صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-06-2014 ~ 07:41 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 6
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الرابع

في مقام التلقي لمشاهَدات اليقين، سياحةً في عالم الملك والملكوت!


1- كلمات الابتلاء:

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ(31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32).وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ(34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ(36) وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ(37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ(42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ(43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ(44)


2- البيان العام:


هذه طبقة أعلى من البيان! طبقة لا يبلغها رسولٌ ولا صِدِّيقٌ ولا أي داعية! لأن هؤلاء جميعا يصدر بيانهم من موقع العبدية الخاضعة لله رب العالمين، ولو تفاوتت طبقاتهم في ذاتهم وبيانهم. أما البيان ههنا فهو صادر عن الذات العلية! والمتكلم ههنا – بلا حكاية – هو الله رب العالمين خالق الأكوان والناس أجمعين! يتكلم جل جلاله من عَلُ، عارضا لهيمنته على مُلْكِهِ ورعايته لخلقه؛ ولذلك فقد جاء الحجاج صادرا عن شؤون الربوبية مباشرة! بيانا لا يستطيعه مَلَكٌ ولا بشر، مهما بلغت منـزلته عند ربه! فكانت الآيات هي بيان حقائق القدرة الإلهية والعظمة الربانية، من مشاهد الْمُلْك والملكوت!

أجل، ههنا استأنف الحق تعالى تسفيه إصرار الكفار على تكذيب الرسل، وإنكار حقيقة البعث، وبدأ سبحانه بعرض الآيات البينات على بطلان أوهامهم! قال جل جلاله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟! وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ!) ألا ينظر هؤلاء المستهزئون إلى من قبلهم من الأجيال التي أهلكناها، أنهم لا يرجعون إلى هذه الدنيا؟ لكنهم جميعا سيحشرون مع البشرية كلها - أولها وآخرها - ليوم البعث، حيث سيتم إحضار كل نفس للمثول يوم الحساب بين يدي رب العالمين!

قال المفسرون: وفي الآية رد على الدهريين القائلين بالتناسخ والدَّوْرِ، الزاعمين أن الموتى سوف يبعثون في هذه الدنيا مرة أخرى ولا وجود للآخرة!([1]) فبين الحق أن البعث إنما هو بعث واحد لا موت بعده، وهو يوم الجزاء! الذي تتفرق فيه البشرية – بعد قضاء الحق بين العباد - إلى مصيرين اثنين لا ثالث لهما: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير!)(الشورى: 7). جعلنا الله من أهل النجاة برحمته!

ثم شرع سبحانه في عرض مشاهد عظيمة من شؤون ربوبيته، تدل بقوة على قدرته تعالى على البعث والإحياء؛ بما يقطع شك المترددين ويخرس ألسنة الجاحدين! قال جل جلاله: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟)

وآيةٌ لهم! والآية: هي العلامة الواضحة الدالة على أمر بقوة. وكما أن القرآن علامات، فإن الكون كله علامات على طريق البشرية.. فمن ذا يفتح بصيرته على مَشَاهِدِهِ ويقرأ؟

والإحياء آية من أعظم آيات الله في هذا الوجود! وهو سر من أدق أسرار الخلق، وله تجليات شتى لا تكاد تنحصر. والإنسان عاجز عن إدراك كنه الحياة وجوهرها، رغم أنه يتنفسها صباح مساء! وإنما الذي نعرفه هو بعض تجلياتها فقط، كالحركة والنمو وما شابه هذا وذاك؛ لأن الحياة سر من أسرار الحي الذي لا يموت! يهبه لمن يشاء وينـزعه ممن يشاء. ومن ثَم يفتح القرآن عيوننا على هذه الحقيقة العجيبة، التي ينكرها الكافر بجهله وطغيانه، فينكر البعث والنشور! ويضرب لنا إحياء الأرض الموات مثلاً.

والأرض تموت نعم، يغور ماؤها ويُحْتَطَبُ شجرها، وينقرض نباتها فتذروه الرياح، فلا يبقى بها أثر لخضرة، ثم تتصحر ويهجرها أهلها! وترحل عنها الحيوانات البرية والطيور! فلا يبقى بها أثر لحياة! لقد ماتت! وقد تبقى كذلك عدة أجيال! وربما مر بها عابر سبيل فيقول: أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها!؟ حتى إذا أراد الله إحياءها أنزل عليها ماءها غيثا متواترا، لا يدعها حتى يبعث فيها الحياة من جديد غضة طرية! فتنهض كأجمل وأقوى ما يكون ريعان الشباب حيوية وجمالا! ثم يعود إليها أهلها بعد هجرة طويلة، يُجْرُونَ عيونها المتدفقة، وأنهارها المترقرقة، ثم يزرعون ويغرسون، فإذا بالحقول ممتلئة حَبا وبركة، وإذا بالجنات والبساتين تتدلى أغصانها بمختلف الفواكه والثمار، وإذا بالطيور تملأ الفضاء هديلا وتغريدا! وإذا بالروابي تستعيد صيدَها ومرعاها.. ويمر عابر السبيل مرة أخرى فيقول: كأن الموت ما مر من هنا قط!

كل ذلك؛ إنما هو تسخير للعباد من الرحمن، ورزقٌ لهم من فيض رحمته جل جلاله، لا حول لهم فيه ولا قوة! عساهم يشكرون ويعتبرون، ويشهدون أن الله الذي أحيى هذه الأرض، قدير على إحياء كل موات متى شاء. بما في ذلك الإنسان وسائر الحيوان! ولذلك فالمؤمن العالم بالله، المتدبر لأحوال الأرض واختلاف تجلياتها بين موتها وحياتها، لا يملك إلا أن يسبح بحمد ربه! ومن ثَم جاءت تتمة السياق - تعليقا على هذا المشهد العجيب - قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ!)

والتسبيح تنـزيه، فهو تعالى تنـزه عن العجز الذي يصفه به الكفرة، حيث يقولون باستحالة البعث! بل هو تعالى الذي خلق الأزواج كلها، من النبات والإنسان وسائر الحيوان، ومما لا يعلم وجوده أو طبيعته إلا الله! فهو سبحانه الذي جعل الحياة في كل تلك الخلائق والأنواع، وأودع فيها سر استمرارها بالتزاوج والتناسل. وقد انفرد سبحانه بالخلق؛ فأنَّى يوصف بالعجز، وأنَّى يكون له شريك؟ ألاَ سبحانه وتعالى عما يصفون!

ثم يلفت الحق تعالى نظر الإنسان إلى الفَلك الدائر به وفيه، وما حوله من كواكب ونجوم، سخرها له تسخيرا. لولا وجودها لاستحالت حياته في الأرض! قال جل جلاله: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!)

والتعبير بالسلخ هنا تعبير عجيب، فهو نزع غشاء أو غطاء، كما يُسلخ جلد الدابة عن جسدها! مما يدل على أن الليل هو الأصل، وأن هذا الكون وجود مظلم! وإنما يشرق ما يشرق منه؛ بما جعل الله فيه من أجرام نارية وسُرُجٍ مشتعلة، قال تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا!)(نوح: 16) وقال: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا!)(النبأ: 13) ولولا ذلك لظلت الأرض في ظلام دامس رهيب! قال سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ؟)(القصص: 71) وما من نور أو ضياء إلا وهو مستمد من نور الله العظيم، إذ هو: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ!)(النور: 35)

وكما أن النهار نعمة لا تقدر بثمن، فكذلك الليل نعمة لا تقدر بثمن! ولا يمكن للمؤمن المتدبر لتعاقبهما إلا أن يستجيب لله بديع السماوات والأرض بالتوحيد والتفريد؛ حمداً لآلائه وشكراً لنعمائه!

وكل ذلك - أجراما وأفلاكا وحركات - مخلوق إلى أجل معلوم بِقَدْرٍ معلوم! مُحْكَمٌ بعلم الله ومحكوم بقدرته، لا يعزب عنه تعالى شيء، ولا يخرج عن قبضة سلطانه وجلال عزته شيء! فالشمس، هذا النجم الكبير الضخم المتفجر الملتهب، الذي يفوق حجم الأرض أضعافا مضاعفة، هي أيضا تجري في فلكها العظيم، سابحة في فضاء الله الفسيح، إلى قَدَرِها الذي قدره الله لها، وميقاتها الذي جعله الله لها! والقمر هذا الكوكب المنير، الذي يستمد نوره من الشمس، يتنقل في دورته عبر منازل مُقَدَّرَةٍ بعلم الله ودقة صنعه البديع! بدراً كاملا ثم أهِلَّةً تختلف أشكالها وأحجامها منازل، ما بين لحظة الولادة ولحظة الأفول، حيث ينتهي إلى ما يشبه شكل عرجون النخلة القديم؛ يما يبدو عليه من شحوب وذبول!

وكما يتعاقب الليل والنهار في تداولهما على حياة الأرض؛ تتعاقب الشمس والقمر في إنارتهما للأرض أيضا، تعاقبا يجعل لكل منهما دوره الخاص به، نورا أو ضياء، فلا أحد منهما يُفسد دور الآخر أو يبطله، بل لكل منهما منـزله أو فلكه الخاص به. وهما يجريان في أفلاك متباعدة مستقلة ولذلك قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!) فالشمس المشتعلة تمد القمر، وتجعله كالمرآة يعكس ضوءَها نورا هادئا جميلا، ثم يرسله إلى الأرض ليلاً عبر منازل معلومة، في دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. فالشمس تخدمه ولا تزاحمه، بل إنه يؤدي وظيفته كاملة بالمقادير والمنازل التي جعلها الله له. وكما أن للقمر وظيفته المكفولة بتقدير الله العزيز العليم، فإن للشمس أيضا وظيفتها المكفولة بتقديره تعالى؛ حتى إذا استدارت الأرض نحو الشمس، انفجر ضوؤها على صفحتها الأخرى، فَجْراً يسوق بين يديه النهار قهراً بإذن الله! أي أن ظلام الليل ينقشع بين يدي ضوء الشمس انقشاعا حتميا، ولا حيلة له في التخلص منه والانفلات! بل إنه يندثر قَسْراً! وذلك لما جعل الله من سلطة عجيبة للضياء على الظلام! وهو معنى قوله تعالى: (وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ!) فالسبق هنا بمعنى: الغلبة والتخلص والانفلات. وهو من معانيه في العربية، على غرار قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ!)(الأنفال: 59)، وكذا قوله سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا؟ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ!)(العنكبوت: 4)([2]).

