صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع مسيحية

كتب ومراجع مسيحية بحوث ودراسات وكتب مفيدة للباحثين في الدين والعقيدة المسيحية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-02-2012 ~ 11:28 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 11
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الفصل الثالث
نصوص العهد الجديد...الطبعات،المخطوطات،والاختلافات


ما رأيناه من الممارسات التي كانت تقع في أثناء عملية النسخ حتى هذه اللحظة ينتمي في الأغلب إلى القرن الثالث المسيحي ،عندما كان معظم نساخ النصوص المسيحية من غير المحترفين ،ممن لم يتلقوا تدريبًا على القيام بهذه الوظيفة ، بل كانوا ببساطة مسيحيين مثقفين من هذه الطائفة أو تلك،ممن يعرفون القراءة والكتابة ولذلك طُلب إليهم أن يعيدوا كتابة النصوص التي تمتلكها الطائفة في أوقات فراغهم (1) .ولأنهم لم يحصلوا على تدريبٍ عالٍ يؤهلهم للقيام بعمل كهذا ،فقد كانوا أكثر ميلا للوقوع في تلك الأخطاء التي ما كان للمحترفين من النسَّاخ أن يقعوا فيها.
هذا يفسر لماذا كانت النسخ المبكرة من كتابات المسيحيين الأوائل تميل إلى الاختلاف في العادة من نسخةٍ لأخرى وبالمقارنة مع النسخ المتأخرة أكثر مما تختلف فيه النسخ المتأخرة(ولنقل التي تنتمي إلى العصور الوسطى العليا) فيما بينها . في النهاية أصبحت هناك طبقة من النساخ المسيحيين المحترفين تمثل جزءًا من المشهد الفكري المسيحي ،وبظهور هؤلاء النسَّاخ المحترفين ظهرت ممارسات نسخية أكثر انضباطًا ،ارتكبت فيها الأخطاء بشكل أقل من المعتاد.
قبل أن يحدث ذلك،وأثناء القرون الأولى من عمر الكنيسة،كانت النصوص المسيحية يتم نسخها في أي مكان كانت تكتب فيه أو تؤخذ إليه. ولأن النصوص كانت تنسخ محليًّا،فلم يكن من قبيل المفاجأة أن تقوم المدن الأخرى بتطوير أنواع أخرى من التقاليد النصية.
بكلماتٍ أخرى،المخطوطات التي كتبت في روما وجدت فيها الكثير من الأخطاء ذاتها،لأنها كانت في الغالب وثائقًًا "للاستخدام المحلي" ،كتبت من ناسخ لآخر ؛فلم تتأثر كثيرًا بالمخطوطات التي كانت تنسخ في فلسطين؛ وتلك التي نسخت في فلسطين كانت لها خصائصها المميزة،والتي لم تكن من النوع نفسه الموجود في مخطوطات مكان مثل الإسكندرية،في مصر. فوق ذلك، في القرون المبكرة للكنيسة،كان لبعض الأماكن نسَّاخ أفضل من المتوفرين في الأماكن الأخرى.ولقد أصبح العلماء المعاصرون يقرُّون بأن نساخ الإسكندرية– التي كانت مركزًا فكريًأ رئيسيًا في العالم القديم- كانوا بشكل خاص من ذوي الضمائر الحية ،حتى في هذه القرون القديمة،وهناك ،أي في الإسكندرية، ظل شكلٌ شديدُ النقاءِ من نصوص كتابات المسيحيين الأوائل محفوظًا،طوال عشرات السنين،عبر نساخ مسيحيين متفانين و ماهرين نسبيًا.


النساخ المسيحيُّون المحترفون
متى بدأت الكنيسة في استخدام النسَّاخ المحترفين لنسخ نصوصها؟ هناك أسباب مقنعة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن ذلك قد حدث في وقت ما قريب من بداية القرن الرابع. فقبل ذلك الحين،كانت المسيحية ديانة صغيرة تعتنقها أقلية داخل الإمبراطورية الرومانية ،كثيرًا ما تعرضت هذه الأقلية للاضطهاد،و للتعذيب أحيانًا. ولكنَّ تغييرًا عنيفًا وقع حينما تحول إمبراطور روما،قسطنطين،إلى الإيمان عام 312 ميلاديًا تقريبًا. فجأة تغير حال المسيحية من كونها ديانة المنبوذين مجتمعيًا ،المعذَّبين بأيدي الرعاع و سلطات الإمبراطورية على حدٍ سواء ،إلى لاعبٍ رئيسيّ في المشهد الديني في الإمبراطورية. لم يتوقف التعذيب فحسب بل وانهالت العطايا على الكنيسة من القوة الأعظم في العالم الغربي. وقد نتج عن ذلك اعتناقات جماعية للمسيحية،كما أصبح أن تكون تابعًا من أتباع المسيح أمرًا شائعًا في عصرٍ زعم فيه الإمبراطور نفسه علانيةً التزامه بالمسيحية.أعداد أكبر وأكبر من الحاصلين على تعليم عالٍ و من المدربين تحولوا إلى المسيحية. وكان من الطبيعيّ أن يكونوا الأشخاص الأكثر أهليةً لنسخ نصوص التقليد المسيحي.هناك أسباب تجعلنا نفترض أن قريبًا من هذه الفترة ظهرت الإسكريبتوريات المسيحية (Christian ******oria) في المناطق الحضرية الرئيسية(2). والإسكريبتوريا هي مكان لنسخ المخطوطات يتميز بكون نسَّاخه من المحترفين. لدينا إشارات عن أماكن النسخ (الإسكريبتيريات) المسيحية التي كانت تعمل في وقت قريبٍ من بواكير القرن الرابع. في 331 ميلاديًا كتب الإمبراطور قنسطنطين ،الذي كان يريد توفير نسخ من الكتب المقدسة (Bibles ) في الكنائس الرئيسية التي قام ببنائها، أمرًا لأسقف قيصرية ،يوسابيوس (3)،لكي يتولى الإشراف على كتابة خمسين نسخة من الكتاب المقدس على نفقة الإمبراطور. تعامل يوسابيوس مع هذا الطلب بكل الأبهة والاحترام اللذين يستحقهما ،وعمل على تنفيذه. وكما هو واضح،فإن تنفيذ مثل هذا الأمر الجسام كان يتطلب مواقع للنسخ تتسم بالاحترافية ،ناهيك عن المواد اللازمة لكتابة نسخ باهظة من الكتابات المقدسة المسيحية. نحن الآن في عصر آخر قبل هذا بقرن فقط أو قرنين عندما سيكون على الكنائس المحلية أن تطالب ببساطة بأن يقوم واحدًا من أعضائها بجمع وقت فراغ كاف لكتابة نسخة من نص. بدءًا من القرن الرابع أصبحت نسخًا من الكتاب المقدس تكتب عن طريق المحترفين؛هذا حدَّ بشكل كبير من عدد الأخطاء التي تسللت إلى النص. في النهاية،بعد أن مرَّت ليس فقط عشرات السنين بل قرون، أصبح نسخ المخطوطات اليونانية يقع على عاتق الرهبان اللذين يعملون في الأديرة،اللذين قضوا أيامهم في نسخ النصوص المقدسة بعناية وبضمير حيّ. استمر هذا الأمر منذ مطلع العصور الوسطى وعبرها ،وصولا إلى عصر اختراع الطباعة بالحروف المتحركة في القرن الخامس عشر.الحجم الأكبر من المخطوطات اليونانية المتوفرة في أيدينا كتبت بأقلام هؤلاء النساخ المسيحيين المنتمين إلى القرون الوسطى اللذين عاشوا وعملوا في الشرق (في المناطق الواقعة الآن في تركيا واليونان على سبيل المثال)،المعروف باسم الامبراطورية البيزنطية. ولهذا السبب، تسمى المخطوطات اليونانية التي يعود تاريخها إلى القرن السابع فما فوق أحيانًا المخطوطات "البيزنطية". و كما أوضحت سابقًا،أي شخص له معرفة بمنهج مخطوطات العهد الجديد يعلم أن هذه النسخ البيزنطية تميل إلى أن تكون شديدة التشابه من واحدة لأخرى، في حين تختلف النسخ الأقدم بشكل كبير سواء فيما بينها أو مع شكل النص الموجود في هذه النسخ الأحدث(أي البيزنطية). السبب وراء ذلك لابد وأنه واضح الآن: هذا الأمر كان له علاقة بشخصية ناسخ النصوص (النساخ المحترفين) ومكان قيامهم بعملية النسخ(في نطاق محدودة نسبيًا). على الرغم من ذلك ،من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن كون المخطوطات الأحدث متوافقة بشكل كبير بعضها مع بعض ،فإنها تكون لهذا السبب شاهدنا الرئيسي على النص "الأصلي" للعهد الجديد.وذلك لأن الإنسان ينبغي أن يتسائل دائمًا:أين حصل هؤلاء النسَّاخ المنتمين إلى القرون الوسطى على هذه النصوص التي نسخوها بهذه الطريقة الاحترافية؟ لقد حصلوا عليها من نصوص أقدم ،التي هي مع ذلك نسخ من نصوص أقدم،التي هي بدورها نسخٌ من نصوص أخرى أقدم. لذلك، النسخ الأقرب من ناحية الشكل إلى الأصول هي ،ربما وبشكل غير متوقع،نسخ العصور الأقدم الأكثر اختلافا و الأقل اتقانًا،وليس النسخ الأحدث التي تتميز بأنها أكثر احترافية وتوافقًا.

الفولجاتا(الشعبية) اللاتينية

ممارسات النساخ التي قمت بتلخيصها تتعلق بشكل أساسي بالجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية ،حيث كانت اللغة اليونانية،ومازالت،هي اللغة الرئيسية.لم يكن على المسيحيين في المناطق التي لا تتحدث باليونانية من اللذين كانوا يريدون النصوص المسيحية المقدسة بلغتهم المحلية الخاصة ،على الرغم من ذلك،الانتظار طويلا . كانت اللاتينية،بالطبع،لغة الشطر الأكبر من الجزء الغربي من الإمبراطورية؛ أما السوريانية فقد كانت اللغة الرسمية في سوريا؛بينما القبطية هي السائدة في مصر . في كل منطقة من هذه المناطق ، أصبحت كتب العهد الجديد تترجم إلى هذه اللغات الوطنية،ربما في وقت ما في النصف الثاني من القرن الثاني . ثم بعد ذلك نسخت هذه النصوص ذاتها عبر النسَّاخ في مناطقهم المحلية (4). حملت الترجمات اللاتينية أهمية خاصة لتاريخ النص،لأن عددًا كبيرًا جدًا من المسيحيين الغربيين نظروا إلى هذه اللغة كلغتهم الرئيسية. إلا أنه سرعان ما ظهرت إشكاليات بخصوص الترجمات اللاتينية للكتاب المقدس،حيث كان ثمَّة عدد كبير جدًا منها وقد كانت هذه الترجمات شديدة الاختلاف بشكل كبير فيما بينها . تحولت المشكلة إلى أزمة قريبًا من نهاية القرن الرابع المسيحي عندما منح البابا (داماسوس) (جيروم)، العالم الأبرز بين علماء عصره، تفويضًا لوضع ترجمة لاتينية "رسمية" يمكنها أن تلقى قبول المسيحيين المتحدثين باللسان اللاتيني في روما وأي مكان آخر كنص معتمد(an authoritative text). يتحدث جيروم نفسه عن كثرة الترجمات المتوفرة ،وأخذ على نفسه عهدًا بحل هذه المشكلة. وعبر اختياره لواحدة من أفضل الترجمات اللاتينية المتوفرة آنذاك،وبمقارنة نص هذه الترجمة بالمخطوطات اليونانية الأرفع مقامًا المتوفرة تحت يده، قام جيروم بإنتاج طبعة جديدة من الأناجيل باللغة اللاتينية. ومن المحتمل أنه ،أو واحد من أتباعه، كان مسئولا عن الطبعة الجديدة من كتب العهد الجديد اللاتينية الأخرى(5). هذا الشكل من الكتاب المقدس باللغة اللاتينية-ترجمة جيروم- أصبح يعرف بالكتاب المقدس "الفولجاتا" (= الشعبية) الخاصة بالعالم المسيحي المتحدث باللاتينية. وقد كانت "الفولجاتا" هي الكتاب المقدس بالنسبة للكنيسة الغربية،وهي ذاتها نسخت وأعيد نسخها مرارًا وتكرارًا. لقد كانت الفولجاتا هي الكتاب الذي كان المسيحيون يقرأونه،والعلماء يدرسونه،واللاهوتيون يستخدمونه طوال قرون حتى الزمن الحاضر.اليوم يبلغ عدد نسخ "الفولجاتا" اللاتينية ضعف ما هو موجود من مخطوطات العهد الجديد اليونانية.

النسخة المطبوعة الأولى من العهد الجديد باللغة اليونانية

كما أشرت، نص العهد الجديد نُسِخ في شكل معياري بكل ما في الكلمة من معنى عبر قرون العصور الوسطى،سواء في الشرق(النص البيزنطي) أو في الغرب (الفولجاتا اللاتينية). لقد كان اختراع ماكينة الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي على يد جوهانس جوتنبرج(1400 – 1468) هو الذي غيَّر كل شئ يتعلق بإعادة إنتاج الكتب بشكل عام وأسفار الكتاب المقدس على وجه الخصوص. فعبر طباعة الكتب بالحروف المتحركة ،أصبح الإنسان باستطاعته أن يضمن خروج كل صفحة في صورة مماثلة تمامًا لكل صفحة أخرى، من غير وجود اختلاف في صياغة النص من أي نوع كان. لقد ذهبت بلا رجعة تلك الأيام التي كان النسّاخ ينتجون فيها كلٌّ على حدى نسخًا مختلفة من النص ذاته عبر التغييرات غير المقصودة أو تلك المتعمدة. ما أصبح يكتب باستخدام آلة الطباعة يماثل النقش على الحجر .فوق ذلك ،أصبحت الكتب يتم إنتاجها بسرعة أكبر: فلم تعد هذه الكتب في حاجة لأن يتم نسخها على حرف واحد بشكل منفصل.وصارت ،نتيجة لذلك، تنتج بتكلفة أقل. ربما ليس هناك أي شئ أحدث تأثيرًا جذريًا على العالم المعاصر مقارنة بماكينة الطباعة؛ الشئ الأقرب في تأثيره بعد الطباعة (والذي ربما،كمحصلة نهائية،يمتاز عنها بشكل كبير) هو ظهور الكمبيوتر الشخصي. العمل الرئيسي الأول التي كان له أن يطبع من خلال ماكينة طباعة جوتنبرج كان نسخة رائعة من الكتاب المقدس اللاتيني (الفولجاتا)، الذي استغرقت طباعته الفترة بين العامين 1450 و 1456 (6). في خلال نصف القرن الذي تلى ذلك،حوالي خمسين نسخة من "الفولجاتا" تمت طباعتها في العديد من بيوت الطباعة في أوروبا. وربما يبدو غريبًا أنه لم يكن هناك حافزٌ لطباعة نسخة من العهد الجديد باليونانية خلال هذه السنوات المبكرة من عمر الطباعة. لكن السبب يسهل اكتشافه:إنه السبب الذي أشرنا إليه من قبل بالفعل. لقد كان العلماء في أنحاء أوروبا- بما فيهم علماء الكتاب المقدس- معتادين خلال ألف عام تقريبًا على الاعتقاد بأن ترجمة جيروم الشعبية (الفولجاتا)هي كتاب الكنيسة المقدس(شئ ما يشبه ما تفترضه بعض الكنائس المعاصرة من أن نسخة الملك جيمس هي الكتاب المقدس "الصحيح"). كان الاعتقاد هو أن الكتاب المقدس اليوناني كتاب غريب عن اللاهوت و العلم؛ ففي الغرب اللاتيني كان ينظر إليه كشئ ينتمي إلى المسيحيين اليونان الأرثوذكس،اللذين ينظر إليهم كمنشقين تمردوا على الكنيسة الصحيحة. عددٌ قليل من العلماء في غرب أوروبا كانوا بالكاد يعرفون القراءة باليونانية. وهكذا، من البداية، لم يجد أحدٌ شعورًا بالحاجة إلى طباعة كتاب مقدس باليونانية. أول عالم غربي واتته فكرة إنتاج نسخة من العهد الجديد باليونانية كان الكاردينال الإسباني المسمى خيمينس دو سيزنيروس(1437 – 1517). تحت قيادته،مجموعة من العلماء،بينهم واحدٌ يسمى دييجو لوبيز دي ستونيكا،أخذوا على عاتقهم طباعة نسخة متعددة المجلدات من الكتاب المقدس. وكانت هذه النسخة متعددة اللغات؛أي أنها أعادت إنتاج الكتاب المقدس بلغات متعددة.وهكذا،طرحوا العهد القديم باللغة العبرية الأصلية، "الفولجاتا" اللاتينية،والسبعينية اليونانية،جنبًا إلى جنب في أعمدة .(ما كان هؤلاء المحررون يعتقدونه بخصوص أفضلية "الفولجاتا" يمكن أن نراه في تعليقاتهم بخصوص هذا الترتيب في مقدمتهم : فقد شبهوه بالمسيح ــــ متمثلا في "الفولجاتا" ـــ الذي كان مصلوبًا بين مجرمين، اليهود الأشرار ممثلين في النص العبري واليونانيين المنشقين ممثلين في السبعينية.)
طُبِعَ هذا العمل في بلدة تدعى "ألكالا" التي تسمى باللاتينية "كومبلوتم" (Complutum) . لهذا السبب ، عرفت نسخة خيمنس باسم الكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات. المجلد الخاص بالعهد الجديد كان أول ما تم طبعه(المجلد رقم 5 ،وتم الانتهاء منه في 1514)؛ كان يضم بين دفتيه النص اليوناني ومعجمًا يونانيًا مصحوبًا بالمقابل اللاتيني. إلا أنه لم يكن هناك نية لنشر هذا المجلد في شكل منفصل ـ فقد نشرت المجلدات الست جميعها معًا(كانت الست مجلدات تضم قاموس وكتاب نحو عبري لتساعد على قراءة المجلدات 1-4)،واستغرق هذا وقتًا كبيرًا. العمل بالكامل تم الانتهاء منه بحلول 1517؛ لكن وحيث إنه كان منتجًا كاثوليكيًا، كان يلزمهم تصديق البابا ليو العاشر،قبل أن يخرج إلى الوجود. وقد حصلوا عليه أخيرًا في 1520، ولكن بسبب تعقيدات أخرى ،لم يتم توزيعه قبل 1522، بعد وفاة خيمنس نفسه بخمس سنوات تقريبًا. كما رأينا ،قريبًا من هذه الفترة كان هناك المئات من المخطوطات اليونانية (أي نسخ مكتوبة بخط اليد)تحت يد الكنائس المسيحية والعلماء في الشرق. كيف تسنى لـ"ستونيكا" ومن تحت قيادته من المحررين أن يحددوا أي هذه المخطوطات يصلح للاستخدام،وأي هذه المخطوطات كان متوفرًا بالفعل بين أيديهم؟
للأسف ،هذه الأسئلة لم يكن باستطاعة العلماء مطلقًا الإجابة عليها بشكل مؤكد. في إهدائه للعمل ،عبر خيمنس عن امتنانه للبابا ليو العاشر من أجل النسخ اليونانية التي استعارها من "المكتبة الباباوية." وهكذا فربما أتت مخطوطات هذه الطبعة من ممتلكات الفاتيكان. بعض العلماء بالرغم من ذلك يساورهم الشك في أن المخطوطات التي كانت متوفرة محليًا ربما تكون قد استخدمت . بعد حوالي 250 عامًا من إصدار الكتاب المقدس الكومبلوتي، زار عالم دانماركي يدعى مولدنهوفر "ألكالا" لمعاينة مصادرها المتوفرة في المكتبات حتى يجيب على هذا السؤال،لكنه لم يستطع أن يجد مخطوطات للعهد الجديد اليوناني على الإطلاق. وقد قام ،لارتيابه في أن المكتبة لابد وأنها كانت تحوي في وقت ما بعضًا من هذه المخطوطات،بإجراء أبحاثا دؤوبة حتى أُخبِر أخيرًا من خلال أمين المكتبة بأن المكتبة كانت تحوى بالفعل مخطوطات يونانية قديمة للعهد الجديد،لكنها بيعت جميعا في عام 1749 لصانع صواريخ يدعى "توريو" "كرقوق عديمة الفائدة "(لكن صالحة لصناعة الصواريخ النارية). مؤخرًا حاول العلماء تكذيب هذه الحكاية (7). إلا أنها على الأقل تظهر أن دراسة مخطوطات العهد الجديد اليونانية ليست علم لصناعة الصواريخ.


