صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع مسيحية

كتب ومراجع مسيحية بحوث ودراسات وكتب مفيدة للباحثين في الدين والعقيدة المسيحية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-02-2012 ~ 11:32 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 16
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


بروك فوس "ويستكوت" و فينتون جون أنتوني هورت
يدين علماء النقد النصي المعاصرون بفضل كبير إلى عالمين من جامعة كمريدج هما "بروك فوس ويستكوت" (1825 -1901 ) و "فينتون جون أنتوني هورت" (1828-1892 ) أكثر من أي شخص آخر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،وذلك نظير قيامهما بتطوير مناهج التحليل التي ساعدتنا على التعامل مع التقليد المخطوط للعهد الجديد . فمنذ ظهور كتابهما الشهير في عام 1881 ،العهد الجديد باللغة اليونانية الأصلية،أصبح التعامل مع هذين الاسمين أمرًا لازمًا– سواء أكان هذا التعامل لتأكيد مفاهيمهم الأساسية أو إصلاحًا للتفاصيل التي وردت في فرضياتهم أو في إعداد مناهج بديلة لنظام التحليل المقنع والرائع الذي قدمه كلا من "ويستكوت" و "هورت" .
إن القوة التي يتسم بها هذا التحليل يرجع الفضل الأكبر قليلا فيها للعبقري "هورت" على وجه الخصوص .
ظهر مؤلَّف "ويستكوت" و "هورت" في مجلدين ، أحدهما كان طبعة حقيقية من العهد الجديد مبنية على جهدهما المشترك الذي استمر لـ 28 عامًا بغية تحديد أيِّ النصين هو النص الأصلي وذلك في أي موضع تظهر فيه قراءات متباينة داخل التقليد؛ أما المجلد الآخر فكان عرضًا لمبادئهما النقديَّة التي ساروا على نهجها في تأليف هذا الكتاب .
هذا المجلد الأخير كتبه "هورت" وهو يمثل مسحًا عامًّا شديد الإقناع و العقلانية للمواد و المناهج المتاحة أمام العلماء الراغبين في أن يأخذوا على عاتقهم القيام بمهمة النقد النصيِّ . أسلوبُ الكتابة فيه كان شديد التكثيف فلا توجد فيه كلمة ليس لها أهميتها . منطق الكتاب مقنع فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وتكلم عنها. إنه كتاب عظيم وهو بطريقة أو بأخرى كتاب لكل العصور في هذا المجال. حتى إني لا أسمح لأحد من طلابي المتخرجين أن ينتهي من دراسته إلا بعد أن يصبح خبيرًا فيه.
لقد شغلت مشكلات نص العهد الجديد ،على نحوٍ ما ،اهتمامات "ويستكوت" و "هورت" طوال حياتهما التأليفية. "هورت" الذي كان قد حصل على قسط من دراسة الأعمال الكلاسيكية والذي لم يكن في البداية على وعي بالحالة النصيَّة للعهد الجديد ،، كتب وهو في الثالثة والعشرين من عمره خطابًا إلى صديقه "جون إليرتون" جاء فيه :
لم يكن لدي أيّ فكرة حتى الأسابيع القليلة الماضية عن أهمية النصوص، فقد قرأت قليلا للغاية من العهد الجديد اليوناني واستغرقت وقتا طويلا في قراءة النص المستلم الحقير.... لذلك فكثير من التغييرات في مرجعٍ مخطوطٍ جيِّد تجعل الأمور تتضح ليس بطريقة عامّية ونظرية ،وإنِّما عبر إدخال معنى أعمق وأكثر اكتمالا ... تأمَّلْ هذا النص المستلم الحقير الذي يعتمد بالكامل على مخطوطات متأخرة ؛ إنها لنعمة أن يكون لدينا مخطوطات أقدم (26).
بعد ذلك بعامين فقط ،كان "ويستكوت" و"هورت" قد قررا أن يحرروا طبعة جديدة من العهد الجديد. في رسالة أخرى إلى إليرتون مؤرخة بتاريخ 19 أبريل ،1853 ، يحكي "هورت" قائلا :
لم أرَ أي شخص أعرفه باستثناء "ويستكوت" الذي قمت بزيارته لعدة ساعات قليلة. نتيجة واحدة من نتائج حديثنا ربما أقصها عليك أيضًا .أنا وهو سنقوم بتأليف نص يونانيٍّ للعهد الجديد بعد سنتين أو ثلاث سنوات من الآن إذا وسعنا ذلك . "لاخمان" و"تشيندورف" سيقدمان لنا مادة غنية ، لكن تقريبًا ليس بما فيه الكفاية. . . هدفنا هو أن نزوِّد القساوسة بوجه عام ، والمدارس ...إلخ بعهدٍ جديدٍ يونانيٍّ يمكن حمله بسهولة ،عهد جديد لا يشوهه وجود التحريفات البيزنطية (أي التي تنتمي للقرون الوسطى) فيه (27) .

توقعات "هورت" شديدة التفاؤل بأن هذه الطبعة لن يستغرق إخراجها إلى النور وقتًا طويلا كانت ما تزال قائمة في نوفمبر من ذلك العام حينما يشير إلى أنه يأمل أن يتمكن هو و "ويستكوت" من إخراج طبعتهما إلى النور " في مدة أكثر قليلا من العام."(28) وبمجرد أن بدأ العمل في المشروع تلاشت الآمال في حدوث نجاح سريع . بعد ذلك بتسع سنوات نجد أن "هورت" ،في خطاب كتبه رفعًا لمعنويات "ويستكوت" ،الذي كانت معنوياته تضمحل بسبب فرص ما بين يديه من عمل ، وليستحثه قائلا:"
هذه المهمة يجب أن تكتمل ، ولن تكتمل على الوجه الأكمل...من غير بذل مجهودٍ ضخم ،وهي الحقيقة التي لا يبدو أن أحدًا غيرنا في أوروبا على وعيٍ بها . بالنسبة للحجم الأكبر من القراءات ، لو ركزنا تفكيرنا عليها دون الباقين ،فسيكون جهدنا غير متكافئ بالمرة . لكنَّنا إذا اعتقدنا بأنه من المستحيل تماما أن نفصل بين القراءات المهمة والأخرى غير ذات أهمية ، فينبغي أن أتردد في القول إن عملنا كله هو جهد لا يكافئ قيمة إصلاح النص كله إلى أقصى حدٍ يمكن الوصول إليه. أعتقد أنه ليس لكلينا على الإطلاق أي عذر في التخلي عن هذه المهمة. (29)
ما كان لهم أن يتخلوا عن هذه المهمة ،لكنها بمرور الوقت أصبحت أكثر صعوبة ووجوبًا. في النهاية ، استغرق الأمر من هذين العالمين القادمين من جامعة كامبردج 28 عامًا في عمل متواصل تقريبًا لكي ينتهوا من تأليف نصهم مرفقًا بمقدمة كتبها "هورت" .
لقد كان عملهم ذا قيمة عالية . فالنص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و "هورت" شديد الشبه بشكل ملحوظ بالنص المستخدم الآن على نطاق واسع بين العلماء ،أي بعد إنتاجهما له بما يزيد عن قرن . لا يعني هذا أنه ليس هناك جديد في ميدان اكتشاف المخطوطات أو أنَّه ليس هناك تقدم تم إنجازه في ميدان النظريات أو أنه ليس ثمة أي اختلافات في الآراء قد اندلعت منذ ذلك الوقت الذي عاش فيه "ويستكوت" و "هورت" . إلى الآن ، حتى مع ما حققناه من تقدم في الميدان التقني و المنهجي ، وحتى مع وجود مصادر للمخطوطات بين أيدينا هي أكبر حجمًا إذا ما قورنت بما كان لديهما ،فإن نصوصنا اليونانية اليوم تحمل تشابهًا غير العادي مع النص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و "هورت" . لن يخدم غرضي من عمل هذا الكتاب أن أدخل في نقاش موسع عن الإنجازات المنهجيَّة التي حققها كلا من "ويستكورت" و"هورت" في بناء نصٍ العهد الجديد اليوناني (30) .الميدان الذي ربما ثبتت فيه القيمة العالية لعملهما هي تجميع المخطوط . حيث إن "بنجيل" كان قد اعترف في البداية أن المخطوطات يمكن جمعها معًا في مجموعات مصنفة على أساس "عائلي" (شئ مثل أن يكتب شخص ما سلاسل نسب أفراد عائلة )، كما حاول العلماء أن يقسموا مجموعات عديدة من الشواهد إلى عائلات . كان ويستكورت و "هورت" معنيين بشدة بهذه المحاولة كذلك. وجهة نظرهم بخصوص هذه الأمر كانت مبنية على مبدأ وهو أن المخطوطات تنتمي إلى العائلة ذاتها ماداموا يتفقون في أسلوب صياغتهم . بكلمات أخرى ، لو أن مخطوطتين اشتملتا على الصياغة ذاتها لعدد ما ، ينبغي أن تكونا في النهاية منحدرتين من المصدر ذاته – إما للمخطوطة الأصلية أو إلى نسخة منها . لأن المبدأ كان أحيانًا ينصُّ على أن " التطابق في القراءة يتضمن التطابق في الأصل."
بإمكان المرء حينئذٍ أن يكوِّن مجموعات عائلية مبنيةً على التوافقات النصيَّة بين المخطوطات العديدة المحفوظة . حسب وجهة نظر "ويستكوت" و"هورت" كان ثمة أربع عائلات رئيسية من الشواهد :
(1)النص السورياني (أو ما سماه البعض الآخر من العلماء النص البيزنطي)،والتي تضم معظم المخطوطات التي ترجع إلى القرون الوسطى المتأخرة؛هناك العديد من هذا النوع لكنَّ تشابهها في الصياغة مع النص الأصلي ليس واضحًا ؛(2) النص الغربي ، يتشكل من المخطوطات التي يمكن إرجاع تاريخها إلى عصر قديم جدا- النموذج الأصلي لابد أن تاريخه كان قريبًا من وقت ما في القرن الثاني على الأقل ؛ هذه المخطوطات ،مع ذلك ، هي تجسيد لممارسات النسخ الشاذة التي كان يقترفها النُسَّاخ في هذه الفترة قبل أن يصير نسخ النصوص حرفة يشتغل بها المحترفون ؛(3) النص السكندري ، نسبة إلى الإسكندرية ،حيث تميز النساخ هناك بالخبرة و الحذر لكنهم قاموا في بعض الأحيان بتحريف النصوص من خلال تغيير صياغة الأصول ليجعلوها أكثر قبولا من الناحية النَّحْويَّة والأسلوبية ؛(4) النص المحايد ، الذي كان يتشكل من المخطوطات التي لم تكن قد مرَّت بأيِّ تغيير أو مراجعة جديَّتين أثناء نسخها بل مثَّلت نصوص المخطوطات الأصلية على وجه أدق .
النموذجان الرئيسان لهذا النص المحايد ، حسب رأي "ويستكوت" وهورت،هما المخطوطة السينائية (التي اكتشفها تشيندورف) و المخطوطة الفاتيكانية، المكتشفة داخل المكتبة الفاتيكانية.
هاتان كانتا هما المخطوطتان الأكثر قدمًا اللتان كانتا بين أيدي "ويستكوت" و"هورت" ومن وجهة نظرهما كانتا أعلى مقامًا من أي مخطوطات أخرى لأنهما يمثلان ما يعرف بالنص المحايد.
كثير من الأشياء تغيرت مصطلحاتها منذ عصر "ويستكوت" و"هورت" : لم يعُد العلماء يتحدثون عن النص المحايد ،و أدركت الغالبية أن النصَّ الغربيَّ هو تسمية خاطئة لأنَّ الممارسات النسخية الشاذة وُجِدَت في الغرب و في الشرق على حدٍ سواء.
أضف إلى ذلك أن النظام الذي وضعه "ويستكوت" و"هورت" خضع لتدقيقات قام بها العلماء اللاحقون. معظم العلماء ،على سبيل المثال ، يعتقدون أن النصين المحايد والسكندري هما شئ واحد : لكنَّ المسألة هي أن بعض المخطوطات تمثِّل هذا النص على نحوٍ أفضل من البعض الآخر .ثمَّ هناك أيضًا الاكتشافات الهامة للمخطوطات ،خاصة البرديات، التي وقعت منذ عصرهم (31). مع كل ذلك ،مايزال المنهج الأساسي لويستكورت وهورت يضطلع بدورٍ بالنسبة للعلماء الذين يحاولون أن يقرروا الموضع الذي وقعت فيه تحريفات متأخرة و الموضع الذي يمكننا أن نجد فيه المرحلة المبكرة من النص.
كما سنرى في الفصل التالي ، هذا المنهج الأساسي هو منهج فهمه يسير نسبيًاوذلك لأنَّه قد صِيغَ بشكل واضح. تطبيقه على المشكلات النصيَّة يمكن أن يكون ممتعًا بل وحتى مسليًّا حينما نعمل على تحديد أي القراءات المتباينة في مخطوطاتنا يمثِّل كلمات النص كما كتبته أيادي مؤلفيه وأيها يمثِّل التغييرات التي اقترفها النساخ المتأخرون .



نهايـــة الفصل الرابع ولله الحمد والمنة

هوامـــش الفصل الرابع


(1) للاطلاع على دراسة كلاسيكية ترصد الطريقة التي فُهِمَ بها الكتاب المقدس وتم التعامل معه من خلالها في القرون الوسطى ، انظر كتاب بيرللي سمالي (Beryl Smalley) " دراسة الكتاب المقدس في العصور الوسطى" (The Study of the Bible in the Middle Ages) (من مطبوعات دار كلارندون ،أكسفورد،1941 ).
(2) ريتشارد سيمون ( Richard Simon) ،"تاريخ نقدي لنص العهد الجديد" (A Critical History of the Text of the New Testament) (لندن : ر.تايلور ،1689 ) ، في المقدمة .
(3) سيمون "تاريخ نقدي" جزء 1 ، ص 65 .
(4) سيمون "تاريخ نقدي" جزء 1 ، ص 30-31 .
(5) سيمون "تاريخ نقدي" جزء 1 ، ص 31 .
(6) قام جورج وارنر كومل باقتباس هذه الفقرة في كتابه " العهد الجديد : تاريخ بحث مشكلاته " (he New Testament: The History of the Investigation of Its Problems) (ناشفيل :مطبعة أبينجدون ،1972 )، ص 41 .
(7) السيرة الذاتية الكاملة التي نعتمد عليها ما تزال هي تلك التي كتبها حيمس هنري مونك في كتابه ،حياة ريتشارد بنتلي، الصادر في مجلدين (لندن: ريفنجتون، 1833 ).
(8) هذه الفقرة مقتبسة من كتاب مونك ،حياة بنتلي ، 1 : 398 .
(9) مونك ، حياة بنتلي، 399 .
(10) مقترحات لطباعة طبعة جديدة من العهد الجديد اليوناني و نسخة القديس هيرومز اللاتينية (لندن، عام 1721 )، ص 3.
(11) انظر ،حياة بنتلي ، لمونك المجلد 2 : 130 – 133 .
(12) مونك ،حياة بنتلي ،ص 136 .
(13) مونك ،حياة بنتلي ،ص 135 – 137 .
(14) للاطلاع على سيرته كاملة ، انظر كتاب جون سي .إف.بروك ،سيرة حياة و كتابات جون ألبرت بينجيل،(لندن : ر.جلادينج ،1842 ).
(15) المرجع السابق ،ص 316 .
(16) رأينا هذا المبدأ موضع البحث بالفعل ، انظر الأمثلة في مرقس 1 : 2 ، و متى 24 : 36 التي نوقشت في الفصل ال3 .
(17) سي.إل.هالبرت باول ، جون جيمس فيتشتاين،1693 -1754 :قصة حياته ، عمله ، وبعض معاصريه (لندن:سباك،1938 )،ص 15 ، و 17 .
º هذه هي ترجمتي لهذه الجملة حسب فهمي لها والله أعلى وأعلم :
For Wettstein, these texts in fact had been altered precisely in order to incorporate that perspective: the original texts could not be used in support of it.
(18) هالبرت باول ، جون جيمس فيتشتاين،ص 43 .
(19) لاخمان معروف في الحوليات الثقافية بأنه الشخص الذي ، أكثر من أي أحد سواه ،ابتكر منهجًا لأجل تكوين العلاقة النَسَبيَّة بين المخطوطات في التقليد النصي للمؤلفين الكلاسيكيين. اهتمامات الأولية في مجال عمله لم يكن ، في حقيقة الأمر، لها علاقة بكتابات العهد الجديد، لكنه رأى بالفعل أن هذه الكتابات تفرض عليه تحدِّيًا فريدًا وممتعًا لعلماء النصوص.
(20) هذه الفقرة مقتبسة من كتاب "نص العهد الجديد" لميتزجر و إرمان ،ص 172 .
(21) قنسطنطين فون تشيندورف ،متى كتبت أناجيلنا؟( When Were Our Gospels Written?)(لندن :ذا ريليجيوس تراكت سوسايتي، 1866 )ص 23 .
(22) المصدر السابق ، ص 29 .
(23) حتى يومنا هذا ما يزال رهبان دير سانت كاترين يصرُّون على أن تشيندورف لم "يعطَ" المخطوطة وإنما فرَّ بها .
(24) منذ عصر تشيندورف ،اكتشفت مخطوطات أكثر أهمية . على وجه الخصوص ، طوال القرن العشرين كشف الأثريون عن عدد من المخطوطات المكتوبة على ورق البردي ، التي يرجع تاريخها إلى ما هو أقدم من المخطوطة السينائية بـ 150 عامًا. معظم هذه البرديات هي على شكل كِسَر ، لكنَّ بعضها كامل . حتى الآن ،حوالي 116 بردية تم الكشف عنها ووضعت في فهارس ؛ هذه ال116 بردية تضم أجزاء من غالبية كتب العهد الجديد.
(25) من كتاب "تشيندورف" (طبع عام 1876 في مكتبة " Bibliotheca Sacra 33 " )لكاسبر ر.جريجوري ، ص153 -193 .
(26) حياة ورسائل فينتون جون أنتوني "هورت" ، من تأليف أرثر فينتون هورت(لندن:مطبعة ماكميلان ،1896 )،ص 211 .
(27) المرجع السابق ،ص 250 .
(28) المرجع السابق ،ص 264 .
(29) المرجع السابق ،ص 455 .
(30) للاطلاع على موجز لهذه المبادئ في نقد النصوص التي استخدمها "ويستكوت" و "هورت" في تأليف نصهم من العهد الجديد ، انظر كتاب، "نص العهد الجديد"،لميتزجر و إرمان ،ص 174- 181 .
(31) انظر الهامش رقم 24 في الأعلى .


  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:32 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 17
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


الأصول هي الأهم

في هذا الفصل سنقوم بإلقاء الضوء على المناهج التي أنتجها العلماء لكي يصلوا إلى الشكل " الأصليّ" من النص (أو على الأقل "أقدم ما يمكن الحصول عليه" من هذا الشكل ) و ليصلوا إلى شكل النص الذي يجسد التحريف الذي أحدثه النسَّاخ في العصور التالية. بعد توضيح هذه المناهج ،سأشرح ،عبر التركيز على ثلاث قراءات نصيَّة متباينة موجودة في التقليد المخطوط لعهدنا الجديد ، كيف يمكننا استخدام هذه المناهج. لقد اخترت هذه الأمثلة الثلاثة لأنَّ كل واحدٍ منها له أهميته البالغة في تفسير السفر الذي يحتويه؛ فوق ذلك ، ليس هناك وجود لأيٍّ من هذه القراءات في الغالبية الساحقة من ترجماتنا الإنجليزية المعاصرة للعهد الجديد. أي أنَّ هذه الترجمات التي يستخدمها غالبية القارئين بالإنجليزية بمعنى آخر ،وحسب وجهة نظري، هي تعتمد على النص الخطأ ،واعتمادها على النص الخطأ يشكل فارقًا كبيرًا عند تفسير الأسفار .
في البداية ينبغي أنَّ نتعرض للمناهج التي طوَّرها العلماء لتساعدهم على تحديد أيِّ القراءات النصيَّة تمثِّل القراءة الأصلية وأيُّها يمثل التغييرات التي أحدثها النسَّاخ في عصور متأخرة. كما سنرى ، ليس بناء شكل أقدم من النص بالأمر اليسير دائمًا ؛ بل قد يكون ممارسة مرهقة .


المناهج المعاصرة للنقد النصيّ

أكثرية علماء النقد النصيّ اليوم عندما يصلون إلى مرحلة اتخاذ القرارات بخصوص الشكل الأقدم من النص سيطلقون على أنفسهم اسم الانتقائيين العقلانيين(rational eclecticists) . هذا يعني أنهم "ينتقون" ( وهو معنى كلمة " eclectic ") القراءة النصيَّة التي تعبر أفضل تعبير عن الشكل الأقدم من النص وذلك من بين العديد من القراءات النصيَّة مستخدمين لفعل ذلك مجموعة من الحجج النصيَّة (العقلانية). هذه الحجج تعتمد على دليل يتم تقسيمه عادةً إما إلى دليل خارجيّ أو داخليّ حسب طبيعته .

