صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

القدر في الإسلام

مونتقمري وات دراسة د. خالد بن عبدالله القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد، درس المستشرقون

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-05-2013 ~ 06:36 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي القدر في الإسلام
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


مونتقمري وات


دراسة
د. خالد بن عبدالله القاسم 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد، درس المستشرقون الشرق بأديانه ولغاته وعاداته وكتبوا عنه، وكانت أهم دراساتهم وأبحاثهم هي المتعلقة بالدين الإسلامي لا سيما العقيدة، وتلك الدراسات بحاجة إلى دراسة وتعليق وبيان.
ومن أعلام المستشرقين مونتقمري وات وهو مستشرق إنجليزي معاصر، وهو عميد قسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرة حتى تقاعد سنة 1979م، ومن أهم آثاره كتاب (محمد في مكة) وكتاب (محمد النبي) وكتاب (رجل الدولة) اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر والخيانة والشهوانية، كما أن له كتابات عن تاريخ الجزيرة العربية وفي دائرة المعارف الإسلامية( ).
ومن الدراسات في هذا المجال ما كتبه عن القدر في الإسلام، وهي دراسة وصفية لآراء المسلمين في القدر مبتدءاً بما جاء في القرآن والسنة، وقد حاول إيجاد مقارنة بين القرآن والسنة ليبين أن تلك الأحاديث موضوعة لخدمة الآراء المختلفة كما أن بعضها تأثر بالجبرية العربية قبل الإسلام كما يزعم، كما أنه بالغ في إظهار الآراء المنحرفة في القدر، مصوراً البيئة الإسلامية كذلك لبيان أن القدر مشكلة كبرى في الإسلام.
ولم يتعرض لآراء أهل السنة والجماعة وبيان عقيدة القدر بمرئياتها وأدلتها والرد على تلك الشبهات والآراء، وإنما أبرز الآراء المتناقضة والفلسفية، وهذا ما يتبين عند القراءة المتأنية لهذه الدراسة.
وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة العالم الإسلامي الصادرة في نيويورك سنة 1968م، ص: 125-152. وقد اعتمدت على ترجمة لمتن هذه الدراسة للدكتور مازن بن صلاح مطبقاني، كما توليت بمساعدة آخرين ترجمة هوامشها، وقد ميزت هوامش الدراسة بعلامة[*] وتحتها خط، وجعلت تعليقاتي بالهامش بالأرقام العددية تبدأ من كل صفحة.
وأصل هذه المقالة رسالة دكتوراه من جامعة أدنبرة بعنوان (القضاء والقدر في فجر الإسلام وضحاه في القرون الثلاثة الأولى).
وقد عزوت الآيات التي استشهد بها بحسب السورة والآية، وأثبتها بالرسم العثماني، وربما سبقتها بقال الله تعالى أو عز وجل أو سبحانه وتعالى.
وبينت طريقة المؤلف في العزو حيث يعزو برقم السورة ثم رقم الآية كما في ص (5) كنموذج، كما قمت بتخريج الأحاديث، فما كان منها في الصحيحين اكتفيت به وإلا عزوته للسنن وغيرها مع ذكر من صححه إن تيسر ذلك، مع نص الرواية في الهامش وأبقيت ترجمة رواياته في المتن وليس فيها اختلاف كبير مع ذكر نموذج لتخريجه كما في ص (19، 21) كمثال، وهو لم يقم بتخريج كامل الروايات وإنما غالبها، وإذا كان هناك اختلاف في الروايات فإنه يستخدم لفظ ”ومعاد صياغته“ انظر ص (11)، كما أضفت الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وهو أحياناً يقول قال النبي لا سيما عند الأحاديث وأحياناً يقول النبي محمد أو محمد.
كما قمت بتتبع إحالاته لا سيما لإراء فرق المسلمين من كتب الملل والتعليق عليها عند الحاجة. كما قمت بترجمة للأعلام والمصطلحات وأثبت لها فهرساً في النهاية.
وقد استخدمت المنهج النقدي في هذه الدراسة مهمشاً على المتن.
وأخيراً هذا جهد المقل، وأسأل المولى الكريم أن ينفع به وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. خالد بن عبدالله القاسم

تمهيد(*):
من المعروف عموماً أن أحد الفروق الملفتة للنظر بين النصرانية والإسلام أن النصرانية تلح على حرية الإرادة عند الإنسان بينما يعلم الإسلام الجبر، ومع ذلك فقليل من التأمل يظهر لنا بأن المسألة ليست بهذه البساطة، فقد اعتقد سينت بولس( ) بالقضاء والقدر بمعنى من معانيه، كما قام أتباع أغسطين( ) وكالفن( ) بالتوسع في ذلك الجانب من تعاليمهما، ومع ذلك فإن عقيدة الإرادة الحرة (أو المشيئة الحرة) في الصورة التي رسمها بلاقيوس( ) تعد هرطقة( ) في نظر النصرانية المحافظة. والدراسات الآتية توضح لنا قدراً مساوياً من التنوع في الإسلام.
إن الموقف الذي تتبناه هذه الدراسة يمكن تلخيصه بأبلغ إيجاز بكلمات اللاهوتي الإنجليكاني المعتمد(**) ( ):
تقدم لنا الكتب المقدسة حقيقتين عظيمتين أولاهما: السيادة المطلقة لله، وثانيهما: مسؤولية الإنسان، ولا تستطيع عقولنا القبول بهما، وبقدر ما نستطيع الإذعان والقبول بهما على الإطلاق فما ذلك إلا بسبب العمل الصالح والحياة الأخلاقية الفعالة.
وكلا هاتين الحقيقتين العظيمتين موجودة في الإسلام، إلا أن التوازن في صالح الأولى، ولهذا السبب بالذات فإن النصرانية بمواقفها المتعاطفة مع الهرطقة البلاجية( ) ربما تتعلم شيئاً من الإسلام( ).
أولاً: القرآن والحديث:
يقال بأنه من الممكن تتبع تطور هذه القضية محل البحث في القرآن الكريم، وفي الأجزاء المتأخرة منه أكثر تحديداً، وسيكون تأسيس هذا الجهد شاقاً، ولكن تأثير ذلك على نتائج دراستنا الحالية سيكون قليلاً، لذلك فإن تناول القرآن الكريم كوحدة واحدة يبدو أمراً كافياً، فغالباً نجد فيه التعبير عن هاتين الحقيقتين.
حاكمية الله المطلقة في القرآن الكريم:
يتحدث القرآن الكريم عن الله (عز وجل) على أنه رب العالمين القادر وخالق كل شيء، بالتالي القوي الذي له الحكم الأعلى في كل ما يحدث بمشيئته، فلا يستطيع البشر أن يفعلوا شيئاً.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ( )(*).
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا( ).
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ( ).
ومما يشغل الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة أن كثيراً ممن استمعوا إلى إنذاراته لم يهتموا بها أو لم يؤمنوا بها، وهناك مقاطع كثيرة في القرآن ترجع إيمان الإنسان كلياً لفضل الله وهدايته، بينما يعود الكفر لإضلاله لهم وتخليه عنهم، فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ( ).
وأحياناً يرجع كفر الإنسان لعدم قدرته على الرؤية والسمع والقبول، وهذا بالتالي نتيجة عمل الله على التغطية على أبصارهم، وختم على قلوبهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ( ).
إن تفوق الإرادة الإلهية في كل الأحاديث النبوية يعبر عنها بقوة في القرآن، ومع ذلك فإن الحقيقة الأخرى من الحقيقتين العظيمتين لم تهمل بأي حال من الأحوال.
مسؤولية الإنسان في القرآن:
إن أفضل برهان على أن الاعتقاد بمسؤولية الإنسان حيال أعماله جزء أساس من رسالة القرآن ليس لنص معين، ولكن مفهوم اليوم الآخر كله واضح جداً في الإنذارات الأولى، وقد وزعت الجوائز والعقوبات على الناس وفقاً لمبادئ العدل، وهذا يوحي بأن البشر هم حقاً مسؤولون عن أعمالهم، فإنذارات محمد – صلى الله عليه وسلم – ودعواته للتوبة توحي أيضاً بان مستمعيه لديهم القدرة على الاستجابة، وفي حالة واحدة نجد الذين وصفوا بالصم للنذير على أنه ليس ذنبهم يعترفون فيما بعد بمسؤولياتهم عن أعمالهم وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ( ).

