صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع مسيحية

كتب ومراجع مسيحية بحوث ودراسات وكتب مفيدة للباحثين في الدين والعقيدة المسيحية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-02-2012 ~ 11:26 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 6
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


دور الطقوس الدينية المسيحية في تشكيل
القائمة الرسمية للكتاب المقدس

في وقت ما قبل تدوين رسالة بوليكاربوس ،نعلم أن المسيحيين كانوا يستمعون إلى الكتب المقدسة اليهودية تُقرأ أثناء تأديتهم الطقوس التعبديِّة. كاتب رسالة تيموثي 1 ،على سبيل المثال ،يحفِّز مستلم الرسالة أن: "َ أعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ (أي العامَّة) وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ."(4 : 13). وكما رأينا في حالة الرسالة إلى أهل كولوسي ،يبدو أن رسائل المسيحيين كانت تُقرأ على المجموعة المجتمعة أيضًا. ونعلم أيضًا أنه قريبًا من منتصف القرن الثاني ، كان جزءٌ كبيرٌ من طقوس العبادة المسيحية يتضمن القراءة العامة للكتاب المقدس . في فقرة كثيرا ما تناولتها ألسنة المتناقشين من كتابات المفكر المسيحي و عالم الدفاعيات جوستينوس الشهيد ،على سبيل المثال ، لدينا إشارة إلى ما تضمنته الخدمة الكنسية في مدينته الأم روما:
في اليوم المسمى يوم الأحد ،كلُّ من يعيشون في المدن أو في البلد يجتمعون سويًا في مكان واحدٍ ، و تُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات الأنبياء ، بحسب ما يسمح الوقت ؛ثمَّ، لما يتوقف القارئ ،يلقي القسيس التعاليم ،ويعظ بضرورة احتذاء هذه الأعمال الطيبة . . . (1 أبولوج 67)
يبدو على الأرجح أن الاستخدام الليتورجي (الطقسي) لبعض النصوص المسيحية ـ على سبيل المثال ، أعلت " مذكرات الرسل" ، التي عادةً ما ينظر إليها على أنها هي نفسها الأناجيل ، من مكانة هذه النصوص لدى معظم المسيحيين حتى إنها كانت تُعَدُّ جديرة بالاعتماد والقبول (authoritative) ،على قدم المساواة مع الكتابات المقدسة اليهودية ("كتابات الأنبياء") ذاتها .


