صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

الشورى في إدارة المجتمع المسلم و سياسته

نظرية الإسلام السياسية رؤية في الإبداع السياسي الإسلامي محمد مكي عثمان أزرق حق النشر لكل مسلم ومسلمة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-05-2013 ~ 06:51 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي الشورى في إدارة المجتمع المسلم و سياسته
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


نظرية الإسلام السياسية






رؤية في الإبداع السياسي الإسلامي

محمد مكي عثمان أزرق



حق النشر لكل مسلم ومسلمة





كتاب الشورى في إدارة المجتمع المسلم وسياسته
محـتـويــات
1- تقديم: أ. د. عون الشريف قاسم. ................... 4
2- تمهيد. ......................................... 7
3- الفصل الأول: نظرية الإسلام السياسية. .......... 12
4- الفصل الثاني: ركن الشورى. .................. 27
5- الفصل الثالث: ركن التعددية السياسية. ............. 38
6- الفصل الرابع: ركن القيم. ........................ 47
7- الفصل الخامس: ركن الأحكام والقواعد الشرعية. .... 62
8- خاتمة. ........................................... 77
9- المراجع. ........................................... 80
10- الفهرس. ........................................ 82





إهداء
" إلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه "




((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ*إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))



بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
أ. د. عون الشريف قاسم
الحمد لله القائل في محكم تنزيله: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)) . والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي خاطبه ربه بقوله الكريم: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) .
وبعد فإن الشورى جماع أمر (حكم) الإسلام، وركنه الراكز الذي يرسي القاعدة المتينة لاستقرار حياة المسلمين وضمان نجاحهم في دينهم ودنياهم. إذ غاية الدين الهداية المؤدية إلى خلق الشخصية الإنسانية المتوازنة السوية، ولكن هذه الشخصية لا تعمل في فراغ، ولابد لها من بيئة اجتماعية صالحة تهتدي مثل الشخصية الفردية بقيم الدين وأحكامه. ولا يتم هذا الصلاح على المستوى الفردي أو الجماعي إلاّ إذا تحوّلت هذه القيم والأحكام من مجرد نظريات وشعارات، إلى ممارسات وأفعال لأن الدين - كما قال رسول الله صلى ألله عليه وسلم – المعاملة. ولا سبيل إلى تحويل الدين إلى معاملة، ونقل هذه المعاملة من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة إلاّ بوسيلة تضمن اشتراك الجماعة أو قدر كبير منها في تفعيل هذه المعاملة بحيث يعم خيرها كل الناس. والشورى هي وسيلة الإسلام لتفعيل هذه المعاملة لخلق المجتمع الإسلامي السوي، القائم على المساواة والعدل وكرامة الإنسان التي جاء الدين أصلاً لترسيخها في حياة البشرية.
والحديث عن أن الإسلام لم يهتم بأمر الدولة أو النظام السياسي عامة، حديث يخطئ فهم الإسلام الذي هو نظام متكامل لا ينفصل فيه الفرد عن الجماعة ولا الدنيا عن الدين، وغايته خلق الفرد الجماعة أو المواطن الدولة.. فهو ينقل قيم الجماعة إلى داخل النفس الإنسانية ليصوغ ضمير الإنسان صياغة جماعية اجتماعية يصبح بها الفرد جماعة في فرد ودولة داخل الدولة. وهذه هي – والله أعلم – خاتمية الإسلام التي سعت بها الرسالة الخاتمة لمعالجة سلبيات المرحلة السابقة التي اتسمت في كثير من جوانبها بالازدواجية والثنائية بين دين لله ودنيا للبشر، ومرد ذلك إلى بساطة الحياة وسريان روح الجماعة في حياة معظم الجماعات المرتكزة على رابطة الدم والتكافل الاجتماعي، بحيث لا يتدخل الدين في حياة الجماعة إلا في أضيق الحدود ويصح أن يقال فيه الدين لله والوطن للجميع.
ولكن مع تطور الحياة الإنسانية وانتقال البشر بالتدريج من حياة البساطة في حياة القبيلة والاقتصاد القائم على الرعي والزراعة البسيطة والتجارة المحدودة، إلى حياة المدينة حيث الاقتصاد المتطور، تضعف روح الجماعة وتحل رابطة المصلحة المشتركة محل رابطة الدم التي كانت تدعم النسيج الاجتماعي في حياة البساطة، وينجم عن ذلك سلبيات التقدم فتحل المنافسة والصراع محل التكافل والوفاق وتنهار قيم الجماعة في حياة المدينة، وتحدث الأزمة الإنسانية التي لا يمكن معالجتها بذلك الفهم القديم للدين، الذي كان يعبر عن حياة البساطة في ماضي الإنسانية.
وحين قال المولى سبحانه وتعالى ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً)) فإنه قد أكمل معنى الدين للتعبير عن المرحلة الخاتمة في تاريخ البشرية، حيث يبلغ التطور مداه في كل جوانب الحياة الإنسانية من جراء التقدم المادي الهائل الذي ينسف بالضرورة العلاقات الإنسانية، ويصبح فيه الحديث عن دين بعيد عن دنيا الناس إلقاء بالنفس إلى التهلكة لما فيه من استعلاء للحيوان فينا على حساب الإنسان، وما ينجم عن ذلك من طغيان المادة على الروح، وما يتبع ذلك من طغيان القوي على الضعيف مما نشهد آثاره المدمرة في عالمنا المعاصر. وبإكمال معنى الدين كان الإسلام خاتم الديانات لأنه جاء بالحل الخاتم الذي لا حلّ سواه لأزمة الإنسان في هذه المرحلة الخاتمة من تاريخ البشرية، ليواجه الإنسان مخاطر التقدم المادي الهائل الذي ينسف إنسانية الإنسان، بشخصية متكاملة تتضافر فيها قوى الروح مع قوى الحس في كيان الإنسان لإخضاع التقدم لمصلحة الإنسان لا لإفنائه. وهو نقيض ما تسعى إليه حضارة الغرب الراهنة المتأرجحة المعبرة عن الازدواجية القديمة التي جاء الإسلام أصلاً لمعالجة سلبياتها وتجاوزها بالفرد الجماعة الذي هو دولة داخل الدولة. وبخلق هذا النموذج الإنساني الخاتم أصبح الحديث عن الدولة وعن السياسة بمعزل عن هذا التكوين العضوي للفرد الجماعة، حديث لا معنى له ولا مدلول.
وكانت حياة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه التعبير الأمثل عن هذا التمازج العضوي بين الدين والدنيا، وكانت دولة المدينة ودولة الخلافة الراشدة مجال الانطلاق لهذا النموذج الإنساني ليبدع نظاماً للحكم كانت الشورى مفتاحه وركيزته، وبها تحققت العدالة بين الناس وعمت المساواة ونعم الجميع بالحرية التي عبر عنها الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه في قوله: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
وهذا الكتاب – الذي بين يديك أيها القارئ الكريم - يدرس في تعمق وتدقيق مفهوم الشورى في نظام الإسلام بحسبانها مفتاح هذا النظام على كل مستوياته الفردية والجماعية، ومن حيث النظرية والتطبيق.
ويجئ هذا البحث الغنيّ بالشواهد والنماذج من حياة سلفنا الصالح، في زمان تمر فيه أمتنا بظروف حالكة، تداعت علينا فيها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها كما تنبأ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. ولا سبيل إلى تجاوز ذلك إلا بأن يستعيد المسلمون في حياتهم المعاصرة ما كان سبب قوتهم ومنعتهم في ماضيهم البعيد وعلى رأس ذلك سبيل الشورى، الذي بذل الأستاذ محمد مكي عثمان أزرق جهداً عظيماً في تبيين معالمه، فله من الله حسن الثواب ونفع الله به أمتنا لتبلغ ما أراده الله لنا في قوله الكريم ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) .
والله الهادي إلى سواء السبيل
أ. د. عون الشريف قاسم

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
بدايةً بكل اليقين أقولها: إن نظام الشورى الإسلامي على عهد الخلافة الراشدة هو الذي حمل الدعوة الإسلامية، وانطلق بها مخترقا الممالك والإمبراطوريات العريقة وكأنما أشاعها الهواء الساري.. وإن الشورى هي أساس إدارة المجتمع المسلم وسياسته، وذلك لأن الإسلام لم يجد إمبراطورية جاهزة كما حدث مع المسيحية حين ما اعتنقها الرومان، وإنما هو نظام الشورى الإسلامي الذي أنجب الكفاءة في اجتماع السقيفة لقيادة الدولة التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم موحدة تحت قيادة شورى أبناءها، فأنجزت في خمسين عاماً ما لم تنجزه الإمبراطورية الرومانية ذات النظم الإدارية والخبرات الحربية المتوارثة في ثمانمائة عام.
وتتضح سرعة انتشار الدعوة الإسلامية وقتها، في أن حكام الممالك المجاورة وقبل أن يتيقنوا من حقائق الدين الجديد، وجدوا أولئك الذين كانوا يسمونهم بجراد الصحراء يدقون على أبواب بلادهم، بجيوش منظمة تحمل الدين الجديد لمجتمعاتهم في سمة سياسية راقية لم يعهدوا أو يسمعوا بمثلها في تاريخ الأولين، مما جعل شعوبهم تتمسك بالقادم الجديد عن طواعية واختيار وفي زمن قياسي.. وهذا يؤكد قوة تأثير النظام السياسي على الاعتقاد، لأن إقامة الدليل في دنيا الحس يدل على الصدق في عالم الغيب، وأقرب مثال على ذلك مصر التي أصبحت دولة عربية إسلامية واندثرت فيها اللغة القبطية مع وجود الأقباط إلى يومنا هذا، مما يعني تقبلهم لثقافة ولغة الفاتحين والاندماج في النسيج العام لهم.
هذه المعجزة السياسية التي أحدثها الإسلام لم تنجم عن فراغ، وإنما كان عمادها الحرية السياسية التي اقتضاها تطبيق مفهوم الشورى في فترة الخلافة الراشدة، وتعالت فيها قيم العدل والمساواة العامة وسيادة القانون. هذا وتمثل الحادثة الشهيرة للقبطي الذي أُقتص له من ابن عمر بن العاص، وقصة المسيحي الذي حكم لصالحه القضاء في دعوى رفعها عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، شواهد عملية على الحرية السياسية التي تمتعت بها الأقاليم الإسلامية وقتها. وأعجل نظر للدول العربية اليوم يجد إن الإسلام قد دخل معظمها على أيام الخلافة الراشدة المنتخبة بالشورى، فتغيرت لغة أهلها وقوميتهم وديانة معظمهم، أكرر أنظر للدول العربية اليوم تجد صدق حديثي.
ولكن - بكل أسف - بمرور الوقت فقد المسلمون نعمة الشورى، وضاق ماعونها إلى درجة العدم بحلول دولة بني أمية محل الخلافة الراشدة، وتسمية معاوية لابنه يزيد ولياً للعهد ووارثاً للحكم من بعده، عملاً بمكر المغيرة بن شعبة الذي حسن له البيعة ليزيد، ومستقوياً بمقالة يزيد بن المقنع الشهيرة في مجلس معاوية: "هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: أجلس فأنت سيد الخطباء" .
ورغم استنكار المسلمين الشديد لتوريث الخلافة الإسلامية وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم، استنكاراً وصل لدرجة المواجهة المباشرة. إلا أن معاوية أصر على رأيه وهددهم بالقتل قائلاً: ".. إني قائم بمقالة، فأقسم بالله لأن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، ولا يبت أمر دونهم ولا يقضى إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله! فبايع الناس وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله إلى المدينة.. فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلِّم أرضيتم وأعطيتم وبايعتم؟.
قالوا: والله ما فعلنا.
فقالوا: ما منعكم أن تردوا على الرجل؟.
قالوا: كادنا وخفنا القتل " .

هذا الانقلاب الذي قام به معاوية على أصول الإمارة الشرعية في الإسلام وعلى رأسها شورى المسلمين لم يكن وليد يومه، وإنما استغل ثغرات تسبب فيها الخوارج بالمزايدة السياسية ووضعهم للثوابت والقيود للسلطة الشرعية الحاكمة قائلينَ زوراً وبهتاناً بأن رأيهم السياسي المتستر بالدين هو حكم الله وشريعة الإسلام الواجبة النفاذ قسراً، مما أدى إلى صراع كانت نتيجته: الانحدار السياسي، واندلاع الفتنة الكبرى التي رسخت ملك بني أمية الذي أفقد المسلمين السمة السياسية للمجتمع المسلم التي فرضها الله سبحانه وتعالى.. وقد حدث هذا الانحدار والفقد للسمة والهوية السياسية الإسلامية، برغم وجود الدين والتبحر في علومه، مما يدل على أهمية منهج الشورى لإدارة مجتمعات المسلمين.
وقد استمر الانحدار بالمسلمين إلى أن أخذ الغرب الاستعماري بالشورى التي اقتبسها من الإسلام، وفي ذلك يقول الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي: ".. إن الذي جاء به الإسلام من الأصول والأحكام هو الذي مدن بلاد الدنيا على الإطلاق. ومن زاول علم أصول الفقه جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم، قل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات " ؛ وصدق الشيخ الأستاذ، فالذين قرأوا الحجر ومطمور الشجر حري بهم أن يعلموا المكتوب من تاريخ الأمم، والدليل على هذا نجده في ذلك الكم الهائل من المستشرقين الذين ألموا بالبلاد الإسلامية ينقبون ويبحثون في خفايا موروثات الأمة وأدق تفاصيلها.. وفي ذات السياق يقول الباحث الدكتور تارا عن تأثير الإسلام على التشريع في الحضارة الغربية: "لا يمكن لمدنية من المدنيات أن تدعي بأنها لم تتأثر من قريب أو بعيد بدعوة هذا النبي الكريم ودينه وتشريعاته" .
وبأخذ الغرب للشورى انعكست الصورة، وسارت دوله في طريق الإحياء والنهضة والانتصار، فسرعان ما وجدناها تدق على أبواب بلادنا بجيوش تحمل هوية وسمة سياسية لازلنا نذكرها إلى اليوم دون أن نعي الدرس. ولولا تطبع أتباع تلك الدول بقيم أخلاقية اكتسبوها بفضل الشورى، لأبادونا - لفارق القوة - إبادة الهنود الحمر في أمريكا.. ولولا قوة الدين الإسلامي وفطرته المتغلغلة في النفوس برحمة وفضل من الله سبحانه وتعالى، لاكتملت الصورة وغيَّر المسلمين دينهم بعد أن فقدوا هويتهم السياسية، تماماً كما فعلت شعوب الأمصار التي حررتها الجيوش الإسلامية في عهد الخلافة المنتخبة بالشورى، والتي ميزها المسلمون بتسميتها بالراشدة وبالوقوف بمرجعية الأحكام الفقهية عندها.
فما هو موقع الشورى في الدين الإسلامي ولماذا أضحت في عداد المهجور رغم ترداد العلماء لها؟!.. هل هي فرض واجب الأخذ به أم مستحسن يمكن تجاوزه؟.. وهل الأمر (السلطة والحكم) في الإسلام شورى بين المسلمين، أم تطبيق شريعة كل يفتي على هواه مما يشتت وحدة المسلمين ويجعل من الدين مطية للطغاة وأصحاب الغرض؟.. ثم هل تكمن حاجتنا اليوم في دراسة وتطبيق المفاهيم السياسية التي أتى بها الإسلام ودافع عنها أبطال السيرة العطرة والخلافة الراشدة، أم إيجاد مسرح مشابه لمسرح أحداث السيرة العطرة والخلافة الراشدة، ومن ثم محاكاة تلك الأحداث دون وعي سياسي؟!.. وأخيراً هل حافظ الإسلام على الفرد وماله وعرضه وأهمل الأمة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لعبة في يد الصدفة والمغامرين، أم وضع لها منهجاً ونظاماً سياسياً لتسير عليه؟!.
هذا ما أرجو التوفيق للإجابة عليه، فقد ألف المسلمون الاستبداد – رغم فساده - وظنوا مع مرور الزمن إنه جزء من نظام الحكم الإسلامي ومن تشريع رب العالمين.. الشيء الذي أكسب العلمانية دوراً رائداً ورئيسياً في راهننا السياسي لأنها تفجر القضية كلها - قضية طبيعة السلطة السياسية في الدولة - وهو ما لا يجوز مع دين متكامل كالإسلام فرض الشورى التي هي أساس الشرعية الشعبية في الفقه الدستوري العلماني الذي نتطلع إليه اليوم، وأقر التعددية السياسية التي هي أساس كل تنافس سياسي شريف لخدمة المجتمعات الإنسانية، ودعم كل ذلك بقيم وأحكام لا بعدها في الحكمة والإعجاز.
وأسأل الله العزيز الحكيم أن يعجل لنا عودة خلافة النبوة التي وعدنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث، قال حذيفة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت)) .

وأشكر للأستاذ دكتور عون الشريف قاسم تقديمه الذي حوى الكتاب وتفوق عليه.
والشكر موصول لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب وأرجو له من الله سبحانه وتعالى حسن ثواب الدنيا وجزيل ثواب الآخرة.