والآيات الآتية توضح التعاليم حول يوم القيامة:
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا( ).
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ( ).
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( ) ( ).
ومما يستحق الإشارة أن العديد من الآيات التي تتحدث عن هداية أو إضلال الله لبعض الناس إن ما يفعله الله يبدو أنه نتيجة (ثواب أو عقاب) لسلوك الناس السابق، ويؤكد القرآن الكريم على عدل الله في كل ما يفعله بالبشر.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ( ).
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ( ).
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ( ).
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى( ).
إن هذه الاقتباسات كافية لإظهار أن جانبي الحقيقة المتكاملتين بالرغم من صعوبة قبولهما عقلياً ممثلان في القرآن( )، وقبل أن نواصل مناقشة القرآن( ) سيكون من المفيد أن ننظر في بعض الأحاديث الشائعة في هذا الموضوع.
الأحاديث التي يستشهد بها عموماً لتأييد القضاء والقدر:
لم يقصد من الأحاديث الآتية أن تغطي جميع جوانب الميدان بصورة شاملة، وسيتم ذكر بعضها الآخر فيما بعد، ولكن يمكن القول بأن الاختيار الحالي يعطي مثالاً صادقاً للأحاديث والمفاهيم الأكثر تأثيراً في الفكر الإسلامي:
-(كتب الله أقدار الخلق قبل خمسين ألف سنة من خلق السموات والأرض)( ).
-وعن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال: ربي ماذا أكتب؟ فأجاب: اكتب مصير كل شيء حتى قيام الساعة) ويقول عبادة: يا بني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (من مات لم يؤمن بهذا فليس منى)( ).
-وعندما يكون عمر الجنين اثنين وأربعين يوماً في الرحم يرسل الله ملكاً يشكله ويخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه، وبعد ذلك يسأل الملك: يا رب هل سيكون ذكراً أو أنثى؟ عند ذلك يأمر الله – عز وجل – ما يشاء أن يكون فيكتب الملك ذلك، وهنا يسأل الملك: ماذا يكون أجله؟ (يعني تاريخ وفاته) عند ذلك يقول الله ما يشاء فيكتب الملك، وبعد ذلك يذهب الملك وفي يده اللفافة التي فيها، ولن يزيد أو ينقص من الإرادة الإلهية)( ).
-قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (أن فلاناً وفلاناً من أهل النار، ولم يصدق بذلك بعض الصحابة حيث رأوا الرجل في أقسى المعارك مثخناً بالجراح، ولكنه لم يتحمل الألم في النهاية فأخذ شفرة وقتل نفسه) ( ).
-وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (لن يدخل الجنة إلا مؤمن)( ).
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ليس بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيبدأ بعمل أهل النار فيدخلها، وكذلك فإن أحدكم قد يعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينها وبينه ذراع فيبدأ في عمل أهل الجنة التي سيدخلها)( ).
-قال ابن الديلمي: (زرت أبي بن كعب، وقلت له قد ثارت شكوك في نفسي حول القضاء والقدر، وربما تزول لو أخبرتني بحديث في هذا الموضوع، فأجاب لو أراد الله أن يعاقب أهل سماواته وأرضه فإنه عند ذلك لن يكون من العدل، ولو أنفقت في سبيل الله مثل أحد فلن يقبل ما لم تؤمن بإرادة الله وتعترف بأنه ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار، عند ذلك ذهبت إلى زيد بن ثابت الذي أخبرني بحديث مشابه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –( ).
-اتهم موسى آدم بصفته أبونا على أنه سبب طردنا من الجنة، فأجاب آدم بأنه لم ينل النعمة التي نالها موسى، فكيف يلومه على ما سبق أن قدره الله قبل أن يخلق، وهكذا تغلب آدم( )(*).
التغاير بين القرآن والحديث:
عندما نقارن هذه الأحاديث مع الاقتباسات القرآنية السابقة حول حاكمية الله المطلقة، نجد تعارضاً واضحاً لافتاً للانتباه، فالقرآن يهتم بتأكيد سيطرة الله العليا على العالم من لحظة لأخرى، بينما تتناول الأحاديث ما أمر الله به في لماضي سواء كان ذلك قبل خمسين ألف سنة من خلق العالم( )، أو عندما يكون كل إنسان جنيناً في الرحم، وبالتالي فالقرآن ينظر لله على أنه سيطرة مباشرة ومريد في الحاضر، ومع أن الأحاديث تتحدث عن الله فهي تميل إلى النظر إلى حياة الإنسان على أنه تحت سيطرة مباشرة ليست سيطرة الله بل قوى غير شخصية (دون ذكر الله على الإطلاق): (ما أصابك لم يكن ليخطئك)( ).
وليس التناقض بالتأكيد مطلقاً تماماً كما تشير الاقتباسات التي أوردناها فثمة آثار عديدة في القرآن للقضاء والقدر بالمعنى المحدد، أي تقرير الأمور قبل حدوثها من قبل الله بصورة منفصلة عن سيطرته الحالية عليها، فهناك مفهوم أجل الإنسان في الحياة.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ( ).
وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ).
ولكن عند السماح كلياً لمثل هذه الأمثلة وغيرها من أفكار القضاء والقدر في القرآن، وبسبب التكرر الممكن لمفهوم سيطرة الله الحاضرة على العالم في الحديث، فإن التغاير بين الاثنين حول هذه النقطة يظل ملفتاً للانتباه، فالقرآن أساساً وغالباً يعتم فقط بحاكمية الله في الحاضر في الاقتباسين الأخيرين حتى عندما تقرر الأصل فهو مازال فاعلاً، والحديث يقر بعض الفعل لله في الماضي، ولكنه مهتم أكثر بالقوى الخارجية التي تسيطر على مصير الإنسان الحاضر.
ولذلك فمن الصعب إنكار أن هذه المفاهيم الموجودة في السنة وشائعة في فكر المسلمين، ليست تطوراً لأي شيء في القرآن، ولكنه يجب أن تكون قد دخلت الإسلام بطريقة أخرى والاقتراح الواضح بأن لها ارتباطاً مع الجبرية التي كانت شائعة بين العرب قبل حياة محمد – صلى الله عليه وسلم – وأثنائها، ولكنه اقتراح يحتاج إلى فحص دقيق( ).
القرآن ونظرة العرب قبل الإسلام:
لقد توصل أحد الباحثين في عقيدة الجبر لدى الشعراء العرب( ) إلى الاستنتاج الذي مفاده: بأن جذور هذه العقيدة موجودة في مفهوم الوقت (الزمن) في (الدهر) يمكن أن نعني كما يقول: ”ومع ذلك فغالباً ما يكون التفكير فيه باستمرار على أنه يمثل قوى معينة، ونادراً ما ينظر إليه على أنه الزمن فقط، فلا ينظر للوقت نفسه، ولكن غالباً وبدون استثناء يجسد على أنه مسبب للخير، وأيضاً للحظ السيئ على أنه مسيطر على وجود الإنسان، ويعقل هذا بطريقة تجعل من الممكن لهم أن يهربوا مما هو مخبأ لهم، أليس هذا هو القدر؟“(*).
وكتب باحث آخر: ”كان من الشائع تخيل الوقت المجرد على أنه السبب في كل الحوادث الدنيوية، وبخاصة كل المآسي الأرضية ..... ويمثل الوقت على أنه الذي يأتي بكل الحظ السيئ ومسبب التغيرات الدائمة، كأنه ساخر ومستهلك ومطلق السهام التي لا تخطأ أبداً أهدافها، ويلقي الحجارة وغير ذلك، وفي مثل هذه الحالات فنحن غالباً مضطرون أن نربط الوقت بالقدر وهو ليس صحيحاً تماماً، حيث إن الوقت يفهم على أنه العنصر الذي يحدد وليس على أنه عنصر تتحكم فيه قوة أخرى تحدده“(**).
وقد وصف جولد زيهر( ) في الفصل الأول من كتابه (دراسات محمدية) أن مثال البدوي في أواسط الجزيرة هو المروءة أو الرجولة، ويقول: ”الفخر والاعتزاز بشجاعته العالية وبسالة رفقائه لا يخطر به أن يكون شاكراً لقوى عليا بنجاحاته مع أن لا يستبعد كلياً الاعتراف بهيمنتها، إنما يثير في نفسه الأفكار المتجهمة فكرة حتمية الموت نتيجة لتجاربه اليومية التي لا يستطيع أن يبعدها عن ذهنه، تلك الأفكار المتجهمة عن المنايا أو المنون يعني قوى المصير الذي يعمل بلا نظر وبدون وعي بهدفها، ومع ذلك هي قادرة حتماً على إنهاء كل ما يخططه الأحياء“(*).
كان محمد – صلى الله عليه وسلم – معارضاً بقوة لهذه النظرة كلها تجاه الحياة في النظرة أو الممارسة، ويصف القرآن نظرة الذين يقولون: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ( )، بأنها نظرة زائفة وعلى غير أساس ويجعل محتوى هذه القصة الأمر واضحاً بأن الهجوم ليس موجهاً ببساطة لنظرية تأثير الوقت ولكن بطريقة الحياة كلها مبنية على إنكار يوم الحساب والحياة الأخرى، إنها بالفعل مثال آخر للمقولة القديمة: ”دعنا نأكل ونشرب ونكن سعداء لأننا سنموت غداً“ ويؤكد القرآن بأن الإنسان الذي يعمل السيئات ويتخذه إلهه هواه يعامل معاملة مختلفة عن الناس الصالحين.
وعلى نقيض مفهوم المروءة وصف جولد زيهر موقف محمد – صلى الله عليه وسلم – على أنه دين، وربما يتفق مع معاصريه في تقديرهم للصدق، ولكنه يعارضهم في ممارستهم، حيث مقابلة الشر بالشر، فقد دعا محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى العفو ووضع حدوداً على تعاطي الخمر والزنا وقرر صلوات عدوها منافية للرجولة، وتعمقت المعارضة في السلوك اليومي العادي( ).
لم يكن مفهوم القرآن حول سمو الله ليخلو بالطبع من نتائج عملية، ولكن كان ذلك في الاتجاه الذي ينشئ إحساساً حقيقياً بالمخلوقية والاعتماد على الله والثقة به، ولكنها لا يمكن أن تقود إلى الجمود، حيث إن الله هو الحق والذي أمر عبيده ليؤدوا أعمالاً متعددة وحكم عليهم بما فعلوا، وما يوصف وصفاً مناسباً بأنه موقف جبري باستخدام قدرة الله (أو المصير) كعذر للتملص من الواجبات العادية هو بوضوح أمر مذموم، وهناك وصف لأولئك الذين عندما أمروا أن يساعدوا الفقراء والمحتاجين قالوا: أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ( )، وبين بحساب مثل هؤلاء الخاطئين.
استنتاجات:
قد يصبح ممكناً في يوم من الأيام أن نوسع الشرح للنظرة حول عرب ما قبل الإسلام، ولكن في هذه اللحظة ليس كافياً أن نؤسس ارتباطاً مباشراً بين ذلك والمفهوم الوارد في السنة، وما يمكن تأكيده مع ذلك أن الاتجاه المهيمن في السنة أكثر شبهاً بجبرية ما قبل الإسلام أكثر منه مع الإيمان القرآني في حاكمية إله فعال وحي، وهذا التشابه واضح جداً بالنسبة للصفة اللاشخصية للقوى المسيطرة على مصير الإنسان( ).
إن الافتراض الذي اقترحه لشرح هذه الحقيقة هو أن الموقف الجبري لمعاصري محمد – صلى الله عليه وسلم – استمر في أعماق قلوبهم أمداً طويلاً بعد دخولهم رسمياً في الإسلام، وظهر التعبير عنه فعلياً في السنة، حيث أن تحولهم كان غالباً في الأساس شأناً خارجياً وأسمياً، ولم يكن مستغرباً على الإطلاق، وهذا يعني أن السنة (الحديث) هو مزيج من كل الأفكار الإسلامية وما قبل الإسلام.
ويؤيد هذا الافتراض أدلة من مصادر مختلفة، فقد وجدت محاولة للمماثلة بين الله والدهر( )(*)، وقد تمت الإشارة من قبل بأن القوى الخارجية بارزة في السنة (الحديث) حتى إنها تصل أحياناً إلى درجة عدم ذكر الله( )، ويظهر فحص الأحاديث بالنسبة لموقفهم من الممارسة العملية في الحياة درجات مختلفة للتقارب مع الاتجاه الجبري بالتوقف عن العمل عندما يكون الدافع لذلك هو ميولهم الفردية.
إن قصة الخلاف بين آدم وموسى – عليهما السلام – مثلاً مسألة جبرية تماماً( )، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسؤولاً عن أعماله، فمفهوم الأوامر السماوية تشجع مثل هذا الاستنتاج، وكذلك الجملة التي تقول: (أن ما أصابك لم يكن ليخطئك)( ) ولكن هذا الميل إلى الجبرية قد خفف عندما ينظر إلى الأوامر على أنها عمل ليس ناتجاً عن قلم خارجي بل عن إله عدل، وكذلك فالعبارة التي تقول (أن ما أصابك لم يكن ليخطئك) مع أنها لا شخصية في شكلها إلا أنه من الممكن إعطاؤها مغزى إسلامياً، وتعود إلى مشيئة الله كما حدث بالفعل في إحدى عقائد المسلمين.
إن الأحاديث التي وردت حول الأشياء التي كتبها الملك لكل جنين في الرحم أمر مختلف قليلاً، وفي روايات أخرى لم يذكر أن الله هو الذي أمر، وهناك إضافات مثل حياة الإنسان وعمله، وهل سيكون سعيداً أو شقياً، وفي هذه الحالة لا يكون كل ما يعمله الإنسان مقدراً سوى تاريخ وفاته ومحصلة أو التأثير العام لنشاطاته( )، ومن الممكن أن هذه الجبرية المخففة كانت هي نظرة العربي العادي، وربما لم يكن عنده شك في مقدرته أن يخطط من يوم ليوم، وينفذ هذه الخطط، ومع ذلك فقد كان يشعر بأنه سواء كانت خططه ناجحة أو لا، وسوءا كانت لسعادته أم لشقائه، فإنها كانت مقدرة من جهة غامضة بصرف النظر تماماً عن رغباته، إن المحصلة النهائية للمفهوم هو تثبيط كل الجهود والسعي على أنه لا فائدة منه مادام أنه مهما فعل الإنسان فالنتيجة واحدة، ومرة أخرى وما يمكن أصلاً أن ينسب إلى هذه الحياة – السعادة والشقاء – يمكن إعطاؤه تفسيراً إسلامياً ويفهم على أنه الجنة أو النار.
يبدو الحديث الذي ورد عن المحارب الذي انتحر( ) أو الرجل الذي سبق عليه الكتاب محاولة لدمج القديم والجديد( )، ولم يقدم المفهوم الإسلامي حول الحكم إلا كلاماً يجازي الإنسان بناء على آخر أعماله، ولكن هذه مقدرة عليه وفقاً لكتابه، وهكذا فالاتجاه الغالب جبري وثمة مجموعة من الأحاديث المهمة التي تعالج هذه الصعوبة حيث إن وضع الإنسان النهائي قد حدد، فما أهمية عمل الخير؟.
قال رجل يا رسول الله هل تعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: نعم، فقال الرجل: ولماذا يعمل الناس؟ فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – كل يعمل لما خلق له أو لما سخر له). عندئذ قال رسول – صلى الله عليه وسلم – ليس من روح لم يحدد الله مكانها في الجنة أو النار، واتخذ القرار حول السعادة أو الشقاء، وعند ذلك قال الرجل: يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا ونترك العمل؟ فأجاب محمد – صلى الله عليه وسلم –: (أيما رجل كان من أهل السعادة سيعمل بعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاء فسيعمل بعمل أهل الشقاء، وعندها قال: (اعملوا أعمالكم فكل ميسر فأهل السعادة ميسرون للعمل بعمل أهل السعادة، وأهل الشقاء ميسرون للعمل بعمل أهل الشقاء، وتلا – صلى الله عليه وسلم –: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى( ) ( ).
قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: (ليس من أحد لم يكتب مقعده في النار أو الجنة، فقال أحدهم، ألا نتكل (يعني لا نعمل شيئاً) فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لا تفعل ذلك فكل مسخر، وتلا قوله: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى( ) ( )(*).
ويظهر في هذه الأحاديث محاولات للربط بين النظرية الجبرية والاعتقاد بمسؤولية الإنسان في الممارسة، ولكنه غير مقنع دائماً( )، ومما يستحق الملاحظة في الحديث الثاني الآيات القرآنية التي تجعل عمل الله تالياً لعمل الإنسان، وتفسر بمعنى القضاء والقدر.
والأحاديث بالطبع أقل تجانساً من القرآن( )، فهناك حالات يكون الله بالفعل هو الذي يقرر ما يحدث للإنسان، وليس أي قدر خارجي، وحيثما يكون الموقف العملي بالتالي ثقة دينية حقة بالله القوي الرحيم، وإذعان صبور لإرادته.
وجاء رسول إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – برسالة من إحدى بناته بأن ابنها يوشك أن يموت، فأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – رسالة بأن لله ما أخذ ولله ما أعطى ولكل أجل كتاب، وأمرها بالصبر والتحمل( ).
وعندما سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الطاعون: قال إن الله أرسله عقوبة لمن يشاء ورحمة للمؤمنين، فأيما عبد لله كان في مكان وبقي هناك صابراً مؤمناً بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له كان له أجر شهيد( )(*).
إن تأكيد فنسك( ) بأن: السنة لم تحتفظ بأي حديث يدعو إلى الحرية الحتمية( ) صحيح أساساً، ولكنه بالتأكيد كاسح جداً، لقد كنا نهتم على الأقل بالمحاولات الأولية للاعتراف بالمسؤولية البشرية، وانظر أيضاً إلى مثل هذا القول للرسول – صلى الله عليه وسلم –: (لا يوجد خليفة إلا وله بطانتان، إحداهما تأمره وتدعوه للخير، والأخرى تدعوه للشر، والمعصوم من عصمه الله)( ) (*). والقصد من هذا القول: كما في المفاهيم كأمثال نعمة الله في القرآن هو بلا شك لتطمين البشر بأنهم ليسوا ممنوعين عن الأعمال الصالحة بأي مصير متعذر اجتنابه، ولكن على العكس هناك قوى الكون تساعدهم، وبالتالي فإن سعيهم الأخلاقي لن يذهب سدى.
وإذا أخذنا هذا الدليل على أنه تأسيس للافتراض الذي ذكر آنفاً فيتبع ذلك أن السنة تعطينا صورة للصراع بين أخلاقيات القرآن الفعالية والمفاهيم الجبرية المغروسة بعمق في الروح العربية، وفي المقام الثاني بين المفهوم القرآني لله صاحب المشيئة الفعالة والأخلاق الجبرية للرجولة وعدم العمل، ولا يمكننا إلا أن نتأثر بالأثر العنيف لرسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – وروحه على جيله والأجيال التي تلته، ومع ذلك لم يكن كافياً لطرد الأفكار المستقرة بقوة والموجودة سابقاً، إن الاعتقاد بالله القوي العادل في دار الإسلام قد كان في حرب مع الاعتقاد بالمصير الخارجي ومع حظوظ متعددة واستمرت المعركة حتى يومنا هذا.