وكل ذلك حقائق كونية عجيبة، لم يبلغ العلم البشري الحديث منها - رغم تطوره الهائل بالنسبة إلى ماضيه - إلاَّ بعض الظواهر وبعض النِّسَبِ ليس إلا! ولم تزل حقائقها الكونية تضرب في عمق المجهول من عالم الغيب، الخاضع لعلم الله المحيط بكل شيء؛ ما يجعل المؤمن المتدبر لذلك كله لا يملك إلا أن يسبح خالقَ هذا النظام الفَلكي الجميل الجليل؛ تسخيراً للإنسان ساكن هذه الأرض، وابتلاءً له في الوقت نفسه!

ثم ينتقل التعبير القرآني - بعد ذلك - لعرض آية أخرى من معجزات الله جل جلاله، وعظمة قدرته وسلطانه، وحكمة تدبيره لشؤون العالمين، وهي هذه المراكب الصناعية والحيوانية، المسخرة للإنسان في البحر والبر والجو، التي كان ابتداؤها الصناعي سفينةَ نوح عليه السلام، والتي كانت معجزة ربانية عجيبة، وحقيقة تاريخية غريبة، لا يملك معها الإنسان إلا الحمد لله رب العالمين. فلولاها لما كان للوجود البشري اليوم في الأرض من أثر! ولكن الله قدر أن يستمر النسل الإنساني إلى ما شاء الله. فالمفسرون يجمعون على أن المقصود في هذا السياق "بالفْلُكِ المشحون" إنما هو سفينة نوح عليه السلام. ولذلك قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ.) فكل الروايات عن ابن عباس وكثير من التابعين مجمعة على ذلك([3]) والسياق يؤيده. ومعنى المشحون: المملوءُ الْمُثَقَّلُ! وذلك بما حمل فيها نوح – عليه السلام - من أزواج الحيوانات والطيور، إضافة إلى الطائفة المؤمنة من قومه وما معها من متاع. ثم سارت مع ذلك آمنة محفوظة بأمر الله في محيط الأمواج الهائلة الضخمة!

وأما حمل الذرية ههنا فهو بمعنى حمل النسل، وهو الذي وقع في سفينة نوح، فقد أمر الله نوحا أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، من الإنسان والحيوان. وكان المؤمنون من قومه فقط، هم وحدهم من سُمح لهم بركوبها رجالاً ونساء، وأغرق الله الباقين! وهو عهد قديم من عهود البشرية، حيث لم يكن في الأرض يومئذ من الإنس غير قوم نوح! فلم يستمر النسل البشري بعد ذلك على وجه الأرض إلا بمن نجا من أهل السفينة! وكل من وُجِدَ بعد ذلك في التاريخ إلى يومنا هذا، من ملايير البشر، إنما كانوا من أصلاب تلك الثلة القليلة من أصحاب السفينة! فالذرية ههنا بمعنى النسل الذي لم يزل في عالم الذر. وهو تعبير استعمله القرآن، كما في قول الله تعالى عن آدم عليه السلام: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى!)(الأعراف: 172). فالذرية ههنا هي النسمات البشرية التي جعلها الله في ظهر آدم([4]). ولذلك لقب المؤرخون نوحا عليه السلام بآدم الثاني! وهي قصة لمن تأملها غريبة رهيبة! تدل على رعاية الله البالغة للإنسان ونعمته عليه وفضله!
فهذه السفينة الأولى في تاريخ البشرية، رغم ما يتصور من بدائيتها من حيث الصنع، فإنها لم تغرق بإذن الله، رغم أن كل أسباب الغرق كانت متوفرة فيها! فقد كانت مشحونة مثقلة بكل أنواع الكائنات الحية مما كان على وجه الأرض يومئذ ومما قدر الله استمرار نسله فيها، إضافة إلى الطائفة المؤمنة من الرجال والنساء والأطفال، ثم ظروف الطوفان الرهيب، وما كان عليه من هيجان شديد! مما وصفه القرآن أبدع تصوير في قوله تعالى من سورة هود: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ!)(هود: 42). بينما ها هي ذي السفن اليوم تتمتع بأحدث الأجهزة الميكانيكية والإلكترونية لضمان سلامتها، ولكن عندما يقدر الله إغراقها يجعلها وأهلها من الهالكين! مما يُعْلَمُ معه ألا عاصم من أمر الله إلا هو! وذلك قوله تعالى في تتمة السياق: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ! إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ!) والصريخ: المنقذ الذي يستنجد به! فلا شيء من تقنيات العصر، ولا من تطورات التكنولوجيا تنفع الإنسان إذا حضر أجله! إلا إذا تجلت عليه رحمة الله، ورحمة الله وحده! والإنسان الأعمى اليوم يثق في تقنيات الحفظ والسلامة المعاصرة، ثقة تحجبه عن الله، فيعبد العلم البشري ومنتجاته منها ومن غيرها! وينسى أنما هي تسخير من رحمة الله، إذا قضى أمره عطلها تعطيلا! وحوادث العصر دالة على هذا أوضح دلالة! وما استمرار الحياة البشرية على الأرض إلا متاع قريب، له أجل معلوم وينتهى، ثم يُبعث الناس لرب العالمين! تلك هي خلاصة القصة البشرية (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(ق: 37)


3- الهدى المنهاجي:

وهو يتضمن الرسالات السبع التالية:

- الرسالة الأولى:

في أن الموت والحياة سر من أسرار الله في الملك والملكوت! وألا شيء من الخلق إلا وهو مبتلى بهما! والموت حقيقة يقينية لا يستطيع أحد إنكارها، ولا أن يتحداها. ولكن ماهيته لغز مغلق لا يدرك الإنسان منه إلا ظواهره، وأما حقيقته فلا يعرفها إلا بعد أن يذوقه! وكذلك الحياة، بما في ذلك هذه التي بها نحيا ونعيش في الأرض، فإننا لا نعرف منها إلا أعراضها، أما حقيقتها فهي مرتبطة بالروح، والروح من أمر الله المحجوب عن الخلق إلى يوم القيامة! الموت والحياة ابتلاءان يحكمان عمر الإنسان وأجله، فلا محيص له من الرضوخ لقدرهما! والمؤمن الكيِّس الفطِن هو من يتزود من هذه الحقيقة حياتَه كلَّها، فلا يخطو خطوة إلا على هداها، عابدا ربه حتى يأتيه اليقين!


- الرسالة الثانية:

في أن البعث حشرٌ شامل للبشرية جميعها، أولها وآخرها، بين يدي الله رب العالمين؛ لتنال جزاءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر! فهذه حقيقة تملأ القلب رهبا! وهي دواء للغفلة الملمة بالقلوب؛ إذ تجعلها تراجع نفسها وتنظر في سوابق أعمالها ولواحقها. وإنَّ اتخاذها وِردا للقلب يتغذى به يوميا؛ لكفيل بترقية العبد إلى منـزلة المحاسبة، صفةً كريمةً لا تزول بإذن الله.


- الرسالة الثالثة:

في أن زخرف الحياة الدنيا جناتها وبساتينها وعمرانها، كل ذلك إلى فناء! وأن التعلق الكامل بها غرور وجهل فظيع بطبيعتها الابتلائية! ثم إن إدمان النظر إليها معزولة عن عمقها الأخروي يورث القلب العمى! فيتعلق بها تعلقا يحجبه عن الله. فلا تزال تخدره بشهواتها حتى تقوده إلى الخسران المبين! والمؤمن البصير يبني صرح العمران الدنيوي - استخلافا في الأرض وإصلاحا - على أساس أخروي، فلا يزال على هدى من ربه حتى يلقاه رَضِيّاً!


- الرسالة الرابعة:

في أن الرزق تقدير إلهي محض، وما من عبد إلا وينال منه ما قُدِّر له، وإنما جعل الله تعالى أسباب الكسب ابتلاء للعباد؛ إذ بها تتعلق أحكام الشريعة من حلال وحرام. وأهل البصائر يرون في الأسباب حكمة الله العزيز الحكيم، فيعبدون الله بها، بينما أهل الغفلة يفتتنون بها؛ فتكون لهم حجبا عن الله، ثم يعبدونها من دون الله! ومن فهم عن الله حقيقة الرزق، وتلقَّى تجليات اسمه تعالى: "الرزاق" نجا من الهلع، وحلت بقلبه القناعة والسكينة. وإن من جهل ذلك من أرباب الدنيا لفي شقاء شديد!


- الرسالة الخامسة:

في أن الشكر حق الله على العباد؛ بما خلق ورزق وهدى! وأن التمرد عن عبادته كفران شنيع لأنعمه! فلا عجب أن كانت أول كلمة نطق بها آدم عليه السلام حمداً([5])، وكانت أول آية افتتح بها القرآن الكريم: "الحمد لله رب العالمين"! ولقد امتن الله بنعمه - التي لا تحصى - على عباده وفصل ذلك في القرآن تفصيلا. وها هو الإنسان غارق في بحارها الكوثرية لا يستطيع منها فكاكا! أفلا يكون من الشاكرين؟ من هنا وجب على العبد أن يتخذ شكر الله - جل جلاله - وردا دائما يعبد الله به ذِكْراً وعملاً، فيستجيب لنداء ربه كلما دعاه، ويلزم حدوده ويتقي محارمه.


- الرسالة السادسة:

في أن التسخير نعمة من نعم الله الكبرى، وجب ملاحظتها بالتفكر في حركة الكواكب والنجوم والأفلاك، وما يستفيده الإنسان منها – تسخيرا من الرحمن - من ليل ونهار، ونور وضياء، وفصول وأمطار...إلخ. فمتى داوم العبد على هذا الضرب من التفكر التعبدي ازداد معرفة بالله وعلما به تعالى، فيرتقي إلى درجة خشيته على قدر مقامه تعالى؛ فلا يخاف بعد ذلك زيغا ولا ضلالا بإذن الله!