الفصل الأول
نظرية الإسلام السياسية
1- أسس ومبادئ نظرية الإسلام السياسية:
في حكمة بالغة وإعجاز واضح، فرض الإسلام نظرية سياسية سهلة الاستيعاب والتطبيق رغم عمقها الفكري ومكاسبها العملية غير المتناهية.. ففي ائتمان كامل للأمة والجماعة أطلق الله سبحانه وتعالى كل شؤون ولاية الأمر في الدولة الإسلامية من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لشورى المسلمين كشرط أساسي وفريضة دينية مؤكدة وذلك بنص آية الشورى، قال تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)) ، وتعني إمارة المسلمين شورى بينهم؛ أي إن الناس في الإسلام شركاء في سلطة الأمر (الإمارة) والفتوى عبر الشورى، وليس بالاحتكام المباشر للنصوص. علماً بأن المشاركة في مسار وفعاليات فريضة الشورى واجب إسلامي لا يمكن تجاوزه لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((.. مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) . وكذلك هذه المشاركة لازمة لأنها أمانة بنص الحديث: ((المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ)) . وهذا يقطع الطريق أمام كل من يقول بأن الشورى معلمة وليست ملزمة، فشورى المسلمين في السلطة والحكم في الإسلام فريضة مؤكدة بنص القرآن الكريم، ومشاركة المسلمين في مسارها واجب وأمانة لازمة الأداء بنص الحديث.
وبهذا التفويض للجمهور المسلم - المنفعل بقيم الدين وهديه – لاختيار منهج ونظام ولاية أمره من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم فرض المشاركة السياسية على كل مسلم ومسلمة في هذا الاختيار، يكون الإسلام في خطوة إدارية متقدمة قد أطلق سلطة الأمر (الإمارة) والفتوى في الدولة الإسلامية لكل المسلمين - كمؤسسة تشريع عليا - يبايعون من يتولى أمرهم تحت شروطهم مما يضبط سلطة التشريع في الإسلام ويحصرها في إطار مؤسسي.
هذا وقد دعم الله سبحانه وتعالى هذا التفويض للأمة بالأمر وجعل طاعة من تنتخبه لولاية أمرها من طاعته جل شأنه قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) ، لاحظ طاعة أولي الأمر والأمر للشورى ومنكم وليس من السابقين. وكذلك دعم الرسول صلى الله عليه وسلم قرار هذه الشرعية وجعله سنة كسنته بنص الحديث: ((فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) . من دون تحديد في الحديث لعدد الخلفاء الراشدين أو تحديد زمن للخلافة الراشدة. وهذا دليل واضح على أن ولاية الأمر الشرعية في أي زمان وأي مكان، طاعتها من طاعة الله سبحانه وتعالى، وقرارها سنة كسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
عليه فولاية الأمر الشرعية المنتخبة بشورى المسلمين، هي المرجعية المفوضة للتشريع وصنع القرار والفصل في المسائل الفقهية والدنيوية كل بحسب طبيعته، فتأخذ بالشريعة في الدين لقوله تعالى: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ)) . وتأخذ بما يصلح حال المسلمين والتجديد لهم في إطار شروط بيعتهم لقوله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)) . دون قيد أو شرط أو ثوابت مما يعني خلافة متكاملة الأركان للرسول صلى الله عليه وسلم، مبايعة تحت شرط الجمهور الذي فوضه الله سبحانه وتعالى لإدارة إمارته بالكامل كما أسلفت، والشرط هنا مكتوب أو غير مكتوب يكون تشريعاً ملزم صلاحيته بيد جمهور المسلمين وهو الذي يحدد منهج وصلاحيات وسلطات ولاية الأمر ويحدد آمادها، مما يضمن استمرارية مراقبة وسيطرة المسلمين كمرجعية تشريع عليا على ولاية أمرهم بعد انتخابها.
ومعلوم للدارسين للعلوم السياسية اليوم إن وجود مرجعية تشريع حاضرة، هو مفتاح النجاح للدول والجماعات والكيانات السياسية وسبب قوتها. علماً بأن التفاعل السياسي السلمي الذي توفره الشورى، يكسب الأمة عقل جمعي يزيد وينقص بحسب مواهب الأمة البشرية وثقافتها وتشربها للقيم والمبادئ السامية. علماً بأن هذا العقل الجمعي ينمو إذا كانت أسس انتخاب القائمين على ولاية الأمر تستند على الكفاءة والمقدرة على الإنجاز، ويضمحل إن كانت أسس الانتخاب تستند على المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية.
2- وحدة السلطة الدينية والسياسية وتقديم الأصلح والمصلحة العامة:
وباعتماد الإسلام للشورى كآلية وحيدة لانتخاب ولاية الأمر الإسلامية من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعمها بآية الطاعة وحديث سنية القرار، تكون السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية زائداً الإمامة الدينية في الإسلام، موحدة في يد الأمة والجماعة تديرها بالشورى بينها مع الحرص على تقديم الأصلح والأقدر على العطاء والإنجاز عملا بحديث أمانة المستشار.. ففي هذا محافظة على العقل الجمعي للأمة، وإقتداءً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في إدارته السياسية. فرغم المهام الدينية لأمرائه من إمامة الصلاة وولاية القضاء والفصل في مسائل الدين الخلافية للحديث: ((.. مَن أَطاعَ أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني)) . إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي معظم سيرته العطرة، لم يجعل للمكانة الدينية أي هيمنة أو سيطرة على التكليف السياسي، وقالها صريحة وواضحة لرابع من أسلم من الرجال أبي ذر الغفاري: ((يَا أَبَا ذَرَ إنَّكَ ضَعِيفٌ. وَإنَّهَا أَمَانَةٌ)) . ولا يظن أحد أن الضعف الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث هو ضعف في شخصية أبا ذر رضي الله عنه، فقد كان أبا ذر شجاعاً وتحدى قريش بأن أعلن إسلامه في الحرم وأقام بعدها في عسفان يهجم عير قريش . ولكنه ضعف إداري الموهوبين فيه قلة. فها هو خالد بن الوليد رضي الله عنه وعلى بعد سبعة أشهر فقط من إسلامه، يقود أكثر من ثلثي الجيش الفاتح لمكة داخلاً من أسفلها ، ثم تولى بعد ذلك إخضاع القبائل حول الحرم، وكان قائد الطليعة في غزوة حنين.. وقد حوت جيوشه صحابة أجلاء تواصل بهم عطاءه إلى فتوحات فارس والروم.
وفي مثال أوضح قاد عمر بن العاص - الذي أسلم مع خالد بن الوليد رضي الله عنه - في غزوة ذات السلاسل جيشاً التحق به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم وكانت له الطاعة وإمامة الصلاة، وذلك لأنه كان الأنسب في المهمة التفاوضية التي كلفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم لقرابة له مع من أُرسل إليهم .
هذا وبالإضافة لتقديم الأصلح للقيادة وإنجاز المهام، كذلك تم تقديم المصلحة العامة على النص في عدد من مواقف وأحداث السيرة العطرة والخلافة الراشدة. فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية يكتفي بعقد هدنة مدتها عشرة سنوات ويعود عن مكة تاركاً إياها غارقة في الكفر وقد منع من أداء العمرة، رغم مقدرته على أخذها وتوفر النص الدافع الذي سماه البعض خطأً "بآية السيف التي نسخت آيات التقية والسلم" ، قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) ؛ فرغم نزول هذه الآية قبل هدنة الحديبية بسنين، فضل الرسول صلى الله عليه وسلم الهدنة والسلم على الحرب، مقدراً للظرف السياسي وقتها، فقد كانت مكة العاصمة الدينية لجزيرة العرب، وأخذها له تبعات سياسية كبيرة يجب أن يحسب حسابها.
أما في الخلافة الراشدة فقد قام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفرض الخراج على الأراضي الزراعية في البلاد التي فتحت في عهده ، ولم يخمسها ويقسمها كما ورد في الآية 41 من سورة الأنفال قال تعالى: ((وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ... )) وكذلك لم يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين قسم أراضي خيبر بين المقاتلين . فصار قرار أمير المؤمنين هو شريعة الوقت وسنته. وهذا الدليل قوي لأن الأرض التي جعلت تحت إشراف بيت المال، كانت في ما عدا الخمس من حق الجيش وعلى قيادته سعد بن أبي وقاص - صاحب رسول الله وخاله - الذي أسلم قبل عمر رضي الله عنهم.. فلو كان التشريع للنصوص لما سكت سعد وهو يمتلك النص والقوة والسابقة في الإسلام والقرابة للرسول صلى الله عليه وسلم، مما يؤكد على أن مرجعية التشريع في الدولة الإسلامية هي: الجمهور كمرجعية عليا، وولاية الأمر المنتخبة كمرجعية مفوضة من الجمهور.
3- أركان الأمر (الإمارة) في الإسلام:
هذا ويمكن للدارس تقسيم فرائض وسنن الأمر الواردة في الكتاب والسنة إلى أربعة أركان وهي:
1 – ركن الشورى: رأس الأمر الجامع للناس والمانع من الفتنة.
2 – ركن التعددية السياسية: ويمثل أرضية العمل السياسي في الدولة والمجتمع.
3 - ركن القيم: وهو روح المجتمع السارية في أفراده.
4 – ركن الأحكام والقواعد الشرعية الحافظة للقيم.
هذه الأركان لها أدلة ثابتة في محكم التنزيل والسنة الصحيحة، ودفاع الرسول صلى الله عليه وسلم عنها وحثه عليها ظاهر تمتلئ به مسارات السيرة العطرة وكتب الحديث، مما يجعل شأن الإمارة في الإسلام واضحاً في قيامه على الشورى، والطاعة لما تقرره، فالقرآن الكريم شامل ومرن ليغطي كل المواقف الحياتية قال تعالى: ((مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ)) . وهذا ثابت فالمرونة في القرآن الكريم تصل إلى درجة السماح للمسلم بإعلان الكفر والقلب مطمئن بالإيمان قال تعالى: ((إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)) . ومن جهتها أيضاً امتازت السنة النبوية بمرونة واضحة في الشأن السياسي، فقد قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر وجيشه بنسبة الثلث لعدوِّه، وصالح في الحديبية وجيشه أضعاف جيش عدوّه، وترك مكة يومها تموج في الكفر وهي دانية. ورغم هذه المواقف السياسية القوية ومواقفه الأخرى التي تعز على الحصر، ولكنه لم يقل يوماً في شأن الأمر (الشأن السياسي) عاهدوا كما رأيتموني أعاهد، أو خذوا عني حربكم، كما قال في الدين: ((صلوا كما رأيتموني أصلي. ولِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ)) ، تاركاً بذلك شأن الأمر من بعده لشورى المسلمين كما أمر القرآن الكريم، وفي هذا حكمة واضحة: أولاً لأن المواقف والأحداث السياسية عموماً غير قابلة للحصر وتحتاج إلى الحرية في اتخاذ القرار مما يوجب علينا أن نلتزم بآلية الشورى للتعامل مع المستجدات في مسارنا السياسي.. وثانياً لأن وضوح مرجعية التشريع وعدم تضارب منابع القرار السياسي في عالمنا، هو مفتاح النجاح للدول والجماعات والكيانات السياسية وسبب قوتها كما أسلفت.
4- الواجب السياسي للمسلم وصفة المخالفة:
علي ما تقدم فالواجب السياسي للمسلم يجب أن ينحصر في الإيمان والدراسة والتطبيق لأحكام ولاية الشورى، وعدم الخروج عليها بالفتوى الفردية في الشؤون السياسية، والقول بأن هذا حكم الله سبحانه وتعالى، فقد حكم الله في هذا الشأن وفوض المسلمين لإدارة شؤون إمارتهم بالشورى كشرط وحيد لقيام سلطة إسلامية مكلفه بتنفيذ ما شرعه في شأنها، مغلقاً بذلك الباب أمام المزايدات السياسية من الخوارج والمنافقين وأصحاب الغرض.
هذا وقد وضح لنا محكم التنزيل صفة المخالفة للبينات المنزلة في شأن الأمر (السلطة والحكم) في الإسلام، وهي صفة البغي قال تعالى: ((وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) ، وهي نفس الصفة التي وصف بها محكم التنزيل المتفرقين في الدين قال تعالى: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ)) .
وهذه الآيات في بعدها الدعوي تحذرنا من التفرق في الدين وتنهانا عن الصراع في الأمر (السلطة والحكم)، ومعلوم أن التفرق في الدين يحدث دائماً بسبب الانحراف عن التوحيد، أما الصراع في الأمر فكان وما زال سببه تجاوز الشورى، علماً بأن التوحيد والشورى هما المحك الحقيقي للإسلام الخالي من المآرب الشخصية وذلك لأن: التوحيد يخلص بين الإنسان وخالقه ويوجب استناد التعاليم الإسلامية على الدليل والبرهان من الكتاب والسنة فتنتفي الكهانة والمزايدة بالبدع لكسب الأتباع. وقرار الشورى يرفع الخلاف ويبعد المطامع فتنتفي أسباب البغي بين المسلمين.. عليه فبالتوحيد نتفادى التفرق في الدين، وبالشورى نتفادى البغي والصراع في الأمر (السلطة والحكم)، مما يضمن مجتمع موحد عقائدياً لا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ومتوحد في الفتوى والقرار السياسي.

الفصل الثاني
حساسية قرارات وتعاليم ولاية الأمر الإسلامية
1- تحذير القرآن الكريم من مغبة عدم الالتزام بالتعاليم الإسلامية:
هذا وفي بيان واضح حذرت آيات القرآن الكريم من مغبة عدم الالتزام بتعاليم الكتاب وصحيح السنة، ومن ثم العمل بالمفاهيم الباطلة ظناً بصلاحها قال تعالى: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)) ، وهذا التحذير يوجب العلم مع الفهم قبل الإقدام على أي عمل يخص الإسلام، وأن يكون السعي في سبيل الله على بصيرة من الكتاب والسنة، وإلا فالخسران الذي لا بعده هو النتيجة الحتمية لهذا السعي.
وهذا الحكم بالخسران الذي قضت به الآية على من يأخذ بالظنون في الشأن الإسلامي مستحق وحكيم لأن الإسلام يحمل في داخله آليات قوية وشديدة الفعالية، وعملها خارج الضوابط الإسلامية ودون مرجعية للفصل بين الآراء والتفاسير، له أسوأ الأثر على حركة الأمة الإسلامية فالقداسة التي تحيط بعمل المسلم تجعله لا ينصاع لحركة التاريخ ولا يأبه لها، مما يفقده كل وسيلة للمراجعة والتراجع عن العثرات والأخطاء.
وهنا تكمن الخطورة فالاندفاع الأعمى كان وسيظل مقبرة جهلاء المسلمين لأن كل شواهد الكتاب والسنة اشترطت الإخلاص وصحة العمل، فالأفعال والسيوف لا تقول هذا مؤمن وهذا كافر وإنما المفهوم الذي حرك الفعل واستل السيف هو الذي يحدد ذلك، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً)) .
وصدق الرسول الكريم فالانحراف عن مفاهيم الكتاب والسنة عبر الأخذ بالغث من الآراء أورثنا الكثير من المحن، وذلك لأن عقل الإنسان القاصر قد يصور له إن الانحراف قليلا قد لا يؤثر لأن بعض السلف قد انحرف، أو إن انحرافه سيعجل بهيمنة الدعوة على العالم.
ولكن هيهات لجاهل أو متسلق أن يجعل لمفهوم باطل مثل جواز الغلبة في إمارة المسلمين أي شرعية أو قبول عند المولى سبحانه وتعالى، مهما استشهد بتطاول ذلك المفهوم عبر القرون وإقرار علماء - الله أعلم بظروفهم – لهذا المفهوم الباطل.. فالقرآن الكريم جعل الإيمان بمفهوم التثليث كفر رغم تطاوله في الزمن وإقرار معظم الرهبان له، ومفهوم التثليث مستمر إلى اليوم، فهل يجرؤ المنادون بتغيير شرعية السلطة في الإسلام من الشورى فقط، إلى الشورى أو الغلبة أو القول بأن الشورى مُعلمة، استناداً على المنفلت من التجربة التاريخية للمسلمين كمرجعية في الفقه السياسي الإسلامي، أن يقر مفهوم التثليث فيقول التوحيد أو التثليث، أو إن التوحيد مستحسن وليس بواجب، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا.
فها هو انحرافنا عن الشورى أفقدنا كل ما تستند عليه الأمم في التنمية والرفعة والفخار، في درس عملي لتجاهل آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد أُمرنا بتعقل آياته في محكم التنزيل قال تعالى: ((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) ، ومن جهة أخرى وصف القرآن الكريم الكافرين بالتبعية والتقليد الأعمى وعدم إعمال العقل في قوله تعالى: ((وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)) . فهلا تدبرنا القرآن في شأن إمارتنا فإن فيه القدوة والمثل.
2- النهي عن منازعة الإمارة الشرعية، وعدم المساس بوحدتها وقرارها:
هذا وتأكيداً لأهمية الشورى في ولاية الأمر الإسلامية، نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن منازعة المسلمين حقهم في ولاية أمرهم، وجعل هذا النهي شرطاً في البيعة للإسلام مما يجعله نهياً قطعياً عن حكم الغلبة لحديث عُبادةَ بن الصامت رضي الله عنه، قال عبادة: ((بَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ. وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَعَلَىٰ أَثَرَةٍ عَلَيْنَا. وَعَلَىٰ أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. وَعَلَىٰ أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا. لاَ نَخَافُ فِي اللّهِ لَوْمَةَ لاَئِم)) .
وكذلك في نهي قاطع حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الدين ذريعة لفرض الرأي السياسي على ولاية الأمر الشرعية، لحديثه في ذي الخويصرة التميمي الذي شادده في تقسيم غنائم غزوة حنين وهي شأن سياسي من اختصاص ولاية الأمر: ((فإن لهُ أصحاباً يَحقرُ أحدُكم صلاتَهُ مع صلاتهم، وصيامهُ مع صيامهم، يقرَؤون القرآنَ لا يُجاوزُ تَراقيَهُم، يمرُقونَ منَ الدين كما يمرُقُ السهمُ منَ الرَّميَّة)) . وهذا الحكم عادل ومستحق فقد ثبت ضرر الخوارج وتدخلهم بالدين لفرض الرأي على ولاية الأمر الإسلامية، وكيف إن فعلهم هذا تسبب في تدمير الخلافة الإسلامية الشرعية الراشدة، وأدى إلى قيام مئات الجماعات المسلحة التي تشن الحرب باسم الإسلام زوراً، والتي كثيراً ما ضربت بعضها البعض في فتنة يحركها أعداء الإسلام.
هذا وقد انعكست هذه الظواهر السيئة على حاضرنا بشدة، ونجدها واضحة في تلك التنظيمات التي ظاهرها التمسك بتعاليم الإسلام وباطنها فاشي مستبد أو ثوري ماركسي.. الشيء الذي مكن للاستبداد وأفسد ديار المسلمين وقضى على الأخضر واليابس فيها حتى تنادى البعض: ".. كان الاستعمار يأكل الأخضر ويترك لنا اليابس فليته يعود".
كل هذا حدث بسبب غياب واضح للوعي عند المسلمين، لأن القرآن الكريم كان صريحاً في تفويضه الإمارة الإسلامية لشورى المسلمين كمرجعية عليا ووحيدة لقيام حكم إسلامي، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم على حرية اختيار الإمارة الإسلامية ووحدتها في الحديث: ((إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا)) . لاحظ كلمة بويع والبيعة عقد اختياري مع التشديد على أن تكون البيعة لجهة واحدة، وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن القتال تحت الراية العمية في الحديث: ((مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي)) . ومن هنا فليس أمام المسلمين إلا الرجوع لتعاليم الكتاب والسنة التي فرضت الشورى شرطاً وحيداً لقيام الإمارة الإسلامية، والتمسك بها إن أرادوا إرضاء الله سبحانه وتعالى والعيش بكرامة وسط الأمم.
3 - حساسية التعامل مع ولاية الأمر في ميزان الإسلام:
ما تقدم يؤكد وضوح النظام السياسي الإسلامي في القرآن الكريم والسنة النبوية بما لا مزيد عليه، وهذا النظام شديد الحساسية فبالإضافة إلى خروج المنازع لولاية الأمر الشرعية من الملة، والأمر بقتل من يفرق إجماع الأمة، فهو لا يقبل التهاون لدرجة إن عدم الثقة في قرار من قراراته كُفر ولو على سبيل المزاح كما حدث للذين قالوا في غزوة تبوك "أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً، ولله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال" ، يقصدون المسلمين، فنزلت الآيات تكفرهم وتجعل الاستهزاء بقرار المسير لتبوك وهو قرار سياسي أصدره المفوض بالأمر وقتها، استهزاء بالله وبآياته.. قال تعالى: ((وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)) .
فإن كان التكفير هو جزاء من يستهزئ بقرار سياسي لولاية الأمر الشرعية في الإسلام، فما بالك بمن اجتث شرعية ولاية الأمر الإسلامية من جذورها، وأفسد تفاعل الأمة السياسي وشتت مرجعيتها وغيب عقلها الجمعي، ومن ثم قام بفرض منهج استبدادي ظالم لا علاقة له بالإسلام، تسبب في الانهيار الذي شهده العالم الإسلامي طوال قرون ويشهده اليوم.
إن أحكام القتل والتكفير والإخراج من الملة على الذين انحرفوا عن منهج الإسلام السياسي القائم على شورى المسلمين هي أحكام عادلة ومستحقة، فالذي يظن أنه ينصر الله ودينه بالاستبداد والظلم لا يخطئ فحسب.. بل يحتمل وزر كل من ساء ظنه في الدين، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من محن فقد تسببت هذه الانحرافات في مفاسد طالت المسلمين ودينهم، وذلك لأن الرابطة بين الدين والدولة في الإسلام هي رابطة تكاملية، فأحدهما في الآخر مؤثر ومتأثر كما سيتبين في ركن التعددية السياسية من هذا الكتاب.
ثم إن نظام الشورى الإسلامي يمثل الخطوة التقدمية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً للبشرية ما بقيت السماوات والأرض، وفي حرمان الناس من هذه الخطوة المتقدمة ظلم كبير لهم. فالإسلام سياسياً وبالدليل القاطع من الكتاب والسنة، أرسي الأسس لأول جمهورية مدنية دستورية حقيقية في التاريخ الإنساني ، وجعل المشاركة في مسار هذه الجمهورية فريضة دينية في بادرة سياسية مطلوبة، إذ لا يعقل أن يهتم الإسلام بالفرد وماله وعرضه ويضع لذلك الشرائع والضوابط والحدود، ويهمل الأمة بأكملها للصدفة والمغامرين، كلٌ يشرع لها على حسب هواه ويأخذها غرباً وهي تريد أن تذهب شرقاً، ويجعل من الدين مصيدة للآخر إرضاء لنفسه المريضة.
فالآخر في الإسلام مشروع مسلم يجب فتح الطريق أمامه لكي يتعرف على المفاهيم الإعجازية التي أنزلت رحمةً بالعالمين، لا صيداً مباحاً ضربه حين رؤيته. فللجهاد والدعوة أصول وقواعد في إطار ولاية الأمر الشرعية، ولولاية الأمر منهج مفروض جعل السلطة في يد الجمهور بنص آية، لأن جنون هتلر وفساد موسليني ليس بمستحيل في المسلمين.
ومن هنا فلا يجوز، أكرر لا يجوز لغير المكلفين بعقد بيعة حرة ونزيهة من جمهور المسلمين، ادعاء التكليف الإلهي تحت مسمى حكم الله والقيام بمهام ولاية الأمر الإسلامية، مثل تنفيذ الحدود أو إعلان الجهاد أو إصدار الفتاوى والأحكام في الشؤون السياسية، لأن هذا الفعل يلغي التفويض الإلهي للمسلمين - كمرجعية شرعية - لإدارة إمارتهم، ويشتت قرار الأمة ويفتت وحدتها التي لمسناها في الخلافة الراشدة، فلم يجتهد عمر في عهد أبي بكر ولم يجمع عثمان كتاب الله في عهد عمر رضي الله عنهم جميعاً، فالفتوى الدينية والسياسية في الإسلام موحدة في يد الإمامة الشرعية التي اُنتخبت عبر شورى المسلمين.

