صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > المكتبة العامة

المكتبة العامة كتب ومراجع وبحوث ود اسات في مختلف العلوم والمعارف

المحاضرة الثالثة : شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

د. محمود عبد الرزاق الرضواني 03-المحاضرة الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-11-2013 ~ 09:21 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي المحاضرة الثالثة : شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


د. محمود عبد الرزاق الرضواني

03-المحاضرة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين ، اللهم اجزه خير ما جازيت به نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته ، أما بعد:
هذه هي المحاضرة الثالثة في شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والتي يتحدث فيها عن أصول العقيدة في أعظم أبواب التوحيد وهو باب الإيمان بأسماء الله وصفاته وأفعاله والإيمان بقضائه وقدره مع العمل والاستسلام لشرعه ، وقد وقفنا في المحاضرة الماضية عند الحديث عن الأصل الأول ، وهو يعني بالأصل الأول الكلام عن توحيد الأسماء والصفات ، وقلنا بأننا سنلحق به توحيد الربوبية ، فالأصل الأول عند شيخ الإسلام ابن تيمية يعني به تصديق الخبر والأصل الثاني معناه تنفيذ الطلب ، وهذه اسمها أصول العقيدة ، وهذا هو المنطلق الذي ينبغي لأي أحد يعمل في الدعوة أو يريد أن يفهم العقيدة فهماً صحيحاً أن ينطلق منه .
فمنهج أهل السنة والجماعة أو طريقتهم أو أسلوبهم في التعامل مع قضايا العقيدة والتوحيد أنهم في باب الأخبار يصدقون ، فإذا تكلمت في أي آية تتعلق بتوحيد الأسماء والصفات فدورك هو التصديق، ولكن ما الذي ستصدق به؟ ستصدق بخبر عن الله يخبرنا بأوصاف له أثبتها أو أوصاف نفاها ، وليس لنا أن ننشئ وصفاً جديداً من عند أنفسنا لربنا ولم يكلفنا الله صلى الله عليه وسلم أن نستخدم عقولنا لننشئ له صفة جديدة ، ولكن دورنا تجاه هذا النوع من التوحيد هو أن نصدق بما أخبر الله تعالى عن نفسه نفياً وإثباتاً ، فالله صلى الله عليه وسلم أثبت أشياء فنثبتها ونفى أشياء فننفيها ، لكن لا نتدخل نحن في هذه القضية ، فأسماء الله وصفاته توقيفية لا مجال للعقل فيها ، فالعقل يصدق ذلك ولا يُحيل أو يستبعد أن يتصف الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات ، لكن إن دخل العقل في إنشاء أوصاف لله ينشأ الضلال في باب الأسماء والصفات ، ولذلك من ذكاء ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قبل أن يتكلم في هذه القضايا الخطيرة ، يبدأ بذكر كيفية أن نؤمن ونتعامل مع القرآن والسنة كما آمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم كانوا يصدقون إن كان خبراً وينفذون إن كان طلباً .
فابن تيمية رحمه الله تعالى يقول بأنك لو أدخلت عقلك ووصفت ربك بعقلك وبرأيك فستضل ، والله سبحانه وتعالى نزه نفسه عن وصفك له لجهلك فقال تعالى:﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(الصافات:180) ، فالإنسان مهما بلغ من العلم فعلمه محدود، قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً(الإسراء:85) ، فكيف تصف العليم الخبير الذي وسع علمه كل صغيرة وكبيرة في كونه؟ ، فهل هناك أحد يستطيع أن يصف الله على الحقيقة دون أن يرجع إلى كتاب وسنة ليعرف كيف وصف الله نفسه؟! ، فهذا عالم غيبي ، فلا يصح أن يُدخل أحد عقله في باب الأسماء والصفات ، وخصوصاً في قضايا الأسماء بحيث أنه يجعل مجالاً للعقل في تسمية الحق أو وصف الحق بوصف مثل ما فعلت الطوائف التي ضلت في هذه القضية كالمعتزلة والأشعرية والجهمية والصوفية الذين أدخلوا عقولهم في وصف ربهم أو في أسمائه ، فهؤلاء وصفوا عالم الغيب ، وعالم الغيب لا يمكن لأحد أن يصل إليه بمدركاته وإلا ما سمي غيباً ، فلم سمي غيباً؟ لأنه خارج عن حدودنا ومدركاتنا، فمثلاً عندما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم القبر وقال بأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، هذه حقيقة أم خيال؟ فإن لم تؤمن بها حقيقةً فعليك أن تعيد النظر في إيمانك، فإن قلت: كيف لعقلي أن يستوعب هذه الحقيقة مع أنني أذهب إلى القبر ولا أرى ذلك؟ نقول: ربنا أخبرنا أنه حق وأنه موجود ولكنه أمر غيبي لا تصل له مدركاتك ولا تستطيع محسوساتك أن تكيفه ، فإن قيل: لنجعل ذلك من باب الخيالات لا نجعلها من باب الحقائق .