- الرسالة السابعة:

في أن الرعاية نعمة أخرى من نعم الله الكبرى، فلا نجاة للإنسان ولا حفظ له ولا أمان إلا برعاية الله له. فهو تعالى الذي يرعى وجوده وشؤونه كلها، رزقا وحفظا وسلامة وشفاء. وإن مطالعة هذا المعنى العظيم تورث القلب التعلق بحب الله، وتكسبة الشوق إلى لقائه. فينشط في سيره إليه، ويصير محمولا بعبادته لا حاملا لها، بمعنى أنه لا يجد فيها مشقة ولا عنتا، بل يجدها لذة وجمالاً! كما أن هذا الضرب من التفكر يمنح القلب أيضا الشعور بالسكينة والطمأنينة والأمان.


4- مسلك التخلق:

لقد كان القرآن واضحا في الدلالة على مسلك التخلق بحقائق هذه الرسالات الإيمانية، وهو إحياء عبادة التفكر في الآيات الكونية! هذه العبادة التي تركها كثير من الناس في هذا الزمان! ولم يزل القرآن يردد: "وآيَةٌ لهم.. وآيَةٌ لهم"! وهو يلفت نظر الإنسان إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض.

ومن ثَمَّ كان على المؤمن أن يجتهد في فتح بصيرة التفكر في كل شيء حوله، حتى يصبح لا يرى شيئا إلا بعين التفكر! وأما المسلك العملي لذلك فهو أن يبدأ بتدريب نفسه على اتخاذ ساعات معلومة لممارسة التفكر، فردا أو مع صاحب له. ويستعين بآيات التفكر في القرآن، فهي ترشد إلى الصورة العملية الناجعة في اكتساب مقام التفكر، والوصول إلى حقيقته ونتيجته. ذلك أن الله - جل جلاله – أرشد الناس إلى أن التفكر الناجع هو ما كان فرديا أو ثنائيا، فإذا تعدى ذلك صار تدارسا. لأن التفكر عملية وجدانية بالأساس، العقل عينها نعم، ولكن القلب هو لسانها المتذوق لها والمتمتع بلذتها! قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)(سبأ: 46). وقال سبحانه في صفة أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران: 191). وهذه الآية قد يظن المرء – بادئ النظر - أن التفكر واقع فيها بفعل الجماعة، لكن السياق يدل على أنه عمل فردي، ففعل الجماعة ههنا إنما يصف مجتمع المؤمنين في أحوالهم الخاصة، قياما وقعودا وعلى جنوبهم. والتفكر على كل حال تأمل قلبي صامت، لا يتصور فيه الاشتراك الجماعي. ومعنى هذا أن تطبيقه يحتاج إلى لحظات من الخلوة الهادئة، بعيدا عن المؤثرات الخارجية والعلاقات الاجتماعية، التي تقطع الواردات وتتلف المشاهدات!



[1]قال ابن كثير رحمه الله: (ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفَجَرتهم من قولهم: "إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا" "المؤمنون: 37"، وهم القائلون بالدور من الدهرية، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، فرد الله تعالى عليهم باطلهم، فقال: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ". تفسير ابن كثير: 6/574.

[2]
ن. تفسير الآية في "التحرير والتنوير" لابن عاشور.

[3]
ن. تفسير الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والسيوطي وغيرهم، ومن المعاصرين: ابن عاشور وسيد قطب.

[4]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ؛ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ! الحديث...) رواه الترمذي والحاكم،قَالَ أَبُو عِيسَى: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". كما صححه الألباني في صحيح الجامع. وفي رواية الحاكم: (فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِثْلَ الذَّرِّ!) والذَّرُّ: دقيق الغبار المتناثر في الفضاء.

[5]
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروحَ عَطِسَ فقال: "الحمد لله!" فَحَمِدَ اللهَ بإذنه؛ فقال لهربه: "يرحمك الله يا آدم!"... الحديث) رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع. رقم: 5209.

  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:42 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 7
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الخامس

في مقام التلقي لبيان غِلَظِ جحود الكفار وتعنتهم، وما تنطوي عليه

نفسياتهم من استعلاء واستكبار، وبيان سنة الله فيهم


1- كلمات الابتلاء:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ(49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ(50)


2- البيان العام:
كانت الآيات التكوينية من أمر الملك والملكوت، مما عرضه الله - جل جلاله - في الآيات السابقة، على أعلى مقامات البيان قوةً ووضوحا؛ بحيث تخضع لها أعناق العباد خشية من ربهم العظيم! فأي جريمة نكراء يرتكبها الطغاة الكفرة إذ يُعرضون عن هذا كله فيجحدون نعمة خالقهم! ولذلك نعى عليهم الحقُّ تعالى ضلالهم المبين في تتمة السياق، فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ!) فرغم ما بُيِّن لهم من قواطع البراهين وآيات الأنفس والآفاق؛ فإنهم مع ذلك إذا قيل لهم: احذروا المصير الأخروي، واتقوا أهوال القيامة والبعث والنشور، مما هو بين أيديكم واقع قريبا لا محالة! واحذروا تقلبات الدنيا التي هي خلفكم فأنتم مودعوها يقينا! واتقوا ما ينـزله الله فيها على الظَّلَمَةِ من عذاب وعقاب؛ فلعل الله عز وجل يتدارككم برحمته؛ كلما قيل لهم ذلك أعرضوا، وأصروا على كفرهم وضلالهم!

وفي الآية الأولى حذف بليغ لجواب "إذا"، وهو الجحود والإعراض؛ وذلك لدلالة الآية الثانية عليه، فاستُغني عنه ليكر اللاحق على السابق بالبيان. والقرآن العظيم إنما يخاطب بمثل هذا أولي الألباب.

ومن هنا فإن هؤلاء الكفار اتخذوا مواعظ المؤمنين هزءا وسخرية! فكلما نصحوهم بالإيمان والإنفاق مما رزقهم الله من فضله أجابوهم بعبارة ظاهرها الإيمان بالله، وباطنها الكفر المبين، والاستهزاء بآياته والسخرية من المؤمنين! (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ!) هكذا بهذا العنت البغيض يجيبون المؤمنين، فيقلبون عليهم الحقائق ويصفونهم بما هو من محض كفرهم هم: الضلال المبين! ثم يظهرون أنفسهم أنهم أكثر معرفة بالله؛ إذ هو الذي يوزع مقادير الأرزاق، فلو شاء لأطعم هؤلاء الفقراء والمساكين، فلماذا نخالف إرادة الله بإطعامهم؟ حجاج شيطاني مبين! إنه يستبطن السخرية بالمؤمنين حيث إنهم هم الذين يقولون بأن الرزق مقادير مقدرة من الله؛ فينكر الكفار عليهم: لماذا إذن تأمروننا بالإنفاق على الفقراء والمساكين؟!

ثم يبلغ جحودهم مداه فينكرون حقيقة البعث، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ؟) تساؤل خبيث عن ميقاته، على سبيل الاستبعاد والإنكار لوجوده! ولذلك جاءهم الجواب من الحق جل جلاله قويا قاطعا لكل جدل عقيم! (مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ! فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ!) فالجواب هو ما سترون لا ما تسمعون! صيحة عذاب وهلاك! كصيحة مدين وثمود!([1]) يصعقهم بها ملَك من ملائكة الرحمن، تأخذهم على غرة، وهم لاهون في متاهات حياتهم، منهمكون في شؤون معاشهم، غارقون في فتن أسواقهم، مما يتشاحون فيه ويتنازعون ويختصمون. فتبهتهم الصيحة وهم على تلك الحال، فلا يجدون فرصة لوصية تحفظ أموالهم، ولا مهلة للرجوع إلى بيوتهم وأهليهم! بل يصعقون في مواطن فتنتهم، ونوادي شهواتهم، فبئس المصير!


3- الهدى المنهاجي:

وهو منقسم إلى ثلاث رسالات:

- الرسالة الأولى:
في أن قلب الكافر مغلق بأقفال صدئة، ترسبت عليها أوساخ الهوى والكبرياء! فلا يسمع نذارة ولا بشارة، ولا موعظة ولا نصيحة، إلا إذا حلت به صيحة العذاب أو صيحة الفزع الأكبر؛ فيكون آنئذ من السامعين! وهيهات هيهات أن ينفعه إيمان بعد فوات الأوان!

- الرسالة الثانية:
في أن المال ومتاعه هو المعبود الأول للكفار، يتكالبون على جمعه بهلع شديد! ولذلك فهم لا يستطيعون إنفاق شيء منه مهما قل! إلا إذا وجدوا لهم منفعة مادية في ذلك، من جاه دنيوي، أو ربح مادي، ولو على أمد بعيد! ومن هنا فإنه لا يتحقق إيمان المؤمن بالله إلا بالإنفاق في سبيله، وإهلاك المال في وجوه البر. فبذلك يتطهر قلبه من الشرك الخفي، الذي يورثه حب الشهوات من الأموال والتعلق الأعمى بمتاعها.

- الرسالة الثالثة:
في أن الله منتقم من الكفار حتما، فإما أن يسلط عليهم عذابا في الدنيا قبل الآخرة، وإما أن يمهلهم إلى يوم الحساب. وهما أمران أحلاهما مر! وفي هذه العقيدة راحة للمؤمن المتغيظ من ضروب الظلم وأشكال الطغيان. فكلما استحضر العبد هذا المعنى استراح قلبه من الغم، الذي قد يصيبه في فترات الضعف والإعياء من مشاق الطريق.


4- مسلك التخلق:

الثمرة العملية لهذه الآيات هي في وجوب تحقيق اليقين بأن الله - جل جلاله - هو مالك لأمر مملكته كله، قاهر لعباده أجمعين. فمهما أبدى الكفار من التمرد على الله، فإنهم لا يُعجزون رب العالمين. وإنما هو ابتلاء لهم، هم خاسرون فيه لا محالة! وبهذا يُنتزع الخوف المرَضي من قلوب المؤمنين، والفزع من جبروت الطغاة مهما استكبروا في الأرض واستعلوا، ولا يبقى بأفئدتهم إلا خوف الله العظيم.