4 - فصل الخوارج للدين عن الدولة، وتثبيت العلماء لهذا الفصل بحكم الضرورة:
وبالنظر إلى الأمة التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم موحدة تحت قيادة شورى أبناءها فأنجبت الكفاءة في سقيفة بني ساعدة، كان من المفترض أن تتقدم يوماً بعد يوم في بناء مؤسساتها السياسية ومنظومتها الحقوقية، وذلك لأن التشريع الإسلامي تميز بوضوح ضوابطه وتمركز منابعه، فلم يطلق التشريع في الإسلام للأفراد مهما كان علمهم وفضلهم وسابقتهم، لأن الإسلام قد حدد الأدوار السياسية لأفراده في إطار مؤسسي كما أسلفت، فالفرد مهمته أن يشارك عبر الشورى بما يوافق فكره وحاجاته السياسية في وضع منهج ودستور إمارته بالرأي والإجازة، ومن ثم يشارك في اختيار ولاية أمره كمؤسسة تنفيذية وتشريعية، وتقوم بمهامها بحسب ما اشترط عليها الجمهور في بيعته.
ولكن بكل أسف تم تغييب مفهوم الشورى عن الحكومة الإسلامية وفقدنا مرجعية الأمة بسبب قيام الخوارج ولصوص الأوطان بإطلاق الفتاوى والأحكام والتدخل في اختصاصات ولاية الأمر الشرعية بدعوى تحكيم النصوص، مما يعني التفكيك المؤكد لمفاصل الدولة وفقدانها أسباب القوة، وذلك لأن في هذا القول رفض لحق التشريع الذي يضمن وحدة الدولة ووحدة قرارها الذي كفله الإسلام كاملاً لمؤسسة السلطة الشرعية المفوضة من الجمهور.
هذا وقد بدأت محاولات التغول بالدين على ولاية الأمر الإسلامية باكراً، وذلك عندما رفض البعض دفع الزكاة في خلافة الصديق رضي الله عنه بحجة إن النص يقول بدفعها للرسول صلى الله عليه وسلم وليس لخليفته، فحاربهم أبو بكر في التفاف رائع على محاولة هؤلاء الخوارج المرتدين هدم دولة الإسلام عبر الفوضى التشريعية، وتفتيت القرار الإسلامي بالتطبيق الفردي للنصوص.. ومن حينها تمايزت الصفوف بين من يقول بأن المرجعية العليا للتشريع في الإسلام هي للولاية الشرعية كما قال أبو بكر استناداً على آية الشورى، وبين من يقول بالتطبيق المباشر للنصوص كما قال الخوارج المرتدون في رفض واضح لما أمر به الله سبحانه وتعالى من الطاعة للولاية الشرعية.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد عمارة: ".. إن وجود دولة الخلافة التي حماها الصحابة ودعموها بقتالهم للمرتدين... كانت السبيل لما هو أكثر من إقامة فريضة الزكاة الدينية كركن من أركان الدين، إذ أنها كانت السبيل لإقامة الإسلام كله كدين... فالدولة هي التي نشرت الإسلام خارج شبه الجزيرة، بعد أن أعادت رفع أعلامه التي طواها العرب المرتدون، ولولاها لتهدد الإسلام مخاطر أن يصبح مجرد نحلة من النحل التي عرفها التاريخ، أو ديانة يقف شرف التدين بها عند قلة من الناس" . هذا وتأكيد ما ذهب إليه الدكتور محمد عمارة نجده في مقولة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ".. لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، أما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردود علينا. وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم" .
وبانتصار أبو بكر خفتت محاولات الخوارج المرتدين لسلب الدولة الإسلامية سلطتها التشريعية، ولكنهم أطلوا برأسهم مرة أخرى في النصف الثاني من خلافة أمير المؤمنين المنتخب عثمان بن عفان رضي الله عنه، والذي قال حينما رأى بوادر تأليب على تمرد مسلح يدور في الأقاليم: ".. فقد والله عبتم عليّ ما أقررتم لأبن الخطاب بمثله" . ولم تنحسر المسألة إلى النصح بالقول والمدافعة بالحجة كما قال الإسلام، ولكنها جنحت للسلاح فقُتل أمير المؤمنين رضي الله عنه. فكانت الفتنة الكبرى التي قادت تدريجياً إلى تغييب الخلافة الإسلامية المنتخبة بشورى المسلمين، وقيام ملك بني أمية الذي قضى على منابع الفكر السياسي الإسلامي المتجدد، وذلك حين قام السلف من الفقهاء المؤسسين بسحب حق التشريع من الفرعونية الوليدة لعدم شرعيتها، ومن ثم قاموا بحكم الضرورة بفتح قناة من الشواهد والقياس من الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين لاستنباط أحكام وقواعد تكون مخرجاً شرعياً للمعاملات في المجتمع المسلم، أي الفصل الرسمي بين الدين والدولة القائمة على السيف.
ولكن السلطة غير الشرعية من جهتها لم تأبه لهذا التغيير الذي أحدثه الفقهاء في مصدر التشريع طالما كان بعيداً عن حدود وجودها، بل وزادت عليه بأن جعلت بعض الفقهاء في موقع المستشار بهدف شرعنة سلطتها وتسويغ ممارساتها، في حين لم تكن مؤسسة الخلافة الإسلامية المنتخبة في حاجة لتلك القناة التي لم يأمر بها الإسلام ولا تحقق شرط الشورى وحق التشريع في آية الطاعة.. فالفقه السياسي الإسلامي في أصله لم يفرض تشريعاً شاملاً للدولة والمجتمع، وإنما فرض الشورى كمؤسسة رئيسة للتشريع وانتخاب ولاية إسلامية للأمر والفتوى، مع التشديد على مصلحة الأمة والجماعة، والنهى عن اتخاذ الدين أو المكانة الاجتماعية ذريعة للكسب بالقوة على حساب الشرعية، وعد هذا الفعل خروجاً من الدين كما جاء في حديث ذي الخويصرة التميمي السابق ذكره.
5- إشكالية الفكر السياسي الإسلامي بعد الخلافة الراشدة:
هذا وقد تسبب غياب الشورى عن المجتمعات الإسلامية بنهاية الخلافة الراشدة، إلى وقوع المسلمين في براثن إشكالية فكرية معقدة تمثلت في التالي:
1- غياب مرجعية المسلمين العليا وتشتتها بين آلاف الفقهاء وملايين الآراء مما أورث فوضى متناسلة في الفتوى والقرار الإسلامي.
2- غياب التفاعل السياسي بين المسلمين وبالتالي فقدت الأمة عقلها الجمعي، وأصبح خطابها خارج المنطق وحركة التاريخ.
3- التشرزم ألإقصائي الذي أصبح سمة لمجتمعات المسلمين زوراً ودون وجه حق.
4- وقوف الفقهاء بالمرجعية في التشريع السياسي الإسلامي عند الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، والذي قال به السلف من الفقهاء المؤسسين بحكم الضرورة لحجب حق التشريع عن دولة بني أمية ومن سار سيرتها، أدى إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية - أي الدين عن الدولة – وأوقع المسلمين في كم هائل من الفتاوى المتناقضة، والتي بمرور الزمن ظن الناس إنها تشريع الإسلام ومن عند رب العالمين.
ونسبة لخطورة هذه التداعيات على الأمة والمجتمع، فالسعي لإيجاد حل لها واجب على الفور إن أردنا أن يكون لنا موطئ قدم في حضارة اليوم المتداخلة.
6- آفاق الحل:
ويتمثل الحل في تفعيل منهج الشورى الإسلامي الذي أعطى المسلمين الحق في اختيار نظامهم السياسي الذي يوافق عصرهم، والانتخاب الحر لولاية أمرهم والشرط عليها بالدستور والبرنامج الانتخابي. ومن هنا فالفرصة متاحة عبر هذا المنهج الواضح، لاستعادة تفاعل المسلمين السياسي، وقيام سلطة شرعية مسلحة بتأييد الجمهور، ومدعومة بحق التشريع عبر فريضة الطاعة وسنية القرار، لتجديد الخطاب السياسي الإسلامي ليتوافق مع منطق الواقع وحركة التاريخ ضمن مصالح الإسلام والمسلمين، مما ينهي كل الإشكاليات الموروثة في الفكر السياسي الإسلامي، ومن ثم الانطلاق بأجندة موحدة ومكتملة في صراع الأمم والحضارات، لأن السياسة في حقيقتها تتعدى مجرد فهم الواقع والتشدق بالشعارات إلى ابتداع وسائل تغييره، وهنا يبرز عجز الفكر المتطرف إذ يجب أولاً تعظيم القدرة على الممانعة قبل رفع الشعارات، فالإسلام يوجب التماس صحة العمل، والمسلم بين وحي هادٍ وسعي مهتدٍ.