يتبـــــــــــــــــع بإذن الله

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:29 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 12
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


أول طبعات العهد الجديد اليوناني نشرًا

على الرغم من أن الكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات كان أول نسخة مطبوعة من العهد الجديد اليوناني ،إلا أنه لم يكن أول الطبعات نشرًا. فقد طبعت النسخة الكومبلوتية ،كما رأينا ، حوالي 1514 . لكنها لم ترَ النور كنسخة منشورة قبل 1522. بين ذينك التاريخين قام العالم المقدام والمفكر الإنساني الهولندي "ديسيديريوس إيرازاموس" بطبع ونشر نسخة من العهد الجديد اليوناني ،ليحصل بذلك على شرف تحرير ما يعرف بالـ(editio princeps)، أي أولى النسخ نشرًا. كان "إيرازاموس" قد قام بدراسة العهد الجديد،جنبًا إلى جنب مع الكتابات الأخرى العظيمة التي أبدعها القدماء،على فترات متقطعة خلال سنوات عديدة،ورأى في لحظةٍ ما مدى أهمية إصدار نسخة للطباعة .
غير أن ناشرًا يدعى "جوهان فروبن"سرعان ما اقنعه، عند زيارته مدينة "بازل" في أغسطس 1514 ، بأن يتقدم خطوة إلى الأمام. كان كلا من إيرازاموس وفروبن يعلمان أن الكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات في حيز الإعداد للنشر، ولذلك قررا نشر نص يوناني بأسرع ما يمكن ،إلا أن التزامات أخرى منعت "إيرازاموس" من مواصلة مهمته بشكل جادٍّ حتى يوليو من العام 1515. في هذا الوقت ذهب إلى "بازل" بحثًا عن المخطوطات الملائمة التي يمكنه استخدامها كأساسٍ لنصه. لم يكتشف ثروة عظيمة من المخطوطات ،لكنَّ ما وجده كان كافيًا لتنفيذ مهمته. في الأغلب ، اعتمد على حفنة قليلة من مخطوطات القرون الوسطى المتأخرة ،التي قام بوضع علامات عليها كما لو كان يقوم بتحرير نسخة مكتوبة يدويًا استعدادا للطباعة؛ عامل المطبعة أخذ المخطوطات بتلك العلامات عليها و رتب حروفه مباشرة من خلالهم. يبدو أن "إيرازموس" اعتمد بشدة على مخطوطة واحدة فقط من القرن الثاني عشر لكتابة الأناجيل وغيرها،وأيضًا مخطوطات من القرن الثاني عشر لكتابة سفر أعمال الرسل و الرسائل – على الرغم من أنه كان قادرًا على الرجوع إلى مخطوطات أخرى عديدة و إدخال تصحيحات اعتمادًا على قراءاتها. من أجل سفر الرؤية كان مضطرًا لاستعارة مخطوطة من صديقه الأديب الألماني "جوهانس رويشلين" ؛ هذه المخطوطة، للأسف، كانت قراءة بعض المواضع فيها مستحيلا تقريبًا، وكانت صفحتها الأخيرة ،التي حوت الأعداد الستة الأخيرة من السفر، مفقودة. وفي أثناء عجلته لإنهاء عمله، استخدم إيرازموس في هذه المواضع "الفولجاتا" اللاتينية حيث قام بترجمة نصها مرة أخرى إلى اليونانية ، ونتيجة لذلك إختلق بعض القراءات النصية التي ليس لها وجود في أي مخطوطة يونانية باقية حتى اليوم. وهذه ،كما سنرى،هي نسخة العهد الجديد التي كان مترجموا نسخة "الملك جيمس" يستخدمونها لمدة قرن تقريبًا بعد ذلك. بدأت عملية طباعة نسخة إرازاموس في أكتوبر 1515 وتم الانتهاء منها خلال خمسة أشهر فحسب.تضمنت النسخة النص اليوناني المجمَّع على عجل والنسخة المنقحة من "الفولجاتا" اللاتينية، جنبًا إلى جنب (في النسخ الثانية و ما تلاها،ضم إرازموس ترجمته اللاتينية الخاصة لنص الكتاب المقدس بدلًا من "الفولجاتا" الأمر الذي أحدث ما هو أكثر من الصدمة لكثيرٍ من علماء اللاهوت في هذا العصر اللذين لا يزالون يعتبرون أن "الفولجاتا" هي كتاب الكنيسة المقدس "الحقيقي"). لقد كان كتابًا كبيرًا بلغت صفحاته الألف تقريبًا. ومع ذلك، كما قال "إرازموس" نفسه فيما بعد،لقد كانت "درجة العجلة في نشرها أكبر من درجة تنقيحها" (أو كما قال حرفيًا باللغة اللاتينية: praecipitatum verius quam editum).
من المهم الاعتراف بأن نسخة إرازموس(أصدر خمس نسخ ،كلها تعتمد بشكل أساسي على هذه النسخة الأولى المجمعة بشكل متسرع ) هي النسخة المنشورة الأولى (editio princeps)من العهد الجديد اليوناني ليس لأنها تمثل حكاية تاريخية ممتعة، لكن أكثر من ذلك لأنها أصبحت ،باعتبارها تاريخ للنص المتطور، الشكل المعياري للنص اليوناني الذي قامت بنشره دور الطباعة في غرب أوروبا لما يزيد عن ثلاثة قرون.
تتابعت العديد من النسخ اليونانية التي أصدرها ناشرون من ذوي الأسماء المعروفة جيدًا لدى العلماء في هذا المجال مثل: "استيفانوس" ،أو(روبرت إشتين)،"ثيودور بيزا"،و"بونافينتشر" و"أبراهام إلتسفير". كل هذه النصوص،بالرغم من ذلك، اعتمدت ،إن بشكل أكبر أو أقل، على نسخ من سبقهم، والتي تعود جميعها إلى نسخة إرازموس بكل أخطائها والتي اعتمدت على حفنة قليلة من المخطوطات(أحيانًا مخطوطتين فقط أو حتى واحدة ـــ بل بلا أي مخطوطة أحيانًا وذلك في أجزاء من سفر الرؤية!)التي كانت قد كتبت في وقت متأخر نسبيًّا من القرون الوسطى. دور الطباعة في الغالب لم تبحث عن المخطوطات التي ربما تكون أقدم وأفضل ليعتمدوا عليها في إخراج نصوصهم. بل قاموا ،بدلاً من ذلك ، بطبع وإعادة طبع النص ذاته،مدخلين فقط تغييرات محدودة للغاية. البعض من هذه النسخ رائع بالتأكيد. فالطبعة الثالثة من نسخة ستيفانوس المنشورة في 1550 ،على سبيل المثال، جديرة بالذكر باعتبارها أولى النسخ على الإطلاق احتوءا على ملاحظات توثق الاختلافات بين بعض المخطوطات محل البحث؛ كما إن طبعته الرابعة(1551) هي ،على أية حال، الأبرز بين طبعاته، حيث إنها النسخة اليونانية الأولى من العهد الجديد التي قسمت النص إلى أعداد. قبل ذلك،كان النص يطبع بأجمعه بدون أي إشارة إلى التقسيم إلى أعداد. هناك حكاية طريفة تتعلق بالكيفية التي قام بها ستيفانوس بعمل هذه النسخة. ذكر ابنه فيما بعد أن استيفانوس كان قد اتخذ قراره بخصوص التقسيم بالأعداد(معظمها مازال باقيًا عندنا في الترجمات الإنجليزية) بينما كان يقوم برحلة على ظهر حصان. بلا شك كان يعني أن والده كان"يعمل على الطريق"ـــــ ما يعني أنه أدخل أرقام الأعداد أثناء الليالي التي كان يقضيها في الفنادق حيث كان يقيم. لكن بعد أن قال ابنه بشكل حرفي إن ستيفانوس أدخل هذه التغييرات "وهو على ظهر حصانه" اقترح بعض المعنيين، تهكمًا، أن يكون بالفعل قد قام بعمله أثناء ترحاله. ولذلك عندما كان حصانه يرتطم بأي مطب بشكل مفاجئ ،كان قلم ستيفانوس يقفز،ما يفسر بعض المواضع الشاذة إلى حدٍ ما التي مازلنا نجدها في ترجماتنا الإنجليزية للعهد الجديد. ما أحاول أن أثبته ،على الرغم من ذلك، هو أن كل النسخ اللاحقة،بما فيها نسخ ستيفانوس،تعود في النهاية إلى النسخة ال" editio princeps " الخاصة بإرازموس التي كانت تعتمد على بعض المخطوطات اليونانية الأحدث،وليست بالضرورة موثوق بها،ــــ وهي تلك التي وجدها في "بازل" إلى جانب المخطوطة التي استعارها من صديقه رويتشلين. ليس هناك سبب يجعلنا نعتقد أن هذه المخطوطات كانت عالية الجودة على نحوٍ خاص. بل ببساطة كانت تلك المخطوطات هي التي كان بمقدوره الحصول عليها. بالفعل ،كما يبدو ،هذه المخطوطات لم تكن الأفضل من ناحية الجودة:فلقد كتبت،في النهاية، بعد المخطوطات الأصلية بحوالي أحد عشر قرنًا!
كمثال،المخطوطة الرئيسية التي استخدمها "إرازموس" لإخراج الأناجيل كانت تحتوي على قصة المرأة الزانية الموجودة في إنجيل يوحنا و أيضًا الاثنى عشر عددًا الأخيرة من إنجيل مرقس ،وهي الفقرات التي لم تكن في الأصل جزءًا من الأناجيل،كما علمنا في الفصل السابق. لقد كان هناك على الرغم من ذلك فقرة أساسية من الكتاب المقدس لم تكن موجودة ضمن المخطوطات المصدر التي كانت لدى "إرازموس". وهي تسجيل الأعداد من رسالة يوحنا الأولى إصحاح 5 والأعداد 7-8 والتي يطلق عليها العلماء مسمى الـ فاصلة اليوحنّاويّة " Johannine Comma" . هذه الأعداد موجودة في مخطوطات الفولجاتا اللاتينية ولكنها مفقودة في الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية . هذه الفقرة كانت هي المفضلة لدى اللاهوتيين المسيحيين لفترة طويلة،حيث إنها الفقرة الوحيدة في الكتاب المقدس بأكمله التي تشير بوضوح إلى عقيدة الثالوث ،أي وجود ثلاثة أقانيم بطبيعة إلهية، إلا أن الثلاثة جميعًا يشكلون إلهًا واحدًا فحسب . هذه الفقرة تقرأ في الفولجاتا كالتالي:
" لأن اللذين يشهدون في السماء هم ثلاثة:الآب، الكلمة، والروح،وهذه الثلاثة هي واحد؛ واللذين يشهدون في الأرض ثلاثة ،الروح،الماء،والدم،وهؤلاء الثلاثة في الواحد."
وهي فقرة غامضة ،لكنها تدعم التعاليم التقليدية الخاصة بالكنيسة والمتعلقة بـ"الإله المثلث الأقانيم الذي هو واحد " على نحوٍ لا لبس فيه.
في غياب هذه الفقرة، لابد أن نستنبط عقيدة الثالوث من عدد من الفقرات المجمَّعَة للدلالة على أن المسيح هو الله،كما هو الحال بالنسبة للروح وللآب و على أن هناك ،على الرغم من ذلك ، إلهًا واحدًا فحسب. هذه الفقرة ،على النقيض من الفقرات الأخرى، تصرح بهذه العقيدة بشكل مباشر وموجز. لكنَّ "إرازموس" لم يجدها في مخطوطاته اليونانية والتي ببساطة تُقرأ بدلا من ذلك كالتالي:
"هناك ثلاثة يشهدون:الروح،الماء،والدم،وهذه الثلاثة هم واحد."
أين ذهب "الآب، والابن،والروح القدس"؟ لم يرد أيّ ذكرٍ لهم في مخطوطة "إرازموس" الرئيسية،أو في أيٍّ من المخطوطات الأخرى التي رجع إليها،وهكذا، بطبيعة الحال، لم يذكرهم في نسخته اليونانية الأولى . وهذا ما أثار غضب اللاهوتيين في عصره أكثر من أي شئ آخر .فقد اتهموه بالعبث بالنص في محاولة منه للتخلص من عقيدة التثليث والحط من فاعليتها،التي هي عقيدة الطبيعة الإلهية الكاملة للمسيح. أحد المحررين الرئيسيين للكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات واسمه"ستونيكا" قام بنشر تجريحه في سمعة "إيرازموس" وأصر على أن يعيد العدد في الطبعات المستقبلية إلى مكانها الصحيح.
وتمضي القصة،ويوافق "إرازموس"ــــ ربما في لحظة ضعف ــ على أن يدرج هذا العدد في الطبعة المستقبلية للعهد الجديد باللغة اليونانية على شرطٍ واحدٍ:أن يقدم خصومه مخطوطة يونانية يحتمل أن يوجد بها هذا العدد(وجودها في مخطوطات لاتينية ليس كافيًا). وهكذا ظهرت إلى الوجود مخطوطة يونانية! في الواقع ، ظهرت هذه المخطوطة إلى الوجود بهذه المناسبة. يبدو أن شخصًا ما قام بنسخ نصٍ يونانيٍ يحوي الرسائل وعندما وصل إلى هذه الفقرة موضع البحث،قام بترجمة النص اللاتيني إلى اللغة اليونانية ،لتظهر ال" Johannine Comma" في شكلها المألوف... والمفيد لاهوتيًا. المخطوطة التي قدمت إلى "إرازموس"، بكلمات أخرى ،يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر أي أنها كتبت حسب طلب الزبون. وعلى الرغم من تشككه،إلا أن "إرازموس" كان عند كلمته وضمَّن الـ" Johannine Comma" نصَّ نسختِه وكل طبعاته المتتالية. هذه الطبعات،كما أشرت من قبل،أصبحت الأساس بالنسبة لكل النسخ التي أعيدت طباعتها من العهد الجديد اليوناني مرة بعد أخرى عبر أناس مثل "ستيفانوس" ،"بيزا"،و"إلزيفيرز". هذه النسخ قدمت شكلا من النص اعتمد عليه في النهاية مترجموا "نسخة الملك جيمس" من الكتاب المقدس. وكذلك الفقرات المألوفة لدى قراء الكتاب المقدس بترجمته الإنجليزيةـ بدءًا من نسخة الملك جيمس الصادرة 1611 فصاعدًا،حتى النسخ المعاصرة في القرن العشرين ــــ التي ضمت الفقرة الخاصة بالمرأة الزانية،والإثني عشر عددًا الأخيرة من مرقس،و الفاصلة اليوحناوية(Johannine Comma )،على الرغم من أن أيًا من هذه الفقرات ليس لها وجود في المخطوطات اليونانية الأقدم والأعلى شأنًا للعهد الجديد. هذه الفقرات دخلت إلى تيار الوعي لدى المتحدثين بالإنجليزية فقط عبر مصادفة تاريخية وذلك اعتمادًا على مخطوطات تصادف أن كانت في متناول يد "إرازموس" وأخرى صنعت لمساعدته.
هذه النسخ اليونانية المتنوعة التي صدرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت شديدة التشابه لكنَّ دور الطباعة تمكنت في النهاية من الزعم أنها النص المقبول عالميًا لدى كل العلماء وقراء العهد الجديد اليوناني ــ وهو ما حدث بالفعل،حينما لم يعد هناك منافسون!
الادعاء الأكثر ورودًا على الألسنة نجده في نسخة صدرت عام 1633 بمعرفة "أبراهام" و "بونافنتشر إلزفير" (اللذان هما عمٌّ وابن أخيه)، أخبروا فيه قراءهم ،في كلماتٍ أصبحت منذئذ معروفة لدى العلماء،:"أنتم الآن تملكون النص المقبول لدى الجميع،الذي لم نضمنه أي شئ تعرض للتغيير أو التشويه."(8)
المعنى الوارد في هذا السطر،خاصة هذه الكلمات:"المقبول لدى الجميع،" هو ما أمدنا بالجملة الشائعة " Textus Receptus"( التي يتم اختصارها بالرمز T.R) ،وهو مصطلح يستخدمه علماء النقد النصي للإشارة إلى النص اليوناني الذي يعتمد ،لا على أقدم المخطوطات وأفضلها،وإنما على شكل من النص نشره في الأصل "إرازموس" وسلمه إلى دور الطباعة لما يزيد عن ثلاثة قرون حتى بدأ علماء النقد النصي يشددون على أن العهد الجديد اليوناني ينبغي أن ينشأ على أسس علمية تعتمد على أقدم مخطوطاتنا و أفضلها وليس ببساطة على نسخ أعيد طبعها وفقًا لرغبات الزبون. لقد كان شكلا نصيًّا أدنى قيمة من النص المستلم " Textus Receptus" هو الذي كان أساسًا للترجمات الإنجليزية المبكرة ،مثل إنجيل الملك جيمس ،والنسخ الأخرى حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا.