ثانياً: المتمسكون بالمشيئة:
إن إحدى المشكلات التي يواجهها الدارس لتطور الفكر العقدي الإسلامي هي أن الذين كتبوا حول الهرطقة (الفرق) مثل البغدادي( )، والشهرستاني( ) كان لديهم إحساس قليل بالتطور التاريخي لأنهم اهتموا أساساً بالتصنيف المنطقي للعقائد المختلفة وفقاً لمصطلحات عصرهم، وهذا صحيح بخاصة للفرق الأقل حجماً حيث تندر المعلومات ندرة استثنائية، وهذه مناظرة عقدية تعكسها القصة التالية:
”والفرقة الخامسة من العجاردة (الشعيبية) – أصحاب شعيب( ) – وهو رجل برئ من ميمون( ) ومن قوله فقال: إنه لا يستطيع أحد أن يعمل إلا ما شاء الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله، وكان سبب فرقة الشعيبية والميمونية أنه كان لميمون على شعيب مال فتقاضاه، فقال له شعيب: أعطيه إن شاء الله، فقال ميمون: قد شاء الله أن تعطينيه الساعة، فقال شعيب: لو شاء الله لم أقدر إلا أن أعطيكه، فقال ميمون: فإن الله قد شاء ما أمر، وما لم يأمر لم يشأ، وما لم يشأ لم يأمر، فتابع ناس ميموناً وتابع ناس شعيباً، فكتبوا إلى عبدالكريم بن عجرد( ) وهو في حبس خالد بن عبدالله البجلي( ) يعلمونه قول ميمون وشعيب، فكتب عبدالكريم: إنا نقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نلحق بالله سوءاً، فوصل الكتاب إليهم، ومات عبدالكريم فادعى ميمون أنه قال بقوله حين قال: ”لا نلحق بالله سوءاً“ وقال شعيب: لا بل قال بقولي، حيث قال: ”ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فتولوا جميعاً عبدالكريم وبرئ بعضهم من بعض“(*).
وهذا مثال جيد لضرورة ربط الحقيقتين اللتين لا يمكن قبولهما عقلياً، إن موضوع النقاش الظاهري هو إرادة الله، ويفسر شعيب هذا على ضوء مفهوم سلطة الله أو قدرته ولكنه يؤكد هذا إلى حد بعيد ويصل إلى النتيجة الجبرية غير الأخلاقية حول عجز الإنسان أن يؤدي واجبه، ومن جهة ثانية نجد ميمون الذي يربط مشيئة الله بأوامره (والتي هي حول ما هو عدل وحق) ويؤكد فكرة أن الله هو الحق غير أن نظرته أحادية، لأنه لا يقول شيئاً حول قدر الله، وإهماله لهذا الموضوع هو في الحقيقة الخطوة الأولى للإنكار، إن السيد الأول الذي يلجأون إليه لا يقدم أي محاولة للمحافظة على التماسك المنطقي، ولكن يحافظ على نظرة متوازنة يحتل فيها المفهومان المتكاملان مكاناً.
هذه القصة مهمة أيضاً بصفتها توضح العلاقة القريبة في الفكر الإسلامي بين عدل الله وقدرة الإنسان على العمل، ويوضح تاريخ الخوارج بأن عقيدة المشيئة الحرة يمكن النظر إليها كتطور منطقي لهذا الجانب من التعاليم القرآنية، وهذا بالتالي ينفي ضرورة عزو أي تأثير رئيسي للنصرانية.
تطور الفكر لدى الخوارج:
إن مبدأ المحكمة (الذين خرجوا على علي بعد معركة صفين سنة 37هـ) بأن الحكم لله (لا حكم إلا لله) يبدو أنه كان يعني في التطبيق بأن كل الأمور يجب أن تقرر بالرجوع إلى نص قرآني. وقد كان هذا بصورة ما مثالية عالية، وكان من الممكن أن ينحرف إلى التطرف كما أظهر التاريخ محتوياً في داخله ميولاً تمزيقية حيث كان لكل قائد قوي مفهومة عن عدل الله طالباً سلوكاً صحيحاً من أتباعه.
ولم يعرف إلا القليل عن الآراء العقدية لأي من قادة الخوارج الذي ظهروا حتى عام 61هـ عندما قدم نافع بن الأزرق( ) من البصرة – رئيس الأزارقة – عقائد جديدة، وهذه العقائد هي التي فصلته عن القاعدة (الذين لزموا بيوتهم ولم يشاركوا الحركة) وأعلن بأن كل الذين لم يحاربوا معه كانواً كفاراً، وأوجب على من أراد الدخول في معسكره اجتياز امتحان قاس في الالتزام( )(*)، وكان نافع من الذين يرون أن ما ليس أبيض نقياً فهو أسود، ولذلك كان من الذين ضمهم اللون الأسود (خرجوا عن معسكره) ليس فقط الثنوية وعبدة الأصنام والخلفاء الأمويين الدنيويين، ولكن أيضاً ناس من أهل القبلة اختلفوا معه في تفاصيل صغيرة، وكانت البيهسية( ) حركة منافسة أخرى لها أفكار متشابهة أصلاً وفي ضوء عدم قدرة بعضهم التعاون مع بعض فليس من المستغرب أنه بالرغم من شجاعتهم العنيفة والمتطرفة فمثل هذه الحركات لم تحقق إلا نجاحاً محدوداً، ومع ذلك فإن موقفهم وضيق أفقهم الشديد والاستثنائي يجب أن لا يصرفنا عن الحقيقة بأن الشريعة (مهما كان فهمها محدوداً) وعدل الله ما تزال الأساس لفكرهم.
لقد سمحت نظرة نافع المنعية غير العملية لظهور اتجاه آخر أكثر اعتدالاً وهو نجدة بن عامر الحنفي( ) الذي قاد ثورة عام 70هـ لم يطالب فيها مشاركة كل مؤمن في عصيانه، فقد كانت المشاركة في جيشه ومحاربة الكفار (أو الهجرة كما يطلق عليها أحياناً) نافلة ولكن القعود (البقاء في البيت) لم يكن إثماً(**).
لقد تأثر عبدالكريم بن عجرد (المذكور آنفاً) بكل من نجدة والبيهسية، وكانت المعادلة الأساس لوضعه أنه ربط نفسه بأهل الجنة وفصل نفسه عن أهل النار، وهي معادلة كان من الممكن لنافع فقط أن يتبناها، ولكن كان هناك مرونة معينة في التطبيق.
لقد تسببت معاملة الأطفال في بعض التعقيد، فقد كان نافع تحت سيطرة أفكار الأسرة العربية القديمة( )، وقال ببساطة تامة بأن أطفال المؤمنين يذهبون إلى الجنة، وأطفال الكفار إلى النار، واستنتج صحة قتل أطفال الكفار (ويبدو أنه اتخذ الموقف نفسه تجاه الزوجات) وقد أعلن آخرون أحجيات حول مصير الأطفال الذين كان آباؤهم كفاراً، عندما مات الأطفال ولكنهم أصبحوا مؤمنين أو العكس بالعكس، وربما احتوى هذا الموقف على نظر ترفض فكرة أن الدين مسألة عائلية بل شأن فردي.
بدأت فكرة المسؤولية الشخصية الكامنة في مفهوم أن الله يحكم على كل الناس بالعدل يوم القيامة بالظهور الواضح، فقد اعتقد عبدالكريم وأتباعه العجاردة، غالباً أن الأطفال كانوا مؤمنين حتى يدعوا إلى الإسلام ويعتنقوه باختيارهم(*)( ) وهكذا يفصلوا أنفسهم حتى من أطفال المؤمنين، ومن المؤكد أن هذا لا يعني عداوة نشطة بل حياداً، وقد تمسك البعض بهذا التوسع، وليس من المدهش أن نجد ميمون الممثل المتطرف للمسؤولية الشخصية في هذه المسألة أيضاً يؤكد أنه ما دام أطفال الكفار لم يرتكبوا إثماً فيجب أن يكونوا في الجنة(**)( ).
وثمة مسألة أخرى كانت محل اختلاف وهي جهل القانون التي كانت مرتبطة بمسألة أخرى متى يمكن أن نعد الشخص مسؤولاً عن تصرفاته، وقد حدثت قصة حول خطأ نجدة وأتباعه في توزيع الغنائم حيث اعتذروا بجهل النظام فعذروا، وقد أثار هذا سؤالاً حول المعرفة الضرورية للمسلم، ومتى يصبح الجهل موجباً للوم، ومن الجدير بالذكر أن فرعاً من البيهسية (أصحاب السؤال) اعتقدوا بأن الإنسان إذا واجه موقفاً لم يتأكد فيه مما يفعله فعليه أن يسأل وبالتالي فالجهل غير مسموح به وعرف هؤلاء بأنهم أصحاب عقيدة المشيئة الحرة(*).
ويبدو أن من أوائل فرق الخوارج العديدة الذين ذكروا على أنهم متمسكون بعقيدة القدر والإرادة الحرة ( المشيئة) أصحاب السؤال وميمون وأتباعه، وكان كلاهما نشطاً في الفترة القريبة من انتهاء القرن الأول، وربما كانوا قد أعلنوا عقيدتهم في وقت مبكر تقريباً وذلك حوالي سنة 80 أو 90هـ، وكلاهماً أيضاً كان مشغولاً في النقاش الذي أدى إلى التطور التدريجي لمسألة عدل الله ومسؤولية الفرد الشخصية إلى نتائجها المنطقية، وهكذا فإن عقيدة القدر نمت تدريجياً في أرض الإسلام الخصبة( ).
متطوعون مبكرون آخرون(**):
لا يكاد يعرف شيء عملياً حول معبد الجهني( ) المؤسس المشهور للنقاش حول القدر، ولعله من الممكن أن نربط بينه وبين رأس المعبدية كمواطن من الثعالبة، وأخذ بعقائد العجاردة في صورة أكثر اعتدالاً (بالرغم من وجود بعض الصعوبات حول مثل هذا التعريف الحدسي) وبالتالي فهو تابع إلى حد كبير للدوائر نفسها التي يتبعها ميمون وأصحاب السؤال، ويمكن أن تكون أفكاره نابعة من مصادر شبيهة.
ودخل اسم ”القدرية“ إلى الاستعمال بمرونة كبيرة وغموض، ولكن اقتصر على مجموعة صغيرة ومحددة نسبياً لدى كتاب مبكرين من أمثال الأشعري( ) وخشيش( ) (نقل عنه في كتاب تنبيه الملطي( )) فالأشعري مثلاً يقول في مكان ما بأن: ”الفرقة الثالثة منهم يعني (الخوارج) يعتقدون بأن أولاد كل من الكفار والمؤمنين في الجنة“(*) وهكذا يؤكدون ما قيل حول نمو عقيدة المشيئة (الإرادة الحرة) في دوائر معينة من الخوارج والقليل الذي يمكن أن نتعلمه حول القدرية من دراسة هذه المراجع المبكرة يميل كله إلى اقتراح قرابتها مع المجموعات نفسها.
ولقد اقترح هـ. ريتر( ) بأن الحسن البصري( ) كان هو المؤسس الحقيقي لعقيدة الإرادة الحرة حيث كان معبد الجهني شخصاً غير مؤثر(**)، ويمكن السماع بقناعة ريتر بأن تمسك معبد بعقيدة القدر كداعية إلى الإصلاح مصراً على أن مستمعيه لديهم الاستطاعة ليعيشوا حياة صالحة، وحتى مع ذلك وفي ضوء الرابطة بين العقيدة والأفكار الإسلامية الأخرى، فليس هناك أصل للافتراض بأنه وحده كان مسؤولاً، فقد كان جو البصرة مشبعاً بتلك الأفكار، أما بالنسبة للدرجة التي وصل إليها ارتباطه بتلك العقائد، فقد كان ذلك مرتبطاً بأفكار الحق.
قيل إن الخليفة هشام بن عبدالملك( ) (105 – 125هـ) قد أمر بقتل غيلان الدمشقي( ) بسبب آرائه القدرية. وقد يبدو غريباً قليلاً وجود العقيدة هنا بين المرجئة، ذلك أن المرجئة كانوا معارضين للخوارج، وينسب إليه الإعلاء من أن الإيمان فوق كل الأعمال، ومع ذلك فالمقارنة مع الأفكار النصرانية مضللة( )، فقد انتقدت المرجئة الخوارج لعدهم عقوبة مرتكب الخروج من الملة بإعلان كفره، وكان هدفهم التقليل إلى أبعد حد من خطورة إيجاد طرق أخرى للتعامل معها سوى التكفير الذي اقتصر عملياً على معسكر قائد عصيان ضيق. وقد قبل المحافظون فيما بعد (أهل السنة والجماعة) موقفهم من بقاء مرتكب الكبيرة مسلماً وأنه من أهل الجنة فيما عدا الذنوب الكبيرة جداً، فهذه كانت محل إنكار أو رفض أو محل استفسار، وهكذا فإن أطروحة ارتباط عقيدة القدر بمفهوم الصلاح لا تنقضه حالة غيلان بل على العكس يبدو من المحتمل أن قتل غيلان كان بسبب انتقاداته المضللة لممارسات بني أمية غير العادلة أكثر منه بسبب آرائه النظرية.
المعتزلة( ):
لقد نال المعتزلة إعجاب الكثير من علماء القرن التاسع عشر لميولهم التحررية والعقلانية، ولكن ظهر الآن بأنهم لم يكونوا ”فلاسفة متنورين“ بقدر ما كانوا ”أصحاب اهتمام شديد بالعقيدة“، وعملياً ”علماء عقيدة نشطون ودعاة“، وكان يخشى عليهم مع ذلك أنهم في صراعهم مع المانوية( ) وأديان هندية أخرى أن يتنازلوا عن كثير من مكونات الإسلام.
ومن الواضح لدى مراجعة كتابات الأشعري وكتاب آخرين بأنهم كانوا ما يزالون يعيشون ضمن تعاليم القرآن وحتى السنة، لقد ناقشوا مشكلات عديدة حول مفاهيم الأجل والرزق والهدى والضلال، ويبدو أن أبا الهذيل( ) قد قبل بأن أجل الإنسان مقدور، وأن الله عدل بالنسبة للرزق، ولذلك لم يوفر الرزق للسارقين، وكان لهم عدة وجوه لتفسير الهدى والضلال ما شابههما، ولكنه يرون دائماً أن مصير الإنسان النهائي يعتمد على أفعاله( )(*).
وأحب المعتزلة أن يطلقوا على أنفسهم أنهم ”أهل الجماعة والعدل“( ) وبالتالي أبرزوا مبدأين من مبادئهم، ويمكن أن يحتوي مبدأ العدل على الاعتقاد في الإرادة (المشيئة الحرة)، أما بالنسبة للمبدأ الثاني منهما بالرغم من اعتناق المعتزلة له عالمياً، إلا أنه لم يذكر في المبادئ الخمسة الرئيسية، وهذه نقطة مثيرة للانتباه، وتؤكد ما قيل سابقاً حول الارتباط الوثيق بين عدل الله ومسؤولية الإنسان أو الإرادة (الحرة)، إن الاعتقاد في الإرادة الحرة كان جوهرياً لدرجة أنه ليس هناك تسجيل لأي نقاش مباشرة لهذه النقطة، فمؤرخو الفرق يذكرون فقط الخلافات حول المسائل الفرعية.
ولم يدرس تطور الفكر المعتزلي وعلاقة المفكرين المختلفين بعضهم ببعض بشأن تعاليمهم دراسة كافية، وليس هناك استنتاج عام مقبول نستطيع من خلال أن نفيد في دراستنا الحالية، بيد أنه ثمة خط واحد للتطور يمكن عزله بسهولة نوعاً ما هو محاولة إظهار أن الله هو العدل المطلق رغم كل الشر الموجود في العالم، وهذه محاولة عقلانية بمعنى أنه يفترض أن عدل الله مفهوم تماماً وفقاً لمفاهيمنا البشرية العقلانية حول العدل، ومع ذلك فإن أبا الهذيل البصري يمكنه أن يزعم أنه المؤسس الحقيقي للمعتزلة لم يكن لديه كثيراً مما يقوله حول هذا السؤال لأن اهتمامه كان منصباً على الجانب المادي من الميتافيزيقيا، ومن الأنسب أن نبدأ بآراء بشر بن المعتمر( ) مؤسس مدرسة بغداد المعاصر لأبي الهذيل وربما كان أكبر منه سناً حيث وصل سن النضج في بداية حكم المأمون( ).