نقول: إن الذي أدخل في عقله أنها خيالات لأنه يذهب ولا يرى شيئاً ، هذا رجل قد ضل عن سواء السبيل.
فإذا كان هذا الكلام في عذاب القبر ، فكيف يكون الكلام في الجنة والنار وفي شأن رب العزة والجلال وفي عرشه واستوائه على عرشه وفي نزوله إلى خلقه حين يبقى ثلث الليل الآخر؟؟!!!
يقول شيخ الإسلام: فأما الأول: وهو (التوحيد في الصفات) ، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه ، وبما وصفته به رسله ، نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه ، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه.
معنى ذلك أن باب الصفات توقيفي ، أي لابد أن أقف على الدليل النصي وليس الدليل العقلي ، فالدليل العقلي يُستأنس به بعد النصي لكن لا يُقدم على النصي ، فمثلاً إن قال قائل: مِن وصف رب العزة والجلال الوصف اللازم: "صفة الكلام" ، لأني لا أتوقع أن الإله يكون غير قادر على الكلام ، فالعقل يحيل أو يستبعد ذلك ، نقول: هذا دليل عقلي ، ولكن هل يكفي الدليل العقلي لأثبت أن الله تعالى يتكلم ؟ لا ليس كافياً ، بل لا بد أن يرد النص على أن الله يتكلم ، كما قال تعالى:﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً(النساء:164) ، فإن قال قائل : كيف لا يكون عقل الإنسان كافياً في إثبات الصفة لله صلى الله عليه وسلم ؟ نقول: صحيح أن العقل هنا توصل إلى صفة حقيقية ولكن لا يكفي ذلك لإثبات الصفة ، ولنضرب لذلك مثالاً: لو قابلت شخصاً وجلست معه وفهمت من أسلوبه أنه يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء ، فأنا اكتشفت هذه الأوصاف من خلال تعاملي معه، فيمكن أن يكون هذا الشخص يسمونه في بلده ذكياً ، فلما أسميه أنا بهذا الاسم وأتوقع أن يكون اسمه ذكياً في بلده كاسم شهرة فقد توقعت هذا الكلام بعقلي ، لكن هذه المعلومة مازالت ظناً ولم تصل لليقين ، وستصبح يقيناً إذا قال: صحيح أنا اسمي ذكي في بلدي، فلما أقول أن الله سبحانه وتعالى يتكلم ، فهذا دليل عقلي على أن الله يتكلم لأنه لا يمكن أن يكون الإله أبكماً لا يتكلم (تعالى الله عن ذلك) ، فأنا عندي الاستعداد العقلي والفطري لأصدق كلام الله عندما يقول لي بأنه يتكلم ، ولذلك فالعقل لا يُحيل ولا يستبعد كل ما ورد في الكتاب والسنة من أوصاف الله تعالى ،لكن لا يستقل عقلي بوصف الله لأن هناك احتمالية ظن موجودة، فقد ترى أنت شيئاً كمالاً وهو في حق الله نقص ، فقد لا يتصف ربنا بهذا الوصف الذي تراه أنت كمالاً ، ولذلك هذا الباب ليس فيه إلا التوقيف ، فلابد أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسله ، لماذا الرسل؟ هل لأن عقول الرسل أفضل من عقول البشر أم أن الرسل يبلغون بوحي من الله ؟
لأنهم يبلغون بوحي من الله تعالى ، فالمسألة أيضاً توقيفية ، فلذلك نقول لمن يأتي باسم لله تعالى ، أين الدليل من الكتاب أو من السنة ؟ ففي باب الأسماء والصفات تثبت لله ما أثبته لنفسه وتنفي عنه ما نفاه عن نفسه، فباب الأسماء والصفات غير اجتهادي ولكنه توقيفي .