الفصل الثاني
ركن الشورى
1- تعريف:
الشورى لغة تعني أخذ الرأي، واصطلاحاً هي الشورى في الحكومة، ".. وهي من الأصول الجديدة التي حملها الإسلام للأمم وتغلب بها على جميع الأصول الموجودة قبل ذلك العهد... فقد كان الناس قبل الإسلام يرون أنفسهم قد خلقوا لأن يطيعوا طائفة الحكام طاعة عمياء.. فلما جاء الإسلام قلب هذا النظام رأساً على عقب وجعل لكل فرد حق في السلطة يمارسه عبر الشورى" .
والشورى هي آلية الإسلام لجمع كلمة الأمة سياسياً، ولتجاوز الفتنة بين طوائف المسلمين المجتمعة على العقيدة والمتعددة في حاجاتها ومفاهيمها الحياتية، وهي فريضة لازمة بنص آية الشورى التي قضت بحق المسلمين في إمارتهم يتداولون فعاليتها بينهم بالانتخاب والاختيار الحر.
2- دفاع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشورى بحياته ورفضه النصرة بدلاً لها:
هذا وتأكيداً لوجوب الشورى وقف الرسول صلى الله عليه وسلم مواقف حادة في شأن الأمر (الإمارة) من بعده، كحق جعله الله سبحانه وتعالى لشورى المسلمين. ومن تلك المواقف موقفه مع قبيلة بني عامر بن صعصعة، فقبل ثلاث سنوات من الهجرة وفي أحلك لحظات الدعوة بعد وفاة عمه أبي طالب وأمنا خديجة عليها السلام، وعقب عودته من الطائف وقد يئس من خير ثقيف، وقد دخل مكة تحت حماية المطعِم بن عدي على شركه مجيراً، عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على قبيلة بني عامر بن صعصعه، وجاء في سيرة ابن هشام :-
"قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري:
إنه أتي بني عامر بن صعصعه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحره بن فراس – قال ابن هشام فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعه:
والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.
ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك.
قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء.
قال: فقال له: أتهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك؛
فأبوا عليه." .
وردت هذه الحادثة أيضاً في (تاريخ الطبري وابن الأثير) وأشير للمقابلة في (طبقات ابن سعد وتاريخ ابن خلدون) ومسندة للزهري الذي قال فيه ابن القيم "وقد تفرد الزهري بنحو ستين حديثاً لم يروها غيره وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده" .
وقد احتوت هذه الحادثة على عرض مغر في أصعب ظرف مرت به الدعوة الإسلامية، وكانت المعاناة واضحة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)) . وكذلك كان دعاءُه في الطائف: ((اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظُلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)) .
في هذا الظرف الصعب والدقيق الذي فقد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حماية عمه أبي طالب، والمساندة المعنوية المتمثلة في أمنا خديجة عليها السلام، والفرس قد أحاطوا بأرض أبناء معد بن عدنان بعد هزيمتهم للروم التي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: ((غُلِبَتِ الرُّومُ)) ، مما اضطره إلى إلجاء نصف المسلمين وقتها إلى الحبشة . وفوق ذلك وجوده بمكة مرتبط بالمُطعم بن عدي على شركه مجيرا. تعرض عليه: بيعة ونصرة ومساندة قبيلة كاملة بأرضها وفرسانها ومالها، ومن رجل ينتهي نسبه إلى مكون القبيلة، ويرفض الرسول صلى الله عليه وسلم في حزم ودون تردد، مثبِّتاً حقاً لله عز وجل لا مجال للتهاون أو المساومة فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كانت له ولاية الأمر بتفويض مباشر من القرآن الكريم قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)) ، ثم انتقل هذا التفويض من بعده للمسلمين بلا قيد أو شرط أو ثوابت سوى الشورى قال تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)) ، وتعني أن إمارة المسلمين شورى بينهم.
عليه فالشورى حكم إلهي بحق شرعي وقانوني ومنطقي لكل المسلمين، لا فكاك منه ولو كان الثمن نصرة الدعوة في ظرف لا تواجه أحلك منه ولا أصعب. فقد نزلت آية الشورى راسمة في إبداع إلهي صفة إدارة إمارة المسلمين من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ما شاء الله سبحانه وتعالى، ولم يتهاون الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحق إلى أن التحق بالرفيق الأعلى وهو آخر المرسلين وإمامهم، مثبتاً بذلك نصاً شرعياً لا سلطان لبشر عليه، ومسايراً لكل منطق وواقع وقانون عادل إلى يوم القيامة.. بل وجعل صلى الله عليه وسلم مشاركة المسلمين في مسار وفعاليات الشورى أمانة واجبة الأداء.
3- الحد الأدنى لمجتمع إمارة المسلمين:
هذا وقد أوضحت السنة النبوية الحد الأدنى لمجتمع إمارة المسلمين، وتدبير شؤونها بالشورى في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم وتوكلوا على الله وتوجهوا)) . ومعلوم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي مجامع الكلم فلم يقل فليتأمر أحدكم، وإنما قال فأمروا جاعلاً سلطة التأمير للمسلمين، ودون وضع أي شرط لمظهر هذه الإمارة، فلو اجتمعت ثلاث نساء مسلمات في أي موقع جغرافي أو وحدة سياسية، فعليهن تكوين إمارة يصلن إلي صلاحياتها بالشورى في حدود الممكن، هذا في الحد الأدنى دون حد أعلى لهذا المجتمع ودون التقيد بغير الشورى في وضع منهج أو دستور لهذه الإمارة، مما يتيح قيام إمارة إسلامية في أي موقع جغرافي به مسلمين كإمارات فرعية قابلة للانصهار في إمارة إسلامية عامة.
وبهذا التفويض أصبح جمهور المسلمين هو ولي الأمر الذي انتقلت إليه شريعة الأمر (السلطة والحكم) من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتقلت إليه أيضاً مسؤولية انتخاب ولاية أمر فاعلة لتنفيذ ما جاء في شأنها مثل إعلان الجهاد وجمع الزكاة من مصادرها وتقسيمها على مصارفها وتطبيق الحدود وغيرها. وليس لأحد أو أقلية، ادعاء هذه المسؤولية لأن خيار الجمهور هو المطالب بطاعته.. وللجمهور أن يحدد المنظومة المناسبة لإدارة مجتمعه، وللفرد في هذا المجتمع مطلق الحق في أن يبدي رأيه في الأمر (السياسة) مستعيناً بالتدليل والتحليل لتكوين وحدة (طائفة) مناصرة لرأيه. وفي حالة وضع دستور يجب أن يُستفتى المسلمون ليكون شرعياً، بدءً من ثلاثة وإلي ما شاء الله في مشاركة حقيقة تكفل للجميع حقوقهم.
4- أهمية الشورى وخطورة الانحراف عنها:
مما تقدم نخلص إلى أن الشورى ركن مهم من أركان الأمر (السلطة والحكم) في الإسلام وصفة لازمة لمجتمعات المسلمين. فالقرآن الكريم والسنة النبوية قد أوليا اهتماما وصل درجة عالية من الدقة والحزم لتأسيس المعيار الوحيد – أكرر الوحيد – لإدارة مجتمعات المسلمين، وهو الشورى في الأمر أي أن الجميع شركاء في ولاية أمرهم، وفي هذا نعمة من الله سبحانه وتعالى، لأن أي انحراف عن الشورى يؤدي إلى احتكار سلطة الأمر والإفتاء من دون شرعية، ويقود إلي طريق مسدود أقله تعدد الاحتكارات وتشكيل وحدات (طوائف) معارضه منفصلة عن المجموع، يسهل اختراقها وتوجيهها ليكون بأس المسلمين بينهم شديداً، جاهزون للسلخ والتقطيع بعد أن ذبحت الضحية نفسها.
كما إن التحريف في الشورى ولو بأقل قدر مثل الاستناد على أهل الحل والعقد يستحيل – أكرر يستحيل – أن نجد له مبرراً من الكتاب أو السنة، لأن الكتاب والسنة أخبرانا بأن في مجتمع المسلمين فئات لا تمت إلى الإسلام إلا بالاسم فقط مثل المنافقين والخوارج، وهم أكثر ضرراً من العدو الخارجي إن هم وصلوا لسلطة الأمر والإفتاء دون كابح لجماحهم، فلا يعلم حقيقتهم إلا الله سبحانه وتعالى، ويكفي دلالة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: ((يَحقرُ أحدُكم صلاتَهُ مع صلاتهم، وصيامهُ مع صيامهم، يقرَؤون القرآنَ لا يُجاوزُ تَراقيَهُم، يمرُقونَ منَ الدين كما يمرُقُ السهمُ منَ الرَّميَّة)) ، وكذلك وصف القرآن الكريم للمنافقين بأنهم يظهرون الإسلام ويحلفون على ذلك ويبطنون الكيد الشديد له.. عليه فمن غير المعقول أن يأخذ الإسلام بالمظهر في تنصيب ولاية الأمر وهو يُحذرنا من أذى الخوارج وكيد المنافقين.
5- موقف السيرة العطرة والخلافة الراشدة وعلماء المسلمين من الشورى:
وفي شأن الشورى أطلق الشيخ محمد الغزالي فتوى مدوية جاء فيها:
"القول بأن الشورى لا تلزم أحداً كلام باطل ولا أدري من أين جاء" .
وقد أفتى ابن تيمية في شوب الخلافة الملك، هل هو جائز في الأصل أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه؟.. فقال: فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها؛ وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فكل بدعة ضلالة)) .
ومن قبله قالها الإمام مالك بن أنس حين استفتاه أهل المدينة في الخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وقالوا: " إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر. فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين " . وهذا يعني أن الإكراه يلغي البيعة حتى لو كانت قائمة.
وحين أصيب أمير المؤمنين الإمام على كرم الله وجهه، بسيف ابن ملجم استشاره الناس في تولي ابنه الحسن عليه السلام فصدرت منه بيضاء نقية: " ما آمركم ولا أنهاكم " .
وفي تولي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رشحه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أورد ابن الأثير ".. وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم ؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة. وإني قد استخلفت عليكم عمر، فأسمعوا وأطيعوا إني والله ما آلوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا" . وحاشا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم بفرض خليفة له على المسلمين مخالفاً لفرض المولى سبحانه وتعالى، وإنما هو ترشيح وتزيين من جانبه ورضا وقبول من جانب المسلمين.. ولعل العلة في هذه الانتخابات المبكرة دقة الموقف، فالمسلمون وقتها كانوا خارجين من حروب الردة وداخلين في حروب التأمين ضد أقوى دولتين في العالم – فارس والروم – ووجود فراغ في الإمارة العامة له خطورته.
وفي خطبة لعمر بن الخطاب في تولي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: ".. فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا" .
وجاء في انتخاب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شاور الناس ثلاثة أيام ثم جعلها له .
وقد رفض الرسول صلي الله عليه وسلم بأن يكون الأمر من بعده لعامر بن الطفيل – وكان ذا منعة - رغم تهديد عامر له بقوله: أوليست لي؟ لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً. ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يكفيه عامر بن الطفيل فسلط الله سبحانه وتعالى على عامر الطاعون فمات .
وأكبر من هذا كله رفضه صلى الله عليه وسلم في تجرد غير مسبوق محلياً وإقليمياً ودولياً، التوصية بالأمر (الإمارة) من بعده لبني هاشم وهم أهل بيته الذين كفلوه صغيراً بعد موت والده وحموا دعوته كبيراً المسلم منهم والمشرك، وشاطروه المقاطعة والحصار في الشعب والذي وصل لدرجة منع الطعام، وفيهم ابن عمه على بن أبي طالب كرم الله وجهه أول مسلم من الذكور في تاريخ الدعوة وجهاده المشهود، ووالد سبطيه الحسن والحسين عليهم السلام، وفوق هذا تقديم بني هاشم للفرسان والشهداء الواحد تلو الآخر ففي بدر سفيان بن الحارث وفي أحد حمزة بن عبد المطلب وفي مؤتة جعفر بن أبي طالب عليهم السلام. وأنظر لقول الفرزدق في قصيدته " إن عد أهل التقي كانوا أئمتهم " في علي بن الحسين عليهم السلام، وهو من الجيل الثالث الذي قال فيه ابن خلدون: إنه جيل الضعف في التمسك بمبادئ السلف:
هٰذا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ الله كُلِّهمُ
هٰذا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
فمن أولى من هؤلاء لخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم لو أن الأمر جائز بغير شورى المسلمين.. ولكنها الحكمة التي تقاصرت عنها العقول، فالعمل بالشورى ضرورة سياسية لتفادي صراعات محتومة في المجتمعات الإنسانية لا تخفى على العين المبصرة.
6- ضرورة الشورى في السياسة والحكم مطلقاً:
وضرورة الشورى في السياسة والحكم لتفادي الصراع في المجتمعات الإنسانية، قد أثبتتها الآيات وأثبتها العلم الحديث قال تعالى: ((وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) . ويفسر الدكتور مصطفى محمود هذه الآية بقوله: ".. إن هذه الآية توضح بأن الصراع بين الأقوياء قانون إلهي وسنة من سنن الله على الأرض، وأن هيجل وصف قانون تضارب الأضداد هذا بالجدلية المثالية كقانون يعمل فقط في مجال الفكر، ثم جاء ماركس ليحصره في مجال المادة زاعماً بأنه يعمل بذاته مما خلق من المادة كل صور الحياة ، وليلفق من هذه الآراء مذهباً يسخره للأهواء السياسية فيما يسمى بالصراع الطبقي المحتوم لحتمية التطور المادي، ولكن وبتقدم العلم ثبت ما رمت إليه الآية من أن الصراع قاصر على المجتمعات الإنسانية، وأن قانون تضارب الأضداد مخلوق وليس خالق، وهو أداة بيد الله سبحانه وتعالى رحمة بالضعفاء ليجدوا فسحة بين الأقوياء " .
وما رمى إليه الدكتور مصطفى محمود بقوله "بتقدم العلم" هو اكتشاف العلم الحديث: عدم التفاعل الباطني في المادة، وبطلان قانون الجدل المادي الذي رتب عليه ماركس صراع الطبقات وحتمية الثورة في النظرية المادية التي فتنت البعض وقتها بسبب ".. قصور العلم في ذلك الزمان ووقوفه عند الذرة كأصغر جزء مكون لعناصر الطبيعة. أما الآن فإن أي طالب ثانوية يعلم أن الذرة مركبة من إلكترونات سالبة الشحنة وبروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات متعادلة. ويعلم أيضاً أن كل الاختلافات في الظواهر التي نراها في المادة وتراكيبها راجع إلى عدد وترتيب الإلكترونات في ذرات تلك المواد، فإذا كانت الذرة تحوي إلكترونا واحداً فالمادة أيدروجين وإذا حوت ثمانية فهي أكسجين وإن كانت ذات 36 تكون حديد أو 92 فهي يورانيوم. وبما أن عدد الإلكترونات في أي ذرة يساوي عدد البروتونات أي أن الشحنة السالبة تساوي الشحنة الموجبة عليه فالذرة من أي مادة في حالتها العادية وحدة متزنة ومستقرة وخالية من الصراع أو التفاعل الذاتي المؤدي للتطور المادي، فحدوث التفاعل يتطلب ذرتين على الأقل تكون درجة تشبعيهما مختلفة ليحدث الاندماج ونحصل على ذرة من نوع ثالث، أي لابد من تأثير خارجي، أي تأثير ذرة على ذرة لتتم عملية التحول، وهذا لا يتفق مع قانون الجدل المادي الذي يقوم على أساس التحول من الباطن والذي ثبت عدم وجوده في الطبيعة لأن الطبيعة مكونة من ذرات والذرة كوحدة ليس بها تفاعل باطني، فحتى انطلاق الطاقة الذرية من المادة – كأقدم تفاعل شاهده الإنسان – يحدث باندماج أربعة ذرات من الأيدروجين لتكوين ذرة هليوم هي أقل في الوزن الذري من ذرات الأيدروجين المندمجة ليصبح الفرق طاقة تفجيرية هي ما يأتينا من الشمس" .
وعلى ضوء كل هذه الحقائق العلمية اعترف مؤلفو أسس الماركسية الينينية بانتفاء الجدل المادي، وذلك بقولهم في مسألة تطور المادة عبر صراعها الذاتي: ".. يجب أن لا يفهم هذا الأمر فهماً مبالغاً في بساطته، إن الصراع بين الأضداد بمعناه الحرفي المباشر يحدث في المجتمعات الإنسانية " .
ورغم هذا الاعتراف الواضح من مؤلفو أسس الماركسية الينينية ببطلان فكرة الجدل المادي، إلا أنهم تركوا الناس في غيهم ولم يرتبوا علي اعترافهم نتائج تطبيقية توائم الفكر الحادث. كما فعل الإسلام قبل خمسة عشر قرناً حين أعلمنا القرآن الكريم بحتمية الصراع في المجتمعات الإنسانية كسنة من سنن الله في الأرض، ولم يقف عندها وإنما أمدنا بالآلية الوحيدة لتفادي ويلات الصراع داخلياً والانتصار في الصراع الخارجي المحتوم، وهي آلية الشورى المؤدية للشراكة السياسية والتفاعل السلمي للوصول لأفضل الحلول في عالمنا. ومصداقاً لقولي هذا أنظر إلى أوربا وأمريكا اليوم وكيف إن الشورى وحدت بين دول حلف الأطلسي، الحلف الذي ساد العالم وهو يضم أعنف منطقة جغرافية عرفتها البشرية، فتاريخ إنجلترا وفرنسا وألمانيا يشهد شهادة لا تحتمل التجريح عن فعل الشورى في علاقاتهم السياسية.
7- صفة ولاية الأمر الإسلامية ومزايدة الخوارج:
ما تقدم يؤكد أن ولاية الأمر الإسلامية في أصلها منهج ونظام سياسي تولده الشورى لتنفيذ وشرح ووضع القوانين واللوائح المختلفة للإمارة الإسلامية، وليست مجموعة أحكام فرضت بدون أي مرونة في التنفيذ، كما حاول أن يوهمنا الخوارج الذين أدخلونا في إشكالية المزايدة السياسية التي أرهقت البلاد والعباد، فمن مزايد لأسلمة القانون الجنائي لمزايد لأسلمة الاقتصاد لمزايد ينتقد الجميع في التفاصيل، انفتحت الفرصة لذوي الغرض لوضع يدهم على إمارة المسلمين بلا شرعية.. مستغلين في ذلك حالة التشتت التي تسببت فيها نزاعات المطالبة بالتطبيق المجتزأ للنصوص، رغم عدم جواز ذلك في الإسلام لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن استخدام الدين لفرض الرأي السياسي على ولاية الأمر الشرعية.. علماً بأن في هذا النهي حكمة واضحة لأن للقيادة حساباتها ولو علم العدو خط سيرك فسيرسمه لك بحيث تقع لقمة سائغة بين يديه، فها هو ابن العاص حين رأى الهزيمة ماثلة في صفين قال برفع المصاحف في خدعة عرفها أمير المؤمنين وقال: ".. ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعة ووهناً ومكيدة؛ فقال الخوارج: يا علي أجب إلى كتاب الله، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان " . فاستجاب لهم أمير المؤمنين مرغماً فكانت نهاية الخلافة الإسلامية.
فأنظر أخي المسلم إلى مدى ضرر الخوارج المفسدين، أثاروها فتنة بقتلهم لأمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه بحجة تطبيق النصوص، ثم استجابوا بعدها لخدعة ابن العاص بحجة الاستجابة لكتاب الله.. علماً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال بخروج من يفعل ذلك من الإسلام كما يخرج السهم من الرمية في حديثه في ذي الخويصرة التميمي السابق ذكره، وهو حكم مستحق فالغلاة يفرقون أمر الأمة ويفتحون الباب للغزاة والطغاة، وقال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هٰذِهِ الأُمَّةِ، وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ، كَائِناً مَنْ كَانَ)) . وهل هناك تفريق وهدم لأي دولة أكبر من المطالبة بسلبها سلطتها التشريعية وتشتيتها بين الآراء المتباينة.
عليه فلنُحكم الشورى في حياتنا السياسية لنرضي الله سبحانه وتعالى، ونتفادى ويلات الصراع المحتوم، ونوقف مسلسل الفُرقة والانهيار الذي امتد بنا منذ الفتنة الكبرى، فالشورى هي الآلية الوحيدة – أكرر الوحيدة - لتفادي الصراعات في مجتمعاتنا الإنسانية، ونعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، وركن أصيل من أركان حكم المسلمين، بها أسس الإسلام أول جمهورية مدنية في التاريخ الإنساني ، وذلك بانتقال سلطة الدولة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين يديرون فعالياتها بينهم بالشورى.

الفصل الرابع
ركن التعددية السياسية
1- تعريف:
التعددية السياسية ظاهرة فطرية وسنة إلهية في المجتمعات الإنسانية، قال تعالى: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ)) ، وتعني أن الناس يولدون في بيئات حياتية متغايرة، مما يؤثر على تكوينهم السياسي الذي تشكله ثلاثة عوامل وهي:
1- العقيدة: الدين.
2- المفاهيم: بالتعلم والتجربة والموروث.
3- الحاجات: الإنسان أسير حاجته.
وبسبب تباين الناس في مفاهيمها وحاجاتها حتى ولو التقوا في العقيدة، نجد أن التعددية السياسية تمثل أفضل وأذكى وسيلة وصل إليها العقل البشري لجمع الآراء السياسية المتقاربة في المجتمعات الإنسانية.
ومن هنا فإن أي إقصاء أو تجاوز للتعددية السياسية في بناء أي دولة وهيكلها السياسي، هو جريمة وخيانة عظمى في حق الوطن والأمة، وذلك لعدة أسباب: أولاً لأن رأس الدولة - أي دولة - في عالمنا هو التشريع.. وأفضل التشريع هو ما نتج عن التحاور الحر لوحدات التعدد السياسي – حكومة ومعارضة - في هذه الدولة، وذلك بسبب خاصية العقل الجمعي التي تنشأ بفعل الجدل في المجتمعات الإنسانية.
ثانياً ".. لأن انتظام الأفراد في جماعات تبلور تكوينهم السياسي مهم وضروري حتى لا تكون آرائهم في التشريع عرضة للصدفة وغير مستندة إلى مذهب معين من مذاهب السياسة، مما يترتب عليه تشريع ميت لا روح فيه ولا اتصال بين أجزائه وبعيداً عن الأثر المحمود في الأمة، فالأفكار الجديدة في المجتمع لا تظهر اعتباطاً وإنما تولدها الاستجابة لتحديات حركة التاريخ.
وبقدر حرية التنافس لهذه الأفكار في التعبير عن تطلعات الأمة، ونقل مجتمعاتها إلى مراحل أكثر تقدماً، بقدر ما تكتسب الأمة القيادة الأفضل لمسيرتها، ويكتب لها الصمود في وجه الأمم المعادية والانتصار عليها" . هذا بالإضافة إلى أن التعددية السياسية تخلق بنية تحكم ذاتية داخل الدولة، وذلك بسبب التصويب والرقابة المتبادلة بين الوحدات السياسية مما يضمن محاصرة الخطأ وعدم الفساد.
عليه فالتعددية السياسية نافعة ولازمة رغم بقاء الناس مختلفين، لأن في هذا الاختلاف فضلاً عن الرقابة والتصويب، ثروة من الأفكار والعواطف والأذواق عرف الإسلام – بإقراره للتعددية السياسية - كيف ينظمها ويجعلها أولى لبنات بيئته السياسية الصالحة للوصول لأهداف الشورى المتلخصة في وحدة الأمة واكتسابها عقل جمعي.
وذلك لتكون الأمة الأقدر على قيادة العالم بكل تنوعه الثقافي والعرقي والجغرافي، مع مرونة تتيح أكبر قدر من الاستيعاب للعوامل المتداخلة في مجتمعات المسلمين وعلى رأسها هدي نصوص الكتاب والسنة.
فالنصوص والسنن لا تقوم بذاتها بل تقوم بمن يعلمها ويفهمها ويختار بينها، وإدارة هذه النصوص وما تحتاجه - من علم وفهم واختيار - جعلها الإسلام للأمة بما انطوت عليه من تعدد سياسي، فهي التي تأتمر وهي المسئولة عن خطأ وصواب اختيارها حيث اتفقت وائتمرت بالشورى، فحقها تام وتبعتها تامة في تناسق لا يحتاج إلى هيئة في الطليعة من الأحبار والكهان تهتدي أو تضل فيتبعها من يليها.
2- إقرار السنة للتعددية السياسية في دولة المدينة:
هذا وقد أقرت السنة النبوية التعددية السياسية في المجتمع المسلم، ووضعت الآليات اللازمة للتعايش السلمي بين طوائف المسلمين الملتقية في العقيدة والمتعددة في مفاهيمها وحاجاتها الحياتية، وذلك بتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلي المدينة المنورة مع ساكنيها من المسلمين علي أساس التعدد السياسي لطوائفهم. فرغم التركيز على أنهم أمة واحدة دون الناس علي أساس العقيدة، إلا أنه أرسى تنظيماً إدارياً يعتمد علي التعدد، ونجد هذا واضحاً في كتابه بين المهاجرين والأنصار الذي أورده ابن هشام:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم،
- إنهم أمة واحدة من دون الناس.
- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين." .
ويستمر الكتاب بنفس الصيغة لباقي بطون الأنصار، ثم يبدأ بوضع أسس التعامل، وما يهمنا هنا هو الإعلان بأن قريش عدو للاتحاد المدني فقد جاء في نفس الوثيقة ".. وأنه لا تُجار قريش ولا من نصرها" . إذ أنه بالرغم من هذا الإعلان ".. فإن المهاجرين وحدهم هم الذين كانت تقع عليهم مسؤولية شن الهجمات على قوافل قريش وكان دور الأنصار سلبياً في هذا المجال وكل ما كان يطلب منهم هو الامتناع عن مساعدة العدوّ أو إجارة أفراده" . وهنا نرى مدى التزام الرسول صلى الله عليه وسلم ببيعة العقبة الثانية وعدم إلزام الأنصار بشن الهجمات لإضعاف قريش حيث أنهم بايعوه على "أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم" ، وهذا يكون داخل المدينة.
وصواب عدم إلزام الأنصار هنا واضح، ففضلاً عن البيعة.. كانت هناك اختلافات في الحاجات والمفاهيم بين المهاجرين والأنصار، فالمهاجرون أخرجوا من ديارهم ونهبت أموالهم ولهم حاجة في العودة واسترجاع أموالهم، ومفهومهم عن قريش يتضمن تاريخاً طويلاً من المعايشة والصراع أثناء الفترة المكية للدعوة، ولم يكن للأنصار وقتها أي احتكاك مباشر مع قريش، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع من يخرج معه متطوعاً من الأنصار. واستمر هذا الوضع إلي غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة حين أتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم فاستشار الناس، فقام أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب والمقداد بن عمر رضي الله عنهم فقالوا وأحسنوا. " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أيها الناس يريد الأنصار وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا برآء من زمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف الآ تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلي عدو من بلادهم " ، وهنا يمكن أن نرى بوضوح أن تباين أوضاع المسلمين السياسية كان السبب في إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يكون تغير موقف الأنصار ببيعة جديدة، أعطاها سعد بن معاذ قائلاً: ".. أمض بنا يا رسول الله لما أردت فنحن معك " ؛ وهذا الموقف يؤكد على التعددية السياسية في الإسلام.
وكانت بدر نقطة تحول في مفاهيم الأنصار إذ أن الدماء التي سالت قاربت بينهم وبين طائفة المهاجرين في درجة العداء لقريش، ولهذا نجدهم في أحد كانوا هم المصرين على الخروج وملاقاة قريش خارج المدينة في مشاركة إيجابية، وقد نزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند رأيهم وقرر الخروج بدلاً من الدفاع عن المدينة من داخلها.
واستمرت الدعوة تبيح تبادل الرأي في مسارها للطائفة التي يمس الموقف مفاهيمها أو احتياجاتها، كما حدث في غزوة الأحزاب حين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم مفاوضات مع قبيلة غطفان على أن ترجع عن الناس ولها ثلث ثمار المدينة، ".. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا" . فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المفوض من المولى سبحانه وتعالى لإدارة أمر المسلمين ينزل على رأي أملاه مفهوم سابق لدى طائفة الأنصار عن قبيلة غطفان. أما المهاجرون فقد كان لهم جُل الرأي في غزوة الحديبية وكانوا هم المتحدثون لأن مفهومهم عن قريش يتضمن سلسلة طويلة من الاحتكاكات، وكذلك كانت لهم احتياجات تتلخص في استرجاع أموالهم ودورهم التي اغتصبتها قريش منهم، في دليل واضح على أن المفاهيم والحاجات قد تختلف بين طائفة وأخرى مما يوجب التعدد السياسي في الأمة.
3- إقرار القرآن الكريم للتعددية السياسية في المجتمع الإسلامي:
هذا وبالإضافة لإقرار السنة للتعددية السياسية، نزلت الآيات في قرآن يتلى إلي يوم الدين تقر التعدد السياسي للمسلمين وتسمي الطوائف وترسم لها حدودها التي يجب ألا تتعداها، وتشير لآلية الفصل في المسائل السياسية والحربية للوصول لمرحلة العزم والتوكل. قال تعالى الشورى في إدارة المجتمع المسلم و سياسته frown.gif(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) . وقال تعالى: ((وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) .
من الواضح إن هذه الآيات تشير إلى وجود المسلمين في طوائف سياسية متعددة تحت راية العقيدة الواحدة، وتمنعهم في حالة الاختلاف من الاقتتال ورد الأمر إلى الله سبحانه وتعالى.. وهنا تبرز آلية الشورى، لأن الله سبحانه وتعالي لم يقل في سورة الحجرات اختلفوا لأن الاختلاف في الرأي وارد، وحدث أن اختلف رأي الصحابة رضي الله عنهم حتى عن رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد سؤاله إن كان الأمر من الله سبحانه وتعالى أم هو الرأي والمشورة، فإن قال هو الرأي والمشورة صارحوه برأيهم، كما حدث في بدر وفي أحد وفي الأحزاب وفي كثير من المواقف في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم.. أما بعده فقد ارتقت مكانة صحابته رضي الله عنهم في نفوس الناس لجهادهم وسماعهم منه مباشرة، وتأثر بهم الناس وصاروا نواة لطوائف سياسية جديدة، فنهر السياسة ماءه يتغير أما جريانه فثابت. وهنا يمكن أن نرى بوضوح صواب ورجاحة رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين منع كبار الصحابة من الخروج من المدينة حتى للجهاد وذلك لتكون الفتوى أو الأمر الخارج من المدينة يحمل إقرارهم ومشورتهم، وقد ظهر تحزب المسلمين السياسي جلياً في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان حين صار لكبار الصحابة موالين في الأمصار.
4- تسهيل التعددية السياسية لشأن المسلمين المدني والحربي:
مما تقدم نخلص إلى أن التعددية السياسية ركن مهم من أركان الإمارة الإسلامية، خدم الدعوة بتسهيله لشؤون طوائف المسلمين المدنية والحربية، فشأن الأنصار كان مع سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهم، وشأن المهاجرين كان يتولاه الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد امتد التعدد في المدينة حتى مع اليهود المختلفين مع المسلمين في العقيدة والملتقين معهم في الحاجة لتأمين المدينة كوطن من الغزو الخارجي، ففي نفس كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة أورد ابن هشام: " يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف" ، ثم يستمر الكتاب في سرد بيوت اليهود إلى أن يقول: ".. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة" .. الشيء الذي جنب المسلمين الدخول في صراعات داخل المدينة وتفرغوا إلى قريش وحلفائها في بداية الفترة المدنية.
5- صيغة التعدد السياسي وأثرها في الدولة:
على أن نتفهم أن تعدد طوائف المسلمين على أساس القبائل والبطون والأفخاذ والذي كان كافياً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، قد لا يكفي في زماننا هذا، لأن هناك عدو حتمي ويجب سبقه على كافة الأصعدة والمجالات ومنها مجال صيغة التعدد، فالتعدد على أساس الفكر والمبادئ السياسية كما هو حادث اليوم في النظام الدستوري في الغرب، متقدم على التعدد على الأساس القبلي والعشائري بمقدار السلاح الناري للسلاح الأبيض، وذلك لأن التعدد على أساس الفكر السياسي صيغة مجربة حالياً لاحتواء التمايز العرقي والاجتماعي والجغرافي. لذا فلابد من الأخذ به وتطويره نحو الأفضل للفوز في سباق الأمم والحضارات المستمر. وهنا يبدو الإعجاز الإلهي واضحاً في تفويض كل أمر (سلطة وحكم) المسلمين لجمهورهم بلا قيد أو شرط أو ثوابت سوى الشورى، الشيء الذي يُكسب المسلمين تراكم الفكر والتجربة بسبب التفاعل السياسي بين طوائفهم.
6- غياب التعددية السياسية وأثره على الدين:
وكان من المفترض أن يتطور نسق التعدد السياسي في المجتمع الإسلامي عبر تراكم التجربة الشورية للمسلمين من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن وفي غفلة عن الأصول السياسية في الكتاب والسنة، تم حرمان المسلمين من التعددية السياسية التي كفلها لهم الإسلام، وصارت الطوائف السياسية التي سمح بها الإسلام تؤخذ بالسيف حال التفكير في تكوينها مما أدى إلى نتائج مفزعة، فقد اتجه النشطين من العامة اتجاهات خاطئة لتعويض النقص الذي تسبب فيه حجر تعددهم السياسي، وسعوا إلى تكوين أحزاب دينية محرمة بدلاً عن السياسية التي حالت دونها السيوف.. وصار كل واحد من أولئك النشطين يضيف بدعة للدين ليتميز بها عن الآخرين ويجعل الناس تلتف حوله، بل ولجأ البعض للأخذ من الثقافات المغايرة وإلباسها ثوباً إسلامياً مما خرج بهم من دائرة الإسلام الدين. فظهرت الفرق الدينية التي بدأ معظمها سياسياً مثل الشيعة والمعتزلة وأصحاب الكلام وغيرها، وتمسك بها البعض لملء الفراغ السياسي الذي خلَّقه غياب الشورى والتعددية السياسية، وانبرى لهم أهل الحديث ودارت بينهم المعارك والمناظرات الفقهية - مع تجنب واضح لسبب المشكلة – حتى امتلأت بطون المقابر والكتب. فها هو ابن القيم يصف تغييب العمل بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في شأن التوحيد بواسطة معاول الشبه وغارات التأويلات الباطلة في زمانه بقوله: " وأنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان، اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع، والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع " . رحم الله ابن القيم بكى على عدم العمل بنصوص الكتاب والسنة المنزلة في شأن التوحيد، مشبها ما آلت إليه هذه النصوص بحال الخليفة في زمانه، ولم يذكر تواري نصوص الشورى والتعددية السياسية عن تيار الحياة الإسلامية الذي جعل الخليفة دمية بلا سلطات.. علماً بأن السهم الذي أصاب المنهج السياسي الإسلامي القائم على الشورى والتعددية السياسية هو الذي جعل التوحيد عرضة للإصابة، فالشورى والتعددية السياسية هما الجدار الذي يحمي التوحيد من الاختراق والعبادات من الانزلاق، وذلك لأن العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام علاقة تكامل أي مؤثر ومتأثر. فبغياب الشورى والتعددية السياسية توسع الفقه في الدين لدرجة غير مطلوبة، وتعددت المذاهب والأحزاب الدينية وتعدد أنصارها، وبالمقابل اضمحل الفقه في شأن إدارة المجتمع وانحصر في الأحكام القضائية، مما أدى إلى ظهور صورة مغشوشة للدين الإسلامي، ودمغه بمفاهيم سياسية معوجة شوهت صورة الإسلام، وفتحت الباب للجهلة والمنافقين وأصحاب الغرض للنيل منه، بحجة إن الإسلام لم يضع أي أسس لإدارة مجتمعات المسلمين، وإن دولة المدينة كانت صدفة اقتضتها الضرورة لعدم وجود دولة وقتها، عليه فإقصاء الإسلام عن إدارة الحياة العامة هو الحل طالما إن التاريخ السياسي للمسلمين كان في معظمه للتناحر والملك العقيم الذي لا مجال فيه للتعددية السياسية التي هي أساس كل حكم رشيد.
ونقول للذين قالوا الأمر أمرنا والبحر أمام من يريد: أن يتعظوا بغيرهم، لأنهم وبمرور الوقت سيجدون إن البحر أمامهم وحدهم من دون رفيق، فالغرب له خبرة طويلة وعميقة في السيطرة على التيارات السياسية الأحادية وتسيرها في الاتجاه الذي يضمن مصالحه، كما حدث مع هتلر حين جند حلف الأطلسي عشرة آلاف عالم من مختلف التخصصات ووضعهم في وحدة أسماها (ألترا)، وفعلاً سيطروا على عقل هتلر عبر الوسائل الاستخبارية وقصروا مدة الحرب العالمية الثانية سنتين كاملتين. أفلا نعي الدروس وقد كثرت.. فالمخالفون للشورى تبخرت إنجازاتهم وصارت دولهم التي أقاموها على غير هدي منهج الإسلام السياسي هشيماً لم تحمل أي مفاهيم ولم تورثها، وسارت سيرة دول العصبيات، قامت ثم أكلتها الصراعات وسقطت تاركة وراءها المسلمين كقطع الزجاج المتناثر، فجوهر الزجاج موجود في كل قطعة ولكنه غير مترابط ليكون أداة مفيدة.. الشيء الذي أضر بمصالح الأمة وأدي إلى ظهور تلك التكوينات العصابية التي تقول: موتوا من أجل الإسلام ولكن لا تعيشوا به، وقد ارتضاها البعض وبكل أسف فيهم من يلقب بالشيخ والفقيه والعالم. وتم وصف المسلمين بالإرهابيين لأنهم أضاعوا لبنة التعددية السياسية بإضاعتهم لفريضة الشورى.
وأخيراً نقول إن المسلمين على قلب رجل واحد في العقيدة وأركان الإيمان وأركان الإسلام وأركان الإحسان فيها. أما في الأمر (إدارة مجتمعهم وسياسته) فلهم الحق في إبداء رأيهم، وتكوين وحدات سياسية - أياً كان مسماها - منتصرة للرأي والفكرة، مستعينين بالتدليل والتحليل في تنافسهم، وأن يستندوا إلى الشورى للأخذ بهذا الرأي أو تلك الفكرة، في تفاعل حميد يسمح بحرية التحالف والانتظام في طوائف تجمع أهل الفكر المتقارب في تعدد سياسي يجعل المجتمع قادراً على الاستفادة من طاقات وخبرات أفراده.. مع النبذ التام لأي حزبية أو مذهبية دينية لأن المسلمين متوحدين في العقيدة والأطر الدينية.