ويبدو بشر ساذجاً قليلاً في آرائه عند مقارنته بمعظم المعتزلة، فلم يكن عقلانياً أو منطقياً باستمرار، وبسبب هذا وعلى الأقل بالنسبة للقضية المطروحة كان أكثر اتزاناً، فقد اعترف من جهة بمسؤولية الإنسان نحو أعماله ويمكن أن يقال إنه جعل ذلك يمتد وفقاً لعقيدته بأن الإنسان هو مؤلف تصرفاته والتأثيرات الناتجة عنها، وهذا يعني عواقبها الخارجة عن جسده، ولكن من جهة أخرى تمسك بالاعتقاد بالله القادر حتى إنه ذهب على حد القول بأن لله القوة في أن يفعل أفضل مما فعل بالفعل في تنظيم العالم، وهو ليس مجبوراً أن يفعل الأفضل بالنسبة للإنسان، ويبدو أن اعتقاد بشر كان واقعياً تماماً في أن بعض الذين ماتوا أطفالاً كانوا سيصبحون مؤمنين لو كانوا كبروا وكان هذا سيكون الأفضل بالنسبة لهم.
ويمكن بهذه النقطة الأخيرة التي ترتبط بتعاليمه أن الله عنده هدية أو فضل (عند الله لطف) كأن يمنح الكافر فيصبح مؤمناً ويستحق مثوبة المؤمنين، وقد أصبح اللطف عن المفكرين المتأخرين قريباً من النعمة الإلهية في العقيدة النصرانية، ولكن في حالة بشر يبدو أنها غير فتية فإطالة الحياة يمكن أن تكون مثالاً لنعمة الله( ).
لقد كان للنظام( ) تلميذ أبو الهذيل ومعاصره (وكان يصغره سناً) اتصالاته ببغداد وكان مؤثراً في توجيه المعتزلة بطريقة أكثر عقلانية( )، فأفعال الله يقال بأنها الآن موضع لاعتبارات عقلانية، يجب أن يفعل الأفضل، ويعني هذا في التطبيق بأن الله مجبور للتصرف وفقاً للمثالية البشرية في العدل وما شابهه، وبالتالي يصبح السبب (العلة) أكثر إطلاقاً من الله. ولمعالجة الاعتراضات الأكثر وضوحاً لهذا الرأي فقد اقترح النظام عقائد أخرى مفادها أن الأفضل يحمل في طبيعته حدوداً لذلك لا يمكن أن يكون هناك درجات لا محدودة من الخير، ومع ذلك يمكن أن يكون هناك عدد غير محدد من الأشياء التي يمكن أن يكون خير مساو للخير الذي صنعه الله، وتأسيساً عليه يمكن الافتراض بأنه يقول عن الأطفال الذين كان من الممكن أن يصبحوا مؤمنين، وأن هذا سيكون أمراً طيباً فهناك ظواهر حول ما حدث بالفعل مما جعله خيراً بنفس الدرجة.
كان جعفر بن حرب( ) (ت: 236هـ) تلميذ أبي موسى المردار( )، خليفة بشر بن المعتمر في بغداد، ولكنه وقع تحت تأثير النظام، فاتبع بشراً في رأيه حول نعم الله وبتعديل مهم، فإذا آمن الإنسان نتيجة لهداية الله فعندئذ لا يستحق أن يمنح الجزاء الذي آمن من دون هذه الهداية، وهذا يظهر بأن التمييز بين العمل الإرادي واللاإرادي كان مفهوماً أكثر وأن الأول كان التأكيد عليه أكثر مما يجب والذي يهم هو ما يحققه الإنسان بجهوده وأن الجنة (الخلاص) يجب الوصول إليها بعمل الإنسان الجاد، مما يشار إليه هنا أن هداية الله هي نوع من المساعدة الداخلية التي تهدم ما يجب أن يفعله الإنسان لنفسه.
إن قدرة الإنسان على أن يكسب الجنة بنفسه أمر بارز أيضاً في المقولة بأن الله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم أساساً وهو منزلة المثوبة، ولو أراد الله لخلق الإنسان في الجنة مباشرة على أنها هداية غير مستحقة (تفضل) ولكن ما فعله هو الأفضل، وحقاً فإن ما فعله الله هو الأفضل كما قال النظام( ).
ورأيه هنا يخضع للأفكار العقلانية بأن العمل الصالح يجب أن يقابله مثوبة أبدية، وأن الجنة عندما تكون مستحق أفضل من الجنة بلا استحقاق، ومن المفترض أن جعفراً سيكون رأيه أن الشر في العالم يعود كلياً لخطيئة الإنسان، وكان هذا يوم السعد بالنسبة للفرقة المتحررة التفاؤلية من المعتزلة عندما بدأ أن الكون كله قد انحصر في نطاق الأفكار التي يقدمها عقل الإنسان، ولسوء الحظ سرعان ما ظهرت مجموعة من الأفكار التي لم تأخذ في الاعتبار بصورة كافية.
وبرز عضو آخر من مدرسة بغداد في الفترة نفسها هو الإسكافي( ) كان يعتقد بقوة أن الله هو الحق الكامل، ولا يمكن لله أن يريد الشر بأي طريقة، ولا يمكن حتى أن يريد أن يكون الكفر هو القاعدة أو الشر، وارتبط بهذه النظرة القائلة بأن الأشياء طيبة وسيئة في ذاتها وليس لأن الله أرادها أن تكون كذلك، ويمكن أن يقال الكثير حول هذا الموقف، إن عقولنا تجد شيئاً ما بغيضاً في الفكرة التي تقول إن التصرف الذي ينظر إليه عامة على أنه تصرف خير يمكن أن يصبح شريراً لعمل حتمي ناتج عن إرادة لأي كان مهما كان سامياً. مع ذلك فإن الرأي كما عرض ينطوي على الإشارة بأن الخير والشر (كما يفهمها العقل البشري) يحتل موقعاً أكثر أهمية من الله.
وقريباً من هذا الوقت تمت مناقشة العديد من المسائل مثل معاناة الأطفال، وبما أن الأطفال مخلوقات غير مسؤولة فلا يمكن معاقبتهم على ذنوبهم، ومع ذلك فإن الأطفال يتعذبون، ولذلك يبدو أن هنا بعض الظلم أو الشر أو على الأقل فشل في تحقيق الأفضل( ).
وقد كان بشر بن المعتمر مستعداً تماماً للاعتراف بهذا ما دام أنه اعتقد أن الله ليس مجبوراً لفعل الأفضل، وفي أوقات يبدو أنه اقترح أن المعاناة هي نوع من العقوبة التوقعية (في حالة الذين ماتوا وهم أطفال) مقابل الذنوب التي كانوا سيرتكبونها لو كبروا، وهذه بالطبع قصة من التفكير المضطرب( )، إن النظرة العامة بأن العذاب يقصد منه تحذير الكبار، وبعد ذلك عندما يكون العذاب بدون ذنب أمراً غير عادل فلابد أن يحصل الأطفال على تعويض مقابل ذلك، ويظهر الآن أن الاعتقاد العام بأن هذا التعويض هو دخول الجنة وبالتالي أثار أسئلة غير ملائمة، فإذا كان الجنة جزاءً للمستحق فالأطفال لا يستحقونها أكثر مما يستحقون كتعويض لمعاناتهم، ومع ذلك فلو كانوا في الوضع الذي يحتله المسلمون المخلصون تماماً فلماذا لم يخلق من البداية أهل الجنة في الجنة.
إن نقاش مسألة تعذيب الحيوانات أمر من الفضول أكثر منه بحث جاد في العقيدة، ولكنه يوضح هذه النقاط أكثر، لقد بدا أن الحيوانات تنال العذاب أصالة ولم يفرض عليها أية واجبات فعذابهم ليس عقوبة، وقد اعتقد بعض علماء العقيدة بأنه مادام أن الله عدل فلابد أن حصل الحيوانات على التعويض، بينما جادل آخرون أكثر جرأة حول صورة هذا التعويض، فالحيوانات آكلة العشب كان من السهل تخيل مزارع دائمة الخضرة من العشب اللذيذ، ولكن ماذا عن الحيوانات المفترسة؟ وتكلم البعض عن حالة في المستقبل يستطيع الواحد منها (الحيوانات المفترسة) الانتقام من الآخر بينما أقر جعفر بن حرب والإسكافي على الفكرة الساذجة بأنه بعد أن يحصلوا على تعويضهم إما على الأرض أو في حياة أخرى( ) (الأعراف) فيرسل بهم إلى جهنم ليضيفوا إلى عذاب الكفار والعصاة دون أن يصيب الحيوانات أذى في أنفسهم.
وبدأ قريباً من هذا الوقت بعض الوعي في الظهور حول الصعوبات التي تكتنف الحقيقة بأن تسيير الله لشؤون هذا العالم يقتضي بقاء بعض الناس في النار إلى الأبد، فإذا كانت النار تؤذي الكفار فيقال عندئذ أن الله يفعل ما يضر، ولو قلت إن الله يفعل وفقاً لعدله فذلك لا ينهي الصعوبة بالرغم من أن فعله لم يكن ظلماً، ومع ذلك بدا كأنه شر بطريقة ما، وقد ورد قول الإسكافي في هذا المعنى بأن النار خير للعصاة ومن الصعب أن يعتمد هذا على نظرية الإصلاح بالعقوبة، وربما يعني تماماً بأن معانة أولئك الذين في النار تحذير للذين مازالوا على الأرض، ولكن في تلك الحالة نتجنب الصعوبة الحقيقية، وإذا كان هذا يعني بأن النار خير لأولئك الذين دخلوها فيبدءون في هذا إنكاراً لحقيقة واضحة وهذه بداية لانهيار الأمر الإلهي العقلاني.
إن المفكر التالي الذي نعرف أنه ناقش أسئلة من هذا النوع هو عباد بن سليمان الضمري( ) (ت: حوالي 250هـ) كان هذا المفكر يجد متعة في الأحاجي المنطقية الهادئة التي بدت غالباً لا هدف لها بالرغم من أن هذا يمكن أن يكون راجعاً لجهلنا بمحتواها، فقد قال إن الله لم يجعل الكافر لأن (الكافر) يتكون من (إنسان) و (كفر) وأن الله لم يصنع الكفر، وهذا بوضوح ليس أكثر من طريقة ملتوية لتأكيد مسؤولية الإنسان تجاه كفره وإبعاده عن دائرة فعل الله ولذلك يجب موازنة مثل هذه المقولة وفقاً لتمييز عباد بين قوة الله على الشر وقوته لفعل الشر (وهذا ما لا يوجد لدى عباد). استخدم عباد التشبيه مع أعمال الرجل المشابهة مع زوجته في إنتاج طفل، فللرجل قوة حمل زوجة لطفل ولكن ليس لحمل طفل بعينه، وشبيه بهذا فالله عنده قوة فوق الحركة( )، ولكن ليس القوة ليتحرك وقوة فوق الشر وليس القوة لفعل الشر، وقد استخدم هذا التمييز فيما بعد.
هناك حركة أكيدة في فكر عباد تبتعد به عن العقلانية، ولم يستمر في محاولته دراسة كل أفعال الله لأفكار الإنسان، وعلى العكس من العديد من المعتزلة اعتقد عباد بأنه ليس هناك لخلق الله للعالم (ربما أنه ليس لفائدة الإنسان) وشبيه بهذا فقد اعتقد أنه ليس هناك هدف في عذاب الأطفال، ولم يتلقوا أي تعويض وبعيداً عن الاعتقاد في تعويض الحيوانات مؤكداً ببساطة أن الحيوانات جمعت وأهلكت.
ووجدت الميول اللاعقلانية لدى الجبائي( ) (ت: 303هـ) رئيس مدرسة البصرة في نهاية القرن الثالث، لقد كان تابعاً لمجموعة أخرى في مدرسة البصرة وأنكر تمييز عباد بين (القوة على الشر) و (القوة لفعل الشر) فجادل بأن الله إذا قدر الحمل لامرأة فإن الله يكون محبلاً، وهذه الكلمة تقال عادة في الزوج، ويبدو بأن الفكرة هنا هي التأكيد بأن الله والإنسان يعملون في العالم نفسه، وقوة الله فوق الشر يجب أن تكون مثل هذا، وهو قادر أن يمنع الإنسان من ارتكاب الشر، ولكن هذا التمييز وكذلك الاتجاهات الأخرى في فكر القرن الثاني بدت أنها تقود إلى الفصل بين عالمي الله والإنسان (مقارنة تقريبية بين عالمي كانت Kant الشيئي والظواهري)( ) التي يمكن بسهولة أن تقود إلى إنكار سيطرة الله الفعالة على دائرة النشاط الإنساني.
وللجبائي آراء أخرى مدونة في هذا الاتجاه نفسه، ومن ذلك اعتراضه بقوة على المفهوم الفني للاكتساب(*) الذي عن طريقه خلق الله فعلاً يقال إن الإنسان مجرد ”كاسب“ له، ولذلك فإن الله فعل بمعنى ”الخلق“ والإنسان بمعنى ”الكسب“ وقد رفض الجبائي أي تمييز كهذا في النوع بين عمل الإنسان وعمل الله، بل إنه عرف الخلق بطريقة يمكن تطبيقها على النشاط البشري بالرغم من أن قوة الخلق قد نظر إليها عموماً أنها خاصة بالله وحده، ورفض الجبائي كذلك وجود صنف من التصرفات الإرادية، وأنه ليس هناك أي تصرف من هذا الصنف يمكن القيام به مطلقاً من الإنسان (بأن يجبر الله الإنسان عليه بمعنى أن يخلق الله التصرف دون موافقة لإرادة الإنسان) بيد أن الجبائي اعترف بالطبع بالفرق بين التصرف الإرادي واللاإرادي، فمثلاً يمكن أن يجبر الله الإنسان للقيام بالكلام أو العدل أو الإيمان ولكن في هذه الحالة لا يكون الإنسان هو المتكلم أو العادل أو الذي عنده إيمان.
وبينما أنكر عباد بشدة كل صلة لله بالشر (لدرجة القول بأن المرض والسقم ليسا شراً) فالجبائي يمكن أن يقر أن ما قد يكون شراً من النظرة الأولى يمكن أن ينسب إلى الله، فالمرض والسقم من الناحية المجازية شر (ربما بمعنى أنه بالرغم من أنهما غير سارين إلا أنهما يعطيان الفرصة في الصبر) والعقوبة بالنار لا تؤذي الناس فعلاً ومع ذلك هما عدل وحكمة من الله، وأكثر من هذا فقد رجع الجبائي على موقف بشر بأن الله ليس مجبوراً أن يفعل الأفضل للإنسان، ولكنه سمح بأن الله فعل الأفضل لهم من ناحية الدين، ويفترض أنه عني بهذا أنه في حين أن الإسلام هو الدين الكامل فإن الله ليس مجبوراً أن يهب الفضل للناس حتى يصبحوا كلهم مؤمنين (وهذا أمر في غاية الوضوح لوجود عدد كبير من الكفار).
بعض هذه التأكيدات مبني على أن الجنة جزاء للإنسان على جهوده وأنها طيبة ويجب أن تكون كذلك، ولكن وعي الجبائي بأن يزداد بالنقص الواضح في التشريعات الخاصة بالمثوبة والعقوبة للسير على منهج الله، وكان مستعداً للإقرار بأن الله لو أراد ذلك لكان بإمكانه خلق الإنسان في الجنة ابتداءً، وكان هذا سيكون تفضلاً (ربما فضلاً بلا اتفاق) من الله، إن تكرر مفهوم التفضل في تفسير فكر الجبائي يشير إلى انطلاقة بعيداً عن مدرسة بغداد التي تصر على منزلة الجائزة، وبدأ يدرك أن طرق الله مبهمة إلى حد ما بالنسبة للإنسان، بل إنه استمر في انطلاقته إلى حد القول بأنه لو ارتكب شخصاً ذنباً واحداً فإن الله يمكن أن يغفر لأحدهما ولا يغفر للآخر.
ويمكننا أن نرى في موقف الجبائي اتجاهين مهمين: الأول: التقليل من التأكيد على قوة الإنسان واكتفائه بنفسه ليكسب الجنة. والثاني: ازدياد إدراكه بأن منهج الله فوق مستوى فهم البشر. وهذان الاتجاهان قد أديا إلى جعل حركة الاعتزال كلها تصل إلى مفترق الطرق، فلو تطورت هذه الاتجاهات فيجب أن تقود إلى إنكار بعض أساسيات عقيدة المعتزلة، وهذا في اعتقادي هو أساساً الطريق الذي اتبعه الأشعري، إن البديل هو معارضة هذه الاتجاهات وإتباع العقيدة العقلانية بدلاً من التقويم الواقعي للحقائق الذي كان هو الأساس في نظرة الجبائي، والقليل الذي نعلمه عن نظرة أبي هاشم( ) حول هذه المسائل من كتاب الشهرستاني والبغدادي يقترح بأنه ومعتزلة القرن الرابع اختاروا هذا الخط، ولكن كما هو متوقع لم يقولوا شيئاً ذا معنى( ).