ويتحقق ذلك للعبد بمداومة النظر في الآيات المعرفة بالله وأيامه، مما انتقم به من الأمم الظالمة عبر التاريخ! ومشاهدة حوادث العصر وكوارثه، مما يقع هنا وهناك، على ذلك الوزان، وكذا بالمطالعة التفكرية في عوالم الْمُلْكِ والملكوت. كل ذلك مورث لهذا اليقين. فمن عرف الله به لم يخش أحدا سواه!


[1] قد تكون الصيحة بمعنى نفخة الفزع الأكبر ليوم القيامة، كما ذهب إليه ابن كثير وغيره المفسرين، لكن السياق أقوى في الدلالة على ما رجحنا والله أعلم.

  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:43 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 8
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس السادس

في مقام التلقي لمشهد فريد من مشاهد البعث،
وأحوال الفريقين من الكفار والمؤمنين



1- كلمات الابتلاء:

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ(53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ(55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ(56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ(57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ(58)


2 - البيان العام:

كانت صيحة العذاب وعيدا من الله الواحد القهار لمردة الكفار، فمنهم من سلطها عليه، ومنهم من أهلكه بما شاء وكما شاء. حتى إذا كانت الصيحة الأخيرة التي يصعق لها من في السماوات والأرض، والتي هي الإعلان الإلهي لنهاية الحياة في كل العالمين، فلم يَبْقَ من حي في الوجود إلا وجهه العظيم جل جلاله؛ كانت بعد ذلك صيحة البعث العظمى! وقد ورد التعبير عنها بفعل ماض مبني للمجهول؛ للدلالة على انحتام وقوعها وعلى شدة قربها، وأن الكفرة بمجرد ما يصعقون في الحياة الدنيا أو يهلكون، لا يكادون يشعرون بزمن إلا وقد فاجأتهم صيحة ثانية! لكنها صيحة أدهى وأمر! إنها باب العذاب الشديد!

ولقد صور القرآن الكريم مشهد البعث تصويرا عجيبا، فبمجرد انطلاق النفخة من الصور - وهو البوق الذي ينفخ فيه الملاك إسرافيل- تنفتق القبور عن أصحابها كما تنفتق الأرض عن النبتة النامية، فتخرج من تحت ظلمات الثرى، وتنشر أوراقها فوق الأرض! فالله جل جلاله يعيد خلق البشرية الهالكة خلقا جديدا، وينبتهم من تربتهم التي دفنوا فيها أنى كانت في البر أو في البحر، فلا يعجزه تعالى أن تكون أجسامهم قد صارت رميما وفنيت في التراب، فهو تعالى عليم بخلقه، قدير على كل شيء، فلكل إنسان يموت بذرة دقيقة، لا يهم في أي تربة وقعت، لكنها إذا نوديت من لدن الرحمن نبتت من جديد إنسانا سويا! (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)
وكل ذلك يقع في أقل من لحظة! ولذلك عبَّر بـ"إذا" الفجائية للدلالة على سرعة الاستجابة للنفخة! فقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ!) هكذا: "ينسلون" أي يمضون بسرعة نحو مكان الحشر، فترى البشرية كلها من آدم إلى آخر من يكون، تتقاطر خارجة من مقابرها في كل مكان على وجه الأرض، ماضية لا تلوي على شيء نحو مكان واحد، حيث الله رب العالمين يفصل بين العباد. هنالك يلتهب الفزع الشديد بقلوب الكفار! فهم إلى عهد قريب يقولون سخريةً بالمؤمنين واستهزاءً: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ؟) فَتَفْجَؤُهُمْ صعقة الموت ثم تفجؤهم صيحة البعث! فلا يملكون في رهبة الموقف إلا أن يدعوا على أنفسهم بالويل والثبور! (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟) فيأتيهم الجواب سريعا من ملائكة الرحمن: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ!) هذا هو الوعد الإلهي الذي جاءتكم به الرسل فكذبتموهم واتخذتموهم سخريا! ها هو ذا تشهدونه بأنفسكم في أنفسكم!

نعم، هذا هو يوم البعث الذي يقع بنفخة واحدة يوقعها الملاك في الصُّور، فتنتفض البشرية كلها في لحظة واحدة، وتحشرها الملائكة حشرا من كل مكان، فلا تشعر إلا وهي جاثية بين يدي ربها فَرَقاً، في مشهد يوم عظيم!ٍ هنالك يقضي الله بين العباد، (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والعدل الإلهي هو العدل! فلا تُظْلم نفس شيئًا بنقص حسناتها أو بزيادة سيئاتها، ولا يُجزى الإنسان إلا بما كان يعمله في الدنيا. فكل شيء مكتوب في صحيفته!

هذه المواقف الرهيبة من أحوال الفزع وترقب المصير المشؤوم، يكون المؤمنون آمنين منها يومئذ، وذلك فضلٌ من الله عظيم. ولذلك اختصر الرحمن مسيرتهم من البعث إلى الحشر؛ إذا لا يجدون في ذلك فزعا ولا عذابا، فيعرض مشهدهم في الجنة مباشرة! مشهد ينبض بهاءً وجمالا؛ لما فيه من نعم الخيرات والسلام! قال تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ!) إنهم مشغولون عن حال أهل العذاب بنعيمهم المقيم، مما يتفكهون به ويتلذذون، جالسون مع زوجاتهم وأهليهم على أرائك الجنة بما لها من بهاء وضياء، يتنفسون أنسام الظلال الممتدة عن الأشجار الوارفة والثمار البهية، ويتخيرون من فاكهة الجنة ما يشتهون، وينالون من كل ما يطلبون ويحبون! مشرفون على مشاهد خارقة الجمال، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، بعيدا بعيدا عن فحيح الجحيم ولهيبها!

ذلك، ولكنَّ تمام النعمة وكمال الرضى، يشرق عليهم بعد ذلك؛ إذ يتجلى لهم ربهم الرحيم فيلقي عليهم السلام! فينعمون آنئذ بالأمان التام والسلام الكامل، بشرى خلود في الجنة أبداً، يتلقونها من ربهم الكريم مباشرة! الله أكبر! أي إحسان هذا وأي عطاء!؟ ذلك مشهد لا تستوعبه العبارات، وتقف اللغة البشرية عاجزة عن بيان حقيقته الرحمانية! فلا إمكان أبدا لتفسير هذه الكلمات القرآنية الجليلة، وإنما جهدنا أن ندعو الله أن يجعلنا من أهل ذلك المقام!


3- الهدى المنهاجي:

وهو يتجلى في أربع رسالات، هي كما يلي:


- الرسالة الأولى:

في أن الأجل غيب لا يعلمه إلا الله، وأن من الجهل بالله أن يغتر الإنسان بقوته وسلامة صحته؛ فيطول به الأمل؛ بما يبطئه عن المسارعة إلى التوبة، والمبادرة إلى العمل الصالح. فاستبطان هذه الحقيقة في القلب، كفيل بتنشيط السير إلى الله والتزام مسالك التقوى، وانكفاف الجوارح عن اقتراف الخطايا، والاقتراب من مواطن السوء. وهي أمان حافظ للداعية من أن تزيغ به الأهواء إلى ابتغاء ما سوى الله والدار الآخرة.


- الرسالة الثانية:

في أن العدل الإلهي الفاصل بين العباد بمحكمة الآخرة، دواء للقلوب الجريحة في الدنيا، وبلسم لها، يزودها بالصبر الجميل، والاحتساب الخالص. وإنما على المؤمن أن يَكِلَ المظالم إلى ذلك اليوم؛ فيرتاح من القلق والأسى. فمهما طغى الظالم في الأرض وتجبر؛ فإنه في يوم قريب سيموت! وسيقف قطعا يوم الجزاء، هو وخصومه من المستضعفين، بين يدي الله الواحد القهار!


- الرسالة الثالثة:

في أن العمل هو رأسمال العبد في الآخرة، وهو باب النجاة من العذاب. وأن الفوز لا يُنال إلا بكد ومجاهدة. فالطريق شاقة، ولا وصول لمن لا زاد له! قال جل جلاله: (وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)(البقرة: 197). وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ خَافَ أدْلَجَ، ومَنْ أدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْـزِلَ، ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ! ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ!)([1])


- الرسالة الرابعة:


في أن التعرف على الجنة ونعيمها واجب شرعي؛ ولذلك تضافرت الآيات في كتاب الله على بيان خيراتها وملذاتها. فمن تعرف عليها زَهِدَ في متاع الحياة الدنيا، ونجا من فتنة الشهوات المهلكات بإذن الله. وعلى المؤمن أن يتدبر معارض نعمها في القرآن؛ حتى تصبح حقيقتها أملا حيا في قلبه، وشوقا يحدوه بقوة إلى الرقي بمعارج الروح.



3-مسلك التخلق:

قضية هذا المجلس في مسلك التخلق هي: العمل! كيف السبيل إلى التزام جادته، ومحبة مكابدته؟ إن الحامل الأكبر على الدخول تحت ربقة العمل، والارتقاء إلى مقامه صفةً لازمةً، خاصة في بداية الطريق، إنما هو الخوف! خوف مقام الله العظيم. كما سبق في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَافَ أدْلَجَ!) والخوف متبوع بالرجاء تلقائيا. لكن الأول هو السائق الحادي. وإنما يتحقق ذلك للمؤمن بمداومة التدبر للآيات المعرفة بالله في القرآن الكريم، والتفكر في أحوال الآخرة، ثم الدخول في خلوات للنظر في النفس وفي الزمن، ومشاهدة تعاقب الليل والنهار وما يصرمانه من العمر الفاني!
فإذا تم ذلك للعبد تعلق قلبه بما ينتج عن الأعمال من أحوال! وارتقى إلى مقام المحبة، فلا يجد راحته الكاملة ولا لذته التامة إلا بالدخول في حرم العبادات والأعمال الصالحات. وإذن لا يخشى على نفسه - بعد ذلك - انقطاعا أبداً إن شاء الله!




