوريات الكبار ، وقامت الأولى تدفعها وتحول بينها وبين ما تشتهي ، وتزعم أنها إنما تغضب للأمم الصغيرة ونصرة المظلوم . ولكن كثيراً من الناس ، من أنفسها ومن الأجانب ، يشكون في إخلاص هذه الأمم وفي صفاء طويتها وحسن نيتها .
يقول الأستاذ (( جود )) : (( الانجليزي – جاهلاً أو متجاهلاً للمسائل التي أدت إلى قسمة ضيزى للعمران ، ضارباً صحفاً عن سخط الشعوب مثل اليابانيين – يعتقد أن الإنجليز أمة سلمية ويرمي اليابانيين بحب القتال والضراوة بالحروب . والإنجليز لا شك أمة سلمية ، ولكن مسالمتهم مسالة لص قد اعتزل حرفته القديمة ، وقد أحرز شرفاً وجاهاً بفضل غنائمه السابقة ، وهو يبغض الذين يدخلون جديداً في حرفته القديمة ، عنده فضول أموال وغنائم لا يستهلكها ، ولكنه يلقب الذي يريدون أن يساهموا في ذلك بهواة الحرب(227) )) .
وكثيراً ما تنشب الحرب بين هذه الأمم السابقة إلى السيادة والتملك وبين الأمم المتطلعة لها الطامحة إليها ، ولكن هذه الحرب لا يصح قياسها على حرب تشهر لردع الظالم والانتصار للمظلوم وإقامة القسط عملاً بقول الله عز وجل : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }( الحجرات ) ، ولكن هذه الحرب حرب شح ومنافسة ، وحرب غيرة وحسد ، ما كانت جمعية الأمم ( الفقيدة ) التي كانت هذه الحروب تشهر تحت إشرافها ، ولا خليفتها الأمم المتحدة )) إلا كما قال الأمير شكيب أرسلان : (( مثل العروض بحراً بلا ماء ، ما وجدت إلا لتلبس الاعتداء حلة قانونية ، وتسوغ الفتوحات بتغيير الأسماء ، لا يطيعها سوى ضعيف عاجز ، ولا تستطيع أن تحكم على قوي متجاوز )) أو في لفظ فقيد الإسلام الدكتور محمد إقبال : (( جمعية لصوص ونباشين تألفت لتقسيم الأكفان )) .
قال الأستاذ ( جود ) الإنجليزي :
(( إن حرباً تشهر تحت إشراف عصبة الأمم ليست للعدل بين الأمم يقوم بها شرطة العالم للأخذ على يد الظالم وعقاب المعتدي ، ليست هذه الحرب إلا كفاحاً بين الطوائف المتنافسة في القوة . الواحدة منها حريصة على المحافظة على القسط الأكبر من ثروة العالم ومواردها ، والأخرى متهالكة على تحصيلها ، إن مثل هذه الحروب لا تختلف عن حروب نشبت بين الطوائف المتنافسة في الماضي ، ولا عن حروب النمسا وبروسيا(228) ، وعن حروب السنوات السبع(229) وعن حروب نابليون ؛ وعن حرب 1914 – 1918 . لا تختلف هذه الحرب عن هذه الحروب كلها إلا في الاسم .
أما التذرع بأن هذه الحروب إنما نصبت للدفاع عن الديمقراطية وعن عصبة الأمم ، وضد الفاشية والاعتداء فلا يغير من الموقف شيئاً(230) )) .

الفرق بين حكم الجباية ، وحكم الهداية :
روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين قال لعامله مرة : ((ويحك إن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعِث هادياً ولم يُبْعَثْ جابياً )) وهذه الجملة تعرب عن روح الحكومة الدينية التي تتأسس على منهاج النبوة ، وتسير على آثار الأنبياء وخطتها وسياستها ، فتكون عنايتها واهتمامها بالدين وبإصلاح أخلاق المحكومين وبما يعود عليهم بالنفع والضرر في الآخرة أكثر من اهتمامها بالجباية والخراج وأنواع المحاصيل والإيراد ،وتنظر في جميع مسائل السياسة والمالية من الوجهة الدينية وتقدم المبادئ الدينية والخلقية على المنافع والمصالح المادية ،فتمنع الخمر وتحرم الزنا وأنواع الخلاعة والفجور والعقود المالية الفاسدة النافعة للأفراد المضرة بالمجتمع ، فتحظر الربا والقمار وإن كان ذلك يرجع على الحكومة بالخسارة المادية الفادحة ،وتشرع مشاريع إصلاحية وتراقب الأخلاق وتعنى بتهذيب النفوس ،وإن كان ذلك يكفلها أموالاً طائلة وميزانية ضخمة ،ونتيجة هذا النوع من الحكومات إذا قامت في بلاد مَّا بَّينها القران وتنبأ بها للمهاجرين الأولين : {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }
أما الحكومات التي تقوم للجباية لا للهداية ، وللانتفاع لا للنفع ، فطبيعي أن تكون عنايتها مصروفة إلى أنواع الخراج والمحاصيل والغلات ، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب الأخلاق والفضائل والنظام المنزلي ، فتبيح أنواعاً كثيرة من الخلاعة والفجور بقيود تنظمها ولا تمنعها ، فتسمح بالبغاء الرسمي ، وقد ترابي نفسها وتبيح القمار ، وكثيراً من الجنايات و الجرائم الخلقية بتغيير الأسماء وتحديد بعض الأشياء تأميناً لمصالحها ، ولا تبيح الخمر فقط بل تبيعها وتتولى تجارتها وتنظيمها وتحاكم وتعاقب من يمنعها ويجاهد ضدها ، وقد تجبر أهل بعض البلاد على اشتراء المخدرات التي تصدرها ، كما فعل بعض الحكومات الأوربية في آسيا مع أهل الصين ، فطبيعي كذلك أن تصاب هذه الشعوب المحكومة في أخلاقها وترزأ في روحها وقلبها ، بل إن أهل البلاد ينحط مستوى أخلاقهم لمجرد المخالطة بهذه الشعوب الحاكمة ومجاورتها ، ويلحقهم عدوى الأمراض الخلقية الفاشية في الأقطار الأوربية التي ولدتها الحضارة المادية هنالك ، وذلك ما أقروا به . أنفسهم وشكوا منه .
فالحكومات الأوربية تحمل معها مفاسد الحضارة الغربية وشرورها ، وكيف يرجى من هذه الحكومات أن تزدهر الفضيلة والأخلاق ويرقى مستوى أخلاق الشعب في ظلها ودولتها ، ولم يكن ذلك في بلادها وأوطانها ، وليس ذلك من رسالتها ومهمتها ، ولا مما تدين به وتعتقده (( وكل إناء بالذي فيه ينضح )) ولم تزل طريق الملوك والفاتحين غير طريق الأنبياء والهداة والمصلحين ، وإن الحقيقة التي ذكرها القرآن على لسان ملكة سبأ حقيقة راهنة لا تختلف في الأزمنة والأمكنة :
{ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } .

*****************************

الفصل الثالث
أوربا إلى الانتحار
عصر الاكتشاف والاختراع :
إذا عرفت عصور التاريخ بما يميزها عن غيرها ، وأضيفت إليه ، أمكننا أن نسمي هذا العصر عصر الاكتشاف والاختراع ، وعصر اللاسلكي والكهرباء ؛ وفضل الأوربيين وتقدمهم في هذا الباب وعبقرية رجال الاكتشاف والاختراع وإبداعهم من القضايا التي لا تقبل المكابرة .
ولكن مهما بالغ المبالغون في إطراء الصناعات والمخترعات الحديثة في أوربا ، وبرغم إعجابنا بها والثناء على مكتشفيها ومخترعيها ، ينبغي ألا ننسى أن هذه الصناعات والمخترعات ليست غايات في نفسها مقصودة بالذات ، بل هي وسائط ووسائل لغاية أخرى نحكم عليها بالخير والشر ، والنفع والضر ، بمقياس هذه الغاية وكونها خيراً أو شراً ، ونحكم عليها بالنجاح والخيبة بالقياس إلى مطابقتها للغاية التي وضعت لها ، والنظر في النتائج التي حصلت منها ، والدور الذي لعبته في حياة الناس ومجتمعهم وأخلاقهم وسياستهم .

الغاية من الصناعات والمخترعات ، وموقف الإسلام منها :
أما الغاية فعلى ما أرى هي التغلب على العقبات والصعوبات في سير الحياة التي سببها الجهل والضعف ، والانتفاع بقوى الطبيعة المودعة في هذا الكون وخيراتها وخزائنها المبثوثة فيها ، واستخدامها لمقاصد صحيحة من غير علو في الأرض ولا فساد .
كان الإنسان يسافر في الزمن القديم ماشياً ، ثم ألهم أن يسخر لذلك الحيوان ، فاتخذ العجلات واتخذ الجياد العتاق ، ثم لم يزل يتدرج في السرعة والاختراع حتى وصل من المركبة إلى القطار ، ومنه إلى السيارة ، ومنها إلى الطيارة ، وكذلك من السفينة الشراعية إلى البواخر ، فلا بأس ، بل يا حبذا إذا كان ذلك كله تابعاً لمقاصد صحيحة يسافر الإنسان بها من مكان إلى مكان لغرض صحيح جدي مثمر ، ويحمل عليها أثقاله إلى بلد لم يكن بالغه إلا بشق النفس ؛ ويوفر الوقت والقوة وينتفع بها في الخير . وقس على ذلك سائر القوى الطبيعية والمخترعات الحديثة التي ينتفع بها الإنسان انتفاعاً مشروعاً ويستخدمها لمقاصد رشيدة نافعة .
إن موقف الإسلام في ذلك بيِّن واضح ، فقد أخبر أن الإنسان خليفة الله في الأرض قد سخر الله العالم لأغراضه الصحيحة بتصرف منه وغير تصرف فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } ، وقال : { اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ{32} وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ{33} وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } ( إبراهيم ) ، وقال : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }( الإسراء ) ليلاحظ القارئ الإطلاق في قوله : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ، وقوله : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} ، وقال : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ{6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (النحل) . قد منَّ الله في هذه الآية على الإنسان بتمكينه لبلوغ غايته من غير شق النفس ، واستدل به على رأفته به ، ورحمته له ، وقال : { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ{12} لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ{13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ( الزخرف ) . وما أجدر الإنسان أن يقول إذا استوى على سيارة أو طيارة : { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } ، فهو أبعد من أن يكون مقرناً لقطع من صفيح وحديد لا حياة فيها ولا حركة ، يسخرها له تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، ولا ينس أنه راجع إلى الله ومحاسب على ما أوتي من قوة وسعة ، فإن أساء استعمال هذه القدرة والتمكين عوقب على ذلك . وكذلك لا ينس أنه عبد خاضع لله منقاد لحكمه لا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا يطغ ، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .
وقال : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }( الحديد ) . فالحديد فيه منافع للناس ومن أكبر منافعه أنه يستخدم لنصر الله ورسله ، ولذلك قدم عليه ذكر إرسال الرسل ، وإنزال الكتب .
فالمسلم ينتفع بكل ما خلق الله وأودع في الكون من قوة في سبيل الجهاد في سبيل الله ، وفي نشر دينه ، وإظهاره على الدين كله وإعلاء كلمته ، وفيما أباح الله له ورغبة فيه من تجارة مشروعة وكسب حلال ، وسفر بر ، ومنافع مباحة .

إنما طائركم معكم :
إن المصنوعات الجمادية لا ذنب عليها ، فإنها خاضعة لإرادة الإنسان وعقليته وأخلاقه ، فهي في ذات نفسها ليست خيراً ولا شراً ، ولكن الإنسان هو الذي يجعلها باستعماله لها خيراً أو شراً ، وكثيراً ما تكون خيراً في نفسها ، فيحولها الإنسان شراً بسوء استعماله وخبث سريرته ، وفساد تربيته ، فليس الشأن في هذه الآلات والمخترعات ، إنما الشأن فيمن يستغلها وفي الغرض الذي يستعملها له . وحقيق أن يقال – لمن أصبح يتطير في أوربا من هذه الآلات ، ومن الطيارات التي تقذف القنابل ، وتدمر المنازل ، وتنسف القرى والمدن ، والغواصات التي تغرق بواخر الركاب المسالمين والتجار الآمنين ، واللاسلكية التي تذيع الكذب والزور ، وتنشر الخلاعة والمجون ويشكو منها ، ويوجه إليها الملام - : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } فإن العلوم الطبيعية تسخر للإنسان القوة المادية ، وليس من شأنها أن تعلمه أيضاً كيف يستعملها ، وفيم يضعها ، كالكبريت يعطيك ناراً ؛ ولك أن تحرق بها بيتاً على سكانه ، أو تطبخ طعاماً أو تستدفئ بالنار ، والذي يعلم كيف يستعمل الإنسان القوة وفيما يضعها هو الدين ، فالدين يرشد الإنسان كيف ينتفع بقوته انتفاعاً حقيقياً ، وكيف يشكر نعمة الله ، ويحظر على الإنسان أن يكون بقوته التي خوله الله إياها معيناً على الظلم والجريمة والإثم والعدوان ، كما قال موسى عليه السلام : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }(القصص) : وقال سليمان : { هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } .

التخليط بين الوسائط والغايات :
أما الأوربيون فقد حرموا أنفسهم الدين ، فلم يبق لهم رادع من خلق أو وازع من دين ، أو مرشد من علم إلهي يرشدهم إلى الجادة ، ونسوا غاية خلقهم ومبدأهم ومصيرهم وقالوا : {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة أن ليس للإنسان وراء اللذة والراحة والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها – كمملكة لا سيد لها ولا وارث – والتغلب على أهلها والاستئثار بخبراتها وخزائنها ، مقصد ولا غاية ، فاستعملوا هذه القوة والعلم في حصول اللذات والتغلب على الناس وقهر المنافسين ، وتنافسوا في اختراع الآلات التي ينالون بها وطرهم ويعجزون بها غيرهم ، ولم يزل بهم ذلك حتى اختلطت عليهم الوسائط بالغايات ، فاعتقدوا الوسائط غايات ، وافتتنوا بالمخترعات والمكتشفات كغاية في نفسها لا لغيرها ، وعكفوا عليها وتشاغلوا بها كتشاغل الصبيان باللعب والدُّمى ، واعتقدوا أن الراحة هي الحضارة ثم تقدموا وصاروا يعتقدون أن السرعة هي الحضارة .
يقول الأستاذ جود :
(( يقول دزرائيلي Disraeli إن المجتمع في عصره يعتقد أن الحضارة هي الراحة ، أما نحن فنعتقد أن الحضارة عبارة عن السرعة ، فالسرعة هي إله الشباب العصري ، وإنه يضحي على نُصبه بالهدوء والراحة والسلام والعطف على الآخرين من غير رحمة(231) )) .



عدم تعادل القوة والأخلاق في أوربا :
إن الأوربيين قد فقدوا تعادل القوة والأخلاق والتوازن بين العلم – بظاهر من الحياة الدنيا – والدين منذ قرون ، فلم تزل القوة والعلم في أوربا بعد النهضة الجديدة ينموان على حساب الدين والأخلاق ، ولم يزل الأولان في ارتفاع وارتقاء ، والآخران في انخفاض وانحطاط ، حتى بعدت النسبة بينهما ، ونشأ جيل كأنه ميزان لصقت إحدى كفتيه بالأرض وهي كفة القوة والعلم ، وخفت الثانية – وهي كفة الأخلاق والدين – حتى ارتفعت جداً ، وبينما يتراءى هذا الجيل للناظر في خوارقه الصناعية وعجائبه الكونية وتسخيره للمادة والقوى الطبيعية لمصالحه وأغراضه كأنه فوق البشر إذا هو لا يتميز في أخلاقه وأعماله ، في شرهة وطمعه ، في طيشه ونزقه ، وفي قسوته وظلمه عن البهائم والسباع ، وبينما هو قد ملك جميع وسائل الحياة ، إذا هو لا يدري كيف يعيش ! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات في الكماليات وفضول الحياة ، إذا هو لا يدري كيف يعيش! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات في الكماليات وفضول الحياة ، إذا هو لم يعرف المبادئ الأولية والبديهيات للحياة الإنسانية والمدنية والأخلاق ، فتراه يصعد إلى السماء ويريد أن يناطح الجوزاء ، وهو لم يتقن شئون الأرض ولم يصلح ما تحت قدميه ، وقد خولته العلوم الطبيعية قوة قاهرة وهو لا يحسن استعمالها ، كفل صغير أو سفيه أو مجنون يملك أزمَّة الأمور ويؤتى مفاتيح الخزائن ، فهو لا يزيد على أن يعبث بالجواهر الغالية والنفائس المخزونة ويعيث في دماء الناس ونفوسهم .

قوة الآلهة ، وعقل الأطفال :
يقول الأستاذ (( جود )) الإنجليزي : (( إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلهة ، ولكننا نستعملها بعقل الأطفال والوحوش(232) )) .
ويقول في موضع آخر :
إن هذا التفاوت بين فتوحنا العلمية المدهشة ، وطفولتنا الاجتماعية المخجلة ، نواجهه على كل منعطف ومنعرج نستطيع أن نتحدث من وراء القارات والبحار ونرسل الصور بالبرق ونركب اللاسلكية في منازلنا ، ونستمع في سيلان إلى دقات (Big Ben) – الساعة العظمى – تضرب في لندن ، ونركب فوق الأرض والبحر وتحتهما ، والأطفال يتحدثون على الأسلاك البرقية ، والآلات الكاتبة صامتة ، وتملأ الأسنان من غير إيجاع ، والزروع تنمى بالكهرباء ، والشوارع تفرش بالمطاط ، وأشعة روتنجن (x-rays) نوافذ نطل منها على داخل أبداننا ، والصور المتحركة تتكلم وتغني ، ويكشف عن المجرمين والمغتالين باللاسلكية ، والغواصات تذهب إلى القطب الشمالي والطيارات تطير إلى القطب الجنوبي ومع ذلك كله لا نقدر في وسط مدننا الكبرى أن نخصص رحبة يلعب فيها أطفال الفقراء في راحة وسلام ، ونتيجة ذلك أنا نقتل منهم ألفين (2000) ونجرح منهم تسعين ألفاً (90000) سنوياً ، قال لي فيلسوف هندي في انتقاده اللاذع لإطرائي لعجائب حضارتنا : وكان بعض سواق السيارات قد نجح في قطع ثلثمائة أو أربعمائة ميل في ساعة على رمال (pendine) ، وطارت طائرة من موسكو إلى نيويورك في فترة قليلة من الزمن قال الفيلسوف : نعم ! إنكم تقدرون أن تطيروا في الهواء كالطيور وتسبحوا في الماء كالسمك ، ولكنكم إلى الآن لا تعرفون كيف تمشون على الأرض (233))) .

ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم :
وقد أصبحت هذه المخترعات والمكتشفات الجديدة – مما كانت تعود على النوع الإنساني بخير كبير لو كان مستعملها يعرف الخير ويقدر أن يتجه إليه – أصبحت وضررها أكبر من نفعها ، وكان كما قال القرآن عن السحر : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } . اسمع شاهداً من أهلها ينتقد هذه المخترعات ويبوح بالحقيقة وهو (( جود )) السابق الذكر :
(( وقد استطعنا أن نسافر بسرعة زائدة من مكان إلى مكان ، ولكن الأمكنة التي نسافر إليها قلما نصلح للسفر ، وقد زويت الأرض للرحالين وتدانت الأمم ووطئ بعضها عتبة بعض ، ولكن كان نتيجة ذلك أن توترت العلاقات بينها وأصبحت أسوأ مما كانت ، أما المرافق التي استطعنا بها أن نتعارف بجيراننا فقد عادت فحشرت العالم في الحرب ، اخترعنا آلة الإذاعة وتحدثنا بها إلى الشعوب المجاورة والأمم الشقيقة ، ولكن كان عاقبتها أن كل شعب يستنفد موارد الهواء لإيذاء الشعب المجاور ومعاكسته ، إذ يجتهد أن يقنعه بفضل نظامه السياسي على نظامه(234) )) .
(( انظر إلى الطيارة التي تحلق في السماء يخيل إليك أن صانعيها كانوا في علمهم ولباقتهم وصناعتهم فوق البشر ، والذي طاروا عليها أولاً لاشك أنهم كانوا في علو همتهم وعزمهم وجرأتهم أبطالاً مغاوير ، ولكن انظر الآن إلى المقاصد التي استعملت لها الطيارة وتستعمل لها في المستقبل ، إنما هي قذف القنابل وتمزيق جثث الإنسان وخنق الأحياء وإحراق الأجساد وإلقاء الغارات السامة ، وتقطيع المستضعفين الذي لا عاصم لهم من هذا الشر إرْباً إرباً ، وهذه إما مقاصد الحمقى أو الشياطين (235))) .
(( وما عسى أن يقول المؤرخ غداً كيف كنا نستعمل معدن الذهب ؟ سيذكر أنا توصلنا إلى أن نخبر عن الذهب باللاسلكي ، وسيستعرض الصور التي تمثل اللياقة والمهارة التي كان أصحاب المصارف يزنون بها الذهب ويعدونه ، وكيف تحدينا قانون الجاذبية في نقله من عاصمة إلى عاصمة ، وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وجرآء في فتوحهم الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدولي الذي كان يقتضيه ضبط الذهب والتقسيم الصحيح ، وكانوا لا يعنون إلا بأن يدفنوا المعادن بالسرعة الممكنة ، وكانوا يستخرجون الذهب والمعادن من بطون الأرض في جنوب إفريقية ، ويدفنونها في مصارف لندن ونيويورك وباريس(236) )) .
ويتناول هذه البحث – التفاوت بين العلم والصناعة وبين الأخلاق الإنسانية ، وإخفاق الحضارة الحديثة في أداء رسالتها – مفكر آخر يجمع بين العلم بالفلسفة والعلوم الطبيعية في تحليل أدق وأسلوب أعمق وهو الدكتور (Alexis Carrel) في كتابه – الإنسان ، ذلك المجهول – (Man the Unknown .) :
(( يظهر أن الحضارة العصرية لا تستطيع أن تنتج رجالاً يملكون الابتكار والذكاء والجرأة . وفي كل قطر تقريباً يرى الإنسان في الطبقة التي تباشر إدارة الأمور وتملك زمام البلاد انحطاطاً في الاستعداد الفكري والخلقي .
إننا نلاحظ أن الحضارة العصرية لم تحقق الآمال الكبيرة التي عقدتها بها الإنسانية وإنما أخفقت في تنشئة الرجال الذين يملكون الذكاء والإقدام الذي يسير بالحضارة على الشارع الخطر الذي تتعثر عليه ، إن الأفراد والإنسانية لم تتقدم بتلك السرعة التي تقدمت بها المؤسسات التي نبعث من عقولها ، إنها هي نقائص القادة السياسيين الفكرية والخلقية وجهلهم الذي يعرض أمم العصر للخطر(237) )) .
(( إن الوسط الذي أنشأه العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للإنسان لا يناسب الإنسان لأنه مرتحل لم يقم على تصميم وتفكير سابق ، ولم يراع فيه الانسجام مع شخصية الإنسان ، إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا لا يطابق قاماتنا ولا أشكالنا ، نحن غير مسرورين ، نحن في انحطاط الأخلاق وفي العقول ، أن الأمم التي ازدهرت فيها الحضارة الصناعية وبلغت أوجها هي أضعف مما كانت ، وهي تسير سيراً حثيثاً إلى الهمجية ولكنها لا تدرك ذلك ، إنه لا حارس لها من المحيط الثائر الذي أقامته العلوم الطبيعية حول هذه الأمم . الحق يقال إن حضارتنا – كالحضارات التي تقدمتها – قد فرضت شروطاً للبقاء ستجعل – لأسباب لا تزال مجهولة – الحياة محالاً ، إن علمنا بالحياة وكيف يجب أن يعيش الإنسان متأخر جداً عن علمنا بالماديات ، وهذا التأخر هو الذي جنى علينا (238))) .
(( لا يجنى نفع من الزيادة في عدد المخترعات الآلية ، لا فائدة في أن نعلق أهمية كبرى على اكتشافات علوم الطبيعية والفلكيات وعلم الكيمياء ، أي خير في الزيادة في الراحة والشرف ، والجمال والمنظر وكماليات حضارتنا إذا منع ضعفنا من الانتفاع بذلك وتوجيهه إلى صالحنا . إنه لا خير في أحكام طريق للحياة يقصى فيه العنصر الخلقي وتبعد منه أشرف عناصر الأمم العظيمة ، إن الأليق بنا أن نعنى بأنفسنا أكثر من أن نعنى بصناعة بواخر أسرع وسيارات أربح، وراديوات أرخص، وتلسكوبات لفحص هيكل سديم على بعد سحيق(239)))
(( ما هو مدى التقدم الحقيقي الذي نحققه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إلى أوربا أو إلى الصين في ساعات قلائل ؟ هل من الضروري أن نزيد الإنتاج بلا توقف حتى يستطيع الإنسان أن يستهلك كميات أكثر فأكثر من أشياء لا جدوى منها ؟ أليس هناك أي ظل من الشك في أن علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الأخلاقي والصحة والتوازن العصبي والأمن والسلام(240) )) .