ثالثاً: رد الفعل للآراء المتطرفة في المشيئة الحرة:
كان شائعاً فيما بعد لدى علماء العقيدة المحافظين أن يقوموا بتمييز ذي ثلاث شعب، قائلين إن المتمسكين بعقيدة ”الكسب“ أو ”الاكتساب“ قادت طريقاً وسطاً( ) بين التطرف في الإرادة (المشيئة) الحرة (عقيدة قدرة الإنسان أو القوة) والتطرف في الجبر (عقيدة الجبر أو الإكراه) ولكن المصادر المبكرة توضح تماماً بأن هذا التصنيف الثلاثي لم يكن رائجاً حتى سنة 300هـ، وكان مصطلح ”الجبرية“ و ”المرجئة“ قد استعملا كل معارضتهم بالرغم من أن الأخيرين كانوا قد فضلوا اسماً آخر مثل ”أهل الإثبات“.
ولم تكن المسألة في البداية عدم وجود تمييز بين ما يمكن أن يطلق عليه جبراً معتدلاً وجبراً متطرفاً ”كسباً وجبراً“ ولم يكن هناك تمييز أيضاً بين أولئك الذين تمسكوا بأن الله هو القادر على أسس توحيدية وأولئك الذي كانت مبرراتهم إلحادية وثنية، وما زال لدى المسلمين الأتقياء اعتقاداً أصيلاً بجلال إله حي فاعل وقدرته، وما زالوا يستطيعون أن يكرروا مقرين بالأحاديث التي تجعل مصير الإنسان إلى ”القلم“ أو إلى ”الكتابة“ وقد وردت عقيدة أبي حنيفة( ) في هذه المسألة بعبارات موضوعية دون ذكر الله (ما أصابك لم يكن ليخطئك)( )(*) وقد كان ذلك حوالي منتصف القرن حين دوّن ذلك الحديث بعالية كجزء من المجموعات التشريعية، وهذه حقيقة تشير إلى أن رجالاً مثل البخاري ومسلم قد قبلوها كمقولة معبرة عن نظام المحافظة.
ووجد الجهمية اتجاه معارض للقدرية وهو اتجاه مستقل عن جبرية ما قبل الإسلام، وهناك الكثير من الغموض حول هذه الفرقة وفي القرن الثالث يبدو أنه كان أكثر من السماحة التي أعطيت لها من قبل البغدادي والشهرستاني. وقد اشتق اسمها من جهم بن صفوان( ) (ت: 128هـ - 746م) ولكنى من الرأي القائل بأن كثيراً من الآراء التي نسبت له هي تقريباً لخلافة المأمون، وكانت الجهمية في هذه الفترة مرتبطة ارتباطاً لصيقاً بالمعتزلة ولم تتميز عنها تماماً حتى وقت متأخر، وقد أكدت المعتزلة والجهمية مبدأ التوحيد ولكن الجهمية لم يكن لها أي اتصال بمبدأ المعتزلة حول العدل( ).
وموقف الجهمية حول السلوك الإنساني كما يـأتي(*):
أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال، تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس لله سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً به كذلك كما خلق له طولاً ولوناً كان به متلوناً.
إن الجزء الأخير من هذا الموقف مفهوم على أنه تعديل متأخر، إنه بلا شك يخفف النظرة المتطرفة بأنه ليس هناك فرق حقيقي بين السلوك البشري وسلوك الجوامد.
إن الشيء المهم هنا هو أن نسأل عن الدافع لابتداع هذه العقيدة، وعندما نجمل كل ما نستطيع حول آراء الجهمية الأخرى يبدو واضحاً أنهم كانوا موحدين كلياً، كانت الجهمية متهمة بالمحافظة على فردية الله وتفوقه المطلق( )، وقد كان هذا هو الطريق الذي توصلوا من خلاله إلى مبدأ ”تأكيد الوحدانية“ وقد رفضوا مثلاً أن يطلقوا على الله حي عليم مريد لأن هذه الصفات تطلق على الإنسان.
يمكن أن يوصف الله بصفات فريدة مثل القوي أو القادر والموجد والوكيل والخالق والمحيي والمميت، إن إنكارهم أيضاً بأن المثوبة بالجنة والعقوبة والنار سوف تنتهي (تفنى) يرتبط بتفسيرهم للآية: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ( )(*). ويبدو أنها نشأت عن قناعتهم بأنه لا أحد من المخلوقات يشارك في أبدية الله، وقد أنكروا بأن صفات الله أبدية (بالتأكيد في حالة كلمة الله، وربما في حالة كلمات الآخرين).
وكانت الجهمية مؤمنين بأية حال بالمصير المحتوم (القدر) ولكنهم يمجدون جلال الله وقوته، لقد اتبعوا خطاً واحداً من تعاليم القرآن مهملين غيره، ولكن كان لهم اتصالاتهم بالأديان الهندية، ومفهوم أنه كان عندهم فكرة غامضة عن الحلول في الذات الإلهية مشتقة من هذا المصدر.
والجهمية هم الممثلون النمطيون للجبرية المتطرفة التي رفضها المحافظون، فمفهوم الكسب أو الاكتساب الذي هو قاعدته الوسطية لدى المحافظين( ) ربما كان الذي أشاعها هو ضرار بن عمرو الذي كان على علاقة قريبة بكل من الجهمية والمعتزلة وكان رئيساً للجامعة (حرفياً ترأس المجلس والكلام) في البصرة قبل أبي هذيل(**).
إن أفضل وصف لعقيدة الاكتساب هو ما كتبه الأشعري: والذي فارق ”ضرار بن عمرو “( ) المعتزلة قوله إن أعمال العباد مخلوقة وأن فعلاً واحداً لفاعلين أحدهما خلقه هو الله والآخر اكتسبه وهو العبد، وأن الله عز وجل فاعل لأفعال العباد في الحقيقة وهم فاعلون لها في الحقيقة (***).
ربما كانت هذه العقيدة محاولة لوصف الخلاف بين تصرفات الإنسان وسلوك الحجارة التي أهملتها الجهمية، فهناك تبريرات في القرآن لاستخدامه كلمة كسب في الطريقة الفنية، فهي من ناحية لا تشرح شيئاً ولكنها على الأقل تعطي اسماً لما يمكن به التفريق بين التصرفات البشرية المسؤولة وسلوك الحجارة، ولذلك فهي تساعد في أن تضع أمامنا واحدة من الحقائق المضادة العظيمة بأن الإنسان مخلوق مسؤول مع التأكيد على الناحية الأخرى وهو أن الله هو القوي القادر.
وكان الحسين بن محمد النجار( ) متمسكاً بآراء مشابهة لتلك التي اعتنقها ضرار، ولكنه أظهر درجة أعلى من التطور وبالتالي ينظر إليه على أنه تلميذ. ويقدم الأشعري عقيدته تقديماً كاملاً إلى حد ما، ويعرضه على أنه مؤمن متمسك بأن الله هو الأقوى، وقد قبل عقيدة الكسب وربطها بعقيدة أخرى أصبحت فيما بعد علامة للمحافظة، العقيدة التي تجعل الفعل والقوة في وقت واحد، ومن الممكن أن يكون هو مؤسس العقيدة الأخيرة.
هذه العقيدة تتطلب بعض الشرح، ومن المناسب عند الحديث باللغة الإنجليزية حول هذا الموضوع أن نستخدم مصطلح الإرادة الحرة (المشيئة) ولكن يجب أن نتذكر بأن الكتاب العرب في هذه الفترة فكروا في ”قوة“ الإنسان وليس الحرية أو نقصها(*). وبالتالي كانت المسألة بالنسبة لهم إذا ما كان الإنسان حراً أو لا (كما نقول) هي مسألة حول الطبيعة الدقيقة لقوة الإنسان، وحتى المعتزلة كانوا مستعدين للموافقة أن قوة الإنسان قد خلقها الله، ولكن أبا هذيل قد وضع نظرية بأن القوة هي ما يجب أن يطلق عليه قوة الاختيار، فقد ميز بين لحظتين أو وقتين، والتي أطلق عليها لحظات التصميم والتنفيذ على الترتيب، فقد فكر في لحظة تتبع الأخرى في الوقت، ولكن النقطة التي ربما فعلت إحداهما الجانب الفكري أو الداخلي للحديث والأخرى المادي أو الخارجي، ومن خلال هذا المفهوم يعتقد أن قوة العمل توجد في اللحظة الأولى، وهكذا ترتبط بإرادة العمل، ولتصبح حقاً قوة فوق العمل وعكسه، وهكذا كانت النظرة العامة للمعتزلة.
وعلى عكس هذا اعتقد النجار أن قوة التصرف تحدث (خلقها الله) مع العمل نفسه( )، وأن الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم بالفعل وأن العون من الله سبحانه يحدث في حال الفعل مع الفعل وهو الاستطاعة، وأن الاستطاعة الواحدة لا يفعل بها فعلان، وأن لكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث، وأن الاستطاعة لا تبقى وأن في وجودها وجود الفعل وفي عدمها عدم الفعل(*).
وبالتالي ليس هناك اختيار حول استطاعة الإنسان أن يفعل، إن الله هو الذي يفعل حقاً، فهو الذي يكسب القوة أو يجعلها له، ولكن الله هو المسيطر خلال ذلك كله، ويمكن أن يقال شيئاً ما من الناحية النفسية في رفض التفريق بين الجانبين العقلي والمادي للتصرف، ولكن ما يجعله صعباً قليلاً لتفسير الاختيار بين البدائل، ومع ذلك فمن المهم أن علماء العقيدة المسلمين لم يكتشفوا أن الفرق الجوهري بين النجار والمعتزلة يمكن فيما إذا كانت الاستطاعة لتصرف واحد أو أكثر (كما فعلنا) ولكن فيما إذا كانت قبل أو مع التصرف إشارة إضافية للمسافة بيننا وبين هؤلاء الرجال( ).
وتكشف دراسة فقرات من ”مقالات الإسلاميين“ حول أهل الإثبات بأن الأشعري يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى رجلين ومعهما مجموعة من أتباعهما وبعض الآراء القريبة، وهذه الفرقة إذا صح إطلاق اسم فرقة عليها تستحق اهتماماً خاصاً.
لقد حاولت( ) أن تحافظ على موقف متوازن بين المفاهيم القرآنية العظيمة لله القادر ومسؤولية الإنسان، إن قدرة الله الكلية كانت بارزة في تعاليم ضرار والنجار كما رأينا، وقد اعتقد معظم المجموعة أيضاً بأن الإيمان والكفر يعتمدان على مبادرة الله، فالإنسان يؤمن بسبب هداية الله له، ولكن فعل الله يجب أن يتبعه قول الإنسان، وصدر عن النجار رأي مفاده أن أفعال الإنسان في أضيق صورة مقتصرة على شخصه ولا تؤثر في الآخرين. ويبدو أن الفكرة هي أنه إذا رمى ”أ“ حجراً وأصابت ”ب“ فطيران الحجر بعد أن تغادر يد ”أ“أمر يمكن أو لا يمكن أن يكون الله هو الذي خلقه (أو يمكن أن يخلقه في اتجاه آخر مختلف تماماً) وفقاً لرغبته الخيرة، وهذه ستكون طريقة، وإن كانت ليست طيبة للدفاع عن القناعة الدينية بأننا دائماً وفي كل مكان تحت حماية الله وأنه لا شيء يمكن أن يحدث لنا ما لم يأذن الله، وبكلمات أخرى تؤكد أن ”ب“ لا يمكن أن يصاب بحجر ”أ“ ما يأذن الله.
كانت عقيدة الكسب محاولة للمحافظة على مسؤولية الإنسان، وقد أكد شخص آخر من المجموعة وهو محمد بن عيسى برغوث( ) بشدة على الصفة الفريدة لنشاط الإنسان الإرادي، واعتقد بأن الله لا يمكن أن يجبر الإنسان على الإيمان، ولكن لن تكون إيماناً حيث أن الإيمان أساساً إرادي، وهكذا لم يهمل هذا الجانب من المسألة كلياً داخل المجموعة بالرغم من أن التأكيد الرئيسي على القدرة الكلية لله، وبالتالي يستطيعوا الهرب كلياً من مشكلة الشيطان، فقد استخدموا جزئياً التفريق الذي وجد أيضاً بين المعتزلة وبين قوة الله فوق الشر واستطاعته عمل الشر مستخدمين مثلاً مثال المعرفة، عندما يخلق الله المعرفة في شخص ما فتنسب لهذا الشخص وليس لله، ولكن ربما فضلوا الاعتماد على غموض الطبيعة الإلهية وإبهامها للعقل الإنساني، وفضلوا تفسيراً سلبياً خالصاً لصفات الله، فمثلاً قولهم إنه يعلم لا يفيدنا شيئاً إيجابياً عنه سوى أنه ليس جاهلاً، أما ما تقوله عقيدتهم حول ماهية الله فإنها شيء لا يمكن معرفته في هذه الحياة الدنيا ولكن في الجنة فقط.
إن أهمية أهل الإثبات العظمى( ) أنهم كانوا أول من تمسكوا بمواقف نظر إليها فيما بعد على أنها محافظة، وأنهم دافعوا عن هذه النقاشات العقلية، وكان لهم ارتباط بالمعتزلة فساروا في المسار نفسه، وبلا شك استخدموا المناهج نفسها في الكلام، وقد حكم عليهم المحافظون المتأخرون( ) أنهم وقعوا في هرطقات متعددة ورفضوا الاعتراف بها، وليس من المدهش حقاً لأنهم بصفتهم رواداً في هذه المنطقة وارتكبوا الكثير من الأخطاء ومع ذلك عندما ينظر الإنسان للتطور التاريخي للفكر الإسلامي فيجب أن يضعهم في مقام أسمى مما أعطي لهم.