الدليل الخارجيّ

البراهين المبنية على أدلة خارجية تعني تأييد إحدى المخطوطات الموجودة لهذه القراءة أو لتلك .ما هي المخطوطات التي يمكنها أنَّ تشهد على صحة قراءة ؟هل هذه المخطوطات يمكن الاعتماد عليها؟ وعلى أيِّ أساسٍ بُني هذا التقسيم..أي إلى مخطوطة يمكن الاعتماد عليها وأخرى لا يمكن الاعتماد عليها ؟
عند التفكير في المخطوطات التي تدعم قراءة ما على حساب القراءة الأخرى ، ربما دُفِع المرء منا ببساطة إلى أنَّ يبذل جهدًا خارقًا لكي يرى أيَّ القراءة المتباينة لها وجود في غالبية الشواهد (أي المخطوطات)الموجودة . معظم العلماء اليوم ،رغم ذلك ، ليسوا مقتنعين تمامًا بأن غالبية المخطوطات هي بالضرورة ما يمنحنا أفضل نصِّ متاح . من اليسير تفسير السبب وراء ذلك من خلال بعض التوضيحات . فلنفترض أنه بعد أنَّ كُتِبَت المخطوطة الأصلية التي تحوي نصًا ما، نسخت منها نسختان ،ربما نطلق عليهما الاسمين ( أ) و (ب). هاتان النسختان ،بطبيعة الحال ،سيكون بينهما اختلافات بطريقة أو بأخرى – ربما هي اختلافات هامة و على الأرجح هي اختلافات يسيرة . الآن لنفترض أنَّ النسخة (أ) قد نسخت من خلال ناسخ واحد آخر فقط ، لكنّ النسخة (ب) نسخت من خلال خمسين ناسخ .ثم حدث أنَّ فقدت المخطوطة الأصلية ،وكذلك النسختان (أ) و (ب)،ليصبح ما تبقى لدينا في شكل تقليد نصيّ هما الواحد والخمسون نسخة التي تمثل الجيل الثاني ،واحدة منهم نسخت من النسخة (أ) و الخمسون الباقية تم نسخهم من النسخة (ب). لو أنَّ إحدى القراءات موجودة في المخطوطات الخمسين تختلف عن قراءة موجودة في المخطوطة الوحيدة (المنسوخة من (أ))، فهل القراءة الأولى منهما (أي الموجودة في الخمسين نسخة) بالضرورة هي الأكثر احتمالا أنَّ تكون القراءة الأصلية ؟لا ، على الإطلاق – حتى لو ثبت أنها متكررة في الشواهد الخمسين خمسين مرة . في الواقع ، الفارق النهائي الذي يدعم تلك القراءة ليس نسبة خمسين إلى واحد . بل الفارق هو بنسبة واحد إلى واحد (أ في مقابل ب ). قضية عدد المخطوطات التي تدعم قراءة على أخرى في حد ذاتها ،لهذه الأسباب، ليست وثيقة الصلة تحديدًا بمسألة تحديد أيِّ القراءات الموجودة في مخطوطاتنا المحفوظة هي التي تمثِّل الشكل الأصلي (أو الأقدم) من النص .
العلماء على وجه العموم مقتنعون ،لهذه الأسباب، أنَّ اعتباراتٍ أخرى هي الأكثر أهمية عند تحديد أيِّ القراءات هي الأَوْلَى بأن تعتبر الشكل الأقدم من النص .
إحدى هذه الاعتبارت الأخرى هي عُمْرُ المخطوطة التي تدعم قراءة ما . أنَّ العثور على الشكل الأقدم من النص في المخطوطات الأقدم هو أمر كبير الاحتمال- بالوضع في الاعتبار أنه من المألوف جدا أنَّ يزيد مرور الزمن حجم التغييرات التي تتعرض لها المخطوطة . هذا بطبيعة الحال لا يعني أننا نقول أنَّ المخطوطات الأقدم يجب اتباعها بلا أي نقاش في كل الحالات . وهذا لسببين اثنين ، أولهما سبب منطقي والثاني سبب تاريخيّ. أمَّا عن السبب المنطقي ،فلنفترض أنَّ مخطوطة من القرن الخامس تشتمل على قراءة واحدة ،بينما تحتوي مخطوطة من القرن الثامن على قراءة مختلفة . فهل يلزم أنَّ تكون القراءة الموجودة في مخطوطة القرن الخامس هي التي تمثِّل الشكل الأقدم من النص ؟ لا ، ذلك غير لازم . ماذا لو أنَّ مخطوطة القرن الخامس قد تمَّ نسخُها من نسخة أخرى يرجع تاريخها إلى القرن الخامس ، بينما الأخرى التي تنتمي إلى القرن الثامن قد نسخت من نسخة ترجع إلى القرن الثالث ؟ في تلك الحالة ، مخطوطة القرن الثامن هي التي ستحتوي على القراءة الأقدم .
السبب الثاني ،أي ذو البعد التاريخي ، في أنَّ المرء لا يمكن ببساطة أنَّ ينظر إلى ما تقوله المخطوطة الأقدم، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، هو أنَّ المرحلة المبكرة من مراحل نسخ النصوص ،كما رأينا من قبل ، كانت أيضًا أقل المراحل انضباطًا . ففي تلك المرحلة كان النسَّاخ غير المحترفين في أغلب الأحيان هم من تولّوا أمر نسخ نصوصنا – وضمَّنوها الكثير من الأخطاء . لذلك ، فعمر المخطوطة له أهميته ،لكنه ليس المعيار المطلق . هذا ما يجعل غالبية نقاد النصوص "انتقائيين عقلانيين". فهم يعتقدون أنَّ سوق عدد كبير من الحجج تدعيمًا لهذه القراءة أو تلك هو شئٌ ضروريّ ، وليس الاعتماد ببساطة على عدد المخطوطات أو أقدمها فحسب . مع ذلك ،وبعد أخذ كل هذه الأمور في الاعتبار،لو أنَّ غالبية مخطوطاتنا الأقدم تدعم قراءة ما ضد الأخرى فمن المؤكد أنَّ هذه العوامل مجتمعة ينبغي أنَّ ينظر إليها باعتبارها تمثل أهمية في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالنص .
ملمح آخر يتميز به الدليل الخارجي وهو النطاق الجغرافي للمخطوطات الذي يدعم قراءة ما أكثر من القراءة الأخرى . فلنفترض أنَّ قراءة ما وجدت في عددٍ من المخطوطات ، لكنَّ هذه المخطوطات كلها من الواضح أنَّ مكان نسخها يرجع ،فلنقل ،إلى روما ، بينما عددٌ كبيرٌ من المخطوطات الأخرى يرجع أصلها إلى مصر وفلسطين و آسيا الصغرى وبلاد الغال يعطي قراءة أخرى . ففي هذه الحالة ،لابد أنَّ يرتاب الناقد في أنَّ القراءة الأولى هي اختلاف يعود إلى أسباب " محلِّيَّة" (أي أنَّ النسخ التي أنتجت في روما كلها تحمل الخطأ ذاته ) وأنَّ القراءة الأخرى هي القراءة الأقدم ومن المحتمل أكثر أنها تتضمن النصَّ الأصليّ.
من الراجح أنَّ المعيار الخارجي الأكثر أهميَّة الذي يتبعه العلماء هو التالي :
لكي يُنْظَر إلى قراءة ما باعتبارها القراءة "الأصلية"، فلابد أنَّ يعثر عليها في أفضل المخطوطات وفي أفضل مجموعات المخطوطات . لكنه أيضًا معيارٌ خادعٌ آخرُ ، لكنه يستخدم على النحو التالي : بعض المخطوطات يمكن ،لأسباب عديدة،إثبات أنها أعلى قيمةً من المخطوطات الأخرى . فعلى سبيل المثال ،متى يكون الدليل الداخلي (سنناقشه فيما بعد) حاسمًا في تدعيمه لقراءة ما، فإن هذه المخطوطات(أي الأعلى قيمة)غالبًا ودائمًا ما تحتوي هذه القراءة ، بينما المخطوطات الأخرى ،والتي عادةً ما تكون ،كما سنوضِّح، مخطوطات أحدث عمرًا، تتضمن القراءة المغايرة . المبدأ الذي يهمنا هنا هو أنه لو عُرِفَ عن بعض المخطوطات أنها الأعلى قيمة من ناحية ما تحويه من قراءات عندما يكون الشكل الأقدم واضحًا ، فمن المحتمل أكثر أنَّ تكون هذه المخطوطات هي الأعلى مقامًا أيضًا في القراءات التي يكون دعم الدليل الداخلي لها ليس بالقدر ذاته من الوضوح . هذا يشبه ،إلى حدٍ ما ،أن يكون لديك شهودٌ في محكمة أو أنَّ يكون لديك أصحاب تثق في وعودهم . عندما تعرف أنَّ شخصًا ما يميل إلى الكذب ، فلن تتمكن أبدًا من التأكد أنه يمكن أنَّ يوثق به ؛ لكنك لو علمت أنَّ شخصًا ما موثوق به تمامًا ، فإنك حينئذ تستطيع أنَّ تثق بصدقه حتى عندما يخبرك بشئ ما لا يمكنك التأكُّد منه بطريقة أخرى .
هذا الأمر ذاته ينطبق على مجموعات الشواهد. فقد رأينا في الفصل الرابع أنَّ "ويستكوت" و "هورت" طوَّرا الفكرة التي توصل إليها "بنجيل" حول أنَّ المخطوطات يمكن تقسيمها إلى مجموعات من العائلات النصيَّة . بعض هذه المجموعات النصيَّة ، كما سيتضح ، يمكن الوثوق بكونها تحتفظ بأفضل و أقدم شواهدنا المحفوظة أكثر مما تفعله بعض المجموعات الأخرى ،و أنَّ الدليل قد قام ، عند اختبارها ،على أنها تقدم القراءات الأفضل قيمة .
غالبية الانتقائيين العقلانيين،على وجه الخصوص ،يعتقدون أنَّ النص السكندري المزعوم (يشمل ما سمَّاه "هورت" النص " المحايد")،الذي كان في الأساس مقترنًا بالممارسات النسخيَّة المنضبطة التي مارسها النساخ المسيحيون في الإسكندرية في مصر ، هو الشكل الأعلى مقامًا بين النصوص المتاحة لنا ، وهو في أغلب الحالات يزوِّدُنا بالنص الأقدم أو "الأصلي" في أي موضع يوجد فيه قراءات متباينة . النصان "البيزنطي" و "الغربي" ، من ناحية أخرى ، من المحتمل بصورة أقل أنَّ يحتفظا بأفضل القراءات عندما لا يكونان مدعومين بالمخطوطات السكندرية .
الدليل الداخلي

يعتبر علماء النقد النصي أنفسهم انتقائيين عقلانيين وذلك لأنهم يقومون بالاختيار من بين عدد كبير من القراءات التي تعتمد على عددٍ من أجزاء الدليل(a number of pieces of evidence).فبالإضافة إلى الدليل الخارجي الذي تقدمه لنا المخطوطات ،هناك نوعان من الأدلة الداخلية يستخدمان بصورة نمطية . النوع الأول يتعلق بما يعرف باسم الاحتمالات الداخلية (intrinsic probabilities)- أي الاحتمالات المبنية على ما تأكد لدينا تقريبًا أنه مما كتبه المؤلف نفسه . بالطبع يمكننا أنَّ ندرس أسلوب الكتابة ومفردات اللغة و العقيدة اللاهوتية التي يستخدمها مؤلف ما . وعندما تحتفظ المخطوطات لنا بقراءة أو بقراءتين متباينتين وإحداها تستخدم الكلمات و الخواص الأسلوبية التي لا توجد في عمل ذلك المؤلف ،أو لو أنها تمثل وجهة نظر تختلف تماما مع تلك التي يعتنقها هذا المؤلف ، فمن غير المحتمل في هذه الحالة أنَّ تكون هذه القراءة هي مما كتبه المؤلف – خاصة لو أنَّ قراءة أخرى ثبتت موثوقيتها تطابقت تمامًا مع كتابات المؤلف في مكان آخر.
النوع الآخر من أنواع الدليل الداخلي يسمى الاحتمال النسخي (transcriptional probability) . هذا الدليل لا يبحث عن القراءة التي ربما كتبها المؤلف فحسب، بل أيضًا عن تحديد القراءة التي من المحتمل أنَّ يكون الناسخ قد أدخلها.
أخيرًا ، هذا النوع من الدليل أصله فكرة جاء بها بينجيل كانت تنصُّ على أنَّ القراءة "الأكثر صعوبة" هي على الأرجح القراءة الأصلية. هذه النظرية مبنية على فكرة أنَّ النسَّاخ على الأرجح يحاولون تصحيح ما يرون أنه يمثل أخطاءً ويحاولون التوفيق بين الفقرات التي يرونها متناقضة ، وليِّ عنق العقيدة اللاهوتية التي يحتويها النص لتتوافق مع العقائد اللاهوتيَّة التي يؤمنون بها . أما القراءات التي ربما بدت ظاهريًّا وكأنها تحتوي على "خطأ " أو يعوزها الانسجام أو كانت تشتمل على عقيدة لاهوتية غريبة ،فإنها أكثر عرضة لأن يغيرها أحد النسّاخ من تلك القراءات " الأسهل". هذا المعيار ربما يتمُّ التعبير في بعض الأحيان كالتالي:
القراءة التي تفسر وجود القراءات الأخرى بأفضل ما يكون هي الأولى باعتبارها القراءة الأصليَّة .
لقد عرضت أشكالا عديدة للدليل الداخلي و الخارجي المعتبرة لدى النقاد النصِّيين ليس لأنني أتوقع من أي شخص يقرأ هذه الصفحات أنَّ يتقن هذه المبادئ وأنَّ يبدأ في تطبيقها على تقليد العهد الجديد المخطوط ،بل لأنه من المهم،عندما نحاول أنَّ نحدِّد الماهية التي كان عليها النص الأصليّ ، أنَّ نعترف بأن عددًا كبيرًا من هذه الاعتبارات لابد من وضعها في الحسبان وأنَّ كثيرًا من القرارات المبنيَّة على التقديرات الشخصية لابد من اتخاذها . فهناك أوقات يحدث فيها تناقض بين أجزاء الدليل أحدها مع الآخر ،على سبيل المثال ،حينما لا تكون القراءة الأكثر صعوبة (حسب نظرية احتمالات الناسخ)مدعومة جيدًا داخل المخطوطات (التي تمثل الدليل الخارجي )،أو عندما تكون القراءات الأكثر صعوبة غير متوافقة مع أسلوب الكتابة الذي يتميز بها الكاتب أيضًا (الاحتمالات الداخلية).
باختصار، تحديد النص الأصلي ليس بالأمر اليسير ولا بالأمر الصريح ! بل يتطلب كثيرًا من التأمل في الدليل و التمحيص الحَذِرِ له، والعلماء المختلفون دائمًا ما يصلون إلى استنتاجات مختلفة –ليس فقط فيما يتعلق بالأمور الثانويَّة التي لا تؤثر على معنى الفقرة (مثل تهجئة كلمة ما أو تغيير ترتيب الكلمات المكتوبة باليونانية والتي لا يمكن حتى أنَّ يكون لها أي تأثيرٍ على الترجمة الإنجليزية)، و إنما فيما يتعلق بالأمور ذات الأهمية القصوى ، التي تؤثر على تفسير سفرٍ كاملٍ من أسفار العهد الجديد .
ولتوضيح الأهمية التي تتسم بها بعض القرارت التي تتعلق بالنصوص ، سأنتقل الآن إلى ثلاث قراءات نصيَّة متباينة من النوع الأخير ،حين يكون لتحديد النص الأصلي تأثيرٌ بالغٌ على الكيفية التي تُفهم بها الرسالة التي يريد إيصالها بعض مؤلفي العهد الجديد . أعتقد أنَّ غالبية المترجمين إلى الإنجليزية في هذه الحالات الثلاث ،كما سيتضح ،قد اختاروا القراءة غير السليمة ولم يقدموا لنا ترجمة النص الأصلي وإنما ترجمة النص الذي اختلقه النُسَّاخ حينما حرَّفوا النصَّ الأصليّ. أول هذه النصوص يأتي من مرقس و هو ذو علاقة بغضب يسوع حينما استعطفه فقير مصاب بالبرص ليعالجه .