الفصل الخامس
ركن القيم
1- تعريف:
تمثل القيم روح المجتمعات الإنسانية، وهي مما تفاخر به الأمم وتستند عليه في رفعتها.. وقد غابت القيم فعلياً عن مجتمعات المسلمين بغياب الشورى والتعددية السياسية، وتقطع الناس فيها جزراً معزولة فصارت مسميات يرددها الأفراد لا روحاً تسري في جسد الأمة وتعم شعوبها وطوائفها.
وبغياب قيم الإخاء والحرية السياسية والمساواة العامة، فقدت مجتمعات المسلمين الصفات المميزة للمجتمع الإسلامي. ولذلك عندما قال الشيخ محمد عبده حين ما عاد من فرنسا: " هناك رأيت إسلاماً ولم أر مسلمين، وهنا مسلمون ولا أرى إسلاماً"، لم يقصد بكلامه إلى أنه وجد في باريس الإسلام ممثلاً في مساجد ومدارس قرآنية وأخرى للفقه، ولكنه قصد إلى تفشي القيم الإسلامية من صدق وعدل واحترام لحقوق الإنسان في المجتمع الفرنسي، وقد اكتسبها أولئك الغربيين بسبب أخذهم للشورى التي لا نهاية لمكاسبها التطبيقية.
وفي أساسه تعامل الإسلام مع الأمة على أساس الوحدة المثالية، ففرض عليها الشورى للأخذ والرد في إدارة سياستها، ثم قام بتغذيتها بالتعاليم والقيم الدينية التي سرت روحاً طيبة في امتداداتها الاجتماعية.. الشيء الذي أكسب الأمة الإسلامية مسيرة منضبطة أخلاقياً وسياسياً، وخلصها من الاستلاب الغيبي دون برهان والاستلاب العقلي دون بيان، وصارت لمجتمعات المسلمين صفات خاصة وملامح واضحة، وهذا ما جعل ذلك الشيخ الأستاذ يقول هناك إسلاماً والعكس عندنا.
عليه نقول: إن القيم والموازين الإسلامية، قيم وموازين عملية وقابلة للتطبيق وقيادة البشرية في كل زمان ومكان، ولا تحتاج لمجتمع من السوبر كما حدث مع مجتمع السيرة العطرة والخلافة الراشدة. من أخذ بها فلح في أمره (سياسته) وإن كان كافراً، ومن تخلى عنها خاب وطلح أمره وإن كان مسلماً.
وسأشرح وأدلل فيما يلي كيف غابت قيم العدل والحرية السياسية والإخاء والمساواة العامة والإبداع السياسي عن حياة المسلمين بغياب فريضة الشورى ونعمة التعددية السياسية عن حياة المسلمين.
2 - قيمة العدل:
العدل فريضة إسلامية لازمة قال تعالى: ((إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) . لاحظ يأمر بالعدل وينهى عن البغي.
وقيمة العدل هي أول قيمة فقدناها بغياب الشورى والتعددية السياسية، لأن العدل والاستبداد لا يلتقيان، وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي:
" (مستبد عادل) تساوي (عالم جاهل) تساوي (تقي فاجر) هذا جمع أضداد" . وصدق الشيخ، لأن الاستبداد لا يتم إلا بواسطة فئة تسيطر على الفئات الأخرى، ولم نسمع يوماً بطاغية ركن إلى قوته الفردية للاستبداد بالأمر (السلطة والحكم) في بلاده.. عليه لا يمكن أن يعدل بين أصحاب الولاء والثقة وبين عامة الناس مهما ارتكب أصحاب الولاء من جرم مع العامة، وتصديق هذا تفيض به بطون الكتب، فقد أورد محمد ابن جرير الطبري أن معاوية بن أبي سفيان قال لبني ضبة حين اشتكوا له عامله الذي قطع يد أحدهم ظلماً: "أما القود من عمالي فلا يصح ولا سبيل إليه ولكن إن شئتم وديت صاحبكم. قالوا: فده. فوداه من بيت المال" .
وهذا فشل واضح أمام سيف واحد من المفترض أن يكون تحت يده، وهو الذي حارب أمير المؤمنين الإمام على بن أبي طالب عليه السلام، في دم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وثلاثة آلاف سيف ارتفعت وقتها معلنة مسئوليتها عما حدث لأمير المؤمنين عثمان، ورافضة التحقيق في مقتله رضي الله عنه.. ولكن معاوية كان قاصداً تعكير المياه ليستبد بإمارة المسلمين في الشام، ولم يكن يقصد صلاح أمر الناس.
ولعلنا نذكر خطبة زياد بن أبيه البتراء ، والتي اعتبرناها بكل أسف قطعة أدبية لا نتيجة حتمية لغياب العدل بغياب فريضة الشورى، حيث إن العدل انتهك فيها من فوق المنبر وتحت اليمين وجاء فيها:
".. وإني لأقسم بالله لآخذن، الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد" . وهذا الوعيد رغم فظاعته وبعده عن تعاليم الإسلام غيض من فيض، فبطون الكتب ممتلئة بالتطبيق العملي لهذه المقولة في دول الاستبداد والظلم التي حكمت المسلمين طويلاً دون وجه حق.
وبما إن المنحرف عن حكم الله سبحانه وتعالى ضحية لظلمه نفسه ها نحن نجد معاوية الذي مكن لزياد يقول بعد قتله حجر بن عدي: "حملني ابن سمية فاحتملت" ، قاصداً بابن سمية زياد بن أبيه. وقال حين حضرته الوفاة "يومي منك يا حجر طويل" . فإن كان هذا معاوية الذي أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، تسبب انحرافه عن الشورى في إخلاله بالعدل فما بالك بغيره. علماً بأن معاوية امتدت خبرته عشرين عاما أميرا للشام في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولكن صدق فيه: ((من ترك شيئاً من الشرع أحوجه الله إليه))، فالشورى أساس العدل والعدل أساس الحكم.
3- قيمة الحرية السياسية:
الحرية السياسية هي ثاني قيمة فقدناها بغياب الشورى والتعددية السياسية، وهي مربط الأمر (الإمارة) ونعمة لا تحصى مكاسبها، وهي القيمة المتبادلة بين الراعي والرعية فما إن يفقدها أحدهم إلا وفقدها الآخر. وهي ميزان ركن الشورى وأساس قيمة المساواة العامة، ومن غيرها تتلاشى أركان الأمر في الإسلام وتتبخر. وبما أنه لا فراغ في السياسة فإن آليات الملك العقيم من طغيان سياسي ومحاباة وظلم تحل محلها، ومن ثم يبدأ السقوط على كل الجبهات لأن آليات الملك العقيم لا تقود إلا إلى الفشل والفوضى المتنامية.
هذا والحرية السياسية قيمة أصيلة في الإسلام وصف بها المولى سبحانه وتعالى دينه في كتابه العزيز قال تعالى: ((وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) . وعلى الرغم من أن بعض الأغلال التي عنتها الآية هي أغلال دينية، إلا إنها في النهاية تفضي إلى أغلال سياسية لأن الطغاة لا حصر لأساليبهم التي يتبعونها لفرض طغيانهم على الأمة.. ولهذا جهد الإسلام بتكامله الديني والسياسي لسد الطريق أمام الطغيان، فعلى مدى سيرته العطرة عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على بسط حرية الرأي والمناقشة لصحابته في الحرب والسلم، طالما لم يكن هناك أمر من المولى سبحانه وتعالى.
وقد وضحت الحرية السياسية جلية في المجتمع الإسلامي في غزوة أحد حين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الأغلبية المنافس لرأيه ورأي عبد الله بن أُبي بن سلول، مما تسبب في انخذال ابن سلول وأتباعه، في ظرف سياسي يمكن تقديره من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم سنة تسع للهجرة: ((ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم)) . وهذا سنة تسع بعد فتح مكة ولك أن تتصور الحال في السنة الثالثة وقريش قدمت موتورة ونزلت في العينين قبالة المدينة ".. في ثلاثة آلاف مقاتل منهم سبعمائة دارع والخيل مائتي فارس والظعن خمس عشرة امرأة وكان المسلمون مائة دارع ولم يكن من الخيل غير فرسين " . ففي هذا الظرف المترع بالمعاناة والضيق، يفقد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلث جيشه بانخذال عبد الله بن أُبي بن سلول الذي برر فعلته بقوله: "أطاعهم وعصاني". ولا يتراجع الرسول صلى الله عليه وسلم عن تمضية قرار الجمهور القائل بالخروج وملاقاة قريش خارج المدينة بسبعمائة مقاتل فقط؛ وهنا يمكن أن نستخلص الآتي:
1- بسط الرسول صلى الله عليه وسلم الحرية السياسية لعامة المسلمين لإبداء رأيهم حتى ولو خالف رأى القائد ومراكز القوة في المجتمع المسلم.
2- الاهتمام والجدية في السماع للرأي المخالف والأخذ به إن كسب رضاء الأغلبية.
3- الحرية السياسية للمنافقين في مخالفة التوافق مع تحملهم للنتيجة الدينية، فعلى الرغم من امتلاك الرسول صلى الله عليه وسلم للقوة الكافية والقادرة على سوق المنافقين قسراً وملاقاة عدوه بهم، إلا أنه لم يفعل ولم يوقع عليهم أي عقوبات بعد عودته.
واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في مسلكه هذا وموقفه السياسي يتقوى يوماً بعد يوم، وبالمقابل ضعف موقف المنافقين كثيراً، ففي غزوة تبوك سنة تسع للهجرة أورد ابن الأثير "فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق" . والملاحظ هنا إن ابن الأثير لم يذكر عدد المتخلفين لهوانه بالنسبة لجيش المسلمين، وفي هذه الغزوة أيضاً لم يحجر الرسول صلى الله عليه وسلم على المنافقين حريتهم في المفارقة لجيشه. ونزلت الآيات تؤكد صحة ما ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}*{لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ)) .
ولأعجل نظر تبدو الحكمة في إفشاء كل هذه الحرية في المجتمع الإسلامي واضحة، إذ عملت الحرية السياسية التي جعلها الإسلام حق للنسيج الاجتماعي كله كآلية تصفيه للمنافقين من جهة، وعيناً ساهرة تجعل المؤمنين يبتعدون عن الشبهات من جهة أخرى، وحفزتهم على العطاء المتميز مما ضمن جبهة داخلية متماسكة وقوية ميزانها الإخلاص والعطاء، وإن بدت هشة للمتعنتين قصيري النظر، فقوتها تكمن في تقبل الرأي وإعطائه الفرصة كاملة للفوز برضاء الجمهور.. الشيء الذي سد الطريق أمام أي محاولة لاحتواء الدعوة والسير بها في اتجاه المصالح الخاصة استناداً على المكانة الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وهنا تبدو الحكمة واضحة لأن الثقة المطلقة في مقامات الناس دون ضابط يكبح الانفلات إن حدث، تعتبر سذاجةً ما بعدها سذاجة لسببين: أولاً لقوله تعالى في محكم التنزيل: ((كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ)) ، أي أن الإنسان إن استغنى بقوته طغى. وثانياً لأن القرآن الكريم والسنة النبوية أخبرانا أن من بين المسلمين من هم خوارج ومنافقون وهم أخطر من العدو الخارجي إن توصلوا لإمارة المسلمين بالقوة.
وواقع المسلمين اليوم حجة على أهمية الحرية السياسية في إدارة المجتمعات الإنسانية والتنمية. فهلا أفشيناها في مجتمعاتنا، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك خزائن مليئة بالمال ولا نظم حربية مثل الفرس والرومان ولكن ترك لنا مفاهيم والواجب إتباعها.
4 - قيمة الإخاء:
للإخاء في حياتنا قيمة سياسية كبيرة لأن الإنسان متعدد عاطفياً وفكريا بطبعه، وبالإخاء تسهل إدارة هذا التعدد ليصبح مصدر قوة للمجتمعات. وقد اهتم الإسلام بالإخاء بين المسلمين وجعله فريضة دينية لازمة قال تعالى: ((فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)) ، وقال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) . وكذلك أكدت السنة وجوب الإخاء في الحديث: ((وكونوا عباد الله إخوانا)) .
وبفرض الإخاء والشورى في المجتمع الإسلامي، أصبح التنافس لإدارة الدولة الإسلامية نبيلاً ومتصفاً بالشرف والتعاطي السلمي الذي يسمح للكل بالمشاركة في الشأن السياسي للأمة.. وصار التعاون سمة المجتمع الإسلامي، والطوائف السياسية فيه مجرد وسيلة لجمع الأفكار والطاقات تسهيلاً لإدارته، فالعقيدة في هذا المجتمع أبرزت نسباً هو الأخوة بين المسلمين بنص الآيات وبنص الحديث. عليه فالإخاء فريضة وقيمة إسلامية مهمتها أن تحيل تعدد المسلمين الفطري قوة وكسباً للإسلام. فالاختلاف في وجهات النظر مسموح به في الشأن السياسي، والتجمع في طوائف بحسب وجهة النظر السياسية مسموح به أيضا، ويكون التفاضل بين وجهات النظر المختلفة بالشورى. والقتال بين المسلمين انتصاراً لرأى أو وجهة نظر منهي عنه، وأمر الإسلام بقتال من يسلك هذا المسلك حتى يرجع عن بغيه واستبداده بسيفه، ويفيء إلى أمر الله بالأخوة ومن ثم الانصياع للشورى الآلية التي فرضها الله سبحانه وتعالى للفصل في شأن الأمر المختلف عليه.
وكان الإخاء في المجتمع الإسلامي على عهد السيرة العطرة ومعظم الخلافة الراشدة، واضحاً وملموساً بين المسلمين إلى أن تدخل سيف الخوارج وغيب السلطة الشرعية. وبغياب الشرعية غاب الإخاء بين المسلمين وانطلق السيف يصول ويجول في أوصال الأمة ولم ينج منه حتى إخاء النسب، وصار المسلمون أشتاتا منحدرة.. وقد استمر بهم الانحدار إلى أن أتى العدو بعد أن وفق لنعمة الشورى - ونعمة الله لا تنافس - وتقسم العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. وبعد خروجه اعتمد على سيوف المسلمين المتناحرة للإبقاء على حالة الضعف التي يعانون منها.
هذا وبطون الكتب تشهد على المجازر التي تمت لقيمة الإخاء في حياة المسلمين، وما الجمل وصفين والنهروان ومقتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وتوجيه الجيوش من الشام لقتال أهل مكة والمدينة، مرة بأمر يزيد بن معاوية، ومرة بأمر من عبد الملك بن مروان، وكذلك قتل عبد الملك لابن عمه عمر بن سعيد ليصفو الأمر لأبنائه، وتقاتل أحفاد عبد الملك وأحفاد المنصور من بعدهم. كل هذا ما هو إلا جزء يسير من مسلسل الانحدار الذي تسبب فيه فقد المسلمين لقيمة الإخاء بسبب عدم الرضوخ لحكم الله بالشورى، بتبرير ساذج حيناً ومليء بالغرض أحياناً كثيرة يقول بأن اختلاف الآراء في السياسة يخلخل الصفوف ويبصر العدو بالعيوب، والواقع يقول إن انعدام الشورى ومؤسساتها هو الذي خلخل الصفوف وأبرز العيوب وأبقى عليها.
وصدق الشاعر حين قال:
ما دخل اليهود من حدودنا
وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا.
عليه فالإسلام قرآن وسنة بريئان من الخلل الكبير الذي حدث لقيمة الأخوة الإسلامية، فالقرآن الكريم أمر بالشورى لتفادي الخلاف، والسنة النبوية حذرتنا من الخوارج الذين كانوا وما زالوا السبب في إقصاء آلية الشورى وبالتالي قيمة الإخاء، فقد تعنتوا في فرض الرأي السياسي المتستر بالدين حتى عمت الفتنة وصار نداء الصفوف المتقاتلة الله أكبر، ويُقتل آل محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لهم القتلة بالسلام والبركة في صلاتهم.
وأخيراً نقولها: إن الملك عقيم لا إخاء فيه ولا يقبل خوفاً أو ورعاً من الله سبحانه وتعالى، فقد أورد ابن الأثير: ".. ولما سمع عبد الملك بن مروان أن يزيد قد سير الجنود إلى المدينة قال: ليت السماء وقعت على الأرض. ثم إنه أبتلي بعد ذلك بأن وجه الحجاج فحصر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق وقتل ابن الزبير" . عليه فليحذر الذين أفتوا بتجاوز الشورى، فما بعد الشورى إلا الملك العقيم، وما الملك إلا قائد الفرقة والتناحر والجفاء، ولذلك سمي عقيماً فلا يستقيم معه إخاء ولا نسب؛ فهلا عدنا للشورى لنحقق الإخاء ونصلح ذات بيننا.
5- قيمة المساواة العامة:
المساواة العامة فرض أصيل في الإسلام لأن البيعة للإسلام كانت وما زالت دون وعود بمنافع دنيوية فالمسلم المبايع له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والتقوى من أسرار القلوب وليست ميزاناً يعتد به لأي اختيار، فلا ولاء أو نسب أو عطاء يمكن أن يفرق بين مسلم وآخر في الشأن العام حتى لو كان أحدهم الأمير، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يعلنها صريحة: ((يا أيها الناس إنما ضلَّ مَن كان قبْلكم أنهم كانوا إذا سَرقَ الشريفُ تركوه، وإذا سرقَ الضَّعيفُ فيهم أقاموا عليه الحدَّ. وايمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت لقطعَ محمدٌ يدها)) .
وفي خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى الخلافة قال: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، وكذلك طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقويمه إن هو اخطأ، وذلك لأنهما كانا يعلمان إن شأن الإمارة إنما هو وكالة من الرعية بعقد بيعة، لا تفويضاً من السماء أو تكريماً لعطائهم السابق لأن ذلك العطاء أجره الجنة لا منفعة دنيوية، وعليه يعلنها عمر بن الخطاب واضحة لعماله أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه، ولا أبلغ من هذه الشهادة.
هذا وقد تمتع بالمساواة العامة في حمى الإسلام حتى غير المسلمين، فهاهو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يقف أمام القاضي شريح خصماً لمسيحي في درع له، فيحكم القاضي بالدرع للمسيحي لأن أمير المؤمنين مع اشتهاره بالصدق ليست له بينة ".. فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه" . وفي التو واللحظة يسلم المسيحي ويشهد قتال الخوارج مدافعاً عن أمير المؤمنين الذي تساوى معه أمام القضاء.
هذه المساواة التي فرضها الإسلام نتج عنها مجتمع أفراده مكتملو الشخصية موفورو الكرامة والإنسانية، والجميع شركاء في السلطة متكاملون لا أجراء و لا مستعبدين، والأمير - من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم - في هذا المجتمع يشعر بفضل المسلمين في توليته ومقدراً للثقة التي أولوها إياه، ويعلم مقدرتهم على محاسبته وعزله بموجب فريضة الشورى التي فوضت الأمر (السلطة والحكم) لهم.
وقد نتجت عن هذه المساواة تكافؤ الفرص وتقديم الكفاءة وإتاحة الفرصة للإبداع واكتساب الخبرة والعلم، فها هو خالد بن الوليد يقود جيوشاً بها كبار الصحابة، وكانت الجيوش بعد عودتها تحل قيادتها ويعود الكل سواسية في الحقوق والواجبات العامة.
ولم يحد المسلمون عن المساواة العامة إلا حينما غابت الشورى، وصارت البيعة تشتمل على منافع دنيوية تزيد وتنقص بزيادة ونقص الموهبة والعصبية فهذا يمنى بولاية وآخر بالمال وغيره بوظيفة، وصار الطامعون أتباع للأمراء لنيل المكاسب.. وتعددت هذه المطامع وتطورت بمرور الزمن واشتداد حاجة الأمراء للولاء الشخصي- وانقلاب السحر على الساحر - حتى أتت على كل سلطات الإمارة.
أما العامة فقد أهدرت كرامتهم مما شوه شخصياتهم وعوق إنسانيتهم وقتل فيهم روح الإبداع والتعلم واكتساب الخبرات، وشغلوا وقتهم بالعبادة بعيداً عن حد السيف - القائد الجديد للأمة - وتعمق زهدهم للدنيا يحصون على السلاطين أخطاءهم ولا يستطيعون التغيير، وإنما فقط إطلاق احتجاجات فردية لم تجد نفعاً بسبب كتم الحريات والإرهاب الذي حدث بحجة وأد الفتنة، والصحيح أن صفات المجتمع المسلم هي التي وئِِدت بوأد المساواة العامة، وصارت مواقف الأمراء المستعلية على العامة نوادر تحكى للترفيه مثل ذلك الذي وصف الحجاج بالظلوم الغشوم ثم عاد فوصف نفسه بالجنون.
وانطلقت بضع آراء تظللها السيوف أو يحدوها الطبع والغرض، تبارك في استخفاف بآيات الله، استبداد الطغاة والديكتاتورية تحت ستار أقوال فردية تفتقر للمنطق والدليل، كقول أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء وهو من علماء أهل السنة: ".. وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال: " ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، براً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين". وقال أيضاً في رواية المروزي: " فإن كان أميراً يعرف بشرب المسكر والغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه."
وكذلك نجد القول بأن حكم الغلبة ضرورة لازمة لعدم إمكانية استقامة شؤون الإمارة الإسلامية بالشورى. علماً بأن الشورى حق للمسلمين ولا ضرورة مع الحقوق .. ولا أدري كيف لا يستقيم ما فرضه العزيز الحكيم، ويستقيم منهج كسرى وقيصر وفرعون، عبر مقولة باهتة مثل: "يفهم من كلام الإمام أحمد"، أو افتراض عدم استقامة وهمي، أو إجماع مشكوك فيه، أو رأي شخصي بدون دليل وفي ظرف ضاغط، علماً بأن الأمة الأربعة قد عاشوا في زمان الاستبداد والسيوف مسلطة على رؤوسهم.
وها هو الغرب اليوم يتفوق سياسياً واقتصاديا وعلمياً بالشورى التي استند عليها في إقامة نظامه الدستوري، فاستقام أمره وتسيد على العالم الإسلامي، الذي لا زال عقله في أذنيه يتزعمه خطاب لا يأخذ بمنطق الواقع وحقائق الدين ولا يأبه لها، وقد تستر بالآراء الباطلة التي تقدست بنفس مستوى الكتاب والسنة قداسة تحميها وتحتمي بها سلطة دولة استقر فيها الاستبداد نحواً من ألف وثلاثمائة عام ونيف، حتى أصبح الاستبداد هو الصفة الملازمة لنظام الحكم في الإسلام.
ولكن هيهات أن يستمر ذلك أبد الآبدين فللإسلام كتاب ما فرط في شيء ومحفوظ بحفظ المولى سبحانه وتعالى وهو حجة على المخالفين والمنكرين، وردت به أركان الأمر (السلطة والحكم) في الإسلام وفرائضه ومحرماته في منظومة اكتشف الغرب قلبها المتمثل في الشورى وتفوق بها على العالم، وهي في متناول يدنا منذ القرن السابع الميلادي وقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفها بالهلاك والخروج من الملة، ولو فاق مظهر عبادته مظهر عبادة الصحابة رضي الله عنهم. فهلا تنبهنا لهذا التحذير وعدنا للشورى لتعود إلينا قيمة المساواة العامة التي تحفظ كرامتنا وتعافي شخصيتنا، اللهم آمين.
6- قيمة الإبداع السياسي:
الإبداع السياسي في أرقى صوره عبر التاريخ كان وما يزال نتاج الجمهور إن اجتمع لأن من نتائج تجمع الجمهور:
1- تراكم الفكر، بتجدد أفكار الأفراد في المجتمع
2- التنقيح بالأخذ والرد
وبما أن تحقيق الإبداع السياسي يتطلب الاجتماع والتداول كما ذكرت، وهذا مستحيل في حالة الملك العقيم، لذا فقدنا فيما فقدنا من القيم بسبب تغييب الشورى هذه القيمة الأساسية لرفعة الأمم ونمائها.
ومن جهته اهتم الإسلام كتاباً وسنة بترسيخ متطلبات الإبداع السياسي في الأمة الإسلامية بتجرد رفض الانتصار الوقتي على حسابه، فرغم انخذال عبد الله بن أُبي بن سلول في غزوة أحد بثلث الجيش قائلاً: أطاعهم وعصاني، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمضى رأى الأغلبية ولم يتراجع إلى رأى بن سلول. وكان في هذا القرار - رغم نتائج المعركة - كسباً لا يقدر بثمن لأن المسلمين وقتها أدركوا أن لرأيهم التقدير، وتوافق الأغلبية له الفصل في الأمور، مما حفز فيهم ملكة الإبداع في القرار السياسي.
وعليه يمكن القول أن غزوة أحد كانت إعداداً وتهيئة للمسلمين حتى يستطيعوا السير بخطى ثابتة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يحكموا العقل قبل العاطفة لأنهم كانوا مشاركين في صنع القرار، وبالتالي فهم مسئولون عن النتيجة. حتى إن ابن هشام وصف الذين كان رأيهم الخروج في غزوة أحد ب ".. رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره " ، وهذا يعني أن شعورهم بالمسؤولية جعلهم يبذلون جهداً مضاعفاً في الغزوات.
هذا وقد أكد المولى سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم إن تقبله لرأي الجمهور ولنتائج المعركة كان بتوفيق منه سبحانه وتعالى، ولو أنه سلك مسلكاً مغايراً لانفضوا من حوله، قال تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)) . ورغم ما حدث لجيش المسلمين أمره بالاستمرار في نهج الشورى لقوله سبحانه وتعالى في نفس الآية: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)).. وبهذا اكتسب مجتمع المسلمين هوية وسمة سياسية سرت في شرايين المجتمع الوليد الذي راهن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم مضحياً بنتيجة المعركة في أحد رغم أهميتها، وذلك لترسيخ قيمة سياسية إعجازية. وقد أكد القرآن الكريم صواب هذه الخطوة وانفضاضهم إن لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم للاستبداد بالأمر في قوله تعالى: ((لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)).
هذا وفضلاً عن ترسيخ الشورى للإبداع السياسي في المجتمع، فهي أيضاً السبيل الوحيد لتفادي معوقاته المتمثلة في الإفراط والتفريط السياسي، وذلك لأن الشورى تجعل المجتمع مفتوحاً لفعاليات النقد والمراجعة، ولا سبيل للكسب السياسي فيه إلا عبر الأداء المتوازن والجيد.. عليه يمكننا القول بأن الإنسانية بلغت بالإسلام أعلى درجة من الترقي والنضج الإنساني القادر على الإبداع الذاتي عبر العقل الجمعي الذي فرض الإسلام الآلية اللازمة للوصول إليه وتحمل مسؤولية حمل الخير إلى المجتمعات المغايرة حيث لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى مجتمعات المسلمين أن تكون القدوة في الإتباع للتشريع الإلهي وتنفيذ ما أمر به القرآن الكريم حتى يتبعها الآخرين. أما ادعاء الطاعة مع المخالفة البينة لتعاليم الإسلام فهي من اكبر المقت عند الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ)) .
وهنا يبرز عظم المسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وواجب تبنيهم للإبداع السياسي القادر على الوصول إلى الآخرين وإقناعهم عملياً بما تمتاز به المفاهيم والقيم الإسلامية من تقدم وفعالية، فالتبشير بالقيم والمفاهيم دون تجسيدها في الواقع قد يؤدي إلى الارتياب بها من جانب الغير، لأن العنصر الأخلاقي يفوق العنصر الفكري في نظرة الآخرين للدين، وبالتالي يتم إلقاء اللوم على الدين ككل نتيجة لخطأ البعض في تطبيق تعاليم الإسلام السياسية.
وكان منهج ونظام الإسلام السياسي معلوماً لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين قال لمعاوية: " السلام عليك أيها الملك، فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق لو قلت يا أمير المؤمنين ؟ فقال أتقولها جذلان ضاحكاً ؟ والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به" .
وهذه الشهادة من سعد في وضع معاوية يجب أن لا يستهان بها، فسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه صحب الدعوة يافعاً وذكره ابن هشام في الخمسة الأوائل الذين أسلموا بإسلام أبي بكر رضي الله عنهم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قاد الجيوش وأَمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. الشيء الذي جعله خبيراً بشأن الأمر (السلطة والحكم) في الإسلام ويعلم الشروط الواجبة لجعل الشخص أميراً للمؤمنين، فهو أحد أفراد الشورى الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال فيه: ".. وإن تولوا سعداً فأهله هو وإلا فليستعن به الوالي فإني لم أعزله عن ضعف أو خيانة" . وكذلك يعلم سعد كيف عانى الرسول صلى الله عليه وسلم لترسيخ الشورى رأس التعاليم السياسية للإسلام، والحاملة لأُسس أول دولة جمهورية حقيقية في التاريخ الإنساني، وقد سكت سعد وقتها بسبب الصلح الذي أبرمه معاوية مع الإمام الحسن عليه السلام.
وأما اليوم - وبكل أسف - فقد أصبح حتى مجرد إمكانية التفقه بالتعاليم السياسية للإسلام من الصعوبة بمكان، وذلك لأن أدوات التغييب لهذه التعاليم كانت فعالة ومنتظمة ومتدفقة على مر الحقب الإسلامية، باستثناء فترتي السيرة العطرة والخلافة الراشدة.. وتأكيداً لهذه الحقيقة يقول الأستاذ حافظ عبد الرحيم في كتابه القيم (الخطاب الشرعي في المسكوت عنه): ".. كل العلوم الإسلامية وأصولها الثلاث: العقيدة والتفسير وأصول الفقه قد مسها الرأي في مقتل، وأصبح الرأي هو الأساس ولا يلجأ للنص إلا للاستدلال.. ومن أجل هذا أقدم الدعوة لإحياء نصوص القرآن والسنة، ورفع مظلة الدين عن آراء العلماء، فإذا لم يتم ذلك تدخل هذه الأمة فيما دخلت فيه الأمم السابقة، وتغطى النصوص بطبقة كثيفة من الآراء فتندثر وتتوارى عن تيار الحياة لتصبح للتلاوة واحتساب الأجر من عند الله سبحانه وتعالى، وهي لم تنزل لذلك فقط. فكثير من كتب الدين لا تحتوي على نصوص الشرع أصلاً.. تنظر إلى الكتاب الضخم يكاد يخلو شرحه ومتنه من آية لكتاب الله أو حديث لرسول الله " .
ووسط هذه البلبلة التي أشار إليها الأستاذ حافظ، انتهز المغرضون الفرصة وأشاعوا - دون إيراد أي أدلة - بأن العلماء اختلفوا في مدى إلزامية الشورى في الإسلام ولمن تكون، مما جعل الفكر النقيض يرسخ في أذهان العامة، حتى أصبحت الشورى المفروضة بنص آية من كتاب الله رجساً أتانا به الغرب، وأصبح الاستبداد المنهي عنه بشرط بيعة لدخول الإسلام، واجباً مقدساً عند بعض مِن مَن يظنون أنهم حماة العقيدة وورثتها الوحيدين.
وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه صرنا في حاجة لمن يحمل إلينا الخير بدلاً من حمله للآخرين، وذلك بغياب آلية اكتساب قيمة الإبداع السياسي والمتمثلة في الشورى في الأمر (السلطة والحكم) عن مجتمعاتنا.