[1] رواه الترمذي والحاكم. وصححه الألباني في صحيح الجامع.









  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:44 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 9
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس السابع


في مقام التلقي لواجب بغض الشيطان واتخاذه عدوا


1- كلمات الابتلاء:


وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ(66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ(67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ(68)

2- البيان العام:

ههنا مشاهد رهيبة من أحوال الكفار في موقفهم بين يدي الله يوم القيامة. أحوال فيها من الفزع ما يناقض سكينة المؤمنين في جنات النعيم، بفروق ومباعدت لا تطويها مقاييس الأزمنة والمسافات! وقد كانت لنا في المجلس السابق مع المؤمنين مشاهدات. أما هؤلاء فيقال لهم على سبيل الزجر والانتهار: امتازوا أيها المجرمون! بمعنى تميزوا وانعزلوا! وهو امتياز حصار وإذلال؛ ليقفوا بعيدا بعيدا عن زُمَرِ المؤمنين، مُمَيَّزِينَ مفصولين، مبعدين كما يُبْعَدُ الجمل الأجرب عن الإبل! ويصفهم الرب - جل جلاله - بشر أوصافهم: "المجرمون"!

هذا يوم البطشة الكبرى! حيث يشتد غضب الله على الكفرة! فيوبخهم بهذا السؤال الإنكاري الشديد: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ؟ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ!؟) فذلك عهد الله للإنسان مذ كان في عالم الذر، وهو عهده الذي تواتر به البلاغ عبر كل الرسالات! إفراد الله تعالى بالعبودية، ومعاداة الشيطان بدل اتخاذه إلها من دون الله الواحد القهار! فالله جل جلاله لا يقبل من الدين إلا الخالص، الصافي من الشرك والشركاء، ولذلك قال تعالى بعدُ: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فلا عبادة لله إلا بتوحيد الله ومعاداة إبليس، ولا مهادنة للشيطان إلا بتمرد على الله! ولذلك أمر سبحانه العباد باتخاذ الشيطان عدوا؛ بما هو لهم عدو مبين! كما جاء في سورة فاطر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا!)(فاطر: 6) وجاء الأمر بفعل "اتخذوا"! والاتخاذ في العربية دال على الإرادة الواعية والقصد المصمم. وهذا من أهم مقاصد الدين في هذا السياق، ذلك أن الإنسان قد يغفل عن استحضار حقيقة الشيطان في ذهنه، وهو ماض في أعماله وأشغاله؛ ومن ثَمَّ تكون الغفلة ويضرب الشيطان ضربته! فالشيطان قد أعلن العداوة للإنسان منذ عهد آدم! (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ! ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ!)(الأعراف: 16-17) ولم يزل كذلك ولن يزال حتى تقوم الساعة! ولقد أضل من البشرية الْجِبِلَّ الكثير! بمعنى الجموع الغفيرة! لكن الكفار لا يعتبرون ولا يتعظون؛ لأن الله طبع على قلوبهم بذنوبهم فهم لا يعقلون! ومن هنا كان واجبا على المسلم أن يتخذ الشيطانَ عدوا، يحاربه في كل خطوة وخَطْرَةٍ! ويعقد لذلك عزمه وإرادته!

ثم يزيد الرب جل جلاله الكفار توبيخا وتقريعا، بما كذبوا باليوم الآخر والجنة والنار، فيقول: هذه هي جهنم الآن أمامكم! ويأمرهم بدخولها خاسئين! لِيَصْلَوْا حرها ويذوقوا عذابها، خالدين فيها والعياذ بالله!

ومن أبشع صور الإهانة والإذلال أن الله تعالى يختم على أفواههم، ويُلجمها بالْخَرَسِ، فلا تستطيع نطقا! ويأمر تعالى جوارحهم فتتكلم كاشفة عما اقترفته من آثام، وما بطشته من جرائم!

ثم يبين - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - أن قوته وعظمته أكبر مما يتوهمون! فلو شاء تعالى لعجل لهم عقوبة دنيوية، فختم على أبصارهم وطمس عليها طمسا! كلما سارعوا إلى التعرف على الطريق ضلوا! ثم لو شاء سبحانه لمسخ خلقتهم إلى أسوأ خلقة! كما فعل بكفرة بني إسرائيل من قبل. فيمسخ هؤلاء الكفرة الآن في أماكنهم التي هم واقفون بها، أو بناديهم الذي هم فيه جالسون، يجادلون في الحق ويستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام! ويجعلهم الجبار تعالى على هيئة مُقْعَدَةٍ غير قابلة للمشي، لا إلى أمام ولا إلى وراء!

لكن الدنيا إلى زوال، فأخر الله عذابهم إلى الآخرة. وذلك أشد لو كانوا يعلمون! وفناء الدنيا حقيقة تشهد بها كل الكائنات، بدءا بجسد الإنسان نفسه، لو أنهم يتفكرون! فكلما كبر وطعن في السن ضعفت قواه العقلية والجسمانية، حتى يصير – إن عُمِّرَ - إلى أرذل العمر والعياذ بالله! فمن لاحظ ذلك أيقن بفناء الحياة، ولم يغتر بقوة ولا جاه، ولكن الكافرين لا يعقلون تنبيها ولا إرشادا.





3- الهدى المنهاجي:

وهو في أربع رسالات هي كالتالي:

- الرسالة الأولى:

في أنه ما مِنْ أحد لم يكن عابدا لله إلا وهو عابد للشيطان لا محالة! وإنما قد تختلف مظاهر عبادة الشيطان، وقد تتجلى في صور شتى. فما من كُفْرٍ أو ضلال أو فسق أو فجور إلا وهو عبادة للشيطان. وما من تَرْكٍ لعبادة من العبادات المفروضة - بغير عذر شرعي - إلا وهو عبادة للشيطان! والناس كثيرا ما يَزِلُّونَ في فهم هذه الحقيقة، فربما مدحوا المرء وأثنوا عليه بشتى أنواع المدح والثناء، ثم يقولون: "وإن كان لا يصلي!" فأي جريمة في الدين – بعد الكفر - أدهى من ترك الصلاة؟!

- الرسالة الثانية:

في أن الله عز وجل مسيطر على ملكه، قاهر لخلقه، لا شيء يكون في السماوات والأرض إلا بإذنه! فهو تعالى يملك رقاب الكفرة والطغاة، ويملك أسرار خِلْقَتِهِمْ مما لا يعلمه أحد إلا هو، فهو سبحانه وحده الخالق، فلو شاء لأهلك الظالمين بما شاء وكما شاء ومتى شاء! لكنه تعالى يمهلهم لإتمام مدة الابتلاء التي قدرها لهم في الدنيا. وإنه لا يأمن نقمة الله وغضبه إلا جاهل بالله مبين! والمؤمن التقي يتزود من هذا خشيةً ورهبةً تزيده عند الله تعالى رفعة وأمانا.

- الرسالة الثالثة:

في أن عقاب الله غير محصور في زمان ولا مكان، وأن خطابه - جل جلاله - بهذا الوعيد من الطمس والمسخ، والعياذ بالله، هو خطاب للكفرة والزنادقة في كل عصر ومَصْرٍ، إلى يوم القيامة! ومن الجهل بالله أن يعتقد المرء أن القذف كان عقوبة لقوم لوط ولن يتكرر أبدا، أو أن المسخ كان غضبا على زنادقة بني إسرائيل لن تحدث بعدهم أبدا! كلا! كلا! فعذاب الله معلق على رؤوس الظلمة والطغاة، فمتى أذن سبحانه وقع بهم! ولا قدرة لأحد ولا حَقَّ له في تحديد عقابه جل جلاله كيف يكون! وما حوادث عصرنا هذا عنا ببعيدة! فقد رأينا منها من القذف والخسف والأعاصير عجبا! مما يتجلى فيه غضب الرب تعالى ونقمته، تجليا واضحا لا يَعْمَى عنه إلا غَوِيٌّ مبين! فنعوذ برحمته تعالى من نقمته وغضبه! ولقد أنبأ النبي المعصوم – عليه الصلاة والسلام – من هذا بما ينذر القلوب! قال صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعةِ مَسْخٌ وخَسْفٌ وقَذْفٌ!)([1])

- الرسالة الرابعة:

في أن ملاحظة حركة الزمن في الإنسان وفي الأشياء، توقظ إحساس القلب بتصرم أيام العمر، وتوقفه على مشاهدة تساقطها تباعا، كما تتساقط أوراق الشجرة في آخر الخريف! الورقة تلو الورقة، حتى تَعْرَى أغصانها تماما، فلا غنى لها إلا بالله! فلكل جيل من الناس وقت محدود يقضيه على وجه الأرض، فما هي إلا سنوات حتى يشيخ فيهرم، ثم يلقى تحت غيابات الثرى! فكل جيل ينسخ ما قبله نسخا، ثم ينتظر هو بدوره أبناءَه ليكونوا له ناسخين! فلا بقاء لأحد على وجه الأرض! ألاَ ما أجهل الإنسان بنفسه وقَدْرِه! يتشبث بالوهم ويتترس بالضباب! فلا يزداد إلا عَمًى وجهالة!

فيا نفسي المغرورة! إلى متى وأنت خاملة الخطو؟ تُرْجِئِينَ عزائمَ الأعمال إلى غد ليس لك من ضمانه ولا شعرة! هذه حقائبك خاوية، وهذا جرابك فارغ من أي زاد، وبين يديك سفر طويل أنت لابد كادحة فيه كدحا! فإلى متى تلهوين عن المصير وإلى متى؟ ألا تكفيك سنوات ضاعت منك في تيه الشهوات والظلمات؟ ألاَ بُعْداً لقلب دَقَّ بابَه نذيرُ الزمن ثم لا يَرْعَوِي! ألاَ بُعداً وسحقا! فيا إلهي الرؤوف الرحيم! هذه نفسي الضعيفة تجأر إليك مستغيثة برحمتك! فما لي من شيء أستطيع عرضه بين يديك، سوى فقري وذلي وانكساري بين يديك، أنا عبدك المذنب العاصي عدت إليك تائبا فاغفر لي! فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت!