قصة مرقس مع يسوع الغاضب

مشكلة النص في مرقس 1 : 41 نجدها في قصة شفاء يسوع لرجل يعاني من مرضٍ جلديّ . المخطوطات الموجودة تحتفظ بشكلين مختلفين للعدد 41 ؛ القراءتان كلتاهما موضحتان هنا بين قوسين :
فجاء ليكرِّز في مجامعهم في كل الجليل و يخرج الشياطين.فأتى إليه أبرص يتضرع إليه ويقول له :"إن ترِدْ ، تقدر أنَّ تطهرني." ،فشعر بالشفقة عليه (المقابل اليوناني هو : SPLANGNISTHEIS) أو فشعر بالغضب ( والمقابل اليوناني لها هو: ORGISTHEIS)،ومدَّ يده إليه ولمسه وقال :" أريد ، فاطهر ." فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ وَقَالَ لَهُ: «انْظُرْ لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ الْخَبَرَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أنَّ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
معظم الترجمات الإنجليزية تترجم بداية العدد 41 بطريقة تؤكِّد على محبة يسوع لهذا الأبرص الفقير المنبوذ : "الشعور بالشفقة"( أو يمكن ترجمة الكلمة بأنه " تحرك بدافع الشفقة") عليه . وفي سبيل قيامهم بهذا ،سارت هذه الترجمات وراء النص اليوناني الموجود في معظم المخطوطات التي لدينا .بالتأكيد من السهل أنَّ نعرف السبب الذي استخدمت من أجله عاطفة الشفقة في هذا الموقف . لا نعرف طبيعة المرض الذي ألمَّ بالرجل على سبيل الدقة – يفضل بعض المفسرين أنَّ يعتبروه برصًا ( اختلال في الجلد يظهر على شكل قشور )بدلا من اعتباره نوعًا من الإصابة باهتراء في لحم جسم الإنسان نسميه في العادة جذامًا . على أية حال ، من المحتمل جدًا أنَّ يكون هذا المريض قد خضع لأوامر الشريعة التوراتية التي تحظر على" المجذوم" أنَّ يعيش أيَّ حياةٍ طبيعيةٍ ؛ لقد كان مفروضًا عليهم أنَّ يعيشوا عيش المنبوذين ، معزولين عن المجتمع ،فقد اعتبروا أنجاسًا( سفر اللاويين 13 – 14 ). ولشعوره بالشفقة تجاه شخص على هذه الحال ،يمدَّ يسوع يده بلمسة حنونة ليلمس لحمه المصاب وليشفيه .
الشفقة الطبيعية و الشعور الخالي من أي تعقيد الذي احتواه هذا المشهد ربما يفسر ،في الغالب ، سبب عدم اعتداد المفسرين والمترجمين بالنص الآخر الذي وجد في بعض مخطوطاتنا. هناك تعبير ورد في أحد أقدم شواهدنا ،المسمى مخطوطة بيزا، ويدعمه ثلاث مخطوطات لاتينية يمثِّل في البداية صياغة محيِّرة و مشوَّهَة . فهنا ،بدلا من القول أنَّ يسوع شعر تجاه الرجل بالشفقة ،يشير النص إلى أنه استشاط غضبًا . في اليونانية هنا فارق بين كلمتي (SPLANGNISTHEIS) و (ORGISTHEIS) . فبسبب وجودها في الشواهد اليونانية واللاتينية ، يسلم المتخصصون في النصوص بأن تاريخ هذه القراءة الثانية يرجع إلى القرن الثاني على الأقل . فهل من الممكن ، مع ذلك ، أنَّ تكون هذه هي القراءة التي كتبها مرقس نفسه ؟
كما رأينا بالفعل ، ليس صحيحًا أبدًا أنَّ نقول إنه عندما تحتوي الغالبية الساحقة من المخطوطات قراءة ما بينما تحتوي مخطوطتان فحسب القراءة الأخرى ، فإن قراءة الغالبية هي الصحيحة .في بعض الأحيان يكون العدد القليل من المخطوطات هو الذي يحتوي القراءة الصحيحة حتى عندما لا تتفق معه المخطوطات الأخرى جميعًا . إلى حدٍ ما ،هذا يكون سببه أنَّ الغالبية الساحقة من مخطوطاتنا يبعد تاريخ كتباتها عن تاريخ كتابة الأصول بالمئات والمئات من السنوات، وأنها قد تم نسخها من نسخ أخرى أحدث كثيرًا وليس من الأصول. بمجرد أنَّ يجد أحد التحريفات طريقه إلى التقليد المخطوط ، ربما يستقر فيه إلى الأبد ليصبح أوسع انتشارًا من التعبير الأصلي . في حالة كهذه ، القراءتان كلتاهما نعتبرهما تبدوان قديمتين للغاية . فأيُّ القراءتين هي القراءة الأصلية ؟
لو أنَّ قارئا مسيحيًّا خُيِّر اليوم بين هاتين القراءتين ، لا شك أنَّ كل شخص في الغالب سيختار القراءة الأكثر وجودًا في مخطوطاتنا : شعر يسوع بالشفقة تجاه هذا الرجل ، و شفاه .أما القراءة الأخرى فمن الصعب تصورُّها :فما معنى أنَّ يقال أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ أليس هذا وحده سببًا كافيًا للافتراض أنَّ مرقس قد كتب أنَّ يسوع شعر بالشفقة ؟
على العكس ، فحقيقة أنَّ إحدى القراءتين تعطي معنى مفيدًَا و أنه من السهل فهمها هي بالتحديد ما جعل بعض العلماء يرتابون في كونها قراءة غير أصلية ، لأن النساخ ،كما رأينا ،كانوا ليفضلوا أنَّ يكون فهمُ النص سهلا وغير معقد . إلا أنَّ السؤال الذي ينبغي أنَّ يسأل هو كالتالي:ما هو الأمر المنطقي بدرجة أكبر ،أن يغيِّر الناسخُ النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالغضب ليجعله يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ، أم أنَّ يغير النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ليجعله يقول إنه شعر بالغضب ؟ أي القراءتين تفسر وجود الآخر بصورة أفضل ؟ عندما ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية ،نجد القراءة الأخيرة هي الأكثر احتمالا . القراءة التي تشير إلى أنَّ يسوع شعر بالغضب هي القراءة " الأكثر صعوبة " ولذلك هي الأكثر احتمالا لأن تكون النص " الأصلي " . هناك دليل آخر أفضل من هذا السؤال النظري عن أيِّ القراءتين من المحتمل أنَّ يكون النساخ قد لفَّقوها . كما سيتضح ،ليس لدينا أي مخطوطة يونانية لمرقس تحتوي هذه الفقرة حتى نهاية القرن الرابع ،أي بعد ثلاثة قرون تقريبًا من تاريخ تأليف هذا السفر .لكننا بالفعل لدينا مؤلِّفان قاما بنسخ هذه القصة في العشرين عاما التي تلت تاريخ تأليفها الأول.
اعترف العلماء لفترة طويلة أنَّ مرقس هو أول الأناجيل تأليفًا ، وأنَّ متى و لوقا كليهما استخدما رواية مرقس كمصدر للقصص التي حكياها عن يسوع . من الممكن ، إذن ، أنَّ نتفحص إنجيلي متى و لوقا لنعرف كيف قاما بتغيير نص مرقس في المواضع التي حكيا فيها القصة ذاتها ولكن بطريقة مختلفة (إن بدرجة أكبر أو أقل). حينما نفعل هذا ، نجد أنَّ متى ولوقا اقتبسا هذه القصة الواردة في مرقس . من اللافت للنظر أنَّ متى و لوقا قد اتَّبعا ما كتبه مرقس حول طلب الأبرص و رد يسوع في العددين 40 – 41 تقريبا كلمة بالكلمة . فأي كلمة يا ترى استخدماها لوصف رد فعل يسوع ؟ المثير للدهشة أنَّ متى ولوقا قاما كلاهما بحذف الكلمة تمامًا . إذا كان النص المرقسيُّ الذي كان بين يديِّ متى و لوقا قد وصف يسوع بأنه شعر بالشفقة ، فلماذا يحذف الرجلان كلاهما هذه الكلمة ؟متَّى و لوقا يصفان يسوع في مكان آخر بأنه شفوق ، وكلما وجدت في إنجيل مرقس قصة يُذْكَرُ فيها بوضوح الشفقة التي كان يتصف بها يسوع ، فهذا الرجل أو الآخر يحتفظ بالوصف كما هو في روايته . لكن ماذا عن الاحتمال الآخر ؟ ماذا لو أنَّ متى و لوقا قد قرءا في إنجيل مرقس أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ فهل كانا ميَّالَيْن إلى التخلص من هذا الشعور ؟ هناك مناسبات أخرى ،في الواقع ،وردت في إنجيل مرقس يصبح فيها يسوع غاضبًا . في كل مناسبة من هذه المناسبات ، قام متى و لوقا بتعديل الروايات . ففي مرقس 3 : 5 ينظر يسوع حوله " بغضب" إلى الموجودين في المجمع الذين كانوا يراقبونه ليروا ما إذا كان سيعالج الرجل ذا اليد اليابسة . هذا العدد في إنجيل لوقا متشابه تقريبا مع العدد الموازي في مرقس ، لكنَّ لوقا يحذف الإشارة إلى غضب يسوع .أما متَّى ، فقد أعاد كتابة هذا القسم من القصة ولم يذكر أيَّ شئ عن يسوع الغاضب . وعلى نحو مماثل ،في مرقس 10 – 14 يشتدُّ يسوع على تلاميذه (استخدمت هنا كلمة يونانية مختلفة) لمنعهم الناس من إدخال أطفالهم إليه لكي يباركهم . متى و لوقا كلاهما يرويان القصة ،بالحرف الواحد في الغالب، لكنهما يحذفان الإشارة إلى غضب يسوع (متى 19 – 14 ؛ لوقا 18 : 16 ). في المحصلة ، لا يشعر متَّى ولوقا بأي وخزٍ في الضمير حينما يصفان يسوع بكونه شفوقًا ، لكنهما أبدًا لم يصفاه باعتباره غاضبًا . فكلما وصف واحدٌ من مصادرهم (أي مرقس) يسوع بذلك ، كلما أعاد كلا الرجلين كلٌ على حدى حذف التعبير من روايتهما . لذلك ، في حين أنه من الصعب إيجاد مبرر يجعلهما يحذفان "الشعور بالشفقة" من روايتهما لحادثة علاج يسوع للمجذوم ، فإنه من السهولة بمكان تفهُّم أسباب رغبتهم في حذف " الشعور بالغضب ." فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ التعبير الأخير (أي الشعور بالغضب) هو الذي ورد في سلسلة قديمة جدا من المخطوطات وأنه من غير المحتمل أنَّ يكون النساخ قد اختلقوا هذا التعبير كبديل عن التعبير الآخر الذي يمكن فهمه بسهولة أكبر (أي الشعور بالشفقة) ، يصبح من الواضح بشكل أكبر أنَّ مرقس ،في واقع الأمر ،وصف يسوع بأنه قد غضب عندما اقترب منه المجذوم طلبًا للشفاء .
قبل أنَّ نغادر هذه المسألة هناك أمر آخر يجب التأكيد عليه . أشرت إلى أنَّه في حين أنَّ متَّى ولوقا كانا يشعران بصعوبة في وصف يسوع بالغضب ،لم يكن لدى مرقس أي مشكلة في ذلك . حتى في القصة موضع الدراسة ، وبعيدًا عن المشكلة النصيَّة المتعلقة بالعدد 41 ، لم يعالج يسوع هذا المجذوم الفقير بطريقة إنسانية . فبعد أنَّ شفاه ، "وبَّخه بشدة " "وطرده ". وهاتان القراءتان هما الترجمة الحرفية للكلمات اليونانية والتي عادةً ما تخضع لعملية " تلطيف" في الترجمات . إنها تعبيرات قاسية ، استخدمت على الدوام في كل موضعٍ آخر في مرقس في سياقات صراع و عدوان عنيفين ( على سبيل المثال عندما يطرد يسوع الشياطين).
من الصعب أنَّ نتصور السبب الذي يجعل يسوع يقوم بتوبيخ هذا الشخص و بطرده لو كان يشعر تجاهه بالشفقة ؛ لكنَّه لو كان غاضبًا ، فلربما كان الأمر أكثر منطقيًّة .
فعلامَ إذن غضب يسوع ؟ هنا تتضح أهمية العلاقة بين النص والتفسير. بعض العلماء ممن فضَّلوا النص الذي يشير إلى أنَّ يسوع "أحس بالغضب" في هذه الفقرة توصلوا إلى تفسيرات بعيدة الاحتمال إلى حدٍ بعيد . يبدو أنَّ هدفهم من وراء ذلك هو أنَّ يبرروا هذا الشعور من خلال إظهار يسوع في مظهر الشفوق حتى مع إدراكهم أنَّ النص يقول إنه شعر بالغضب . أحد المفسرين ، على سبيل المثال ،يجادل بقوله إنَّ يسوع كان غاضبًا على العالم الملئ بالمرض ؛ بكلمات أخرى ، هو يحب المريض لكنه يكره المرض .ليس هناك أساس نصِّيٌّ لهذا التفسير ، لكنه يملك مزيَّة جعله يسوعَ يبدو في صورة جيدة .مفسرٌ آخرُ يجادل بقوله إنَّ يسوع غاضبٌ لأن هذا المجذوم كان منبوذًا من المجتمع ، متجاهلا حقيقة أنَّ النص لا يقول أيَّ شئ عن كون الرجل منبوذًا و أنه حتى إذا افترضنا أنَّ النص يقول ذلك ،فإن ذلك ليس ذنب المجتمع الذي يعيش فيه يسوع وإنما سبب ذلك هو شريعة الله (خاصة سفر اللاويين ). آخر يجادل في أنَّ سبب غضب يسوع هو،في حقيقة الأمر،أن شريعة موسى تجبر هذا النوع من الناس على الانعزال . هذا التفسير يتجاهل حقيقة أنه في خاتمة الفقرة (عدد 44 ) يؤكِّد يسوع على شريعة موسى و يحثُّ المجذوم بعد شفائه على أنَّ يلتزم بها .
كل هذه التفسيرات لديها رغبة عامة في التلطيف من غضب يسوع و لديها العزم على القفز فوق النص من أجل الوصول إلى هذه الغاية . فإذا فعلنا عكسهم ، فماذا ستكون النتيجة ؟ يبدو لي أنَّ ثمَّة خيارين اثنين ، أولهما يركِّزُ على السياق الحرفيّ المباشر للفقرة والآخر يركز على السياق الأوسع للفقرة. أولا ، فيما يتعلق بالسياق المباشر ،كيف تؤثِّر الصورة التي رسمتها افتتاحية إنجيل مرقس على الخيار الأوَّل ؟ لو نحَّيْنا أفكارَنا المسبقة عن طبيعة يسوع جانبًا و لو قرأنا هذا النص الهام على نحو بسيط، سيتوجب علينا أنَّ نعترف بأن يسوع لا يبدو وديعًا لطيفًا دمث الأخلاق ولا يبدو كراعٍ صالحٍ مثلما تصوِّرُه لوحات الكنائس . يبدأ مرقس إنجيله برسم صورة ليسوع من الناحية الجسميّة ومن ناحية المواهب كشخصٍ ذي سلطان من ذلك النوع الذي لا ينبغي أنَّ تعبث معه . ويصفه بأنه نبيٌّ يعيش في البرية قدَّمَه للخدمة نبيٌّ آخر يعيش في البرية أيضًا ؛ وأنه قد انعزل عن المجتمع ليحارب الشيطان و ليحارب الوحوش في البرَِّيَّة ؛ وهو يعود ليدعوَ إلى التوبة السريعة لمواجهة القدوم الوشيك لدينونة الله ؛ وهو يدعو أتباعه للانفصال عن عائلاتهم ، و يربك جمهوره بسلطانه ؛ ويوبِّخ ويُخْضِع قوى الشيطان التي بإمكانها هزيمة البشر الفانين ؛ وهو يرفض التجاوب مع حاجات الجماهير ويتجاهل هؤلاء الذين يتوسلون للقائه . القصة الوحيدة في هذا الفصل الافتتاحيّ من إنجيل مرقس التي تشير إلى عطفه الشخصي هي قصة شفاء حماة سمعان بطرس التي كانت مريضة ملازمة للفراش . لكنَّ هذا التفسير الشفوق حتَّى يمكن أنَّ يخضع للتساؤلات. بعض الماكرين ممن يتَّسِمون بقوة الملاحظة لاحظوا أنه بعد أنَّ شفاها يسوع من الحمى التي أصابتها قامت لتخدمهم ،ومن المحتمل أنها أحضرت لهم وجبة العشاء.
هل من المحتمل أنَّ يسوع قد جرى تصْويرُه في المشاهد الافتتاحيَّة لإنجيل مرقس باعتباره شخصية قوية تتمتع بالإرادة القوية و لديها أجندتها الخاصة و أنه شخص ذو سلطان له كاريزما ولا يروقه أن يقاطعه أحد؟
من المؤكد أنَّ رد فعله من ثمَّ كان منطقيًّا على ما قام به المجذوم حيث قام بتوبيخه و بطرده.
هناك تفسير آخر ، رغم ذلك .كما أشرت من قبل ،يشعر يسوع بالغضب فعلا في مكان آخر داخل إنجيل مرقس . يحدث هذا للمرة الثانية في الإصحاح 3 ،الذي يتناول ، وياللمفاجأة ،قصة شفاء أخرى. هنا قال مرقس بوضوح إنَّ يسوع غضب على الفِرِّيسي الذي ظن أنه ليس من حقه أنَّ يشفي الرجل ذا اليد اليابسة في السبت .
هناك حكاية مشابهة إلى حدٍّ بعيدٍ تصادفنا في إحدى القصص التي لم يذكر فيها أنَّ يسوع كان غاضبًا بصراحة و لكنَّ ذلك كان واضحًا رغم ذلك . ففي مرقس 9 ، عندما ينزل يسوع من جبل التجلِّي مع بطرس ويعقوب و يوحنا ، يجد تجمهرًا حول تلامذته ورجلا يائسا في المنتصف . ابن هذا الرجل تملكته روح شيطانية، وهو يشرح الموقف ليسوع ثم يناشده :" إن كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا". فردَّ يسوع عليه غاضبًا ،"لو كنتُ قادرًا ؟ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ" فيصبح الرجل أكثر يئسًا ويناشده،" أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي." فعندها طرد يسوع الروح الشريرة.
الأمر المثير للدهشة في هذه القصص هو أنَّ غضب يسوع ينفجر حينما يشكك أحد الأشخاص في نيَّته ، أو في قدرته أو في سلطانه الإلهي على الشفاء .ربما هذا هو سبب غضبه في قصة المجذوم أيضًا .ففي القصة الواردة في مرقس 9 ،يقترب أحدهم من يسوع بحذر ليسأله :" لو لديك الرغبة ، تقدر على شفائه." فيشعر يسوع بالغضب. يسوع بطبيعة الحال لديه الرغبة في فعل ذلك ، باعتباره قادرًا ومخولا بهذا . يشفي يسوع الرجل و ،لكونه ما يزال في نفسه استياء من تشكك الرجل،يقوم بتوبيخه ثم طرده بحدة .
هنا نجد شعورًا مختلفًا تماما تجاه القصة مرتبطًا بطريقة تفسيرها،وهو تفسير مبنيٌّ على طبيعة النص كما يبدو أنَّ مرقس قد كتبه. فمرقس ، في بعض المواضع ، يرسم يسوع باعتباره شخصًا غاضبًا .


يتبع..

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:32 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 18
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


لوقا ويسوع الهادئ

على النقيض من مرقس ، لم يقل إنجيل لوقا على وجه التصريح أبدًا أنَّ يسوع شعر بالغضب. بل لا يبدو يسوع في هذا الإنجيل منزعجًا على الإطلاق،أو بأية حال.
فبدلا من يسوع الغاضب ، يرسم لوقا صورة ليسوع الهادئ . هناك فقرة يتيمة في هذا الإنجيل يبدو فيها أنَّ يسوع قد فقد رباطة جأشه . وهي فقرة أصالتها موضع جدال ساخن بين نقاد النصوص .
نجد هذه الفقرة في سياق صلاة يسوع على جبل الزيتون قبل وقت قصير من تعرضه للخيانة و للوقوع في الأسر (لوقا 22 : 39 -46 ). فبعد أن يوجِّه تلامذته بقوله :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ"، يتركهم يسوع ،و يجثو على ركبتيه،ويصلي" أَبَتَاهُ إن شِئْتَ أن تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" . في عددٍ كبيرٍ من المخطوطات تلي هذه الصلاة هذه القصة التي لا نجدها في أيِّ موضعٍ آخر فيما لدينا من أناجيل ، والتي تتعلق بقلقه الشديد و ما يعرف بقطرات عرقه الدموية :" وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. " (العددان 43 ، 44 ).
ينتهي المشهد بقيام يسوع من الصلاة وعودته إلى تلامذته ليجدهم نيامًا. فيكرر توجيهه لهم :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ" و على الفور يظهر يهوذا مع الجموع ويلقون القبض على يسوع .
إحدى الخصائص المثيرة لهذا النزاع حول هذه الفقرة هو تساوي كفة هذه الحجج وتلك حول ما إذا كان العددان المتنازع عليهما (43 ، 44 ) قد كتبهما لوقا أم أدخلهما فيما بعد أحد النساخ . المخطوطات الأقدم والتي يسلم العلماء بكونها الأفضل ( النص "السكندري") لا تحتوي هذين العددين في الغالب.لذلك من المحتمل أنهما إضافة متأخرة بيد ناسخ . من ناحية أخرى ، هاتان الفقرتان موجودتان في عدد قليل من الشواهد الأخرى المبكرة وهما غالبًا منتشرتان في كل مكان من التقليد المخطوط . لذا فهل هما قد أضيفتا بيد ناسخ أرادهما أنَّ يكونا جزءا من الكتاب المقدس أم حذفتا بيد آخر أراد العكس ؟ من الصعوبة بمكان أنَّ نجيب على هذاالسؤال اعتمادًا على المخطوطات .بعض العلماء اقترحوا أنَّ نستعين بالخصائص الأخرى التي يتصف بها العددان لكي نقرر هذا الأمر. أحد العلماء ، على سبيل المثال ، ادَّعى أنَّ الكلمات و الأسلوب في العددين يشبهان إلى حدٍ كبير ما نجده في لوقا في موضع آخر ( هذه الحجة مبنية على "الاحتمالات الداخلية "): على سبيل المثال ، ظهورات الملائكة هي سمة شائعة في لوقا ، وكلمات عديدة و جمل موجودة في الفقرة نجدها في مواضع أخرى في لوقا ولكن ليس في أي موضع آخر في العهد الجديد ( مثل الفعل " يقوِّيه").
لم تقنع هذه الحجة أحدًا ،مع ذلك، لأن معظم هذه الأفكار والتراكيب و الجمل " اللوقاوية بطريقة مميزة " هي إما مصاغة بطرق لا تنتمي إلى الأسلوب اللوقاوي (على سبيل المثال ، الملائكة لا تظهر في أيِّ مكان آخر من لوقا من غير أن تتكلم ) أو شائعة في النصوص اليهودية والمسيحية بخلاف العهد الجديد . زد على ذلك أنَّ هناك اجتماع غير طبيعي بالمرة لكلمات وجمل غير عادية في هذين العددين : على سبيل المثال (كرب ،عَرَق، قطرات) ليس لها وجود في موضع آخر في لوقا ولا في سفر الأعمال (الذي هو الجزء الثاني للإنجيل الذي كتبه المؤلف عينُه ). نظرا لذلك كله، من الصعب بمكان أنَّ نقرر أي شئ بخصوص هذين العددين على أساس الكلمات والأسلوب.
حجة أخرى استعملها العلماء لها علاقة بالبنية الأدبيّة(literary structure) لهذه الفقرة . بإيجاز ، هذه الفقرة يبدو أنها مبنيَّة بتأنٍّ من خلال ما يعرفه عليه العلماء باعتباره قلب لترتيب الكلمات في جملتين متشابهتين (chiasmus) . حينما تبنى فقرة على هذا النحو ، الكلمة الأولى في هذه الفقرة تتطابق مع الكلمة الأخيرة منها؛ والكلمة الثانية تتطابق مع الكلمة قبل الأخيرة ؛و الكلمة الثالثة تتطابق مع الكلمة التي تسبق الكلمة قبل الأخيرة ، وهكذا . أو دعونا نعبر عن هذا بطريقة أخرى فنقول : صياغة هذه الفقرة هي صياغة مقصودة ؛ غرضها هو تركيز الانتباه على مركز الفقرة باعتباره مفتاح الجملة . و الأمر نفسه نجده هنا :
فيسوع (أ) يطلب من تلاميذه أنَّ "يصلوا كي لا يدخلوا في تجربة" (العدد 40 ) ثم بعد ذلك يسوع (ب) يغادرهم (العدد 41 أ) و (ج)يجثو على ركبتيه للصلاة (العدد 41 ب). مركز هذه الفقرة هو (د) صلاة يسوع ذاتها ،الصلاة التي ضمَّنها طلبه بأن يتحقق ما يريده الله (العدد 42 ). بعد ذلك يسوع (ج) يقوم من صلاته (عدد 45 أ )، (ب)يعود إلى تلاميذه (عدد 45 ب)، و (أ) يجدهم نيامًا،ومرة أخرى يواجههم بالكلمات ذاتها ، فيقول لهم أنَّ " صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة "(العددان 45 ج ، 46 ).وجود هذا البناء الأدبي الواضح بحد ذاته ليس هو القضية في الواقع . بل القضية هي كيف أنَّ هذا العكس لترتيب الكلمات مهم لفهم معنى الفقرة . تبدأ القصة و تنتهي بوصيته لتلاميذه أن يصلوا إذا أرادوا أن يتجنبوا الدخول في تجربة. ظلت الصلاة لوقت طويل في نظر الكثيرين هي الموضع المحوريّ لإنجيل لوقا ( أكثر حتى من أي إنجيل آخر )؛ و هنا تتجلى أهميتها الخاصة . لأن صلاة يسوع هي في قلب الفقرة ذاتها ، الصلاة التي تعبر عن رغباته ، والتي تتضمن رغبته الأعظم بأن تتمَّ مشيئة الله (العددان 41 ج، 42 ). وباعتبارها مركزًا لهذا التركيب المنعكس (chiastic structure)، تقدم هذه الصلاة قضية الفقرة المحوريَّة و،على نحوٍ متوازٍ، مفتاح تفسيرها . هذا درس عن أهمية الصلاة في مواجهة الشهوات . التلاميذ ، على الرغم من طلب يسوع المتكرِّر لهم بأن يصلُّوا ،كانوا ينامون بدلا من ذلك . وعلى الفور تأتي الجموع للقبض على يسوع . وماذا يحدث ؟ التلاميذ ، الذين فشلوا في القيام بالصلاة ، دخلوا " في التجربة "؛وهربوا من مسرح الأحداث ،تاركين يسوع ليواجه مصيره وحيدًا . وماذا عن يسوع ، الإنسان الوحيد الذي صلَّى قبل أن يخضع للمحاكمة ؟ حينما تصل الجموع ، نجد أنه يخضع بهدوء لمشيئة الآب ويسلم نفسه للشهادة التي أعِدَّتْ له .
رواية لوقا عن الآلام ، كما هو معروف ، هي قصة استشهاد يسوع ، الاستشهاد التي كان الهدف منه ،كما هو الحال مع مقتل الكثيرين من الشهداء،أن تقدم نموذجًا للمؤمن و الكيفية التي يحافظ بها على رباطة جأشه في مجابهة الموت . فلسفة الاستشهاد في إنجيل لوقا تظهر أنَّ الصلاة وحدها هي التي يمكن أن تجعل المرء على استعدادٍ للموت .
ماذا يحدث ، مع ذلك ، حينما يتمُّ إقحام العددين المتنازع عليهما (العددان 43 ، 44 ) في الفقرة ؟ على المستوى الأدبي ، الترتيب الانعكاسي للكلمات(chiasmus) الذي يركِّز الفقرة على صلاة يسوع يتمُّ تدميرُه نهائيًا .
الآن مركز الفقرة ، و من ثمَّ بؤرة اهتمامها ، يتحول إلى شدة الكرب الذي واجهه يسوع ، شدة الكرب الفظيعة التي كانت تتطلب ظهور مُعِينٍ خارقٍ للطبيعة ليقوِّيَ يسوعَ على تحملها. من الأمور الجديرة بالملاحظة في هذه النسخة المطوَّلة من القصة أنَّ الصلاة لم ينتج عنها الثقة بالنفس والهدوء الذين تحلَّى بهما يسوع في بقية الحكاية ؛ نعم ، حدث فقط بعد أن يصلِّي "بأشد لجاجة " أنَّ عرقه أخذ في الظهور على هيئة قطرات عظيمة من الدماء المتساقطة على الأرض . ما أريد توضيحه ليس فحسب أنَّ تركيبًا أدبيًّا قد انهار ، و إنما أنَّ بؤرة الاهتمام كلها تتحول إلى يسوع الواقع في حالة كرب مفجعة و سحيقة و الذي هو في أشد الحاجة إلى تدخل خارق للطبيعة .
هذا في حدِّ ذاته لا يبدو كمشكلة مستعصية على الحل ، إلى أنَّ يدرك المرء أنه ليس هناك موضع في إنجيل لوقا صُوِّرَ يسوع فيه على هذا النحو . على العكس من ذلك تمامًا ، قطع لوقا شوطً طويلا لكي يقدم رؤيةً مناقضةً تماما للرؤية التي يتبنَّاها هذان العددان . فبدلا من دخوله في آلامه مجللا بالخوف و الارتجاف، مكروبًا من مصيره المحتوم القريب ، نجد أنَّ يسوع حسب تصوير لوقا له يمضي إلى حتفه هادئا ورابط الجأش واثقًا في مشيئة أباه حتى النهاية . من الحقائق الصادمة التي لها ارتباط وثيق بمشكلتنا النصية موضع الدراسة أنَّ لوقا كان بمقدوره أن يرسم هذه الصورة ليسوع فقط عبر التخلص من التقاليد التي كانت تتناقض معها في مصادره ( الإنجيل وفقًا لمرقس على سبيل المثال ). فقط الشكل المطوَّل من النص الوارد في لوقا 22 : 43 – 44 يبدو مخالفا لهذه القاعدة.
مقارنة بسيطة بين نسخة مرقس من القصة محل الدراسة من شأنها جلاء هذه الأمر ( مع الوضع في الاعتبار أنَّ مرقس كان من مصادر لوقا – والذي قام بتعديله لكي يخرج بتأكيداته الفريدة ). لأن لوقا حذف قول مرقس أنَّ يسوع " ابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ "(مرقس 14 : 33 )، وكذلك تعليق يسوع أمام تلاميذه ،" نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! ". وبدلا من نزوله إلى الأرض في كربٍ(مرقس 14 : 35 )،يسوع حسب لوقا يجثو على ركبتيه (لوقا 22 : 41 ). في لوقا ، لم يطلب يسوع أن تعبر عنه هذه الساعة (قارن مع مرقس 14 : 35 )؛وبدلا من صلاته لمراتٍ ثلاث أن تُنْزَع عنه هذه الكأس (مرقس 14 : 36 ، 39 ، 41 )، نجده يطلب ذلك مرة واحدة (لوقا 22 : 42 )،مستهلا صلاته ،في إنجيل لوقا وحده،بشرطٍ شديد الأهميَّة :"إن شئت ".
وهكذا ، في الوقت الذي يصوِّرُ فيه مصدر لوقا ،أي إنجيل مرقس، يسوع باعتباره مكروبًا عندما يصلِّي في الحديقة ،يعيد لوقا صياغة هذا المشهد كاملا لهدف إظهار أنَّ يسوع كان هادئا في مواجهة الموت . الاستثناء الوحيد هو قصة "عرق يسوع الدموي"، وهي الحكاية التي تخلو منها أقدم وأفضل الشواهد التي لدينا . لماذا يتعب لوقا نفسه في التخلص من الصورة التي رسمها مرقس عن يسوع المكروب لو أنَّ كُرْبَة يسوع كانت هي الغرض الأساسي من القصة ؟
من الواضح أنَّ لوقا لم يكن يشاطر مرقس مفهومه عن يسوع المكروب اليائس . ليس ثمَّة مكانٌ آخرُ يبدو فيه هذا الأمر واضحًا أشد ما يكون الوضوح من رواياتهما المتتالية عن صلب يسوع . يصوِّرُ مرقسُ يسوعَ وهو في طريقه إلى جلجثة كإنسان صامت . تلاميذه تركوه وهربوا ؛ حتَّى النسوة المؤمنات كنَّ يراقبنه فحسب "من بعيد" . الحاضرون كلهم كانوا يسخرون منه – المارَّة وزعماء اليهود و السارقان . يسوع المرقسيّ ضُرِبَ وتعرض للسخرية وخُذِلَ وهُجِرَ ،لا من قبل أتباعه فحسب،بل وحتى من قبل الله نفسه . كلماته الوحيدة التي تفوَّه بها في هذا الموقف من أوله لآخره تأتي عند نهاية المشهد ، حينما يصرخُ بصوتٍ عالٍ " إلوي ، إلوي ، لما شبقتني "(إلهي ،إلهي ، لما تركتني ؟). ثم يطلق بعد ذلك صرخةً مدويةً و يموت .
هذه الصورة ،مرة أخرى ، تتناقض تماما مع ما نجده في إنجيل لوقا . ففي رواية لوقا ، نجد يسوع بعيدًا تماما عن أنَّ يكون صامتًا . وعندما يتكلم ، يظهر أنه ما يزال رابط الجأش واثقًا في الله أبيه ،راضٍ عن قدره ،مهتمًّا أكثر بمصير الآخرين . ففي طريقه إلى الصلب ، وفقا لما جاء في إنجيل لوقا ،عندما يرى يسوع مجموعة من النسوة يندبن سوء حظه ، يخبرهنَّ أنَّ لا يبكين عليه بل بالأحرى على أنفسهنَّ و على أطفالهن بسبب الكارثة التي ستحل بهم قريبًا (23 : 27 – 31 ).وبينما يجري تثبيتُه على الصليب بالمسامير ، نجده يصلِّي إلى الله :" يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " بدلا من أن يحافظ على صمته.
على الصليب ، في وسط آلامه ، يدخل يسوع في حوارٍ شيِّقٍ مع أحد السارِقَيْن المصلوبَيْن إلى جواره ، مؤكِّدًا له أنهما سيجتمعان معًا في هذا اليوم في الجنة (23 : 43 ). أكثر الأمور تعبيرًا عما نقول هو أنه بدلا من أن يطلق يسوع في النهاية صرخته الحزينة بسبب هجر الله له،حسبما يصوره لوقا، يستودع روحه عند أبيه الرحيم وكُلُّه ثقة في منزلته عند الله ،:" يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي "(23 : 46 ).
سيكون من العسير أن نغالي في تقدير أهمية هذه التغييرات التي أحدثها لوقا في مصدره (إنجيل مرقس) لكي نفهم مشكلة النص محل دراستنا . ليس هناك موضع في رواية لوقا للآلام يفقد يسوع فيه السيطرة على نفسه ؛ ولم يحدث على الإطلاق أنَّ كان يسوع في حالة عميقة و موهنة من الكرب بسبب ما سيؤول إليه مصيره . فهو هنا مسيطر تماما على قدره ، يعرف ما يجب عليه فعله وما سيحدث له بمجرد أن يحدث . إنه ذلك الرجل الذي يعيش في سلام مع نفسه و يواجه الموت بهدوء .
ماذا ، إذن ، سنقول عن عددينا المتنازع عليهما ؟ هذان هما العددان في الإنجيل حسب لوقا كله الذان يقوِّضان هذه الصورة الواضحة . هنا فحسب يشعُرُ يسوع بالأسى على مصيره المحتوم ؛ هنا فحسب يفقد هدوءه ،هنا نجده غير قادر على تحمل أعباء مصيره . لماذا حذف لوقا كل آثار الأسى الذي شعر به يسوع في كل موضعٍ آخر لو كان قد قصد أن يؤكِّده هنا بأقوى الكلمات ؟
لماذا يحذف مادة من مصدره متوافقة مع هذا العدد قبل وبعد العددين موضع دراستنا ؟ يبدو أنَّ رواية " العرق الدموي" ليسوع ، التي ليس لها وجود في أقدم و أفضل مخطوطاتنا ،ليست أصيلة في إنجيل لوقا و إنما هي إضافة أحدثها أحد النساخ إلى الإنجيل (11).