الفصل الخامس
ركن الأحكام والقواعد الشرعية
1- تعريف:
الأحكام والقواعد الشرعية هي آليات لضبط حركة المجتمع المسلم، ومنبعها هدي الوحي وصحيح السنة ومكتسبات الشورى، وتشمل:
1- أحكام القضاء بفروعه المختلفة.
2- أحكام المعاملات وضوابطها.
3- القواعد الشرعية.
وهذه الأصول الثلاثة تحكم مسار العلاقات في المجتمع وتحمي القيم التي أمر بها الإسلام وتضمن للناس مجتمعاً معافى من الجريمة والخلل.. وبما أن طاعة ولاية الأمر الشرعية في الإسلام من طاعة الله سبحانه وتعالى بنص آية الطاعة، وقرارها سنة نبوية بنص حديث سنية القرار، عليه فالباب مفتوح للاجتهاد في إبداع الأحكام وسن القوانين وتعديل إجراءاتها، الشيء الذي يكسب الدولة الإسلامية مرونة تشريعية كافية لإدارة المنظومة القانونية للمجتمع المسلم وترقيتها.
علماً بأن الإسلام قد أمدنا بأحكام في ما يعجز الفكر البشري عن الوصول إليه.. لتكتسب الأمة القوة وتحفظ الإنسان في دمه وماله وعرضه، وفوض ولاية الأمر الشرعية لشرح وتنفيذ هذه الأحكام، وإبداع وتطوير الأحكام في ما يستجد من مواقف وأحداث.. الشيء الذي ضمن للمسلمين منظومة حقوقية متكاملة ومرنة، فقد تميزت حتى أحكام القضاء المنصوص عليها في الكتاب والسنة بالمرونة، ففيما عدا حد الزنى لحساسيته نجدها قد فتحت المجال واسعاً للاجتهاد في كيفية الإثبات وتعديل الشهود وتقييم المال في حد السرقة والديات ووضع المضابط القضائية في ما يستجد.