دور مارقيون في تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس


يمكننا تتبع أثر تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي حتى الآن عن كثب من خلال ما بين أيدينا من دليل . ففي الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه جوستينوس ، أي في منتصف القرن الثاني ، كان ثمة كاتبٌ مسيحيّ بارزٌ آخر يمارس نشاطه داخل روما ، وهو الفيلسوف المعلم مرقيون ، الذي حكم عليه فيما بعد بالهرطقة (12) . مرقيون كان شخصية مثيرة للاهتمام للعديد من الأسباب . فهو كان قد جاء إلى روما من آسيا الصغرى ، وكان بالفعل قد كوَّن ثروة مما كان واضحًا أنه أعمال متعلقة ببناء السفن . عند وصوله إلى روما ، تبرع للكنيسة في روما بمبلغ طائل ،ربما لكي يحصل ، إلى حدٍ ما ، على عونها الكريم . وقد ظلَّ في روما لخمس سنوات ، منفقا كثيرا من وقته في نشر مفهومه عن الإيمان المسيحي وفي كتابة تفاصيل هذا الإيمان في العديد من الكتابات. لم يكن عمله الأكثر تأثيرا هو شئ قام بكتابته ،بل شئ قام بتعديله. لقد كان مرقيون هو أول مسيحيٍّ، فيما نعلم، قام بتشكيل "قانون" فعليٍّ للكتاب المقدس ـ أي مجموعة من الكتب التي ،كما زعم ، تضم النصوص المقدسة النافعة للإيمان . لكي نفهم هذه المحاولة الأولى لتشكيل قائمة رسمية للكتاب المقدس ، نحتاج إلى أن نعرف قليلا من المعلومات حول تعاليم مرقيون الفريدة . لقد كان مرقيون مأخوذًا تمامًا بحياة وتعاليم الرسول بولس ،الذي كان يعتبره الرسول الوحيد "الحقيقيَّ" من الأيام الأولى للكنيسة. في بعض رسائله ، مثل الرسائل إلى أهل رومية و أهل غلاطية ، كانت تعاليم بولس تنص على أن المنزلة الطيبة أمام الله تأتي فقط من الإيمان بالمسيح ، وليس بأداء أيٍٍّ من الأعمال التي فرضتها الشريعة اليهودية. التقط مرقيون هذا الاختلاف بين شريعة اليهود و بين الإيمان بالمسيح ليصل به إلى ما رأى أنه نتيجة ذلك المنطقية ،وهي أنَّ هناك تمايزًا تامًّا بين الشريعة من ناحية وبين الإنجيل من الناحية الأخرى. لقد كانت الشريعة مختلفة تمام الاختلاف عن الإنجيل ،في الحقيقة ، إلى درجة جعلت من المستحيل أن يكونا كلاهما قد جاءا من الإله ذاته . استنتج مرقيون أن رب يسوع (وبولس) لم يكن ،لهذا السبب ،الإله ذاته الذي أوحى العهد القديم. لقد كان ثمة ،في الواقع، إلهان اثنان مختلفان: إله اليهود ، الذي خلق العالم ، ودعا إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ، وأنزل إليهم قانونه القاسي ؛ وإله يسوع ،الذي أرسل المسيح إلى العالم لينقذ بني البشر من الانتقام القاسي لرب اليهود الخالق.
آمن مرقيون بأن هذا المفهوم عن يسوع هو ما بشَّر به بولس نفسُه ،وهكذا ، ضمَّت قائمتُه الرسمية للكتاب المقدس الرسائلَ العشرَ التي كتبها بولس وهي التي كانت متاحة له ( هذه الرسائل كلها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسائل الرعوية، وهي الرسالتان الأولى والثانية إلى تيموثي وتيطس)؛ ولأنَّ بولس كان أحيانًا يشير إلى "إنجيله"، فقد ضمَّ مرقيون إنجيلا (Gospel) إلى قائمته ، وهو شكل من إنجيل لوقا المعروف لنا الآن . وهذا كل ما في الأمر . لقد تكونت قائمة مرقيون من أحد عشر كتابا : لم يكن ثمة عهدٌ قديمٌ ،بل كتابٌ مقدسٌ واحدٌ فحسب ، مضافا إليه عشر رسائل . ليس ذلك فحسب : بل كان مرقيون يعتقد أن المؤمنين الكاذبين ، أي الذين لم يكونوا يشاطرونه مفهومه الخاص عن الإيمان ، قد نقلوا هذه الأحد عشر كتابا عبر نسخها و إضافة أجزاء من هنا ومن هنالك لكي تتماشى مع معتقداتهم الخاصة التي من بينها مفهومهم "الباطل" عن كون إله العهد القديم هو أيضا إله يسوع . وهكذا "صحَّح" مرقيون الكتب الأحد عشر التي تضمنتها قائمته عبر حذف الإشارات إلى إله العهد القديم ،أو إلى الخلق باعتباره عمل الإله الحق ، أو إلى الشريعة باعتبارها شئ ينبغي الالتزام به .
كما سنرى ، محاولة مرقيون لجعل نصوصه المقدسة تتوائم بشكل أكثر إحكاما مع تعاليمه عبر تحريفها لم تكن بالأمر الجديد . فقبله وبعده على حدٍ سواء ، حرَّف نساخ الأدب المسيحي المبكر من وقت لآخر نصوصهم ليجعلوها تقول ما يعتقدون أنها بالفعل تعنيه.