الرسالة إلى العبرانيين و يسوع المتروك

الصورة التي رسمها لوقا ليسوع تتعارض ليس فقط مع ما جاء في إنجيل مرقس ، و إنما أيضًا مع تلك الواردة في أسفار مؤلفي العهد الجديد الآخرين ،بما في ذلك المؤلف المجهول للرسالة إلى العبرانيين ، الذي يبدو أنه افترض مسبقا معرفة تقاليد الآلام التي يواجه يسوع الموت خلالها وهو مكروب و التي مات فيها بلا أيِّ عونٍ من الله أو دعم منه ، وذلك ما يمكننا رؤيته في حلِّ واحدة من أكثر مشكلات العهد الجديد إثارة .
هذه المشكلة النصية نجدها في سياق يتحدث عن خضوع كلِّ الأشياء النهائي ليسوع ، ابن الإنسان. لمرة أخرى ، سأضعُ القراءات المتباينة محل الدراسة بين الأقواس .
" لأنه عندما يخضع (الله) كلَّ شئٍ له ، لم يترك شيئا غير خاضع له ، لكننا للآن لم نرَ كلَّ الأشياء خاضعة له . لكننا رأينا يسوع بالفعل ، الذي ،كونه جُعِلَ أقل شأنا من الملائكة لوقت قليل ، كُلِّلَ بالمجد والكرامة بسبب معاناته الموت ، لكي يذوق الموت عن كل واحدٍ (بنعمة الله / بعيدا عن الله )."(عبرانيين 2 : 8-9 )
على الرغم من أنَّ غالبية المخطوطات الباقية تصرح بأنَّ يسوع مات عن جميع البشر (بنعمة الله ) CHARITI THEOU)) ، توجد مخطوطتان أخريان تقولان ، بدلا من ذلك ،إنه مات " بمعزلٍ عن الله " (CHORIS THEOU). هناك أسباب جيدة تجعلنا نعتقد أنَّ القراءة الأخيرة ، مع كل ذلك ، كانت هي القراءة الأصلية في الرسالة إلى العبرانيين .
لست بحاجة إلى الدخول في التعقيدات الخاصة بدعم المخطوطات للقراءة التي تقول " بعيدًا عن الله " إلا لكي أقول إنه حتى لو وجدت هذه القراءة في وثيقتين فقط يرجع تاريخ كتابتهما إلى القرن العاشر ، فإن أحدها (وهي المخطوطة رقم 1739 ) من المعروف أنها قد نقلت عن نسخة على الأقل لا تقل قِدَمًا عن أقدم مخطوطاتنا.
الأمر الأكثر إثارة هو أنَّ أوريجانوس أحد علماء بواكير القرن الثالث يخبرنا أنَّ هذه القراءة (بمعزلٍ عن الله ) كانت هي القراءة الواردة في أغلب المخطوطات في عصره . هناك دليل آخر كذلك يشير إلى ذيوع هذه القراءة في العصور القديمة: فقد وُجِدَتْ في مخطوطات كانت معروفة للقديسَيْن "أمبروز" و"جيروم" في الغرب اللاتيني واقتبسها عددٌ من كتاب الكنيسة حتى القرن الحادي عشر. وهكذا ،على الرغم من أنها لم تكن ثابتة فيما لدينا من مخطوطات على نطاق واسع،إلا أنها في الوقت ذاته كانت مدعومة بأدلة خارجية قوية .
وحينما يتحول المرء من الاعتماد على دليل خارجي إلى الاعتماد على دليل داخلي،فلا ريب في أفضليَّة هذه القراءة المتباينة الثابتة في المخطوطات ولو على نحوٍ ضعيف .
رأينا بالفعل من قبل أنَّ النساخ كان من المرجَّح إلى حدٍّ كبيرٍ أنَّ يغيِّروا القراءة التي يكون من الصعب فهمها إلى أخرى أكثر سهولة ، و العكس غير صحيح . قراءتنا هذه تقدِّم لنا حالة نموذجية لهذه الظاهرة . كان المسيحيون في العادة في القرون الأولى ينظرون إلى موت يسوع باعتباره إظهارًا أسمى لنعمة الله . القول إنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " يمكن اعتبار أنه يعني عددًا من الأشياء غالبها غير مستساغ . وحيث إنَّ النساخ لابد وأنهم قد اختلقوا إحدى هاتين القراءاتين بالاعتماد على القراءة الأخرى ،فهناك تساؤلٌ صغيرٌ عن أيِّ هاتين القراءتين من المرجح أكثر أنه التحريف .
لكن...هل كان هذا التحريف عن عمدٍ ؟ المدافعون عن النص الأكثر ورودا في المخطوطات " بنعمة الله " كان من المتحتم عليهم بالطبع أنَّ يزعموا أنَّ التغيير لم يطرأ بشكل متعمَّد (وإلا فسيكون نصهم المفضل هو الذي يمثِّل التحريف). تحت وطأة الاضطرار ،إذن ، قاموا بابتكار سيناريوهات بديلة لتفسير الأصل (غير المقصود) للقراءة الأكثر صعوبة . في الغالب ،سيفترضون ببساطة أنَّ التشابه بين الكلمتين محل الدراسة (XARITI/ XWRIS) في الشكل هو الذي جعل النساخ يخطئون عن غير قصد فيضعون حرف الجر(بمعزلٍ عن) بدلا من كلمة(نعمة) .
وجهة النظر هذه ،مع ذلك ، تبدو بعيدة الاحتمال قليلا. فأيُّ الحالتين التاليتين هي الأكثر احتمالا: أنَّ يقوم ناسخٌ مهملٌ أو شارد الذهن بتغيير نصه من خلال كتابة كلمة " أقل " تكرارا في العهد الجديد (بمعزلٍ عن الله ) ،أم أن يستخدم أحدهم كلمة كثيرة التكرار في العهد الجديد ("نعمة" شائعة أربع أضعاف "بمعزل عن الله")؟ هل من المحتمل أن يكون هذا الناسخ قد اختلق جملة ليس لها أي وجود في أي مكان آخر في العهد الجديد ("بمعزلٍ عن الله) أم أنه اختلق جملة تكررت أكثر من عشرين مرة (" بنعمة الله")؟ ما هو الأكثر احتمالا :أن يختلق قولا غريبا و مثيرا للصعوبات ، ولو بغير قصد،أم أن يختلق الآخر الذي يعتبر قولا مألوفا وسهل الفهم ؟ بالتأكيد ، الخيار الأخير هو الأكثر احتمالا . فالقُرَّاء يخطئون في الكلمات الغريبة لصالح الكلمات الشائعة و يبسطون ما هو أكثر تعقيدًا خاصة عندما تشرد أذهانهم جزئيًّا. لذلك ،حتى نظرية الإهمال تدعم كون القراءة الأقل ورودًا في المخطوطات (بمعزلٍ عن الله) هي القراءة الأصلية.
النظرية الأكثر شيوعًا في أوساط من يعتقدون أنَّ جملة " بمعزلٍ عن الله" ليست الجملة الأصلية هي أنَّ هذه القراءة اختلقت كملاحظة هامشية : فقد قرأ أحد النساخ في العدد 2 : 8 من سفر العبرانيين أنَّ " كل الأشياء" أُخْضِعَتْ لسلطان المسيح ، وعلى الفور ذهب فكره إلى العدد 15 : 27 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس:
" لأن كل الأشياء أُخْضِعَتْ تحت قدمه (أي المسيح)." لكن حينما يقال أنَّ " كل الأشياء ستخضع،" من الواضح أنها تعني كل الأشياء باستثناء من أخضعها له (أي أنَّ الله نفسه ليس من بين الأشياء التي أُخْضِعَت للمسيح في النهاية).
وفقا لهذه النظرية ،الناسخ الذي كان يقوم بنسخ الإصحاح 2 من العبرانيين أراد أنَّ يوضح هنا أيضًا أنَّ النص يشير إلى أنَّ كل شئ هو خاضع للمسيح ، وأنَّ هذا الأمر لا ينطبق على الله الآب. ولحماية النص من أنَّ يسئ أحدٌ فهمه ،أدخل الناسخ ملاحظة تفسيريَّة في هامش العدد 2 : 8 من العبرانيين (كنوع من الإحالة إلى اكورونثوس 15 : 27) ليشير إلى أنه لا شئ نجا من الخضوع للمسيح،" باستثناء الله". هذه الملاحظة انتقلت في وقت تالٍ بمعرفة ناسخ مهمل في العصور التالية إلى نصِّ العدد التالي ، العبرانيين 2 : 9 ، حيث ظنَّ أنَّها تنتمي إليه .
على الرغم من ذيوع هذا الحل ، إلا أنه ربما أذكى من أن يعتمد ويتطلب حدوث كثير من الخطوات المشكوك فيها لكي يتم التصديق عليه.
ليس هناك أي مخطوطة تضم بين ثناياها القراءتين معًا (أي التصحيح الذي وقع للهامش أو لنص العدد 8 ،حيث ينتمي الهامش ،ومعهما النص الأصلي للعدد 9 ). أضف إلى ذلك أنه لو ظنَّ ناسخٌ أنَّ الملاحظة كانت تصحيحا ورد في الهامش ،فلماذا وجده في الهامش بعد العدد 8 وليس العدد 9 ؟ أخيرًا ، لو أنَّ الناسخ الذي اختلق الهامش كان قد فعل ذلك ليشير إلى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ، ألم يكن سيكتب " باستثناء الله "( EKTOS THEOU)- وهي الجملة الموجودة بالفعل في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس) بدلا من أنَّ يكتب " بمعزلٍ عن الله "( CHORIS THEOU)- التي ليس لها وجود في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثيوس؟
بالجملة ، من الصعب جدا تفسير جملة (بمعزل عن الله ) لو أنَّ جملة ( بنعمة الله) كانت هي القراءة الأصلية في العبرانيين 2 : 9 .
في الوقت نفسه ، بينما يصعب توقع أنَّ ناسخًا قد قال إنَّ المسيح مات "بمعزلٍ عن الله " ،نجد أنَّ ثمة أسبابًا منطقيةً للغاية تدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذه القراءة تحديدًا هي ما خطته يدُ مؤلِّف الرسالة إلى العبرانيين . لأن هذه القراءة الأكثر ورودًا في المخطوطات هي أكثر توافقا مع العقيدة اللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين(" وهذا المنهج هو ما يعرف بالاحتمالات الداخلية"). فهذه الكلمة "نعمة" (CHARIS) لم ترد مطلقا في الرسالة كلها في معرض الإشارة إلى موت يسوع أو إلى فوائد الخلاص التي جاءت كنتيجة لموته.
بدلا من ذلك ، دائما ما نجدها تتعلق بهبة الخلاص المكفولة للمؤمن برحمة الله (انظر على وجه الخصوص الأعداد 4 : 16 ؛ و 10 : 29 ؛ و12 : 15 ؛13 : 25 من سفر الرسالة إلى العبرانيين).
وللتأكيد على ذلك ، من المعروف تاريخيًّا أنَّ المسيحيين كانوا أكثر تأثُّرًا بالمؤلفين الآخرين للعهد الجديد ،بولس على وجه الخصوص،الذي كان يرى في تضحية يسوع على الصليب باعتبارها التجسيد الأسمى لنعمة الله . لكنَّ العبرانيين لا تستخدم هذا المصطلح (نعمة الله) على هذا النحو على الرغم من أنَّ النساخ الذي كانوا يعتقدون أنَّ مؤلف هذا السفر هو بولس ربما لم يدركوا هذا.
من ناحية أخرى ،القول إنَّ يسوع قد مات " بمعزل عن الله"- وهو القول الغامض إذا فهمناه بمعزل عن السياق- يعطي معنى مقنعًا في سياقه الأدبي الواسع في ثنايا الرسالة إلى العبرانيين. وفي حين أنَّ هذا المؤلف لم يشِر على الإطلاق إلى موت يسوع باعتباره تجسيدا لل"نعمة" الإلهية ، فهو يؤكد على نحو متكرر أنَّ يسوع مات ميتة بشريَّة ومخزية تمامًا ، وأنَّه أُبْعِدَ تماما عن المملكة التي جاء منها ، مملكة الله؛ وأنَّ تضحيته ، نتيجة لذلك، قبلها الله ككفارة صحيحة عن الخطية. فوق ذلك ، لم يتدخل الله في مسألة آلام يسوع ولم يفعل شيئا ليخفف من آلامه . لذلك ، على سبيل المثال ،يتحدث سفر الرسالة إلى العبرانيين عن يسوع وهو يتضرع في مواجهة الموت إلى الله بصرخات مدوية وبدموع . في العدد 12 : 2 يقال عنه إنه احتمل " خزي " موتته،ليس لأن الله قد أعانه على ذلك ،بل لأنه كان يأمل في التبرُّر .وفي أنحاء الرسالة ،يقال إنَّ يسوع اختبر الألم و الموت الإنسانيَّ ، مثل الكائنات البشرية الأخرى " من كل وجه ". لكنَّ آلامه لم تكن كربة خففتها تدابير إلهية خاصة .
الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ هذا هو موضوع رئيسي للسياق القريب لعدد 2 : 9 ، الذي يؤكِّد أنَّ المسيح اتخذ لنفسه وضعًا أقل من الملائكة لكي يشاركنا بالدم و اللحم ولكي يختبر الآلام الإنسانيَّة ولكي يموت ميتة إنسانية. وللتأكيد على ذلك،من المعروف أنَّ موت يسوع قد جلب الخلاص،لكنَّ الفقرة لا تقول أيَّ كلمة عن نعمة الله كأمر واضح في عمل المسيح الكفَّاري،بل تركز بدلا من ذلك على طبيعة المسيح وعن نزول المسيح إلى مملكة الموت والآلام العابرة . لقد اختبر يسوع الآلام كإنسانٍ كاملٍ بمعزلٍ عن أي عون من جهة نفسه باعتباره كائنًا علويًّا. العمل الذي بدأه عند نزوله يكَمِّلُه بموته، الموت الذي كان من المتحتم أنَّ يحدث " بمعزلٍ عن الله".
كيف يمكن أن تكون القراءة "بمعزلٍ عن الله"، التي يمكن تفسيرها بصعوبة كتحريف أحدثه النساخ متوافقة مع الاختيارات اللغوية والأسلوبية واللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين، بينما القراءة البديلة "بنعمة الله"،التي لا تمثل للنساخ أي صعوبة على الإطلاق ، تبدو متناقضة مع ما تخبرنا به الرسالة إلى العبرانيين عن موت يسوع و مع الطريقة التي استعملتها في إخبارنا عن هذا الموت ؟ العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين يبدو أنه في الأصل كان يقول أنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " ، متروكًا ، على نحو مشابه كثيرا للصورة التي رسمها إنجيل مرقس في روايته عن آلام المسيح .