"مِلّ" وشواهده على العهد الجديد اليوناني

كان نص العهد الجديد اليوناني ،إذن،يبدو وكأنه يقف على قدم صلبة حسب قناعات معظم العلماء اللذين استطاعوا أن يستفيدوا من النسخ المطبوعة خلال القرنين السادس عشر و السابع عشر . في النهاية،كل النسخ تقريبًا كانت متماثلة في صياغتها.إلا أن العلماء كرَّسوا أنفسهم أحيانًا لكشف والإشارة إلى أنَّ المخطوطات اليونانية تختلف عن النص والذي طبع بشكل غير رسمي. رأينا كيف أن "ستيفانوس" ضمَّن نسخته المطبوعة في 1550 هوامشًا تحدد مواضع الاختلاف بين مخطوطات عديدة كان قد اطلع عليها(أربعة عشر مخطوطة إجمالا). بعدذلك ، في القرن السابع عشر،نُشِرَت نسخٌ بمعرفة علماء إنجليز مثل "بريان والتون" و "جون فِلّ" تعاملوا فيها مع الاختلافات بين المخطوطات المحفوظة (والمتاحة) بشكل أكثر جدية إلى حدٍ ما. لكنَّ أحدًا تقريبًا لم يعترف بضخامة مشكلة الاختلاف النصي حتى العام 1707 وهو عام صدور واحدة من كلاسيكيات ميدان النقد النصي للعهد الجديد،وهو الكتاب الذي كان له تأثيرٌ وخيمٌ على دراسة نقل(transmission) العهد الجديد اليوناني ،فاتحًا كل السدود التي أجبرت العلماء على التعامل مع مشكلة النصية لمخطوطاتنا للعهد الجديد بشكل أكثر جدية (9) . إنها نسخة العهد الجديد اليوناني التي أصدرها "جون ملّ"،الحاصل على درجة الزمالة من الكلية الملكية ،بجامعة أكسفورد. استثمر "ملّ" ثلاثين عامًا من العمل الدؤوب في تجميع المادة العلمية اللازمة لنسخته. النص الذي قام بطباعته هو ببساطة نسخة "ستيفانوس" الصادرة في عام 1550 م . لكنَّ الشئ المُهمّ في نسخة "ملّ " لم يكن النص الذي استخدمه، بل القراءات التي تختلف عن نصه هذا التي ذكرها في هوامشه النقدية. كان بمقدور "مِلّ" الوصول إلى حوالي مائة مخطوطة يونانية من مخطوطات العهد الجديد. أضف إلى ذلك، أنه قام بفحص كتابات آباء الكنيسة الأوائل بعناية ليرى الكيفية التي كانوا يستشهدون بها بالنص – حيث افترض أن الإنسان يمكنه أن يعيد بناء المخطوطات التي كانت لدى هؤلاء الآباء عن طريق فحص اقتباساتهم. فوق ذلك، وعلى الرغم من أنه لم يكن يعرف الكثير من اللغات القديمة الأخرى بخلاف اللاتينية،فإنه قد استخدم نسخة نشرت قبل ذلك عن طريق "والتون " ليرى المواضع التي تختلف فيها النسخ الأقدم المكتوبة بلغات مثل السوريانية والقبطية عن تلك المكتوبة باليونانية.
على أساس هذه الجهود المكثفة التي استمرت ثلاثين عامًا بهدف تجميع المخطوطات،نشر "مِلّ" نصه المصحوب بالشواهد،التي أشار فيها إلى مواضع الاختلاف بين المخطوطات الحية الموجودة في حوذته. نظرًا للصدمة و الفزع اللذين شعر بهما كثير من قرائه،فرزت شواهد "مِلّ" قريبًا من ثلاثين ألف موضع من الاختلافات بين المخطوطات الموجودة. ثلاثون ألف موضع كانت تمثل قراءات مختلفة للفقرات الواردة في العهد الجديد احتوتها المخطوطات ،والقراءات الآبائية(نسبة إلى آباء الكنيسة)،والنسخ.
لم يكن "مِلّ" شاملا في تقديمه للبيانات التي جمعها. لقد وجد،في الواقع،أكثر بكثير من ثلاثين ألف موضع من الاختلافات. لكنه لم يذكر كل ما اكتشفه. فقد تجاهل اختلافات مثل تلك التي تتعلق بتغيير ترتيب الكلمات. مع ذلك، كانت المواضع التي ذكرها كافية لدفع جمهور القراء بعيدًا عن القبول بالواقع اعتمادًا على كثرة طباعة النص المستلم (Textus Receptus) والافتراض الأبله بأنه داخل النص المستلم يملك المرء العهد الجديد اليوناني"الأصلي". الآن دخلت مكانة النص الأصلي في حيز النزاع من أوسع الأبواب. لو لم يكن المرء يعلم أي الكلمات تنتمي بالفعل للعهد الجديد اليوناني،فكيف سيكون بمقدوره أن يستخدم هذه الكلمات في تقرير العقيدة والتعاليم المسيحية الصحيحة؟


النزاع الذي أحدثته شواهد "مِلّ"

تأثير كتاب "ملّ" أصبح ملموسًا بشكل سريع،على الرغم من أنه لم يعش ليشهد بنفسه مآل النزاع. لقد مات، ضحية لسكتة قلبية،بعد نشر مؤلفه الضخم بأسبوعين فقط. موته المفاجئ(قال أحد المراقبون أنه حدث نتيجة "تناول كمية كبيرة للغاية من القهوة"!) لم يمنع خصومه،على الرغم من ذلك، من مواصلة النزاع. الهجوم الأكثر قسوة حدث بعد ذلك بثلاث سنوات في مجلد علمي كتبه أحد المناظرين البارعين وكان يسمى "دانيال ويتبي"،الذي نشر في عام 1710 مجموعة من الملاحظات على تفسير العهد الجديد ،أضاف إليها ملحقًا من مائة صفحة فحص فيه بشكل أكثر تفصيلا الاختلافات التي ذكرها "مِلّ" في ثنايا شواهده. كان "ويتبي" عالم لاهوت بروتستانتي محافظ وكانت رؤيته الأساسية تتلخص في أنه على الرغم من أن الرب بالتأكيد لم يحُل دون تسلل الأخطاء إلى النسخ التي أعدها النسَّاخ من العهد الجديد،إلا أنه في الوقت ذاته لم يسمح على الإطلاق بفساد النص (أي تحريفه) إلى الحد الذي يكفي لمنعه (أي الكتاب المقدس)من إنجاز هدفه وغرضه المقدس. ولذا نجده ينتحب قائلا،"أشعر بالحزن والغيظ من أنني وجدت الكثير في مقدمة "مِلّ" النقدية مما يبدو بوضوح تام أنه يضع أساس الإيمان في دائرة عدم الموثوقية،أو على أحسن تقدير يعطي الآخرين الحُجة للارتياب."(10)
ويستمر"ويتبي" فيفترض أن العلماء الرومان الكاثوليك- اللذين يطلق عليهم لقب"الباباويين"- سيشعرون بسعادة بالغة بسبب قدرتهم على إظهار أن الكتاب المقدس لم يكن مرجعًا كافيًا للإيمان وذلك اعتمادًا على الأسس غير الموثوقة للنص اليوناني للعهد الجديد، الأمر الذي يعني أن مرجعية الكنيسة بدلا من ذلك هي الأحق بالتقديم. كما نجده يصرح:"يجادل "مورينوس"(وهوعالم كاثوليكي)حول فساد النص اليوناني الذي يجعل سلطانه موضع شك بسبب اختلاف القراءات الموجودة في العهد الجديد اليوناني الخاص بـ"ر.ستيفنس" (=ستيفانوس)؛ فما حجم النصر إذن اللذي سيحققه الباباويّون على النص ذاته عندما سيَرَوْن الاختلافات التي ذكرها "مِلّ" بعد عمل مضنٍ استمر ثلاثين عامًا والتي تزيد عن الموجود الآن بأربعة أضعاف؟" (11)
تابع "ويتبي" دفوعه حول كون نص العهد الجديد ،في الواقع،هو نص موثوق به،حيث إنَّ الاختلافات التي ذكرها "مِلّ" نادرًا ما تتناول مسألة عقائدية أو قضية سلوكية، والغالبية العظمى من اختلافات "مٍِلّ" ليس لها أي صلة بقضية الموثوقية.
ربما كان "ويتبي" يقصد أن يبلغ رده تأثيره من دون أن يقرأه أحد في الواقع؛فهو رد يتكون من مائة صفحة منمقة،كثيفة،وغير جذابة من الدفوع المتشابهة،ومن ثمّ فهو يحاول أن يبني قضيته ببساطة على ضخامة حجم رده. دفاع "ويتبي" ربما كان سينهي الجدل حول هذه القضية بشكل أفضل لو لم يظهر هؤلاء اللذين استخدموا المواضع الثلاثين ألفًا التي استخرجها "مِلّ" لكي يصلوا بها إلى النهاية التي كان "ويتبي" يخشاها،ألا وهي الجدال حول كون نص الكتاب المقدس لا يمكن الوثوق به لأن عدم موثوقيته تنبع من ذاته. الذين جادلوا حول هذه القضية تزعَّمهم "أنتوني كولينز" وهو إنجليزي ديسطيقي ***** وكان صديقًا وتابعًا لـ"جون لوك"الذي كتب في عام 1713 كتيبًا عنونه بـ "مقالة حول التفكير الحر". هذا الكتيب كان نموذجًا للأفكار الديسطيقية في بواكير القرن الثامن عشر: حيث كان يدعوا إلى تقديم المنطق والدليل على الوحي(الموجود في الكتاب المقدس كمثال) والمعجزات المتوهمة.في الفصل الثاني من الكتاب الذي يتناول "القضايا الدينية" يذكر "كولينز"،في وسط الآلاف من الأمور الأخرى،أن رجال الدين المسيحيين ("مِلّ" كمثال) كانوا ولا يزالون "يملكون الدليل ويبذلون الجهد لإثبات أن نص الكتاب المقدس غير موثوق به،" مشيرًا من ثمّ إلى اختلافات "مِلّ" الثلاثين ألفًا.


يتـبـــــــــــــع بإذن الله

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:30 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 13
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


أثار كتيب "كولينز"،الذي قُرئ على نطاق واسع وكان له تأثيرٌ بالغٌ ، عددًا من الردود الصارمة،كثيرٌ منها كان يتسم بالغموض ويتطلب جهدًا لفهمه،وبعضها ينم عن مستوى علمي رفيع وينم عن شعور بالاستياء . كانت محصلته الأبرز، ربما، أنها استقطبت إلى حلبة الصراع واحدًا من ذوي السمعة العالمية الرفيعة من العلماء ،ألا وهو "ريتشارد بنتلي"، عميد ترينيتي كوليج بجامعة كامبردج . اكتسب "بنتلي" شهرته من اشتغاله بأعمال المؤلفين الكلاسيكيين من أمثال هوميروس،هوراس،و تيرينس. في رده على كل من "ويتبي" و"كولينز"،الذي صدر تحت عنوان " pseudonym Phileleutherus Lipsiensis" الذي يعني شئ ما مثل "مُحِبُّ الحرية من "ليبزج" "ــ في إشارة واضحة إلى دعوة "كولينز" إلى "التفكير الحر")، أوضح "بنتلي" أن القراءات المختلفة التي أحصاها "مِلّ" لا يمكن أن تجعل أساس الإيمان البروتستانتي موضع شك ،حيث إن هذه القراءات كانت موجودة حتى قبل أن يلاحظها "مِلّ" . فهو لم يخترعها اختراعًا و لكنه فقط لفت الأنظار إليها!
لو كان لنا أن نصدق ليس هذا المؤلف الحكيم (كولينز) فحسب ،ولكن أيضًا أستاذكم الحاصل على درجة الدكتوراه الأكثر حكمة (ويتبي)، فإنه (أي مِلّ)كان شغله الشاغل طوال كل هذا الوقت أن يثبت أن نص الكتاب المقدس مشكوك في أصالته...فعلام كل هذا الصريخ والشجب من أستاذكم" ويتبي"؟جهود الدكتور ،كما يقول هو، تجعل كامل نص الكتاب المقدس موضع ريبة و يضر بكلا من الحركة الإصلاحية لمصلحة "الباباويين"و الدين ذاته لمصلحة الملحدين... لا سمح الله ! سنظل نظن به كل الخير. بالتأكيد هذه القراءات المتباينة كانت موجودة من قبل في العديد من النماذج؛ إن الدكتور "مِلّ" لم يصنعهم صنعًا ولم يبتكرهم ابتكارا ، ما قام به هو أن أبرزهم فحسب أمام أعيننا. ولذلك لو كان الدين صحيحًا قبل ذلك ، على الرغم من وجود مثل هذه القراءات المتباينة: فإنه ما يزال صحيحًا وبالتالي موثوقًا به، على الرغم معرفة كل الناس بها (أي بالقراءت المتباينة). بناءا على ذلك ، ليس هناك حقيقة أو مسألة معروضة عرضًا غير متحيزٍ يمكن أن تؤثر على الإطلاق على دين الحق (12)
"بنتلي" ، كونه خبيرًا في التقاليد النصية للكتابات الكلاسكية، يواصل لفت الانتباه إلى أن الإنسان يمكنه أن يتوقع العثور على عددٍ وفيرٍ من القراءات النصية المتباينة كلما اكتشف عددًا كبيرًا من المخطوطات. فلو كان لعمل من الأعمال مخطوطة واحدة فحسب ، فحينئذٍ لن تجد قراءات نصية متباينة. فإذا وجدت مخطوطة أخرى ،فستختلف عن الأولى في عددٍ من المواضع . وعلى الرغم من ذلك ، فإنَّ هذا ليس بالأمر السيء لأن عددًا من هذه القراءات المتباينة سيبين أين احتفظت المخطوطة الأولى بالخطأ. أضف مخطوطة ثالثة وستجد قراءات متباينة إضافية،بل أيضًا مواضع جديدة ،في المحصلة،قد حُفِظ فيها النص الأصلي(أي في المكان الذي تتفق فيه المخطوطتان الأوليان في خطأ ما). وهكذا دَوَاليْك - كلما يتم اكتشاف مخطوطات جديدة ، كلما تتزايد القراءات المتباينة؛ لكنَّ ذلك يرلفقه كذلك المزيد من التشابهات التي في مكان ما بين هذه القراءات المتعددة يمكن للمرء أن يكتشف النص الأصلي. لذلك، الثلاثين ألف قراءة الكتباينة التي كشف عنها "مِلّ" لا تطعن في سلامة العهد الجديد؛ فهذه القراءات تقدم ببساطة البيانات التي يحتاجها العلماء للعمل على إنشاء النص ،الذي هو النص الأكثر موثوقية من أي نص آخر كتب في العالم القديم. كما سنرى في الفصل القادم ، هذا الجدال الدائر حول كتاب "مِلّ" دفع في النهاية "بنتلي" ليحول قدراته العقلية غير العادية إلى مشكلة تأسيس النص الأقدم المتوفر من العهد الجديد. قبل الانتقال إلى هذا البحث فربما ينبغي علينا ،على الرغم من ذلك ، أن نعود خطوة إلى الوراء لكي نتأمل مكاننا اليوم بالمقارنة مع اكتشاف "مِلّ" الرائع فيما يخص الثلاثين ألف قراءة المتباينة الموجودة في التقليد المخطوط للعهد الجديد .

موقفنا في الوقت الحاضر


على الرغم من أن "مل" علِمَ بوجود حوالي مائة مخطوطة يونانية وقام بفحصها ليكشف الاختلافات الثلاثين ألفًا التي أعلن عنها، فإن ما نعرفه اليوم أكثر من ذلك ،بل أكثر من ذلك بكثير. ففي آخر إحصاء ،تم الكشف عن أكثر من خمسة آلاف وسبعمائة مخطوطة يونانية و فهرستها. وهذا يمثل من ناحية العدد سبعة وخمسين ضعفًا مما أتيح لـ"ملّ" الاطلاع عليه في عام 1707 . هذه الخمسة آلاف وسبعمائة تشمل كل شئ بدءًا من أصغر كِسَر من المخطوطات – أي في حجم بطاقة الائتمان – إلى الأعمال الرائعة و شديدة الضخامة التي حفظت كاملةً . بعضها يتكون من كتابٍ واحدٍ فقط من العهد الجديد ؛والبعض الآخر يضم بين ثناياه مجموعة صغيرة (الأناجيل الأربعة و رسائل بولس كمثال) ؛ والقليل للغاية منها يشمل العهد الجديد بكامله (13) . هناك ،أيضًا ، كثير من مخطوطات النسخ ( = ترجمات العهد الجديد) المبكرة المتعددة. هذه المخطوطات يمتد تاريخها بين بدايات القرن الثاني ( كسرة صغيرة تسمى P52،والتي تضم عددًا من الأعداد من يوحنا 18) وصولا إلى القرن السادس عشر (14) . هذه المخطوطات تتفاوت بشكل كبير من ناحية الحجم :فبعضها يمثل نسخًا صغيرة في حجم كف اليد ، مثل النسخة القبطية من إنجيل متى ،التي تسمى المخطوطة الصعيدية(Scheide Codex) ، والتي يبلغ حجمها 4x5 بوصة ؛والبعض الآخر نسخٌ كبيرة للغاية ومثيرة للإعجاب منها المخطوطة السينائية سابقة الذكر التي يبلغ حجمها 15 x 13.5 بوصة والتي أثارت الإعجاب عند الكشف عنها كاملة . البعض من هذه المخطوطات كان من مواد رخيصة وتم نسخه على عجل ؛فبعضها كان قد تم نسخه بالفعل فوق صفحات مستعملة (أي أنها وثيقة تم محوها وكتب نص العهد الجديد على قمة الصفحات الممحاة)؛ بينما البعض الآخر كان نسخًا أنفق عليها بسخاء و غالية الثمن ومنها بعض المخطوطات التي كُتِبَت على رق أرجواني اللون بحبر فضيّ أو ذهبيّ .
كالعادة ، يتحدث العلماء عن أربعة أنواع من المخطوطات اليونانية (15) .
1- الأقدم وهي البرديات ،وهي مخطوطات مكتوبة على مواد مصنوعة من قصب البردي ، وهي مخطوطات قيمة لكنها رخيصة الثمن ومادة كتابة ذات فعالية في العالم القديم ؛ يؤرخ لها بين القرنين الثاني والسابع .
2- المخطوطات الماجوسكول (= المكتوبة بالحروف الكبيرة ) وهي مصنوعة من البرشمان (= جلود الحيوانات ؛أحيانًا يطلق عليها الرق) ثم أطلق عليها الحروف الكبيرة ، وهي تشبه إلى حد ما الحروف الكابيتال المعروفة لدينا؛ وتؤرخ هذه المخطوطات ،في أغلب الأحيان ،من القرن الرابع إلى التاسع.
3- المخطوطات المينوسكول (= ذات الحروف الصغيرة )وهي مصنوعة أيضًا من البرشمان لكنها كتبت بحروف صغيرة كثيرا ما يتم وصلها (من غير أن يغادر القلم الصفحة) إلى ما يشبه المقابل اليوناني لحروف الرقعة (التي تكون الحروف فيها متشابكة )؛وهذه يؤرخ لها بدءًا من القرن التاسع فصاعدًا
4- الفصول وهي عادة ما تكتب بالحروف الصغيرة من ناحية الشكل ، لكنها بدلا من أن تضم كتب العهد الجديد ، تضم في شكل منتظم ، "قراءات " مأخوذة من العهد الجديد لاستخدامها في الكنيسة كل أسبوع أوفي كل عطلة (مثل الفصول التي تستخدم في الكنائس اليوم ).
بالإضافة إلى هذه المخطوطات اليونانية ، نعلم بوجود عشرة آلاف مخطوطة للفولجاتا اللاتينية ،ناهيك عن مخطوطات النسخ الأخرى ، مثل الترجمة السريانية ، والقبطية ، الأرمينية ، والجورجية القديمة ،ومخطوطات الكنيسة السلافية ...إلى آخره ( تذكروا أن "مِلّ" كان لديه إمكانية الاطلاع على القليل من النسخ القديمة فحسب ، وهذه كان يعرفها فقط عن طريق ترجماتها اللاتينية).
بالإضافة إلى ذلك ، لدينا كتابات آباء الكنيسة مثل "كليمنت السكندري"، "أوريجانوس" و "أثاناسيوس" من بين الآباء اليونانيين و "ترتليانوس"،و "جيروم" ،و "أوغسطينوس" من بين الآباء اللاتينيين – كلهم اقتبسوا من نصوص العهد الجديد في مواضع ،مما جعل إعادة بناء ما كانت عليه مخطوطاتهم (التي هي مفقودة حاليًا،في الغالب) أمرًا ممكنًا.
في وجود هذه الوفرة من الأدلة ،ماذا يمكننا أن نقول عن العدد الإجمالي للقراءات المتباينة المعروفة في وقتنا الحاضر ؟
يختلف العلماء بشكل كبير في أحكامهم – البعض يقول إن هناك 200.000 قراءة متباينة تم التعرف عليها ،البعض الآخر يقول 300.000 ، البعض يقول 400.000 أو أكثر ! نحن لا نعلم على وجه اليقين عددها لأنه ،على الرغم من التطورات المدهشة التي حدثت في مجال تكنولوجيا الكمبيوتر ،لا أحد إلى الآن قادرٌ على عدّهم جميعًا . ربما ، كما أشرت من قبل ،من الأفضل ببساطة أن نضع المسألة في صورة مقارنات.فلنقل: إن عدد القراءات المتباينة بين مخطوطاتنا يفوق عدد الكلمات الموجودة في العهد الجديد.