أوربا في الانتحار :
والحاصل أن الغربيين لما فقدوا الرغبة في الخير والصلاح ، وضيعوا الأصول والمبادئ الصحيحة ، وزاغت قلوبهم وانحرفت ، وفسدت أذواقهم لم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضرراً ، كما أن الأغذية الصالحة تستحيل في جسم الممعود والموبوء مرضاً وفساداً ، بل لم تزدهم هذه الآلات والمخترعات إلا قوة وسرعة في الإهلاك واستعانة على الانتحار ؛ وقد أحسن المستر ايدن Eden رئيس وزراء بريطانيا السابق وصف ذلك في بعض خطبه سنة 1938 م :
(( إن أهل الأرض كادوا يرجعون في أخريات هذا القرن إلى عهد الهمجية والوحشية ، ويعيشون عيشة سكان الكهوف والمغارات ، ومن الغريب المضحك أن البلاد والدول تنفق ملايين من الجنيهات على وقاية نفسها من آلة فتاكة تخافها ، ولكنها لا تنفق على ضبطها ، وإني أتعجب في بعض الأحيان وأقوال : كيف لو زار العالم الجديد زائر من كوكب آخر وهبط إلينا فما عسى أن يشاهده ؟ سيجدنا نعد العدة لإهلاك بعضنا ، ونتبادل الأنباء عنها ويخبر بعضنا كيف نستعمل هذه الآلات الجهنمية )) .

القنبلة الذرية وفظائعها :
لعل المستر إيدن لما أفضى بهذا الحديث لم يدر بخلده أن العالم المتمدن وعلى رأسه أميركا رسول السلام وزعيم الحضارة والعالم الجديد سيتوصل أثناء الحرب إلى استعمال آلة تبز جميع الآلات والمخترعات في التدمير والتقتيل ، وتفوق ذكاء الإنسان وخياله في الهول والفظاعة ، قد كانت هذه الآلة هي القنبلة الذرية التي جربتها أمريكا مرة في صحراء نيوميكسيكو ، وثانية على رؤوس البشر في مدينة هيروشيما ، وبعدها في نجازاكي المدينتين اليابانيتين . وقد أذاع رئيس بلدة (هيروشيما) في 20 أغسطس آب 1949 م أن الذين هلكوا في اليوم السادس من أغسطس آب 1945 م من اليابانيين يتراوح عددهم بين مائتي ألف وعشرة آلاف ومائتي ألف وأربعين ألفاً ( ب- ت ) .
يقول المستر استورت (Stuart Gilder) في مقالة نشرتها صحيفة الهند الإنجليزية السيارة (Statesman) في عددها الصادر في 16 سبتمبر 1945 .
يقول البروفسور (Plesh) :
(( لا يؤمن على الناس الذين كانوا يبعدون عن المنطقة التي انفجرت فيها القنبلة الذرية بمائة ميل أن يكونوا قد تأثروا بها ، فينبغي أن يفحص عنهم فحصاً طبياً ، ولا يستغرب أن يصبح الناس يوم ويقرأوا في الجرائد أن علامات الإصابة بطاعون القنبلة الذرية قد ظهرت في الذين يسكنون على آلاف أميال من اليابان .
ويقول البروفسور ( م . ي . أولى فنيت ) معلم جامعة برمنجهام وعضو الهيئة الصناعية في إعداد القنبلة الذرية :
(( من الأمور الخرافية أن يعتقد إنسان أن بريطانيا أو دولة أخرى تستطيع أن تحافظ على سر القنبلة الذرية . إن المبادئ التي قامت عليها صناعة القنبلة الذرية مكشوفة لكل دولة ، إن بريطانيا وأميركا استفادتا بتجاريب السابقين وبلغتا إلى نهاية صناعة القنبلة الذرية ، ولكنها لا تدوم سراً حربياً إلا لأجل معدود ، لأن كل بلاد صناعية تستطيع أن تعد القنبلة الذرية في مدة خمس سنوات وإذا أفرغت جهودها ووجهت قواها إلى صناعتها فيمكن أن تبلغ إلى نهايتها في سنتين )) .
ويقول البروفسور المذكور :
(( وأنا على يقين أنه سيظهر في مدة قصيرة على مسرح العالم قنابل تفوق القنابل الأولى بعشرة آلاف طن في قوة الانفجار ، وستليها قنابل قوتها مليون طن ، ولا ينفع في التوقي منها دفاع أو احتياط ، وإن ست قنابل فقط من هذا القبيل تكفي في تدمير إنجلترا على بكرة أبيها ، وإن العلماء الروسيين ينجحون في إعداد القنابل في مدة قصيرة جداً )) .
وقد اخترعت أمريكا قنبلة أخرى تفوق القنبلة الذرية في القوة والفظاعة ، وهي (Hydrogen Bomb) وقد جرى اختبارها للمرة الثانية في المحيط الهادئ يوم 26 من مارس سنة 1954 .
وقد ذكر المستر شارلس – ي – ولسن (Charles E. Wilson) سكرتير وزارة الدفاع أن النتائج كانت هائلة لا تكاد تصدق .
وقد ذكر المستر لويس استراس (Lewis Strauss) رئيس لجنة القوة الذرية في أمريكا أن قنبلة هيدروجينية واحدة تستطيع أن تبيد مساحة مدينة نيويورك الواسعة .
وقال العالم الطبعي الشهير ونائب رئيس مجلس الأمن اللواء صاحب سنج في دهلي الجديدة :
إن أربع قنابل هيدروجينية وزن كل واحدة منها مائة طن تستطيع أن تقتل كل نسمة على وجه الأرض ، وقد شاع أخيراً أن روسيا اكتشفت القنبلة النيتروجينية (Nitrogen bomb) التي هي أدهى وأمر من القنبلة الهيدروجينية .

والذي خبث لا يخرج إلا نكدا :
وقد تضعضع أساس المدنية الأوربية ، كما ذكرنا بتفصيل ، ولم يزل بناؤه متزعزعاً ، ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغاً واختلالاً، وفسدت بذرتها ، فلم تصلح شجرتها ولم تطلب ثمرتها {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً }.
وقد شرح ذلك في إيجاز الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي في أحد فصول كتابه ((تنقيحات )) بالأوردية قال :
(( ظهرت الحضارة الغربية في أمة لم يكن عندها معين صاف ولا نبع عذب للحكمة الإلهية ، لقد كان فيها قادة الدين ولكن لم يكونوا أصحاب حكمة ولا علم ولا شريعة إلهية ، ولم يكن عندهم إلا شبح ديني لو حاول أن يسير بالنوع الإنساني على صراط مستقيم في طرق الفكر والعمل لما استطاع ، ولم يكن له إلا أن يكون حجر عثرة وسداً في سبيل ارتقاء العلم ، والحكمة ، وهكذا كان ، وكان عاقبة ذلك أن الذين كانوا يريدون الرقي نبذوا الدين بالعراء ، واختاروا طريقاً لم يكن دليلهم فيها إلا المشاهدة والاختبار والقياس والاستقراء ، ووثقوا بهذه الدلائل التي هي في حاجة بنفسها إلى الهداية والنور ، وجاهدوا واجتهدوا باحتذائها في طرق الفكر والنظر والتحقيق والاكتشاف والبناء والتنظيم ، ولكن ضلت خطوتهم الأولى في كل جهة وفي كل مجال ، وانصرفت فتوحهم في ميادين العلم والتحقيق ، ومحاولاتهم في سبيل الفكر والنظر إلى غاية لم تكن صحيحة ، إنهم بدأوا وساروا من نقطة الإلحاد والمادية ، نظروا في الكون على أنه ليس له إله ، نظروا في الآفاق والأنفس على أنه لا حقيقة فيها إلا المشاهد والمحسوس ، وليس وراء هذا الستار الظاهر شيء ، إنهم أدركوا نواميس الفطرة بالاختبار والقياس ولكنهم لم يتوصلوا إلى فاطرها ، إنهم وجدوا الموجودات مسخرة واستخدموها لأغراضهم ، ولكنهم جهلوا أنهم ليسوا سادتها ومدبريها ، بل هم خلفاء سيدها الحق ، فلم يروا أنفسهم مسئولين عنها ، ولم يروا على أنفسهم عهدة وتبعة ، فاختل أساس مدنيتهم وتهذيبهم ، وانصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة النفس ، واتخذوا إلههم هواهم ، وفتنتهم عبادة هذا الإله ، وسارت بهم هذه العبادة في كل ميدان من ميادين الفكر والعمل على طريق زائغة خلابة رائعة ، ولكن مصيرها إلى الهلاك .
هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية فصارت آلة الهلاك الإنسان ، وصاغ الأخلاق في قالب الشهوات والرياء والخلاعة والإباحة ، وسلط على المعيشة شيطان الأثرة والشح والفتك ببني النوع ، ودس في عروق الاجتماع وشرايينه سموم عبادة النفس والأنانية والإخلاد إلى الراحة والتنعيم ، ولطخ السياسة بالجنسية والوطنية وفروق اللون والنسل وعبادة إله القوة ، فجعلها لعنة كبرى للإنسانية .
والحاصل أن البذرة الخبيثة التي ألقيت في تربة أوربا في نهضتها الثانية لم تأت عليها قرون حتى نبتت منها دوحة خبيثة ، ثمارها حلوة ولكنها سامة ، أزهارها جميلة ولكنها شائكة ، فروعها مخضرة ولكنها تنفث غازاً ساماً لا يرى ، ولكنه يسمم دم النوع البشري .
إن أهل الغرب الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة قد مقتوها ، وأصبحوا يتذمرون منها ، لأنها خلقت في كل ناحية من نواحي حياتهم مشاكل وعقداً لا يسعون لحلها إلا وظهرت مشاكل جديدة ، ولا يفصلون فرعاً من فروعها إلا وتطلع فروع كثيرة ذات شوك ؛ فهم في معالجة أدوائهم وإصلاح شئونهم كمعالج الداء بالداء وناقش الشوكة بالشوكة ، إنهم حاربوا الرأسمالية فنجمت الشيوعية ، إنهم حاولوا أن يستأصلوا الديمقراطية فنبت الدكتاتورية ، أرادوا أن يحلوا مشاكل الاجتماع فنبتت حركة تذكير النساء (Feminism) وحركة منع الولادة ، أرادوا أن يشترعوا قوانين لاستئصال المفاسد الخلقية فاشرأبت حركة العصيان والجناية ، فلا ينتهي شر إلا إلى شر ، ولا فساد إلا إلى فساد أكبر منه ، ولا تزال هذه الشجرة تـثمر لهم شروراً ومصائب ، حتى صارت الحياة الغربية جسداً مقروحاً ، يشكو من كل جزء أوجاعاً وآلاماً ، وأعيا الداء الأطباء ، واتسع الخرق على الراقع ؛ الأمم الغربية تتململ ألماً ، قلوبهم مضطربة وأرواحها متعطشة إلى ماء الحياة ولكنها لا تعلم أين معين الحياة ، إن الأكثرية من رجالها لا تزال تتوهم أن منبع المصائب في فروع هذه الشجرة ، فهم يفصلونها ويستأصلونها من الشجرة ويضيعون أوقاتهم وجودهم في قطعها ، إنهم لا يعلمون أن منبع الفساد في أصل الشجرة ، ومن السفاهة أن يترقب الإنسان أن ينبت فرع صالح من أصل فاسد ، وفيهم جماعة قليلة من العقلاء أدركوا أن أصل حضارتهم فاسد ولكنهم لما نشأوا قروناً في ظل هذه الشجرة – وبأثمارها نبت لحمهم ونشز عظمهم – كلت أذهانهم عن أن يعتقدوا أصلاً آخر غير هذا الأصل يستطيع أن يخرج فروعاً وأوراقاً صالحة سليمة ، وكلا الفريقين في النتيجة سواء ؛ إنهم يتطلبون شيئاً يعالج سقمهم ويريحهم من كربهم ولكنهم لا يعلمونه ولا مكانه (241))) .


(216) Convocation Adress of Lord Lothian at Muslim University Aligarh .

(217) محاضرات (( خالدة أديب هانم )) في الجامعة الملية بدلهي .

(218) من حواشي الأمير (( شكيب أرسلان )) على حاضر العالم الإسلامي الجزء الأول ص 158 – 159 .

(219) حواشي حاضر العالم الإسلامي الجزء الأول ص 164 – 165 .

(220) Guide to Modern Wickedness . p . 150 .

(221) عولنا في هذه الأعداد على إحصاء مؤلف السيرة النبوية الشهيرة القاضي محمد سليمان المنصور فوري في المجلد الثاني من كتاب سيرة رحمة للعالمين ولم يغادر من الغزوات والبعوث والمناوشات صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، أما احصاءات غيره من المؤلفين فإنها تمثل عدداً أقل من هذه الأعداد .

(222) وقد حقق المستر هـ . تاونسند E. H. Tawansend في مقالة له نشرتها صحيفة هندو الانكليزية اليومية ( 31 يناير 1943 م ) أن عدد المصابين في الحرب الكبرى لا يقل عن 37,513,886 المقتولون منهم 8,543،515 .

(223) من مقالة لتاونسند في صحيفة هندو .

(224) وقد صدقت فراسته ووقع تحت أعيننا ما تنبأ به وقد فاقت هذه الحرب الجارية الماضية فتكاً بالأرواح للعمران وتدميراً للبلدان ووقائع تشيب لهولها الوالدان وغلاء في السلع وارتفاعاً في الأسعار وأصابت الناس مجاعات شديدة في كثير من الأقطار

(225) Guide to Modern Wickedness . p . 153 .

(226) Guide to Modern Wickedness . p . 180 .

(227) Guide to Modern Wickedness . p . 180 .

(228) حرب منافسة وطمع اشتركت فيها فرنسا واسبانيا وإنجلترا وهولندة لتناول غنائم انتقصت فيها أطراف النمسا وممتلكاتها ونشبت على أثر وفاة فريدريك ملك النمسا وجلوس ابنته ماريا تيريزا على العرش بوصيته ورضا الدول سنة 1740 وانتهت سنة 1748 .

(229) حروب اشتركت فيها فرنسا وروسيا وسويدن وأكثر إمارات الدول الألمانية وبروسيا وانجلترا حماية لبعضها ، واعتداء على بعضها ابتدأت سنة 1756 وانتهت سنة 1763 .

(230) Guide to Modern Wickedness . p . 191 .

(231) Guide to Modern Wickedness . p . 241.

(232) Guide to Modern Wickedness . p . 261.

(233) Guide to Modern Wickedness . p .293.

(234) Guide to Modern Wickedness . p . 247 .

(235) Guide to Modern Wickedness . p .262 .

(236) Guide to Modern Wickedness . p .262 .

(237) ( Man the Unknown )

(238) المصدر السابق .

(239) المصدر السابق .

(240) المصدر السابق .

(241) تنقيحات ، مقالة أمم العصر المريضة ص 24 – 25 – 26 .

  رد مع اقتباس
قديم 02-06-2014 ~ 11:49 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
  مشاركة رقم 8
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الفصل الرابع
رزايا الإنسانية المعنوية
في عهد الاستعمار الأوربي
ليس من قصدنا الآن أن نبحث عن رزايا الأمم الشرقية الآسيوية في السياسة والاقتصاد والتجارة والصناعة ، وخسارتها في ممتلكاتها وانكسارها أمة بعد أمة وقطراً بعد قطر أمام قوة الغرب المادية ودهائه السياسي ، فلذلك حديث يطول ولا يسعه هذا المؤلف الصغير ، وقد طرق هذا الموضوع كثير من المؤلفين والمؤرخين في الشرق والغرب ، وألفوا فيه مؤلفات بين صغير وكبير ومتوسط وأشبعوا فيه الكلام .
ولكن الذي يهمنا – ونحن نتكلم في هذا الكتاب عن خسارة العالم بانحطاط المسلمين واستيلاء الأوربيين بالتبع – رزيئة العالم الإنساني وخطب المجتمع البشري في الروح والأخلاق والنفس ، ومعان أسمى من المادة وما يتصل بالجسم والأرض في عهد النفوذ الأوربي العام ، وسيل حضارته الجارف ، فتلك رزية لا تقبل العزاء ، وكسر لا ينجبر ، والذين أدركوه قليل ، والذين تحدثوا به أقل من أولئك القليل .
ولما كان نظام الحياة الإسلامي هو المنافس للنظام الجاهلي ، كان طبعاً رزء المسلمين في عهد انتصار الحكم الجاهلي أكبر ، وقسطهم في هذه المصيبة العالمية أوفر ، لأن الإسلام والجاهلية ككفتي ميزان ، كلما رجحت كفة طاشت الأخرى .
والآن نتحدث عن هذه الرزايا المعنوية رزيئة رزيئة .