الخاتمــــــة
في كل حالة من هذه الحالات الثلاث التي ألقينا عليها الضوء ، هناك تباين نصيّ هام يضطلع بدور هام في الكيفية التي يتم بها تفسير هذه الفقرة المستهدفة بالدراسة . من المهم على نحوٍ واضح أنَّ نعرف ما إذا كان يسوع قد قيل عنه أنه شعر بالشفقة أم بالغضب في مرقس 1 : 41 ؛ وما إذا قد كان هادئا و رابط الجأش أم شاعر بقلق عميق في العدد لوقا 22 : 43 -44 ؛ وما إذا كان قد قيل عنه إنه مات بنعمة الله أو " بمعزلٍ عن الله "في العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين.يمكننا أنَّ ننظر في فقرات أخرى بسهولة كذلك ،لكي ندرك معنى أهميةالتعرف على كلمات مؤلف ما إذا كنا نريد أنَّ نفسر رسالته .
بالنسبة للتقليد المخطوط للعهد الجديد ، هناك ما هو أكبر بكثير من مجرد التوصل إلى ما قاله مؤلفها بالفعل. هناك أيضًا قضية (الأسباب) التي من أجلها تعرضت هذه الكلمات للتغيير وكيف تؤثر هذه التغييرات على معاني كتاباتهم .هذه القضية المتعلقة بتعديل الكتاب المقدس في الكنيسة المسيحية الأولى ستكون موضوع الفصلين التاليين حيث سأحاول أن أوضح كيف أنَّ النساخ ،الذين لم يكونوا راضين تماما عن ما قالته أسفار العهد الجديد ،عدَّلوا كلماتها ليجعلوها تدعم المسيحية الأرثوذكسية بصورة أوضح ولكي تعارض الهراطقة والنساء واليهود والوثنيين بصورة أكبر.

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:33 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 19
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


هوامش الفصـــــــل الخامـــس

[1] للاطلاع على شرح أكثر تفصيلا لهذه المناهج ، انظر كتاب " نص الكتاب المقدس" (text of the new testament) ، لبروس ميتزجر و بارت إرمان ، ص 300 – 315 .
[2] من بين أمور أخرى ،هذا يعني أن القراءات في نص الأغلبية " البيزنطي" ليست بالضرورة هي القراءات الأفضل . فهذه القراءات تتمتع ببساطة بدعم المخطوطات على قاعدة عددها مجردًا. وكما يقول القول المأثور المعروف في أوساط نقاد النصوص :" المخطوطات تُقَيَّم ولا تعَدُّ."
[3] بعض العلماء يعتبرون هذه القاعدة هي أهم و أكثر مبادئ علم النقد النصي جميعا مصداقية.
[4] كثير مما سيأتي مأخوذ من مقالتي " النص والتقليد :دور مخطوطات العهد الجديد في الدراسات المسيحية المبكرة ،"وتجدونه في جريدة النقد النصي على الرابط التالي:
http://rosetta.reltech.org/TC/vol05/Ehrman2000a.html
[5] لمناقشة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ، وأهميتها بالنسبة للتفسير ، انظر مقالتي" خاطئ بين يدي يسوع الغاضب "( A Sinner in the Hands of an Angry Jesus)، في كتاب " العهد الجديد اليوناني والتفاسير: مقالات تكريما لجيرالد.ف.هاوثورن،بتحرير تيموثي . ب. سيلورز( مطبعة: جراند رابيدز:إيردمانز،2003 ). اعتمدت على هذا المقال في كثير من المناقشة التالية .
[6] انظر كتاب"العهد الجديد"،لبارت إرمان ، الفصل ال6 .
[7] في موضعين آخرين فقط في إنجيل مرقس يوصف يسوع بوضوح أنه شفوق :في مرقس 6 : 34 ، عند إطعام الآلاف الخمسة ، وفي مرقس 8 : 2 ، عند إطعام الأربعة آلاف .أما لوقا فيحكي القصة الأولى على نحو مغاير كليًّا، ولا يذكر الثانية . متَّى ، رغم ذلك ،يذكر القصتين كلتيهما و يحتفظ بالوصف الذي ذكره مرقس عن شفقة يسوعفي الموضعين كليهما (متَّى 14 : 14 و 9 : 30 )؛ وكذلك في 15 : 32 ). في ثلاثة مواقف أخرى في متَّى ، وكذلك في مناسبة أخرى في لوقا يوصف يسوع باعتباره شفوقا ،باستخدام هذا التعبير (SPLANGNIZO). من الصعب ،إذن ، تخيُّل السبب الذي يجعلهما ، كل منهما على نحو مستقل ، يحذفان التعبير من روايتهما التي نناقشهما الآن لو كانا قد وجداها في مرقس .
[8] للاطلاع على هذه التفسيرات المتنوعة ، انظر مقال بارت إرمان " خاطئ بين يديّ يسوع الغاضب."(a sinner in the Hands of an angry Jesus)
[9] للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا للأسباب التي جعلت النساخ يغيرون الرواية الأصلية ، انظر الصفحتين (200 – 201 ) .
(مقصود المؤلف هو الصفحتان في النص الإنجليزي...المترجم).
[10] للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ،انظر كتاب إرمان " الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس "( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 187 – 194 . معالجتي الأولى لهذه الفقرة كتبته بالتعاون مع مارك بلانكيت.
[11] للطلاع على مناقشة للأسباب التي حدت بالنساخ إلى إضافة العددين إلى رواية لوقا انظر الصفحتين 164 – 165 فيما يلي.
ملحوظة:
يقصد المؤلف هاتين الصفحتين حسب الترقيم في النسخة الإنجليزية....المترجم
[12] للاطلاع على دراسة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ، انظر كتاب" الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس " لبارت إرمان ، ص 146 – 150 .

نهاية الفصـــل الخامس ولله الحمد

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:34 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 20
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


"تحريف النصوص لدوافع لاهوتية"

يتناول علم النقد النصي ما هو أكثر من مجرد تحديد النص الأصلي . فهو يعمل أيضًا على رصد الكيفية التي تمَّ من خلالها تعديل النص عبر الزمن سواء بسبب هفوات النساخ أو تحريفهم المقصود لها .هذا النوع الأخير،أي التغييرات العمدية، مهمٌّ للغاية، لا لأنَّه فحسب يساعدنا بالضرورة على فهم ما كان المؤلِّفون الأصليون يحاولون قوله ،بل أيضًا لأنَّه قادر على أن يوضح لنا شيئًا عن الكيفية التي كان النساخ ،الذين أعادوا إنتاج النصوص، يفسِّرون بها النصوص التي كتبها المؤلفون. ومن خلال رصد الكيفية التي حرَّفوا من خلالها النصوص التي بين أيديهم ،يمكننا اكتشاف إشارات تدلُّنا على ما كان هؤلاء النساخ يظنونه مُهِمَّا في النص،وهكذا يمكننا أن نتعلم الكثير فيما يتعلق بتاريخ النصوص عندما كانت تُنسخ و يعاد نسخها عبر القرون .
الفرضية التي ينبني عليها هذا الفصل هي أن نصوص العهد الجديد في بعض الأحيان كانت تتعرض للتحوير لأسباب لاهوتية . هذا كان يحدث كلَّما كان النسَّاخ القائمون على عملية النسخ معنيين بالتأكُّد من أن النصوص تقول ما يريدونها أن تقوله ؛ وأحيانًا يكون هذا بسبب نزاعات لاهوتية اشتعلت في العصر ذاته الذي عاش فيه النسَّاخ . ولكي نفهم هذا النوع من التغيير،يلزمنا أن نستوعب بعض المفاهيم عن النزاعات اللاهوتية في القرون المبكرة للمسيحية قبل الظهور واسع النطاق للنسّاخ "المحترفين " ـ وهي القرون التي حدثت فيها غالبية تحريفات الكتاب المقدس.


السياق اللاهوتي لتحريف النصوص

نملك معلومات كثيرة عن المسيحية خلال القرنين الثاني والثالث - وهو العصر الذي يقع ، فلنقُلْ ،بين اكتمال كتابة أسفار العهد الجديد و تحوُّل الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى الإيمان، الذي،كما رأينا،غيَّر كل شئ (1) . هذان القرنان بشكل خاص كانا غنيين بالتنوُّع اللاهوتيِّ بين المسيحيين الأوائل. في الواقع ، كان التنوُّع اللاهوتيُّ واسعًا جدًا إلى الدرجة التي جعلت مجموعات أطلقت على نفسها اسم المسيحيين يعتنقون المعتقدات والممارسات التي يصِّرُّ معظم مسيحيي اليوم على أنَّها ليست معتقدات مسيحية مطلقًا (2) . في القرنين الثاني والثالث كان ثمَّة مسيحيون يؤمنون بأنه لا إله إلا إلهٌ واحدٌ خلق كلَّ شئ. أناس آخرون من الذين يسمُّون أنفسهم المسيحيين أصرُّوا على أن للكون إلهين اثنين متمايزين - إلهٌ للعهد القديم ( إله النقمة ) وإلهٌ للعهد الجديد ( إله المحبة و الرحمة). هاذان لم يكونا وجهين مختلفين للإله نفسه: بل كانا في الواقع إلهين مختلفين تمامًا. من المدهش أن المجموعات التي تفوهت بهذه المزاعم - بما في ذلك أتباع مرقيون ، الذين تعرفنا عليهم من قبل،أصرَّت على أن رؤاها كانت هي التعاليم الحقة التي نادى بها يسوع وتلاميذه. مجموعات أخرى ، من المسيحيين الغنوصيين على سبيل المثال، أصرُّوا على أنه لم يكن ثمة إلهين اثنين فحسب، بل اثنا عشر إلها. وآخرون قالوا: بل ثلاثون إلهًا . و آخرون استمروا في القول أن الآلهة 365 إلهًا . كل هذه المجموعات زعمت أنَّها مسيحية وأصرت على أن رؤاها هي الرؤى الحقة و أن يسوع وتلاميذه بشروا بها. لماذا بكل بساطة لم تقرأ هذه المجموعات الأخرى عهدها الجديد ليروا أن آراءهم كانت خاطئة ؟ هذا لأنه لم يكن ثمة عهدٌ جديدٌ. وللتدليل على ذلك ، كلُّ كتب العهد الجديد كانت قد كتبت قريبًا من هذا الوقت ، ولكن كان ثمة كثيرٌ من الكتب الأخرى أيضًا كلها تزعم أنَّها كُتِبَتْ بأقلام تلاميذ يسوع نفسه - منها الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل ورؤًى أخرى كانت تحوي وجهات نظر أخرى تختلف أشدُّ الاختلاف عن تلك الموجودة في الكتب التي حدث في النهاية وأن أصبحت تُعْرَفُ بالعهد الجديد. العهد الجديد نفسه ظهر نتيجة لهذه الصراعات حول العقيدة في الله ( أو الآلهة) حيث اكتسبت مجموعة من مجموعات المؤمنين متحوِّلين إلى الإيمان أكثرَ مما اكتسبته المجموعاتُ الأخرى وحدَّدت الكتب التي ينبغي أن تتضمنها القائمة الرسمية للكتاب المقدس. في القرنين الثاني والثالث ،رغم ذلك،لم يكن ثمة قائمة رسمية ولا عقيدة لاهوتية متفق عليهما . بدلا من ذلك ، كان هناك تنوعٌ كبيرٌ :مجموعات متنوعة تؤكد على عقائد لاهوتية متنوعة مبنية على نصوص مكتوبة متنوعة وكلُّها يزعم أنه قد كُتِبَ بأقلام تلاميذ يسوع .
بعض من هذه المجموعات المسيحية أصرَّت على أن الله قد خلق هذا العالم ؛ آخرون رأوا أن الإله الحق لم يخلق العالم (الذي هو،في النهاية،مكان شرير)، لكنَّ العالم نتج عن كارثة كونية . بعضٌ من هذه المجموعات أصرَّ على أن الكتب المقدسة اليهودية أوحاها الإلهُ الواحدُ الحقُّ ؛ آخرون زعموا أن الكتب المقدسة اليهودية تنتمي إلى إلهِ اليهودِ الأقلِّ شأنًا الذي لم يكن هو نفسه الإله الواحد الحق. بعض هذه المجموعات أصرَّت على أن يسوع المسيح كان الابن الوحيد للإله و أنَّه كان إنسانًا كاملا وإلهًا كاملا ؛ مجموعات أخرى أصرَّت على أن المسيح كان إنسانًا تامًّا ولم يكن إلهًا على الإطلاق ؛ آخرون ادعوا أنه كان إلهًا كاملا ولم يكن إنسانًا على الإطلاق؛ وأكد البعض الآخر أن يسوع المسيح كان الشيئين كليهما : كائنًا إلهيًّا ( المسيح) و كائنا بشريًّا (يسوع). بعض هذه المجموعات آمنت بأن موت المسيح حدث لأجل خلاص العالم؛ بينما أكد الآخرون أن موت المسيح لم يكن له أيَّ علاقة بخلاص العالم؛ في حين أصرَّت مجموعات أخرى على أن المسيح لم يَمُتْ أبدًا في الحقيقة .كل واحدة من وجهات النظر هذه - ووجهات نظر أخرى بالإضافة إليها - كانت محلًّا لنقاشات وحوارات و مناظرات متواصلة طوال القرون الأولى من عمر الكنيسة حيث كان المسيحيون من مختلف المعتقدات يحاولون إقناع الآخرين بصحة مزاعمهم . مجموعةٌ واحدةٌ في النهاية "خرجت منتصرة" من هذه المناظرات. إنها تلك المجموعة التي قررت ما ستكون عليه العقائد المسيحية : الاعتقادات التي ستؤكد أنه ليس ثمة إلا إله واحد ، هو الخالق ، ويسوع ابنه هو الإنسان و الإله كلاهما ؛ وأنَّ الخلاص تمَّ بالموت والقيامة . وهي أيضًا تلك المجموعة التي قررت أيَّ الكتابات ستتضمنها القائمة الرسميَّة للكتاب المقدس. لقد اتفق معظمُ المسيحيِّين ،قريبًا من نهاية القرن الرابع،على أن الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال ورسائل بولس وكذلك مجموعة أخرى من الرسائل مثل رسالتي يوحنا الأولى وبطرس الأولى ،إلى جانب رؤيا يوحنا، هم جزء من القائمة الرسمية . ويا تُرى من كان يقوم بنسخ هذه النصوص ؟ هم أنفسهم المسيحيون من أعضاء الرعويات نفسها ،أي المسيحيون الذين كانوا على وعي تامٍّ بـالمناظرات التي دارت حول شخص الإله وحول منزلة الكتب المقدسة اليهودية وطبيعة المسيح وآثار موته بل وكانوا حتى مشاركين فيها. إنها المجموعة التي نصَّبت من نفسها "أرثوذكسًا"( التي تعني أنهم يؤمنون بما يعتبرونه هم " الاعتقاد الصحيح") ثمَّ قرَّرت ما ستؤمن به الأجيال المسيحية التالية وما ستقرأه على اعتبار أنَّه الكتاب المقدس . إذن ما الاسم الذي ينبغي أن نطلقه على وجهات النظر "الأرثوذكسية" في الفترة التي سبقت تحولها إلى الرأي الغالب عند كل المسيحيين ؟ ربما من الأفضل أن نسميها "ماقبل الأرثوذكسية" (proto-orthodox). ما يعني أنها تمثل وجهات نظر المسيحيين " الأرثوذكس" قبل أن ينتصروا في النزاعات التي وقعت في وقتٍ قريبٍ من بواكير القرن الرابع الميلاديّ.
هل أثرت هذه النزاعات على النسّاخ حينما كانوا يقومون بنسخ كتبهم المقدسة ؟ في هذا الفصل سأزعم أنها أثَّرت. ولبيان هذه المسألة،سأقتصر على قضية طبيعة المسيح التي تمثِّلُ جانبًا واحدًا فحسب من جوانب النزاعات اللاهوتية المتواصلة خلال القرنين الثاني والثالث. هل كان المسيحُ إنسانًا ؟ هل كان إلهًا ؟ أم كان الاثنين كليهما ؟ ولو كان هو الاثنين كليهما، فهل كان كائنين منفصلين أحدهما بشريٌّ والآخر إلهيٌّ ؟ أما كان كائنا واحدا بشريًّا وإلهيًّا في الوقت ذاته ؟
هذه هي الأسئلة التي تمَّت الإجابة عنها في نهاية الأمر عبر العقائد التي صيغت ثمَّ استمر تناقلها إلى أن وصلتنا في عصرنا الحالي،إنها العقائد التي تنصُّ على أنَّه يوجد" ربٌّ واحدٌ يسوعُ المسيح " الذي كان إلهًا كاملا وإنسانًا كاملا. قبل أن تصدر هذه القرارات ،كان ثمَّة اختلافات واسعة وكان لهذه الاختلافات تأثيرها على نصوص كتابنا المقدس (3) .ولتوضيح هذا الأمر سأدرس ثلاثة مواضع للنزاع حول طبيعة المسيح وسأرصد الطرق التي غيَّر من خلالها نسَّاخٌ حسني النية(لا شك في ذلك) نصوص الكتب التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد. لقد حرَّفوا النصوص التي لديهم عن عمد بغية جعلها أكثر موافقةً لوجهات نظرهم اللاهوتية الشخصيَّة وأقل موافقة لوجهات النظر اللاهوتية التي يعتنقها خصومهم . أول المواضع التي سأتناولها بالبحث تتعلق بزعم بعض المسيحيين أن يسوعَ كان إنسانًا كاملا لدرجة لا يمكن معها أن يكون إلهًا . و تلك كانت وجهة نظر مجموعة من المسيحيين يسميها العلماء اليوم بالتبنَّويين (adoptionists). وجهة نظري التي أجادل لإثباتها هي أن النسَّاخ المسيحيين الذين كانوا خصومًا لوجهات النظر التبنّوية حول يسوع قاموا بتعديل نصوصهم في بعض المواضع لكي يؤكَّدوا وجهة نظرهم القائلة أن يسوع لم يكن إنسانًا فحسب وإنما كان إلهًا أيضًا. يمكننا أن نسمي هذه التعديلات تحريفات الكتاب المقدس المضادة للتبنَّويين.

تحريفات النص المضادة للتبنَّويين
المسيحيون التبنِّيّون الأوائل

عددٌ من المجموعات المسيحية في القرنين الثاني والثالث نعلم عنها أنَّها كان لها وجهات نظر" تبنَّويّة" فيما يتعلق بالمسيح . وجهة النظر هذه سُمِّيت بالتبنَّوية لأنَّ المؤمنين بها أكدُّوا أن يسوع لم يكن من جوهرٍإلهيٍّ وإنما هو كائنٌ بشريُّ كاملٌ من لحمٍ ودمٍ " تبنّاه" الله لكي يصير ابنًا له وهو ما حدث غالبًا أثناء لحظة عماده (4) . أحدًُ أشهرِ المجموعات المسيحية المبكرة التي اعتنقت عقائد تبنَّوية حول المسيح كانت طائفة من اليهود المتنصرين عرفت باسم الأبيونيين .
لسنا على يقين من السبب الذي من أجله أطلق عليهم هذا الاسم . فمن المحتمل أنه ظهر كتسمية أطلقوها هم على أنفسهم استمدُّوها من الاسم العبري إبيون (Ebyon)الذي يعني " فقير". أتباع يسوع هؤلاء من المحتمل أنَّهم تأسَّوا بتلاميذ يسوع الأوائل في التخلِّي عن كلِّ شئٍ يملكونه في سبيل إيمانهم وهكذا فرضوا على أنفسهم فقرًا اختياريًّا من أجل الآخرين .
مهما يكن مصدر الاسم الذي حملوه فقد ذُكِرَت آراء هذه المجموعة بوضوح في سجلاتنا المبكرة،خاصة تلك التي كتبها أعداؤهم الذين نظروا إليهم باعتبارهم هراطقة. أتباع يسوع هؤلاء كانوا مثلََه يهودًا ؛حيث كان إصرارهم على أن الإنسان "لكي يصير تابعًا من أتباع يسوع فعليه أن يكون يهوديًّا" هو ما كان يميِّزُهم عن المسيحيين الآخرين. فكون الإنسان يهوديًّا يعني بالنسبة للرجال أن يختتنوا. وبالنسبة للرجال والنساء،كان ذلك يعني اتِّباع الشريعة اليهودية التي جاء بها موسى بما في ذلك أحكام الطعام الكوشير (الحلال) وحفظ السبت و الأعياد اليهوديَّة .
لقد كان مفهومُهم عن يسوع باعتباره مسيحًا يهوديّا هو،على وجه الخصوص، ما فرَّق بين هؤلاء المسيحيين وبين الآخرين. لأنَّه وحيث إنهم كانوا موحِّدين شديديِّ الالتزام ـ أي يؤمنون بأنًّ واحدًا فحسب هو المستحق لأن يكون إلهًا ـ فقد أصرُّوا على أن يسوع لم يكن إلهًا،بل كائنًا بشريًّا لا يختلف في "الطبيعة" عن بقيتنا. فهو قد وُلِِدَ من اتِّحادٍ جنسيِّ بين أبويه يوسف ومريم ووُلِد مثل أيِّ شخصٍ آخرَ ( فأمُّه لم تكن عذراءً) وتربّى ،من ثمَّ، في بيت يهوديٍّ. أمَّا ما جعل يسوع مختلفًا عن الآخرين كلِّهم فهو أنه كان أكثرهم برًّا في اتِّباعه للشريعة اليهودية؛ ومن أجل شدة برِّه تبنَّاه الله لكي يصير ابنه في لحظة العماد حينما سُمِع صوتٌ قادم من السماء يعلن أنَّه ابنَ الله . من تلك اللحظة فصاعدًا ،شعر يسوع أنه مدعوٌّ لإكمال المهمة التي كان الله قد أوكلها إليه ـ الموتُ على الصليب كأضحيةٍ كريمة من أجل خطايا الآخرين .
فعل ذلك بطاعة مخلصة تجاه ما دُعِي إليه ؛ الرب حينئذ أكرم تضحيته بإقامته يسوع من بين الأموات ورفعه إلى السماء حيث ينتظر إلى الآن قبل عودته لدينونة الأرض .
وبحسب الأبيونيين،لم يكن ليسوع،إذن،وجود قبل الزمان؛ وهو لم يُولَد من عذراء ؛ولم يكن إلهًا. كان يسوع إنسانًا بارًّا و مميَّزًا اختاره الله وأولاه علاقة خاصة معه .
ردًا على وجهات النظر التبنّويّة تلك ،مسيحيو ما قبل الأرثوذوكسية أصرّوا على أن يسوع لم يكن إنسانًا " فحسب" ، وإنما كان بالفعل من جوهرٍ إلهيّ، بل كان هو الله نفسه من بعض الوجوه. فلقد وُلِدَ من عذراء،وكان أكثرَ برًّا من أيِّ إنسانٍ آخرَ بحكم جوهره المختلف، وفي لحظة عماده لم يعلنه الله ابنا ( عبر التبنّي ) وإنما أكّد فقط بنوته له كما هوحاله منذ الأزل .
كيف أثرت هذه النزاعات على نصوص الكتاب المقدَّس التي كانت منتشرة خلال القرنين الثاني والثالث ، التي هي تلك النصوص كانت في طور النّسْخ من خلال نُسَّاخٍ غير محترفين كانوا هم أنفسهم متورطين إن بصورة أكبر أو أقل في تلكم النزاعات ؟ هناك القليل جدا ،بل تكاد تكون منعدمة،من القراءات المتباينة التي يبدو أنها كتبت عبر نساخ كانوا يعتنقون وجهة نظر تبنّوية . سبب هذه الندرة في الأدلة لا ينبغي أن يصيبنا بالدهشة . فلو حدث أن أحد المسيحيين التبنَّويين كان قد أدخل وجهات نظره إلى نصوص الكتاب المقدس ،فبالتأكيد سيجد من يصحِّحُها من بين النسَّاخِ المتأخرين ممن يعتنقون خطًّا أكثر أرثوذكسية. ما وجدناه بالفعل،مع ذلك،هي نماذج تعرَّضت فيها النصوص للتحريف على نحوٍ يبدو وكأنه قد حدث لمواجهة وجهة نظرٍ تبنَّوية فيما يتعلق بطبيعة المسيح . هذه التغييرات تؤكِّد أن المسيح مولودٌ من عذراء وأنه لم يُتَبَنَّ أثناء العماد بل هو نفسه كان إلهًا .