أنواع الاختلافات التي تشتمل عليها مخطوطاتنا

لو كان لدينا مشكلة في الحديث حول أعداد التغييرات الموجودة حتى الآن ،فماذا يمكننا أن نقول حول أنواع التغييرات الموجودة في هذه المخطوطات؟ يفرق العلماء اليوم بشكل عام بين التغييرات التي يبدو أنها وقعت بشكل غير المقصود عبر أخطاء النساخ وتلك التي تقع بشكل متعمد ، أي بعد تروٍّ وطول نظر . هذه ليست تحديدات قاطعة وعجلى ،بطبيعة الحال ، لكنها تبدو حتى الآن سليمة: فالإنسان يمكنه مشاهدة كيف أن ناسخًا من النساخ يمكن أن يغفل عن طريق السهو كلمة عند كتابته أحد النصوص (تغيير عرضي) ،لكن من الصعب مشاهدة كيف أمكن للأعداد الإثنى عشرة الأخيرة من إنجيل مرقس أن تضاف إلى الإنجيل بخطأٍ في الكتابة .
وهكذا ، ربما يجدر بنا أن ننهي هذا الفصل بأمثلة قليلة لكل نوع من هذه التغييرات. سأبدأها بالإشارة إلى بعض أنواع القراءات المتباينة التي تقع بشكل "عرضيّ".



تغييرات عرضية

أخطاء الأقلام العرضية(16) كانت بلا شك تزداد تفاقمًا ،كما رأينا ، بسبب حقيقة أن المخطوطات اليونانية كانت جميعها مكتوبة بالخط المتصل (scriptuo continua) - وبدون علامات ترقيم ،غالبًا، وبلا حتى مسافات فاصلة بين الكلمات. هذا يعني أن الكلمات التي بدت متشابهةً كثيرًا ما كانت تؤدي لإساءة الفهم بين واحدة وأخرى. كمثال ، في 1 كور 5: 8 ، يخبر بولس قراءه أنهم ينبغي أن يتناولوا المسيح ،حمل الفصح ، وأن لا يأكلوا "الخَمِيرَةٍ العَتِيقَةٍ ، خَمِيرَةِ الْخُبْثِ وَ الشَّرِّ." الكلمة الأخيرة ،الشر، تقابلها باليونانية بونيراس PONERAS ،التي تشبه كثيرًا كلمة بورنياس PORNEIAS المقابلة لـمعنى" الفجور الجنسي". الفرق في المعنى ربما ليس كبيرًا، لكن من المدهش أنه في مخطوطتين من المخطوطات الموجودة ، يحذر بولس بكل وضوح وصراحة ليس من الشر بشكل عام ، ولكن من الرذيلة الجنسية خصوصًا. هذا الشكل من الأخطاء الإملائية كان يحدث على الأرجح بسبب حقيقة أن النساخ أحيانًا يختصرون كلمات معينة اختصارًا للوقت والمساحة. الكلمة اليونانية المقابلة لحرف العطف "الواو"،كمثال، هي KAI ،التي كان بعض النساخ ببساطة يكتبون بدلا منها الحرف الأول K ، مع وضع علامة تحتانية في النهاية للإشارة إلى أنها اختصار . على نحوٍ مماثلٍ ،في 1 كور 12 : 13 ، يشير بولس إلى أن كل إنسان في المسيح قد " تم تعميده إلى جسدٍ واحد " وأنهم جميعًا "سقوا من روحٍ واحدةٍ."
الكلمة "روح" (PNEUMA) كانت قد تمَّ اختصارها في معظم المخطوطات إلى (PMA)، التي من المتوقع أنها ستفهم خطئًا ،وقد حدث ذلك بالفعل حين فهمها بعض النُسَّاخ باعتبارها المقابل اليوناني للكلمة "شراب"(POMA) ؛ وهكذا ففي هذه الشواهد قيل إن بولس يشير إلى أن الجميع "شربوا من شراب واحد." نوع شائع من الأخطاء في المخطوطات اليونانية حدث حينما كان سطران من النص المنسوخ ينتهي بالحروف نفسها أو بالكلمات نفسها.
ربما كان ناسخ من النساخ يكتب السطر الأول من نص ما ، وبعد ذلك عندما ترجع عينه إلى الصفحة ،فلربما سيلاحظ الكلمات ذاتها موجودةً في السطر التالي ،بدلا من السطر الذي كان للتوّ ينسخه؛ عندها سيواصل النسخ من هناك و ،نتيجة لذلك، سيهمل الكلمات أو السطور الواقعة بينهما أو كليهما . هذا النوع من الأخطاء يطلق عليه ال (periblepsis ) أي (قفزة عين) الواقعة نتيجة للـ (homoeoteleuton) أي (النهايات المتشابهة).
أحد الأمور التي أعلِّمها لطلابي هي أنهم يستطيعون الادعاء بحصولهم على تعليم جامعي بمجرد أن يستطيعوا الحديث بذكاء حول (قفزة العين التي تتسبب فيها النهايات المتشابهة).
يمكننا شرح كيفية حدوث ذلك عبر التمثيل بنص إنجيل لوقا 12: 8-9 الذي يُقْرَأ كالتالي :
8 الذي يعترف بي أمام البشر ، ابن الإنسان
سيعترف به أمام ملائكة الله
9 لكن من ينكرني أمام البشر
سينكره أمام ملائكة الله
مخطوطتنا الأقدم المصنوعة من البردي لهذه الفقرة تخلو من العدد 9 بالكامل ؛ وليس من الصعوبة بمكان أن نرى كيف وقع الخطأ. الناسخ قام بنسخ الكلمات "أمام ملائكة الله" في العدد 8 ، وعندما ارتدت عينه إلى الصفحة ،لاحظت عينه الكلمات ذاتها في العدد 9 فافترض أنها هي ذاتها الكلمات التي قام للتوّ بنسخها ـ وهكذا واصل نسخ العدد 10، تاركًا العدد 9 بالكامل .
أحيانًا يكون هذا النوع من الأخطاء أكثر كارثية بشكل مريع بالنسبة لمعنى النص. في إنجيل يوحنا 17 :15 ،على سبيل المثال، يقول يسوع في صلاته إلى الرب عن تلامذته:
لا أطلب منك أن تحفظهم من ال
عالم ، لكن أن تحفظهم من ال
شرير.
في واحدة من أفضل مخطوطاتنا (المخطوطة الفاتيكانية من القرن الرابع) الكلمات " عالم. . .من ال" نجدها محذوفة ، لكي يصبح يسوع الآن يتفوه بهذه الصلاة المشئومة " لا أطلب منك أن تحفظهم من الشرير"!
في بعض الأحيان كانت الأخطاء العرضية تقع لا لأنَّ الكلمات كانت تبدو متشابهة ،لكن لأن نطقهم يبدو متشابهًا.
من الممكن أن يحدث هذا ،على سبيل المثال ، عندما يقوم أحد النساخ بنسخ نص يملى عليه - عندما يكون أحد النساخ يقرأ من إحدى المخطوطات و ناسخ آخر أو عدد أكبر من النساخ الآخرين يقومون بنسخ الكلمات إلى مخطوطة جديدة،كما كان يحدث أحيانًأ في السكريبتوريات بعد القرن الرابع . فلو حدث أن كلمتين كانتا تنطقان بالطريقة ذاتها، فإن الناسخ الذي يضطلع بمهمة النسخ ربما عن طريق السهو سيستخدم الكلمة الخاطئة في نسخته خاصةً إذا كان المعنى يبدو جيدًا للغاية (رغم خطئه). يبدو أن هذا هو ما حدث ،على سبيل المثال، في سفر الرؤيا 1 :5 ، حيث يصلي المؤلف إلى "الواحد الذي حررنا من خطايانا."
فالكلمة المقابلة ل" حرَّر" هي (LUSANTI) يتطابق نطقها تماما مع الكلمة المقابلة ل" طهَّرَ" (LOUSANTI)، وهكذا فلن نتفاجأ أن يصلِّي المؤلِّف في عدٍد من مخطوطات التي ترجع إلى العصور الوسطى إلى الواحد "الذي طهرنا من خطايانا."
مثال آخر وقع في رسالة بولس إلى أهل رومية ، حينما يصرح بولس بأنه" منذ أن تبررنا بالإيمان ، حصلنا على السلام مع الرب" (روم. 5: 1). أم هل هذا هو ما قاله؟ الجملة التي تعني " حصلنا على السلام،" في الحقيقة ،تُنطق تماما مثلما تُنطق الجملة "اجعلنا نحصل على السلام," التي هي نوع من الحثّ. وهكذا في عدد كبير من المخطوطات، بما في ذلك البعض من أقدم المخطوطات الموجودة في حوذتنا،لم يكن بولس على يقين من أنه وأتباعه وصلوا إلى السلام مع الله ،فهو يحث نفسه والآخرين على أن يسعوا إلى السلام. هذه فقرة من أجلها لاقى علماء النقد النصيّ مشقة في تقرير أي القراءات هي الصحيحة (17). في حالات أخرى يوجد ما هو أقل التباسا ، لأن التغيير الحادث في النص ،إن كان غير مفهوم ،ينتج عنه نصٌ غير مفهوم كبديل عن النص المفهوم . وهذا يحدث كثيرا ،وكثيرا ما كان للأسباب ذاتها التي كنا نناقشها.
على سبيل المثال ،في يوحنا 5 :39 ، يخبر يسوع خصومه أن "يفتشوا الكتب . . . لأنها تشهد لي." في إحدى المخطوطات القديمة ،الفعل الأخير تم تبديله بفعل يشبهه من ناحية النطق لكنه لا يعطي معنى مفهومًا في سياقه. في تلك المخطوطة يقول يسوع " فتشوا الكتب . . . لأنها تتجنّى عليّ"!
مثال آخر يأتي من سفر الرؤيا ،حيث يرى النبي رؤيا عن عرش الله وحوله يوجد" َقَوْسُ قُزَحَ شِبْهُ الزُّمُرُّدِ" (4 :3). في بعض مخطوطاتنا الأكثر قدمًا هناك اختلاف، شديد الغرابة كما سيبدو ، يقال لنا فيه إنَّ "شيوخًا يشبهون الزمرد " حول العرش!
ولعل أكثر الأخطاء غرابة في مخطوطاتنا من بين كل الآلاف من الأخطاء غير المقصودة هو ذلك الخطأ الذي يقع في واحدة من المخطوطات المينوسكول (ذات الأحرف الصغيرة) للأناجيل الأربعة التي تحمل رقم 109 رسميًا ، والتي كتبت في القرن الرابع(18) . خطأها الفريد من نوعه يقع في لوقا ،الإصحاح 3 ،في حساب سلسلة نسب يسوع .من الواضح أن النساخ كان ينسخ مخطوطة تضع سلسلة النسب في عمودين.
لبعض الأسباب ،لم يقم بنسخ عمود واحدٍ في المرة الواحدة ، لكنه نسخ عبر العمودين. كنتيجة لذلك ،الأسماء الواردة في سلسلة النسب أصبحت غير متوافقة ، حيث معظم الأبناء دعوا إلى آباء غير آبائهم بطريق الخطأ. لا يزال هناك ما هو أسوأ ،العمود الثاني من النص الذي كان الناسخ يقوم بنسخه لا يشتمل على الكثير من سلاسل النسب التي يحتويها الأول ، لنصل الآن ، في النسخة التي قام بنسخها ، إلى أن أبا الجنس البشري (أي الاسم الأخير المذكور) ليس هو الله وإنما أحد الإسرائيليون الذي يدعى فارص (Phares)؛ والله ذاته قيل عنه أنه ابن أحد البشر الذي يدعى آرام !