يقول شيخ الإسلام : وقد علم أن طريقة سلف الأمة. .
معنى قوله: "وقد علم" أن هذه أمور مضطردة عند جميع الناس فهم يعلمون طريقة سلف الأمة وأئمتها في توحيد الأسماء والصفات .
يقول شيخ الإسلام : وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات ، من غير تكييف ولا تمثيل ، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
لماذا بدأ ابن تيمية رحمه الله تعالى بالتكييف ثم بالتمثيل ، وبعد ذلك بدأ بالتحريف ثم التعطيل ؟ وما معنى التكييف والتمثيل والتحريف والتعطيل؟
نقول: التمثيل هو الأصل ، فأصل الضلال أن يستخدم الإنسان في حق ربه قياس التمثيل، وقياس التمثيل: هو إلحاق فرع بأصل في حكم جامع لعلة.
إذاً ، القياس له أربعة أركان : 1- الأصل 2- الفرع 3- العلة 4- الحكم
فعلى سبيل المثال : جاء نص القرآن بتحريم الخمر ، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(المائدة : 90 ) ، ولا يوجد نص صريح من الكتاب أو من السنة على تحريم الحشيش ، ولكن النبيصلى الله عليه وسلم قال : "كل مسكر خمر" ، فوضع صلى الله عليه وسلم لنا علة مشتركة بين الأصل وهو الخمر الذي نزل فيه التحريم ، وبين الفرع وهو كل ما يُحدث في العقل مثل ما تُحدثه الخمر ، فإذا وُجد أي شئ يشترك مع الخمر في علة الإسكار ، فإنه يأخذ نفس الحكم ، وهو التحريم ، فهذا اسمه قياس التمثيل ، وهذا القياس جائز في باب الفقه ، ويجوز أن تقيس به مخلوق على مخلوق ، ولكن لا يجوز أن تستخدم هذا القياس في حق الخالق .
وقياس التمثيل قياس فطري في النفوس يستخدمه جميع الناس بلا استثناء من يوم ولادتهم ، فأول قياس يحدث في العقل يكون بقياس التمثيل ، ولذلك نقول بأن قياس التمثيل هو الأصل ، واستخدام هذا القياس في حق الله تبارك وتعالى هو أصل الضلال في جميع الطوائف الإسلامية .
ولنوضح الآن كيف أن قياس التمثيل هو أول قياس يستخدمه جميع الناس من يوم ولادتهم :
قال الله تعالى في وصف المخلوق:﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ؛إذاً كيف يحدث العلم ؟ قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( النحل : 78 ) فالمعلومات تدخل عن طريق الحواس إلى العقل الموجود في القلب فيجمع هذه المعلومات ويحدث بذلك العلم ، وأول الحواس التي يستخدمها الطفل بعد ولادته هي حاسة السمع ، ولذلك قدمها الله تعالى في الآية ، ولما تعمل حاسة السمع مع حاسة البصر مع باقي الحواس ويرى الطفل أمه ، فإنها تكون له أصلاً يأخذ منها صورة يضعها في العقل ويخزنها في الذاكرة، فالصورة الموجودة في الذاكرة فرع ، والأصل موجود في الواقع خارج الذهن ، ومن خلال العلة المشتركة كالصوت والرائحة يتعرف على أمه ، فعندما يسمع صوت والدته لا يحتاج أن يرى الصورة التي في الحقيقة، بل يستدعي الصورة التي في الذهن ويعلم أن الأصل موجود في الخارج ، فيحكم أن هذه هي والدته من خلال التماثل بين الأصل والفرع .