تحريفات النص المضادة للتبنَّويين

لقد رأينا بالفعل من قبل تغييرا نصّيًّا يتعلق بالنِّزاع حول طبيعة المسيح وذلك عند نقاشنا في الفصل الرابع للأبحاث النصّية الخاصة بـ ( ج.ج فيتشتاين ). قام فيتشتاين بفحص المخطوطة السكندرية ، المحفوظة الآن في المكتبة البريطانية وتوصل إلى أنَّه في 1 تيموثي 3 : 16 ،بينما تتحدث معظم المخطوطات المتأخرة عن المسيح على اعتبار أنَّه " الله ظهر في الجسد "، تتحدث هذه المخطوطة الأكثر قِِدَمًا في الأصل ،بدلا من ذلك، عن المسيح "الذي أُظْهِرَ في الجسد " (who was made manifest in the flesh) .الاختلاف دقيق جدا في اللغة اليونانية ـ فهي فرق بين حرف "ثيتا" وحرف "أوميكرون" المتشابهين كثيرًا. أحد النسَّاخُ المتأخرين أدخل تغييرًا إلى القراءة الأصلية حتى لا تعود تُقرأ " الذي" وإنما لتقرأ " الله " ( ظهر في الجسد ). أو فلنقلها بكلمات أخرى،هذا المصحّح المتأخِّر غيّر النص بتلك الطريقة لكي يؤكِّد على ألوهية المسيح. من المدهش أن ندرك أن هذا التصحيح نفسَه وقع في أربعٍ من مخطوطاتنا الأخرى الأكثر قدمًا التي تخص 1 تيموثي ، في جميع هذه المخطوطات كان ثمة مصحِّحُون يغيرون النص بالطريقة ذاتها لكي يُدعى المسيح الآن " إلها" على نحوٍ واضحٍ. هذا النص أصبح هو النص المفضل لدى الأغلبية الساحقة من المخطوطات البيزنطية (أي المنتمية للعصور الوسطى ) - وبعد ذلك أصبح نصُّ غالبية الترجمات المسيحيَّة القديمة . مخطوطاتنا الأقدم والأفضل،مع ذلك،تتحدث عن المسيح "الذي" أُظْهِرَ في الجسد بدون أن تدعو يسوع إلهًا وذلك بشكل شديد الوضوح. هذا التغيير الذي حدث وأن تسيَّد المخطوطات المكتوبة في العصور الوسطى،إذن، صُنِعَ صُنْعًا لكي يؤكِّد ألوهية يسوع في نصٍّ كان يتَّسم بالغموض،في أحسن الظروف، بشأنها. هذا سيصبح مثالا على التحريف المضاد للآراء التبنوية وتحريفًا نصيّا أُحدِثَ لكي يضاد الزعم بأنَّ يسوع كان إنسانًا كاملا و لم يكن من جوهرٍ إلهيّ.
تغييراتٌ أخرى مضادة للآراء التبنويّة وقعت في المخطوطات التي تؤرِّخُ لحياة يسوع المبكرة في إنجيل لوقا. ففي موضعٍ واحدٍ يقال لنا أن يوسف ومريم اصطحبا يسوع إلى الهيكل وباركه رجل الله سمعان ، " وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ " (لوقا 2 : 33 ). أبوه ؟!! كيف يجرؤ النص أن يدعو يوسفَ أبًا ليسوع لو كان يسوع قد وُلِد من عذراء ؟ ليس من الغريب إذن أن يغيِّر عددٌ كبيرٌ من النُسّاخ النصَّ لكي يزيلوا الإشكالية المحتملة وذلك عبر قولهم " وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ ..." فالآن لا يسع مسيحيًّا تبنّويًّا أن يستغلَّ هذا النصَّ لكي يدعم الزعم القائل أن يوسفَ كان والدَ الطفل .
ظاهرة مشابهة حدثت بعد عددٍ قليلٍ من الأعداد في قصة يسوع ذي الاثنى عشر ربيعًا في الهيكل . للقصة خطٌّ مألوف: يوسف ومريم ويسوع يحضرون احتفالا في أورشليم لكن بعد ذلك عندما يتوجه باقي العائلة إلى بيتهم مع القافلة يتخلَّف يسوع بغير علمهم . كما يقول النص ،" أبواه لم يكونا يعلمان عن ذلك ." لكن كيف للنص أن يتحدَّث عن أبويه في الوقت الذي لم يكن يوسف أبًا ليسوع في الحقيقة ؟ عددٌ من الشواهد النصَّية "تصحّحُ" المشكلة عبر جعلها النص يُقرأ كالتالي،" وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا". مثالٌ آخرُ نستقيه من بعض الأعداد التالية، فبعد أن عادوا إلى أورشليم للبحث عن يسوع في كلِّ مكانٍ، تجده مريم بعد ثلاثة أيام في الهيكل. فإذا بها توبخه قائلة :" أنا وأبوك كنَّا نبحث عنك!" ومرة أخرى،قام بعض النسّاخ بحل المشكلة - هذه المرة عبر تحريف النص ببساطة لكي يُقرأ :"كنا نبحث عنك !"
أحدُ أكثرِ القراءات المتباينة المضادة للآراء التبنّوية طرافة بين مخطوطاتنا تحدث تمامًا حيث يتوقع المرء وجودها، ففي الرواية الخاصة بعماد يسوع على يدي يوحنا،أي في اللحظة ذاتها التي أصرَّ كثيرٌ من التبنَّويين على أن يسوع اختير فيها من قِبَل الله لكي يصبح ابنَه المتبنَّى. ففي إنجيل لوقا ،كما في مرقس،عندما كان يسوع يتمُّ تعميدُه ،انفتحت السماء ونزل الروح على يسوع في شكل حمامة وجاء صوت من السماء . لكنّ مخطوطاتِ إنجيلِ لوقا منقسمة بشأن ما قاله الصوت على وجه التحديد. وفقًا لمعظم مخطوطاتنا، نجدها تنطق الكلمات نفسها التي يجدها المرء في إنجيل مرقس :" أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ! " (مرقس 1 : 11 ؛ لوقا 3:23).
في مخطوطة يونانية مُمْعنةٌ في القِدَمِ وفي العديد من المخطوطات اللاتينية يقول الصوت شيئًا مختلفًَا بصورة صادمة :" أنت ابني ،أنا اليوم ولدتُك."
اليوم! ولدتُك! ألا يوحي ذلك بأنَّ يوم العماد هو اليوم ذاته الذي أصبح فيه يسوع ابنًا لله ؟ ألا يمكن أن يستخدم مسيحيٌّ تبنّويٌّ هذا النص ليدعم قضية صيرورة المسيح ابنا لله في هذا اليوم ؟
وبما أن هذه القراءة المتباينة تتسم بمثل هذه الطرافة،ربما من المستحسن أن نعيرَها بعض الانتباه كتوضيحٍ موسَّعٍ لصعوبة المشكلات التي يواجهها النقاد النصِّيون.
القضية الأولى التي ينبغي حلها هي : أيُّ هذين الشكلين من النص هو الشكل الأصلي وأيُّهما التحريف ؟ الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية تدعم القراءة الأولى "أنت ابني الحبيب الذي به سررت"؛ وهكذا ربما تغوي هذه الحقيقة المرء لكي ينظر إلى القراءة الأخرى باعتبارها تحريفًا . المشكلة في هذه الحالة هو أن هذا العدد اقتبسه كثير من آباء الكنيسة الأوَّلون في وقت لم تكن فيه معظم مخطوطاتنا قد كتبت بعد . فالنص يتمُّ اقتباسه في القرنين الثاني والثالث في كل مكان من روما إلى الإسكندرية ومن شمال أفريقيا وفلسطين إلى بلاد الغال (فرنسا)وأسبانيا. وفي كل الحالات تقريبًا ، كان الشكل الثاني من النص هو الذي يقتبس ( "أنا اليوم ولدتُك ").
أضف إلى ذلك أن هذا هو شكل النص الذي لا يشبه كثيرًا ما هو موجود في الفقرة الموازية في مرقس. يحاول النساخ بصورة نمطيّة ،كما رأينا ،أن يوفِّقوا بين النصوص بدلا من أن يتركوها متنافرة . لذا فشكل النص الذي يختلف عن مرقس هو الذي من المحتمل أكثر أن يكون النص الأصليَّ في لوقا. هذه الافتراضات ترجح أن القراءة الأقل ورودا في المخطوطات ـ" أنا اليوم ولدتُك" ـ هي بالفعل القراءة الأصلية وأنها تعرضت للتحريف عبر نسَّاخٍ خشوا من صداها التبنَّويّ . بعض العلماء اعتقدوا وجهة النظر المخالفة عبر التذرُّع بأنَّ الصوت أثناء العماد لدى لوقا لا يمكن أن يقول" أنا اليوم ولدتك " لأنه من الواضح أنه قد ذُكِرَ من قبلُ بالفعل ضمن رواية لوقا أن يسوع هو ابن الله . فها هو الملاك جبريل يعلن قبل ميلاد يسوع ،في لوقا 1 : 35،لأمِّ يسوع أن " اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. "
حسب وجهة نظر لوقا نفسه،بكلماتٍ أخرى،كان يسوع بالفعل ابنًا لله عند ولادته. فلا يمكن أن يقال عن يسوع ،وفقًا لهذه الحُجة، إنَّه أصبح ابنًا لله في أثناء عماده- ولذلك فالقراءة الأكثر ذكرا في المخطوطات ،" أنت ابني الحبيب الذي به سررت،" من المحتمل أن تكون هي القراءة الأصلية. الصعوبة التي يواجهها هذا النمط من التفكير ـ برغم مظهره المقنع للوهلة الأولى ـ أنَّه يتجاهل الكيفية التي يستخدم بها لوقا ألقاب يسوع بشكل عام في ثنايا كتابه ( بما في ذلك كتابه الثاني سفر الأعمال وليس فقط الإنجيل ). تأمَّل،على سبيل المثال، ما يقوله لوقا عن يسوع باعتباره " المسيح"( التي هي الكلمة العبرية المقابلة للمصطلح اليوناني كرايست). فوفقًًا للوقا 2 : 11،ولد يسوع كمسيح، لكنَّه في واحدة من العبارات الواردة في سفر الأعمال، يقال عنه إنَّه صار مسيحًا أثناء عماده ( أعمال 10 : 37 – 38 )؛ وفي فقرة أخرى يصرح لوقا بأنَّ يسوع أصبح المسيح عند قيامته من الأموات ( أعمال 2 : 38 ). كيف يمكن أن تكون كل هذه الأمور صحيحة مجتمعةً ؟ يبدو أن التأكيد على اللحظات الهامة في حياة يسوع بالنسبة للوقا كان هو الأمر الأهم والذي ينبغي التشديد عليه باعتباره ضروريًّا لتأكيد هوية يسوع( باعتباره المسيح على سبيل المثال). الأمر ذاته ينطبق على المفهوم اللوقاوي عن المسيح باعتباره " الرب" (Lord). فقد قيل عنه أن الربَّ قد وُلِد في لوقا 2 : 11 ؛وأطلق عليه لقب"الرب" أثناء حياته في لوقا 10 : 1 ؛ لكنَّ سفر الأعمال 2 : 38 يشير إلى أنه أصبح ربًّا عند قيامته . من وجهة نظر لوقا، شخصية يسوع باعتباره الرب وابن الله هي الأمر ذو الأهمية . لكنَّ وقت حدوث ذلك،من الواضح،أنه ليس كذلك. فيسوع هو كل هذه الأشياء عند لحظات حياته الحاسمة ـ الميلاد ، العماد ، القيامة ، مثلا.
يبدو ، من ثمّ، أنه في رواية لوقا عن عماد يسوع في الأصل،أتى الصوت من السماء ليعلن" أنت ابني ، أنا اليوم ولدتُك ". من المحتمل أن لوقا لم يكن يقصد أن يتم تفسير هذا العدد بما يخدم وجهة النظر التبنَّويّة،حيث إنه،في النهاية، كان بالفعل قد حكى قصة ميلاد يسوع من عذراء ( في الفصلين 1 – 2 ). لكنَّ المسيحيين المتأخِّرين عند قراءتهم للعدد 3 : 22 من إنجيل لوقا ربما قد أدهشهم مضمونها المحتمل حيث إنه يبدو عرضةً للتفسير التبنّوي.
ولكي يمنعوا كلَّ أحدٍ من أن يفهم هذا النص على هذا النحو، بعضُ نسَّاخ ما قبل الأرثوذكسيّة غيَّروا النص لكي يجعلوه متطابقًا تمامًا مع النص 1 : 1 من إنجيل مرقس. الآن، وبدلا من أن يقال عن يسوع إنَّه وُلِد من الله، قيل عنه ما يؤكِّد أنَّه:"أنت ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ". وهذا ، بكلمات أخرى، تغييرٌ آخر للنص وقع لدوافع مضادة للأفكار التبنّويّة .
سوف نختم هذا الجزء من نقاشنا بالنظر إلى تحريف آخر على الشاكلة ذاتها . هذا التغيير،مثلما هو الحال مع 1 تيموثي 3 : 16،يتعلق بنص قام فيه الناسخ بإحداث تحريف لكي يؤكِّدَ بعبارات قوية للغاية أن إيماننا بيسوع ينبغي أن يكون باعتباره الله بكل ما في الكلمة من معنى . يقع هذا النص في إنجيل يوحنا الذي هو الإنجيل الذي يتميز عن غيره من الأسفار التي نجحت في أن تكون جزءًا من القائمة القانونية للعهد الجديد في أنَّه بالفعل قد قطع شوطًا كبيرًا تجاه تحديد هويّة يسوع باعتباره كائنًا إلهيًّا( انظر على سبيل المثال ، يوحنا 8 : 58 ؛ 10 :30 ؛ 20 : 28 ). تحديد الهويّة هذا قد حدث على نحوٍ مدهشٍ للغاية في فقرة كان نصُّها الأصليّ مَحِلا لنزاع ساخن . الأعداد الثمانية الأولى من إنجيل يوحنا يطلق عليها أحيانا مقدمة الإنجيل (Prologue). يوحنا هنا يتحدث عن" كلمة الله "الذي كان" في البدء عند الله" والذي "كان هو الله " ( الأعداد 1- 3 ).كلمة الله هذه خلقت كلَّ شئٍ موجود. فوق ذلك، هي وسيلة الله في الاتصال بالعالم ؛ فالكلمة هي الطريقة التي بها أظهر الله نفسه للآخرين . ويقال لنا إنَّه في لحظة ما "الكلمة صار جسدا و حلّ بيننا ." بطريقة أخرى، كلمة الله أصبحت كائنًا بشريًّا ( عدد 14 ). هذا الكائن البشريُّ كان هو" يسوع المسيح "(عدد 17 ). وفقًا لهذا الفهم للأمور ،فإن يسوع المسيح يمثّل " تجسُّد " كلمة الله ، الذي كان مع الله في البدء وكان هو نفسه الله،والذي من خلاله خلق الله كلَّ الأشياء . ثمَّ تنتهي المقدمة ببعض الكلمات المفاجئة ، التي تأتي في أشكال متنوعة :" اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. "
المشكلة النصّيّة تتعلق بتحديد هوية هذا " الوحيد". هل ينبغي تحديده باعتباره "الإله الوحيد الذي هو في حضن الآب " أم باعتباره " الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب "
يجب أن يكون معلومًا أنَّ القراءة الأولى هي القراءة التي وجدت في أقدم المخطوطات والأفضل بوجه عام - وهي التي تنتمي إلى العائلة النصّيّة السكندرية. إلا أن الأمر المدهش هو أنه نادرًا ما نجدها في مخطوطات ليست لها صلة بالإسكندريّة . هل من الممكن أن تكون هذه القراءة قراءةً نصيّةً متباينة أحدثها ناسخٌ في الإسكندرية ثمّ تمَّ تعميمُها هناك ؟ لو صحَّ ذلك،فهذا سيفسِّرُ السبب الذي من أجله تضمنت الغالبية الساحقة من المخطوطات من كل الأماكن الأخرى القراءة الثانية التي جاء فيها أن يسوع لم يُدْعَ الإله الوحيد (unique God) ، وإنما الابن الوحيد .هناك أسبابٌ أخرى تجعلنا نعتقد أن القراءة الأخيرة هي،في حقيقة الأمر،القراءة الصحيحة. وذلك لأنَّ إنجيل يوحنا يستخدم عبارة "الابن الوحيد" ( أحيانا تترجم بطريقة خاطئة كـ" الابن الوحيد المولود only begotten Son " ) في مناسبات أخرى عديدة ( انظر يوحنا 3 : 16 ، 18 )؛ ولم يذكر في أيِّ مكان آخر أن المسيح هو " الإله الوحيد ". فوق ذلك ، ماهو المقصود من إطلاق (الإله الوحيد)على المسيح ؟ كلمة وحيد unique باليونانية تعني " الفريد من نوعه." من يكون وحيدًا من نوعه لابد أنه واحدٌ فقط. أمَّا مصطلح الإله الوحيد لابد وأنه يشير إلى الله الآب نفسه ـ وإلا فهو ليس فريدًا من نوعه. لكنَّ التعبير لو كان يشير إلى الآب ، فكيف يتم استخدامه للدلالة على الابن؟
لو سلمنا بأنَّ عبارة إنجيل يوحنا "الابن الوحيد" هي الأكثر شيوعًا (وقابلية للفهم )، فمن الواضح أنَّ تلك العبارة هي التي كان عليها النصُّ المكتوب في يوحنا 1 : 18 في شكله الأصليّ . هذا النص بحد ذاته ما يزال يمثل رؤية أكثر تمجيدًا للمسيح ـ فهو"الابن الوحيد الذي في حضن الآب." وهو الشخص الذي يجعل الله ظاهرًا لكلِّ إنسانٍ آخرَ .
يبدو ، مع ذلك ، أنَّ بعض النسّاخ - من المحتمل أنَّ الإسكندرية كانت موطنهم - لم يكونوا سعيدين حتى بتلك الرؤية الممجِّدة للمسيح ،ولذلك جعلوها أكثر تمجيدًا عن ذي قبل وذلك عبر تحريف النص . الآن المسيح ليس ابن الله الوحيد فحسب،بل هو الإله الوحيد نفسُه ! وهذا أيضًا يبدو،حينئذ، تغييرًا للنص لأسباب مضادة للآراء التبنّويّة اضطلع به نسّاخ ماقبل الأرثوذكسية في القرن الثاني.