التغييرات العمدية

التغييرات التي رأيناها يسهل ، من بعض الوجوه ، تحديدها والتخلص منها أكثر من غيرها عند محاولة إيجاد الشكل الأقدم من النص. التغييرات العمدية يميل تحديدها إلى أن يكون أكثر صعوبة بعض الشئ.وذلك تحديدًا لأنها حدثت (بوضوح) مع سبق الإصرار والترصد، كما أن هذه التغييرات تميل إلى أن تعطي معنى مفيدًا. وحيث إنها تعطي معنى مفيدًا ، فسيكون هناك دائما نقّادٌ يجادلون حول أن هذه التغييرات تعطي المعنى الأفضل- ما يعني أنها هي القراءة الأصلية. هذا ليس نزاعًا بين العلماء الذين يعتقدون أن النص قد تعرض للتحريف وبين هؤلاء الذين يعتقدون غير ذلك. الجميع يعلمون أن النص قد تم التلاعب به ، وإنما القضية هنا هي: أي قراءة تمثل التحريف وأيها تمثل أقدم شكل يمكننا الحصول عليه من النص. وفي هذا يتنازع العلماء أحيانا.
في عدد كبير من الحالات – أغلبها في الحقيقة - يتفق العلماء . ربما من المفيد لنا في هذه اللحظة أن نتناول بالبحث مجموعة كبيرة من أنواع التغييرات العمدية التي نجدها بين مخطوطاتنا ،وذلك باعتبارها تلك التغييرات التي سترينا الأسباب التي دفعت النسّاخ إلى اقتراف التحريف.
في بعض الأحيان قام النساخ بتغيير النصوص الموجودة بين أيديهم لأنهم كانوا يظنون أن النص يحتوي على خطأ يتعلق بإحدى الحقائق. يبدو الأمر على هذا النحو عند بداية إنجيل مرقس حيث يقدم المؤلف لإنجيله بقوله " كما هو مكتوب في إشعياء النبي ، ها أنا ارسل أمام وجهك ملاكي . . . اصنعوا سبله مستقيمة." المشكلة هي أن بداية الاقتباس ليست من إشعياء على الإطلاق بل يمثل توليفة من فقرة مأخوذة من سفر الخروج 23 : 20 و آخر مأخوذ من ملاخي 3 : 1 . عرف النسّاخ أن هذا يمثل إشكالية ولذلك قاموا بتغيير النص حيث جعلوه يقول " كما هو مكتوب في الأنبياء..." الآن ليس هناك مشكلة عزو اقتباس إلى غير موضعه . رغم ذلك من الممكن ،في الحقيقة، أن يكون هناك القليل من الشكوك حول ما كتبه مرقس: فنسبة الاقتباس إلى إشعياء ثابتٌ في أقدم وأفضل المخطوطات الموجودة لدينا.
في بعض الأحيان يكون "الخطأ " الذي يحاول أحد النسّاخ تصحيحه ليس متعلقًا بحقائق ،وإنما تفسيريًّا. هناك مثال شهير مأخوذ من إنجيل متى 24 :36 ، وفيه يتنبأ يسوع بنهاية الزمان و يقول " وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ ولا حتى الابن إِلاَّ الآب وَحْدَهُ. "
وجد النسّاخ معضلة في هذه الفقرة: ابن الله ، يسوع ذاته ، لا يعلم متى ستأتي النهاية ؟ كيف ذلك ؟ أليس هو كلِّيّ المعرفة ؟ لحل هذه المشكلة قام بعض النساخ بكل بساطة بتعديل النص عبر حذف الكلمات " ولا حتَّى الابن." والآن ربما تجهل الملائكة هذا الأمر ،أما ابن الله فكلا (19).
في بعض الحالات الأخرى غيَّر النسّاخ نصًا لا بسبب أنهم ظنوا أنه يحوي خطئًا وإنما لأنهم أرادوا أن يتحاشوا أن يُفْهَمَ النصُّ على نحوٍ خاطئ . متى 17 : 12 – 13 هو المثال الذي يصرح فيه يسوع بأن يوحنا المعمدان هو ذاته إيليّا ، النبي المزمع أن يأتي قبل نهاية الأيام :
"أقول لكم إن إيليا قد جاء ، ولم يتعرفوا عليه ،بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا يتمنون . هكذا أيضًا ابن الإنسان سوف يتألم منهم. حينئذ أدرك تلامذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا المعمدان."
المشكلة الكامنة هي أن النصَّ : وفقًا لمنطوقه ، يمكن تفسيره لكي يصبح معناه لا أنَّ يوحنا المعمدان كان هو إيليّا ، بل على أنه هو ابن الإنسان . يعلم النسّاخ تمام المعرفة أن هذا ليس هو المعنى الصحيح ، ولذلك قام البعض منهم بتحوير النص " حينئذ أدرك تلامذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا المعمدان" جاعلينه يقع قبل الكلام عن ابن الإنسان §.
في بعض الأحيان قام النسّاخ بتغيير النص الموجود بين أيديهم لأسباب لاهوتية واضحة وذلك حتَّى يتأكدوا من أن النص لن يُسْتَخْدَمَ من قِبَل "المهرطقين"، أو لكي يتأكدوا من أنها تقول ما يفترِضُ (النسَّاخ )أنها تعنيه بالفعل.
هناك العديد من الحالات توضح هذا النوع من التحريف ، سنبحثها بشكل أكثر تفصيلا في فصل من الفصول القادمة. أما الآن فسأشير فقط إلى مثالين اثنين من الأمثلة المختصرة .
في القرن الثاني كان هناك مسيحيون يؤمنون بشدة بأنَّ الخلاص الذي أتى به المسيح كان شيئًا جديدًا تمامًا ،و أرفع شأنًا من أي شئ شهده العالم على الإطلاق بل وحتى أرفع شأنا بالطبع من الديانة اليهودية التي كانت المسيحية قد انبثقت منها . بعض المسيحيين ذهبوا أبعد من ذلك إلى الإصرار على أن اليهودية ،ديانة اليهود القديمة ، قد أُبْطِلَتْ تمامًا بظهور المسيح.
بالنسبة لبعض النسَّاخ الذين كانوا يعتنقون هذه العقيدة ،بدى المثل الذي حكاه المسيح عن الخمر الجديدة والزقاق العتيقة ربما أنه ينطوي على مشكلات.
بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً.
وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ الْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ الْجَدِيدَ لأَنَّهُ يَقُولُ: الْعَتِيقُ أَطْيَبُ».
(لوقا 5 : 38-39 )
كيف يمكن ليسوع أن يشير إلى أن العتيقة أفضل من الجديدة ؟ أليس الخلاص الذي أتى به أسمى قدرًا من أي شئ قدمته اليهودية ( أو أي ديانة أخرى )؟ النسّاخ الذين وجدوا في هذه المقولة أمرًا مربِكًا تخلصوا من الجملة الأخيرة بكل بساطة ، لكي لا يقول يسوع الآن أي شئ بخصوص تلك العتيقة التي هي أفضل من الجديدة.
في بعض الأحيان قام النسّاخ بتحريف النصوص التي بين أيديهم لكي يطمئنوا على أن إحدى العقائد المفضلة لديهم قد تمَّ تعزيزُها على نحوٍ واف.
على سبيل المثال ، نجد هذا في فقرة الخاصة بسلسلة نسب يسوع في إنجيل متى ، التي تبدأ بأب اليهود ،إبراهيم ، وتتعقب سلسلة نسب يسوع من الأب إلى الابن عبر السلسلة وصولا إلى "يعقوب، الذي كان أبًا ليوسف ،رجل مريم ، التي ولد منها يسوع ، المدعو مسيحًا" (متى 1 : 16 ). كما هو واضح ، سلسلة النسب تتعامل بالفعل مع المسيح كحالة استثنائية حيث لم تدعُه "ابنا" ليوسف . إلا أنَّ هذا لم يكن كافيًا ،مع ذلك ، من وجهة نظر بعض النُّسَّاخ الذين غيروا النص لكي يُقرأ كالتالي: " يعقوب ، الذي كان أبًا ليوسف ، الذي كانت العذراء مريم مخطوبة له ،أنجبت يسوع ،المسمى المسيح ." الآن يوسف لا يدعى حتى زوجًا لمريم ، بل خطيبها فحسب وتمَّ بوضوح التصريح بكونها عذراء - الأمر الذي يمثل مسألة ذات أهمية بالنسبة للكثيرين من النسّاخ الأوائل!
في بعض الأحيان كان النسَّاخ يقومون بتعديل نصوصهم ،لا لأسباب لاهوتية، وإنما لأسباب طقسية (liturgical) . فبما أن التقاليد الزهدية في المسيحية الأولى كانت تنمو في في المراحل المبكرة من المسيحية ، فاكتشاف التأثير الكبير لهذا الأمر على التغييرات التي أحدثها النسّاخ داخل النصوص ليس أمرًا مفاجئًا . على سبيل المثال، في مرقس 9 ، حينما يقوم يسوع بطرد الروح الشريرة التي عجز تلامذته على طردها ،نجده يخبرهم «هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ " (مرقس 9 : 29 ). فيما بعد أدخل النسّاخ الإضافة المناسبة بسبب طريقتهم الخاصة في العبادة ، لكي يصير يسوع يشير الآن إلى أن " هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ والصوم."
أحد أفضل التغييرات التي حدثت للنص لأسباب طقوسيّة نجده في رواية لوقا الخاصة لصلاة الرب . فالصلاة موجودة أيضًا في إنجيل متّى ،بطبيعة الحال. وشكل الصلاة المتَّوي الأكثر طولا كان ولا يزال الأكثر شهرة عند المسيحيين(20) .عند المقارنة ، تبدو الرواية الخاصة بلوقا مبتورة بشكل غير مرغوب به.
" أيها الآب ، ليتقدس اسمك . ليأت ملكوتك. إعطنا خبزنا اليومي كل يوم . واغفر لنا خطايانا ، لأننا نغفر لكل من يذنب إلينا . ولا تدخلنا في تجربة . (لوقا 11 : 2- 4)
قام النسّاخ بحل المشكلة الخاصة برواية لوقا المختصرة من خلال إضافة الاسترحامات المعروفة من الفقرة الموازية في متى 6 : 9- 13 ، لكي تصير قراءتها الآن كما في متى كالتالي:
أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ . وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ».
هذا الميل لدى النسّاخ إلى "التوفيق" بين الفقرات في الأناجيل موجود في كل مكان في الإنجيل. فمتى حكيت القصة ذاتها في الأناجيل المختلفة ، فعلى الأرجح قام هذا الناسخ أو ذاك بالتأكد من أن القصص متوافقة بشكل تام وذلك عبر حذف الفروقات بجرة قلم.
في بعض الأحيان لم يقع النُّسّاخ تحت تأثير الفقرات المتوازية داخل الكتاب المقدس، بل تحت تأثير التقاليد الشفوية المتداولة حينذاك حول يسوع والقصص المروية عنه . رأينا بالفعل مثل هذا بصورة مكبرة في قضية المرأة الزانية والاثنا عشر عددًا الأخيرة في إنجيل مرقس. في حالات أقل يمكننا أن نرى كيف ألقت التقاليد الشفوية بظلالها على نصوص الأناجيل المكتوبة . أحد الأمثلة الواضحة هي القصة المشهورة في يوحنا 5 عن شفاء يسوع لأحد المرضى في بركة بيت حسدا.
قيل لنا في أول القصة إن عددًا من الأشخاص ــ المرضى ،العمي ،العرج ،المشلولين ــ كانوا مضجعين بجانب هذه البركة ، وإن يسوع اختار أحدهم و كان يأتي إلى هذا المكان طلبًا للشفاء طوال ثمانية وثلاثين عامًا.
عندما سأل يسوعُ الرجلَ ما إذا كان يرغب في أن يشفى ، أجاب الرجل بأنه ليس هناك من يستطيع أن يضعه في البركة ،فعندما "يتحرك الماء" دائما ما يسبقه أحدهم إليها .
في أقدم وأفضل مخطوطاتنا ليس هناك تفسير يوضح السبب الذي من أجله يريد الرجل أن يدخل إلى الماء بمجرد اضطراب الماء، لكن التقليد الشفوي يسد النقص بإضافته للعددين 3-4 الموجودة في كثير من مخطوطاتنا الأحدث عمرًا.
ففي هذه المخطوطات يقال لنا إن " ملاكا كان ينزل أحيانًا إلى البركة و يحرك الماء ؛ وأول من ينزل بعد حركة المياه يشفى ." (21) وهي لمسة رائعة لقصة مسليّة بالفعل .


الخاتمة

يمكننا أن نواصل الحديث إلى الأبد تقريبًا حول مواضع معينة تم تغيير نصوص العهد الجديد فيها سواء أحدث ذلك بشكل عفويّ أو بصورة متعمدة .وكما أشرت من قبل ، الأمثلة ليست فقط بالمئات ولكن بالآلاف . والأمثلة التي قدمتها كافية لنقل الفكرة العامة التي مفادها: هناك الكثير من الاختلافات بين مخطوطاتنا ،وهذه الاختلافات اختلقها النسّاخ الذين أعادوا إنتاج نصوصهم المقدسة . في القرون الأولى للمسيحية ، كان النسّاخ من الهواة ومن كان على هذه الشاكلة فميله إلى تحريف النصوص التي ينسخها ـ أو لتحريفها عن طريق الخطأ –هو أكثر من ميل هؤلاء الذين صاروا هم النسّاخ في الفترات الزمنية الأحدث الذين أصبحوا من المحترفين بدءًا بداية من القرن الرابع .
من المهم أن نرى أنواع التغييرات ، سواء العرضية أو العمدية ،التي كانت قابلة للحدوث عبر النسّاخ لأنه حينذاك سيكون من السهل أن نحدِّدَ هذه التغييرات ،ومن ثمَّ يمكننا أن نتخلص من بعض الأعمال القائمة على التخمين المستخدمة في تحديد الشكل الذي يعتبر تحريفًا للنص والآخر الذي يعتبر الشكل الأقدم منه. من المهم أيضًا أن نرى كيف ابتكر العلماء المعاصرون المناهج اللازمة للقيام بهذا النوع من التحديد. في الفصل التالي سنتتبع بعضًا من خيوط هذه القصة التي تبدأ من عصر "جون مِلّ" وصولا إلى الوقت الحاضر ، لنرى المناهج التي تطورت بغية إعادة بناء نص العهد الجديد وللتعرف على الطرق التي استخدمت لتغييره خلال عملية النقل .


نهاية الفصل الثالث والحمد لله رب العالمين


هوامش الفصل الثالث


[1] للاطلاع على تعريفي للناسخ المحترف انظر الهامش رقم في الفصل 2 .

[2] للاطلاع على وجهة النظر التي تقول بعدم وجود دليل على وجود الإسكريبتوريات في القرون المبكرة ، انظر كتاب "حراس الحروف" لهاينز أيتسن ،83 -91 .



[3] يعرف يوسابيوس على نطاق واسع اليوم بأنه أبو التأريخ الكنسي ،بناءا على روايته للثلاثمائة عامًا الأولى من تاريخ الكنيسة.

[4] للاطلاع على المزيد عن هذه " النسخ " (أي الترجمات) المبكرة للعهد الجديد ، انظر "نص العهد الجديد" لكل من ميتزجر و إرمان ،الفصل الثاني ، القسم 2.

[5] حول النسخ اللاتينية من العهد الجديد ، بما في ذلك مؤلف جيروم ، انظر "نص العهد الجديد" لميتزجر وإرمان،الفصل ال2 ،القسم 2 ،رقم 2.



[6] للاطلاع على المعلومات حول ذلك بشكل أكثر تفصيلا ، وحول الطبعات التي نوقشت في الصفحات التالية ، انظر ميتزجر و إرمان "نص العهد الجديد" ، الفصل 3.

[7] انظر،بشكل خاص ، الوصف المعرفي في كتاب " قصة النص المطبوع للعهد الجديد اليوناني " لصمويل ب. تريجيلز(London: Samuel Bagster & Sons, 1854)، 3- 11.



(8) النص اللاتيني يُقرأ كالتالي :

"textum ergo habes, nunc ab omnibus receptum: in quo nihil immutatum aut corruptum damus."



(9) انظر كتاب ميتزجر و إرمان ، نص العهد الجديد، الفصل 3 ، القسم 2.



(10) تأكيد ويتبي. اقتبس في كتاب آدم فوكس ، جون مل وآدم بنتلي :دراسة النقد النصي للعهد الجديد، 1675 – 1729 (أكسفورد :بلاكويل،1954) ، 106 .

(11) فوكس ، مل وبنتلي ، 106 .



***** يؤمن بوجود إله لا يتدخل في تسير الكون كما لا يؤمن بوجود ظاهرة الوحي .(المترجم)

(12) كتاب "ملاحظات حول حوار التفكير الحر الأخير، الطبعة ال7 (لندن :و.ثوربورن ، 1737)، 93 – 94.

(13) صديقي مايكل هولمز أشار على بأنه من بين الآلاف السبع من نسخ الكتاب المقدس اليوناني (العهد الجديد اليوناني والعهد القديم اليوناني)، أقل من عشر ، حسب معرفتنا ،كانت تحوي الكتاب المقدس بالكامل ، العهدين الجديد والقديم كليهما . هذه العشر هي الآن نافصة (فاقدة صفحات هناك أو هناك )؛ وأربع منهم فقط يرجع تاريخه إلى القرن العاشر .



(14) المخطوطات – التي هي نسخ مكتوبة بخط اليد – استمرت كتابتها بعد اختراع الطباعة ، تماما مثلما يواصل بعض الناس إلى الآن استخدام الآلة الكاتبة ، على الرغم من وجود معالجات الكلمات .

(15) سوف نرى أن الأنواع الأربعة للمخطوطات لام يتم تقسيمهم في مجموعات وفقًا للمبادئ ذاتها . فأوراق البردي مكتوبة بالأحرف الكبيرة ، تماما مثلما هو الحال مع المخطوطات الموجيسكول ، ولكن على سطح صالح للكتابة مختلف ؛ فالمينوسكول يكتب على النوع ذاته من السطح الصالح للكتابة الذي يكتب عليه الماجوسكول (البرشمان) ولكن بنوع مختلف من الخطوط .





(16) للاطلاع على أمثلة إضافية للتغييرات العرضية غير المقصودة ،انظر كتاب ميتزجر وإرمان ،نص العهد الجديد، الفصل 7 ،القسم 1 .

(17) هؤلاء الذين لديهم الاهتمام بمشاهدة كيف يتناقش العلماء جيئة وذهابا بخصوص أفضلية إحدى القراءات عن الأخرى ينبغي عليهم الرجوع إلى ميتزجر وكتابه ، التفسير النصي .



(18) استعرت هذا المثال ، مع العديد من الأمثلة السابقة ، من بروس م. ميتزجر . انظر كتاب "نص العهد الجديد" لميتزجر و إرمان ، ص 259 .



(19) للاطلاع على المزيد من النقاش حول هذه القراءة المتباينة ، انظر الصفحتين 203 ، 204 .



§ أي أصبح الكلام في النص كالتالي "أقول لكم إن إيليا قد جاء ، ولم يتعرفوا عليه ،بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا يتمنون . ." حينئذ أدرك تلامذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا المعمدان. هكذا أيضًا ابن الإنسان سوف يتألم منهم"

(20) للاطلاع على تفاصيل أكبر حول القراءات المتباينة لصلاة السيد ، انظر باركر ، النص الحي للكتابات المقدسة (Living Text of the Gospels) ، 49 – 74 .



(21) هناك عدد من القراءات النصية المتباينة بين الشواهد التي تؤكد هذا الشكل المطول من الفقرة


  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:30 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 14
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الفصل الرابع
البحث عن الأصول
مناهج واكتشافات