بطلان الحاسة الدينية :
ما هي غاية هذا العالم التي ينتهي إليها ، ومصيره الذي يصير إليه ؟هل بعد هذه الحياة حياة أخرى ؟وما هو وضعها إذا كانت ؟ وهل لهذه الحياة الآخرة تعليمات وإرشادات في الحياة الدنيا ؟ ومن أي منبع تستقى هذه المعلومات ؟ وما هي الطرق والأسس التي إذا سار عليها الإنسان كانت حياته الآخرة راضية مرضية ؟ وما مصدر هذه الطرق ؟ وما هي الطريق المثلى للوصول بعد الموت إلى نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع ؟ ومن أين تستفاد هذه الطريق؟.
تلك أسئلة ورثها الشرقي أبًا عن جد ، وشغلت خاطره ، وأزعجت فكره طيلة قرون ولم يقدر أن يذهل عنها ويتناساها حتى في لهوه وزهوره ، وكانت هذه الأسئلة حافز نفسه ، ونداء ضميره ؛ ولم يستطيع أن يتصام عنه ويطوي دونه كشحًا , بل أصغى إليه في رغبة ونصيحة وإخلاص ، وأجل هذه الأسئلة من نفسه وحياته المحل الأول , وما زال منذ آلاف من السنين في أخذ ورد ونقض وإبرام في هذا الموضوع ,وليس ما نسميه ما وراء الطبيعة والفلسفة الإلهية , والإشراق والرياضة النفسية , والعلم والحكمة إلا محاولات ومغامرات في هذا الطريق الطويل المظلم ,وارتيادًا إثر ارتياد في مناطق مجهولة , ينئ عن اهتمام الشرق البليغ بهذا الموضوع ورغبته الملحة فيه.
هذه طبيعة الشرقي وطبيعة أكثر أفراد البشر في الأقاليم المعتدلة قبل ظهور الغربيين ؛ وإن استعرنا لذلك لغة الفلاسفة وتعبيرهم قلنا : لم يزل في الناس _ عدا حواسهم الظاهرة الخمس _حاسة سادسة يسوغ أن نسميها بالحاسة الدينية , وكما أن الحواس الظاهرة لها دوائر عمل تحصل فيها محسوساتها الخاصة بها فللعين مبصرات وللأذن مسموعات الخ . كذلك هذه الحاسة الدينية لها ثمرات وتأثيرات هي من خواص هذه الحاسة التي لم تزل لأهل الشرق ضربة لازب , وكما أن من فقد حاسة من الحواس الظاهرة بطلت محسوساتها الخاصة بها , فلا تحصل له بحاسة أخرى إلا بطريق خرق العادة , ولا تحل حاسة مهما كانت قوية وصحيحة محل الحاسة الأخرى, كذلك من فقد الحاسة الدينية لطارئ مؤثر أو حرمها لنقص في الفطرة بطلت نتائجها الخاصة بها , وانعدمت في حقه , بحيث لا يستطيع أن يتصورها أو يصدقها , شأن الأعمى لا يبصر الألوان والأجرام المرئية , وقد يعاند ويكابر في إنكارها , وشأن الأصم الذي ليست الدنيا الصاخبة إلا مدينة الأموات عنده , ليس بها داع ولا مجيب ؛ كذلك من حرم الحاسة الدينية جحد الغيب , وكابر فيما هو وراء الطبيعة وعاند في المعاني الدينية , وقسا على الرقائق والقوارع التي تهز النفوس , وترقق القلوب وتذرف العيون .
* ما لجرح بميت إيلام *
أشد العقبات التي واجهها الأنبياء والدعاة الدينيون , واصطدمت بها خطبهم ومواعظهم ودعوتهم , هم أولئك الذين حرموا الحاسة الدينية أو فقدوها بتاتًا , والذين تحجرت قلوبهم وماتت نفوسهم في مسألة الدين, والذين آلوا على أنفسهم أنهم لا يفكرون في أمر الدين وأمور الآخرة , ولا يلقون السمع لهذا الموضوع أصلاً , والذين لما سمعوا كلام النبي الذين تجيش له الصدور وتلين له الصخور , ما زادوا أن قالوا في صمم وإعراض : {إِنْ هِيَ إِلّاحَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ولما انتهى النبي من كلامه السائغ المعقول الذي يفهمه الأطفال , والذين كان بلغتهم الفصيحة قالوا : { مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً }, {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .
لاشك أن هذه الأسئلة كانت موضوع دراسة العلماء والمفكرين في فجر النهضة الأوربية الجديدة , واستمروا يبحثون فيها ويؤلفون ويتناقشون , ولكن كلما قطعت المدنية الأوربية شوطًا تخلفت هذه المباحث والأسئلة شوطًا ؛ ولما ظهرت خواص هذه المدنية الباطنة وتجلت هي في مظهرها المادي خفت - في ضجتها – هذا الصوت الذي كان ينبع من أعماق القلب وقرارة الضمير الإنساني الحي , ولا ينكر أن هذه الأسئلة تدرس في قسم الفلسفة وعلوم ما وراء الطبيعة في المدارس والمجامع العلمية والمكاتب العامة , ويتباحث فيها العلماء المتخصصون وتظهر لهم في هذا الموضوع تأليفات بين آونة وأخرى ؛ ولكن الذي لاشك فيه أنها فقدت سلطانها على القلوب والأفكار وامحت علامة الاستفهام الواضحة النيرة التي كان يراها كل إنسان عاقل فيقف أمامها كما تقف القطر أمام الإشارات , وأصبحت هذه الاستفسارات لا تحيك في صدر الإنسان ولا تشغله كما كانت تشغل آباءه وتحيك في صدوهم , ولم يكن ذلك عن إيمان وانشراح صدر وطمأنينة قلب واقتناع بحل صحيح وارتياح إلى نتيجة حاسمة . كلا ! لم يكن ذلك إلا لأن هذه الأسئلة قد فقدت أهميتها وأخلت مكانها لأسئلة مادية أهم في أعين أبناء القرنين التاسع عشر والعشرين منها , ولأن رجل العصر قد لزم الحياد التام في هذه المسائل وصرف النظر عنها , فلا عليه إن كانت بعد هذه الحياة حياة ثانية وكانت الجنة والنار والثواب والعقاب والنجاة والهلاك أو لم تكن , فلا يهمه شيء من ذلك لا سلبًا ولا إيجابًا , لأن شيئاً من ذلك لا يمس مسائلة اليومية أو في آخر الشهر , ولا يتصل بشخصه ولا يترك عاجلاً بآجل ولا يتكلف ما لا يعنيه فيترك هذه المباحث (( الفارغة )) يبحث فيها معلم الفلسفة في الجامعة ويفضي فيها برأيه المؤلف في هذه الموضوع . أما هو فهو رجل جد وعمل ، لا يعرف إلا حياة المصانع والإدارات وسير الماكينات ولا يهتم إلا بتسلية النفس وترويحها في آخر النهار والنوم الهادئ في آخر الليل والأجرة في آخر الأسبوع أو الراتب في أواخر الشهور وحساب الأرباح في أخر السنة وإعادة الصحة والشباب في آخر العمر وأما ما بعد الحياة فهو عنده مجهول ووهم من الأوهام : {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ } .
إن هذا الضرب من الناس لا يزال يزداد عدداً وأهمية في كل أمة وبلاد بتأثير الحضارة الغربية ، ذلك الضرب من الناس لم يترك واشتغالهم بالحياة الدنيا والعكوف عليها فراغاً لدعوة دينية ، وإن الذين يدعوهم إلى الدين والحياة الأخروية ليتحير معهم كما يتحير السندباد البحري – كما تروي لنا حكاية ألف ليلة وليلة – مع بيضة العنقاء ، ظنها السندباد البحري بناء من رخام فدار حولها عدة مرات ليبحث عن باب يدخل منه فلم يجد ، كذلك الداعي الديني يدور حول رؤوسهم فلا يجد منفذاً يدخل منه إلى عقولهم ، ويدخل به دعوته الدينية إلى نفوسهم ، فقد أقفلت الحياة المادية ومسائلها جميع أبوابها وسدت جميع نوافذ فكرهم .
وكما أن رجلاً لم يحظ من الفطرة بالذوق الأدبي ، يسمع الألحان الجميلة والأبيات الرقيقة فلا يعدها إلا أصواتاً لا فن فيها ، كذلك الذي حرم الحاسة الدينية لا تؤثر فيه دعوة الأنبياء وخطب الوعاظ ، وحكمة العلماء وأمثال الصحف السماوية ، وتضيع فيه بلاغة البلغاء وإخلاص المخلصين ، ويصبح كل ذلك صيحة في واد ونفخة في رماد :
لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي
والذي مني بهذا الضرب من الناس يفهم السر في قوله تعالى : {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } ، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } وتظهر له حقيقة قوله : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ولم يلق في شرحها وتعليلها ما لقيه المفسرون الذين لم يشاهدوا هذا النوع من صعوبة .
داء هذا العصر الذي لا ينجح فيه الدواء ولا يؤثر فيه العلاج هو الاستغناء التام عن الدين ، ولم يلق رجال الدعوة الدينية من العنت والشدة في أحط أدوار الفسق والفجور وفي أحلك عهود المعصية والغفلة ، ما يلاقونه في دعوة هؤلاء الذين لزموا الإعراض التام في هذه المسائل ( الكلامية ) فلا تعنيهم سلباً ولا إيجاباً {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } .
وقد فطن لهذا الفرق الجوهري بين النفسية القديمة والجديدة أحد كبار معلمي الفلسفة وعلم النفس في إحدى جامعات أوربا الكبرى وشرحه في عبارة وجيزة . قال س م جود :
(( ثارت في قديم الزمن شكوك واعتراضات وأسئلة واستفسارات حول الدين ، لم يطمئن بعض أصحابها ولم يرتاحوا إلى جواب مقنع ، ولكن مما يمتاز به هذا الجيل أنه لا تزعجه الأسئلة رأساً ، ولا تحيك في صدره ولا تنشأ في هذا العصر أصلاً )) .

زوال العاطفة الدينية :
لما طغى بحر المادية في العالم الإسلام في العهد الأخير وفاض ، كون رجال الدين جزراً صغيرة في بحر المادية المحيط ، يلجأ إليها الفارون إلى الله والمتبرمون من الحياة المادية والغفلة ، كان فيها رجال هم كمنارات النور في البحر الظلمات يربون الناس التربية الدينية والخلقية ، ويزكون أنفسهم ويصقلون قلوبهم .
وكنت ترى في العالم الإسلامي حركة مستمرة إلى هذه الجزر ؛ فترى قوافل لرواد الروحانية ومنتجعي التربية الدينية غادية رائحة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، ومن أقصى شمال العالم الإسلامي إلى أقصى جنوبه ، متخطية الثغور السياسية مجتازة العقبات الجغرافية ، فترى هذه الجزر مستعمرات دينية ، قد أمحت فيها الفروق الجنسية والوطنية ، وترى متحفاً إنسانياً قد اجتمع فيه الشرقي مع الغربي والبخاري مع المغربي والأناضولي مع الأندنوسي ، قد فروا بدينهم من الفتن ورموا بأنفسهم على عتبة ربهم ، يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ويتلقون التربية الدينية ثم ينبثون في أنحاء العالم دعاة مصلحين ومعلمين مرشدين ، يلتقطون نصيب الله من بين نصيب الشيطان ويحيون أرضاً مواتاً من القلوب ، ويبذرون فيها بذور الدين .
وكذلك لم تزل في جنب أقوى الدول وأوسعها دول روحية يفوق سلطانها الروحي سلطان المادي ، فيها رجال تأتيهم الدنيا راغمة ويأتيهم الملوك والأمراء صاغرين ، ولهم نظام كنظام الدول ينصبون ويقرون وينقلون ويستخلفون ، ولهم (( قناصل وسفراء )) في كل دولة مادية وكأن خارطة العالم الإسلامي بين أيديهم ، فإذا خلا ثغر من ثغور الإسلام نصبوا فيه مرابطاً دينياً يحفظه من عادية الغفلة والمعصية ، ويحرسه من غاشية الجهل والطغيان(242) .
وكانت هذه الدول الروحية مستقلة في إدارتها ونظامها الداخلي ، لا يتداخل فيها الملوك والأمراء ولا تؤثر فيها التقلبات السياسية والحوادث المحلية ؛ ولضرب لذلك مثلاً بالمستعمرة الروحية المعروفة بغياث فور ، التي أنشأها الشيخ نظام الدين البداوني الهندي (( م 725 هـ)) في نفس عاصمة الهند وقد عاصر الشيخ ثمانية من الملوك الجبابرة (( من غياث الدين بلبن 664 – 686 إلى غياث الدين تغلق 720 – 725 )) وحافظت على استقلالها التام من غير أن تمسها يد الملوك ، وكنت ترى فيها رجالاً من سنجر في إيران إلى رجال من أوده في شرق الهند .
وقد كان لهذه المراكز ولأصحابها الفقراء من المهابة والحشمة والاحترام الفائق ما قد يحسدهم عليه أكبر ملوك العالم ، وقد يكون هذا سبب الوحشة بينهم ، وما ذاك إلا لإقبال الناس على رجال الدين واحتفائهم والخضوع للسلطان الروحي ، فكان السيد آدم البنوري الهندي ( م 1053 هـ ) دفين البقيع يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل ، ويمشي في ركابه ألوف الرجال ومئات من العلماء ، ولما دخل السيد في لاهور عام 1053 كان في معيته عشرة آلاف من الأشراف والمشايخ وغيرهم ، حتى توجس شاهجان ملك الهند منه خيفة ، فأرسل إليه بمبلغ من المال ، ثم قال له : قد فرض الله عليك الحج فعليك بالحجاز ، فعرف إيعاز الملك ، وسافر إلى الحرمين حيث مات(243) .
وهذا الشيخ محمد معصوم ( م 1079 ) ابن الشيخ الكبير أحمد السرهندي قد بايعه وتاب على يده تسعمائة ألف من الرجال ، واستخلف في دعاء الخلق إلى الله وإرشاد الناس وتربيتهم الدينية سبعة آلاف من الرجال(244) .
وهذه ابنه الشيخ سيف الدين السرهندي (م 1096) كان يأكل على مائدته ألف وأربعمائة ، ويقترحون الأطعمة ويتخيرونها(245) .
وهذا الشيخ محمد زبير السرهندي ( م 1151 ) كان إذا خرج من بيته ألقى له الأغنياء الشيلان والمناديل حتى لا يطأ الأرض ، وإذا خرج لعيادة مريض أو لبعض شأنه خرج في ركابه الأغنياء والأمراء فكان موكباً مثل مواكب الملوك(246) .
وهذه أمثلة قليلة لا نقصد منها إلا الاستدلال على ما كان للدين من مكانة وشرف في عيون الناس ، وعلى ما كان من احتفاء برجاله ومن يمثلونه ، وخضوعهم لسلطان الدين فوق سلطان القوة ، وتهافتهم على موارد الدين ومشارعه ، وهذه أمثلة التقطناها على عجل من تاريخ الهند الإسلامي ولمحات عابرة فيه ؛ ولو ذهبنا نستقصي أمثلته وشواهده من تاريخ الإسلام العام ومن تراجم الرجال الدينيين وسيرهم في بلاد الشام ومصر والمغرب الأقصى والعراق لكان مجلداً كبيراً – ونكتفي هنا بذكر الشيخ خالد الكردي ( م 1242 هـ ) الذي ازدحم الناس عليه في بغداد يتوبون على يديه ويستفيدون منه ، وقد أخبر شيخه في رسالة كتبها إليه أن مائة من العلماء الفحول قد تخرجوا عليه ، وأن خمسمائة من كبار العلماء قد دخلوا في بيعته ، وأما العوام والخواص فلا يأتي عليهم حصر(247) .
واستمر هذا الإقبال على الدين والهجرة في طلب العلم النافع والعمل الصالح ، وتجشم الأسفار والأخطار لزكية النفس وتهذيب الخلق والتوصل إلى معالم الرشد والاستعداد للآخرة إلى أول عهد الاستعمار الأوربي ؛ فترى في كل قطر إسلامي مراكز دينية وملاجئ روحية يأوي إليها أهل الطلب من سائر الآفاق ، وتخطبهم الدنيا والمناصب العالية في الحكومات فيأبون إلا فراراً ، ويلجأون إلى هذا المحيط الهادئ الروحي ، ويكبون على إصلاح باطنهم وسل حظ الشيطان منه .
وتتعدى في الحضارة إلى أواسط القرن الثالث عشر الهجري وقد احتل الإنجليز الهند ، ولما تؤثر حضارتهم وفلسفة حياتهم في مجتمع البلاد ، فترى بقايا من الحياة الدينية الأولى ، ويحدثنا مؤرخ(248) عن زاوية الشيخ غلام علي الدهلوي ، ( م 1240 هـ ) فيقول :
(( رأيت بعيني في هذه الزاوية رجالاً من الروم والشام وبغداد ومصر والحبشة قد بايعوا الشيخ ، وعدوا المثول بين يديه حسنة الدهر وسعادة العمر . أما الوافدون من البلاد القريبة كالهند وأفغانستان فكانوا كالجراد ، ولا يقل عدد المقيمين في هذه الزاوية عن خمسمائة رجل تقوم الزاوية بنفقاتهم (249))) .
ويجيل الشيخ رؤوف أحمد المجددي نظره في رجال هذه الزاوية اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى عام 1231 هـ فيجد رجالاً من سمرقند وبخارى وتاشقند وحصار وقندهار وكابل وبشاور وكشمير والملتان ولاهور وسرهند وأمروهه وسبنهل ورامبوا وبريلي ولكهنؤ وجائس وبهرائج وكوركهبور وعظيم آباد ودماكه ، وحيدر آباد ، وبونه وغيرها(250) .
وليعرف أن هذا كله في زمان لم تحدث فيه طرق النقل الحديثة فكان كله مشياً على الأقدام وسفراً في القوافل .
وتتجلى المناظر الأخيرة لهذا العهد الراحل في تاريخ مصلح الهند الكبير والمجاهد الشهير السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد ( 1246 هـ ) فإذا قرأت تاريخه وجولاته في الهند لأجل بث دعوته إلى التوحيد واتباع السنة والجهاد رأيت ألوفاً يتوبون من الذنوب والآثام والشرك والمحدثات ، حتى تقفر الحانات وتغص المساجد ، ويتسابقون في دعوته هو ورفقته الذين يعدون بالمئات إلى بيوتهم وصنع الولائم لهم ، ويستهينون في سبيل ذلك بالأموال ، ويسترخصون كل عزيز وغال حتى يتقارعوا بينهم أيهم يبدأ وأيهم يتقدم .
وترى في المسلمين شهامة في سبيل الدين وعلو همة وسماحة نفس وأريحية لا تعهدها بعد ذلك ، فلما خرج السيد للحج عام 1236 هـ ورفقته أكثر من سبعمائة رجل ضيف المسلمون هذا الركب في كل محل يمر به ، من راي بريلي مسقط رأسه إلى كلكته حيث ركبوا السفن ، ولما نزل بالله آباد ضيَّفه الشيخ غلام علي ، وأقام هذا الركب ضيفاً عليه خمسة عشر يوماً ، واجتمع الناس من القرى والضواحي وكلهم يأكلون على مائدة الشيخ الطعام الفاخر ، هذا عدا الهدايا التي أهداها إلى أهل الركب والكسوة والزاد الذي قدمه ، وفي أثناء الرجوع لما حلت القافلة قريباً من مدينة مرشد آباد في طريقها من كلكته إلى راي بريلي قام ديوان غلام مرتضى بضيافتهم وأعلن في السوق أن كل من يشتري من أهل القافلة أو يستأجر منهم أهل الصناعة فهو يؤدي الثمن من عنده ، وكلمه السيد في هذا فقال : حسبي من الفخر والشكر أني أقوم بخدمة الحجاج .
وترى في الناس رقة في القلوب وانقياداً للحق وخضوعاً للشرع ، فقد تشرف بالبيعة والتوبة مئات ألوف من المسلمين في هذا السفر ، وكان الناس ينهالون من كل صقع ويدخلون في الخير أفواجاً ، حتى إن المرضى في مستشفى مدينة بنارس أرسلوا إلى السيد يقولون : إنا رهائن الفراش وأحلاس الدار فلا نستطيع أن نحضر فلو رأى السيد أن يتفضل مرة حتى نتوب على يديه لفعل ، وذهب السيد وبايعهم .
وأقام في كلكته شهرين ، ويقدر أن الذين كانوا يدخلون في البيعة لا يقل عددهم عن ألف نسمة يومياً ، وتستمر البيعة إلى نصف الليل ، وكان من شدة الزحام لا يتمكن من مبايعتهم واحداً واحداً فكان يمد سبعة أو ثمانية من العمائم والناس يمسكونها ويتوبون ويعاهدون الله ، وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثماني عشرة مرة .
وخطب السيد في الناس في كلكته خمسة عشر أو عشرين يوماً ، وكان يحضر هذه المواعظ نحو ألفين من وجهاء البلد والعلماء والشيوخ فضلاً عن عامة الناس والدهماء ، وكذلك رفيقه الشيخ عبد الحي البرهانوي كان يذكر كل يوم جمعة ويوم الثلاثاء بعد صلاة الظهر إلى العصر ، والناس يتساقطون عليه كالفراش ؛ ويسلم كل يوم عشرة أو خمسة عشر رجلاً من الكفار .
وكان من تأثير هذه المواعظ ودخول الناس في الدين وانقيادهم للشرع أن تعطلت تجارة الخمر في كلكته وهي كبرى مدن الهند ومركز الإنجليز , وكسدت سوقها و أقفزت الحانات واعتذار الخمارون عن دفع ضرائب الحكومة متعللين بكساد السوق وتعطيل تجارة الخمر .
ولما دعا السيد الإمام إلى الجهاد لبى الناس من كل طبقة دعوته في نشاط وحماسة ولحقوا به , وترك الفلاحون سكتهم وأقفل التجارة دكاكينهم وغادر الناس أوطانهم وتغربوا في دين الله ولم يتلفتوا إلى ما وراءهم ولم يلووا على شيء حتى قتلوا في سبيل الله في وادي بالا كوت عام 1246هـ في الثغور , ورجع فلهم إلى قلل الجبال فاعتصموا بها وقضوا نحبهم في الجهاد.
هذا كله والحضارة الإسلامية في الهند في الاحتضار والحكومة الإسلامية في انهيار , ولكن لم يزل في الناس بقية من الأنفة الإسلامية والحمية الدينية والإنابة إلى الله والفرار إليه وسرعة الإجابة للداعي إلى الله , والاستهانة بالحياة الدنيا وبذل النفوس والنفائس في سبيل الله .
ورسخت قدم الإنجليز وأصبح نظامهم التعليمي – وهو من أكبر جنودهم – يؤتي أكله حين ، وتسربت في الناس أفكارهم وميولهم ، فصارت تقلب نظام الحياة ونظام الفكر في الهند رأساً على عقب من حيث لا يشعر أهلها فتقاصرت الهمم في الدين وخمدت جذوة القلوب وانطفأت شعلة الحياة الدينية ، وانصرفت الرغبات والأهواء والتنافس الطبيعي – الذي هو الدافع الأكبر إلى التقدم والإبداع – من الدين والروحانية إلى المعاش والمادة ، وقلت مرغبات الجهد في الدين والعلم وما يتصل بالروح والقلب ، وتوافرت المزهدات والمثبطات عنه ، وكثرت الدواعي والحافزات إلى ضده ، واتجه تيار الذي والنبوغ والعبقرية – الذي كان متجهاً من قبل إلى الدين – من صنوف الدين وأقسام العلم الديني والروحي ، إلى الإنتاج والإبداع في أنواع علوم المعاش ومرافق الحياة .
وكان لا يزال بالعهد الراحل رمق وبقية من حياة تنازع الموت وتحاول البقاء ، فكان لا يزال في الناس رجال يدعون إلى الدين وإصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق وتصفيتها وهم تذكار لسلفهم في زهدهم في الدنيا والإقبال على الآخرة والإخلاص واتباع السنة ، وكانت لا تزال لهم دعوة في الناس ، والمسلمون يعدون الاتصال بهؤلاء والتمسك بأهدابهم حقاً من حقوق الدين وواجباً من واجبات الحياة ، وكان بعض الأغنياء والأمراء وأرباب الدنيا ، لهم اهتمام زائد بحسن الخاتمة وأمور الآخرة وصلاح القلب وعمارة الباطن ، ولكن كان هذا كله أشبه بالتهاب السراج قبل الانطفاء ، فقد ذوى أصل الشجرة الدينية ، وانقطعت عنها مادة الحياة ، وهبَّ عليها إعصار فيه نار .
سرى الشك وسوء الظن في الأوساط الدينية والبيوت العريقة في الدين والعلم بتأثير المحيط وبتأثير التعاليم الإفرنجية وضعفت الثقة بالله وبصفاته وبمواعيده ، فأصبح الآباء يضنون بأولادهم على الدين ، ولا يخاطرون بأوقاتهم وقواهم في سبيل الدين وعلوم الدين ، وأصبحوا يعلمونهم العلوم المعاشية واللغات الإفرنجية ، لا رغبة في تحصيل المفيد النافع ولا دفاعاً عن الإسلام بل زهداً في الدين وفراراً من خطر المستقبل وخوفاً على أفلاذ أكبادهم من الضياع واستسلاماً للدهر المتقلب ، وتسلط عليهم خوف الفقر حتى أصبحوا من خوف الموت في الموت .
وهكذا انقرض هذا الجيل وطوي هذا البساط ، ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الأخير ، وتلاه عهد المادة ، وأصبحت الدنيا سوقاً ليس فيها إلا البيع والشراء .