تحريفات النص المضادة للآراء الظهورية

*الظهوريون المسيحيون الأوائل

في الطرف المقابل للخط اللاهوتي القادم من خلفية يهودية متنصرة والمتمثل في الأبيونيين ومعتقداتهم التبنَّويَّة في المسيح،كانت تقف مجموعات من المسيحيين عرفوا باسم الظهوريين (5) .أصل هذا الاسم مشتقٌ من الكلمة اليونانية (DOKEO) ،التي تعني " ظهور" أو "ترائي". كان الظهوريون يعتقدون أن يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا كاملا من لحمٍ ودمٍ . بل كان بدلا من ذلك إلهيا تمامًا ( وفقط )؛ لكنه "بدى" أو " ترائى " ككائن بشريٍّ ،أو بدى وكأنه يشعر بالجوع والعطش و الألم ، وبدى وكأنه ينزف ويموت. وحيث أن يسوعَ كان هو الله ، فلا يسعه أن يكون إنسانًا على الحقيقة. وإنَّما هو ببساطة كان قد جاء إلى الأرض في "مظهر" بشريٍّ من لحمٍ ودم.
ربما كان الفيلسوف المُعَلِّم مرقيون هو أشهرُ ظهوريِّي القرون الأولى للمسيحية. لدينا كمٌّ كبير من المعلومات حول مرقيون لأن آباء الكنيسة في عصر ما قبل الأرثوذكسية من أمثال إيريناوس و تيرتوليانوس اعتبروا آراءه تهديدًا حقيقيًّا ولذا كتبوا عنها بكثافة. وما يزال لدينا كتابٌ من خمس مجلدات كتبه "تيرتليانوس" يسمى ضد مرقيون تحدث فيه بالتفصيل عن مفهوم الإيمان عند مرقيون وشنَّ فيه هجومًا عليه . ومن هذه المقالة الجدالية يمكننا أن نستقي الخصائص الرئيسية لأفكاره.
كما رأينا (6) ، يبدو أنَّ مرقيون استقى أفكاره من الرسول بولس الذي كان يعتبره التلميذ الحقيقيَّ الوحيد ليسوع . في بعض رسائله يفرِّق بولس بين الناموس (الشريعة) والإنجيل مؤكِّدًا أنَّ الإنسان سيتبرَّر أمام الله عبر الإيمان بالمسيح (أي الإنجيل ) وليس بتأدية أعمال الناموس اليهودي. بالنسبة لمرقيون هذا الاختلاف بين إنجيل المسيح وشريعة موسى كان اختلافًا جذريًّا إلى درجة أن الإله الذي أعطى الشريعة لا يمكنه أبدًا أن يكون ذلك الذي أعطانا الخلاص في المسيح .
لقد كانا،بطريقة أخرى ،إلهين اثنين مختلفين . فإله العهد القديم هو الذي خلق العالم واختار إسرائيل ليكونوا شعبه وأعطاهم شريعته المتوحشة . وهو،عندما ينقضون شريعته ( كما فعلوا جميعا )،يعاقبهم بالموت . أما يسوع فقد جاء من قِبَل الإله الأعظم ،أُرسل لينقذ الناس من إله النقمة الذي يعبده اليهود . وحيث إنه لا ينتمي لهذا الإله الآخر الذي خلق العالم المادِّيّ، لم يكن يسوع نفسه جزءًا من هذا العالم المادي. هذا يعني،من ثمّ،أنه لا يمكن أن يكون قد وُلِد في الحقيقة ،وأنه لم يكن له جسدٌ ماديٌّ ،ولم يكن بوسعه النزيف حقيقةً وهذا يعني أنه في حقيقة الأمر لم يمت . كل هذه الأشياء كانت أمرًا ظهوريًّا. لكنَّ يسوع حين "ظهر" ميتًا ـ كأضحية كاملة في الظاهر- قَبِِل ربُّ اليهود هذا الموت كثمن لمغفرة الخطايا. وكل من يؤمن بهذا سينجو من نقمة هذا الإله.
مؤلفوا ماقبل الأرثوذكسيّة مثل ترتليانوس حملوا بشدة على هذه العقيدة اللاهوتية وأصرُّوا على أنَّه لو لم يكن المسيح كائنًا بشريًّا حقيقيًّا ،فلن يكون بوسعه أن ينقذ الكائنات البشرية الأخرى،وأنَّه لو لم ينزف دماءًا على الحقيقة ، فإنَّ دمه لا يمكن أن يجلبَ الخلاصَ وأنَّه لو لم يمت حقيقةً ،فموته " الظاهري" هذا لن يفيد أي شخص . لقد اتخذ ترتليانوس والآخرون، إذن، موقفًا قويًّا مفاده أن يسوع ـ في حين أنه ما يزال كائنًا إلهيًّا (على الرغم ممَّا قاله الأبيونيون و التبنَّويون الآخرون ) - كان مع ذلك إنسانًا كاملا. كان إنسانًا من لحم ودم ؛ كان باستطاعته الشعور بالآلام والنزف حقيقةً ، وقد أُقيم حقًا ببدنه من بين الأموات ؛ وارتفع بالبدن على الحقيقة إلى السماء حيث ما يزال في انتظار العودة بالبدن مكلَّلا بالمجد .
تحريفات النص المضادة للدوسيطيين(الظهوريين)
الصراع حول العقائد الظهورية المتعلقة بالمسيح كان له تأثيرٌ على النسَّاخ الذين كانوا يقومون بنسخ الكتب التي أصبحت في النهاية هي العهد الجديد. لكي أوضح هذه النقطة سوف أقوم بفحص أربع قراءات نصية متباينة في الفصول الأخيرة من إنجيل لوقا الذي ،كما رأينا، كان الإنجيل الوحيد الذي قبله مرقيون باعتباره الكتاب المقدس الرسمي (7) .
أولى القراءت الأربع تتعلق بفقرة ناقشناها أيضا في الفصل الخامس ـ ألا وهي الرواية الخاصة بـ"دماء يسوع التي على هيئة عَرَق ". وكما رأينا هناك ،من المحتمل أن الأعداد محل الدراسة لم تكن أصلية في إنجيل لوقا . وتذكَّرْ أن هذه الفقرة تصف الحوادث التي وقعت قبل القبض على يسوع مباشرةً عندما ترك تلاميذه ليختلي بنفسه للصلاة داعيا الله أن يجيز عنه كأس آلامه مع الدعاء بأن " تتم مشيئة الله ". ثمّ نقرأ، في بعض المخطوطات،الأعداد المتنازع عليها : " وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ." ( الأعداد 43 – 44 ).
أنا جادلت في الفصل 5 لإثبات أن الأعداد 43 -44 تمزق بناء هذه الفقرة الموجودة في إنجيل لوقا،التي هي بطريقة أخرى قلب لترتيب الكلمات في جملتين متوازيتين * chiasmus تشد الانتباه إلى صلاة يسوع بخصوص مشيئة الله التي ينبغي أن تتمَّ .
أفترض أيضًا أن هذه الأعداد تتضمن عقيدة لاهوتية تختلف تمامًا عن الأخرى الموجودة في رواية لوقا عن الآلام . في كل مكان آخر ، كان يسوع هادئًا ومحافظًا على رباطة جأشه. لقد خرج لوقا،في الحقيقة ،عن مساره في التخلص من أي إشارة إلى جزع يسوع في روايته . هذه الأعداد ، من ثمَّ ،ليس لها وجود في أهم وأقدم الشواهد فحسب ، بل إنها أيضًا تسير عكس تيار الصورة الأخرى الموجودة في إنجيل لوقا عن مواجهة يسوع لموته . رغم ذلك ،يبقى السؤال مطروحًا : لماذا أضاف النسَّاخ هذه الأعداد إلى الرواية ؟ نحن الآن في موقع يسمح لنا بالإجابة عن ذلك السؤال. من الجدير بالملاحظة أن هذه الأعداد أُشيرَ إليها لمرات ثلاث من خلال مؤلفي ماقبل الأرثوذكسية في منتصف آواخر القرن الثاني ( جوستينوس الشهيد وإيريناوس الغالي ( من بلاد الغال)وهيبوليتوس الرومي (نسبة إلى روما ) )؛ الأمر الذي لا يزال مثيرًا للكثير من التعجُّب هو أن هذه الأعداد كلما تُذكر في أيِّ موضعٍ،يحدث ذلك في معرض مقاومة وجهة النظر الخاصة بكون يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا حقيقيًّا. أو فلنقلها بكلمات أخرى،الجزع العميق الذي شعر به يسوع وفقا لهذه الأعداد كان الهدف منها إظهار أنه كان في الحقيقة إنسانًا وأنه كان قابلا للمعاناة مثلنا جميعا. لذلك جوستينوس ،على سبيل المثال، الذي هو أحد علماء اللاهوت الدفاعي من المسيحيين الأوائل يزعم ،بعد ملاحظته أن " عَرَقُهُ َصَارَ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ عِنْدَمَا ٍ كَانَ يُصَلِّي " أن ذلك أظهر" أن الآب كان يتمنى أن يعاني ابنه مثل هذه الآلام من أجلنا ،" حتى" لا نقول إنه ،لأنه كان ابنا لله، لم يشعر بما كان يحدث له ولا بما تكبّده (8)."
لنقلها بطريقة أخرى،جوستينوس وأضرابه من مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فهموا أن هذه الأعداد أظهرت في شكل نابض بالحياة أن يسوع لم "يظهر" فحسب أنه إنسان : بل لقد كان بالفعل إنسانًا في كل شئ . يبدو من المحتمل،إذن،وحيث أن هذه الأعداد ،كما رأينا،لم تكن جزءا أصليًّا في إنجيل لوقا، أنَّها أضيفت لأغراض مضادة للدوسيطيين(الظهوريين)،لأنها ترسم صورة واضحة تمامًا لبشرية يسوع الحقيقية.
من وجهة نظر مسيحيي ما قبل الأرثوذكسيّة ، كان من الأهمية بمكان تأكيد المسيح كان إنسانًا حقيقيًّا من لحمٍ ودمٍ لأنَّ لحمه المذبوح و دمه المسفوك هما تحديدًا الذان جلبا لنا الخلاص - ليس في الظاهر وإنَّما في الحقيقة .
قراءة نصيّة متباينة أخرى في رواية لوقا للساعات الأخيرة من حياة يسوع تؤكد هذه الحقيقة . يحدث ذلك في رواية عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه . في واحدة من أقدم مخطوطاتنا اليونانية ، وكذلك في العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال لنا :
وبعد أن أخذ كأسًا ، وشكر ، قال ، " خذوا هذه وقسموها على أنفسكم ، لأنني أقول لكم إنني لن أشرب من فاكهة هذه الكرمة من الآن فصاعدًا ، حتى يأتي ملكوتُ الله." ثم أخذ خبزا ، وشكر ،وأخذ قطعة وأعطاهم إياها ، قائلا ," هذا جسدي . لكن انظروا، يد ذلك الشخص الذي سيخونني هي معي على هذه المنضدة . ( لوقا 22 : 17 -19 )
في غالبية مخطوطاتنا ، مع ذلك ، هناك إضافة إلى هذا النص ، وهي تلك الإضافة التي ستبدو مألوفة لكثير من قراء الكتاب المقدس الإنجليزي ، حيث وجدت طريقها إلى معظم الترجمات الحديثة . فبعد أن يقول يسوع " هذا جسدي ،" يواصل حديثه مع هذه الكلمات " الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ."
هذه كلمات مألوفة تتحدث عن "شراكة " عشاء ربنا المعروفة أيضًا في شكل شديد الشبه في الرسالة الأولى إلى الكورينثيين (1 كور 11 : 23 – 25 ). على الرغم من حقيقة أن هذه الأعداد مألوفة،هناك أسباب مقنعة تدفعنا للاعتقاد بأنَِّ هذه الأعداد لم تكن في الأصل في إنجيل لوقا بل تمت إضافتها للتأكيد على أن جسد يسوع المكسور والدم المسفوك هما اللذان أتيا "لكم" بالخلاص.
أولا،من الصعب تفسير السبب الذي من أجله سيحذف ناسخٌ هذه الأعداد إذا كانت أصيلة في إنجيل لوقا (فليس ثمة نهايات متشابهة (homoeoteleuton) ،على سبيل المثال ،يمكنها أن تفسر هذا الحذف )وخاصة إذا مع ما تمنحه من معنى واضح وسلس عند إضافتها . في الواقع ، معظم الناس ،عندما تحذف هذه الأعداد، سيجدون أن النص سيبدو مبتورا بعض الشئ . غرابة هذه النسخة المبتورة ربما هي التي أدت بالنسَّاخ إلى إضافة هذه الأعداد . فوق ذلك ، ينبغي ملاحظة أن هذه الأعداد،بقدر ما هي مألوفة،لا تمثل مفهوم لوقا الخاص عن موت يسوع .لأنَّ إحدى الخصائص اللافتة للصورة التي يرسمها لوقا لموت يسوع - قد يبدو ذلك غريبا في البداية ـ هي أنه أبدًا لم يشِر ،في أيِّ موضعٍ آخر،أن الموت ذاته هو الذي يجلب الخلاص من الخطيئة . لا يوجد في أي مكان في كتاب لوقا كاملا بمجلديه ( إنجيل لوقا وسفر الأعمال )،أنَّ موت يسوع قيل عنه أنه حدث "من أجلكم ". في الواقع ، في المناسبتين الوحيدتين التي يشير فيهما المصدر الذي استقى منه إنجيل لوقا ( إنجيل مرقس) إلى أنه بموت يسوع جاء الخلاص ( مرقس 10 : 45 ؛ 15 :39 )، غيَّرَ لوقا صياغة النص ( أو حذفها ). لوقا ، إذا قلناها بطريقة أخرى ،كان له مفهومه المختلف بخصوص الطريقة التي من خلالها يؤدي موت يسوع إلى الخلاص عن ما لدى مرقس ( وبولس ، والكتاب المسيحيون الأوائل الآخرون ). من اليسير أن نرى وجهة نظر لوقا المتميزة من خلال ما يتوجب أن يقوله في سفر الأعمال الذي يلقي الرسل فيه عددًا من الأقوال بهدف تحويل الآخرين إلى الإيمان . ليس في أيٍّ من هذه العبارات،مع ذلك،أنَّ الرسل أشاروا فعليًّا إلى أن موت يسوع يجلب تكفير الخطايا ( على سبيل المثال ، في الفصول 3 ، 4 ، 13 ). هذا لا يعني أن موت يسوع لم يكن مهمّا . بل هو مهمٌّ للغاية من وجهة نظر لوقا ـ لكن ليس باعتباره مكفرًا عن الخطايا . عوضا عن ذلك ،موت يسوع هو ما جعل الناس يدركون آثامهم أمام الله ( حيث مات على الرغم من أنه كان بريئًا ). وبمجرد أن يدرك الناس خطيئتهم،يعودون إلى الله بالتوبة ومن ثمّ تُغْفَر لهم خطاياهم . موت يسوع من وجهة نظر لوقا،بطريقة أخرى ،يقود الناس إلى التوبة وهذه التوبة هي التي تجلب الخلاص . ولكن ليس بناءًا على هذه الأعداد المتنازع عليها التي ليس لها وجود في بعض شواهدنا المبكرة :
هنا يتم تصوير موت يسوع باعتباره توبة "لكم". في الأصل تبدو الأعداد وكأنها لم تكن جزءا من إنجيل لوقا . فلماذا،إذن،أضيفت ؟ في نزاع حدث بعد ذلك مع مرقيون ، أكد ترتليانوس التالي :
أعلن يسوع بوضوحٍ كافٍ ما كان يقصده من ذكره للخبز،عندما سمَّى الخبز جسده الخاص. كما أكَّد على نحوٍ مشابهٍ،عند ذكره للكأس و صناعة العهد الجديد وخَتْمِه بدمه،حقيقة دمه .لأنه ليس هناك دمٌ يمكنه أن يكون في جسد ليس جسدًا من لحم. لذلك من دليل الجسد حصلنا على برهان الجسد،وبرهان الجسد من دليل الدم ( ضد مرقيون 4 ، 40 )

يبدو أن تلك الأعداد أضيفت للتأكيد على جسد المسيح الحقيقيِّ ودمه الذان ضحى بهما حقيقةً من أجل الآخرين. من المحتمل أن لا يكون هذا التأكيد وجهة نظر تخصُّ لوقا، لكنَّ مصدره بالتأكيد كان نسَّاخ ماقبل الأرثوذكسية الذين حرَّفوا نصوص لوقا التي بين أيديهم لكي يجابهوا عقائد الظهوريين المتعلقة بطبيعة المسيح مثل عقيدة مرقيون (9) .
عددٌ آخر يبدو أنَّه كان قد أضيف إلى إنجيل لوقا من خلال نُسَّاخ ماقبل الأرثوذكسيّة هو العدد 24 : 12 من إنجيل لوقا ،الذي يقع بعد قيامة يسوع من الأموات تمامًا. بعض أتباع يسوع من النساء ذهبن إلى القبر، فلم يجدنه هناك،وقيل لهم إنه قد أُقيم . فعُدْنَ ليخبرن التلاميذ الذين رفضوا أن يصدقوهنَّ لأنَّ الحكاية قد أدهشتهم باعتبارها " حكاية ساذجة".
ثمّ ، في كثير من المخطوطات تقع القصة المذكورة في 24 : 12 : " لكنَّ بطرس قَامَ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ المصنوعة من الكتان مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا فَمَضَى مُتَعَجِّبًا فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ.
هناك أسباب ممتازة تجعلنا نعتقد أن هذا العدد لم يكن في الأصل جزءًا من إنجيل لوقا. فهو يحتوي على عدد كبير من السمات الأسلوبية التي ليس لها مثيل في أي موضعٍ آخر من إنجيل لوقا. من بين ذلك غالبية الكلمات المفصلية في النص ،على سبيل المثال ، "انحنى " و " الأكفان المصنوعة من الكتان" ( هناك كلمة أخرى كانت تستخدم للدلالة على ملابس القبر قبل ذلك في الرواية ).فوق ذلك ،من الصعب معرفة السبب الذي يجعل شخصًا ما يرغب في حذف هذا العدد لو كان في الحقيقة يشكَّل جزءًا أصليًّا من الإنجيل ( مرة أخرى ، ليس هناك نهايات متشابهة أو ما إلى ذلك لكي نعتبرها حذفًا غير مقصود ). وكما لاحظ كثيرٌ من القرَّاء ، يبدو العدد وكأنه تلخيص لحكاية وردت في إنجيل يوحنا ( 20 : 3 -10 )حيث يتسابق كلٌّ من بطرس و" التلميذ الحبيب" جريًا إلى القبر ويجدانه فارغًا. هل يمكن أن يكون شخصٌ قد أضاف حكاية مشابهة، بأسلوب مختصر،إلى إنجيل لوقا ؟
لو كان هذا صحيحًا ،فيالها من إضافة مدهشة ! فهي تدعم بشكل جيد جدا موقف مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية من يسوع وأنَّ لم يكن ببساطة شكلا ما من الأشباح وإنما كان له جسدٌ حقيقيٌّ ماديٌّ . أضف إلى ذلك أن هذا هو ما اعترف به كبير التلاميذ نفسه ،أعني بطرس . لذلك،وبدلا من ترك قصة القبر الفارغ على حالتها كـ" حكاية ساذجة " لبعض النساء غير الجديرات بالثقة ،فإنَّ النصَّ في وضعه الحالي يظهر أن القصة لم تكن قابلة للتصديق فحسب بل حقيقية : على اعتبار أن صحتها لم تتأكد إلا من خلال بطرس ( الذي هو رجل مستحق للثقة كما قد يفترض الإنسان ). الأمر الأكثر أهمية هو أن العدد حتى يؤكِّد على الطبيعة الماديَّة لقيامة يسوع، لأنَّ الشئ الوحيد الذي ترك داخل القبر هو دليلٌ ماديٌّ على حدوث القيامة : الكفن المصنوع من الكتان الذي غطَّى جسد يسوع . لقد كانت قيامة جسدية لشخصٍ حقيقيٍّ. أهمية هذه النقطة أشير إليها مرة أخرى من خلال ترتليانوس :
الآن لو أنكروا موت (المسيح ) بسبب إنكار كونه جسدًا، فلن يكون ثمَّ تأكيدٌ لحدوث قيامته. فإذا لم يكن قد قام وذلك من أجل السبب ذاته الذي لم يمت من أجله،وحتى بسبب أنه لم يكن يمتلك حقيقة الجسد الذي كما عليه يقع الموت فله يمكن للقيامة أن تقع.على نحوٍ مماثل، لو أمكن دحض قيامة المسيح،فإن قيامتنا أيضًا تنمحي .(ضد مرقيون 3 ، 8 )
لابد أن المسيح كان له جسًدا حسًّيًا حقيقيًّا وأنه قد أقيم حقًا من الموت بالجسد.فليست الآلام و الموت فحسب هما اللذان تحملهما المسيح جسديًّا،بل وأقيم من الأموات جسديًّا: بالنسبة لمسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فقد رفع إلى السماء أيضًا بجسده .
آخر قراءة متباينة سنلقي عليها الضوء تأتي من نهاية إنجيل لوقا ،بعد أن حدثت القيامة (ولكن في اليوم ذاته ). تحدَّث يسوع إلى أتباعه للمرة الأخيرة،وبعد ذلك انفصل عنهم :
وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ .(لوقا 24 : 51 -52 )
من الطريف أن نلاحظ،مع ذلك،أنَّ هناك زيادة في بعض مخطوطاتنا الأكثر قدمًا- ومن بينها المخطوطة السينائية السكندرية – قد حدثت للنص (10) . فبعد أن تشير إلى أنَّه "أُبعِدَ عنهم ،" تصرح في هذه المخطوطات بأنه " َأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ". إنَّها زيادةٌ هامَّة لأنها تشدِّدُ على مغادرة يسوع جسديًّا خلال ارتفاعه ( بدلا من التعبير الهادئ " نُُقِل "). فإلى حدٍّ ما،هذه قراءة متباينة مثيرة للانتباه لأن المؤلف ذاته،أي لوقا،في كتابه الثاني،سفر الأعمال،يحكي مرة أخرى عن ارتفاع يسوع إلى السماء،لكنَّه يصرح بوضوح أنها حدثت بعد"أربعين يومًا" من وقت حدوث القيامة من بين الأموات ( أعمال 1 : 1-11 ).
هذا يجعل من الصعوبة بمكان أن نصدق أن لوقا كتب هذه العبارة موضع الدراسة في لوقا 24 : 51 ـ حيث إنَّه بالتأكيد لن يعتقد أن يسوع قد ارتفع إلى السماء في يوم قيامته لو أنه يشير في بداية كتابه الثاني أنه ارتفع بعد ذلك بأربعين يوما. من الجدير بالملاحظة أيضًا أن الكلمة المفتاحية (key word) موضع الدراسة التي هي "رُفِع was taken up " لم تذكر في أيٍّ موضع آخر سواء في إنجيل لوقا أو في سفر الأعمال . فلماذا يضيف شخص ما هذه الكلمات ؟ نحن نعلم أن مسيحيي ماقبل الأرثوذكسيّة أرادوا أن يؤكدوا على الطبيعة المادية الحقيقية لمغادرة يسوع للأرض:لقد غادر يسوع بشكل ماديٍّ وسيعود ثانية بصورة ماديَّة ليأتي معه بالخلاص الماديِّ.وعلى هذا النحو قاموا بمجادلة الظهوريين الذين تمسكوا بأن هذا كله كان ظهورًا . من المحتمل أن ناسخًا كان مشتركًا في هذه المناظرات قام بتنقيح نصِّه لكي يؤكِّد على هذه القضيَّة .