كما رأينا ، بعض العلماء (عددهم قليل)، قبل قيام "مِل" بنشر نسخته من العهد الجديد باليونانية بفترة طويلة مصحوبة بإشاراته إلى الثلاثين ألف موضع من القراءات المتباينة في شواهدنا الناجية من الضياع ، كانوا قد اعترفوا بوجود مشكلة في نص العهد الجديد . وقبل ذلك خلال القرن الثاني ، كان الناقد الوثني سيلزس يزعم أن المسيحيين غيَّروا النص على هواهم ،كما لو كانوا مخمورين في جلسة شراب ؛ أما خَصْمُه أوريجانوس فيتحدث عن عددٍ "كبيرٍ" من الاختلافات بين مخطوطات الكتاب المقدس ؛ بعد ذلك بما يزيد عن قرن كان البابا داماسوس يساوره قلق شديد جرَّاء الاختلافات الموجودة بين المخطوطات اللاتينية إلى درجة أنه كلَّف القديس جيروم بإنتاج ترجمة معيارية ؛ بل وحتى جيروم نفسه كان قد قارن العديد من نسخ النص ، سواء اللاتينية أو اليونانية ، لكي يختار النص الذي كان يعتقد أنه النص الأصلي الذي خطته أيدي مؤلفيه .ثم خمدت المشكلة طوال القرون الوسطى وصولا إلى القرن السابع عشر ، عندما بدأ "مِلّ" وآخرون في معالجتها بصورة جديَّة (1) . وبينما كان "مِلّ" في غمرة عملية تجميع البيانات اللازمة لنسخته التي صدرت 1707 و التي تمثل علامة فارقة ، كان هناك عالم آخر يعمل بجد أيضًا على قضية نص العهد الجديد؛ هذا العالم لم يكن من أصل إنجليزيّ بل كان فرنسيّا ، و لم يكن بروتستانتيا بل كاثوليكيا. فوق ذلك ، كانت وجهة نظره هي على وجه الدقة هي ما كان كثير من البروتستانت الإنجليز يخشون أن يكون محصلة التحليل الدقيق لنص العهد الجديد ،وجهة النظر هذه تتلخص تحديدا في أن الاختلافات واسعة النطاق في المخطوطات أوضحت أن الإيمان المسيحي لا يمكن أن يبنى فحسب على الكتاب المقدس ( أو ما يعرف بمبدأ "الكتاب المقدس فحسب " أو الـ(sola scriptura) عند البروتستانت الإصلاحيين)، حيث إن النص كان متغيرا و لا يعول عليه (unstable and unreliable) . بدلا من ذلك ، ووفقا لهذه الرؤية ، لابد أن الكاثوليك على حق في قولهم إن الإيمان في حاجة إلى التقليد الآبائي المحفوظ في الكنيسة (الكاثوليكية). المؤلف الفرنسي الذي واصل نشر هذه الأفكار في سلسلة من الإصدارات الهامة كان هو "ريتشارد سيمون" (1638- 1712 ).
ريتشارد سيمون
على الرغم من أن "سيمون" كان في الأصل عالمًا في اللغة العبرية ، إلا أنه كان مهتمًّا بالتقليد النصي للعهدين القديم والحديث كليهما. دراسته التي نال عنها درجة الماجيستير ،"تاريخ نقدي لنص العهد الجديد" ،ظهرت في 1689 بينما كان "ملّ" ما يزال يعمل على كشف النقاب عن القراءات المتباينة في التقليد النصي ؛ وقد كان لدى"ملّ" إمكانية الاطلاع على هذا العمل و هو يعترف، خلال النقاش المفتوح لنسخته التي صدرت 1707 ، بسعة العلم الموجود المتوفرة في هذا العمل وبأهميته لأبحاثه الشخصية رغم اختلافه مع الاستنتاجات اللاهوتية الموجودة فيه . لم يكن كتاب "سيمون" مخصَّصا لكشف كل قراءة متباينة موجودة وإنما لمناقشة الاختلافات النصية في التقليد ،وذلك بهدف إظهار عدم موثوقية النص في هذه المواضع ولكي يدافع أحيانًا عن أفضلية الكتاب المقدس اللاتيني الذي ما يزال اللاهوتيون الكاثوليك يعتقدون في كونه النص المعتمد. و"سيمون" أيضا على معرفة تامة بالمشكلات النصيِّة شديدة الأهمية . فعلى سبيل المثال ،يعقد مناقشة مطولة لعدد من القضايا التي قمنا نحن أنفسنا ببحثها في هذا الكتاب : مثل المرأة الزانية ، الأعداد الاثني عشر الأخيرة في مرقس ، والفاصلة اليوحناوية (التي تؤكد مبدأ التثليث على نحوٍ لا لبس فيه). طوال نقاشه كان"سيمون"يجتهد في إظهار أن جيروم هو من أمدّ الكنيسة بالنص الذي يمكنها أن تستخدمه كأساس للفكر اللاهوتي . أو كما يقول هو في مقدمة الجزء 1 من كتابه :
لم يكن ما أسداه القديس جيروم للكنيسة من خدمات بالشئ القليل سواء في تصحيح أو في تنقيح النسخ اللاتينية القديمة وفقا للقواعد النقدية الصارمة . هذا ما نسعى إلى إظهاره في هذا العمل ، إلى جانب إظهار أن غالبية النسخ اليونانية القديمة من العهد الجديد ليست هي الأعلى قيمة ،حيث إنها متوافقة مع تلك النسخ اللاتينية التي وجد القديس جيروم أنها شديدة الفساد وأنها بحاجة إلى التعديل) (2).
هذا في جوهره دفاع بارع وسوف نصطدم به مرة أخرى: ويتلخص في أن المخطوطات اليونانية غير جديرة بالاعتماد عليها لأنها هي تحديدا تلك النسخ الفاسدة التي كان على القديس جيروم أن ينقحها لكي يبني النص الأفضل ؛ أو بطريقة أخرى هذه النسخ اليونانية المحفوظة أنتجت قبل عصر جيروم ، ومع أنها ربما تكون أقدم ما لدينا من نسخ ،إلا أنها لا يمكن الوثوق بها .
بقدر ما هو بارع هذا الدفاع إلا أنه لم ينل على الإطلاق دعمًا واسع النطاق بين نقاد النصوص . في حقيقة الأمر ، هي مجرد إعلان عن أن مخطوطاتنا الحية الأقدم عمرا لا يمكن الوثوق بها ، لكنَّ الممكن الوحيد أمامنا هو تنقيحها . على أي أساس ، مع ذلك ، قام جيروم بتنقيح ما لديه من نص ؟ بالطبع على أساس المخطوطات الأقدم . إذن فحتى جيروم نفسه قد وضع ثقته في أقدم تسجيل للنص . وإذا لم نفعل الشئ نفسه فهذه ستكون ردة إلى الوراء - حتى مع التسليم بتنوع التقليد النصي في القرون الأولى . على أية حال ، يجادل "سيمون" أثناء مواصلته لمهمته في أن كل المخطوطات تجسد التحريفات التي تعرضت لها النصوص و النصوص اليونانية منها على وجه الخصوص ( ها هنا ربما يكون لدينا هجوم أكبر على "المنشقين اليونانيين " عن الكنيسة "الجامعة ").
لن يكون ثمة في هذا اليوم أي نسخة من العهد الجديد ، سواء أكانت باليونانية أو باللاتينية أو السوريانية أو العربية ، يمكننا أن نطلق عليها بالحق لقب "نسخة أصلية" ،لأنه ليس هناك واحدة على الإطلاق ، أيّا كانت اللغة التي كتبت بها ، قد نجت من الإضافات . ربما أؤكد أيضا أن الناسخين اليونانيين كانوا يتمتعون بحرية واسعة في كتابة نسخهم ، كما سنثبته في موضع آخر (3) .
أجندة "سيمون" لمثل هذه الملاحظات تتسم بالوضوح طوال مقاله المطول . في إحدى النقاط يتسائل بطريقة بليغة :
أتراه ممكنا..أن يكون الله قد أعطى كتبا لكنيسته يخدمها كدستور ، وأن يسمح في الوقت ذاته أن تضيع الأصول الأولى لهذه الكتب إلى الأبد منذ بداية الدين المسيحي ؟ (4)
وإجابته ،بطبيعة الحال ، هي النفي . لقد قدمت الكتابات المقدسة بالفعل أساسًا للإيمان ، لكنَّ الكتب ذاتها لم تكن في النهاية هي العامل الأهم (حيث تعرضت للتحريف في النهاية مع مرور الزمان )، بل تفسير هذه الكتب كما وجد في التقليد الرسولي المستلم عبر الكنيسة (الكاثوليكية).
"مع أن الكتابات المقدسة هي أساس لا ريب فيه عليه بُنيَ الإيمان ، إلا أن هذا الأساس ليس كافيا تماما بحد ذاته ؛ بل من الضروري التعرف ، إلى جانب ذلك ، على التقاليد الرسولية ؛ وتلك لا يسعنا تعلمها إلا عبر الكنائس الرسوليّة ، التي حافظت على المعنى الحقيقي للكتب المقدسة (5) ."
استنتاجات "سيمون" المضادة للبروتستانتية تصير أكثر وضوحا في بعض كتاباته الأخرى . على سبيل المثال ،في كتاب له يتناول " المفسرين الرئيسيين للعهد الجديد " ،يصرح بغير تردد :" التغييرات العظيمة التي وقعت في مخطوطات الكتاب المقدس . . . منذ أن فُقِدَت الأصول الأولى ، تهدم مبدأ البروتستانتيين من أساسه . . . الذين يلجأون فحسب إلى هذه المخطوطات ذاتها الخاصة بالكتاب المقدس في شكلها الموجود اليوم . لو أن حقيقة الدين لم تعش طويلا في ظل الكنيسة ، فإن البحث عنها في الكتب التي كانت عرضة لكثير جدا من التغييرات والتي كانت أيضا خاضعة لإرادة النساخ لن يكون بالأمر المأمون (6).
هذا النوع من الهجوم القاسي من الناحية الفكرية على المفهوم البروتستانتي للكتاب المقدس بشكل جدُّ خطير حدث بين جدران المعاهد العلمية . لكنَّ علماء الكتاب المقدس من البروتستانت ،بمجرد صدور نسخة "ملّ" في 1707 ، اضطروا بدافع من طبيعة ما لديهم من معارف إلى أن يراجعوا أنفسهم وأن يبدأوا في الدفاع عن مفهومهم حول الإيمان . فهم ليس بوسعهم ،بطبيعة الحال ، أن يتخلوا ببساطة عن عقيدة "الكتاب المقدس وحده " (sola scriptura). بالنسبة إليهم ، كلمات الكتاب المقدس ما تزال تحمل سلطان كلمة الله . لكن كيف يمكن للمرء أن يتعامل مع حقيقة أننا في كثير من المواقف لا نعلم الأصل الذي كانت عليه هذه الكلمات ؟ كان هناك حلٌّ وحيد وهو تطوير مناهج النقد النصي التي ستمكن العلماء المعاصرين على إعادة بناء الكلمات الأصلية ، حتى يتسنى مرة أخرى لأساس الإيمان أن يبرهن موثوقيته . إنه جدول الأعمال الذي يقف وراء كثير من الجهود ،في إنجلترا وألمانيا أساسا،التي بذلت من أجل ابتكار مناهج ذات كفاءة و يمكن الاعتماد عليها في إعادة بناء الكلمات الأصلية للعهد الجديد من نسخها العديدة المشتملة على الأخطاء والتي نجت من الضياع .

ريتشارد بنتلي
كما رأينا ، وظف "ريتشارد بنتلي" ،العالم المتخصص في فقه اللغات القديمة وعميد كلية ترينيتي بجامعة كامبردج قدرته الفكرية الفذة في دراسة مشكلات التقليد النصي للعهد الجديد ردا على التفاعلات السلبية التي نتجت عن نشر "مِلّ" للعهد الجديد اليوناني مصحوبًا بكمٍّ هائل من التناقضات النصية الموجودة بين المخطوطات (7). ردُّ "بنتلي" على "كولينز الديسطيقي " ،وهو ردٌّ على "مقالة حول التفكير الحر"، اكتسب انتشارًا واسعًا الانتشار وصلت طبعاته إلى ثمان طبعات . رؤيته الجامعة كانت تتلخص في أن التناقضات الثلاثين ألفا في العهد الجديد اليوناني لم تكن بالكثرة المتوقعة من تقليد نصي يحتوي مثل تلك الثروة من النصوص ، و أن "ملّ" تقريبًا لا يمكن لأحد أن يتهمه بتقويض صحة الديانة المسيحية حيث إنه لم يبتكر هذه المواضع المتباينة بل ببساطة قام برصدها . في النهاية أصبح بنتلي نفسه مهتما بدراسة التقليد النصي للعهد الجديد ، وبمجرد أن حَوَّل اهتمامه إليه ،استنتج أنه يستطيع في الحقيقة إنجاز تقدم ملحوظ في تكوين النص الأصلي في غالبية المواضع التي يتوافر فيها تباين نصي . في رسالة أرسلها إلى أحد داعميه وهو كبير الأساقفة "ويك" في عام 1716 ، كتب في مقدمة نسخة جديدة مفترضة من العهد الجديد اليوناني يقول إنه سيكون بمقدرته ،عبر التحليل الدقيق ، أن يعيد نص العهد الجديد إلى حالته التي كان عليها في عصر مجمع نيقية (أوائل القرن الرابع )،وهي الحال التي كان سيكون عليها شكل النص الذي نشره في القرون السابقة عالم النصوص القديمة العظيم "أوريجانوس"، قبل قرون عديدة من تسرب الفساد إلى التقليد النصي (للكتاب المقدس)بسبب الغالبية الساحقة من القراءات النصية المتباينة(كما كان ظنُّ " بنتلي" ).
لم يكن "بنتلي" على الإطلاق بالشخص الذي ينشغل بالتواضع الزائف . فها هو كما يزعم في رسالته :
أجد أنني قادر على إنتاج نسخة من العهد الجديد اليوناني بالدقة ذاتها التي كان عليها في أفضل النسخ في عصر مجمع نيقية (وهو الأمر الذي يظنه البعض في حكم المستحيل) ؛ لكي لا يكون ثمة لا عشرون كلمة ،ولا حتى حروف جر ،بها أي اختلاف . . . ولكي يصير لهذا الكتاب،الذي تعتقد الإدارة الحالية أنه مشكوك فيه إلى أبعد الحدود ،حجية فوق جميع الكتب الأخرى مهما كانت، ولكي توضع نهاية فورية لكل القراءات المتباينة الآن وفي المستقبل (8).
منهج العمل لدى بنتلي كان نزيها للغاية . فهو كان قد قرر أن يقارن (على نحوٍ مفصَّل) نص أهم مخطوطة من مخطوطات العهد الجديد اليونانية في إنجلترا ،ألا وهي المخطوطة السكندرية التي تؤرخ ببواكير القرن الخامس ،بأقدم النسخ المتاحة للفولجاتا اللاتينية . ما وجده كان حجما كبيرة من القراءات المتوافقة على نحوٍ ملحوظ . اتفقت فيها هذه المخطوطات مرات كثيرة بعضها مع بعض ولكن مع اختلافها مع الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية التي تمت نسخها في العصور الوسطى . لقد امتدت الموافقات لتشمل حتى أمورا مثل ترتيب الكلمات في المواضع التي تختلف فيه المخطوطات المختلفة. لقد كان بنتلي على قناعة تامة ،إذن، من قدرته على تنقيح (edit) الفولجاتا اللاتينية و العهد الجديد اليوناني كليهما ليصل إلى الأشكال الأقدم من هذه النصوص وذلك لكي لا يكون ثمة ولو أدنى ذرة من الشك فيما يتعلق بقراءتهما الأقدم . مواضع التباين الثلاثين ألفا التي ذكرها مِلّ ستكون شيئا أخرقا غير ذي صلة بتلك التي سنحصل عليها تحت سلطان النص. فلسفة هذا المنهج بسيطة : لو كان جيروم ،في الواقع، قد استخدم أفضل المخطوطات اليونانية المتاحة له لتنقيح ما بين يديه من نصوص ،إذن فبمقارنة المخطوطات الأقدم من الفولجاتا ( بهدف التثبت من نص جيروم الأصلي) بالمخطوطات الأقدم من العهد الجديد اليوناني ( لمعرفة أيها استخدمه جيروم )، فسيكون بوسع أحدنا تحديد ما كانت عليه أفضل النصوص في عصر جيروم ـ وتخطي أكثر من ألف عام من نقل النصوص التي تغير النص خلالها مرارًا وتكرارًا. فوق ذلك ،وحيث إن نص جيروم كان هو النص ذاته الذي كان لدى سابقه أوريجانوس ، فإن المرء سيكون بوسعه أن يطمئن تماما أن هذا كان أفضل نص موجود في القرون الأولى للمسيحية على الإطلاق . وهكذا ، استشف "بنتلي" ما كان استنتاجا لا مفر منه حسب وجهة نظره:
من خلال أخذ ألفي خطأ من الفولجاتا الباباويّة ،و نفس المقدار من نسخة البابا البروتستانتي ستيفانس (أي نسخة ستيفانوس أو النص المستلم )،يمكنني أن أصدر منهما نسخة في عمودين ،من غير استخدام أيّ كتاب يرجع تاريخه إلى ما هو أدنى من تسعة قرون ،وهو ما سيتوافق تماما كلمة بكلمة ،و نسق بنسق ،وهو الأمر الذي أصابني بالدهشة في أول الأمر ، إلى درجة أن لن يكون ثمة وثيقتان أو سجلان متوافقان على نحو أفضل منهما (9).
ومن خلال إنفاقه المزيد من الوقت في مقارنة المخطوطات وفي فحص المقارنات التي قام بها الآخرون ،زادت ثقة بنتلي في قدرته على القيام بالمهمة ، وعلى القيام بها على وجهها الصحيح ، وعلى القيام بها مرة واحدة وللأبد . في 1720 نشر بنتلي بحثا موجزا (pamphlet) تحت عنوان مقترحات للطباعة (Proposals for Printing) صممه لحشد الدعم لمشروعه عبر الحصول على عددٍ من الداعمين الماليين. في هذا الكتيب يضع منهجه المقترح الذي يهدف إلى إعادة بناء النص و يجادل حول صحته منقطعة النظير .
يؤمن المؤلف أنه استعاد الأعداد الصحيحة (باستثناءا القليل جدا من المواضع) التي كانت في نسخة أوريجانوس . . . وهو على يقين من أنه بواسطة المخطوطات اليونانية واللاتينية ،عبر الاعتماد على مساعدتهما معًا،سيقوم بإعادة النص الأصلي إلى دقَّته الأولى ،بشكل لا يمكن أن يقوم بمثله الآن أي مؤلف كلاسيكي مهما كان: وأنه من متاهةالقراءات الثلاثين ألفا المتباينة التي تزدحم بها صفحات أفضل نسخنا الموجودة في الوقت الحاضر ،الجميع يضعون رهانهم بشكل متساوٍ على أخطاء كثير من الأشخاص الصالحين؛ مفتاح اللغز هذا سيكون قائدا و منقذا لنا إلى درجة أنه من بين هذه الآلاف المؤلفة من القراءات المتباينة لن يكون مستحقا للاهتمام سوى مائتي قراءة على الأكثر (10).
تخفيض القراءات المتباينة الكثيرة من آلاف "مِل" الثلاثين إلى مائتين قراءة فحسب من الواضح أنه تقدم ملحوظ . لم يكن الجميع ،مع ذلك ،على يقين من أن بنتلي كان بوسعه أن ينتج بضاعته .في مقال مجهول المؤلف كتب ردا على الاقتراحات( لقد كان عصرا ذهبيا للمجادلين ومؤلفوا الأبحاث الموجزة (pamphleteers))،ناقش مؤلِّفُه بحث بنتلي فقرة بفقرة. لقد تعرض بنتلي للهجوم من أجل منهجه وقيل عنه ،على لسان خصمه المجهول ،إنه لا يملك "لا الموهبة ولا المادة الصالحة لعمله الذي كان قد آل على نفسه القيام به (11)."
اعتبر بنتلي هذا الهجوم ،كما قد يتصور المرء،وصمة على جبين مواهبه العظيمة التي يفتخر بها وأجاب بالطريقة ذاتها . لكنه وللأسف ،أخطأ في تحديد شخصية خصمه ،الذي كان في الواقع عالم من كمبريدج يدعى "كانيارز ميدلتون" ، حيث ظنه "جون كولباتش" ، فكتب ردًا حادًّا ، ذكر فيه اسم "كولباتش" و ،كما كان الأسلوب في هذه الأزمنة ،وجه إليه بعض الإهانات . مثل هذه الأبحاث الجدالية الموجزة يندر أن يكون لها وجود في عصرنا الحالي الذي يتميز بمؤلفاته الجدلية رقيقة الأسلوب؛أما تلك الأيام البعيدة ،فلم يكن هناك شئ من الرقة خاصة فيما يتعلق بالشعور الشخصي بالظلم . يعلق بنتلي قائلا:" لسنا بحاجة للذهاب إلى أبعد من هذه الفقرة كنموذج لسوء القصد و الوقاحة العظيمين ،الذان سادا ما خطه مؤلف تافه من خفافيش الظلام على الورق (12) . وفي كل موضع من رده يقدم بنتلي عددًا من الإهانات شديدة القسوة ،داعيًا "كولباتش"(الذي لم يكن له علاقة في حقيقة الأمر بالبحث المعنيّ) بالمغفل ،الحشرة،الدودة ،النغفة ،الشخص المؤذي ،الفأر القارض ،الكلب النابح ،السارق الجاهل ،الدجال (13). آه ، يالها من أيام .
وعندما أحيط بنتلي علمًا بالهوية الحقيقية لخصمه ،شعر بالطبع بالقليل من الإحراج لمهاجمته الشخص الخطأ ،إلا أنه واصل دفاعه عن نفسه ، والجانبان كلاهما كانا ما يزال في جعبتهما الكثير من السهام . هذا الدفاع أعاق العمل ذاته ،بطبيعة الحال ، كما فعلت عوامل أخرى بما فيها التزامات بنتلي الشاقة كونه عميدًا لكليته في جامعة كامبردج و مشاريعه الكتابية الأخرى ،وعوائق أخرى مثبطة تشمل فشله في الحصول على إعفاء من تكاليف استيراد الورق الذي أراد استخدامه في إصدار النسخة . في النهاية ، اقتراحاته لطباعة العهد الجديد اليوناني ، بأقدم النصوص التي يمكن الوصول إليها وليس بتلك الخاصة بالمخطوطات اليونانية التالفة المتأخرة (مثل تلك المبني عليها النص المستلم Textus Receptus )لم تسفر عن شئ . بعد موته ، اضطر ابن أخيه إلى إعادة الأموال التي كان قد جمعها بالاكتتاب ،مسدلا الستار على المسألة برمتها .
يتبـــــــــع بإذن اللـــــــه

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:31 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 15
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