رابعاً: الأشعري ومنتقدوه:
يعد أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عموماً أباً للدراسات العقدية الإسلامية المحافظة، ولد في 260هـ - 873م، وتوفي في 324هـ - 935م، وقد أسيئ فهمه كثيراً من قبل العلماء في العصر الحديث، وقد جعلتهم نظرتهم المتحررة لا يتعاطفون مع عالم في العقيدة ذي نزعة دغماتية( )، ونظروا إليه على أنه المسؤول الرئيس عن تراجع المعتزلة التي أعجبوا بها.
جلس الأشعري عند قدمي الجبائي المعتزلي في موطنه مدينة البصرة، ولابد أنه كان من ألمع طلابه وأحبهم إليه، وربما خليفته المقدر أحياناً، كان يحل محل سيده في غيابه، وسبق أن فترضنا أن الاتجاهات الواضحة في فكر الجبائي كانت تتجه قدماً نحو التأزم، وهذه الأزمة وجدت في تجربة تحول الأشعري في سن الأربعين إلى الحزب المحافظ – أهل السنة والجماعة – الذي كان يتبع أحمد بن حنبل( )، وإذا كان اقتراحي صحيحاً فإن التحول يكون نتيجة طبيعية للاتجاه بعيداً عن العقلانية الموجودة لدى الجبائي.
ويقال إن الانفصال بين المعلم وتلميذه مرتبط بقصة الأخوة الثلاثة: كان هناك ثلاثة أخوة أحدهم كان رجلاً صالحاً والثاني كان فاسداً، والثالث مات طفلاً، فإذا قيل إن الطفل في الجنة فيكون بذلك لا فرق بينه وبين الأخ الأول الذي عاش حياة طيبة كمسلم، وإذا قيل أنه ليس في الجنة فيبدو أن ذلك مخالف للعدل حيث إن الطفل لم يرتكب ذنباً، وللاعتذار عن عدم دخول الطفل الجنة بالقول إن الله أماته صغيراً حتى يتجنب ارتكاب الذنوب التي علم أنه سيرتكبها إذا ما كبر فهنا نفتح المجال للأخذ والرد، فلماذا لم يجعل الأخ الثاني يموت صغيراً قبل أن يرتكب الذنوب؟ والنتيجة أن الإنسان لا يصل إلى تفسير عقلاني لحكم الله، من المستبعد أن تكون هذه القصة قد استخدمت لمهاجمة الجبائي، حيث إن الإفكار التي هوجمت فيها هي آراء مدرسة بغداد التي هاجمها هو نفسه، ولكن يمكن أن تكون آراء تلاميذه الذين أقروا تراجع أبي هاشم لمثل هذه الآراء وعلى أية حال فمن المحتمل أن الصعوبات الناجمة عن إعطاء تفسير عقلاني للمصير الإنساني كان عاملاً مهماً في التغيير الذي حدث لدى الأشعري( ).
وتناسب الأحلام الثلاثة التي مثلت مراحل تحول الأشعري كثيراً مع ما يقودنا علم النفس إلى توقعه، ففي بداية شهر رمضان سنة 300هـ ظهر الرسول – صلى الله عليه وسلم – في المنام قائلاً: أيد ما جاء عني، وبعد ذلك بدأ الأشعري في دراسة العديد من الأحاديث النبوية، ولكن درسها وفقاً لمنهج علم الكلام الذي كان على علم به، وبعد أيام ظهر له النبي – صلى الله عليه وسلم – مرة ثانية وسأله عما فعل، فأخبره عن دراساته (وفي بعض الروايات القصة) أضاف بأنه شك في رؤية الله بالعين في الجنة، فأخبره محمد – صلى الله عليه وسلم – بأنه ليس الحديث هو المشكوك فيه، ولكن مناقشة العلل وأعاد عليه أمره مرة أخرى (أيد ما جاء عني) وبعد هذا تخلى الأشعري عن مناقشة العلل (الكلام) كلياً وقرأ القرآن والحديث فقط. وأخيراً وقريباً من نهاية الشهر كان هناك ظهور آخر وسؤال عما فعله وعندما علم النبي – صلى الله عليه وسلم – بتركه الكلام انزعج محمد – صلى الله عليه وسلم – وقال له: لم أطلب منك ترك الكلام، ولكن أمرتك أن تؤيد الأحاديث الصحيحة.
تقدم لنا هذه القصة وصفاً دقيقاً تماماً لموقف الأشعري الجديد، فلم يكن المعتزلة عقلانيين صرفيين، ولكن مفهومهم العقلاني كان مسيطراً على عقولهم، وقد قرأوا ذلك في العقائد القرآنية وفي السنة، وقد رأيناهم أحياناً يحاولون إخضاع الذات الإلهية للعقل، ولقد كان العقل هو المعيار والميزان، ولم يتخل الأشعري عن العقل ببساطة لصالح الوحي، ولكنه توصل إلى حل وسط بين الاثنين، فالوحي له المقام السامي والعقل مكانه ثانية وله أهمية.
تسيطر فكرة الله القوي القادر في جميع كتابات الأشعري، وقد كتب مقالة عن عقيدة فرقته جاء فيها: ”وقالوا إنه لا يكون في الأرض خير ولا شر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال الله عز وجل: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ( ). وكما قال المسلمون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن(*).
كان الأشعري بلا شك عارفاً بعقيدة الكسب ولكنه لم يجد لها استخداماً كبيراً وفي الحالات القليلة جداً التي استخدم فيها هذا المصطلح مرتبطاً بآرائه فقد كان ذلك ليوضح توضيحاً تاماً بأن كسب الإنسان ما زال في دائرة سيطرة الله، ويبدو أنه لا يستخدم الجبر إطلاقاً عدا عن تسجيل آراء الآخرين، وأطلق على معارضي القدرية ”أهل الإثبات“ وحقاً فإن مفهوم مسؤولية الإنسان لا تكاد تجد لها مكاناً في هذه العقيدة ليس بسبب أي ضرورة عقيدة بقدر ما هو نقص في الاهتمام بها.
وهناك فقرة أخرى مهمة يطور فيها الأشعري التفريق بين قدرة الله التي هي فوق قدرة البشر واستطاعتهم، حيث إن النص الذي كتبه هو ما جاء في القرآن حول ابني آدم (الذين يمكن أن يطلق عليهما بسهولة قابل وهابيل حيث إن الاسمين لم يردا في القرآن) عندما هدد قابيل بقتل هابيل، لم يتناول الثاني أي سلاح للدفاع عن نفسه، قال سبحانه وتعالى: لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ( )(**). وفي هذا يشير الأشعري إلى أن هابيل قد أراد هذا التصرف نوعاً ما والذي يتضمن قتله ولكنه ليس مسؤولاً عن الذنب المرتكب، وقد أورد نقاشاً مماثلاً لما ورد حول يوسف – عليه السلام – وكان هنا أمل في التطور – استخدام العلاقات بين إرادات البشر بدلاً من التشبيهات المادية لتفسير العلاقات بين إرادة الإنسان بدلاً من التشبهات المادية لتفسير العلاقات بين إرادة الإنسان وإرادة الله – ولكن يبدو أنه لم يتمخض أي شيء عن هذا.
ويكمن الإنجاز العظيم للأشعري في أنه وضع الأساس لعلم العقائد الإسلامي الذي حافظ على أفضل الإيحاءات الدينية في الإسلام (مثل ما فشل المعتزلة في تحقيق ذلك) ولكنه قدمها في صورة لا يخجل منها العقل، لقد كان تفكيره مركزاً حول الله ولم يكن جبرياً على الإطلاق، بالرغم من أنه لا يستطيع أن ينكر عموماً التفكير الجبري المقبول واستنبط نتائج عقدية منها، لقد كان جلال الله وقوته هي التي ملأت كل أفكاره وحركت حواسه الدينية وكان تأثيره كبيراً في التأكيد بأن الشهادة هي الأساس للإسلام هي في هذا الجانب من الطبيعة الإلهية.
مدرسة أبي حنيفة:
كان الأشعري هو عالم العقيدة الوحيد حقاً الذي حاول الربط بين العقل والوحي( )، حيث ذكرنا أهل الإثبات سابقاً، وقد رأينا كيف احتلوا بعض مواقع المحافظين بالرغم من أنهم لم يقبلوا تماماً في جماعة المحافظين، وهناك حركة أخرى استخدمت مناهج الكلام، ولكن لا يتطرق الشك في محافظتهم وهؤلاء هم المدرسة الفقهية لأبي حنيفة، ويمكن تتبع تطورها في مثل هذه الوثيقة التي يطلق عليها وصية أبي حنيفة (ربما في أوائل القرن الثالث) وفي العقيدة الطحاوية (توفي في سن متأخرة 321هـ) وفي الفقه الأكبر الثاني (ربما معاصر الأشعري تقريباً، وفي شرح الفقه الكبير المنسوب للماتريدي( ) والأغلب أنه لأتباعه فيما بعد في القرن الرابع).
ارتبط أبو حنيفة بصفة خاصة استخدام الرأي والقياس في الأمور، ويبدو أن استخدام الجدال العقلي في العقيدة كان تطوراً طبيعياً لهذا الاتجاه، وقد أظهر أهل الإثبات لمحات من هذا التأثير فيقال بأن ضراراً استنبط عقيدته في جوهر الله (الماهية) منه وكان النجار( ) تلميذاً للمذهب الحنفي.
ومن بين الوثائق التي ذكرت أعلاه نجد الفقه الأكبر يستخدم مفهوم الكسب في الوقت الذي احتفظ بالإيمان بالله القادر( )، ولا يذكر شرح الفقه الأكبر أي شيء عن الكسب، ولكنه يحتوي على مفهوم شبيه يزعم أنه وسيلته ويهاجم بالتأكيد الأشعرية على أنهم متطرفون في اعتقادهم بالجبر.
وهكذا اخترعت عقيدة الكسب ودرست في دوائر أخرى ليست مما كان الأشاعرة يتحركون فيها، وقد كانت هذه الدوائر وبصفة خاصة مجموعات معينة من الأحناف التي قادت الهجوم على الجبر المتطرف ولم يحدث إلا فيما بعد أن تبنت هذه المدرسة عقيدة الكسب والادعاء بأنها معتدلة ولا نعرف متى حدث التغير وكيف حدث، وربما كان في النصف الثاني من القرن الرابع وبالتأكيد قبل زمن البغدادي (ت: 427هـ).
النتائج:
كان هناك إحساس عميق في قلوب الناس الذين جاء إليهم الإسلام باعتماد الإنسان على قوى أكبر منه، وربما كان هذا نتيجة تجاربهم في الصحراء( ) فقد عبروا عن أنفسهم قبل ظهور محمد – صلى الله عليه وسلم – بالجبرية بمعنى الاعتقاد بأن القوى التي يعتمد عليها مصير الإنسان هي أساساً خارج نفسه ويمكن تصنيفها إلى بعضها على أنها المصير أو الدهر، ولم يحاول محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يستأصل هذا الشعور بالاعتماد ليقنعهم بأنهم أخيراً يعتمدون على رب حي وعادل يحكم عليهم يوم القيامة وفقاً لأعمالهم، ونجح إلى حد بعيد ليحقق التحول وظهر التحول وظهر إحساس ديني حقيقي بأنهم مخلوقات لله.
ومع ذلك فقد بدأ يظهر تدريجياً على الساحة بعض الأفكار الشبيهة بالأفكار القديمة، ويكن في صورة جديدة هي السنة( )، وفي القرن الثالث قبلت الأحاديث على أنها الخط المحافظ الموثوق من قبل العديد من المسلمين المخلصين، وحتى مفكر جاد مثل الأشعري بإدراكه الحاد لله لم يحاول أن يميز بين إله حي متصرف في الحاضر وهذا المفهوم حول قوى خارجية هي التي قررت مصير الإنسان في الماضي، وبدأت الممارسات الجبرية المذمومة بوضوح في القرآن في الحصول تدريجياً على القبول، وقد اقترح كاتب صوفي أو مخلص في القرن الثالث أن الثقة بالله والعيش دون اللجوء للعلاج الطبي هو الطريقة السامية( ).
وقد تكون هذه الدراسة قد أظهرت بأن الفرق بين النصرانية والإسلام في مسألة مشيئة العبد الحرة والمصير في بعض الوجوه أقل مما هو مفروض عموماً، وقد حاول علماء الإلهيات في كلا الديانتين في أفضل الأحوال المحافظة على توازن بين مفهوم قدرة الله ومسؤولية الإنسان (المرتبطة بعدل الله) ولكن في الإسلام سرعان ما اختل التوازن بسبب رسوخ الجبرية المحلية، ولم يكن هناك ما يستطيع أن يعيد التوازن، ومع ذلك ففي النصرانية الغربية أيضاً وبخاصة أتباع الإصلاح (وبغرابة أكثر) لدى أصحاب النظرة (الكالفينية)( ) وقد قهرت العقائد الرسمية من قبل الميل الفطري للبلاجيانزم( )، ولذلك فإنني أصرح بأن الفرق بين النصرانية الغربية والإسلام (الذي يوجد بلا شك) ليس على حد كبير بين الأديان في حالتها النقية، كما هي بين الثقافات والحضارات التي وجدت فيها.
القدس، فلسطين، مونتجمري وات