3-مسلك التخلق:

أما تحقيق عداوة العبد للشيطان وبغضه، هو وجنده من الإنس والجن، وإخلاص المحبة لله رب العالمين توحيدا وتفريدا، فإنما يتحقق بأمرين: أولهما معرفة العدو وطبيعته المجبولة على الشر! فمن لم يعرف عدوه حق المعرفة لم يأمن شره، ولم يستعد لكيده الاستعداد الذي يليق بخبثه، فتكون تلك ثغرة هزيمته! ومعرفة إبليس – نعوذ بالله منه - قد فصلها القرآن الكريم والسنة النبوية، فما على العبد إلا أن يتدبر نصوصهما المتعلقة به؛ ليعرف حجم الكيد الذي يكيده الملعون للإنسان، ويتأمل وجوه الشر التي ينفثها في الصدور، وصور الخراب والظلم والظلمات التي يثيرها في الأرض، وشتى أنواع الفجور التي يمليها على بني آدم إملاء! فكل الدمار الحاصل في الأرض وكل الشر المستطير هو من الشيطان يلقيه على شياطين الإنس فينفذونه تنفيذا!

ومن رأى الشر وقبحه أبغضه، ومن عرف خطره وتهديده الدائم للخير والجمال اتخذه عدوا!

أما الأمر الثاني: فهو التعرف على الله ذي الجلال والإكرام، وعلى فضله العظيم، وما أسبغه على عباده من نعم، ومشاهدة حِلمه الكبير على حماقاتهم، عندما يغفلون وينحرفون، مما يبثه إبليس في نفوسهم. وكذا ما شرعه لهم سبحانه من جمال التوبة، التوبة النصوح التي تمحو الخطايا وتمسح الذنوب! حيث يَمُنُّ سبحانه على عبده المذنب – أنى كانت ذنوبه – بالعفو والغفران! وترى كيف أنه تعالى يمد حبل المحبة إلى عباده، وكيف يتلبس الشيطان بالإنسان ليغريه بقطعه؛ حتى يلتحق بحزبه وجنده، ويكون من المفسدين! فأي شر بعد هذا وأي فساد؟!

فلابد لمن شاهد هذه الحقائق بقلب حي أن يبغض الشيطان، وأن يتخذه عدوا، وأن يحب الله جل ثناؤه وحده؛ فيكون له من العابدين المخلصين. ذلك وإنما الموفق من وفقه الله.

__________________________________________________ ___


[1]رواه ابن ماجه عنابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير. رقم: 2856، وكذا في السلسلة الصحيحة.

  رد مع اقتباس
قديم 05-06-2014 ~ 07:44 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي رد: في رحاب سورة يس
  مشاركة رقم 10
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المجلس الثامن


في مقام التلقي لواجب بغض الشيطان واتخاذه عدوا


1 – كلمات الابتلاء:


وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ(69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ(74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ(75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(76)


2- البيان العام:


أما هذا المجلس فله شأن خاص! إنه يستضيء بآيات تحمل أسرارا ربانية عجيبة، وحقائق إيمانية رفيعة!

كانت دعوة محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام – شروقا قويا في بيئة ألِفَ أهلُها العيش في الظلام؛ فلم تطق أعينهم مشاهدة النور فحاربوه! حتى كانت منهم فئة طمس الله على قلوبها وأعماها، وألجمها إلجاما على هيئة لا تطيق بها إبصار الطريق! كما قال في بداية السورة "فَهُمْ مُقْمَحُونَ!" لكن الكفار مهما كادوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا يشعرون بالهزيمة الداخلية فيزدادون حنقا وتغيظا! والسر في ذلك أنهم احتاروا احتيارا شديدا، واضطربوا أمام قوة القرآن وطبيعته! فهو خطاب لا كأي خطاب! خطاب يزلزل القلوب ويسلب الألباب، ويوقظ الفطرة الغافلة، والبصيرة الغافية؛ فيسلم له الناس تَتْرَى سِرّاً وجهراً!

ويرى الكفار زمام المجتمع ينفلت من بين أيديهم انفلاتا! ويرون سيادتهم تنهار، وكبرياءهم العاتي مهددا بالزوال! فهؤلاء أبناؤهم يسلمون، وهؤلاء عبيدهم يسلمون! ثم تنبعث في قلوبهم جرأة غير معهودة، وشجاعة غير مألوفة، وقوة غريبة في مواجهة طغيان الأسياد وتحدي الظلم والجبروت! والكفار يعلمون جيدا أن سر هذا التحول كله إنما هو هذا القرآن! فكيف السبيل إلى محاربته وحصاره!؟ تلك هي الأزمة التي أرقتهم وأطارت صوابهم؛ فرموه بشتى أنواع التهم ولكن بلا جدوى! كان القرآن - ولا يزال - يعلو ولا يعلى عليه!

قالوا هو ساحر، وقالوا هو شاعر، وقالوا مجنون، حاشاه صلى الله عليه وسلم! وكانت الشاعرية من أكثر التهم التي استعملوها لمحاولة صد دعوته عليه الصلاة والسلام؛ نظرا لأن العرب كانت تعتقد أن الشاعر إنما يكون كذلك بتنـزل الشياطين عليه! فهي التي توحي إليه بالمعاني وموازين القصيد! ولأنهم وجدوا أنفسهم مضطرين لتصنيف القرآن ضمن صنف من الكلام، يسلب عنه قوته البرهانية وطبيعته الربانية، فقد قالوا: إنما هو شعر! قالوها وهو يعلمون أنهم كاذبون! فرد الله تعالى افتراءهم بهذه الكلمات العميقة: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ! إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) فالله جل جلاله هو الذي صنع محمدا على عينه، وأعده للنبوة والرسالة إعدادا! ورعاه لذلك الشأن العظيم مذ كان في بطن أمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تنـزلت عليه أول كلمات الوحي! فما أتاح له تعالى فرصةَ تعلم الشعر ولا ألهمه قريحته، فصار طبعُه يأباه. كما صرفه - قبل الرسالة - عن كثير من مفاسد القوم وضلالهم.

فهي نبوة وليست شاعرية! وفرق بين الحقيقتين كبير..! فالشعر تجربة نفسية بشرية تفيض عن النفس الإنسانية عند جيشانها العاطفي! وتضرب بأجنحة الخيال في التعبير والتحبير.. والشاعر مملوك لهواه أبدا، سواء كان خيرا أو شرا! بينما النبوةُ تَلَقٍّ لخطاب الوحي الإلهي، وتجرد مطلق عن الهوى، ونطق بحقائق الإيمان الكاملة! وتعبير عن مراد الله رب العالمين، بكلام الله رب العالمين! فأين الثرى من الثريا؟ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم: 3-4) ألا ما كان أسفه عقول أولائك الكفار وهم يتهمون محمدا بأنه مجرد شاعر!

ومن هنا بين الحق - جل جلاله - طبيعة هذا الرجل، لكن بأسلوب رباني راق! فبدل أن يصف شخصه - عليه الصلاة والسلام - وَصَفَ طبيعة ما يصدر عنه من كلام، وفي ذلك ما فيه من قمة التعبير الجمالي وعمق المعنى الدلالي! فقال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) بيان حصري عميق لحقيقة هذا الكلام الذي ينطق به محمد صلى الله عليه وسلم: "ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!" نعم هو هكذا: ذِكْرٌ! والذِّكر طَرْقُ يَدِ الغَيْبِ لِبَابِ القلب الغافل! وإيقاظ للروح الراقدة في كهف الطين المسنون! مخدرة بأدخنة الشهوات والأهواء! وإخراج للوجدان الناسي حقيقتَه من قارورة نسيانه! وتذكير له بالعهد الأول، والميثاق الذي وقَّعه شاهدا على نفسه في عالم الروح، مجيبا بين يدي الرب العظيم: "بلى!"([1]) مُقِرّاً بالتوحيد والإخلاص! وهو إحياء للفطرة التي ضاعت تحت ركام المعاصي والذنوب، وتجديد لها؛ عساها تحس بالحياة من جديد! ذلك كله هو "الذِّكر" الذي يقابل معاني الغفلة والنسيان بمعناهما الروحي العميق! ولا أذْكَرَ للروح من الروح! والقرآن العظيم روح نزل به روح! قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ)(الشورى: 52) وقال سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ)(الشعراء: 193)

فمن هنا كان هذا الكلام الذي ينطق به محمد - صلى الله عليه وسلم – "ذِكْراً" بهذا المعنى الكوني العميق! وللقرآن أسماء أخرى ذكرها الله تعالى في كتابه، كالتنـزيل والكتاب وغيرهما، لكنَّ "الذِّكْرَ" هو الاسم الدال على وظيفته الكبرى!

وهو في الوقت نفسه "قُرْآنٌ مُبِينٌ". أي قرآن واضح الدلالة على رسالته، قوي الحجة على حقيقته ودعوته! لا ينكر ربانيتَه إلا غَوِيٌّ مبين! ولفظ "القرآن" هو الاسم العَلَمُ الجامع المانع لمعنى كلام الله - جل جلاله – المنـزل على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. وهو اسم دال على معنى القراءة، فعبارة قرآن مصدر من مصادر فعل "قَرَأَ"، دال على المبالغة والامتلاء، كغضبان بمعنى الممتلئ غضبا! ورحمن لمن وسعت رحمته كل شيء! سبحانه وتعالى. فالقرآن هو الكتاب المجعول للقراءة الكثيرة المستفيضة! ولذلك فهو قد قرئ ولم يزل يقرأ في السماء وفي الأرض إلى يوم القيامة! لكن السر الرفيع لهذه السيماء، والمقصد اللطيف لهذا الاسم الكريم، أن كتاب الله - جل ثناؤه - لا ينقدح نورُه لعبدٍ إلا بإشعال فتيل قراءته بقلبه! فلا تدبر ولا تذكر إلا بقراءة! وليس عبثا أن يكون أول ما خاطب الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: "اِقْرَأْ! فمن قرأ الكتاب حق القراءة تَذَكَّرَ، ومَنْ تَذَكَّرَ فقد أدرك الغاية، وخرج من الظلمات إلى النور بإذن الله؛ وهو مقتضى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ!) ولذلك قال بعدُ مباشرة: (لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ!) أي لتقوم - حسب رواية ورش - أيها الرسول بنذارة البشرية، وإبلاغها النبأ العظيم! أو – حسب رواية حفص - ليقوم هذا الكتاب نفسه – بما هو ذِكْرٌ يُتَلَقَّى بالقراءة الحقة المتدبرة – بإنذار من قرأه أو قرئ عليه. وخَصَّ النذارة دون البشارة بالذكر ههنا؛ لأن من تذكر فَزِعَ! وغلب عليه الخوف أكثر من الرجاء؛ لِمَا يكون من حال الغافل بعد يقظته، وإدراكه حجم الخطر الذي هو عليه!