يوهان ألبريخت بينجيل
من (سيمون) في فرنسا إلى (مِلّ و بنتلي) في إنجلترا ،والآن إلى ألمانيا . كانت المشكلات النصية للعهد الجديد تشغل بال علماء الكتاب المقدس البارزين في ذلك العصر في مناطق رئيسية من العالم المسيحي الأوروبي .كان يوهان ألبريخت بينجل (1687- 1752 ) قسيسا لوثريّا ورِعًا وأستاذًا أصبح في بواكير حياته منزعجًا بشدة من وجود مثل هذا الكمِّ الكبير من القراءات النصية المتباينة في التقليد المكتوب للعهد الجديد ،و كان على وجه الخصوص قد تأثر سلبًا كشاب في العشرين من عمره نتيجة لنشر نسخة "مِلّ" بمواضعها الثلاثين ألفًا المتباينة. هذه القراءات المتباينة كان يوهان ينظر إليه باعتبارها تحديًّا رئيسيا أمام إيمانه الشخصي الذي كان إيمانا متجذرا بكلمات الكتاب المقدس نفسها . فإذا كانت هذه الكلمات غيرَ موثوق بها ،فعلاما ينبني الإيمان إذن ؟
أنفق بينجيل كثيرا من عمل وظيفته العلمية في البحث عن حلٍّ لهذه المشكلة ، وكما سنرى ،فقد أحدث تقدمًا ملحوظًا في التوصل إلى حلول لها. في البداية ، نحن بحاجة إلى أن ننظر قليلا في منهج بينجيل في التعامل مع الكتاب المقدس (14) . استحوذ الالتزام الديني الذي كان يتميز به بينجيل على حياته و تفكيره . يمكن للمرء أن يفهم شعور الجدية التي تعامل بها بها مع إيمانه بدءًا من عنوان المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها عندما عين كمدرس مبتدئ في المعهد اللاهوتي الجديد في دينكيندورف :" De certissima ad veram eruditonem perveniendi ratione per studium pietatis" وترجمتها: (السعي الدؤوب عن التقوى هو المنهج الآكد للحصول على تعليمٍ مرموق ).
كان بينجيل عالمًا شديد الحذر في تفسيره لنص الكتاب المقدس و كان خبيرًا بالأعمال الكلاسيكية . وهو على الأرجح ذو شهرة واسعة كمفسر للكتاب المقدس : فلقد كتب حواشي مكثفة على كل كتاب من كتب العهد الجديد ،مستقصيًا القضايا النحْوية ،والتاريخية و التفسيرية بالتفصيل المُمِل ،في تفسيرات اتسمت بالوضوح و الإقناع- وماتزال تستحق القراءة إلى اليوم . كانت الثقة في كلمات الكتاب المقدس هي أساس هذا العمل التفسيري . لقد وصلت هذه الثقة إلى درجة أنها أخذت بينجيل إلى اتجاهات ربما تبدو اليوم غريبة قليلا .
ونظرا لاعتقاده بأن كلمات الكتاب المقدس كلها موحى بها – بما في ذلك كلمات الأنبياء وسفر الرؤيا – ،وبأن تدخل الله في شئون البشر كانت تقترب من نهايتها ، وأن النبؤة الكتابية أشارت إلى أن جيله الحالي يعيش قريبا من نهاية الآيام . آمن ،في واقع الأمر ، بأنه يعرف موعد مجئ النهاية : فالقيامة ستأتي بعد قرن ، أي في عام 1836 .
لم يكن بينجيل ليعود عن رأيه بقراءته أعدادًا مثل متى 24 : 36 ، التي تقول إن " أما هذا اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ،لا الملائكة في السماء ، ولا حتى الابن ،إلا الآب." ولأنه كان مفسِّرًا حذرًا ، يوضح بنجيل هنا أن يسوع يتكلم في الزمن المضارع : أي في عصره كان بإمكان يسوع أن يقول " لا أحد يعلم ،" لكنَّ هذا لا يعني أنه لا أحد فيما بعد لن يتمكن من معرفة الموعد . فبعض المسيحيين ،في حقيقة الأمر ، سيتمكنون من الوصول لمعرفة الموعد من خلال دراستهم للنبؤات الواردة في الكتاب المقدس . فالكرسي الباباوي كان هو المسيح الدجال و الماسونيون (البناؤون الأحرار ) ربما كانوا يمثلون " النبي الكاذب" الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا ، و نهاية الأيام ستحل في غضون ما يقل عن قرن (كان يكتب في ثلاثينات القرن ال17 ). المحنة العظيمة ،التي كانت الكنيسة الأولى تتوقع أن يتسبب فيها " المسيح الدجال" المزمع أن يأتي في المستقبل ،لم تقع ، لكنها قريبة الوقوع ؛ لأن النبؤات التي وردت في سفر الرؤيا ، بدءا من الفصل العاشر ووصولا إلى الرابع عشر ، كان تحققها يتواصل لقرون كثيرة ؛ والقضية المحورية التي تتضح رؤيتها للعيان أكثر و أكثر هي أنه في غضون مائة سنة أخرى ربما يقع التغيير العظيم المنتظر للأمور...أما الآن ، فدعوا باقي الرؤى تتضح هي الأخرى ،خاصة النهاية العظيمة التي أتوقع أن تحل في العام 1836 (15).
من الواضح أن المتنبئين بحلول القيامة في عصرنا الحالي – من أمثال هال ليندسي (مؤلف كتاب " كوكب الأرض ذلك الراحل العظيم") و تيموثي لاهاي (مؤلف كتاب " سلسلة المتروكون خلفا " بالاشتراك مع آخرين)- لم يكونوا بِدعا من المتنبئين فقد كان لهم سلف ،مثلما سيكون لهم خلف،لأن العالم لا ينتهي .
بالنسبة لما يهمنا هنا ، كانت تفسيرات بنجيل الشاذة للنبؤة أمرًا مهمًا لأنها كانت أساسًا لمعرفة كلمات الكتاب المقدس على وجه الدقة . فلو لم يكن العدد الذي يرمز إلى ضد المسيح هو 666 وإنما 616 ، فإن هذا سيكون له تأثير عظيم . حيث إنه إن كان للكلمات أي أهمية، فإن معرفة هذه الكلمات لابد و أنه أيضًا ذو أهمية.
وهكذا أنفق بنجيل جزءًا كبيرًا من وقت أبحاثه في سبر أغوار الآلاف المؤلفة من القراءات المتباينة التي تزخر بها مخطوطاتنا .وفي أثناء محاولته الخروج من ربقة التحريفات التي أحدثها النسَّاخ المتأخرون والعودة إلى نصوص المؤلفين الأصليين، حقق العديد من صور التقدم في المنهج .
أول تقدم حققه هو المقياس الذي ابتكره الذي قد أوجز ،إن قليلا أو كثيرا، منهجه في بناء النص الأصلي وذلك متى تطرق الشك إلى الصياغة . العلماء،مثل سيمون و بنتلي ، قبل ظهور طريقته كانوا قد حاولوا أن ينشئوا مقاييسًا لتقييم القراءات المتباينة . البعض الآخر ،الذين لم نذكرهم هاهنا ، ابتكروا قوائم طويلة من المقاييس التي ربما أثبتت نفعها . بعد الدراسة المكثفة للموضوع ( بنجيل كان يدرس كل شئ بشكل مكثف )، وجد بينجيل أنه استطاع أن يوجز الغالبية العظمى من المقاييس المقترحة في جملة بسيطة تتألف من أربع كلمات: (Proclivi scriptioni praestat ardua) - أي القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة إذا قورنت بالقراءة الأسهل. وكانت حجته كالتالي : عندما غيَّر النُسَّاخ النصوص التي بين أيديهم ، كان الأكثر احتمالا أنهم حاولوا أن يدخلوا عليها تحسينات. وإذا رأوا ما اعتبروه خطئًا ، كانوا يصححونه ؛ ولو رأوا روايتين مختلفتين للقصة ذاتها ، فإنهم كانوا يوفقون بينهما ؛ ولو صادفوا نصا يبدو متعارضا مع آرائهم اللاهوتية الخاصة ، كانوا يحرفونه . في كل موقفٍ ، لكي نعرف ما قاله النص الأقدم ( أو حتى " الأصلي") ، فالأفضلية لا تمنح للقراءة التي صححت خطئًا ، أو أدخلت توافقا على حكاية ،أو حسَّنت رأيا لاهوتيًّا ، ولكن للأخرى التي تناقضها تماما ، أي للقراءة التي من " الصعب" شرحها. إذن ، القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة (16) .
التقدم الآخر الذي حققه بينجيل لا يتعلق بغالبية القراءات التي نملكها تحت تصرفنا بقدر ما يتعلق بالوثائق التي تحتوي هذه القراءات . فقد لاحظ أن الوثائق التي تُنْسّخ من وثيقة أخرى بطبيعة الحال تحمل تشابهًا وثيقًا بالنسخ التي نقلت عنها وبالنسخ الأخرى المكتوبة من هذه النسخ ذاتها . بعض المخطوطات تشبه كثيرًا بعض المخطوطات بأكثر مما يشبهها البعض الآخر. كل الوثائق المحفوظة، إذن ، يمكن ترتيبها من خلال نوع من العلاقة النَسَبيَّة (genealogical relationship) ،في هذه العلاقة توجد مجموعات من الوثائق يتمتع بعضها مع بعض بدرجة قرابة أكثر مما تتمتع به من قرابة مع بعض الوثائق الأخرى . من المفيد معرفة ذلك ، لأنه من الناحية النظرية يمكن للمرء أن يكوِّن شيئا يشبه شجرة نسب ليتعقب أثر سلالة الوثائق ليعود إلى مصدرها. هذا يشبه إلى حدٍ ما أن تجد جَدًّا مشتركًا بينك وبين شخص ٍ ما في دولة أخرى عبر تعقبك للاسم الأخير .
فيما بعد ، سنرى بشكل أكثر تفصيلا كيف أن تصنيف الشواهد إلى عائلات ينتج عنه قاعدة منهجيّة أكثر معياريّة تساعد الناقد النصِّيّ في بناء النص الأصلي .
في الوقت الراهن ، يكفي أن تعلموا أن "بنجيل" هو أول من خطرت له هذه الفكرة. في 1734 قام بينجيل بنشر نسخته الرائعة من العهد الجديد اليوناني ، التي طبع فيها في الغالب النص المستلم (Textus Receptus) مع الإشارة إلى المواضع التي اعتقد أن لديه قراءة أفضل من تلك التي في النص المستلم.
يوهان ج.فيتشتاين

كان يوهان ج.ج. فيتشتاين(1693-1754 ) واحدًا من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في أوساط علماء الكتاب المقدس في القرن الثامن عشر . في سنٍ صغيرة أصبح "فيتشتاين" أسيرًا لقضية نص العهد الجديد و قراءاته المتباينة وعمل على هذا الموضوع خلال دراسته المبكرة .بعد بلوغه العشرين بيوم واحد ، في ال17 من مارس 1713 تقدم إلى "جامعة بازل" بفرضية عنوانها " تنوع القراءات في نص العهد الجديد." ومن بين أشياء أخرى ، بنى "فيتشتاين" البروتستانتيُّ المذهب دفوعه على أن القراءات المتباينة "يمكن أن يكون لها تأثيرات موهِنَة لمسألة صحة وسلامة الكتاب المقدس." والسبب هو أن الله " أنزل هذا الكتاب مرة واحدة و للأبد إلى العالم كوسيلة لتحقيق كمال الشخصية الإنسانية. فهو يشتمل على كل ما هو ضروريٍّ للخلاص سواء على مستوى الاعتقاد أو على مستوى السلوك." لذلك ، ربما يكون للقراءات المتباينة تأثير على نقاط ثانوية في الكتاب المقدس ، لكن الرسالة الأساسية تبقى سليمة بغض النظر عن القراءت المتباينة التي قد يلاحظها المرء (17).
في عام 1715 ذهب "فيتشتاين" إلى إنجلترا (كجزء من جولة علميَّة ) ومُنِح إذنًا يخوِّلُه القدرة على الاطلاع على المخطوطة السكندرية التي تكلمنا عنها من قبل عند الحديث عن "بنتلي". جزءٌ واحدٌ فحسب من المخطوطة هو ما لفت انتباه "فيتشتاين" :إنها واحدة من هذه الأشياء بالغة الصغر التي يكون لها توابع بالغة الضخامة . هذا الشئ كان يتعلق بفقرة ذات أهمية كبيرة في الرسالة الأولى إلى تيموثي. الفقرة موضع البحث ، 1 تيمو 3 : 16 ،كثيرًا ما استخدمها المدافعون عن اللاهوت الأرثوذكسي لتدعيم وجهة النظر التي تنص على أن العهد الجديد ذاته يطلق على يسوع اسم الإله. وذلك لأن النص ، في معظم المخطوطات،يشير إلى المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد، وتبرَّر في الروح." وكما شرحت في الفصل الثالث ،معظم المخطوطات تختصر الأسماء المقدسة (التي تعرف في اللاتينية بالـ nomina sacra) ، وهذا هو الحال ها هنا أيضًا ، فالكلمة اليونانية الله (God) يتم اختصارها إلى حرفين اثنين ، هما "الثيتا" و"السيجما" ، مع وضع خط فوق رأسيهما . ما لاحظه "فيتشتاين" عند فحصه للمخطوطة السكندرية هو أن الخط الموضوع فوق الرأس كان قد رسم بحبر مختلف عن الحبر المستخدم في كتابة الكلمات المحيطة ولذا فقد بدى الأمر وكأنه حدث نتيجة لتدخل أحدثته يد ناسخ في وقت متأخِّرٍ a later hand . أضف إلى ذلك أنَّ الخط الأفقي في وسط الحرف الأول لم يكن في الحقيقة جزءًا من الحرف ولكنه خطٌ كان قد تسرَّبَ من الجانب الآخر لهذا الرَّق القديم. بطريقة أخرى ، هذه الكلمة ، بدلا من كونها اختصار لكلمة "الله" (ثيتا- سيجما )، هي في الواقع الحرفان "أوميكرون" و "سيجما" ، أي أنها كلمة أخرى مختلفة تمامًا ، وهي ببساطة تعني "الذي" . وهكذا لا تتحدث القراءة الأصلية التي وردت في المخطوطة عن المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد" وإنما عن المسيح " الذي ظهر في الجسد." وفقًا لهذه الشهادة القديمة الصادرة من المخطوطة السكندرية،لم يعد المسيح بوضوح يدعى الله في هذه الفقرة .
وحينما واصل "فيتشتاين" أبحاثه ، وجد فقرات أخرى استخدمت على النمط ذاته لتأكيد عقيدة ألوهية المسيح التي هي في الواقع فقرات تمثل مشكلات نصيَّة ؛ وعندما تمَّ حلُّ هذه المشكلات على أرضية علم النقد النصي ، تمَّ حذف الإشارات إلى ألوهية يسوع في معظم المواضع. هذا حدث ،على سبيل المثال ، عندما حذفت الفاصلة اليوحنَّاوية (رسالة يوحنا الأولى 5 : 7 -8 )من نص العهد الجديد. وحدث في فقرة موجودة في سفر أعمال الرسل 20 : 28 ، التي تتحدث في كثيرٍ من المخطوطات عن " كنيسة الله ، التي اقتناها بدمه ." ها هنا مرة أخرى ،يبدو يسوع في صورة من يتحدث عنه النص باعتباره إلهًا . لكنَّ النص في المخطوطة السكندريّة وبعض المخطوطات الأخرى يتحدث بدلا من ذلك عن " كنيسة السيد (Lord) ، التي اقتناها بدمه ." الآن يسمى يسوع سيدًا ، لكنه لم يطلق عليه اسم الله .
ولكونه واعيًا بمثل هذه المشكلات ، بدأ "فيتشتاين" في التفكير بجدية في قناعاته الشخصية اللاهوتية، وأصبح متأقلمًا مع مشكلة العهد الجديد الذي نادرًا،إن حدث أصلا ، ما يدعو المسيح إلهًا . وبدأ يشعر بالانزعاج من زملائه من القساوسة و المعلمين في مدينته الأم "بازل" الذين يخلطون أحيانًا بين الله و بين المسيح وذلك على سبيل المثال عندما يتحدثون عن ابن الله كما لو كان هو نفسه الآب،أو عند التوجه إلى الله الآب في الصلاة بالحديث عن " جروحك المقدسة ". اعتقد "فيتشتاين" أنَّ الكثير من الدقة هو أمر مطلوب عند الحديث عن الأب و عن الابن لأنهما ليسا الشخص ذاته. تأكيد "فيتشتاين" لهذه القضايا بدأ يثير الشكوك بين زملائه ،وهي الشكوك التي تأكدت لهم عندما قام "فيتشتاين" في 1730 بنشر كتاب يناقش مشكلات العهد الجديد اليوناني كمقدمة لطبعة جديدة كان منشغلا بالإعداد لها . بعض النصوص المتنازع عليها ،والتي كان اللاهوتيون يستعملونها في تأسيس القاعدة الكتابية لعقيدة تأليه المسيح، كانت من بين الفقرات التي سيقت كنماذج في هذا الكتاب . هذه النصوص ،حسب ما كان "فيتشتاين" يعتقد، كانت في حقيقة الأمر قد أُخضعت للتحريف من أجل أن تدعم هذه العقيدة التي ما كان يمكن أن تستخدم النصوص الأصلية في دعمها ؛.
هذه الأفكار سببت هياجًا شديدًا بين زملاء "فيتشتاين" وأصبح كثيرون منهم خصومًا له. وقد أَلَحُوا على مجلس مدينة "بازل" أن يمنع "فيتشتاين" من نشر نسخته من العهد الجديد باليونانية والتي وسموها بالـ" العمل عديم الفائدة وغير الملائم ،بل و حتى الخطير"؛ وقد استمروا باتهامه بأن " الشماس "فيتشتاين" ينشر عقائدًا غير أرثوذكسية ، ويصرح في أثناء محاضراته بتعاليم مضادة لتعاليم الكنيسة الإصلاحية ،كما أنه لديه طبعة من العهد الجديد اليوناني سينشرها تشتمل على بعض البدع الخطيرة يشتبه في كونها ذات علاقة بالسوسيانية (عقيدة أنكرت لاهوت المسيح )." (18) وعندما أُخْضِع لمجلس تأديبيٍّ بسبب وجهات نظره أمام المجلس الأعلى للجامعة ،تمت أدانته لاعتناقه رؤىً "عقلانية " تنكر الوحي المطلق للكتاب المقدس وتنكر وجود إبليس والشياطين و تركز الانتباه على القضايا الغامضة في الكتاب المقدس. تم طرده من عضوية مجلس الشمامسة المسيحي و أُجبِر على مغادرة "بازل"؛ ولذلك قام بالحصول على مسكن في "أمستردام" ، حيث استمر في العمل على إنجاز كتابه . ثم زعم فيما بعد أنَّ النزاع أجبره على تأخير موعد إصدار طبعته من العهد الجديد اليوناني (1751 -1752 ) لعشرين عامًا. على الرغم من ذلك هذه النسخة كانت رائعة وما تزال ذات قيمة للعلماء في عصرنا هذا أكثر مما كانت عليه طوال ال250 عامًا السابقة . طبع "فيتشتاين" فيها النص المستلم كما جمع أيضًا تشكيلة مدهشة من النصوص اليونانية والرومانية واليهوديَّة التي تتشابه مع الأقوال الموجودة في العهد الجديد و التي يمكن أن تساعد على توضيح معناها. كما ساق أيضًا عددًا ضخما من القراءات النصيَّة المتباينة ،حيث ساق حوالي 25 مخطوطة من ذوات الحروف الكبيرة و نحو 250 مخطوطة من ذوات الحروف الصغيرة (تقريبًا ثلاث أضعاف العدد الذي كان متاحًا لـ "مِلّ ") كدليل ، وقد رتبهم بطريقة واضحة من خلال الإشارة إلى كل حرف كبير (majuscule) بحرف كبير آخر مغاير و عبر استخدامه الأرقام العربية لكي يرمز إلى المخطوطات المكتوبة بحروف كبيرة – وهي طريقة الإشارة التي أصبحت هي المعيار طوال قرون وما تزال ،بصورة جوهرية ، تستخدم على نطاق واسع إلى اليوم .
وعلى الرغم من القيمة الكبيرة للنسخة التي ألَّفها "فيتشتاين" ، إلا أن النظرية النصيَّة التي كانت أساسًا لها عادة ما ينظر إليها على أنها نظرية ساقطة تمامًا . لم يلق "فيتشتاين" بالا للانجازات المتعلقة بالمنهج التي أحدثها "بنتلي" (الذي عَمِلَ في خدمته ذات يوم في وظيفة جامع مخطوطات ) وتلك التي أحدثها "بنجلي" (والذي اعتبره عدوًّا)،وأصرَّ على أن مخطوطات العهد الجديد اليونانية لا يمكن الوثوق بها لأنها جميعا، من وجهة نظره ،تعرضت للتحريف لتتوافق مع الشواهد اللاتينيَّة . ليس ثمة دليلٌ على حدوث ذلك والمحصلة النهائية لاستخدام هذه الرؤية كمعيار أساسي للحكم على قيمة الشئ هي أنه عندما يحاكم شخص ما قراءة نصية متباينة فإن الأجراء الأمثل الذي ينبغي أن يتخذه ليس أن يبحث عما تقوله أقدم الشواهد (هذه التي،وفقا لهذه النظرية ،هي بعيدة كل البعد عن الأصول!)، وإنما أن يبحث عما تقوله الشواهد الأحدث(ألا وهي مخطوطات العصور الوسطى المكتوبة باليونانية).هذه النظرية الشاذة لم يدعمها أيٌ من علماء النصوص البارزين.