خاتمة:
ومما سبق يظهر عدة نتائج أهمها:
1- القدر أحد أركان الإيمان ويجب فيه التسليم للوحي.
2- القدر هو علم الله وكتابته ومشيئته وقدرته وهي مقتضى الحكم والعدل.
3- للإنسان إرادة مسؤولة وحرية محدودة لا تخرج عن القدر الإلهي وعلى مقتضاها يكون خطاب التكليف.
4- ضلال الفرق في القدر بسبب إعراضهم عن الوحي الإلهي وما كان عليه سلف الأمة.
5- تعمق المستشرقين في الدراسات الإسلامية والتراث الإسلامي.
6- أن طريقة بعض المستشرقين في أبحاثهم في الدراسات الإسلامية ومنها هذا البحث قائمة على محاولات التشكيك في عقائد المسلمين والثوابت من الكتاب والسنة.
7- أن تلك المحاولات لا تقوم على منهج علمي.
8- استدعاء المستشرقين لكل الصور المشوهة في التاريخ الإسلامي وإظهارها.
9- لا نجد في تلك الدراسات رغبة في إظهار الحقيقة، وإنما محاولة لتشويه الإسلام.
كما نوصي في ختام هذا المبحث بما يلي:
1- ضرورة اطلاع العلماء والباحثين على دراسات المستشرقين والتصدي لها.
2- تدريس مادة الاستشراق في برامج الدراسات العليا في الأقسام الإسلامية.
3- تدريس موضوع الاستشراق في مرحلة البكالوريوس في مواد الثقافة الإسلامية كما هو موجود في جامعة الملك سعود.
4- تشجيع المجلات العلمية ومراكز البحوث والدراسات التي تعني بالدراسات الاستشراقية.