ولا يوجد إنسانٌ عاقل إلا واستخدم قياس التمثيل ، فأول صورة تراها تُحدث في القلب علماً ، ورؤيتها مرة أخرى تُحدث في القلب معرفة ، وهذا هو الفرق بين العلم والمعرفة ، فالعلم هو إدراك المعلومة لأول مرة ، والمعرفة هي إدراك المعلومة لثاني مرة ، فقياس التمثيل يُحدث في القلب علماً ، وقياس الشمول يُحدث في القلب معرفةً ، فالمعارف تنشأ من أقيسة الشمول وليس من أقيسة التمثيل ، فما هو قياس الشمول؟
قلنا بأن قياس التمثيل يستخدمه الطفل الصغير بعد ولادته ، فيرى والدته فيأخذ لها صورة ، ويرى والده فيأخذ له صورة ويرى أخاه فيأخذ له صورة ، وبعد مرور ستة أشهر يكون قد رأى مجموعة كبيرة من الناس ، فيبدأ العقل البشري بعمل شئ آخر ، وهو النظر إلى القدر المشترك بين الصور ووضع قواعد عامة ، فكل من يسمع يكون له أذن، وكل من يتكلم يتكلم عن طريق لسان ، فعبارة "كل من كان كذا فهو كذا" هي قياس الشمول ، فالتجارب تولد الخبرة وتولد القواعد ، وهذه القواعد العامة أو الأقيسة العامة تسمى :أقيسة شمولية ، فقياس الشمول يأتي بعد قياس التمثيل.
إذاً قياس الشمول: هو قياس كلي على جزئي ، فهناك قاعدة كلية تُطبَّق على أجزاء وأفراد بإدخال الجزئي تحت الكلي.
هل يجوز تطبيق هذه الأقيسة على رب العزة والجلال ؟
قال الله تعالى: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ(النحل : 74 ) فينهانا الله تعالى في هذه الآية أن نضرب له مثلاً ، فهذه الآية تدل على أنه لا يجوز في حق الله تبارك وتعالى ضرب الأمثال ، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(الروم : 27 )، فكيف يُجمع بين الآيتين؟
نقول: إذا ضربت مثلاً في حق الله تعالى فيكون بقياس الأولى ، لكن لا يجوز في حق الله تعالى قياس التمثيل ولا قياس الشمول.
والممثل الذي يستخدم قياس التمثيل في حق الله تبارك وتعالى ويقول مثلاً : "له وجه كوجهي" يجعل وجه الخالق سبحانه وتعالى فرعاً ، ويجعل وجه المخلوق أصلاً ثم يقيس الفرع على الأصل (تعالى الله عن ذلك) ، وانظر إلى ما قاله زعيم الممثلة أبو داود الجواربي: "عافوني من الفرج واللحية وأنا أصف لكم ما تشاءون من رب العزة ، فله وجه كوجهي ويد كيدي وعين كعيني وكلامه ككلامي وسمعه كسمعي "، وهذا هو زعيم الممثلة في الأمة الإسلامية ، وهذا أهون من الجهمية والمعتزلة والأشعرية.