طغيان المادية والمعدة :
رووا أن شاعرة جاهلية هي (( كبشة بنت معد يكرب )) عاتبت أخاها عمرو بن معد يكرب ، وعيرته بميله إلى قبول دية أخيه المقتول فقالت :
ودع عنك عمْراً إن عمْراً مسالم *** وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم ؟
ما تتصور المرأة الجاهلية البسيطة أن بطن إنسان يتجاوز مقدار شبر فكيف لو رأت معدة الإنسان الحاضر ابن القرن العشرين ؛ تضخمت وكبرت حتى وسعت الأرض وتجاوزت حتى أصبحت لا يملؤها إلا التراب .
نعم تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا يشبعها مقدار من المال ، وتولد في الناس غليل لا يُرْوى وأُوارٌ لا يُشفى ، وأصبح كل واحد يحمل في قلبه جهنم لا تزال تبتلع وتستزيد ، ولا تزال تنادي هل من مزيد ؟ هل من مزيد ؟ تسلط على الناس – أفراداً وأمماً – شيطان الجشع والحرص فكأن بهم مساً من الجنون ، وأصبح الإنسان نهما يلتهم الدنيا التهاماً ، ويستنزف موارده حلالاً وحراماً ، ثم لا يرى أنه قضى لبانته وشفى نفسه ، والعهدة في ذلك على وضع الحياة الحاضرة وطبيعتها وكونها مادية صرفة لا تؤمن بالآخرة . وخليق بمن لا يعتد إلا بحياته الدنيا ولا يرى وراءها عالما آخر وحياة ثانية أن تكون هذه الحياة بضاعته ورأس ماله وأكبر همه وغاية رغبته ومبلغ علمه ، وأن لا يؤخر من حظوظها وطيباتها ولذائذها شيئاً وأن لا يضيع فرصة من فرصها ، ولأي عالم يدخر وهو لا يؤمن بعالم وراء هذا العالم ، ولا بحياة بعد هذه الحياة ؟
وقد عبر عن هذه النفسية الجاهلية الشاعر الجاهلي الشاب طرفة بن العبد في صراحة وبساطة فقال :
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي *** فدعني أبادرْها بما ملكت يدي
كريم يروِّي نفسه في حياته *** ستعلم إن متنا غداً أينا الصَّدِي
وكل إنسان متمدن اليوم – إلا من عصمه الله بالإيمان – يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب في الحياة ، إلا أنه قد يجرؤ على أن يصرح به ، وقد لا يملك ذلك اللسان البليغ الذي يعبر عن ضميره ؛ والسبب الثاني : - هو الأدب العصري – بمعناه الواسع – الذي لا يتحدث إلا عن المادة وأصحابها ، ويخنع لأهل الثراء وأصحاب الاحتكار وأصحاب الإنتاج ، الخنوع الذي لا يليق بالأدب الشريف العالي ، فيكتب دقائق حياتهم في تفصيل ، وينشر ألقابهم وأسماءهم بقلم عريض وكل نفس من أنفاس مدحه وتقريظه وكل فصل من فصول روايته ينتهي إلى نتيجة مادية أو إلى بطل من أبطال المادة ، ويزين للقارئ المذهب الأبيقوري تارة بالتلميح وتارة بالتصريح ، ويحث الشباب على التهام الحياة وانتهاب المسرات نثراً وشعراً وفلسفة ورواية وتحليلاً وتصويراً ، فلا ينتهون منه إلا بالروح المادية والتقديس لرجال المادة .
وكذلك المجتمع الذي لا يقدر إلا الغني الظريف متناسياً كل ما فيه من رذيلة ولؤم أصل وسوء خلق ، ويتجنى على الإنسان الذي لا يترجح في ميزانه مهما كثرت مواهبه وطاب عنصره وسما جوهره ، ويلمِّح وقد يصرح بأن الفقير لا يستحق الحياة ، ويعامله معاملة الدواب والحمير والكلاب ، فيرغم الإنسان – إذا لم يكن ثائراً على المجتمع – على أن يخضع لشريعة مجتمعه ، وأن يتجمل ويتظرف لمجتمعه ، فلا يلبس إلا لغيره ولا يتأنق إلا لغيره .
وهذا المجتمع لا تزال مقاييسه للشرف والظرافة تتغير ومعاييره للإنسانية تتبدل وتتحول ومطالبه تتنوع وتتكثر ، حتى يضيق الإنسان بها ذرعاً ويلجأ إلى طرق غير شريفة لتحصيل المال وإلى كدح وكد في الحياة ، وهناك هموم تتوالى ولا تنتهي ومتاعب تتسلسل ولا تنقطع .
وزاد الطين بلة تنافس المصانع والمنتجين والصناع ؛ ففي كل صباح يتدفق على المدينة سيل جديد من أحدث المنتجات وأحدث طراز من السيارات والسجائر والأزياء والقبعات والأحذية والأدهان والأطلية وأسباب الزينة والزخارف والأجهزة ولا يجلب منها شيء قياماً بالواجب وسدّاً للعوز ، بل كله في سبيل الاستغلال الصناعي والاحتكار التجاري ، ولا تلبث هذه المنتجات التي هي من فضول الحياة أن تدخل في أصول المعاش ولوازم المدينة ، والذي لا يتحلى بها لا يعد من الأحياء .
ولهذه الأسباب ولغيرها ارتفعت قيمة المال في عيون الناس ارتفاعاً لم تبلغه في الزمن السابق ، وبلغ من الأهمية والمكانة مبلغاً لم يبلغه – على ما نعرفه – في دور من أدوار التاريخ المدون ، وأصبح المال هو الروح الساري في جسم المجتمع البشري والحافز الأكبر للناس على أعمالهم ونشاطهم المدني ، وقد يدفع المخترع إلى الاختراع والصانع إلى صناعته والسياسي إلى مقالته والمرشح إلى انتخابه والعالم إلى تأليفه ، حتى القادة إلى الحرب ، فهو القطب الذي تدور حوله رحى الحياة العصرية كما يقول الأستاذ (( جود )) معلم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن: ((إن النظرية المهيمنة السائدة على هذا العصر هي النظرية الاقتصادية ، وأصبح البطن أو الجيب ميزاناً لكل مسألة فبمقدار اتصالها بالجيب وتأثيرها فيه يقبل الناس عليها ويعنون بها)) .
إذا حكمت على عصرك وطبائعه وأذواقه وأنت بمعزل عن الحياة ، وبنيت حكمك على مؤلفات ومقالات إنما تكتب في زاوية من زوايا الكتب فإنك تغالط نفسك ، وقد تقرأ في هذه الكتب الفلسفية أو المقالات العلمية التحليلية كأنك في عصر متمدن راق تتحكم فيه معايير الأخلاق وتسود فيه المثل العليا ويغشاه سحاب الفضيلة والنبل ، وتحلق عليه روح الديانة والعلم ، ولكن الواقع غير ذلك ، فإن هذه الكتب إنما ألفت في عالم الخيال الذي يعيش فيه مؤلفوها ، وإن أهواءهم وأذواقهم هي التي خلقت لهم عالم خيالياً يصفونه ويصورونه في كتبهم ، حتى يخيل إلى القارئ أنه هو العالم المحيط به .. وللأهواء عجائب وخوارق .
ولكنك إذا اتصلت بالحياة عن كتبٍ لا عن كُتبٍ ، وخالطت الناس ودرست أحوالهم وأصغيت إلى حديثهم في البيت وفي القطار والبستان وعلى المائدة وفي السمر ، رأيت ( الذهب ) حديث النوادي وشغل الألسنة وهوى القلوب ، والبداية والنهاية في كل موضوع ، والقطب الذي تدور حوله رحى الحياة .
إن شاعراً عربياً يلعن الصعلوك الذي لا يتعدى نظره ولا يسمو فكره عن لباس وطعام ويقول :
لحا الله صعلوكاً مناه وهمه *** من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً
فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدينة وهي تجري بفلاسفتها وسياسييها ونوابغها وعلمائها وكتابها وأشرافها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية لا تتعدى لبوساً ومطعماً مهما تنوعت أشكالها وتضخمت ألقابها ؟! فالحياة كلها جهاد في سبيل اللباس والطعام .