فهرس المراجع

1- القرآن الكريم.
2- الإبانة عن أصول الديانة: أبو الحسن الأشعري، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ط. ت.
3- الأعلام: للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط6، 1984.
4- البداية والنهاية: لابن كثير الدمشقي، مكتبة المعارف، بيروت، ط5، 1403هـ - 1983م.
5- تاريخ الإسلام: الحافظ الذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1408هـ - 1988م.
6- تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1417هـ - 1997م.
7- تاريخ دمشق: الحافظ ابن عساكر، دراسة عمر بن غرامة العمري، دار الفكر، بيروت، 1415هـ - 19956م.
8- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: أبي الحسين محمد بن أحمد الملطي، تحقيق وتعليق محمد بن زاهد الكوثري، مكتبة المعارف، بيروت، 1388هـ - 1968م.
9- الجواهر المضية في طبقات الحنفية: عبدالقادر بن محمد القرشي الحنفي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1413هـ - 1993م.
10- رؤية إسلامية للاستشراق: أحمد غراب، المنتدى الإسلامي، لندن، ط3، 1411هـ.
11- سلسلة الأحاديث الصحيحة: محمد بن ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
12- سنن ابن ماجه: ابن الماجه القزويني، شركة الطباعة العربية، الرياض، ط1، 1403هـ - 1983م.
13- سنن أبو داود: أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، نشر دار الحديث، حمص، ط1، 1391هـ - 1971م.
14- سير أعلام النبلاء: الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1401هـ - 1981م.
15- شرح العقيدة الطحاوية: ابن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، دمشق.
16- شرح الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبي حنيفة شرح: الماتريدي، طبعة حيدر أباد، ط2، 1365هـ.
17- صحيح البخاري: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، المكتبة الإسلامية، استانبول، موافقة الطبعة القاهرة، 1315هـ.
18- صحيح الجامع الصغير: محمد بن ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1402هـ - 1982م.
19- صحيح الجامع الكبير للألباني: المكتب الإسلامي، بيروت.
20- صحيح مسلم: الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1412هـ - 1991م.
21- العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية: خالد بن عبدالله القاسم، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1417هـ (غير مطبوعة)
22- الفرق بين الفرق: عبدالقاهر البغدادي، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1415هـ - 1985م.
23- الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم الأندلسي، مكتبات عكاظ، جدة، ط1، 1402هـ - 1982م
24- الفهرست: لابن النديم، دار المؤيد، الرياض، ط2، 1417هـ - 1977م.
25- القضاء والقدر: عبدالرحمن المحمود، دار الوطن، الرياض، ط2، 1418هـ
26- لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، 1407هـ - 1987م.
27- المستشرقون: العقيقي، دار المعارف، بيروت، د. ط. ت.
28- مسند الإمام أحمد: دار الفكر، بيروت، د. ط. ت.
29- المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1971م.
30- معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية: جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1994م، ص: 191. وانظر موسوعة لاند الفلسفية، عويدات، باريس، ط1، 1996م.
31- المعجم الموسوعي للديانات والعقائد والمذاهب والفرق والطوائف والنحل في العالم: تعريف وتصنيف وتقديم د. سهيل زكار، دار الكتاب العربي، دمشق، ط1، 1418هـ - 1997م.
32- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: لأبي الحسن الأشعري، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 14126هـ - 2005م.
33- الملل والنحل: للشهرستاني، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ - 1980م.
34- المنية والأمل بطبقات المعتزلة، لأحمد المرتضى: جمعه القاضي عبدالجبار الهمذاني، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، د. ط. ت.
35- الموسوعة الشعرية، (قرص حاسب آلي (CD) إشراف: محمد بن أحمد السويدي، إصدار المجمع الثقافي، 1997م – 2003م].
36- الموسوعة العربية الميسرة: بإشراف محمد شفيق غربال، دار الجيل، 1416هـ - 1995م.
37- موسوعة الفلسفة: عبدالرحمن بدوي، الموسوعة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984م.
38- موسوعة لاند الفلسفية: عويدات، باريس، ط 1996م.
39- موسوعة المستشرقين: عبدالرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1989م.
40- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، الطبعة الأولى، 1409هـ - 1988م.
41- موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبدالرحمن المحمود، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1416هـ - 1995م.
42- ميزان الاعتدال: الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1416هـ - 1995م.

فهرس الأعلام
العلم الصفحة
أحمد بن حنبل 46
أغسطين 4
الإسكافي 34
الأشعري 28
بشر بن المعتمر 31
البغدادي 23
بلاقيوس 4
الجبائي 36
جعفر بن حرب 33
جهم بن صفوان 40
جولد زيهر 15
جون كالفن 4
الحسن البصري 28
الحسين بن محمد النجار 42
أبو حنيفة 39
خالد بن عبدالله البجلي 23
خشيش بن أحرم 28
سينت بولس 4
شعيب بن محمد 23
الشهرستاني 23
ضرار بن عمرو 41
عباد بن سليمان الضمري 36
عبدالكريم بن عجرد 23
غيلان الدمشقي 29
فنسنك 22
كانت 37
الماتريدي 49
المأمون 31
محمد بن عيسى برغوث 44
معبد الجهني 27
الملطي 28
أبو موسى المردار 23
ميمون بن خالد 23
نافع الأزرق 24
نجدة بن عامر الحنفي 25
النظام 32
هـ. ريتر 28
أبو هاشم الجبائي 36
أبا الهذيل العلاف 30
هشام بن عبدالملك 29


فهرس المصطلحات
المصطلح الصفحة
الاستطاعة 43
البرغوثية 41
البلاجيانزم 51
البهيسية 25
توحيد الجهمية 40
توحيد المعتزلة 40
الدغماتية 46
طفرة النظام 32
الكالفينية 51
الكسب الأشعري 41
اللطف 32
المانوية 30
المتولدات 41
المذهب الحتمي 22
الهرطقة 4
الهرطقة البلاجية 5

فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة الصفحة
مقدمة 2
تمهيد 4
أولاً القرآن الكريم 5
حاكمية الله المطلقة في القرآن الكريم 5
مسؤولية الإنسان في القرآن الكريم 6
الأحاديث التي يستشهد بها لتأييد القضاء والقدر 8
التغاير بين القرآن والحديث 11
القرآن ونظرة العرب قبل الإسلام 13
استنتاجات 16
ثانياً المتمسكون بالمشيئة 23
تطور الفكر لدى الخوارج 24
متطوعون مبكرون آخرون 27
المعتزلة 30
ثالثاً رد الفعل للآراء المتطرفة في المشيئة الحرة 39
موقف الجهمية حول السلوك الإنساني 40
رابعاً الأشعري ومنتقدوه 46
مدرسة أبي حنيفة 49
النتائج 50
الخاتمة 52
فهرس المراجع 53
فهرس الأعلام 56
فهرس المصطلحات 58
فهرس الموضوعات 59
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:15 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22