فالممثل جعل وجه الله فرعاً لأنه لم يره ، وجعل وجهه أصلاً ، وأراد أن يطابق بين الفرع والأصل ، وجعل العلة المشتركة بين الفرع والأصل هي استخدام لفظ "الوجه" عند التجرد عن الإضافة لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق ، فالله سبحانه وتعالى قال : ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (الرحمن:26-27) فهنا جاءت كلمة "وجه" مقيدة بالله تعالى وليس بمخلوق ، فإذا انفصل لفظ "الوجه" ولم يضف لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق كان هذا لفظاً عاماً مشتركاً لا يكون في الواقع ، أي لا يكون في خارج الذهن ، فلا يقول أحد: "وجه" ثم يسكت، فإن هذا لا يقوله عاقل ، فالعقل أن تتكلم بكلام يُفهم منه معنى ، فاللفظ المجرد عام ومشترك بين الكل فيُمكن أن يُستخدم في حق الخالق ويمكن أن يستخدم في حق المخلوق ، فإذا أضيف إلى الخالق كيف يتصور أحدٌ مخلوقاً؟
ولنضرب لذلك مثالاً:
إذا قلنا : "فيل كبير" ، هل يتصور أحد سيارة أو طائراً أم أنه يتصور فيلاً كبيراً بالنسبة لبني جنسه ؟! ، وكذلك لو قلنا: "طائر كبير" ، هل يتصور أحد فيلاً ؟! ، إذاً ، ما هو القدر المشترك بين الطائر والفيل؟ القدر المشترك هو لفظ "كبير" عند التجرد عن الإضافة ، فلفظ "كبير" يمكن أن أضيفها إلى أي شئ فأقول مثلاً : كأس كبير ، كتاب كبير ، جمل كبير........... وهكذا، فلفظ "كبير" ليس خاصاً بشئ واحد فقط ، بل هو لفظ عام مشترك بين الكل ، أما لو قيدته بشئ فلا أتصور بعد التقييد إلا ما قُيد به .
ولله المثل الأعلى ، فالله تعالى قال :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(طه :5 ) ، فعندما يسمع أحد هذه الآية يتصور استواء سليمان على عرشه فيقول : الظاهر مستحيل ، نقول له: هل الظاهر في الآية استواء الرحمن أم استواء سليمان ؟ ،فالله تعالى قال : :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ولم يقل : (سليمان على العرش استوى)، وعندما يقول الله تعالىى:﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (ص: 75) ، فاليد جاءت مقيدة بالخالق سبحانه وتعالى ، فعندما يأتي أحد ويتصور المخلوق عند ذكر الخالق فالعيب يكون في عقله هو وليس في النص، فجميع من ضلوا في هذا الباب كان سبب ضلالهم أنهم تصوروا في أوصاف الله التي وردت في القرآن والسنة أوصاف المخلوقين ، فلما يقرأ أحدهم قول الله تعالى : :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يتخيل مخلوقاً جالساً على العرش ، فالشيطان هو الذي أحضر له هذه الصورة ، فكان عليه ساعتها أن يقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إن الله ليس كمثله شئ في وصفه ، ولا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى ولا يُقاس بقياس تمثيل ولا شمول".
فالممثل يستخدم قياس التمثيل - وهو إلحاق فرع بأصل في حكم جامع لعلة - في حق الخالق تبارك وتعالى ، فيقيس الخالق على المخلوق في الوصف ويحكم بينهما بالتماثل لعلة اشتراك اللفظ المجرد.
والتمثيل هو تطابق في كل الصفات أو تطابق بين صفة وأخرى ، وأما إذا كان هناك بعض التطابق فهذا يسمى تشبيهاً.
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق ، فمن نفى القدر المشترك فقد عطَّل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثَّل.
فلو قلنا : فيل كبير وطائر كبير ، ما هو القدر المشترك ؟ وما هو القدر الفارق ؟
القدر المشترك هو لفظ " كبير" عند التجرد عن الإضافة ، والقدر الفارق أن ذات الفيل غير ذات الطائر ، فإذا قال أحد: "لا يجوز أن نقول فيل كبير لأننا لو قلنا ذلك لأصبح مثل الطائر " ، فقد نفى بذلك القدر المشترك فعطَّل وصف الفيل ، ولو قال: "لا فرق بين الفيل والطائر" فقد نفى القدر الفارق ، وبذلك فقد مثَّل الطائر بالفيل .
يقول شيخ الإسلام : وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات ، من غير تكييف ولا تمثيل ، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
لماذا قدم التكييف هنا ؟ وما المقصود بالتكييف ؟
التكييف أو التشبيه كلاهما في اصطلاح ابن تيمية رحمه الله تعالى شئ واحد ، والتكييف والتشبيه يكونان باستخدام قياس الشمول، وذكرنا بأن استخدام قياس التمثيل أو قياس الشمول لا يجوز في حق الله تعالى.