تحريفات النص المضادة للانقساميين
المسيحيون الانقساميون الأوائل

الاتجاه الثالث الذي كان محط اهتمام مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث له صلة بمجموعات مسيحيَّة كانت ترى المسيح لا باعتباره إنسانًا فحسب (مثلما هو الحال مع التبنِّيِّين) أو إلهًا فحسب ( كما يقول الظهوريُّون ) وإنما ككائنين اثنين ، أحدهما إنسانٌ تمامًا والآخر إله تماما (11) . ربما بمقدورنا أن نطلق على هذا " العقيدة الانقسامية"حول طبيعة المسيح لأنَّها قسمت يسوع المسيح إلى اثنين : يسوع الإنسان ( الذي كان إنسانًا كاملا) و المسيح الإله (الذي كان إلهًا كاملا).
وفقا لغالبية القائلين بوجهة النظر هذه،يسوع الإنسان كان مسكونًا على نجوٍ غير دائمٍ بالكائن الإلهيِّ ،الذي هو المسيح ،وهذا مكَّنه من إنجاز أعماله الإعجازية و بتبليغ تعاليمه؛ لكنَّ المسيح فارق يسوع قبل موته،مجبرًا إياه على مواجهة الصلب وحده .
هذه العقيدة الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح كان من الشائع الدفاع عنها غالبًا عبر مجموعة من المسيحيين يطلق عليهم العلماء اسم "الغنوصيين" (12) .مصطلح الغنُّوصيَّة يأتي من الكلمة اليونانية (جينوسيس) التي تعني المعرفة.وهي تنطبق على مجموعات واسعة التنوع من المسيحيين الأوائل الذين شدَّدوا على أهمية المعرفة الباطنية في الوصول إلى الخلاص . وفقا لمعظم هذه المجموعات ، العالم المادي الذي نحيا فيه لم يكن من عمل يدي الإله الواحد الحقيقيِّ. فلقد جاء نتيجة لكارثة وقعت في المملكة السماويَّة (divine realm) التي طُرِد منها أحد الكائنات الإلهية (الكثيرة) لأسبابٍ غامضةٍ من نواحي السماء ؛ وكنتيجة لسقوط العالم الماديِّ من حالة القداسة فقد قام إلهٌ أقل مقامًا بخلقه وذلك عبر سَبْيِه وسَجْنِه في أجسام الآدميين هنا على الأرض . بعض الكائنات البشرية لذلك في داخلهم ومضة إلهية وهم بحاجة إلى تعلُّم حقيقة كينونتهم ومن أين جاءوا وكيف جاءوا إلى هنا وكيف يمكنهم العودة . معرفة هذه الحقيقة ستقودهم إلى خلاصهم .
تتكون الحقيقة من تعاليم باطنية و"معرفة"(جنوسيس) غامضة لا يمكن الحصول عليها إلا عبر كائنٍ إلهيٍّ من المملكة السماوية .حسب المسيحيين الغنوصيين، المسيح هو الكاشف الإلهي لحقائق الخلاص؛ فقد دخل المسيح ،في كثير من الأفكار الغنوصية، إلى يسوع الإنسان أثناء العماد الأمر الذي أهَّلَه لمهمَّتِه التبشيرية ثم بعد ذلك غادره ليموت على الصليب في النهاية.وهذا السبب الذي جعل يسوع يصرخ،" إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟" فبالنسبة لهؤلاء الغنوصيين، كان المسيح قد غادر يسوع بالمعنى الحرفيِّ ( أو "تركه وراءه "). بعد موت يسوع أقامه من بين الأموات كمكافأة من أجل إخلاصه واستمر عبره في تعليم تلاميذه الحقائق الباطنيَّة التي بإمكانها أن تقودهم إلى الخلاص. لقد وجد مسيحيو ماقبل الأرثوذكسية هذا التعليم مستهجنًا تقريبًا من كل الوجوه. فبالنسبة إليهم ، العالم الماديّ ليس مكانًا شريرًا نشأ عن كارثة كونيَّة وإنما هو خليقة صالحة للإله الواحد الحقيقيّ. والخلاص،عندهم، يأتي عبر الإيمان بموت المسيح و قيامته وليس من خلال تعلّم المعرفة الروحية الباطنيَّة التي بإمكانها أن تضئ حقيقة الوضع الإنساني . والأمر الأهم لأهدافنا في هذا الفصل هو أن يسوع المسيح ،بالنسبة إليهم، لم يكن كائنين اثنين وإنَّما كائنٌ واحدٌ إلهيٌّ وبشريٌّ معًا في وقت واحد وفي الوقت ذاته .

تغييرات النص لدوافع مضادة للانقساميين
لعبت النزاعات حول عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح دورًا في نسخ النصوص التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد.
رأينا من قبل بالفعل موضعًا لقراءة متباينة تعرضنا لها بالبحث في الفصل الخامس وهي تلك الموجودة في سفر العبرانيين 2 : 9 والتي قيل فيها عن يسوع ،أي في نص الرسالة الأصلي، إنَّه مات "منفصلا عن الله ". في نقاشنا هناك، رأينا أن معظم النساخ كانوا قد قبلوا القراءة الأخرى التي أشارت إلى أن المسيح مات "بنعمة الله " على الرغم من أن ذلك ليس هو النص الذي كتبه المؤلِّف الأصليُّ . لكننا لم نتعرض بالتفصيل لقضيَّة السبب الذي ربما جعل النساخ يرون أن النص في وضعه الأصلي ربما يمثِّل خطورة ولذلك ينبغي تعديله .الآن،في وجود هذه الخلفية الموجزة عن المفاهيم الغنوصية تجاه المسيح،يصبح التغيير منطقيًّا على نحوٍ أكبر.لأنه وفقًا للمعتقدات التي تبناها الانقساميون بخصوص طبيعة المسيح ،مات المسيح بالفعل "منفصلا عن الله" وذلك في أنَّه عندما كان على الصليب غادره العنصر الإلهيُّ الذي كان قد سكنه في وقتٍ سابق ولذلك مات يسوع وحده . ولأنهم كانوا واعين إلى أن النص يمكن أن يستعمل لتدعيم وجهة النظر هذه، أحدث النسَّاخ المسيحيون تغييرًا عميقًًا رغم بساطته. الآن،بدلا من أن يشير النص إلى أن يسوع قد مات منفصلا عن الله، إذ به أكد أن وفاة المسيح تمَّت "بنعمة الله". هذا ،إذن،تحريفٌ موجَّه ضدَّ التعاليم الانقسامية . نموذجٌ آخرُ مثير للاهتمام يخص هذه الظاهرة يقع تمامًا في الموضع الذي ربما يتوقع المرء منَّا أن يجده فيه ، في رواية الإنجيل لحادثة صلب يسوع . كما أشرت من قبل،في إنجيل مرقس التزم يسوع الصمت في كل موقفٍ من مواقفِ عملية الصلب . صلبه الجنود وسخر منه المارَّة و زعماء اليهود ، كما سخر منه أيضًا مجرمان عُلِّقوا معه على الصليب ؛ لكنه لم ينطق ببنت شفة – حتى اللحظة النهائية حينما يقترب الموت ويصرخ يسوع بكلماتٍ مقتبسة من مزمور 22 :"إلوي ،إلوي ،لما شبقتني ؟" ،التي تترجم كالآتي:"إلهي ، إلهي ،لما تركتني ؟"(مرقس 15 :34 ). من الطريف أن نلاحظ أنَّه وفقًا لما ذكره إيريناوس،الكاتب الذي عاش في عصر ماقبل الأرثوذكسية ،كان إنجيل مرقس هو المفضَّل لدى هؤلاء "الذين فصلوا يسوع عن المسيح " – أي لدى الغنوصيين الذي اعتنقوا عقائد انقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح(13).
لدينا من الأدلة القوية ما يجعلنا نفترض أن بعض الغنوصيين أخذوا هذه الجملة الأخيرة التي قالها يسوع على معناها الحرفيِّ لكي يثبتوا أن هذه اللحظة هي التي انفصل فيها المسيح ذو الطبيعة الإلهية عن يسوع (حيث أن اللاهوت لا يمكن أن يذوق الفناء والموت ). الدليل يأتي من الوثائق الغنوصية التي تعتقد في أهمية هذه اللحظة من حياة يسوع . لذلك ،على سبيل المثال ، يقتبس إنجيل بطرس غير القانوني(apocryphal) ،الذي راودت البعضَ الشكوكُ في احتوائه على عقائد انقسامية بخصوص طبيعة المسيح ،هذه الكلمات بطريقة مغايرة نوعًا ما فيقول :" قوتي،قوتي،لقد غادرتني!" الأمر الأشد وقعًا هو أن النص الغنوصي المعروف باسم إنجيل فيليب ذكر النص ثمَّ أُعطاه تفسيرا انقساميًّا :"إلهي ، إلهي ، لماذا أيها السيد(Lord) تركتني ؟" ولأنَّه قال هذه الكلمات على الصليب،فلابد أنَّه في هذه اللحظة ذاتها قد انقسم . مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية كان لديهم معلومات عن الشيئين كليهما:الأناجيل وتفسيراتها لهذه اللحظة الحاسمة من مشهد صلب يسوع.ليس إذن من قبيل المفاجئة أن نص إنجيل مرقس تم التلاعب به عبر بعض النساخ بطريقة راوغت هذا التفسير الغنوصي. في إحدى المخطوطات اليونانية و العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال أن يسوع لم يطلق " صرخة الافتراق " التقليدية التي وردت في مزمور 22 ، لكنه بدلا من ذلك صرخ :" إلهي ،إلهي ، لماذا سخرت مني ؟" هذا التغيير الذي تعرض له النص نتج عنه قراءة طريفة – بل ومنسجمة تماما مع سياقها الأدبي. لأنه كما أشرت من قبل ،كلُّ إنسانٍ آخر تقريبًا في القصة قد سخر من يسوع عند هذه اللحظة – القادة اليهود والمارَّة والسارقان . والآن،وفي وجود هذه القراءة،انضم الله أيضًا حسب قول النص إلى قائمة الساخرين من يسوع . يسوع ، شاعرًا باليأس ،يطلق صرخة مدوية ويموت. إنه مشهد قوي ومثير للشفقة .هذه القراءة رغم ذلك ليست هي القراءة أصلية،وذلك يتضح من كونها مفقودة تقريبًا في كل شواهدنا الأقدم والأفضل (بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى النص السكندري) وكذلك لكونها لا تتوافق مع الكلمات الآرامية التي تفوه بها يسوع( لما شبقتني – التي تعني "لماذا تركتني،" وليس " لماذا سخرت منِّي").
لماذا إذن حرَّف النُسَّاخ هذا النص؟ إذا سلَّمنا بمدى فائدتها لمن يدافعون عن العقائد التي تخصُّ طبيعة المسيح وذلك من وجهة نظر الإنقساميين ،فحينها سيظلُّ هناك سؤالٌ صغيرٌ عن سبب ذلك. لقد كان كُتَّابُ عصر ما قبل الأرثوذكسية معنيِّين بأن لا يستخدمَ خصومُهم الغنوصيُّون النص ضدهم فقاموا بإحداث تغيير هامٍّ ومتناغمٍ مع السياق الذي عاشوا في ظله،وذلك لكي يقال من الآن فصاعدًا عن الله إنه سخر من يسوع بدلا من أن يقالَ عنه إنَّه تركه.
مثالنا الأخير على هذا النوع من القراءات المتباينة الذي كان سبب حدوثه الرغبة في الوقوف ضد التعاليم الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح سنسوقه من فقرة تقع في الرسالة الأولى ليوحنا. ففي أقدم شكلٍ معروفٍ للعدد 4 : 23 ،يقال لنا :"بهذا تعرفون روح الله . كل روح تعترف بأن يسوع قد جاء في الجسد فهي من الله؛وكل روح لا تعترف بيسوع فهي ليست من الله.هذا هو روح ضد المسيح." إنها فقرة واضحة وصريحة : هؤلاء الذين اعترفوا بأن يسوع جاء حقًا في الجسد (أي رفضوا قبول وجهات النظر الظهورية على سبيل المثال ) هم وحدهم من ينتمون إلى الله؛أما هؤلاء الذين رفضوا الاعتراف بهذا فهم مقاومون للمسيح (أي أنهم أضداد المسيح ). مع ذلك ،هناك قراءة مختلفة طريفة نجدها في النصف الثاني من هذه الفقرة . فبدلا من الإشارة إلى الشخص الذي " لم يعترف بيسوع "، هناك العديد من الشواهد تشير إلى الشخص الذي " يقسم يسوع " ماذا يعني هذا - يقسم يسوع – ولماذا نجحت هذه القراءة في أن تشق طريقها إلى بعض المخطوطات ؟ في البدء ، ينبغي أن أشدِّدَ على أن عدد المخطوطات التي تحوي هذه القراءة ليس بالكبير جدا .ففي الشواهد اليونانية لا توجد إلا في هامش مخطوطة واحدة يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر(وهي المخطوطة 1739 ). لكنَّ هذه المخطوطة،كما رأينا من قبل،هي مخطوطة مميزة لأنها فيما يبدو قد نسخت من مخطوطة ترجع إلى القرن الرابع وهوامشها تسجل أسماء آباء الكنيسة الذي كان لديهم قراءات مختلفة لأجزاء محددة من النص. في هذا الموضع تحديدًا ،يشير الهامش إلى أن القراءة " يقسم يسوع " كانت معروفة لدى العديد من آباء الكنيسة في أواخر القرن الثاني و بواكير القرن الثالث،من أمثال إيريناوس وكليمنت وأوريجانوس. أضف إلى ذلك أنها تظهر في الفولجاتا اللاتينية. ومن بين أمور أخرى ، هذا يوضح أن هذه القراءة المختلفة كانت مشهورة خلال العصر الذي كان مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية يتنازعون مع الغنوصيين حول قضايا طبيعة المسيح. مع ذلك، هذه القراءة لا يمكن على الأرجح أن تقبل باعتبارها النص" الأصليّ " مع التسليم بقلة الأدلة التي تعضد موثوقيتها- فهي مفقودة،على سبيل المثال،في كل مخطوطاتنا التي تصنَّف باعتبارها الأقدم والأفضل بين المخطوطات ( في الواقع ليس لها أي وجود في أي مخطوطة يونانية باستثناء هذا الوجود في الهامش). لماذا،رغم كل ذلك،أضافها أحد النسَّاخ المسيحيين ؟ يبدو أنها قد أضيفت من أجل اختلاق مطعن "كتابيٍّ" على عقائد الانقساميين التي تتعلق بطبيعة المسيح،التي تفرق فيها المسيح و يسوع بعضهما عن الآخر إلى كيانات منفصلة،أو بحسب تعبير هذه القراءة المختلفة التي جاء فيها أن يسوع قد " انفصل " عن المسيح. أيُّ إنسانٍ يؤمن بصحة وجهة النظر هذه، حسب ما تفترض القراءة النصية المختلفة، فهو ليس من الله ،بل بالأحرى هو ضد المسيح .
مرة أخرى ،إذن ، لدينا ها هنا قراءة تولدت عن سياق النزاعات المتعلقة بطبيعة المسيح التي اندلعت في القرنين الثاني و الثالث .
الخاتمة
أحد العوامل التي ساهمت في وقوع تحريفات النساخ لنصوصهم هو السياق التاريخي الذي عاشوا في ظلِّه . كان النسَّاخ المسيحيُّون في القرنين الثاني والثالث متورطين في النزاعات و المناظرات التي حدثت في زمنهم ، وقد أثَّرت هذه النزاعات أحيانًا في عملية إعادة إنتاج النصوص التي اندلعت بخصوصها هذه النزاعات. بكلمات أخرى ،قام النساخ في بعض الأحيان بتحريف نصوصهم لكي يدفعوها لأن تقول ما كانوا يعتقدون مسبقًا أنَّها تعنيه .لم يكن هذا بالضرورة أمرًا سيئًا ، لأننا على الأرجح يمكننا أن نفترض أن معظم النساخ الذين أدخلوا تغييرات إلى نصوصهم غالبًا ما فعلوا ذلك إما بسبب عدم الانتباه أو بنيَّة حسنة . لكنَّ الحقيقة، مع ذلك،هي أنه بمجرد أن قام هؤلاء بتحريف نصوصهم، أصبحت كلمات النصوص مختلفة تمام الاختلاف وهذه الكلمات التي لحقها التغيير أثَّرت بالضرورة على تفسير القرَّاء المتأخِّرين لهذه الكلمات. كانت النزاعات اللاهوتية التي اندلعت في القرنين الثاني والثالث من بين أسباب هذه التحريفات لأنَّ النسَّاخَ أحيانًا عدَّلوا نصوصهم في ضوء العقائد التي اعتنقها التبنيُّون والظهوريُّون والانقساميون فيما يتعلق بالمسيح وطبيعته،وهم الذين كانوا يتنافسون من أجل الفوز بموطء قدم تحت الشمس في هذه الفترة. هناك عوامل أخرى ذات بعدٍ تاريخيٍّ كانت مؤثرة أيضًا في هذا الصدد ، منها ما يتعلق على نحوٍ أقل بالنزاع اللاهوتي و على نحوٍ أكبر بصراعات هذا العصر الاجتماعية ، مثل الصراع حول دور النساء في الكنائس المسيحية الأولى و العداء المسيحيِّ لليهود والدفاع المسيحي عن الإيمان ضد مطاعن الخصوم الوثنيين. في الفصل التالي سنرى كيف أن هذه الصراعات الأخرى ذات الطابع الاجتماعي تركت أثارها على النساخ المسيحييِّن الذين نسخوا نصوص الكتاب المقدس في القرون التي سبقت العصر الذي أصبح النساخ المحترفون هم من ينسخون النصوص فيه.



هوامش الفصل السادس

(1) للاطلاع على نصوص هامة من هذه الفترة ،انظر كتاب :" بعد العهد الجديد: قارئ في المسيحية المبكرة" (fter the New Testament: A Reader in Early Christianity) تأليف بارت د.إرمان (نيويورك :مطبعة جامعة أكسفورد،1999 ). مقدمة رائعة لهذه الفترة يمكن الحصول عليه من كتاب :"الكنيسة الأولى"( The Early Church)لهنري تشادويك (نيويورك: بنجوين،1967 ).

(2) للاطلاع على مناقشة أوسع للمادة التي تناقشها الفقرات التالية ،انظر على وجه الخصوص كتاب إرمان ،الديانات المسيحية المفقودة ،( Lost Christianities)،الفصل الأول.

(3) للاطلاع على مناقشة أوسع،انظر كتاب إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture).

(4) للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا للآراء التبنَّويَّة،والشخصيات التي اعتنقتها ،انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 47 – 54 .

(5) للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا عن الظهوريين والعقائد الظهورية بخصوص طبيعة المسيح، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 181 – 187 .

(6) انظر الصفحتين 14 ، 15 ، من الفصل الأول.

(7) اعترف أيضًا بقانونية عشر رسائل بولسية باعتبارها جزء من الكتاب المقدس(جميعها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسالة 1، 2 إلى تيموثاوس والرسالة إلى تيطوس)، رفض العهد القديم كله ، لأنها منسوبة إلى الإله الخالق ، وليس إله يسوع .

* معنى مصطلح chiasmus يتضح من الجملة التالية:

أنا ذهبت إلى المدرسة ،إلى المدرسة ذهبوا هم . أي هي عكس في الجملة الثانية لترتيب الكلمات في الجملة الأولى.

(8) هذه الاقتباسات مأخوذة من حوار جوستينوس مع تريفو ، ص 103 .

(9) لإثبات مطول لأن هذه الأعداد لم تكن أصلية في إنجيل لوقا بل أضيفت لدحض آراء ظهورية ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 198 – 209 .

(10) للاطلاع على إضافة نصية أخرى ومناقشة أوسع لهذه الإضافة ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 227 -232 .

(11) للاطلاع على معلومات أكثر تفصيلا عن عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح والجماعات الغنوصية التي اعتنقتها ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 119 – 124 .

(12) للمزيد من النقاشات عن الغنوصية ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، الفصل ال6 .

(13) ضد الهراطقة 3، 2 ،7 .

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الكتاب المقدس ، الإنجيل


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
صفات الرب في الكتاب المقدس للدكتور منقذ السقار نور الإسلام لاهوتيات 0 09-04-2013 07:31 AM
تحريف الكتاب المقدس نور الإسلام لاهوتيات 0 06-08-2012 11:54 AM
مخطوطات قمران تشهد على تحريف الكتاب المقدس (سفر صموئيل) متى المسكين لاهوتيات 0 05-02-2012 07:12 AM
تحريف الكتاب المقدس جـ2 اعتراف علماء المسيحية بالتحريف مزون الطيب هدي الإسلام 0 18-01-2012 12:01 PM
تحريف الكتاب المقدس ج4 نهاية إنجيل مرقس مزون الطيب هدي الإسلام 0 18-01-2012 12:00 PM


الساعة الآن 11:36 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22