ولكن ذلك كله - من أوله إلى آخره - لا يكون إلا لمن كان قلبه حيا! أي أن فطرته لم تنطمس تماما، ولم يزل بوجدانه حب للخير، ولو على جهل بطبيعته! ولم يزل بضميره توق إلى معرفة الحق، ولو على ضلال عن سبيله! وإنما حاجته فقط إلى بيان! وأما الكافر الذي مَرَدَ على الكفر وتمرَّد على الله رب العالمين، وأُشْرِبَ التكبر والطغيان، فذلك قد انطمست فطرته، ومات شعوره بكل معاني الخير والجمال! فلا رجاء في يقظته، ولا إمكان لتذكيره، ولا فائدة من طرق باب قلبه الهالك! إلا أن على الرسول تبليغه الدعوة وجوبا؛ لتقوم عليه الحجة، ويحق عليه حكم الله العادل، وقضاؤه عليه بالخسران المبين!

ويلفت الرحمن تبارك وتعالى - بعد ذلك - نظر هؤلاء الكفرة إلى آيات أخرى من طبيعة أخرى؛ وقد عَمُوا وصَمُّوا عن آيات القرآن، فيوبخهم - جل جلاله - بسؤال إنكاري شديد؛ أنْ عَمُوا أيضا عن النعم التي أغدقها عليهم من بهيمة الأنعام، إبِلاً وأبقاراً وأغناماً، وما ينتج عنها من الخيرات! فقال سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ؟ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ؟ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) فهو تعالى الذي خلق تلك الأنعام بيده جل جلاله ثم ملَّكها للإنسان وجعلها له بكل منافعها! ركوبا، وأكلا، وشربا، ولباسا، ومالا، وزينة، وجمالا! وكان من الممكن أن يجعلها الله تعالى متوحشة لا تقبل تأليفا ولا تدجينا! ولكنه تعالى ذلَّلها تذليلا، وأخضعها للإنسان بسنن التسخير فخضعت وانقادت! ثم جعل الطفل الصغير من بني آدم يقود الجمل الفحل الكبير، والثور الضخم العظيم! ويسوق بين يديه القطعان الكبيرة من الإبل والأغنام والأبقار فتنقاد له انقيادا! نعمةً من الله وفضلا!

ولكن الكفار محجوبون بكبريائهم عن رؤية تجليات أسماء الله الحسنى في ذلك كله، محرومون من قراءة آياته فيما فاض عنها من البركات والخيرات؛ فهم لا يشكرون! بل جحدوا النعمة وكفروها! واتخذوا من دونه تعالى أربابا من الأحجار والأهواء والأموال والشهوات، لعلهم بذلك أن يُنصروا ويسيطروا في الأرض! فعُباد الأصنام والأوثان - قديما وحديثا - يعتقدون بجهلهم وضلالهم المبين أن لهذه "الآلهة" وعيا وإرادة وسلطانا! وأنهم بعبادتهم إياها يدخلون تحت حماها ونصرتها! وهي لا تستطيع دفع الأذى حتى عن نفسها! كما أن عُباد الأصنام المعنوية والبشرية في العصر الحديث من مال وجاه وسلطان، يمرغون وجوههم في التراب من أجلها، قصد نيل الجاه والحصول على أسباب السيطرة، والاحتماء بها من عوادي الزمن والنوائب! ولكنها أوهام واهية! فلا شيء يستطيع منع أمر الله إذا جاء ولا رفع قضائه إذا نزل! فترى هؤلاء الجهلة بالله – من الأقدمين والْمُحْدَثِين – جندا مجنَّدين لأصنامهم الحجرية، عبيدا أذلاء لأسيادهم البشرية، ممن تألَّه وتجبر من الطغاة، يدافعون عنهم ويقاتلون من أجلهم. فهم حاضرون متى استُحضروا، ونافرون متى استُنفروا! والمعركة كلها من أجل باطل وضلال مبين! معرضين بذلك عن نصرة الله رب العالمين! متمردين على جلاله وسلطانه العظيم!

ثم يلتفت الرحمن إلى رسوله الكريم بخطاب لطيف، محمل بأجمل عبارات المواساة والإيناس، أن لا تحزن يا محمد! لا تحزن من جبروتهم وتكذيبهم إياك! ولا من سخريتهم من رسالتك ودعوتك! فإنَّ عِلْمَنَا قد سبق ما يسرون في قلوبهم من الكيد والبغضاء للدين ولأهله، وما يعلنونه من القول، توعدا وتهديدا وسخرية وتكذيبا! كل ذلك نحن له بالمرصاد، وكفى بربك نصيرا؛ فلا تحزن! كل ذلك جاء في كلمات تنبض بالجمال والجلال من قوله تعالى: (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ!) فأي داعية إلى الله بعد هذا تربكه فتنةُ الإعلام الشيطاني، أو يستفزه الطغيان العالمي!؟ اللهم إلا إذا كان غير موصول القلب بالله، ولا مستمدا وارداته من رحمته ورضاه!


3- الهدى المنهاجي:


وهو في خمس رسالات هي كما يلي:


- الرسالة الأولى:


في أن حياة الروح هي الحياة! وأن الحي حقا من بني آدم إنما هو المؤمن، وأما مَنْ سِوَاه مِنَ البشر فَهَلْكَى! (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ!)(النحل: 21) وهذه الحقيقة جارية بالمعنى الدنيوي وبالمعنى الأخروي معاً. فأما المعنى الأخروي فظاهر؛ ذلك أن الله تعالى وعد المؤمن جنة الخلد، ومتعه بلذة الإيمان به جل جلاله، وباليوم الآخر، وما ينتظره فيه من نعيم مقيم. فالحي الحقيقي إنما هو من ارتبط بالحياة الباقية، وزهد في الحياة الفانية.

وأما حياة الروح بالمعنى الدنيوي فهي متعلقة بطبيعة التمتع بجمال الحياة فوق الأرض، والتذوق لنعم الله المتجلية عليها، فأما هذا فإنما المتمتع به حقا إنما هو المؤمن أيضا! وأما الكافر فمهما نال من ترفها وغناها فليس له من متعتها الحقيقية شيء، بل يأكل ويشرب كما تأكل الأنعام! وبيان ذلك أن المؤمن يرى جمال أسماء الله الحسنى متجلية على كل شيء، فما من نعمة مهما صغرت - ولا صغيرَ في نعم الله - إلا وهي آخذة بحظ من نورها الوهاج! الرجل الصالح الفقير الذي يقتات بكسرة خبز وبضع حبات من زيتون، يجد من جمال النعمة وكمال اللذة وذُرَى المتعة؛ ما لا يجده ملتهم أطباق اللحوم وشتى أصناف الشهوات، من الجهلة بالله واليوم الآخر!

ذلك أن المؤمن الفقير يرى أن حبة زيتونة واحدة، تختزل نعمة الله التي أسبغها على الوجود كله! فيرى فيها قدرة الله على الخلق، وجمال الإبداع والتصوير، وما بثه الرحمن فيها من أنوار وأسرار، مما لا يحصيه عَدٌّ، ولا يحصره حَدٌّ! ثم يرى فيها جمال الرعاية مذ كانت بذرة إلى أن صارت شجرة، حتى أزهرت بإذن الله وأثمرت! ثم يرى فيها رحمة الله وكرمه وجوده، إذ جعلها رزقا مقدرا له ولأولاده! كما يرى فيها أيضا هيمنته تعالى على ملكه، وقدرته على تنفيذ قضائه وقدره! إذ ساق إليه هذه الحبة من الزيتون من بين آلاف الموانع، وسائر القوى المتصارعة على الثمار والأرزاق! فجعلها رغم أنوفهم جميعا من رزقه! وربما سخر بعض أعدائه – وهم لا يشعرون – لخدمته، والإسهام في إيصال رزقه إلى باب بيته!

وهكذا فتجليات الأسماء الحسنى على حبة الزيتون تلك لا تنتهى! فيأكل الفقير طعامه القليل هنيئا مريئا، وهو يشعر بالغنى العالي بالله! فأي حياة هذه وأي هناء!؟ ألا تلك هي الحياة وإلا فلا! ولقد تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكمة بالغة، قال سيدي: (مَنْ أصبحَ منكم آمناً في سِرْبِه، مُعَافًى في جسده،عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها!)([2]) والقوت من الطعام: هو ما يسد الرمق ولا يزيد!

ثم انظر إلى تعاسة المترفين كيف شَقُوا بمالهم! فكانوا له عبيدا، وهم يظنون أنهم به أسياد! وانظر إلى القلق كيف يقض مضاجهم، وهم لا يدرون لشقائهم سببا! الخوف يطاردهم! والجشع ينهكم! والطمع يعذبهم! هم يجمعون وأبناؤهم يبددون! وهم يتعبون وخدمهم يتمتعون! فأي حياة هذه بل أي هلاك!؟ ألاَ فذلك هو قول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا!)(طه: 124). فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرين!