نفي المعتزلة صفة الكلام عن الله تبارك وتعالى وقالوا :"لو كان متكلماً لكان له لسان وفم" ، وهذا قياس شمولي استخدموه في حق الله تبارك وتعالى ، وهذا لا يجوز.
قال رجل معتزلي لأبي عمرو بن العلاء: أريدك أن تقرأ قول الله تعالى:﴿َوكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيما(النساء : 164) بنصب لفظ الجلالة ، فقال له أبو عمرو بن العلاء : فماذا تصنع في قول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ (الأعراف :143 ) .
فالمعتزلة ينفون عن الله تعالى صفة الكلام بسبب أنهم استخدموا قياس الشمول في حق الله تبارك وتعالى ، فقالوا: "لو كان متكلماً لكان له فم ولسان" ، فبدلاً من أن يعيبوا عقولهم ، عابوا النص وقالوا بأن ظاهر النص يدل على التشبيه.
ولنضرب مثالاً لتوضيح ما فعله المعتزلة : رجل أنشأ مدرسة فيها العديد من الطلاب ، فقال لحارس المدرسة: "لا تُدخل من ليس معه البطاقة الخاصة بالمدرسة" ، فلما أراد صاحب المدرسة أن يدخل ، قال له الحارس : "لن تدخل حتى تُخرج البطاقة الخاصة بالمدرسة" ، فقال له صاحب المدرسة: "أنا الذي وضعت هذا القانون ، فطبِّق هذا القانون على الطلاب ولا تطبقه على من وضعه" .
هذا هو شأن المعتزلة ، فالله تعالى يقول :﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(الشورى: 11) ، فلا يقاس سبحانه وتعالى لا بقياس تمثيل ولا بقياس شمول ، فيأتي المعتزلي ويطبق هذا القياس على رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض .
وكذلك قال تعالى :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (طه :5 ) فهذا ظاهر في حق الخالق تبارك وتعالى ، فكيف يتصورون استواء سليمان أو استواء بلقيس على العرش؟! ، فتجدهم يقولون: "لو كان على العرش لكان محمولاً" ، وهذا أمر عجيب ، فإن هذه القوانين اكتشفها نيوتن فتُطبَّق على المخلوق، ولا يُعقل أن تطبق قوانين نيوتن على استواء الخالق سبحانه وتعالى ، فهذه القوانين أقيسة شمول ولا يجوز تطبيقها في حق الله تعالى ، ومن استخدم هذا في حق الله تعالى فقد تجاوز حدَّه وتَقَوَّل على الله بلا علم ، والله تعالى يقول: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(الإسراء : 36 ).
أيهما أشد ضلالاً : الذي يستخدم قياس التمثيل في حق الله أم قياس الشمول؟
نقول: قياس الشمول أشد ضلالاً ، لأن قياس الشمول مبني على قياس التمثيل ، فالممثل أقل خطراً من المكيف أو المشبه ، ولذلك قدم ابن تيمية رحمه الله تعالى التكييف على التمثيل.
أما القياس الذي يجوز في حق الله تعالى فهو قياس الأولى ، فنقول : كل كمال ثبت للمخلوق ووصف الخالق نفسه به ، فالخالق أولى به من المخلوق ، فليس كل وصف فيه كمال للبشر نستطيع أن نصف به ربنا ، بل لابد من وجود شرط وهو أن يكون الله تعالى وصف نفسه به ، فمثلاً سلامة جهاز الإخراج كمال في حق الإنسان ، لكن لا يصح أن نصف الحق سبحانه وتعالى بذلك ، وكذلك وصف الإنسان بأنه عاقل فيه كمال في حق البشر ، لكن لا يصح وصف الله تعالى بأنه عاقل ، ولو قلنا بأن وصف الكلام كمال في حق البشر، والله تعالى وصف نفسه بأنه يتكلم فقال:﴿ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيما ً(النساء : 164) ، فصفة الكلام كمال في حق الله تعالى من باب أولى لأن الله هو الذي أعطانا الوصف بالتكلم بفضله وكرمه ، فالذي وهبنا الكلام أولى أن يتكلم.