التدهور في الأخلاق والمجتمع :
احتل الأجانب الشرق الإسلامي وقد أصاب المجتمع الشرقي الإسلامي انحطاط في الأخلاق والاجتماع ، وسبقت إليه أدواء خلقية واجتماعية كانت أهم أسباب انهيار الدول الإسلامية وانهزام الأمم الشرقية .
ولكن مع ذلك لم يزل المجتمع الشرقي الإسلامي – على علاته – محتفظاً ببعض المبادئ الخلقية السامية والخصائص الاجتماعية الفاضلة التي لا يوجد لها مثيل في الأمم ، وقد نضج واكتمل فن الأخلاق عند الشرقيين ووصل من الدقة والتفصيل واللطافة ورقة الحواشي ذروة لا بصل إليها ذهن العصر ، ولا يتصورها الغربي إلا في الشعر والأدب .
يقرأ الإنسان أو يسمع روايات عن استحكام الروابط والأواصر بين أعضاء المجتمع العام وأفراد الأسرة ، وتغلغلها في الأحشاء واستمرارها إلى الأحقاب والأجيال وخلوها من كل مصلحة ومتعة مادية ، ما لا يتصوره أبناء هذا العصر . وكذلك من حنو الآباء على الأبناء وبر الأبناء بالآباء ، وتوقير الصغير للكبير وحدب الكبير على الصغير ، وعن عفاف النساء ووفاء الحلائل وأمانة الخدم ووفائهم واستقامة الشبان وثباتهم على الأخلاق ومعاملة الأشراف بعضهم لبعض ، والمحافظة على الرواتب والعادات والاطراد في مسألة اللباس والشعائر والعشرة ، والإيثار في شأن الأصدقاء والنصح لهم ، يسمع منها غرائب لا يكاد يصدق بها .
كان بر الأبناء للآباء وطاعتهم إلى حد التفاني في سبيلهم والاضمحلال في وجودهم منتزعاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنت ومالك لأبيك )) .
وكان حب الأبناء لآبائهم وبرهم وحرصهم على أداء حقوقهم غير مقتصر على حياة الأبوين ، بل كان يستمر إلى ما بعد وفاتهما أصدقائهما وأهل أنسهما والإهداء إليهم والتحبب إلى أولادهم وعشيرتهم ، وكان ذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( إن من أبر البر بر الرجل بأهل ود أبيه بعد أن يولي )) .
وكان الأبوان مثلاً للنصح والإخلاص في حبهما للأولاد ، وكانا يضحيان بجميع أهوائهما وميولهما وراحتهما وبلذة الأمومة والأبوة في سبيل تثقيفهم وتربيتهم وتعليمهم ، ويتحملان في ذلك – حتى الرجل الأمي والمرأة الجاهلة – إجحاف المعلمين وعسفهم وإضرارهم في بعض الأحيان بجسم الصغار ، ويجرعان المرائر ويصبران على الغصص في سبيل الأولاد ونبوغهم ، وقد تواضع على ذلك أهل البيوتات والشرف حتى أهل الطبقات الوضيعة ، ويعدون من خالف ذلك رجلاً نذلاً لئيما، والذي روي عن هارون الرشيد في تنبيهه لولديه الأمين والمأمون ووصيته لهما بخدمة الكسائي معروف في التاريخ ؛ ومن غرائب ما يروى في هذا الباب ويمثل الطبيعة الشرقية أن (( تاج الدين ألدز )) أمير الأفغان بعد السلطان شهاب الدين الغوري أسلم ولده إلى معلم وضرب المعلم الولد حتى مات ، فلما علم بذلك (( تاج الدين )) أشار على المعلم بأن يهرب وقال : (( لا آمن عليك من أم الولد فعسى أن ينالك منها مكروه )) .
وكانت الرابطة بين الصغير والكبير في المجتمع الإسلامي مؤسسة على تعاليم الشرع (( من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا )) .
ومن خصائص الحضارة الشرقية الاطراد في الحياة والمحافظة على لون واحد والتظاهر بمظهر واحد ، فكان الرجل إذا شرع في أمر وتظاهر بمظهر واصله إلى غايته ، وإذا اتخذ عادة أو شارة في اللباس أو عامل أحداً نوع معاملة واظب عليه إلى آخر أنفاسه ، لا تؤثر في ذلك الحوادث ولا تغيره الفصول ولا انحراف الصحة ولا الكسل ولا المصالح .
ولم يكن العمدة في حياة الأسرة والقبائل ولم يكن الميزان في التوقير والشرف هو كثرة المال فيختلف المستوى المالي في أسرة اختلافاً كبيراً ، ويتفاوت الرجال في قبيلة أو قوم تفاوتاً عظيماً في المال والجاه ، فهذا سريٌ مثر وذلك فقير معدم ، ولم يكن يستطيع أحد أن يفرق بينهم ويرفع بعضهم فوق بعض لأجل التفاوت الاقتصادي في مجتمعات الأسر والبيوتات والمآتم ( بمعناها اللغوي ) فإذا شم أحد رائحة الفرق أو نظرة الازدراء ، ثار كالليث ، أو إذا بدرت بادرة من المضيف تنم عن هذا الفصل انسحبت الأسرة كلها من الضيافة وقاطعوا أهل الضيافة ، وكانوا يداً واحدة مع أخيهم المهضوم .
وكان الفقير الصعلوك في قبيلة يواجه الأغنياء والملوك من تلك القبيلة بجرأة وهو معتز بنفسه معتد بشرفه لا يرى في نفسه نقيصة لأجل فقر ، وكان الغني أو الملك يكرمه ويحله المحل اللائق بشرفه ونسبه وفضيلته الذاتية ، بصرف النظر عن رثاثة هيئته وتبذله ، والأزمة الاقتصادية الطارئة على كرم عنصره وصفاء معدنه وطيب منبته ومتانة دينه ووفور علمه .
وكان الفقير في ذلك يبالغ كثيراً في إخفاء عسرته وضنك معيشته ويتحمل ويتجلد ، ويسوءه أن يفطن أحد إلى فاقته ورقة حاله .
وكان ضمير الحر عزيزاً محترماً كدينه وعرضه ، لا يساوم عليه ولا يباع بأي ثمن ، وكان الواحد يفضل الموت الأحمر على كذبة أو خيانة يخلص بها نفسه من الموت .
وقد روى لنا التاريخ الهندي طرائف في هذا الباب لابد أن تكون أمثلتها متوافرة في تاريخ جميع البلاد الإسلامية : منها أن الشيخ رضي الله البداوني اتهم بالاشتراك في الثورة على الإنجليز عام 1857 وحوكم أمام حاكم إنجليزي كان من تلاميذه ، فأوعز إليه الحاكم على لسان بعض الأصدقاء أن يجحد الاتهام فيطلقه . ولكن الشيخ أبى وقال : قد اشتركت في الخروج على الإنجليز فكيف أجحد ؟ واضطر الحاكم فحكم عليه بالإعدام ، ولما قدم للشنق بكى الحاكم وقال له : حتى في هذه الساعة لو قلت مرة : إن القضية مكذوبة عليَّ وإني بريء لاجتهدت في تخليصك ، فغضب الأستاذ وقال : أتريد أن أحبط عملي بالكذب على نفسي ؟ لقد خسرت إذاً وضل عملي، بل قد اشتركت في الثورة فافعلوا ما بدا لكم، وشنق الرجل !!.
ولم يكن صدقهم واعترافهم بما يعملون ويعتقدون مقتصراً على ما يتصل بأنفسهم ، بل كانوا صادقين فيما يتصل بالأمة والشعب ، فلم يكونوا يعرفون العصبية الجنسية والوطنية والجنف القومي الذي أصبح اليوم من واجبات الجنسية والوطنية ، وكانوا يعدون الكذب وشهادة الزور لأجل الأمة والوطن والملة رذيلة وإثماً كبيراً . وكانوا يعتقدون أن أحكام الشرع تعم الفرد والأمة والأمور الشخصية والاجتماعية وكانوا متمسكين بقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } الآية ، وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ } وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } .
ومما يروي لنا الشيوخ من ذلك : أنه وقع نزاع بين الهنادك والمسلمين في قرية كاندهلة من مديرية (( مظفر نكر )) في الولايات المتحدة الهندية على أرض ، فادعى الهنادك أنها معبد لهم ، والمسلمون أنها لهم مسجد . وتحاكموا إلى حاكم البلد الإنجليزي ، فسمع الحاكم القضية ودلائل الفريقين ولم يطمئن إلى نتيجة ، فسأل الهنادك : هل يوجد في القرية مسلم تثقون بصدقه وأمانته أحكم على رأيه ؟ قالوا : نعم ، فلان ؛ وسموا شيخاً من علماء المسلمين وصالحيهم ، فأرسل إليه الحاكم وطلبه إلى المحكمة ، فلما جاءه الرسول قال : قد حلفت أن لا أرى وجه إفرنجي ، ورجع الرسول فقال الحاكم : لا بأس ، ولكن احضر وأدل برأيك في القضية ، فحضر الشيخ وولى دبره إلى الحاكم وقال : الحق مع الهنادك في هذه القضية ، والأرض لهم . وبذلك قضى الحاكم وخسر المسلمون القضية ، ولكن كسبوا قلوب الهنادك وأسلم منهم جماعة .
وكذلك كان الناس يعدون العلم عارية مقدسة ووديعة من الله لا يبيعونه كسلعة في السوق ، ولا يتعاونون به على إثم آثم وعدوان معتد ، وكانوا لا يرضون أن يستعين به نظام جائر أو حكومة غير إسلامية .
ومما حكى لنا الثقات وقرأناه في التاريخ أن الشيخ عبدالرحيم الرامبوري ( م 1234 هـ) كان يعمل في بلدة رامبور براتب زهيد يتقاضاه كل شهر من الإمارة الإسلامية لا يزيد على عشر روبيات ( أقل من جنيه مصري ) فقدم إليه حاكم الولاية الإنجليزي المستر هاكنس وظيفة عالية في كلية بريلي راتبها مائتان وخمسون روبية ( تسعة عشر جنيهاً مصرياً ) ، وذلك يساوي خمسين جنيهاً في هذا العهد ، ووعد بالزيادة في الراتب بعد قليل ، فاعتذر الشيخ عن قبوله وقال : إني أتقاضى عشر روبيات وإنها ستنقطع إذا تحولت إلى هذه الوظيفة . فتعجب الإنجليزي وقال : ما رأيت كاليوم : أنا أقدم راتباً يزيد على راتبك الحالي بأضعاف أضعاف ، وتترك الأضعاف المضاعفة وتقنع بالنزر اليسير !. فتعلل الشيخ بأن في بيته شجرة سدر وهو مغرم بثمرها وأنه سيحرمها إذا أقام في بريلي . ولم يفطن الإنجليزي بعد إلى مقصود الشيخ . فقال : أنا زعيم بأن هذا الثمر يصل إليك من رامبور إلى بريلي ، فتشبث ثالثة بأن حوله طلبة وتلاميذ يقرؤون عليه في بلده فلو انتقل إلى هذه الوظيفة انقطعت دروسهم . ولم ييأس الإنجليزي المناقش من إقناعه فقال : أنا أجري لهم جرايات في بريلي ويواصلون درووسهم هناك ، وهنا أطلق الشيخ آخر سهامه الذي أصمى رميته فقال : وماذا يكون جوابي غداً إذا سالني ربي : كيف أخذت الأجرة على العلم ؟ وهنا بهت الإنجليزي وسقط في يديه وعرف نفسية العالم المسلم ، وقضى الشيخ حياته على أقل من جنيه يأخذه كل شهر .
قارن هذه الروح السامية والنفس الكبيرة التي تربا بالعلم أن يباع بيع السلع , و تغار على العقيدة والكرامة أن تشترى بمال أو منفعة , بهذا التبذل والإسفاف الذي وصل إليه أهل العلم والعقل والصناعة في هذا الزمان , فقد عرض كثير من علمهم وعقلهم وما يحسنونه كالسلع في الأسواق ، يبيعونها بالمناداة ( المزاد العلني ) ليشتريها من يزيد في الثمن كائناً من كان ، فليس الشأن عندهم في العقيدة ولا في الغرض والنتيجة ولا في الملاءمة والذوق ، إنما الشأن عندهم في الثمن الذي يدفعه المشتري .
وكل يوم نطلع على مضحكات مبكيات في هذا الباب ، فهذا الأستاذ كان أمس في معهد إسلامي يدرس العلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي ، وقدمت غليه الكلية الكاثوليكية الفلانية وظيفة تدريس براتب يزيد على راتبه السابق بخمسة جنيهات فانتقل إليها ، وهذا السيد فلان كان في وزارة المعارف سابقاً ، وكان شاباً مثقفاً وعالماً له هوى في التحقيق والدراسة ، تقرأ له مقالات علمية في المجلات الراقية ، فإذا به ينتقل فجأة إلى مصلحة الطيران أو الإذاعة ، وسألناه : ماذا حدث له حتى غير طريقه وقلب تيار حياته ؟ فأخبرنا أن ذلك لأجل أنه يربح في مركزه الجديد عشرة جنيهات ، وهذا البحاثة الفلاني كتب مقالة عن التصوف الإسلامي ونال بها ثناء أهل العلم قد تحول إلى وزارة الخارجية أو أصبح ترجمان دولة أوروبية ، وما هو إلا لأجل زيادة بمقدار بضعة جنيهات ، أوليس هذا لأن الربح المالي قد أصبح كل شيء ، ولأن الذهب اللماع أصبح المتصرف الوحيد في مناهج الحياة والمسيطر الوحيد على الأرواح والعقليات ؟! .
قرأنا في التاريخ الإسلامي أن المنصور الخليفة العباسي المشهور طلب من ابن طاوس في مجلس أن يناوله الدواة ليكتب شيئاً فامتنع ، فسأله الخليفة عن سبب امتناعه وعدم امتثاله أمر خليفة المسلمين ، فقال : أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها ومتعاوناً على الاثم والعدوان . إلى هذا الحد وصل بهم تمسكهم بقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } أما امتناعهم عن قبول منصب القضاء في نظام لا يرضونه ولا يرتاحون إلى سيره وتفاصيله فرواياته بلغت حد التواتر ، واطردت في أدوار الحياة الإسلامية الأولى .
قارن هذا الاحتراس من التعاون على الإثم والعدوان ، وهذا التعفف عن المشاركة في نظام غير صحيح ، والامتناع من أدنى مساعدة لهدف لا يتفق ومصالح الأمة الإسلامية أو يعود عليها بالضرر أو فيه غش وخديعة للأمة . قارن كل ذلك بهذه المساعدة والتعضيد الذي تتمتع به الحكومات الأوربية من المسلمين ، وهذا الذكاء واللباقة والقلم البليغ واللسان الذلق الذي ينتفع به الأجانب منهم في مصالحهم وإداراتهم .
فهنالك شبانٌ مسلمون وكتاب بارعون يتولون تحرير الصحف والمجلات التي تصدرها الحكومات الأجنبية لنشر دعايتها في بلاد المسلمين والتأثير في عقليتهم ونفسيتهم وتمويه الحقائق بمقدرة المأجورين من المسلمين أنفسهم .
وهنالك جماعة من (( الأفاضل )) ينحدرون من أصول عربية صميمة ، وينتمون إلى بيوتات عريقة في المجد والإخلاص والإسلام ، قد جاهد آباؤهم في سبيل الحق ومحق الباطل ، وبقيت نسبتهم في أسمائهم تروي لنا تاريخاً مجيداً عن آبائهم حافلاً بجلائل الأهمال ، وجرى دمهم في عروقهم ، وظهر في ملامح وجوههم وتقاطيعها ، يشتغلون اليوم في الحكومات الأجنبية ، ويستعملون تلك اللغة المضرية الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم ، والتي تكلم بها رسل المسلمين في مجالس ملوك فارس والروم ، فأدوا بها رسالة الإسلام ، وألقوا المهابة في قلوبهم ، والتي ألقى بها القواد المسلمين خطب الجهاد ، بهذه اللغة الكريمة التي لا تليق إلا للبطولة الإسلامية ، وبتلك الكلمات الفصيحة الرائعة التي لا تجمل إلا في مواضع الحق والجهاد ، ينشر هؤلاء دعاية الحكومات الأجنبية التي تعبث بالمسلمين عبث اللاعب بالكرة ، أو عبث الوليد بجانب القرطاس ، وقد رزأتهم في سياستهم واستقلالهم وإيمانهم وعقلهم واقتصادهم ، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .
قد سمعنا منهم أن هذه الحكومات تقوم بجهود نبيلة لخير العروبة والإسلام ورفع شأنهم . وأنها (( نور الحرية الوضاء في عالم ساده الظلام الدامس )) ، وقد سمعناهم يشيدون (( بالخدمات الجلى والمساعدات العظيمة التي تقدمها الإذاعة البريطانية في سبيل نهضة الأقطار العربية وتوحيد تفكيرها وثقافتها وتوثيق الروابط بينها ، وما تقوم به من نشر الثقافة العربية الإسلامية ، وتعريف المسلمين بتاريخهم المجيد ومدنيتهم الزاهرة ، وإطلاع العالم العربي على حقائق الأمور ، وسير الحوادث في نزاهة وتجرد وصدق(251) )) ولطالما سمعناهم وقرأنا لهم إشادة بإيمان هذه الحكومات بالديمقراطية الصحيحة وجهادها لتوطيد الأمن العام وسلام العالم وحرية الأمم المستضعفة والبلاد المهضومة ، ورفعها لراية العدل والمساواة ، والأخذ للمظلوم من الظالم ، وقيامها للحق .. الخ .
فأن كان هؤلاء المتحدثون لا يرضى ضميرهم بما يقولون , ويعرفون أن هذه الكلمات في غير محلها , وإنما هو كله لمصالحهم المالية , فيالانحطاط النفس الشريفة , ويا لرخص السلعة الغالية , ويا ضيعة الكلمات العامرة بالمعاني , ويا شقاء اللغة العربية بأهلها !0وإذا كان ذلك عن اعتقاد وثقة وفهم للمعنى , فيا جهلاً بالحقائق , ويا إنكاراً للمحسوس , ويا مسخاً للقلوب !0
وهذا عصر التناقض فيكتب أديب أو صحافي اليوم كتاباً حماسياً في سيرة بطل من أبطال الجهاد الإسلامي , أو مجدد من مجددي الإسلام , ولا يجف مداد مقالته أو كتابه ذلك حتى يكتب بقلمه تقريظاً أو ثناء على خائن من خونة الأمة , أو صنيعة من صنائع الأجانب لمصلحة سياسية ومنفعة مالية , ولا يرى في ذلك تناقضاً .
طلب ملك من ملوك العرب من شاعر عربي فرسه , فاعتذر أن يعطيها بأي ثمن كان وقال :
أبيت اللعن إن سكاب علق *** نفيس لا تعار ولا تباع
ولكن كأن الضمير عند هؤلاء الذين يشتغلون في الحكومات الأجنبية ، أو يذيعون من محطاتها ما لا يرضى به ضميرهم ولا يصدق علمهم ، أو يصدرون صحفاً ، أو يؤلفون كتباً على جعالة أو راتب شهري ؛ أذل وأرخص من جواد الجاهلي فهو يعار ويباع ، وذلك لم يكن لعيار ولا ليباع .
وكانت الروابط والأواصر في الشرق – في الغالب – قائمة على أساس غير مادي إما عقلي وإما روحي ووجداني ، وكان للأثرة والأنانية فيها نصيب ضئيل ، وكان نتيجة ذلك وجود روابط وأواصر لا يمكن تعليلها بالمادة وجر النفع إلى أصحابها ، وكانت هذه الروابط متغلغلة في الأحشاء ؛ فمن ذلك أن علاقة التلميذ بأستاذه وإخلاصه وحبه له في العهد السابق ، يزري بعلاقة الولد بوالده وحبه له في هذا العصر .
اشتهر نبأ وفاة الأستاذ الشهير العلامة نظام الدين اللكهنوي ( م 1161 هـ ) صاحب منهاج الدرس النظامي الجاري تطبيقه في الهند وخراسان ، فلما أتى النعي تلميذه السيد كمال الدين العظيما بادي ، مات من شدة الحزن ، وعمي تلمذه الآخر (( ظريف العظيما بادي )) من كثرة البكاء ، وتحقق بعد ذلك أن الإشاعة كانت غير صحيحة(252) ، ولعل ذهن هذا العصر لا يسيغ هذه الرواية ، ولكن الذي عرف طبيعة الشرق ، ومدى اتصال التلميذ هنالك بأستاذه وحبه له لم يستغرب هذه الرواية ولم يكذبها .
يعلم المطلع على تاريخ الأخلاق وفلسفتها أنه قد ظهرت مدرسة في أوربا قبل المسيح بأربعة قرون ، وكان لها أنصار من كبار الفلاسفة والأخلاقيين إلى القرن التاسع عشر المسيحي ، تدين باللذة البدنية وتعتقد أنها ميزان للأخلاق ومعيار الأعمال ، وتشير على أتباعها بأن يهتبلوا فرص التمتع بالحياة الدنيا ويغتنموا فلتات الدهر .
وافترق أصحاب هذه المدرسة فرقتين ؛ فمنهم ؛( أولو الأثرة ) الذين يقولون : ينبغي أن لا يحول بين الإنسان وشهواته حائل حتى لا يدع حاجة في نفسه إلا قضاها ، فينال بذلك النصيب الأكبر من اللذة والهناءة وقالوا : السعادة هي إرضاء الشهوة وقضاء مآرب النفس واقتطاف قطوف المسرة واللذة باليدين .
والفرقة الثانية هم ( النفعيون ) ويرى أهل هذا المذهب أن الواجب هو تحصيل المنفعة التي ينال بها أكبر عدد من أفراد البشر أوفر قسط من اللذة والهناء ، ولا وزن للأفعال الخلقية في نظرهم إلا بما تأتي به المسرة لغالب بني النوع ، ويرى هؤلاء أن السعادة هي أن تتوافر للناس بأعمالهم اللذات وتبعد عنهم الآلام .
ويرى القارئ ويلمس الروح المادي المتعشق للذة والهناء في آراء هذا المذهب ونزعاته من أحطها وأكثرها إسفافاً إلى أرقاها وأكثرها تحليقاً ، وهذا يختلف عن طبائع الشرق وشرائع السماء اختلافاً بيناً . وقد أثرت هذه النزعة المادية في فلسفة الغرب وأخلاقه وأدابه وحضارته تأثيراً عميقاً ، ولا تزال مهيمنة على الحياة الغربية وآدابها حتى اليوم .
ثم نزعوا دائماً في تشخيص المنفعة ووزنها إلى المادية لأنهم احتكموا فيها إلى أذهانهم وعقولهم ، وقد أصبحت مادية بحتة ، لأنها بحقيقة لا تأتي تحت الحس أو المساحة أو العد أو الوزن، ولا تؤمن بمنفعة لا تجلب لذة وهناء، حتى مؤسس هذا المذهب ((أبيقور م 271ق.م)) صرح بأن مناط الحكم على الأعمال هي المنفعة ، وأن المنفعة لا قيمة لها إلا إذا اجتلبت لذة واغتباطاً ، فكيف وقد تدرجت العقول والطبائع الغربية ومردت على النزوع المادي على تعاقب الأجيال والعصور ؟! .
فكان نتيجة ذلك أن الذهن الغربي والمنطق العصري أصبحا عاجزين عن الاهتداء إلى منفعة غير محسوسة لا تجلب لذة واغتباطاً ، وأصبح العقل الأوربي محامياً عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية ، وبحسب ما يكتسب المجتمع بواسطتها من اللذة والهناء ، والأفراد من الاغتباط والرخاء ، فأصبح الربح المادي هو الميزان للأخلاق والفارق بين الشر والخير ، وأصبحت الأخلاق التي لا وزن لها في ميزان المادة ، ليس لها قيمة إلا القيمة الدينية أو الخلقية في المصطلح القديم ينتقص كل يوم سلطانها على القلوب والعقول ، وتعدم أنصاراً وتصبح من شعائر القديم وذكريات العهد الماضي كحنان الأبوين وحبهما للأولاد ، ووفاء الأزواج وحفظهن للغيب ، وتحل محل هذه الأخلاق المقدرة الصناعية والاختراع والإنتاج والوطنية والجنسية ولا تزال ترتفع قيمتها ويرجع وزنها .
ولا يزال المجتمع العصري يستغني عن الروابط المنزلية والأرحام الدموية والشرائع الخلقية بتنظيمات اجتماعية شعبية على الخطوط السياسية والصناعية والاقتصادية . ولا يهم المجتمع الآن كيف يعامل الولد والده أو الزوجة زوجها إذا كان هؤلاء الأفراد لا يزالون في الدائرة المدنية التي اختطها المجتمع حول أفراده ؛ وما دام لا يحدث عملهم هذا اضطراباً في المجتمع وثورة على النظام ولا يعرقل سير المدينة فلا بأس إذا كان هنالك عقوق من ولد أو فرك من قرينة أو جفاء من زوج أو دعارة من امرأة أو فسق من رجل أو خيانة من زوجة .
******************************
الباب الخامس
قيادة الإسلام للعالم
الفصل الأول
نهضة العالم الإسلامي
اتجاه العالم بأسره إلى الجاهلية :
لأسباب تاريخية عقلية ، طبيعية قاسرة ، ذكرناها في البحوث السابقة ، تحولت أوربا النصرانية جاهلية مادية ، تجردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية ، وفضائل خلقية ، ومبادئ إنسانية ، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية ، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة ، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة ، وثارت على الطبيعة الإنسانية ، والمبادئ الخلقية ، وشغلت بالآلات ، واستهانت بالغايات ، ونسيت مقصد الحياة ، وبجهادها المتواصل في سبيل الحياة وبسعيها الدائب في الاكتشاف والاختبار مع استهانتها المستمرة بالتربية الخلقية وتغذية الروح وجحود بما جاءت به الرسل ، وبإمعانها في المادية ، وبقوتها الهائلة مع فقدان الوازع الديني ، والحاجز الخلقي ، أصبحت فيلاً هائجاً ، يدوس الضعيف ، ويهلك الحرث والنسل ، وبانسحاب المسلمين من ميدان الحياة وتنازلهم عن قيادة العالم وإمامة الأمة ، وبتفريطهم في الدين والدنيا ، وجنايتهم على أنفسهم وعلى بني نوعهم ، أخذت أوربا بناصية الأمم ، وخلفتهم في قيادة العالم ، وتسيير سفينة الحياة والمدنية التي اعتزل ربَّانُها ، وبذلك أصبح العالم كله – بأممه وشعوبه ومدنياته – قطاراً سريعاً تسير به قاطرة الجاهلية والمادية إلى غايتها ، وأصبح المسلمون – كغيرهم من الأمم – ركاباً لا يملكون من أمرهم شيئاً ، وكلما تقدمت أوربا في القوة والسرعة ، وكلما ازدادت وسائلها ووسائطها ، ازداد هذا القطار البشري سرعة إلى الغاية الجاهلية حيث النار والدمار والاضطراب والتناحر والفوضى الاجتماعي والانحطاط الخلقي والقلق الاقتصادي والإفلاس الروحي ، وها هي أوربا تستبطئ الآن أسرع قطار ، وتريد أن تصل إلى غايتها بسرعة الطائرة بل بسرعة القوة الذرية .

استيلاء الفلسفة الأوربية على العالم :
وليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها وتزاحمها في سيرها وتعارضها في وجهتها وتناقشها في مبادئها وفلسفتها الجاهلية ، ونظام حياتها المادي لا في أوربا ولا في أمريكا ، ولا في أفريقية وآسيا ، والذي نرى ونسمع من خلاف سياسي ونزاع بين الأمم فإنما هو تنافس في القيادة ، وتنازع فيمن يكون هو القائد إلى هذه الغاية المشتركة ، فدل المحور إنما كانت تكره أن يبقى الحلفاء مستبدين بالقيادة العالمية منذ زمن طويل ، مستأثرين بموارد الأرض وخيرتها وأسواقها ومستعمراتها ، وبشرف السيادة على العالم وحدهم مع أنها لا تقل عنهم في القوة والعلم والنظام والنبوغ والذكاء ، بل ربما تفوقهم ، أما إنها كانت تريد أن تسير إلى غاية أخرى وأن تقوم بدعوة المسيح ، وتقيم في الأرض القسط ، وأن تقود الأمم الدين والتقوى وتنصرف بها وتتجه من المادية إلى الروحانية والأخلاق ، فهيهات هيهات .
أما روسيا الشيوعية فليست إلا ثمرة الحضارة الغربية ، قد أينعت وادركت . ولا تمتاز عن الشعوب والدول الأوربية إلا أن روسية قد خلعت جلباب النفاق والزور ونفذت ما تزوره وتبطنه الأمم الغربية منذ زمن طويل ، وتعتقده منذ قرون في الأخلاق والاجتماع ، وقد استبطأت روسية سير هاتيك الأمم والدول في سبيل الإلحاد واللادينية والإباحية والمادية البهيمية فهي تريد أن تتولى قيادة العالم، وتسير بالأمم الإنسانية سيراً حثيثاً إلى ما وصلت إليه.

الشعوب والدول الآسيوية :
أما الشعوب والدول الآسيوية والأمم الشقية فهي في طريقها إلى الغاية التي وصلت إليها شعوب أوربا في الحضارة والسياسة ، وتدين بما تدين به هذه الشعوب في الأخلاق والآداب والاجتماع وتعتقد ما تعتقده عن الحياة والكون ، وتتحلى به من سيرة وخلق وتهذيب ، إلا أنها لا ترضى أن يتولى أمرها النزلاء الأجانب ويقيموا عليها الحجر كما يقام على السفيه ، وأن تكون للأوربيين عليها دول وإمبراطوريات ينعمون في ظلها ويرتعون في جنباتها ، ولا يكون لها مثلها في الشرق وأفريقية وآسية ، ولا تستمتع حتى في داخل بلادها بما استمتع به الأوربيين ماديتهم وتنقم منهم أخلاقهم وسيرتهم وتنعى عليهم فلسفتهم ومبادئهم فلعل ذلك لا يخطر منها على بال ، بل قد زين لها كل ما تتصف به الأمم الأوربية فحلا في عينها .
وكلما سنحت لهذه الأمم فرصة الاستقلال وملكت زمام أمورها تجلت أخلاقها ومبادئها وظهرت سيرتها الجاهلية في صورتها الطبيعية الحقيقية ، فإذا هي أفضع صورة وأبشعها في التاريخ ، قساوة قلب وضراوة بالدم الإنساني وهتكاً للأعراض ونهباً للأموال وقتلاً وتدميراً ، وقد ظهرت من بعض هذه الشعوب الآسيوية على أثر استقلالها من الحكم الأجنبي فظائع ومنكرات تستبشعها الوحوش والسباع وتستك منها الأسماع ، فقد عاملت بعض الشعوب المواطنة بعصبية دينية وسياسية ، معاملة عز نظيرها في التاريخ ، رضعاء يقتلون ويُقطعون إرباً إرباً ، ونساء تهتك أعراضهن ثم يقتلن من غير رحمة ولا حياء ، وآبار تسمم وبيوت تهدم ونيران تشعل وقنابل تقذف ، وإذا دخلوا قرية فاتحين منتشرين أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ووضعوا فيها السيف ، وعاث الوحوش في الدماء والأعراض حتى أقفرت القرى ، وامتلأت الآبار بالسيدات اللاتي آثرن الموت على هتك الأعراض ، هذا عدا نساء قتلن بهمجية وطرق فظيعة لم تسبق في التاريخ ، إلى غير ذلك من الأفاعيل التي يشك فيها الناس في البلاد الإسلامية والمتحضرة .
هذا غير ذلك الاضطهاد الديني والمقاطعة الاجتماعية التي تلقاها تلك الطوائف في بلادها ، وما تلقى ثقافتها وديانتها من مطاردة ومهاجمة من تلقاء هذه الشعوب فتحرم الحرية الثقافية واللسانية وترغم على لغة مصطنعة دائرة ، ويحاول الأقوياء أن يمحوا كل أثر من آثار حضارتها وثقافتها ويختلقوا عليها الأكاذيب والجنايات ، ويمثلوا قصة الحمل والذئب كل يوم ، فيعزل رجالها من الوظائف وتسد في وجوههم أبواب المعاش والتجارة والحرف ، وتقفل دكاكينهم ومحالهم التجارة وتصادر أملاكهم وأموالهم بعلل واهية مضحكة .
ثم إن هذه الأمم أفلست إفلاساً شائناً في الدين والأخلاق ، وقد أشربت في قلوبها حب المال والمادة ، وتسلط عليها شيطان الأثرة والجشع حتى ضجت منها الحكومات وتعبت ، فقد ارتفعت الأسعار ارتفاعاً فاحشاً ، فلما التجأت الحكومة إلى التسعير اختفت السلع والأموال ، وأصبح الناس لا يجدون كسوة ولا طعاماً ولا حاجة إلا بالسعر الذي يريده التاجر ، فنفقت السوق السوداء وشاعت الجنايات والخيانات والارتشاء والتهريب ، وأصبحت الحكومة والتجار كفرسي رهان أو قرني ميدان ، كل يريد أن يغلب صاحبه وينتهز غرته ، وأصبح الناس حبة بين حجري الرحى لا يدرون كيف يفعلون .
وقد حاول رجال الإصلاح والديانة أن ينفخوا في هذه الأمم حياة جديدة ويبنوا فيها روح الأخلاق والفضيلة والأمانة والاقتصاد فأخفقوا إخفاقاً تاماً ، وعملوا أن خلق أمة بأسرها أهون من إصلاح هذه الأمم وتهذيبها وقد انقطعت مادتها وانقضى أجلها .
وهكذا أصبح العالم شرقاً وغرباً في أزمة روحية وخلقية واجتماعية واقتصادية تطلب حلاً سريعاً عاجلاً .

الحل الوحيد للأزمة العالمية :
والحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة .
إن تحول القيادة من بريطانيا إلى أمريكا ومنهما جميعاً إلى روسيا لا يغني غناء ولا يغير من الموقف شيئاً ، فإن هذا التحول ليس إلا نقا المجداف من الموقف شيئاً ، فإن هذا التحول ليس إلا نقل المجداف من اليمين إلى الشمال إذا تعبت الأولى أو بالعكس ، فما دام المجداف واحداً فلا فرق بين يمينه وشماله ، وليست بريطانيا وأمريكا وروسيا إلا أيدي رجل واحد تتداول دفة الحياة ، وتتناوب تجديف السفينة على خط واحد إلى جهة واحدة .
إن التحول المؤثر الواضح هو تحول القيادة من أوربا – بالمعنى الواسع الذي يشمل بريطانيا وأمريكا وروسيا ومن كان على شاكلتها من الأمم الآسيوية والشرقية – التي تقودها المادية والجاهلية ، إلى العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا صلى الله عليه وسلم برسالته الخالدة ودينه الحكيم .
هذا هو التحول الذي يغير وجه التاريخ ويحول مجرى الأمور وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي ترقبه .
إن حقاً على العالم الإسلامي أن يُمني نفسه بهذا المنصب الخطير ، ويطمح إليه ، وإن حقاً على كل بلد إسلامي وشعب إسلامي أن يشد حيازيمه لذلك ، وإن حقاً على كل مسلم أن يجاهد في سبيله ويبذل ما في وسعه ، فهذه هي المهمة الشريفة التي نيطت بالأمة الإسلامية يوم برزت إلى عالم الوجود ، ويوم طهرت نواتها في جزيرة العرب .