2- عدم كفاية تطبيق أحكام الكتاب والسنة شرطاً لقيام سلطة إسلامية:
هذا والقول بأن شرط قيام الدولة الإسلامية هو فقط في تطبيق أحكام الزكاة والأحكام القضائية (أحكام الحدود) الواردة في الكتاب والسنة تحت مسمى تطبيق الشريعة الإسلامية، هو قول فيه الكثير من السذاجة والتخليط ويشوه الإسلام بصورة كاملة لأن ".. هناك تفرقة واضحة بين عالم السياسة الذي يجب أن يتم حسم الأمور به عبر اجتهاد الحكام الخاضعين لمساءلة الجمهور، وبين عالم القانون الذي ينفرد بالأمر فيه المختصون من القضاة والمحامين وغيرهم من القانونيين.. والخطأ الأكبر الذي يرتكبه أكثر من يتناول قضية الحكم في الإسلام، هو اعتبارهم أن مسألة الإمارة والحكم في الإسلام برمتها تقتصر على تطبيق القانون، وأن الحاكم مجرَّد قاض مطبق لهذا القانون. وفي حقيقة الأمر فإن السياسة أوسع من ذلك بكثير، وتدخل فيها أمور لا تقتصر على القانون، وإنما تتعلق بتوازن القوى واتخاذ القرارات حول شؤون الخدمات والاقتصاد والحرب والسلام وغير ذلك" .
هذا ورغم وضوح وجوب لزوم الشرعية المستندة على شورى المسلمين لتأسيس أي سلطة إسلامية، يصر البعض على القول بأن تطبيق ما ورد من أحكام في الكتاب والسنة هي كل المطلوب لقيام الدولة في الإسلام ولا يجوز تعديها، وقد صدقهم الناس في هذا تجرفهم العاطفة الدينية غير المبصرة، والسبب في هذا الانجراف هو أن هذه الأحكام لم تغيب في العصور غير الشرعية التي أعقبت الخلافة الراشدة، وقد أبقى عليها المغتصبون لحق الأمة في السلطة لتكون واجهة تعطيهم الشرعية في نظر الجمهور، الشيء الذي جعل جانب القضاء الإسلامي يمتاز باجتهادات وأبحاث فقهية جعلته حياً في أذهان المسلمين، وتكفي أي تذكرة لإخراجه مبتوراً عن الشرعية التي فرضها الإسلام.
واليوم يشوب المسلمين الكثير من الالتباس في شأن أمرهم (سلطتهم)، خاصة وإن الواقع المعاش يحكي عن الكثير من الإخفاق والإحباط، الذي تسبب فيه غياب شرعية الشورى، والمحاربة والإنكار للتعددية السياسية التي أقرها الإسلام، وذلك عبر المزايدة والابتزاز بالقوانين الحدية من قبل الدول والجماعات المتسمية بالإسلامية.
وقد زاد في هذه البلبلة إصرار البعض على الانغلاق ضمن محفوظات واجتهادات لعصور سابقة تختلف كثيراً في إمكانياتها ومشكلاتها عن عصرنا الحالي، مما يشتم منه رائحة الجهل أو الغرض. علماً بأن الأخذ بالأحكام والقواعد من دون الشرعية المفروضة هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة وخارج ميزان قبول العمل، فقد فوض الإسلام جمهور المسلمين لتطبيق الأحكام والقواعد الشرعية بنص آية الشورى، وعلى الجمهور أن يضع الأسس اللازمة لتطبيقها عبر الشورى الركن الجامع لكلمة الأمة، وليس لفرد أو فئة مهما تسمت أو أظهرت من الإخلاص ادعاء المسؤولية، لأن فقد الأحكام لمؤسسة التطبيق الشرعية يفقدها الغاية من إقرارها للتالي:
1- تتحول أحكام الجهاد إلى وسيلة لسلب السلطة بدلاً عن حمايتها. وبما أن المستلب يستلب ذهبت السلطة لأيدي يعلم الله سبحانه وتعالى وحده دواخلها، بل وإلى غير المسلمين والتاريخ شاهد على هذا.
2- تتحول الأحكام من بسط الأمن في المجتمع، إلى بسط الرعب والإرهاب وسط المعارضين والعامة.
3- تتحول القواعد الشرعية من منظم لحركة الفكر والتشريع في المجتمع، إلى مصدر للفتاوى التي تجيز مخالفة فرائض الأمر، وذلك عبر الاحتيال بقياسات وهمية، والتحجج بالوقائع التاريخية المخالفة للنصوص والمفاهيم التي تشكل شروط السلطة الشرعية في الإسلام.
كل هذا الخلل حدث على مدى طويل من التاريخ الإسلامي بسبب غلو الخوارج في الدين وتعنتهم في فرض فهمهم للنصوص على القرار السياسي، وقولهم بكفاية الأحكام الواردة في الكتاب والسنة لإدارة مجتمعات المسلمين، مما تسبب في الفتنة التي أدت إلى انهيار الخلافة الشرعية كما أسلفت.
هذا وقد حذرنا القرآن الكريم من الغلو في الدين في قوله سبحانه وتعالى: ((لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ)) . وكذلك حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إنَّ هذا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فيهِ بِرِفْقٍ)) ، والمعنى واضح وهو أن نستخدم العقل والتدليل في وزن الأفعال بميزان التعاليم الواردة في الكتاب والسنة.. فالدولة الإسلامية في حقيقتها ليست مجموعة قوانين أو كتلة مواقف سياسية ثابتة نتقيد بها، وإنما هي منظومة سياسية متكاملة ذات أركان مفروضة، لسن القوانين وتنفيذها واتخاذ القرارات في المواقف السياسية وحمايتها، مع مرونة كافية تفادت اجتزاء النصوص وقسرها على الإجابة على أسئلة وإشكاليات لم تكن ضمن مشاغلها في زمانها التاريخي المحدد.
3- رأي الدكتور محمد عمارة في أحكام الكتاب والسنة:
وفي تعريفه للأحكام الواردة في الكتاب والسنة يقول الدكتور محمد عمارة: ".. قليلة هي آيات الأحكام في القرآن الكريم.. وأقل منها آيات الحدود، وهذه وتلك مع الأحاديث النبوية الصحيحة التي تمثل السنة التشريعية إنما تمثل في الجوهر والأساس: فلسفة التشريع القانوني وإطار الاجتهاد البشري الذي أوكل إليه الإسلام إبداع القوانين وتطويرها وتغييرها وفقاً لمصلحة الأمة المتطورة دائماً وأبداً بحكم اختلاف الزمان والمكان" .
هذا وقد استشهد الدكتور محمد عمارة برأي الدكتور عبد الرازق السنهوري الذي قال في هذه القضية بعد أن وصفها بالشديدة الوضوح: ".. إن الكتاب والسنة هي المصادر العليا للفقه الإسلامي، وقد قصدت بالمصادر العليا أن أقول إنها مصادر تنطوي في كثير من الأحيان على مبادئ عامة ترسم للفقه اتجاهاته ولكنها ليست هي الفقه ذاته فالفقه الإسلامي هو من عمل الفقهاء صنعوه كما صنع فقهاء الرومان القانون المدني" .
ويمكننا تلخيص مقالة الدكتور محمد عمارة وما استشهد به، في أن الكتاب والسنة لم يشتملا على منظومة متكاملة من اللوائح والقوانين لإدارة مجتمعات المسلمين في كل زمان ومكان، وإن الذي جاء فيهما من أحكام وحدود كان في ما لا يستطيع العقل الإنساني القاصر أن يصل إليه، وهي نعمة من الله سبحانه وتعالى نتبعها ونقيس عليها بقدر الاستطاعة لإبداع القوانين وتطويرها وتغييرها - بحسب الحاجة - عبر الشرعية المتمثلة في مؤسسة الخلافة المنتخبة، التي طاعتها من طاعة الله سبحانه وتعالى، وقرارها سنة كسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. والتي حين غيّبها الملك العضوض والملك الجبري بتغييب الشورى لجاء المسلمون للفقهاء يستنبطون لهم الأحكام، ساحبين بذلك بساط التشريع عن دولة الملك لحين عودة الخلافة على نهج النبوة وهي خلافة الجمهور التي وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يزداد الفهم للكتاب والسنة، ويزداد دور الجمهور في السلطة عبر منظومة حية متطورة تواكب تطور الحياة النامية وتوجه خطاها نحو الأفضل.
4- مرونة تعاطي السيرة العطرة والخلافة الراشدة مع الأحكام والنصوص:
هذا وقد تميز الإسلام بالمرونة في التعاطي مع أحكام الكتاب والسنة بحسب مقتضى الحال، ونلمس هذا حياً في هدنة الحديبية سنة ست للهجرة، حين ترك الرسول صلى الله عليه وسلم مكة تموج في الكفر والرزيلة، وبيت الله الحرام تتوسطه الأصنام وآلاف الحدود الشرعية دون تنفيذ في هدنة مدتها عشر سنوات.. رغم وفرة النصوص الداعية للحرب وقتها، ورغم مقدرته على أخذها في ساعة من الزمان لفارق القوة، حيث كان في ألف وأربعمائة مقاتل وقريش في كوكبة من الفرسان لم يذكر المؤرخون عددها لهوانه .
وجاء كتاب الهدنة مع سهيل بن عمرو مبعوث قريش وكأنما قريش هي الواثقة من النصر إن كان القتال. فقد أورد ابن هشام في رواية للزهري ".. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم؛ فكتبها ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سُهيل بن عمرو؛ قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك؛ قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمر، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتي محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه... وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها." .
كل هذا أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف سياسي مهادن، رغم تحرق المسلمين لدخول مكة حيث أموالهم التي نهبت منهم وديارهم التي أخرجوا منها، ورغم آيات سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة وأمرت بقتال المشركين، قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) ، وقال تعالى: ((فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)) .
وتثقفنهم تعني الظفر بهم (لسان العرب – مادة ثقف) وكان واضحاً أن الظفر للمسلمين على قريش في الحديبية إن كان القتال، وقد مهد إليه المشركون بتعنتهم وإصرارهم على وضع شروط الأقوى وهم الأضعف، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم في رواية للزهري: ".. يا رسول الله، ألست برسول الله؟. قال: بلى.. قال: أولسنا بالمسلمين؟. قال: بلى.. قال: أوليسوا بالمشركين؟. قال: بلى.. قال: علام نعطي الدنية في ديننا؟. قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني.. قال الزهري: فكان عمر يقول ما زلت أتصدق وأصوم وأصلى وأعتق من الذي صنعت يومئذ، ومخافة كلامي الذي تكلمت به." .
إذاً فقد تضافرت الأسباب وتيسرت السبل لدخول مكة عنوة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قرر الرجوع عنها بسلطة المكلف بالأمر مكتفياً بعقد الهدنة. وهنا نجد أن الشرعية في هذا الموقف السياسي نابعة من صدوره من المفوض بالأمر الذي أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته، وهذا يؤكد على أن القرار السياسي في الإسلام هو للمفوض بولاية الأمر وليس لاجتزاء النصوص، حيث أن الله سبحانه وتعالى أمر بطاعة ولي الأمر في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ..)) .
ثم نزلت بعد ذلك آيات سورة الفتح تؤكد سلامة الحراك السياسي للرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية بعد الظفر منه بهم قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً)) ، وكذلك أكدت الآيات إن ما حدث كان فتحاً مبيناً قال تعالى: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً)) .. وقد أكدت الأيام الفتح الذي قالت به الآية، وذلك في وصف الزهري الذي أورده ابن هشام ".. يقول الزهري:
فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه وقد دخل في تلك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.
قال ابن هشام:
والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف" .
واستمر الكسب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب القوة الضاربة: دخل مكة دون قتال، وضم أهلها لجيشه، وواجه جيوش الطائف التي حركها فتح مكة باثني عشر ألفا.. وحين تحرك الروم بعدها ذهب لمواجهتهم في تبوك بثلاثين ألفاً. كل هذا الكسب كان سببه حراك سياسي حكيم وضع العداء الإقليمي والدولي المفروض كسنة من سنن الله سبحانه وتعالى نصب العين لقوله تعالى: ((وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) .
هذا وقد أخذت الخلافة الراشدة بنفس منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في مرونة التعامل مع النصوص، وذلك حين قرر الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه حرب مانعي الزكاة رغم وجود النص الذي ذكره به عمر رضي الله عنه في الحديث الذي أورده البخاري ".. يا أَبا بكر كيفَ تُقاتِلُ الناسَ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمِرتُ أَن أُقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عَصمَ مني ما لهُ ونفْسَه إلاَّ بحقه وحسابه على الله." ولكن أبو بكر رضي الله عنه أمضي رأيه، فلزمت الطاعة المسلمين رغم المخالفة لنص صريح، وصار قرار الحرب هو تشريع اللحظة الذي يجب على المسلمين طاعته لأنه من ولي الأمر المنتخب وصاحب السنة في الزمن.
عليه فليس لأحد أن يدعي حكمة تفوق الحكمة في الحديبية وحروب الردة، ولا غيرةً على الإسلام يفوق فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويحارب الشرعية بحجة عدم التطبيق الحرفي للنصوص، فلا مكان أكرم من بيت الله الحرام، ولا عداء أشد من عداء قريش والمرتدين للإسلام.
5- ركائز الخلافة الإسلامية:
وبهذا الموقف القوي من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ارتكزت الخلافة الإسلامية على مفهوم شورى ثم طاعة وليس على مصطلح تطبيق الشريعة الذي قال به الخوارج خلطاً بين فرائض الدين وفرائض الأمر للتحايل على شرعية ولاية الأمر، فالدارس للتعاليم الإسلامية يجد الفرق واضحاً بين منظومة الدين القائمة على أركان الإيمان وأركان الإسلام والإحسان، وبين منظومة الأمر (السلطة والحكم) القائمة على الشورى. ففي شأن الدين نجد إن واجب الالتزام بالشريعة قد ورد صريحاً قال تعالى: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ)) . أما في شأن الأمر فقد جاءت آية الشورى – في مرونة سياسية مطلوبة - خالية من أي شرط أو قيد أو ثوابت سوى الالتزام بالشورى كشرط لقيام الدولة الإسلامية، وهذا ما جعل ابن خلدون يقول في وصف الحكم السلطاني الذي أفضى إليه حكم الأمويين وأوائل العباسيين، بأنه حكم ملكي إنساني صرف ذهب بجميع معاني الخلافة، رغم تمسك ذلك الحكم بالحدود الشرعية في القضاء. قال ابن خلدون: " ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر (الحكم) ملكاً بحتاً، وجرت طبيعة التغلب إلى غاياتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ " . وصدق ابن خلدون لأن ربط الإمارة الإسلامية بأي شرط غير شورى المسلمين يجعلها عرضة للطغاة الذين ما إن يتسلموا زمام الأمر حتى يضربوا بوعودهم عرض الحائط، فها هو عبد الملك بن مروان بعد أن تمكن من رقاب الناس بعد قتله ابن الزبير يقولها صريحة: "ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه" ثم يقول بعد أن نجح مسلكه العنيف في إسكات الناس: "صرت أصنع الشر فلا أساء به"
هذا ومن قبل ابن خلدون قال الحسن البصري رحمه الله: " أفسد أمر (إمارة) هذه الأمة اثنان، عمر بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف في صفين، والمغيرة بن شعبة فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي فأقبل معزولاً، فأبطأ عنه، فلما ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال: أمر كنت أوطئه وأهيئه، قال: وما هو؟ قال البيعة ليزيد من بعدك. قال: أوقد فعلت؟! قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك، فلما خرج قال له أصحابه: ما وراءك؟. قال: وضعت رجل معاوية في غرز غي لا يزال فيه إلى يوم القيامة. قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة" . ثم قال في معاوية: " أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة؛ واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير؛ وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)؛ وقتله حجرا ويلاً له من حجر مرتين" .
6- عدم جواز تطبيق الأحكام خارج الشرعية ومواجهة المخالفين:
واستناداً على ما تقدم نقول: إن تطبيق الأحكام خارج إطار ولاية الأمر الشرعية المنتخبة بالشورى، هو افتراء يجمع بين المفهوم وقاتله، ولا دليل عليه من الكتاب أو السنة، وقد حكم الله سبحانه وتعالى على من يفعل مثل ذلك بالخيبة المؤكدة قال تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) ، وقال تعالى: ((وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)) ، وهذا الحكم مستحق لأن في تغييب الشورى تحجيم مخل ومريع للفكر السياسي الإسلامي، ويجعل من الأمة كتلة غبية وغير متفاعلة مع الأحداث، مما يفتح الفرصة أمام أصحاب الغرض لاستغلال الإسلام وفرض الوصاية على المسلمين بدعوى باطلة لا يسندها إلا ادعاء مدعيها، فجمهور المسلمين هو المكلف من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لانتخاب ولاية أمر تقوم بتنفيذ الأحكام. ولا يجوز الاستناد للتاريخ لتغيير هذا المفهوم الضابط لشأن الأمر (السلطة والحكم) في الإسلام.. لأن سيادة مفهوم الغلبة الخاطئ وتطاوله على المفهوم الصحيح عبر الزمن لا يعطيه الشرعية، ولأن التاريخ الإسلامي هو تاريخ المسلمين وليس الإسلام الذي أسندت مصادر تشريعه سلطة الأمر والفتوى للمسلمين.
عليه فالمرجعية العليا للتشريع السياسي في الإسلام، هي لشورى المسلمين بلا قيد أو شرط أو ثوابت وتكون كيفيتها بالشورى أيضاً. فالشورى هي أصل الخلافة بنص آية الشورى، وصاحبة السنة في الزمن بنص حديث سنية القرار، والحكمة الظاهرة الواجبة الإتباع.. أكرر الواجبة الإتباع لأن الإشكالية في العالم الإسلامي اليوم كبيرة، وتتطلب تغيير جذري في أسس حركة التشريع السياسي ومواجهة حقيقية للمنافقين الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: ((الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)) ، ومن الواضح والمؤكد إن الذين قلبوا الحقائق بالتأويل الباطل حتى صارت الشورى المفروضة محرمة، وصار الاستبداد المنهي عنه واجباً دينياً، هم من المنافقين الذين ما نعلم ضرراً أصاب الأمة الإسلامية أشد مما جاءها من قبلهم، فقد طوعوا نصوص الدين لخدمة أهدافهم الخبيثة التي ترمي إلى تفريق المسلمين وإشاعة الفوضى في صفوفهم وإدخال الضرر عليهم، وهم متسترين بثياب الإسلام ومتسمين بأسمائه فكادوا الأمة من قريب، ومواجهتهم وتجديد أسس التشريع من أوجب الواجبات، فكلما استفحل أمر هؤلاء واشتد شأنهم كلما انحرفوا بهذه الأمة عن منهجها القويم وطريق الشورى المستقيم.
7- تجديد أسس التشريع وتحديد المقدس في شأن الأمر:
ولتجديد أسس التشريع السياسي في الأمة وتفعيل حركته لا بد من ".. مواجهة حقيقية للذات والواقع، حتى تكون لنا فرصة في إعادة الصياغة الفكرية للعالم بالفعل لا بالأوهام الذاتية والاحتيال الأيديولوجي على الإرث الديني للأمة... وهذه المواجهة للذات والواقع ضرورية ولازمة، لأن المدخل لأي ثقافة تطمح للنمو، هو تجديد مفاهيمها السياسية وتوسيع إدراكها للآخرين من حولها، لاستيعاب حركة الواقع ومستجداته. ولا سبيل إلى ذلك، إلا بمواجهة نقدية لإنجاز الأمة التاريخي ومسلماتها المستقرة، بغرض الفصل بين ما هو مقدس أصلاً، وبين ما تقدس بفعل الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمسلمين عبر القرون، فتقدير السلف والتراث شيء وتنصيبهم سلطة مطلقة وأزلية على الحاضر والمستقبل شيء آخر. وحينها يمكن الحديث عن فتح أفق حقيقي لحركة التنوير في الثقافة الإسلامية المعاصرة عموماً، وفي حركة التشريع منها على وجه التخصيص" . وهذا متاح لأن النظام السياسي الإسلامي شأنه شأن كل مفردة إسلامية كم متكامل، وليس كما اتفق جهاد أو كما اتفق تنفيذ أحكام، وإنما هو منهج يقوم على الشورى لاختيار ولاية أمر شرعية لها حق التشريع لاستيعاب تطورات الواقع وحركة التاريخ، وبنفس المنهج يتتابع أداء بقية الواجبات من تنفيذ ومتابعة، تماماً كالصلاة تبدأ بالطهارة ثم تتابع بعدها الفرائض والسنن كل في مكانه وزمانه المحددين.
إذاً فالإشكالية هي في من يقولون بكفاية تطبيق أحكام القضاء الشرعي لإقامة الحكم الإسلامي، وهذا غير صحيح لأن تنفيذ الأحكام يأتي في المرحلة الثالثة من مراحل تأسيس الحكومة الإسلامية.. فأولاً تكون التعددية السياسية التي توضح مناهج ونظم طوائف المسلمين السياسية وبرامجها الانتخابية، ثم تأتي الشورى لاختيار ولاية الأمر من بين هذه الطوائف والبرامج والنظم عبر الانتخاب الحر، ومن بعدها يكون تنفيذ وإبداع الأحكام والقوانين وتطويرها وفقاً لمصلحة الأمة التي هي أساس ولاية الأمر في الإسلام.
ولهذا الترتيب ضرورة لازمة لسببين: أولاً لأداء فريضة الشورى الثابتة بنص الآية. وثانياً ".. لأن المنجز الإنساني الحضاري المعاصر في وجوهه المتصلة بالجانب الحقوقي للإنسان وضمان تقدمه وارتقائه، قد فاق - بما لا يقاس - ما لدى المسلمين المعاصرين من مفاهيم، وما استقر عندهم من ممارسات ومؤسسات تشكل مرجعيتهم في حركة التشريع " . وذلك لأن المسلمين فقدوا آلية تجديد التشريع السياسي قروناً عديدة، بسبب تغييب المتسلطين للشورى والتعددية السياسية من جهة، و من جهة ثانية إصرار معظم العلماء على سلفية سياسية موروثة جعلتهم يعيشون خارج العصر أسرى لنصوص ولدتها ظروف سياسية مغايرة، هذا وقد وضح الشيخ عبد الكريم الحمداوي مخاطر هذه السلفية في كتابه (الدولة الإسلامية) قائلاً:
".. إن فقه الأحكام السلطانية منذ أسسه معاوية ميدانيا، والماوردي تنظيرا وتبريرا، وأنهكه الفقهاء شرحا وبحثا، لم يتجاوز نظام حكم فردي مستبد، فرق بين المسلمين ولا يمت بصلة للنظام السياسي الإسلامي، وهو كذلك قاصر عن تغطية مستجدات العصر وعجزه المطلق عن فهمها واستيعابها ووضع الحلول المناسبة لها. كما إن سجن الاجتهاد السياسي في دائرة: نقل أعمى واجتهاد تبريري سائب كما هو الحال مع مصطلح الأحكام السلطانية الغريب عن روح الإسلام ونهجه، ليس من شأنه إلا أن يحول دون النظر السليم للحل الأمثل والخطو القويم نحو الهدف" .
على ما تقدم فمن الواجب تحديد وترتيب المقدس في شأن ولاية الأمر الإسلامية، فهذا يكسبنا تشريع سياسي إسلامي مسنود بالشرعية ومحيط بالواقع، ويجنبنا مزايدات أصحاب الغرض من مثل: ".. يجب عرض كل شؤون الحكم والقضاء وأنظمة الاقتصاد والعلاقات الخارجية والشؤون الداخلية على الشرع ولا يخرج عن الشرع شيء منها، ومن ادعى أن شيئاً من ذلك بيد الحاكم ولا سلطان للشرع عليه فهو كافر خارج من الملّة "!. إن مثل هذا القول مردود ويفسد منهج الأمر (السلطة والحكم) الإسلامي، لأن الله سبحانه وتعالى قد كرم الأمة الإسلامية من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل تشريعها في الأمر نابع من شورى أبناءها بكل ما يحملونه من قيم وتعاليم إسلامية، وبدون أي قيد أو شرط أو ثوابت في هذا التفويض الذي جاءت به آية الشورى.. بل وزاد الله سبحانه وتعالى على ذلك وأمر بطاعة ولاية الأمر التي ينتخبونها مما يجعل من قرارها الذي هو في الأصل نابع من تفويض الجمهور شريعة ملزمة.
ولن نبدع خير من هذا فهو من عند العزيز الحكيم سبحانه وتعالى، وفيه قوة في تنفيذ الأحكام، وسعة في التشريع تعين الأمة علي مواجهة الحياة المتقلبة سياسياً واقتصاديا واجتماعياً بتقلب الزمان.