هل يتعارض قول الله تعالى:﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ (النحل:60) مع قول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ(النحل:74) ؟
لا يتعارض ، قال الله تعالى : ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ، لأنه لا يجوز قياس التمثيل ولا قياس الشمول في حق الله تعالى، وأما قول الله تعالى : :﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ فهذا قياس الأولى الذي يجوز في حق الله تعالى.
فالذي يستخدم قياس التمثيل هو الممثل ، والذي يستخدم قياس الشمول هو المكيف أو المشبه.

أسئلة:
هل أفعال الله توقيفية مثل الأسماء ؟
الأسماء والصفات والأفعال توقيفية عند أهل السنة والجماعة ، لكن باب الأخبار ليس توقيفياً.
هل يجوز أن نقول أن من صفات الله أنه موجود، وإذا كانت الإجابة نعم ، فأين الدليل على ذلك ؟
لم يرد النص على أن الله تعالى موجود ، لكن هذا يصح من باب الخبر عن الله تعالى.
نحن عندنا أربعة أبواب : الأسماء والصفات والأفعال والأخبار. ، باب الأسماء توقيفي عند كل الطوائف حتى من ضل منهم (الأشعرية والصوفية والشيعة والخوارج .......) ماعدا المعتزلة ، فالذي يخالف في هذه المسألة ويقول بالاشتقاق هم المعتزلة.
أما باب الصفات فقد اختلفوا فيه ، ولكن عند السلف الصالح أن الصفات والأفعال توقيفية أيضاً ، صحيح أن الله على كل شئ قدير وهو يفعل ما يشاء ولكن لا يجوز أن تأتي بأفعال له لم يخبر بها سبحانه وتعالى ، وأما في باب الخبر عن الله تعالى (أي الذي لم يرد نصه لا في القرآن ولا في السنة) فهذا يصح ، فمثلاً ليس من أسماء الله God، ولكن نقول هذه الكلمة عن الله لإنسان أعجمي ، فهنا نقول أن هذا الاسم من باب الخبر عن الله تعالى.
وجميع الأفعال التي وردت في القرآن عددها 375 فعل ، فما هو الفعل الذي يجوز أن تشتق منه اسماً وما هو الفعل الذي لا يجوز أن تشتق منه ؟!!
ما الفرق بين الإحياء والحياة؟
الحياة وصف ذاتي لله تعالى أي يلازم الحق أزلاً وأبداً ، ولا يتعلق بمشيئته ، فالله على كل شئ قدير ، ولكن لا يجوز لك أن تسأل: هل ممكن للحق أن يميت نفسه؟ لأن الحياة صفة ذات لا تتعلق بالمشيئة ، فالذي يسأل هذا السؤال معاند ، فصفة الحياة صفة ذاتية ، ولكن الله تعالى جعل وصف الإحياء وصف فعل له فيحيي من يشاء ويميت من يشاء ، فمن أسماء الله المطلقة: الحي، ومن أسماءه المقيدة المحيي ، قال تعالى:﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (الروم:50) ، فالمحيي اسم مقيد لأنه دل على وصف فعل ورد مقيداً، والحي وصف ذات لله تعالى.
فلابد أن تفرق بين صفة الذات وصفة الفعل ، فعندما يسألك أحد ويضع لك صفة ذات مكان صفة فعل ، ويسألك سؤالاً ليضعك في حرج فيقول لك: هل يُمكن لله أن يميت نفسه؟ فإن قلت : لا ، يقول لك :إذاً ، فالله ليس على كل شئ قدير ، فنقول : صفة الفعل تختلف عن صفة الذات ، وصفات الذات لا تتعلق بمشيئته ، وإنما الذي يتعلق بالمشيئة هي صفات الأفعال، فإن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها.

المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المحاضرة السابعة : شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:27 AM
المحاضرة السادسة : شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:25 AM
المحاضرة الخامسة : شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:24 AM
المحاضرة الرابعة : شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:23 AM
المحاضرة الأولى : شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:18 AM


الساعة الآن 08:21 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22