العالم الإسلامي على أثر أوربا :
من الغريب الواقع أن المسلمين قد أصبحوا في الزمن الأخير في كثير من نواحي الأرض حتى في مراكز الإسلام وعواصمه حلفاء للجاهلية الأوربية وجنوداً متطوعين لها ، بل صار بعض الشعوب والدول الإسلامية يرى في الشعوب الأوربية التي تزعمت حركة الجاهلية منذ قرون ونفخت فيها روحاً جديدة ، وركزت أعلامها على الشرق والغرب ، ناصراً للمسلمين ، حامياً لذمار الإسلام المستضعف ، حاملاً لراية العدل في العالم قوَّاماً بالقسط .
ورضي عامة المسلمين بأن يكونوا ساقة عسكر الجاهلية بدل أن يكونوا قادة الجيش الإسلامي ، وسرت فيهم الأخلاق الجاهلية ومبادئ الفلسفة الأوربية سريان الماء في عروق الشجر والكهرباء في الأسلاك ، فترى المادية الغربية في البلاد الإسلامية في كثير من مظاهرها وآثارها ، ترى تهافتاً على الشهوات ونهماً للحياة ، نهم من لا يؤمن بالآخرة ، ولا يوقن بحياة بعد هذه الحياة ، ولا يدخر من طيباتها شيئاً . وترى تنافساً في أسباب الجاه والفخار وتكالباً عليها فعل من يغلو في تقويم هذه الحياة وأسبابها ، وترى إيثاراً للمصالح والمنافع الشخصية على المبادئ والأخلاق ، شأن من لا يؤمن بني ولا بكتاب ، ولا يرجو معاداً ، ولا يخشى حساباً ، وترى حباً للحياة وكراهة للموت ، دأب من يعد الحياة الدنيا رأس بضاعته ، ومنتهى أمله ومبلغ علمه ، وترى افتتاناً بالزخارف والمظاهر الجوفاء كالأمم المادية التي ليس عندها أخلاق ولا حقيقة حية ، وترى خضوعاً للإنسان ، واستكانة للملوك والأمراء ورجال الحكومة والمناصب وتقديسهم شأن الأمم الوثنية وَعَبَدَةِ الأصنام .

المسلمون على علاتهم موئل الإنسانية وأمة المستقبل :
ولكن برغم كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف فإنهم هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض ، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم ، ومزاحمتها في وضع العالم ، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها ، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى ، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة ، والتي يحرّم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية .
هذه هي الأمة التي يكن أن تعود في حين من الأحيان خطراً على النظام الجاهلي الذي بسطته أوروبا في الشرق والغرب وأن تحبط مساعيها .
وقد وصف هذا الخطر شاعر الإسلام الحكيم (( محمد إقبال )) في قصيدته البديعة : ( برلمان إبليس ) على لسان إبليس ، ذكر فيها أن الشيطان وزملاء إبليس وأعوانه اجتمعوا في مجلس شورى ، وتباحثوا في سير العالم وأخطار الغد وفتنة ، وما يتوجسون من خيفة على نظامهم الإبليسي ومهمتهم الشيطانية ، فتذكروا في فتن وأخطار قد أحدقت بهم وهددت نظامهم ، وجللوا خطبها وتناذروا شرها ، فذكروا أحدهم الجمهورية وحسب لها حساباً كبيراً ، فقال الثاني : لا يهولنك أمرها فإنها ليست إلا غطاء للملوكية ، ونحن الذين كسونا الملوكية اللباس الجمهوري ، إذا رأينا الإنسان بدأ يتنبه ويفيق ويشعر بكرامته ، وخفنا ثورة على نظامنا قد لا تحمد عاقبتها ، فألهيناه بلعبة الجمهورية ، وليس الشأن في الأمير والملك . إن الملوكية لا تنحصر في وجود شخص ترتكز فيه الملوكية وفرد يستبد بالسلطان ، إنما الملوكية أن يعيش الإنسان عيالاً على غيره مستشرفاً إلى متاع غيره ، سواء في ذلك الشعب والفرد . أما رأيت نظام الغرب الجمهوري وجه مشرق وضاح وباطنه أظلم من باطن جنكيز خان ؟ .
فقال الآخر : لا بأس إذا بقيت روح الملوكية ، ولكن ماذا يقول النائب المحترم في هذه الفتنة الدهماء التي أثارها هذا اليهودي الذي يدعى كارل ماركس ذلك الباقعة الذي ليس نبياً ولكنه يحمل عند أتباعه كتاباً مقدساً ، هل عندك نبأ أنه أقام العالم وأقعده ، وأثار العبيد على السادة حتى تزعزعت مباني الإمارة والسيادة ؟ .
فقال الآخر مخاطباً رئيس المجلس : يا صاحب الفخامة ، إن سحرة أوربا وإن كانوا مريديك المخلصين ولكني لم أعد أثق بفراستهم ، ها هو السامري اليهودي الذي هو نسخة من مزدك ( الزعيم الفارسي الاشتراكي ) قد كاد يأتي على العالم بقواعده فاستنسر البغاث ، وأصبح الصعاليك يزحمون الملوك بالمناكب ويدفعونهم بالراح ( أعلام أرض جعلت بطائحاً ) إنا قد استهنا بخطب هذه الحركة الاشتراكية وها هي قد استفحلت نفاقم شرها ، وها هي الأرض ترجف بهول فتنة الغد ، سيدي إن العالم الذي كنت تحكمه سينقض عليك ، إذا ينقلب النظام العالم ظهراً لبطن .
فتكلم رئيس المجلس ( أبليس ) وقال : إني أملك زمام العالم وأتصرف به كيف أشاء ، وسيرى العالم عجباً إذا حرشت بين الأمم الأوربية فتهارشت تهارش الكلاب ، وافترس بعضها بعضاً فعل الذئاب ، وإذا همست في آذان القادة السياسيين وأساقف الكنائس الروحانيين فقدوا رشدهم وجن جنونهم .
أما ما ذكرتم عن الاشتراكية فكونوا على ثقة أن الخرق الذي أحدثته الفطر بين الإنسان و الإنسان لايرفؤه المنطق المزدكي (الفلسفة الاشتراكية ) لا يخوفني هؤلاء الاشتراكيون الطرداء والصعاليك السفهاء .
إن كنت خائفاً فإني أخاف أمة لا تزال شرارة الحياة والطموح كامنة في رمادها ,ولا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع وتسيل دموعهم على خدودهم سحراً ، لا يخفى على الخبير المتفرس أن الإسلام هو فتنة الغد وداهية المستقبل ، ليست الاشتراكية .
أنا لا أجهل أن هذه الأمة قد اتخذت القرآن مهجوراً ، وأنها فتنت بالمال وشغفت بجمعه وادخاره كغيرها من الأمم ، أنا خبير أن ليل الشرق داج مكفهر ، وأن علماء الإسلام وشيوخه ليست عندهم تلك اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات ويضيء لها العالم ، ولكن أخاف أن قوارع هذا العصر وهزته ستقض مضجعها وتوقظ هذه الأمة وتوجهه إلى شريعة ( محمد صلى الله عليه وسلم ) أنى أحذركم وأنذركم من دين ( محمد صلى الله عليه وسلم ) حامي الذمار ، حارس الذمم والأعراض ، دين الكرامة والشرف ، دين الأمانة والعفاف ، دين المروءة والبطولة ، دين الكفاح والجهاد ، يلغي كل نوع من أنواع الرق ، ويمحو كل أثر من آثار استعباد الإنسان ، لا يفرق بين مالك ومملوك ، ولا يؤثر سلطاناً على صعلوك ، يزكي المال من كل دنس ورجس ويجعله نقياً صافياً ، ويجعل أصحاب الثروة والملاك متسخلفين في أموالهم(253) أمناء لله وكلاء على المال . وأي ثورة أعظم وأي انقلاب أشد خطراً مما أحدثه هذا الدين في عالم الفكر والعمل يوم صرخ أن الأرض لله لا للملوك والسلاطين .
فابذلوا جهدكم أن يظل هذا الدين متوارياً عن أعين الناس ، وليهنكم أن المسلم بنفسه هو ضعيف الثقة بربه قليل الإيمان بدينه ، فخير لنا أن يبقى مشتغلاً بمسائل علم الكلام والإلهيات وتأويل كتاب الله والآيات ، اضربوا على آذان المسلم فإنه يستطيع أن يكسر طلاسم العالم ويبطل سحرنا بأذانه وتكبيره ، واجتهدوا أن يطول ليله ويبطئ سحره ، اشتغلوا يا إخواني عن الجد والعمل حتى يخسر الرهان في العالم . خير لنا أن يبقى المسلم عبداً لغيره ، ويهجر هذا العالم ويعتزله ويتنازل عنه لغيره زاهداً فيه ، واستخفافاً لخطره ، يا ويلتنا ويا شقوتنا لو انتبهت هذه الأمة التي يعزم عليها دينها أن تراقب العالم وتعسّه .

رسالة العالم الإسلامي :
لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها ، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة ، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها .
وهي الرسالة نفسها التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى ، والتي لخصها أحد رسلهم في مجلس يزدجرد ملك إيران بقوله : (( الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف ، فهي منطبقة تمام الانطباق على القرن العشرين انطباقها على القرن السادس المسيحي ، كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية .
فلا يزال الناس اليوم عاكفين على أصنام لهم – من أوثان منحوتة ومنجورة ومقبورة ومنصوبة – ولا تزال عبادة الله وحده مغلوبة غريبة ، ولا تزال الفتنة قائمة على قدم وساق ، ولا يزال إله الهوى يعبد ، ولا يزال الأحبار والرهبان والملوك والسلاطين وأصحاب القوة والثروة والزعماء والأحزاب السياسية أرباباً من دون الله تقرب لها القرابين وينصب لها الجبين.
وكذلك العالم اليوم رغم اتساعه وتوفر وسائل السفر والانتقال من مكان إلى مكان ، واتصال الشعوب والأمم بعضها ببعض أضيق بأهله منه بالأمس ، قد ضيقته المادية التي لا تنظر إلا إلى قدمها ولا تؤمن إلا بفائدة صاحبها ، ولا تعرف غير العكوف على الشهوات وعبادة الذات ، وقد خنقته الأثرة التي لا تسمح لاثنين بالعيش في إقليم واسع ، والوطنية الضيقة التي تنظر إلى كل أجنبي شزراً وتجحد له كل فضل وتحرمه كل حق .
ثم ضيق خناق هذه الحياة المادية المسيطرون السياسيون الذين يحتكرون وسائل الحياة والرزق والقوت ، ويضيقون هذه الحياة لمن شاؤوا ويسعونها لمن شاؤوا ، ويبسطون الرزق – زعموا – لمن شاؤوا ويقدرونه لمن شاؤوا ، فأصبحت المدن الواسعة أضيق من جحر ضب ، وأصبح الناس في بلادهم في شبه حجر كحجر السفيه واليتيم وضاقت على الناس الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ، وأصبح الناس في أغلال وأصفاد من المدينة والمملكة مُهددين في كل وقت بمجاعات مصطنعة وحقيقية ، وحروب خارجية وداخلية ، وإضرابات واضطرابات أسبوعية ويومية .
نعم ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ! ولا تزال في هذا العصر المتنور الواعي المثقف أديان تعبث بعقول الناس وتسخرهم كالحمير والبقر ، وتزين لأتباعها قتل مئات من البشر لأجل بقرة ذبحت في عيد الأضحى ، أو شجرة مقدسة عُضدت في قرية من القرى .
وهنالك أديان بغير اسم الأديان لا تقل في نفوذها وسلطانها ولا تقل في جورها وعدوانها وعبثها بعقول أتباعها وفي عجائبها عن الأديان القديمة ، وهي والنظم السياسية والنظريات الاقتصادية التي يؤمن بها الناس كدين ورسالة ، كالجنسية والوطنية ، والديموقراطية والاشتراكية ، والدكتاتورية والشيوعية ، وهي أقل مسامحة لمن لا يدين بها وأشد قسوة على منافسيها ، وأضيق عطفاً من الأديان الجاهلية ، والاضطهاد السياسي اليوم أفضع من الاضطهاد الديني في القرون المظلمة ، فإذا تغلب حزب من الأحزاب الوطنية أو ساد مبدأ من المبادئ السياسية . أو انتصر فريق على فريق في الانتخاب ، سد في وجه منافسه الأبواب وعذبه أشد العذاب ، وما حرب أسبانيا الأهلية التي دامت مدة طويلة ، وسفكت فيها دماء غزيرة ، وما حرب الصين التي قامت بين الجمهوريين والشيوعيين من أهل الصين ، وحرب ((كوريا)) التي قامت بين الجنوبيين والشماليين ، إلا نتيجة اختلاف في العقيدة السياسية والنظريات الاقتصادية .
فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر ، وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده ، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر ، فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوآتها للناس واشتد تذمر الناس منها ، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام ، لو نهض العالم الإسلام ، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة ، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من الانهيار والانحلال .

الاستعداد الروحي :
ولكن العالم الإسلامي لا يؤدي رسالته بالمظاهر المدينة التي جادت بها أوربا على العالم ، وبحذق لغاتها وتقليد أساليب الحياة التي ليست من نهضة الأمم في شيء ، إنما يؤدي رسالته بالروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم إفلاساً فيها ، وينتصر بالإيمان والاستهانة بالحياة والعزوف عن الشهوات ، والشوق إلى الشهادة والحنين إلى الجنة ، والزهد في حطام الدنيا وتحمل الأذى في ذات الله صابراً محتسباً قال الله تعالى : {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } فقوة المؤمن وسر انتصاره في إيمانه بالآخرة ورجائه لثواب الله ، فإذا كان العالم الإسلامي لا يرمي إلا إلى ما تراه أوربا من العرض القريب ، ولا يطمح إلا فيما تطمح فيه أوربا من حطام الدنيا ، ولا يؤمن إلا بما تؤمن به أوربا من المحسوسات والماديات ، كانت أوربا بقوتها المادية أحق بالانتصار والسيادة من العالم الإسلامي الذي يتخلف عنها في القوة المادية تخلفاً شائناً ولا يفوقها في القوة المعنوية .
لقد أتى على العالم الإسلامي حين من الدهر وهو مستخف بهذه القوة المعنوية لا يحتفل بها ، ولا يحتفظ بالبقية منها ، ولا يغذيها ، حتى نضب معينها في قلبه ، فلما خاض العالم الإسلامي في المعارك التي تحتاج إلى الإيمان ، والصبر والثبات ، وتحمل الشدائد والنكبات ، وزلزل بعض الزلزل ، ولجأ إلى القوة المعنوية الكامنة في نفوس المسلمين ، كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، هنالك عرف أنه قد جنى على نفسه جناية عظيمة بإهمال هذه القوة الروحية وتضييعها ، وبحث في جعبته فلم يجد شيئاً يسد مكانها ويغني غناءها .
وخاض العالم الإسلام في معارك حاسة ، وهو يرى أن المسلمين تقوم قيامتهم ، وسوف يهرعون للدفاع عن الإسلام وحماية بلادهم المقدسة ، ويغضبون لله ورسوله وحُرماته ، وإن الأقطار الإسلامية تشتعل ناراً وتتوقد حمية وحماسة ، فإذا الحادث لم يؤثر في العالم الإسلامي التأثير المنتظر ، وإذا النظر ضئيل والسخط خافت ، وإذا العالم الإسلامي كعادته – في غدواته وروحاته – منهمك في لذاته وشهواته ، كأن لم يحدث كبير شيء ، فعرف أن الحملة الدينية قد ضعفت في العالم الإسلامي ، وأن شعلة الجهاد قد انطفأت أو كادت ، وهنالك عرف الناس ضعف العالم الإسلامي وخذلانه وهوأنه على أنفسهم .
فالمهم الأهم لقادة العالم الإسلامي ، وجمعياته وهيئاته الدينية وللدول الإسلامية غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية ، ونشر الدعوة إلى الله ورسوله ، والإيمان بالآخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأولى ، لا تدخر في ذلك وسعاً ، وتستخدم لذلك جميع الوسائل القديمة والحديثة . وطرق النشر والتعليم ، كتجوال الدعاة في القرى والمدن . وتنظيم الخطب والدروس ، ونشر الكتب والمقالات ، ومدارسة كتب السيرة ، وأخبار الصحابة ، وكتب المغازي والفتوح الإسلامية ، وأخبار أبطال الإسلام وشهدائه ، ومذاكرة أبواب الجهاد ، وفضائل الشهداء ، وتستخدم لذلك الراديو والصحافة وكتب الأدب ، وجميع القوى والوسائل العصرية .
والقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان ، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي ، وتجعلا من أمة مستسلمة ، منخذلة ناعسة ، أمة فتية متلهبة حماسة وغيرة وحنقاً على الجاهلية وسخطاً على النظم الجائرة .
أن علة العالم الإسلامي هو الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها ، والارتياح إلى الأوضاع الفاسدة والهدوء الزائد في الحياة ، فلا يقلقه فساد ، ولا يزعجه انحراف ، ولا يهيجه منكر ، ولا يهمه غير مسائل الطعام واللباس ، ولكن بتأثير القرآن والسيرة النبوية – إن وجدا إلى القلب سبيلا – يحدث صراع بين الإيمان والنفاق ، واليقين والشك ، بين المنافع العاجلة والدار الآخرة ، وبين راحة الجسم ونعيم القلب ، وبين حياة البطالة وموت الشهادة ، وصراع أحدثه كلا نبي في وقته ، ولا يصلح العالم به ؛ حينئذ يقوم في كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي ، بل في كل أسرة إسلامية في كل بلد إسلامي {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى{13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }
هنالك تتجدد ذكرى بلال ، وعمار ، وخباب ، وحبيب ، وخُبيب ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن مظعون ، وأنس بن النضر ، هنالك تفوح روائح الجنة ، وتهب نفحات القرن الأول ، ويولد للإسلام عالم جديد لا يشبه العالم القديم في شيء ...

الاستعداد الصناعي والحربي :
ولكن مهمة العالم الإسلامي لا تنتهي هنا ، فإذا أراد أن يضطلع برسالة الإسلام ويملك قيادة العالم فعليه بالمقدرة الفائقة ، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب ، وأن يستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة ، وفي كل حاجة من الحاجات ، يقوت ويكسو نفسه ، ويصنع سلاحه ، وينظم شؤون حياته ، ويستخرج كنوز أرضه وينتفع بها ، ويدير حكوماته برجاله وماله ، ويمخر بحار المحيط به بسفنه وأساطيله ، ويحارب العدو ببوارجه ودباباته وأسلحة بلاده ، وتزيد صادراته على وارداته ، ولا يحتاج إلى الاستدانة من الغرب ، ولا يضطر إلى أن يلجأ إلى راية من راياته وينظم إلى معسكر من معسكراته .
أما ما دام العالم الإسلامي خاضعاً للغرب في العلم والسياسة والصناعة والتجارة ، يمتص الغرب دمه ، ويحفر أرضه فيستخرج منها ماء الحياة ، وتغزو بضائعه أسواق العالم الإسلامي وبيوته وجيوبه كل يوم فتستخرج منها كل شيء ، وما دام العالم الإسلامي يستدين من الغرب الأموال ، ويستعير منه الرجال ، ليديروا حكومته ، ويشغلوا الوظائف الخطيرة ويدربوا جيوشه ويستورد منه البضائع ويجلب منه الصنائع ، وينظر إليه كأستاذ ومرب ، وسيد ورب ، لا يبرم أمراً إلا بإذنه ولا يصدر إلا عن رأيه ، فلا يستطيع أبداً أن يواجه الغرب فضلاً عن أن يناهضه ويغالبه .
هذه هي الناحية العلمية والصناعية التي أخل بها العالم الإسلامي في الماضي فعوقب بالعبودية الطويلة والحياة الذليلة ، وابتلي العالم الإسلامي بالسيادة الأوربية الجائرة التي ساقت العالم إلى النار والدمار والتناحر والانتحار ، فإن فرط العالم الإسلامي مرة ثانية في الاستعداد العلمي والصناعي والاستقلال في شئون حياته كتب الشقاء للعالم وطالت محنة الإنسانية وبلاؤها .

تبوء الزعامة في العالم والتحقيق :
وقد تنازل العالم الإسلامي – بما فيه العالم العربي – منذ زمن طويل عن مكانته في القيادة العلمية والتوجيه ، والاستقلال الفكري ، وأصبح عيالاً على الغرب متطفلاً على مائدته حتى في اللغة العربية وآداب اللغة وعلومها ، وحتى في علوم الدين كالتفسير والحديث والفقه . وأصبح المستشرقون هم المرشدين الموجّهِين في البحث والتحقيق ، والدراسة والتأليف ، وهم المنتهى والمرجع والحجة في الأحكام والآراء الإسلامية والنظريات العلمية والتاريخية ، وهم الأسوة في النقض والإبرام . وعدد كبير منهم قسوس وإرساليون ويهود ومسيحيون متعصبون ، يضمرون للإسلام وصاحب رسالته – صلى الله عليه وسلم – العداء والبغضاء ، وللحضارة الإسلامية السخرية والاستهزاء ، ويخونون في النصوص والنقول ، ويحرّفون الكلم عن مواضعه . ومنهم عدد لم يتقن اللغة العربية ولم يبرع فيها ، وهم يخطئون في فهم النصوص وترجمتها أخطاء فاحشة ، وقد تغلغلت أفكارهم ودعاياتهم في الأوساط العلمية الحديثة في العالم الإسلامي وتجلت بصورة واضحة في الدعوة إلى فضل الدين عن السياسة ، وأن الدين قضية شخصية لا شأن له بالمجتمع ، وفي الدعوة إلى تغيير مفهوم الدين وأحكام الشريعة الإسلامية على أساس الحضارة الغربية وفلسفتها .. إلى غير ذلك من الأفكار التي يدعو إليها تلاميذ المستشرقين والخاضعون لهم في الشرق الإسلامي .
وقد عجز كتاب الشرق المسلمون والمفكرون الشرقيون عن مواجهة الحضارة الغربية وجهاً لوجه ونقد أسسها وقيمها نقداً حُرّاً جريئاً فيه الابتكار ، وفيه الاستقلال ، وقد بلغ بعضهم من ضعف التفكير ، والإغراق في التقليد منزلة رأى فيها أن الحضارة الغربية هي آخر ما وصل إليه العقل البشري وأنه لا منزلة وراءها ، ومنهم من دعا إلى تطبيق الحضارة الغربية برُمتها ، وعلى علاتها في الشرق ، ودعا بعض الأقطار الإسلامية وإذابتها فيها واختيار الثقافة اليونانية التي هي أصل الثقافات الأوربية .
وندر في هذه الطبقة وجود (( عملاق )) يكفر بالحضارة الغربية وفلسفة حياتها وقيمها ويشرّح الحضارة الغربية وأُسسها التي قامت عليها في ثقة واعتداد وعلم وبصيرة ، ونستثني من هذه الكلية بعض الأفراد الأفذاذ كالعلامة (( محمد إقبال )) من المسلمين القدامى ، والأستاذ (( محمد أسد )) من الأوربيين المهتدين بالإسلام .
ولابد – إذا أراد العالم الإسلامي أن يقوم على قدميه ويفكر بعقله – أن يقاوم هذا الخضوع ويكون فيه علماء عماليق وكتاب جهابذة يتناولون الحضارة الغربية بالنقد والتشريح ، وكتابات المستشرقين وآرائهم بالجرح والتعديل . ويتبحرون في العلوم الإسلامية ويتعمقون فيها حتى يفيد منهم كبار المستشرقين في أوربا وأمريكا ويصححون بهم آراءهم وأخطاءهم ، ويتوجه رواد العلم والتحقيق والدراسات العالية إلى عواصم العالم العربي وحواضر العالم الإسلامي ، كما اعتادوا أن يتوجهوا إلى عواصم أوربا وأمريكا . فهذه المدن الإسلامية أولى بأن تكون مركزاً للثقافة الإسلامية والعلوم الدينية وآداب اللغة العربية من العواصم الأوربية وجامعات أوربا ، ومن سقوط الهمة والقناعة بالدون أن تتخلى هذه العواصم العريقة في العلم والدين عن زعامتها العلمية ومكانتها الرئيسية .