خاتمة
وختاماً أقولها: ها نحن تدعونا الحكمة والحكمة ضالة المؤمن، ويحدونا الوعد النبوي - ووعده الصدق - بخلافة على منهاج النبوة تعقب الملك العضوض والملك الجبري.
وفوق هذا يأمرنا إيمان راسخ بالتطبيق الفوري لمقتضيات الشورى فهي فريضة لازمة، جاءت بين الصلاة والزكاة وهما من أركان الدين في الإسلام، والشورى رأس أركان الأمر (الإمارة) في الإسلام.. وعلى هذا فالشورى أصل إسلامي، لا يكتسِب فعل من أفعال ولاية الأمر للشرعية إلا تحت مظلتها، وهي يومئذٍ شاهدة على من ميَّعها زوراً، وغطى عليها وحاربها بغياً، لأن القرآن الكريم كان واضحاً في إسناده ولاية أمر المسلمين من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لشورى المسلمين وجعل قرارها شريعة ملزمة.
ولكن بجهل وتفريط وصل لدرجة عدم إيمان واضح، هجر الكثيرون الشورى، وتمسكوا بحرفية الأحكام والتشريعات السياسية للقرن الأول الهجري مما يدل على فقدهم لآلية البحث للتفرقة بين التفاسير الحقة، وتفاسير أهل الغرض، ".. وبين العواطف الحسنة والعواطف الرديئة.. ففي هذا الهجر هل خفي عليهم أن الحوادث تتجدد وإن النظامات تبلى كما تبلى الأثواب، وإن القوانين يجب أن تتطور في حالات شتى لتتفق مع مصلحة الأمة؟." .. علماً بأن الإسلام قد فرض الشورى ضرورة لازمة للتجديد.
هذا ومن المؤكد إن تغييب فريضة الشورى - عبر اعتساف المعاني والتأويلات من التاريخ الإسلامي - وتبرير حكم الغلبة وتجريم رفضه والثورة عليه.. قد ضرب مرجعية المسلمين السياسية ضربة قاضية، وفرق الأمة التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم موحدة دينياً وسياسياً تحت قيادة شورى أبنائها بنص القرآن الكريم الذي هو روح دافعة في أي مجال يطرقه قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) ، وجاء في تفسير هذه الآية ".. وسماه روحاً لأن فيه حياةً من موت الجهل" ، أي إن في العلم الذي حواه القرآن روح دافعة نحو الأفضل.. وهذا واضح في دنيا السياسة، لأنه فرض الشورى الروح السياسية الدافعة للمجتمعات صفة وكيفية، وأقر التعددية السياسية أساس الحكم الراشد، وفرض قيماً مجتمعية لا بعدها، وأحكاماً في المستعصي على عقول البشر. وقد وصف القرآن الكريم المخالفين لهذه البينات بالبغي، وهو نفس ما وصف به المتفرقين في الدين، ووصفتهم السنة النبوية بالهلكى والخارجين من الدين.
ومن هنا فلا يحق لأحد – أكرر لا يحق لأحد - بالغ ما بلغ من المكانة أو الفقه في الدين، أن يفتي في أي شأن سياسي يخص المسلمين في وحدة جغرافية كانوا أو في وحدة اجتماعية، ما لم يكن مفوضاً أو منتخباً في انتخابات حرة نزيهة من جمهور المسلمين صاحب الحق في إمارته، ولا يجوز التبرير في هذه الحالة بالضرورة إذ لا ضرورة مع الحقوق .
هذا ".. ولما كان أمر الأمة الجامع لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وكان نظام الحكم أول ما ينتقض من عرى الإسلام كما أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلام عُروَةً عُروَةً، فكُلَّما انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ، تَشبَّثَ النَّاسُ بالتي تَلِيها، فَأوَّلُهُنَّ نَقْضاً: الحُكْمُ، وآخِرُهُنَّ: الصَّلاةُ)) . فإن نقطة البدء ينبغي أن تكون معالجة الشأن السياسي الذي اختل فكرا وتنظيرا وتطبيقا منذ سقوط الخلافة الراشدة ولما يشتد عودها. فانفرط عقد المسلمين وتفرقوا أيدي سبأ وحاربوا بعضهم بعضا.
علماً بأن السهر على صيانة الاجتماع الإسلامي قد فضل على سائر العبادات، قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟. قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة)) .
وليس هناك إصلاح لذات البين أكبر من الاحتكام لفريضة الشورى، كما وأنه ليس هناك إفساد لذات البين أكبر من الاستبداد الذي قتل الإخاء الإسلامي وفرق الأمة التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم موحدة بالشورى فريضة من عند الله سبحانه وتعالى ونعمة نستظل بها.
هذا والحالقة في الحديث هي حالقة الدين لا حالقة الشعر. عليه فليحذر الذين أفتوا ودبجوا المقالات والكتب بتجاوز فريضة الشورى، وكذلك الذين حاربوها عملياً بإقامة النظم الاستبدادية وصادروا حق الأمة في تدبير أمرها والبت في قضاياها الدنيوية الموكولة إليها تحت زعم تطبيق الشريعة، فما بعد الشورى إلا الملك العقيم" .
فهلا وعينا الدرس وتبعنا ما إن أخذنا به فلحنا وكان النصر حليفنا لقول الله سبحانه وتعالى: ((وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) . وقوله تعالى: ((يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) . فالوعد في هذه الآيات واضح وصريح من الله سبحانه وتعالى ووعده الصدق، مع التأكيد باللام في الآية الأولى والشرط ب إن في الآية الثانية، بأن النصر مرتبط بنصرنا لله سبحانه وتعالى. عليه لا سبيل لينصرنا الله سبحانه وتعالى إلا عبر دراسة واعية للكتاب والسنة وتطبيق ما جاء فيهما من فرائض وسنن.
أما إن تجاهلنا كما هو حادث اليوم من عدم التطبيق لفريضة الشورى وعدم الانتصار لها، حتى أصبحت وهي الفريضة المؤكدة.. كرجع صدىً غائم مشوش مستخدمة في غير موضعها ولابسة غير أهلها، فليس لنا إلا الخيبة والهزيمة الماثلة، وكنا مثل اليهود الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: ((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) .
والله ولي التوفيق

المراجع
1 – برامج العريس الإسلامية: مكتبة علوم القرآن الكريم والتفاسير.
2 - برامج العريس الإسلامية: مكتبة الحديث الشريف.
3 - برامج العريس الإسلامية: مكتبة ابن القيم وابن تيمية ابن الجوزي.
4 - سيرة إبن هشام: ط مصطفى البابي الحلبي، مصر 1936م.
5 - تاريخ الطبري: ط دار المعارف بمصر 1960م.
6 - الكامل لإبن الأثير: ط دار صادر ودار بيروت، بيروت 1965م.
7 - طبقات ابن سعد: ط دار صادر ودار بيروت، بيروت 1958م.
8 - تاريخ ابن خلدون: ط دار الكتاب اللبناني، بيروت 1967م.
9 – الملل والنحل للشرستاني.
10- تاريخ الخلفاء للسيوطي.
11 - سلسلة كتاب الأمة قطر: رمضان 1404ه.
12 - الخطاب الشرعي في المسكوت عنه: الأستاذ/ محمد حافظ إبراهيم.
13 - تيارات اليقظة الحديثة: د. محمد عمارة.
14 - دائرة معارف القرن العشرين: محمد فريد وجدي.
15 - دبلوماسية محمد: د. عون الشريف قاسم.
16 - إغاثة اللهفان: ابن القيم، ط مكتبة الصفا 2001م.
17 – أسس الاشتراكية العربية: د. عصمت سيف الدولة، ط دار الوحدة.
18 – من أسرار القرآن: د. مصطفى محمود، ط أخبار اليوم.
19 - عبد الله بولا: مقال بصحيفة الأضواء السودانية 18/1/2005م.
20 – العلمانية ونهضتنا الحديثة: د. محمد عمارة، ط دار الشروق القاهرة 1986م.
21 – حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: عباس محمود العقاد، ط. دار الكتاب العربي بيروت لبنان.
22 - ظاهرة النفاق في إطار الموازين الإسلامية: د. عمر خليفة النامي، ط الدار السلفية الكويت 1974م
23 - الفكر الثوري في مصر: د. عبد العظيم رمضان، ط دار المأمون مصر.
24 – د. عبد الوهاب الأفندي: مقال بصحيفة الصحافة السودانية 20/11/2007م
25 – الإصابة في تمييز الصحابة.. ابن حجر العسقلاني.

فهرس
الموضوع رقم الصفحة
1- إهداء 2
2- تقديم 4
3- تمهيد 7
الفصل الأول
نظرية الإسلام السياسية
1- أسس ومبادئ نظرية الإسلام السياسية 12
2- وحدة السلطة الدينية والسياسية وتقديم الأصلح والمصلحة العامة 14
3- أركان الأمر (الإمارة) في الإسلام 16
4- واجب المسلم السياسي وصفة المخالف 17
الفصل الثاني
حساسية قرارات وتعاليم ولاية الأمر الإسلامية
1- تحذير القرآن الكريم من مغبة عدم الالتزام بالتعاليم الإسلامية 19
2- النهي عن منازعة الإمارة الشرعية، وعدم المساس بوحدتها وقرارها 20
3- حساسية التعامل مع ولاية الأمر في الإسلام 22
4- فصل الخوارج للدين عن الدولة، وتثبيت العلماء لهذا الفصل
بحكم الضرورة 24
5- إشكالية الفكر السياسي الإسلامي بعد الخلافة الراشدة 26
6- آفاق الحل 27

الفصل الثالث
ركن الشورى
1- تعريف 28
2- دفاع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشورى بحياته. ورفضه
النصرة ثمناً لها 28
3- الحد الأدنى لمجتمع إمارة المسلمين 30
4- أهمية الشورى وخطورة الانحراف عنها 31
5- موقف السيرة العطرة والخلافة الراشدة وعلماء المسلمين من الشورى 32
6- ضرورة الشورى في السياسة والحكم مطلقاً 34
7- صفة ولاية الأمر الإسلامية ومزايدة الخوارج 36


الفصل الرابع
ركن التعددية السياسية
1- تعريف 39
2- إقرار السنة للتعددية السياسية في دولة المدينة 40
3- إقرار القرآن الكريم للتعددية السياسية في المجتمع الإسلامي 43
4- تسهيل التعددية السياسية لشأن المسلمين المدني والحربي 44
5- صيغة التعدد السياسي وأثره في مسار الدولة 45
6- غياب التعددية السياسية وأثره على الدين 45

الفصل الخامس
ركن القيم
1- تعريف 48
2- قيمة العدل 49
3- قيمة الحرية السياسية 50
4- قيمة الإخاء 53
5- قيمة المساواة العامة 55
6- قيمة الإبداع السياسي 58

الفصل السادس
ركن الأحكام والقواعد الشرعية
1- تعريف 63
2- عدم كفاية تطبيق أحكام الكتاب والسنة شرطا لقيام سلطة إسلامية 64
3- رأي الدكتور محمد عمارة في أحكام الكتاب والسنة 66
4- مرونة تعاطي السيرة العطرة والخلافة الراشدة مع الأحكام والنصوص.. 67
5- ركائز الخلافة الإسلامية 70
6- عدم جواز تطبيق الأحكام خارج الشرعية ومواجهة المخالفين 72
7- تجديد أسس التشريع وتحديد المقدس في شأن الأمر 73
خاتمة 76
المراجع 80





محمد مكي عثمان أزرق
P. O. Box 12 - Omdorman - Sudan
ت: 249-122551887+) سوداني
Email: mns125@hotmail.com
Web site: www.islamshoora.com










رقم الإيداع - 132 / 2004




وهذا الكتاب - الذي بين يديك أيها القارئ الكريم:-
يدرس في تعمق وتدقيق مفهوم الشورى في نظام الإسلام بحسبانها مفتاح هذا النظام على كل مستوياته الفردية والجماعية، ومن حيث النظرية والتطبيق.
ويجئ هذا البحث الغنيّ بالشواهد والنماذج من حياة سلفنا الصالح، في زمان تمر فيه أمتنا بظروف حالكة، تداعت علينا فيها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها كما تنبأ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. ولا سبيل إلى تجاوز ذلك إلا بأن يستعيد المسلمون في حياتهم المعاصرة ما كان سبب قوتهم ومنعتهم في ماضيهم البعيد وعلى رأس ذلك سبيل الشورى، الذي بذل الأستاذ محمد مكي عثمان أزرق جهداً عظيماً في تبيين معالمه، فله من الله حسن الثواب ونفع الله به أمتنا لتبلغ ما أراده الله لنا في قوله الكريم :-
((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) .
والله الهادي إلى سواء السبيل
أ. د. عون الشريف قاسم
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ألمانيا: الشباب المسلم يرفض الاندماج في المجتمع مزون الطيب الإسلام في أوروبا 0 09-03-2012 03:45 PM
كتاب إدارة إستثمار مزون الطيب المكتبة العامة 0 04-02-2012 08:26 PM
كتاب إدارة إستثمار مزون الطيب المكتبة العامة 0 30-01-2012 08:37 PM
إدارة المسجد مزون الطيب أبواب الدعوة 0 14-01-2012 05:56 PM
إدارة الجودة الشاملة نور الإسلام المكتبة العامة 0 12-01-2012 07:54 PM


الساعة الآن 05:54 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22