- الرسالة الثانية:


في أن القرآن هوحياة القلب وروحه، وهو موقظه ومُذَكِّرُهُ! ترتيله المخلص يصل القلب بالملأ الأعلى، ويجعله يرى الكون من أعلى أبراجه، فتنكشف له حقيقة الحياة الدنيا، ثم ينـزاح عنه حجاب الغفلة والغرور! فبمجرد شروع العبد في تلاوته أو سماعه، بافتقار تعبدي صادق، تبدأ كلمات الله تدر عليه من نور الحكمة والتزكية ما يُرَقِّي قلبه إلى مقامات الحضور والمشاهدة! فتنكشف له مرآة نفسه، ويرى ما بها من علل وقروح، ثم يشاهد الآيات تتنـزل عليها بالدواء الرحماني الشافي! حتى إذا برئت جوانحه من جروحها حلَّق في سماء الروح، وارتقى على قدر قراءته وترتيله، حتى يكون مع الله، لا يسمع ولا يبصر إلا به! فلحياة القلب آنئذ أوقات موصولة بالزمن الخالد، أوقات لا تفنى أبداً! فإنما قارئ القرآن عبد مُصْغٍ إلى ربه يتكلم! وتلك حقيقة إيمانية عظمى لا تستوعبها الأخيلة والعقول، ولا تُدرك إلا أن تذاق!


- الرسالة الثالثة:


في أنه لا يجوز للداعية أن يشغله شيء عن القرآن! قراءةً وتدبرا واستمدادا. متخذا من سوره قناديل ينير بها ليله، قياما بين يدي ربه يرتل القرآن ترتيلا! فهو سميره بالليل وأنيسه بالنهار! لا يشغله عنه شعر ولا رجز. وليس معنى هذا ألا ينفتح على أنواع الفنون والشعر والأدب، كلا! وإنما القصد أن يكون القرآن هو إمامه، وهو محور اهتمامه ومدار فلكه، وأن تكون كل تلك النوافذ التي يفتحها على الثقافات والفنون الأخرى، خادمة لتدبر القرآن وتبليغ رسالته، غير حاجبة للمؤمن عن نوره، ولا فاتنة له عن السير إلى الله بهداه!


- الرسالة الرابعة:


في أن المؤمن ملزم بقراءة الكتابين معا! أعني كتاب الله المسطور، وكتابه المنظور، بمعنى التدبر لآيات القرآن الكريم، والتفكر في آيات الكون وما خلق الله للإنسان من النِّعم، وما سخر له من تجليات الرحمة والكرم. وشُكْرُ ذلك كله متعلق بذمته حتى يؤديه توحيدا لله وإخلاصا!

والجمع بين القراءتين هو الكمال في مسلك السير إلى الله والتعرف إليه. والقراءة الحقة للقرآن مفضية بالعبد حتما إلى القراءة لكتاب الكون؛ إذ الآيات القرآنية لم تزل تنبه القلب للتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي ما جعل الرحمن - جل جلاله - من الآيات في الأنفس والآفاق! وإن ذلك لمما يفتح البصيرة ويوسع فضاء الروح. وإنها لعبادة واجبة تركها الناس إلا قليلا؛ وبذلك عمت الغفلة وتبلد الحس! وما ينبغي للمؤمن - بله الداعية – أن يعيش مغبونا فيما نُصِبَ له من جلائل الآيات الكونية، التي تهدي خطواته في طريق التعرف إلى الله والتعريف به؛ وتنير قلبَه وبصيرتَه بما أفاض - جل ثناؤه - على جميع مملكته من جمال أسمائه الحسنى وجلالها!


- الرسالة الخامسة:



في أن المؤمن آمِن! وأنه لا آمِنَ إلا من أمَّنَهُ الله! وإنما ذلك هو المؤمن الحق، المؤمن الواثق بالله، الموقن به جل جلاله وعلاه، بما تحقق لديه من معرفة به تعالى، من خلال ما هداه إليه سبحانه، من قراءة الكتابين: القرآن الكريم، وسُنَنِ الله الجارية في الكون العظيم. فلا يزال الجهلة بالله من عُبَّاد الأوثان الحجرية والبشرية، يلهثون وراء طلب لحظة لراحة الأعصاب، والتخلص من كابوس الخوف من الفقر، وانقلاب الدهر، وذهاب الجاه والسلطان، فلا يجدونها ولو في الأحلام! بينما المؤمن يعيش – بفضل التوحيد والإخلاص - مطمئن البال، آمِنَ الروح، منشرح الوجدان، راضيا بقضاء الله فيما قسم له من الأقدار والأرزاق، ثروته القناعة، وجاهه الغنى بالله، وسكينته خشية الله. غير آبه بكيد الأعداء، لا تحزنه دعاياتهم المغرضة، ولا إشاعاتهم الكاذبة، ولا دجلهم الإعلامي الخبيث! فهو يستمد أمنه العميق من ثقته بالله؛ لأنه تعالى أمان الخائفين، ونصير المستضعفين، وكفى به - جل جلاله - حافظا ونصيرا! وكل الذي فوق التراب تراب!


4- مسلك التخلق:


قضية هذا المجلس هي حياة الروح. والمسلك العملي المطلوب الدخول فيه هو كيفية الاستفادة من الروح القرآني؛ بما يحيي القلب ويفتح بصيرته، ويسلكه بعد ذلك بصورة تلقائية في مدارج الشكر والإخلاص.

وقد بينا في أكثر من مجلس أن جلسة التدارس لكتاب الله والتدبر لآياته، هي المفتاح الأساس الذي به تنفتح البصيرة وتستيقظ الروح، فتدب الحياة في القلب من جديد، بما يصيبه من وابل التزكية ونور الحكمة، وبما يناله من فيض العلم بالله.

بيد أن بعض الناس قد يشكو قساوة قلبه حتى عند تلاوة القرآن! فلا يستطيع تدارسا ولا تدبرا! بل بمجرد ما يفتتح التلاوة يغيب في متاهات الشرود! فلا يجد سبيلا ليقظة قلبه ولا لحياة روحه! وعلاج ذلك بحول الله يكون بثلاثة أمور:

- أولها: الاجتماع على الخير، وذلك بطلب أهل الفضل والصلاح، ممن يعقدون مجالس القرآن، والدخول معهم في فضاء التدارس الجماعي، إذ أن للاجتماع من الأثر على القلب ما ليس للانفراد، إذا كان الأمر يتعلق بتدارس الكتاب؛ لأن الشيطان من الجماعة أبعد! ومن ثَمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة! فإن الشيطان مع الواحد، وهو منالاثنين أبعد!)([3]) ولذلك كان الاجتماع حصنا للفرد من الشرود والتيه، وأدعى لحضور عقله وقلبه مع الجماعة. وهذا مقتضى من مقتضيات الحديث القدسي: (فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!)([4]) ومع أنه ورد في سياق آخر؛ إلا أنه دال على مشاركة الفرد لمن يجالسهم فيما يتلقونه من نور وحكمة وواردات، وذلك هو المراد. ومَنْ حلَّق مع السرب استطاع بعد ذلك أن يحلق فردا! وليس عبثا أن قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه!)([5])

- الثاني: مصاحبة أصحاب الأحوال الصالحة. فبالإضافة إلى ضرورة الاجتماع على الخير، يحسن جدا صحبة من يتوسم فيهم سيماء الورع والتقوى، والاجتهاد في الترقي بمنازل الإيمان، ممن بدت عليهم أحوال الخوف والرجاء والشوق والمحبة، وهجروا حياة اللهو والدعة والخمول، وشمروا عن ساعد الجد في طلب المنازل العالية! فألقت عليهم شجرة الإخلاص ثمار الفقر والتواضع! ثم أُشْرِبَتْ قلوبُهم محبةَ القرآن الكريم، فأسهروا به ليلهم، وعمروا به نهارهم! فكانوا من أهل الله وخاصته حقا! ذلك أن مصاحبة أمثال هؤلاء تورث القلب خصالهم، وتوقد فيه أشواقهم، وذلك هو المبتغى! وقد عُلِمَ أن الأحوال في الشر والخير عدوى.

- الثالث: ملازمة الاستغفار، والإكثار من الصدقة والصوم! عسى أن يتهيأ القلب لاستقبال الخير؛ ذلك أن غالب أحوال القساوة إنما هو ناتج عن كثرة الذنوب! وإهمال التوبة والاستغفار! فالذنوب إذا تواترت على القلب نسجت عليه غلافا سميكا كالحصير يُفقده الإحساس بالخير وتذوق الإيمان! وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ! وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ؛ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ! وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَراً! إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ!)([6]). ومن هنا أُمِرْنَا بإِتْبَاعِ السيئات الحسنات؛ حتى لا تتراكم الآثام على القلب فيقسو! بل وجب أن نخضعه - بفعل الحسنات - للتطهير الدائم؛ حتى لا يفقد حياته بإذن الله! ولا شك أن الاستغفار والصدقة والصيام، من أقوى أعمال البر على كنس القلب من سيئاته وخطاياه، كما تواترت بذلك النصوص الوفيرة الكثيرة، من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ذلك، والله الموفق للخير والمعين عليه.

_______________________________

[1] إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ!)(الأعراف: 172).

[2]
رواه الترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن محصن مرفوعا. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، رقم : 6042.

[3]
رواه الترمذي والحاكمعن عمر رضي الله عنه مرفوعا. وصححهالحاكمووافقهالذهبي، ثم صححهالألبانيفي "صحيحالترمذي".

[4]
جزء حديث متفق عليه.

[5]
‌ ‌رواه مسلم.

[6]
رواه مسلم. وقوله: "أَسْوَدُ مُرْبَادًّا": يعني فيه لمعَانٌ من شدة السَّوَادٍ! والْكُوزُ: الإناء كالإبريق. وكونه مُجَخِّياً: يعني مَنْكُوساً، بحيث لا يمسك ما فيه.

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رحاب, سورة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أساليب الإقناع في سورة الإسراء نور الإسلام كتب ومراجع إسلامية 0 05-06-2013 06:45 AM
تفسير سورة الفاتحة نور الإسلام خطب إسلامية 0 26-04-2013 11:57 AM
صورة أعجبتني جمال الإسلام أخبار منوعة 0 11-05-2012 09:27 PM
في رحاب المصطفي صلي الله عليه و سلم مزون الطيب هدي الإسلام 0 03-02-2012 09:51 PM
صورة من الحياة نور الإسلام هدي الإسلام 0 11-01-2012 11:21 AM


الساعة الآن 05:14 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22