كارل لاخمانّ
  • بعد "فيتشتاين"، ظهر عددٌ من علماء النقد النصي ، مثل "ج.سيملر" و "ج.ج. جريسباخ" ، الذين قام كل منهم بإسهامات أكبر أو أقل من إسهاماته في مجال تأسيس منهجية لتحديد الشكل الأقدم لنص الكتاب المقدس في مواجهة عددٍ متزايدٍ من المخطوطات ( مثل التي تظهر عن طريق الاكتشافات ) التي تؤكِّد قضية التنوع. بطريقة أو بأخرى ، مع ذلك ، لم تتحقق أي خطوات ناجحة رئيسية في هذا الميدان لمدة ثمانين عامًا أخرى ، من خلال نشرٍ ذي حظ عاثر لكنه يمثل ثورة في هذا المجال لنسخة تبدو صغيرة الحجم نسبيًا من العهد الجديد اليوناني قام بتأليفها أحد علماء فقه اللغة وهو الألماني "كارل لاخمانّ" (1793 – 1851 ) (19).
    قرر "لاخمانّ " ، في الصفحات الأولى من كتابه ، أنَّ الدليل المستمد من النص ليس كافيًا لتحديد ما كتبه المؤلفون الأصليون . المخطوطات الأصلية التي كان له قدرة على الاطلاع عليها كانت هي تلك التي تنتمي للقرنين الرابع والخامس - أي بعد مئات السنين من الوقت التي أنتجت فيه المخطوطات الأصلية. من كان باستطاعته أن يتنبأ بالتغيرات المفاجئة التي حدثت أثناء عملية النقل التي حدثت في الفترة التي تفصل ما بين وقت كتابة المخطوطات الأصلية وبين إنتاج الشواهد المبكرة الباقية بعد ذلك بعدة قرون ؟
    لذلك حدد "لاخمانّ " لنفسه مهمة أكثر بساطة . كان لاخمان يعلم أنَّ النص المستلم مبنيٌّ على تقليد مخطوط (manuscript tradition) يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر . فرأى أنه بإمكانه أن يُنْتِجَ ما هو أفضل منه – باعتباره أقدم منه بثمانية قرون – عبر إنتاج نسخة من العهد الجديد تشبه تلك التي كان من المفترض أن يبدو عليها العهد الجديد عند نهاية القرن الرابع تقريبًا.
    فالمخطوطات المكتوبة باليونانية والتي نجت من الضياع جنبًا إلى جنب مع المخطوطات التي استخدمها "جيروم" في الفولجاتا و النصوص التي اقتبس منها هؤلاء الكتاب من أمثال "إيريناوس" ، و"أوريجانوس" و "كيبريانوس"، ستسمح بذلك على أسوأ الفروض . وهذا ما فعله . فعن طريق اعتماده على كل ما تصل إليه يداه من المخطوطات القديمة المكتوبة بالحرف الكبير مضافًا إليها أقدم المخطوطات اللاتينية و الاقتباسات الآبائية من النص ، لم يختر تنقيح النص المستلم عند اللزوم فحسب(و هو السبيل الذي سار فيه سابقوه ممن لم يكونوا راضين عن النص المستلم )لكنه ترك النص المستلم بالكليَّة و بنى النص من جديد ، وفقًا لمبادئه الخاصة .
    وهكذا ، في عام 1831 انتهى من تأليف نسخة جديدة من النص لم يعتمد فيه على النص المستلم . هذه كانت المرة الأولى التي يتجرأ فيها أي إنسان على فعل هذا الأمر. لقد استغرق الأمر ما يزيد عن ثلاثة قرون ،لكنَّ نسخة من العهد الجديد اليوناني اعتمدت كليَّةً على الشواهد القديمة ظهرت أخيرًا إلى الوجود .
    غاية "لاخمانّ " من إنتاج نصٍ على الحال التي كان عليها في أواخر القرن الرابع لم يكن مفهومًا دائمًا ، وحتى عندما صار الغرض مفهومًا لم يحصل صاحب الكتاب دائمًا على التقدير المناسب. اعتقد كثيرٌ من القُرَّاء أن "لاخمانّ" كان يدعي أنه جاء بالنص "الأصلي" وعارضوا قيامه ، من ناحية المبدأ ، بإبطال كل الشواهد تقريبًا (أي التقليد النصي المتأخر الذي يتضمن عددًا وافرًا من المخطوطات ). البعضُ الآخرُ لاحظوا التشابه في المنهج بينه وبين "بنتلي" الذي كانت لديه أيضًا فكرة مقارنة المخطوطات اليونانية الأقدم مع المخطوطات اللاتينية للوصول إلى النص الذي كان مستخدمًا في القرن الرابع (الذي كان بنتلي يعتقد أنه النص الذي كان معروفًا لدى "أوريجانوس" في بداية القرن الثالث)؛نتيجة لذلك ،سُمِّيَ "لاخمان" أحيانًا "مُقَلِّد بنتلي". إلا أن "لاخمان" كان في الحقيقة قد اخترق العرف غير النافع الذي استقر بين أصحاب المطابع وبين العلماء على حد سواء من إسباغ منزلة خاصة على النص المستلم ، وهي المنزلة التي لا يستحقها النص المستلم بالتأكيد وذلك لأنه قد طبع و أعيد طبعه لا لأن أحدًا يشعر أنه اعتمد على قاعدة نصوصية سليمة وإنما فقط لأن نصه كان معتادًا ومألوفًا .

لوبيجوت فريدريك قسطنطين فون تشيندورف

بينما كان العلماء من أمثال "بنتلي" و"بينجيل" و "لاخمان" يقومون بتصفية المناهج التي كانت لتستخدم في فحص القراءات المتباينة داخل مخطوطات العهد الجديد، كان ثمة اكتشافات جديدة في طور الحدوث على نحوٍ منتظم داخل المكتبات القديمة و الأديرة الشرقية منها و الغربية. أكثر علماء القرن التاسع عشر اجتهادًا في مجال اكتشاف مخطوطات الكتاب المقدس ونشر نصوصها كان يحمل اسمًا طريفًا وهو "لوبيجوت فريدريك قسطنطين فون تشيندورف" (1815 – 1874 ).كان يسمى لوبيجوت (التي تعني بالألمانية " سبحوا الله ") لأنَّ أمَّه ، قبل ولادته ،كانت قد رأت رجلا ضريرًا ،وخضوعًا منها للمعتقدات الخرافية اعتقدت أن ابنها سيولد ضريرًا . وعندما وُلِد سليمًا تماما نذرته أمُّه لله من خلال إطلاق هذا الاسم غير المعتاد عليه .
كان "تشيندورف" عالمًا متحمِّسا بشكل غير عادي رأى في اشتغاله بنص العهد الجديد مَهَمَّة مقدسة أُلقيت على عاتقه بتكليف سماويّ. فقد كتب ذات مرة لخطيبته ،حينما كان في أوائل العشرينات من عمره :" لقد حملتُ على كاهلي مَهَمَّة مقدسة ألا وهي النضال من أجل استعادة الشكل الأصلي للعهد الجديد.(20)"
هذه المهمة المقدسة سعى لإنجازها عبر البحث عن كل مخطوطة مختفية في كل مكتبة وديرٍ يمكنه الوصول إليه . فقام بعدد من الرحلات حول أوربا و إلى "الشرق" ( يقصد ما نسميه الآن الشرق الأوسط )،ليعثر على،ولينقل،وليقوم بنشر المخطوطات أينما حلَّ أو ارتحل . واحدة من أقدم نجاحاته و أكثرها شهرة هي المتعلقة بمخطوطة كانت معروفة بالفعل إلا أنَّ أحدًا لم يكن بمقدوره الاطِّلاع عليها . إنها المخطوطة الإفرايمية(Codex Ephraemi Rescriptus) المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس. هذه المخطوطة هي في الأصل مخطوطة يونانية من مخطوطات العهد الجديد تنتمي للقرن الخامس الميلادي ،لكنَّ نصها كان قد مُحِيَ في القرن الثاني عشر حتى يتسنى لمن فعلوا ذلك بها أن يعيدوا استخدام صفحاتها الجلدية لتدوين بعض المواعظ التي ألقاها إفرايم بابا الكنيسة السوريانية. وحيث إن الصفحات لم تكن قد مُحِيَتْ بشكل جذري،فقد ظلَّ بالإمكان مشاهدة بعض الكلام المكتوب تحت هذه المواعظ وإن لم يكن بالوضوح الكافي لفك شفرات معظم كلماته – على الرغم من أن عددًا من أرفع العلماء قد بذلوا وسعهم في هذا الاتجاه . قريبًا من العصر الذي عاش فيه "تشيندورف" كانت بعض المواد الكيميائية التي قد تساعد على إظهار الكلام السفلي قد اكتُشِفَت . ومن خلال استعمال هذه المواد بحذر وعبر التأنِّي في سبر أغوار النص ،كان "تشيندورف" قد أصبح قادرًا على تمييز هذه الكلمات، وهكذا قام بأول عملية نسخ ناجحة لهذا النص القديم ما أكسبه سمعة طيبة بين المهتمين بهذه الأمور. بعض هؤلاء قاموا بتقديم دعمٍ ماليٍّ لرحلات "تشيندورف" إلى المناطق الأخرى في أوروبا و الشرق الأوسط للبحث عن المخطوطات . بكل المقاييس ، كانت أشهر اكتشافاته هي تلك التي تتعلق بواحدة من أعظم مخطوطات الكتاب المقدس بحق والتي ما تزال باقية ، ألا وهي المخطوطة السينائية . قصة اكتشافها هي درب من الخيال على الرغم من أن مصدرها هو الرواية المباشرة لتشيندورف نفسه مكتوبةً بخط يده . كان تشيندورف قد قام برحلة إلى مصر في عام 1844 ،في وقت لم يكن قد بلغ عامه الثلاثين ليصل في النهاية على ظهر جمل إلى دير سانت كاثرين الواقع في الصحراء . ما حدث هناك في ال24 من مايو عام 1844 ليس ثمة إلى الآن من يصفه أفضل من كلماته الشخصية حيث يقول :
لقد حدث هذا عند سفح جبل سيناء ،عند دير سانت كاثرين ،حيث اكتشفت واسطة عقد أبحاثي جميعها . فعند زيارتي للدير في شهر مايو من العام 1844 ،لاحظت في منتصف الرواق الكبير سلة كبيرة وواسعة ملئى بالرقوق ؛ وعامل المكتبة الذي كان رجلا واسع الاطلاع أخبرني أن كومتين من مثل هذه الأوراق المهترئة ،بسبب عامل الزمن، كانتا قد أضرمت فيهما النيران بالفعل .
ما كان مفاجأة بالنسبة لي هو أنني وجدت وسط كومة الأوراق هذه عدد لا بأس به من الصحف التي تحوي نسخة من العهد القديم مكتوبة باليونانية والتي بدت بالنسبة إلي واحدة من أقدم النسخ التي رأيتها من قبل على الإطلاق . سمحت لي سلطات الدير أن أحتفظ بثلثيّ هذه الرقوق ، أي ما مقداره ثلاثة و أربعون صحيفة تقريبًا ،كان من المقرر أن يتم التخلص منها بالحرق. لكنني لم أستطع أن أقنعهم بالحصول على الباقي. ما ظهر على ملامحي من السعادة الغامرة أصابهم بالارتياب فيما يتعلق بقيمة المخطوطة .قمت بنسخ صفحة من نص إشعياء و إرمياء وأخذت على الرهبان عهدًا أن يعتنوا بكل ما تقع عليه أيديهم من مثل هذه البقايا بما يمليه عليهم ضميرُهم الديني (21).
حاول تشيندورف أن ينقذ ما تبقى من هذه المخطوطات لكنه لم يستطع أن يقنع الرهبان أن يتنازلوا له عنها . بعد ذلك بحوالي 9 سنوات عاد في رحلة أخرى ولكنه لم يجد لهذه البقايا أيَّ أثر .ثم عاود الكرَّة مرة أخرى في عام 1859، ولكن هذه المرة تحت رعاية القيصر الروسي ألكسندر الثاني الذي كان له شغف بكل ما يتعلق بالديانة المسيحية وخاصة الآثار المسيحية القديمة . هذه المرة لم يعثر تشيندورف على أيِّ أثرٍ للمخطوطة حتى جاء اليوم الأخير من زيارته . فحينما دُعِيَ إلى حجرة القائم على أمر الدير، دخل معه في نقاش فيما يتعلق بالترجمة السبعينيَّة (أي العهد القديم مكتوبًا باللغة اليونانيَّة)، فقال له القائم على الدير :"أنا أيضًا قرأت السبعينية." واتجه إلى ركن في غرفته وسحب منه مجلدًا مغلَّفًا بقماشٍ أحمر اللون . يقول تشيندورف: فقمت بإزالة الغطاء عنه ، فاكتشفت ،وياللمفاجأة ،ليس فقط هذه الكِسَر نفسها التي كنت قد تناولتها قبل ذلك بخمسة عشر عامًا من السلة ، وإنما أيضًا أجزاءً أخرى من العهد القديم ، و العهد الجديد كاملا ،وبالإضافة إلى ذلك ، رسالة برنابا و جزءًا من رسالة الراعي لهرماس . ولشد ما غمرني من سعادة ،أحسست بالتزام داخلي يأمرني بأن أخفي المخطوطة هذه المرة من القائم على الدير ومن الدير كله ،فطلبت ، كما لو كنت غير مهتمٍ كثيرا بها ، إذنًا بأن آخذ المخطوطة إلى غرفة نومي لكي أفحصها بصورة أفضل في أوقات فراغي (22).
في وقت قصير تعرَّف تشيندورف على المخطوطة نظرًا لقيمتها – باعتبارها أقدم شاهدٍ حيٍّّ على نص العهد الجديد :" أغلى ثروة تتعلق بالكتاب المقدس في الوجود – إنها الوثيقة التي يتجاوز عمرها و أهميتها ما تتمتع به كل المخطوطات التي قمت بفحصها من قبل من عمر وأهمية." بعد مفاوضات شاقة ومطوَّلة ، ذكَّر فيها تشيندورف الرهبان براعيه ، القيصر الروسي ، الذي ستذهله هدية مثل هذه المخطوطة النادرة وسيردُّ بلا شك تحيتكم بأفضل منها عبر منح الدير تبرعات مالية . في النهاية سُمِحَ لتشيندورف أن يعود بالمخطوطة إلى مدينة "ليبزج" حيث قام بإعداد نسخة فخمة منها تتكون من أربع مجلدات على نفقة القيصر. وقد ظهرت هذه النسخة في عام 1862 في الاحتفال بمرور الألفية الأولى على تأسيس الإمبراطورية الروسيَّة (23) .[*]بعد قيام الثورة الروسيّة ، أدى احتياج الحكومة الجديدة إلى المال و عدم اهتمامها بمخطوطات الكتاب المقدس إلى قيامها ببيع المخطوطة السينائية إلى المُتْحف البريطاني نظير مائة ألف جنيه استرليني؛وهي الآن جزء من المجموعة القيمة التي تمتلكها المكتبة البريطانية وهي معروضة في مكان بارز في غرفة المخطوطات بالمكتبة البريطانية .هذه كانت ،بطبيعة الحال ،واحدة فقط من مآثر تشيندورف الكثيرة في ميدان الدراسات النصيَّة (24) . في الجملة ، قام تشيندورف بنشر اثنين وعشرين نسخة من النصوص المسيحية المبكرة بالتوازي مع ثمان طبعات منفصلة من العهد الجديد اليوناني ، الطبعة الثامنة منهم ما تزال إلى الآن تمثل كنزًا دفينًا من المعلومات فيما يتعلق بتوثيق الشواهد اليونانية والمترجمة لهذه القراءة المتباينة أو تلك .إن إنتاجه كعالم يمكن تقييمه من خلال أحد المقالات الببليوغرافية (علم التعريف بالكتب والمخطوطات)التي كتبها تأييدًا له أحد العلماء يدعى "كاسبر رين جريجوري": "إن قائمة منشورات تشيندروف تملأ أسماؤها أحد عشر صفحة، كل صفحة منها مقسمة إلى ثلاث أعمدة" (25) .



يتبع............

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الكتاب المقدس ، الإنجيل


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
صفات الرب في الكتاب المقدس للدكتور منقذ السقار نور الإسلام لاهوتيات 0 09-04-2013 07:31 AM
تحريف الكتاب المقدس نور الإسلام لاهوتيات 0 06-08-2012 11:54 AM
مخطوطات قمران تشهد على تحريف الكتاب المقدس (سفر صموئيل) متى المسكين لاهوتيات 0 05-02-2012 07:12 AM
تحريف الكتاب المقدس جـ2 اعتراف علماء المسيحية بالتحريف مزون الطيب هدي الإسلام 0 18-01-2012 12:01 PM
تحريف الكتاب المقدس ج4 نهاية إنجيل مرقس مزون الطيب هدي الإسلام 0 18-01-2012 12:00 PM


الساعة الآن 10:24 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22