التنظيم العلمي الجديد :
ولابد للعالم الإسلامي من تنظيم العلم الجديد بما يوافق روحه ورسالته . وقد ساد العالم الإسلامي على العالم القديم بزعامته العلمية ، فتسرب بذلك في عقلية العالم وثقافته ، وتغلغل في أحشاء الأدب والفلسفة ، وظل العالم المتمدن قروناً يفكر بعقله ويكتب بقلمه ويؤلف بلغته ، فكان المؤلفون في إيران وتركستان وأفغانستان والهند لا يؤلفون كتاباً له شأن إلا باللغة العربية ، وكان بعضهم يؤلف الأصل بالعربية ويلخصه بالفارسية كما فعل الغزالي في : (( كيمياء السعادة )) .
وإن كانت هذه الحركة العلمية التي ظهرت في صدر الدولة العباسية متأثرة باليونان والعجم ، وغير مؤسسة على الفكرة الإسلامي النقي والروح الإسلامي ؛ وإن كانت فيها مواضع ضعف من الناحية العلمية والدينية ، ولكنها سادت على العالم بقوتها ونشاطها ، واضمحلت أمامها النظم العلمية القديمة .
وجاءت نهضة فنسخت هذا النظام القديم باختباراتها ونقدها العلمي ، ووضعت منهاجاً جديداً للعلم والدراسة كان نسخة صادقة لروحها وعقليتها ونفسيتها المادية ، فلا يخرج منه الطالب إلا وهو متشبع بهذه الروح ، وخضع العالم مرة ثانية لهذا النظام التعليمي ، وخضع له العالم الإسلامي بطبيعة الحال – إذا كان مصاباً بالانحطاط العلمي والشلل الفكري من زمان ، وكان لا يجد المدد والغوث إلا في أوربا – فقبل هذا النظام التعليمي على علاته ، فهو النظام السائد اليوم في أنحاء العالم الإسلامي .
وكانت نتيجة هذا النظام الطبيعية ، صراعاً بين النفسية الإسلامية – إن كانت لا تزال في الشباب لم تقتلها البيئة – وبين النفسية الجديدة ، وبين وجهة الأخلاق الإسلامية ووجهة الأخلاقية الأوربية ، وبين الميزان القديم والجديد للأشياء وقيمتها ، وكانت نتيجة هذا النظام حديث الشك والنفاق في الطبقة المثقفة ، وقلة الصبر ونهامة الحياة وترجيح العاجل على الآجل ، إلى غير ذلك مما هو من طبائع المدينة الأوربية .
فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ، ويتحرر من رق غيره وإذا كان يطمح إلى القيادة ، فلا بد إذن من الاستقلال التعليمي ، بل لابد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين ، إنها تحتاج إلى تفكير عميق ، وحركة التدوين والتأليف الواسعة ، وخبرة إلى درجة التحقيق والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح الإسلام والإيمان الراسخ بأصوله وتعاليمه ، إنها لمهمة تنوء بالعصبة أولي القوة ، إنما هي من شأن الحكومات الإسلامية ، فتنظم لذلك جمعيات ، وتختار لها أساتذة بارعين في كل فن فيضعون منهاجاً تعليمياً يجمع بين محكمات الكتاب والسنة وحقائق الدين التي لا تتبدل وبين العلوم العصرية النافعة والتجربة والاختبار ، ويدونون العلوم العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام وبروح الإسلام وفيها كل ما يحتاج إليه النشء الجديد ، مما ينظمون به حياتهم ويحافظون به على كيانهم ويستغنون به عن الغرب ويستعدون للحرب ، ويستخرجون به كنوز أرضهم وينتفعون بخيرات بلادهم ، وينظمون مالية البلاد الإسلامية ، ويديرون حكوماتها على تعاليم الإسلام بحيث يظهر فضل النظام الإسلامي في إدارة البلاد ، وتنظيم الشئون المالية على النظم الأوربية ، وتنحل مشاكل اقتصادية عجزت أوربا عن حلها .
بالاستعداد الروحي والاستعداد الصناعي والحربي والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي ، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده . فليست القيادة بالهزل ، إنما هي جد الجد ، فتحتاج إلى جد واجتهاد ، وكفاح وجهاد ، واستعداد أي استعداد :
كل امرئ يجري إلى *** يوم الهياج بما استعدا

الفصل الثاني
زعامة العالم العربي
أهمية العالم العربي :
إن العالم العربي له أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية وذلك لأنه وطن أمم لعبت أكبر دور في التاريخ الإنساني ، ولأنه يحتضن منابع الثروة والقوة الكبرى : الذهب الأسود الذي هو دم الجسم الصناعي والحربي اليوم ؛ ولأنه صلة بين أوربا وأمريكا ، وبين الشرق الأقصى ، ولأنه قلب العالم الإسلامي النابض يتجه إليه روحياً ودينياً ويدين بحبه وولائه ، ولأنه عسى – لاقدر الله – أن يكون ميدان الحرب الثالثة ، ولأن فيه الأيدي العاملة ، والعقول المفكرة ، والأجسام المقاتلة ، والأسواق التجارية ، والأراضي الزراعية ، ولأن فيها مصر ذات النيل السعيد بنتاجها ومحصولها وخصبها وثروتها ورقيها ومدنيتها ، وفيه سورية وفلسطين وجاراتها ، باعتدال مناخها وجمال إقليمها وأهميتها الاستراتيجية ، وبلاد الرافدين بشكيمة أهلها ومنابع فيها ، والجزيرة العربية بمركزها الروحي وسلطانها الديني ، واجتماع الحج السنوي الذي لا مثيل له في العالم وآبار البترول الغزيرة . كل ذلك قد جعل العالم العربي محصر أنظار الغربيين ، وملتقى مطامعهم وميدان تنافس لقيادتهم ، وكان رد فعله أن نشأ في العالم العربي شعور عميق بالقومية العربية ، وكثر التغني ((بالوطن العربي)) و ((المجد العربي)) .

محمد رسول الله روح العالم العربي :
ولكن المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي ،وبغير العين التي ينظر بها الوطني العربي ،إنه ينظر بها الوطني العربي ، إنه ينظر إليه كمعهد الإسلام ومشرق نوره ومعقل الإنسانية , وموضع القيادة العالمية , ويعقد أن سيدنا محمداً العربي هو روح العالم العربي وأساسه وعنوان مجده ؛ وأن العالم العربي – بما فيه من موارد الثروة والقوة و بما فيه من خيرات وحسنات – جسم بلا روح , وخط بلا وضوح إذا انفصل – لا سمح الله بذلك – عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع صلته عن تعاليمه ودينه ؛ وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أبرز العالم العربي للوجود , فقد كان هذا العالم وحدات مفككة , وقبائل متناحرة , وشعوباً مستعبدة ومواهب ضائعة , وبلادا ًتتسكع في الجهل والضلالات , فكان العرب لا يحلمون بمناجزة الدولة الرومية والفارسية ولا يخطر ذلك منهم على بال , ولا يصدقون بذلك إذا قيل لهم في حال من الأحوال , وكانت سورية التي تكون جزءاً مهماً من العالم العربي مستعمرة رومية تعاني الملكية المطلقة والحكم الجائز المستبد , لا تعرف معنى الحرية والعدل , وكان العراق مطية لشهوات الدولة الكيانية مثقلة بالضرائب المحفة والإتاوات الفادحة . وكانت مصر قد اتخذها الرومان ناقة حلوباً ركوبا ً , يجزون صوفها و يظلمونها في علفها , ثم إنها تعاني الاضطهاد الديني مع الاستبداد السياسي ، فما لبث هذا العالم المفكك المنحل ، المظلوم المضطهد ، أن هبت عليه نفحة من نفحات الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أدرك رسول الله من هذا العالم وهو ضائع هالك وأخذ بيبده وهو ساقط متهالك ، فأحياه بإذن الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس ، وعلمه الكتاب والحكمة وزكاه ؛ فكان هذا العالم بعد البعثة المحمدية سفير الإسلام ، ورسول الأمن والسلام ، ورائد العلم والحكمة ، ومشعل الثقافة والحضارة . كان غوثاً للأمم ، غيثاً للعالم ، هنالك كانت الشام وكان العراق ، وكانت مصر ، وكان العالم العربي الذي نتحدث عنه ، فلولا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولولا رسالته ، ولولا ملته ، لما كانت سورية ، ولا كان العراق ، ولا كانت مصر ، ولا كان العالم العربي ، بل ولا كانت الدنيا كما هي الآن حضارة وعقلاً ، وديانة وخلقاً ، فمن استغنى عن دين الإسلام من شعوب العالم العربي وحكوماته ، وولى وجهه شطر الغرب أو أيام العرب الأولى ، أو استلهم قوانين حياته أو سياسته من شرائع الغرب ودساتيره أو أسس حياته على العنصرية أو العروبة التي لا شأن لها بالإسلام , ولم يرض برسول الله قائداً ورائداً وإماماً وقدوة , فليرد على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نعمته ويرجع إلى جاهليته الأولى , حيث الحكم الروماني والإيراني , وحيث الجهل والضلالة , وحيث الغفلة والبطالة وحيث العزلة عن العالم , والخمول والجمود , فإن هذا التاريخ المجيد , وهذه الحضارة الزاهية , وهذا الأدب الزاخر , وهذه الدول العربية , ليست إلا حسنة من حسنات محمد عليه الصلاة والسلام .
الإيمان هو قوة العالم العربي :
فالإسلام هو قومية العالم العربي , ومحمد صلى الله عليه وسلم هو روح العالم العربي وإمامة وقائده والإيمان هو قوة العالم العربي التي حارب بها العالم البشري كله فانتصر عليه , وهو قوته وسلاحه اليوم كما كان بالأمس , به يقهر أعداءه , ويحفظ كيانه ويودي رسالته . إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الصهيونية أو الشيوعية أو عدواً آخر بالمال الذي ترضخه بريطانيا أو تتصدق به أمريكا ,أو تعطيه مقابل ما تأخذ من أرضه من الذهب الأسود , إنما يحارب عدوه بالإيمان والقوة المعنوية , وبالروح التي حارب بها الدولة الرومية والإمبراطورية الفارسية في ساعة واحدة فانتصر عليهما جميعاً. إنه لا يستطيع أن يحارب أعداءه بقلب يحب الحياة ويكره الموت , ويجسم يميل إلى الدعة والراحة , وعقل يخامره الشك وتتنازع فيه الأفكار والأهواء , أو بيد مضطربة وقلب متشك ضعيف الإيمان وقوة متخاذلة في الميدان ، فالمهم لأمراء العرب وزعمائهم وقادة الجامعة العربية أن يغرسوا الإيمان في الشعوب العربية ، وجماهير الأمة وأولياء الأمور ، والجيوش العربية والفلاحين والتجار ، وفي كل طبقة من طبقات الجمهور ، ويشعلوا فيها شعلة الجهاد في سبيل الله ، والتوق إلى الجنة ، ويبعثوا فيها الاستهانة بالمظاهر الجوفاء وزخارف الدنيا ، ويعلموهم كيف يتغلبون على شهوات النفس ومألوفات الحياة ، وكيف يتحملون الشدائد في سبيل الله ، وكيف يستقبلون الموت بثغر باسم ، وكيف يتهافتون عليه تهافت الفراش على النور .

تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية :
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغت شقاوة الإنسانية غاية ما وراءها غاية ، وكانت قضية الإنسانية أعظم من أن يقوم لها أفراد متنعمون لا يتعرضون لخطر ولا لخسارة ولا محنة ، لهم النعيم الحاضر والغد المضمون ، إنما تحتاج هذه القضية إلى أناس يضحون بإمكانياتهم ومستقبلهم في سبل خدمة الإنسانية وأداء رسالتهم المقدسة ، ويعرضون نفوسهم وأموالهم ومعائشهم وحظوظهم من الدنيا للخطر والضياع ، وتجاراتهم وحرفهم ومكاسبهم للتلف والكساد ، ويخيبون آمال آبائهم وأصدقائهم فيهم ، حتى يقولوا للواحد منهم كما قال قوم صالح : {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا } .
إنه لا بقاء للإنسانية ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين ، وبشقاء هذه الحفنة من البشر في الدنيا – كما يعتقد كثير من معاصريهم – تنعم الإنسانية وتسعد الأمم ، ويتحول تيار العالم من الشر إلى الخير ، ومن السعادة أن يشقى أفراد وتنعم أمم ، وتضيع أموال وتكسد تجارات لبعض الأفراد وتنمو نفوس وأرواح لا يحصيها إلا الله من عذاب الله ومن نار جهنم .
علم الله عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم والفرس والأمم المتحضرة المتصرفة بزمام العالم المتمدن لا تستطيع بحكم حياتها المصطنعة المترفة أن تتعرض للخطر وتتحمل المتاعب والمصاعب في سبيل الدعوة والجهاد وخدمة الإنسانية البائسة , ولا تستطيع أن تضحي بشيء من دقائق مدنيتها في الملبس والمأكل وأن تتنزل عن حظوظها ولذاتها وزخارفها فضلاً عن حاجاتها ، وأنه لا يوجد فيها أفراد يقوون على قهر شهواتهم ، والحد من طموحهم ، والزهد في فضول الحياة ومطامع الدنيا ، والقناعة بالكفاف ، فاختار لرسالة الإسلام وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام أُمة تضطلع بأعباء الدعوة والجهاد وتقوى على التضحية والإيثار ، تلك هي الأمة العربية القوية السليمة التي لم تبتلعها المدنية ولم ينخرها البذخ والترف وأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً .
قام الرسول بهذه الدعوة العظيمة فأدى حقوقها : من الجهاد في سبيلها وإيثارها على كل ما يقف في وجهها ، والعزوف عن الشهوات ومطامع الدنيا فكان في ذلك أسوة وإماماً للعالم كله ، وفد قريش وعرض عليه كل ما يغري الشباب ويرضي الطامحين من رئاسة وشرف ومال عظيم وزواج كريم ، فرفض كل ذلك في صرامة وصراحة ، وكلمة عمه وحاول أن يحد من نشاطه في سبيل الدعوة فقال : (( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )) ثم كان أسوة للناس في عصره وبعد عصره بقيامه بأكبر قسط من الجهاد والإيثار ، والزهد وشظف العيش وأقل قسط من العيش وأسباب الحياة ، فقد أوصد على نفسه الأبواب وسد في وجهه الطرق وتعدى ذلك إلى أسرته وأهل بيته والمتصلين به ، فكان أكثر الناس اتصالاً به وأقربهم إيه أقلهم حظاً في الحياة , وأعظمهم نصيباً في الجهاد والإيثار , فإذا أراد أن يحرم شيئاً بدأ ذلك بشيرته وبيته , وإذا سن حقاً أو فتح باباً لمنفعة قدم الآخرين وربما حرمه على عشيرته الأقربين . أراد أن يحرم الربا فبدأ بربا عمه عباس بن عبد المطلب فوضعه كله , وأراد أن يهدر دماء الجاهلية فبدأ بدم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فأبطله , وسن الزكاة وهي منفعة مالية عظيمة مستمرة إلى يوم القيامة فحرمها على عشيرته بني هاشم إلى آخر الأبد , وكلمه علي بن أبي طالب يوم الفتح أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية فأبي وطلب عثمان بن طلحة وناوله مفتاح الكعبة وقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ، وقال خذوها خالدة تالدة فيكم لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وحمل أزواجه على الزهد والقناعة وشظف العيش وخيرهن بين عشرته مع الفقر وضيق العيش ، ومفارقته مع السعة والرخاء وتلا عليهن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً{28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيما } فاخترن الله والرسول ، وتأتيه فاطمة تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق فيوصيها بالتسبيح والتحميد والتكبير ويقول لها إنه خير لها من خادم .. وهكذا كان شأنه مع أهل بيته والمتصلين به فالأقرب ثم الأقرب . وآمن به رجال من قريش في مكة فاضطربت حياتهم الاقتصادية اضطراباً عظيماً ، وكسدت تجارتهم وحرم بعضهم رأس ماله الذي جمعه في حياته ، وحرم بعضهم أسباب الترف والرخاء وأناقة اللباس التي كان فيها مضرب المثل ، وكسدت تجارة بعضهم لاشتغاله بالدعوة وانصراف الزبائن عنه وحرم بعضهم نصيبه في ثروة أبيه .
ثم لما هاجر الرسول إلى المدينة وتبعه الأنصار تأثرت بذلك بساتينهم ومزارعهم فلما أرادوا أن يقبلوا عليها بعض الوقت ويصلحوها لم يسمح لهم بذلك وأنذرهم الله به فقال : {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من متاعب الجهاد وخسائر النفوس والأموال أعظم من نصيب أي أمة في العالم وقد خاطبهم الله بقوله : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وقال : {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } لأن سعادة البشرية إنما كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وإيثار ما يتحملون من خسائر ونكبات فقال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ } وقال : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } وكان إحجام العرب عن هذه المكرمة وترددهم في ذلك امتداداً لشقاء الإنسانية واستمراراً للأوضاع السيئة في العالم فقال : {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .
وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب ويعرضوا نفوسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما يعز عليهم للخطر ويزهدوا في مطامع الدنيا ويضحوا في سبيل المصلحة الاجتماعية بأنانيتهم فيسعد العالم وتستقيم البشرية وتقوم سوق الجنة وتروج بضاعة الإيمان ، وإما أن يؤثروا شهواتهم ومطامعهم وخظوظهم الفردية على سعادة البشرية وصلاح العالم فيبقى العالم في حمأ الضلالة والشقاء إلى ما شاء الله ، وقد أراد الله بالإنسانية خيراً وتشجع العرب – بما نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روح الإيمان والإيثار وحبب إليهم الدار الآخرة وثوابها – فقدموا أنفسهم فداء للإنسانية كلها وزهدوا في مطامع الدنيا طمعاً في ثواب الله وسعادة النوع الإنساني وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وضحوا بكل ما يحرص عليه الناس من مطامع وشهوات وآمال وأحلام وأخلصوا لله العمل والجهاد فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين .
وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العالم على مفترق الطرق مرة ثانية إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيرته – إلى الميدان ويغامروا بنفوسهم وإمكانياتهم ومطامحهم ويخاطروا فيما هم فيه من رخاء وثراء ودنيا واسعة ، وفرص متاحة للعيش وأسباب ميسورة فينهض العالم من غثاره وتتبدل الأرض غير الأرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع وطموح ، وتنافس في الوظائف والمرتبات وتفكر في كثرة الدخل والإيراد وزيادة غلة الأملاك وربح التجارات والحصول على أسباب الترف والتنعم فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون .
إن العالم لا يسعد وخيرة الشباب في العواصم العربية عاكفون على شهواتهم تدور حياتهم حول المادة والمعدة لا يفكرون في غيرهما ولا يترفعون عن الجهاد في سبيلهما ولقد كان شباب بعض الأمم الجاهلية الذين ضحوا بمستقبلهم في سبيل المبادئ التي اعتنقوها أكبر منهم نفساً ، وأوسع منهم فكراً ، بل كان الشاعر الجاهلي (( امرؤ القيس )) أعلى منهم همة ، إذ قال :
ولو أنني أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
إن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة إلا على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها الشباب المسلم ، إن الأرض لفي حاجة إلى سماد ، وسماد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت زرع الإسلام الكريم هي الشهوات والمطامع الفردية التي يضحي بها الشباب العربي في سبيل علو الإسلام وبسط الأمن والسلام على العالم وانتقال الناس من الطريق المؤدية إلى جهنم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة .
إنه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً .

العناية بالفروسية والحياة العسكرية :
من الحقائق المؤلمة أن الشعوب العربية قد فقدت كثيراً من خصائصها العسكرية ، ورزئت في فروسيتها التي كانت معروفة بها في العالم ، فكانت رزيئة كبيرة وخسارة فادحة ، وكانت سبباً من أسباب ضعفها وعجزها في ميدان الجهاد ، فقد اضمحلت الروح العسكرية ، وضعفت الأجسام ونشأ الناس على التنعم ، وقد حلت السيارات محل الجياد حتى كادت الخيل العربية تنقرض من الجزيرة العربية ، وهجر الناس المصارعة والمناضلة وسباق الخيل وأنواع الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية ، واستبدلوا بها ألعاباً لا تفيدهم شيئاً ، فالمهم لرجال التعليم والتربية قادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية ، وعلى البساطة في المعيشة وخشونة العيش والجلادة وتحمل المشاق والمتاعب ، والصبر على المكروه !.
وقد كتب المربي الكبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى بعض عماله العرب وهم في بلاد العجم : (( إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب ، وتمعددوا(254) ، واخشوشنوا(155) ، واخشوشبوا(256) ، واخلولقوا(257) ، وأعطوا الركب أسنتها ، وانزوا نزوا ، وارموا الأغراض (258))) .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً(259) )) وقال : (( ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي(260) )) .
ومن واجب رجال التربية وولاة الأمر أن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة والجلادة ويبعث على التخنث والعجز ، من عادات وأدب وصحافة وتعليم ، ويأخذوا على يد الصحافة الماجنة والأدب الخليع الملحد ، الذي ينشر في الشباب النفاق والدعارة والفسوق ، وعبادة اللذة والشهوات ، ولا يسمحوا لهؤلاء التجارة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أن يدخلوا في معسكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاث ، ويفسدوا على الناشئة الإسلامية قلبها وأخلاقهم ، ويزينوا لها الفسوق والعصيان ، وحب الفحشاء ، بثمن بخس دراهم معدودة ، وقد شهد التاريخ بأن كل أمة أصيب رجالها في رجولتهم وغيرتهم ، ونساؤها في أنوثتهن وأمومتهن ، وطغى فيهن التبرج ، ومزاحمة الرجال في كل شيء ، والزهد في الحياة المنزلية ، وحبب إليهن العقم ، أفل نجمها وكسفت شمسها ، فأصبحت أثراً بعد عين .
هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس ، وإن أوربا لفي طريقها إلى هذه العاقبة ، فليحذر العالم العربي من هذا المصير الهائل .

محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك :
وقد اعتاد العرب لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإسراف والتبذير ، والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة .
وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير ، جوع وعري وفقر فاضح ، يرى الناظر مناظرة الشائنة في عواصم البلاد العربية فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلاً ، فبينا هنالك رجل عنده فضول الثياب وزائدة الطعام والشراب لا يعرف كيف يستهلكه ، إذ ببدوي لا يجد قوت يومه وكسوة جسمه ، وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع ، إذا بفوج من النساء والأطفال عليه ثياب سوداء قد أصبحت خيوطاً من طول اللبس يعدو لأجل فلس أو قرص ، فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة ، وبين الأكواخ الحقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة ، وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة ، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق لا تقفها دعاية ولا قوة ، وإذا لم يسد النظام الإسلامي في بلاده بجماله واعتداله يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره عقاباً من الله كرد فعل عنيف .

التخلص من أنواع الأثرة :
لقد أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد – وهو شخص الخليفة أو الملك – أو حول حفنة من الرجال – هم الوزراء وأبناء الملك – وكانت البلاد تعتبر ملكاً شخصياً لذلك الفرد السعيد والأمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد ، ويتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأغراضهم ، ولم تكن الأمة التي كانت يحكم عليها إلا ظلاً لشخصه ولم تكن حياته إلا امتداداً لحياته .
لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وانتاجها ، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع ، كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء ، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة ، ولا حرية لها ولا كرامة .
وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة ، فلأجله يتعب الفلاح ويشتغل التاجر ويجتهد الصانع ، ويؤلف المؤلف وينظم الشاعر ، ولأجله تلد الأمهات ، وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش ، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الأرض خيراتها .
وكانت الأمة – وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها- تعيش عيش الصعاليك ، أو الأرقاء المماليك ، وقد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر ، وقد تُحرم ذلك أيضاً فتصبر ، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئاً بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص .
هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها ، وأخلاقها واجتماعاتها ، وخلّف آثاراً باقية في المكتبة العربية ، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (( ألف ليلة وليلة )) الذي يصور ذلك العهد تصويراً بارعاً ، يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة ، هو كل شيء ، وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (( ألف ليلة وليلة )) بأساطيره وقصصه ، وكتاب الأغاني بتاريخه وأدبه ، لم يكن عهداً إسلامياً ، ولا عهداً طبيعياً معقولاً ، فلا يرضاه الإسلام ولا يقرّه العقل ، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه ، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه – ككسرى وقيصر – وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار .
إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أم مصابة في عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح .
إن هذا الوضع لا يقره عقل ، ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعاً ومسبغة ، ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عيث المجانين ، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم ، ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة – وهي الكثرة – الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له ، وحظ طبقة – وهي لا تجاوز عدد الأصابع – إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي ، ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الاجتهاد وأهل المواهب وأهل الصلاح ، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير ولا يعرفون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور ؟! ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهلا الأمانة ويقصوا كالمنبوذين ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر ممن لا همَّ لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات ، ولا يحسنون فناً من فنون الدنيا غير التملق والإطراء والمؤامرة ضد الأبرياء ، ولا يتصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء .
إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوماً فضلاً عن أن يبقى أعواماً .
إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها ، وبسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية ، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها .
فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (( ألف ليلة وليلة )) إنما يعيشون في عالم الأحلام ، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت ، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون متى يكبس ، ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم ، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية .
ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعنّ أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم يعجلة قد تكسرت وتحطمت ، إن الملوكية مصباح – إن جاز هذا التعبير – قد نفذ زيته واحترقت فتيلته ، فهو إلا إنطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة .
إنه لا مجل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة ، إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا ، فهي في أوربا أثرة حزب من الأحزاب ، وفي أمريكا أثرة الرأسماليين ، وفي روسيا قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة(261) .
إن الأثرة يجمع أنواعها ستنتهي وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً ، إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط وإن طال أجل هذه (( الأثرات )) وأرخي لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمان .
إن الأثرة – فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية – غير طبيعية في حياة الأمة وإنها تتخلص منها في أول فرصة إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ الرشد ولا أمل في استمرارها ؛ فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولاة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها .

إيجاد الوعي في الأمة :
إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة ، وافتتانها بكل دعوة واندفاعها إلى كل موجة وخضوعها لكل متسلط وسكونها على كل فظيعة وتحملها لكل ضيم ، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها لكل ضيم ، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها ولا تميز بين الصديق والعدو وبين الناصح والغاش وأن تلدغ من جحر مرة بعد مرة ولا تنصحها الحوادث ، ولا تروعها التجارب ، ولا تنتفع بالكوارث ، ولا تزال تولي قيادها من جربت عليه الغش والخديعة والخيانة والأثرة والأنانية ، ولا تزال تضع ثقتها فيه وتمكنه من نفسها وأموالها وأعراضها ومفاتيح ملكها وتنسى سريعاً ما لاقت على يده الخسائر والنكبات فيجترئ بذلك السياسيون المحترفون ، والقادة الخائنون ويأمنون سخط الأمة ومحاسبتها ويتمادون في غيهم ويسترسلون في خياناتهم وعبثهم ثقة ببلاهة الأمة وسذاجة الشعب وفقدان الوعي .
إن الشعوب الإسلامية والبلاد العربية – مع الأسف – ضعيفة الوعي – إذا تحرجنا أن نقول : فاقدة الوعي – فهي لا تعرف صديقها من عدوها ولا تزال تعاملها معاملة سواء أو تعامل العدو أحسن مما تعامل الصديق الناصح وقد يكون الصديق في تعب وجهاد معها طول حياته بخلاف العدو ، ولا تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة ولا تعتبر بالحوادث والتجارب ، وهي ضعيفة الذاكرة سريعة النسيان تنسى ماضي الزعماء والقادة ، وتنسى الحوادث القريبة والبعيدة ، وهي ضعيفة في الوعي الاجتماعي وأضعف في الوعي السياسي ، وذلك ما جر عليها وبلاً عظيماً وشقاء كبيراً وسلط عليها القيادة الزائفة وفضحها في كل معركة .
إن الأمم الأوربية – برغم إفلاسها في الروح والأخلاق وبرغم عيوبها الكثيرة التي بحثنا عنها في هذا الكتاب – قوية الوعي المدني والسياسي – قد بلغت سن الرشد في السياسة ، وأصبحت تعرف نفعها من ضررها ، وتميز بين الناصح والخادع ، وبين المخلص والمنافق ، وبين الكفؤ والعاجز ، فلا تولي قيادها إلا الأكفاء الأقوياء الأمناء ، ثم لا توليهم أمورهم إلا على حذر ، فإذا رأت منهم عجزاً أو خيانة أو رأت أنهم مثلوا دورهم وانتهوا من أمرهم استغنت عنهم وأبدلت بهم رجالاً أقوى منهم وأعظم كفاءة وأجدر بالموقف ، ولم يمنعها من إقالتهم أو إقصائهم من الحكم ماضيهم الرائع وأعمالهم الجليلة وانتصارهم في حرب ، أو نجاحهم في قضية وبذلك أمنت السياسيين المحترفين ، والقيادة الضعيفة أو الخائنة ، وخوف ذلك الزعماء ورجال الحكم وكانوا حذرين ساهرين يخافون رقابة الأمة وعقابها وبطش الرأي العام .
فمن أعظم ما تخدم به هذه الأمة وتؤمن من المهازل والمآسي التي لا تكاد تنتهي هو إيجاد الوعي في طبقاتها ودهمائها وتربية الجماهير التربية العقلية والمدنية والسياسية ، ولا يخفى أن الوعي غير فشو التعليم وزوال الأمية وإن كانت هذه الأخيرة من أنجح وسائلها ، وليعرف الزعماء السياسيون والقادة أن الأمة التي يعوزها الوعي غير جديرة بالثقة ولا تبعث حالتها على الارتياح وإن أطرت الزعامة والزعماء وقدستهم فإنها – ما دامت ضعيفة الوعي – عرضة لكل دعاية وتهريج وسخرية كريشة في فلاة تلعب بها الرياح ولا نستقر في مكان .

استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها :
وكذلك لابد للعالم العربي – كالعالم الإسلامي – من الاستقلال في تجارته وماليته وصناعته وتعليمه ، لا تلبس شعوبه وجماهيره إلا ما تنبته أرضه وتنسجه يده ، وتستغني عن الغرب في جميع شئون حياتها ، وفي كل ما تحتاج إليه من كسوة ، وطعام ، وبضائع ، ومصنوعات ، وأسلحة وجهاز حربي ، وآلات وماكينات ، وأدوية ، فلا تكون كلاً على الغرب وعيالاً عليه في معيشتها ومتطفلة على مائدته .
إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الغرب – إذا احتاج إلى ذلك ودعت إليه الظروف – وهو مدين له في ماله ، عيال عليه في لباسه وبضائعه ، لا يجد قلماً يوقع به على ميثاق مع الغرب ، إلا الرصاص الذي أفرغ في الغرب ، إن عاراً على الأمة يجري ماء الحياة في عروقها وشرايينها إلى أجسام غيرها ، وأن يدرب جيوشها وكلاء الغرب وضباطه ، ويدير بعض مصالح حكومتها رجاله ، فلابد للعالم العربي أن يقوم هو نفسه بحجاته : تنظيم التجارة والمالية ، وحركة التوريد والتصدير ، والصناعة الوطنية ، وتدرب الجيش ، وصنع الآلات والماكينات وتربية الرجال الذين يضطلعون بجميع مهمات الدولة ووظائف الحكومة في خبرة ومهارة فنية ، وأمانة ونصيحة .

تقدم مصر في ميدان التجارة والصناعة والعلم :
ولابد هنا من الاعتراف بأن مصر قد أثبتت كفايتها واستعدادها الكبير في ميدان العلم والصناعة ، وتربية الرجال ، ونشر الثقافة ، ونقل العلوم العصرية إلى اللغة العربية ، وبواسطتها إلى الأمة العربية ، وعنايتها بالصناعة الوطنية ، وتنظيم شئون دولتها وماليتها على أساس العلم العصري ، أما فضلها على اللغة العربية وإحياؤُها للكتب العربية ، وتقدم الصحافة والطباعة وحركة النشر فيها ، فمن المأثر والمفاخر التي سيسجلها التاريخ ، ويردد صداها المستقبل ، ويدين بفضلها العرب جميعاً .

رجاء العالم الإسلامي من العالم العربي :
والعالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه الجغرافي وأهميته السياسية يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام ، ويستطع أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي ، ويزاحم أوربا بعد الاستعداد الكامل ، وينتصر عليها بإيمانه وقوة رسالته ونصر من الله ، ويحول العالم من الشر إلى الخير ، ومن النار والدمار إلى الهدوء والسلام .

إلى قمة القبلة العلمية :
ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على إثر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونادت به سورة الإسراء وقصة المعرج في لغة صريحة بليغة وفي أسلوب مبين مشرق(262) ، وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب . نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته ، ومن الحياة القبلية المحدودة التي ضاقوا بها إلى الإنسانية الواسعة التي يشرفون عليها ويوجهونها ، وأصبحوا بفضل هذا التطور العظيم الذي فاجأ العرب وفاجأ العالم يقولون بكل وضوح وشجاعة لإمبراطور المملكة الفارسية العظيمة وأركان دولته : ((الله ابتعثنا لنخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) .
نعم لقد خرجوا من ضيق الدنيا أولاً إلى سعتها ثم أخرجوا الأمم من ضيق الدنيا إلى سعتها آخراً ، وهل أضيق من الحياة القبلية والجنسية ، وأوسع من الحياة الإنسانية الآفاق ؟ وهل أضيق من الحياة التي لا يفكر فيها إلا في المادة الزائلة والحياة الفانية ولا يجاهد إلا في سبيلها من الحياة الإيمانية الروحانية التي لا نهاية لها ولا تحديد . !؟ .
لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب ، ومن ضيق الحياة فيها ، ومن ضيق التفكير في مسائلها ومصالحها ، ومن ضيق التناحر على سيادتها ، ومن ضيق التكالب على حطامها القليل وملكها الضئيل وعيشها الذليل ، إلى عالم جديد من السيادة الروحية والخلقية والعلمية والسياسية ، ليس الدانوب الفائض والنيل السعيد والفرات العذب والسند الطويل إلا سواقي حقيرة وترعاً صغيرة فيه ، وليست جبال الألب والبرانس وعقاب لبنان وقمم همالايا إلا تلالاً متواضعة وسدوداً صغيرة ، وليست البلاد كالهند والصين وتركستان إلا أحياء ضيقة وحارات صغيرة ، ونقطاً مغمورة في هذا العالم ، وليست هذه الأرض كلها – إذا نظر إليها من ارتقى إلى قمة هذه السيادة – إلا خريطة صغيرة ملونة يراها الطائر المحلق في السماء ، وليست الأمم الكبيرة – مع ثقافتها وحضاراتها وآدابها – إلا أسراً صغيرة في أمة كبيرة .
لقد قام العالم الكبيرة على أساس العقيدة الواحدة ، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية ، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ وكانت الشعوب التي تكون هذا العالم أقوى أسرة عرفها التاريخ ، تنصهر فيها الثقافات المختلفة ، والعبقريات المختلفة ، فتكون منها ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية ، التي لم تزل تظهر في نوابغ الإسلام الذين لا يحصيهم عدد وفي المآثر الإسلامية – بين علمية وعملية – التي لا يستقصيها التاريخ .
لقد كانت – ولا تزال – قيادة هذا العالم بجدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها وأقواها في تاريخ الزعامة والقيادة ، وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الإسلامية وتفانوا في سبيلها ، فأحبهم الناس في العالم حباً لم يعرف له نظير ، وقلدوهم في كل شيء تقليداً لم يعرف له نظير ، وخضعت للغتهم اللغات ، ولثقافتهم الثقافات ، ولحضارتهم الحضارات ، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى قصاه ، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها ، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم ، ويتقنونها كأبنائها وأحسن ، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي ، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقادهم .
وكانت حضارتهم هي الحضارة المثلي التي يتمجد الناس ويتظرفون بتقليدها ، ويحث علماء الدين على تفضيلها على الحضارات الأخرى ويطلقون على كل ما يخالفها من الحضارات – اسم (( الجاهلية )) و (( العجمية )) وينهون عن اتخاذ شعائرها ومظاهرها .
وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة والناس لا يفكرون في ثورة عليها ، وفي التخلص منها ، كما هي عادة المفتوحين والأمم المغلوبة على أمرها في كل عهد ، لأن صلتهم بهذه القيادة ليست صلة المفتوح بالفاتح أو المحكوم بالحاكم أو الرقيق بالسيد القاهر ، إنما هي صلة المتدين بالمتدين ، وصلة المؤمن بالمؤمن ، وعلى الأكثر إنما هي صلة التابع بالمتبوع الذي سبقه بمعرفة الحق والإيمان بالدعوة والتفاني في سبيلها ، فلا محل للثورة ، ولا محل للتذمر ، ولا محل لنكران الجميل ، إنما اللائق أن يعترفون لهم بالفضل ، وتلهج ألسنتهم بالشكر والدعاء ، وأن يقولوا : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } .
وهكذا كان ، فقد ظلت هذه الأمم المفتوحة تعتبر العرب المنقذ من الجاهلية والوثنية ، والداعي إلى دار السلام ، والقائد إلى الجنة ، والمعلم للحضارة ، والأستاذ في الأدب .
هذه هي القيادة العالمية التي هيأتها البعثة المحمدية ، وهي القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص ، ويعضوا عليها بالنواجذ ، ويسعوا إليها بكل ما أوتوا من مواهب ويتواصى بها الآبار والأبناء ، ولا يجوز لهم – في شريعة العقل والدين والغيرة – أن يتخلوا عنها في زمن من الأزمان ، ففيها عوض عن كل قيادة مع زيادة ، وليس في غيرها عوض عنها وكفاية ، وهي القيادة التي تشمل جميع أنواع القيادة والسيارة ، وهي تسيطر على القلوب والأرواح ، أكثر من سيطرتها على الأجسام والأشباح .
إن الطريق إلى هذه القيادة ممهدة ميسورة للعرب ، وهي الطريق التي جربوها في عهدهم الأول (( الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها وتنبيها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة )) .
وبذلك – من غير قصد وإرادة لنيل هذه القيادة وتبوئها – تخضع لهم الأمم الإسلامية في أنحاء العالم ، وتتهالك على حبهم وإجلالهم وتقاليدهم ، وبذلك تنفتح لهم أبواب جديدة وميادين جديدة في مشارق الأرض ومغاربها ، الميادين التي استعصت على غزاة الغرب ومستعمريه وثارة عليه ، وتدخل أمم جديدة في الإسلام ، أمم فتية في مواهبها وقواها وذخائرها ،أمم تستطيع أن تعارض أوربا في مدنيتها وعلومها إذا وجدت إيماناً جديداً ، وديناً جديداً ، وروحاً جديداً ، ورسالة جديدة .
إلى متى أيها العرب تصرفون قواكم الجبارة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة ؟ وإلى متى ينحصر هذا السيل العرم – الذي جرف بالأمس بالمدنيات والحكومات – في خدود هذا الوادي الضيق ، تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضاً ؟ إليكم هذا العالم الإنساني الفسيح الذي اختاركم الله لقيادته واجتباكم لهدايته ، وكانت البعثة المحمدية فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمتكم وفي تاريخ العالم جميعاً ، وفي مصيركم ومصير العالم جميعاً فاحتضنوا هذه الدعوة الإسلامية من جديد وتفانوا في سبيلها وجاهدوا فيها {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .

**************************************

(242) حديث الشيخ الصالح السيد علي الهجويري دفين لاهور أن شيخه أمره بالرحلة إلى لاهور والإقامة فيها ، فاعتذر بأن هناك زميله الشيخ حسين الزنجاني فلا لزوم لذهابه ، فقال : لا بد أن تذهب وتقيم بها : قال : فشددت رحلي وامتثلت أمر الشيخ ووصلت إلى لاهور في الليل وقد غلقت أبوابها فبت ليلتي خارج السور . ولما أصبحت وفتح باب السور إذا بالناس يحملون جنازة الشيخ حسين ، فعرفت سر أمر الشيخ ودخلت البلد . وخلفته في عمله دعاء الخلق إلى الله ( كشف المحجوب للهجويري )

(243) التذكرة الآدمية ( الفارسية ) .

(244) نزهة الخواطر ، المجلد الخامس ، للشيخ عبدالحي الحسني .

(245) ذيل الرشحات ( الفارسية )

(246) در المعارف ( الفارسية ) ، نزهة الخواطر ( العربية ) .

(247) در المعارف

(248) هو السير السيد أحمد خان صاحب الدعوة إلى التعليم الإنجليزي في الهند ومؤسس الجامعة الشهيرة في عليكرة .

(249) آثار الصناديد ( الأوردية )

(250) در المعارف ( الفارسية ) .

(251) الكلمات التي بين القوسين منقولة لفظاً .

(252) نزهة الخواطر للشيخ عبدالحي الحسني ( المجلد السادس ) .

(253) { َأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } . ( الحديد )

(254) تمعدد الغلام : شب وغلظ . وقيل معناه : تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكان ذا غلظ وتقشف .

(155) اخشوشن : تخشن في المطعم والملبس .

(256) اخشوشب : صار صلباً كالخشب في أحواله وصيره على الجهد .

(257) تبذلوا في الملابس .

(258) رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي .

(259) رواه البخاري .

(260) رواه مسلم .

(261) اقرأ في ذلك كتاب : Forced Labour in Russia
لمؤلفه : Professor Ernest Tallgren

(262) تضم سورة الإسراء وقصة المعرج وإعلانات بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبى القبيلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله وإمام الأجيال بعده .

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ماذا, المسلمين؟, العالم, بانحطاط


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أشهر حملات الاضطهاد ضد المسلمين في العالم بالصور نور الإسلام هدي الإسلام 0 21-04-2014 04:01 PM
ماذا خسر العالم بوجود الكتاب المقدس نور الإسلام كتب ومراجع مسيحية 0 30-05-2013 06:13 AM
ماذا خسر العالم بوجود الكتاب المقدس نور الإسلام كتب ومراجع مسيحية 0 30-05-2013 06:13 AM
مجموعة كبيرة من المسلمين الجدد فى أنحاء العالم نور الإسلام لماذا أسلموا؟؟ 0 15-04-2012 02:58 PM
فكرة دعوية جديدة مجلة ( صوت المسلمين في العالم ) مزون الطيب أبواب الدعوة 0 14-01-2012 02:08 PM


الساعة الآن 04:58 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22