القائمة "الأرثوذكسية " بعد عصر مرقيون

يعتقد كثير من العلماء أن المسيحيين الآخرين أصبحوا أكثر اهتماما بوضع تصور لما يفترض أن يصبح قائمةً لأسفار العهد الجديد كشكل من أشكال المقاومة لمرقيون تحديدا. من الطريف أنه في العصر الذي عاش فيه مرقيون ،كان جوستينوس يمكنه الكلام بطريقة أكثر غموضا عن " مذكرات الرسل "بدون الإشارة إلى أيٍّ هذه الكتب ( أو ربما الأناجيل ) كان مقبولا في الكنائس ولماذا ، في حين اتخذ كاتبٌ مسيحيٌّ آخرُ، عارض مرقيون أيضًا ، بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاما موقفا أكثر مَيْلا للجزم والتأكيد . إنه إيريناوس، أسقف ليون في بلاد الغال (فرنسا في العصر الحديث )،الذي كتب عملا من خمس مجلدات ضد الهراطقة من أمثال مرقيون والغنوصيين ، و كانت لديه أفكارٌ شديدةُ الوضوح فيما يتعلق بأيِّ الكتب ينبغي أن يعتبر من بين الأناجيل القانونية . في فقرة يكثر اقتباسها من مؤلَّفه ضد الهراقطة ، يقول إيريناوس إن مرقيون لم يكن وحده فحسب الذي افترض بالباطل أن هذا الإنجيل أو ذاك فقط من بين الأناجيل هو المستحق لأن يقبل باعتباره كتابا مقدسا ، بل كان معه أيضا "هراطقة" آخرون ، :فالمسيحيون المتهوِّدون الذين تمسكوا بالصلاحية المتواصلة للشريعة استخدموا متى وحده ؛ بعض المجموعات الذين زعموا أن يسوع ليس هو المسيح في الحقيقة قبلوا إنجيل مرقس فحسب ؛ مرقيون وأتباعه قبلوا فقط (شكلا من ) لوقا ؛ ومجموعة من الغنوصيين سموا بال"فلانتينيين "قبلوا إنجيل يوحنا فحسب . هؤلاء جميعًا كانوا مخطئين ، مع ذلك، لأنه ليس من الممكن أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل عددًا مما هي عليه حيث إن المناطق التي نعيش فيها في العالم هي أربع مناطق ، والرياح الرئيسية أربعة ، وفي حين تنتشر الكنيسة في أنحاء العالم ، وعامود الكنيسة و أرضها هو الإنجيل... . فمن المناسب أن يكون لها عمدان أربع ، (ضد الهراطقة 3 . 11 .7)
بكلمات أخرى ، زوايا الأرض أربع ، الرياح أربعة ، العمدان أربعة ـ فمن الضروري ،حينذ ، أن تكون الأناجيل أربعة . وهكذا ، قرب نهاية القرن الثاني كان هناك مسيحيون يصرُّون على أنَّ متَّى ، مرقس ، لوقا ، ويوحنا كانت هي الأناجيل ؛ ولم يكن ثمة أكثر من ذلك أو أقل. ولقد استمرت النقاشات حول حدود القائمة الرسمية لقرون عديدة . ويبدو أن المسيحيين هنا وهناك كانوا مهتمين بمعرفة أيِّ الكتب ينبغي أن تُقْبَل باعتبارها كتبًا مقدسة وذلك ليعلموا :
أولا: أي الكتب ينبغي قراءتها في خدمة الصلاة
وثانيًا: وهو الأمر وثيق الصلة بالسبب الأول ، ليعرفوا أي الكتب يمكن الوثوق بها كناصح أمين يرشدهم إلى ما يجب أن يؤمنوا به والسلوكيات التي ينبغي أن يسيروا على هديها .
لم تكن القرارات التي اتخذت بشأن الكتب وأيها ينبغي أن ينظر إليه في النهاية باعتباره قانونيًّا قرارات تم اتخاذها على نحوٍ آليٍّ أو بشكل خال من المشاكل ؛ لقد كانت مناقشات طويلة وممتدة ، وأحيانا عنيفة . ربما يعتقد كثير من المسيحيين اليوم أن قائمة كتب العهد الجديد الرسمية ظهرت إلى الوجود ببساطة في يوم ما بعد موت يسوع بوقت قليل ، إلا أن هذا الاعتقاد لا يضارعه في البعد عن الحقيقة أيُّ شئٍ آخر. كما سيتضح ، نحن قادرون على تحديد الوقت الذي قام فيه واحدٌ من المسيحيين من الموثوق بهم بوضع قائمة تضم كتب عهدنا الجديد السبعة والعشرين - أو أكثر أو أقل . ربما سيبدو مدهشا أن هذا المسيحي كان يمارس الكتابة في النصف الثاني من القرن الرابع ، أي بعد ثلاثمائة عام تقريبا من العصر الذي بدأت تُكتَب فيه كتب العهد الجديد ذاتها. هذا المؤلف هو أثناسيوس، أسقف الإسكندرية الأقوى. في عام 367 م ، كتب أثناسيوس رسالته الرعوية السنوية إلى الكنائس المصرية تحت ولايته ، ضمَّنها نصيحة بخصوص الكتب التي ينبغي أن تقرأ في الكنائس باعتبارها الكتاب المقدس. حيث ذكر في قائمته كتبنا السبعة والعشرين ، واستثنى ما عداها من كتب . هذه هي المناسبة الأولى المسجلة لشخص يؤكد أن مجموعة الأسفار التي نعرفها هي العهد الجديد . بل حتى أثناسيوس لم يحسم هذه المسألة . فقد استمرت المناظرات لعشرات السنين ، بل وحتى القرون . إنَّ الكتب التي نطلق عليها لفظ العهد الجديد لم تُجمَع معًا في قائمة رسمية واحدة و لم تعتبر كتابا مقدسا ،في النهاية ،إلا بعد مرور المئات من السنين على العصر الذي كتبت فيه هذه الكتب للمرة الأولى.


قُرَّاءُ الكتابات المسيحية

في الباب السابق تركّز نقاشنا حول تقنين (canonization )الكتاب المقدس. وكما رأينا سابقا كان المسيحيون ، رغم ذلك ،يكتبون و يقرأون أنواع كثيرة من الكتب في القرون الأولى ، وليس فقط الكتب التي نجحت في أن تصبح جزءا من العهد الجديد. لقد كان ثمة أناجيل أخرى ،وأعمال ، ورسائل ، و رؤى ؛ و كان هناك تدوينات للاضطهادات ، وحكايات عن الاستشهاد ، وكتب تدافع عن الإيمان ، ونظم كنسية ، وأعمال تهاجم الهراطقة ، ورسائل وعظية و تعليمية ،وشروحات للكتاب المقدس - منظومة كاملة من الأعمال الأدبية التي ساعدت في رسم حدود المسيحية وجعلها تلك الديانة التي كانتها . سيكون من المفيد في هذه المرحلة من نقاشنا أن نسأل سؤالا أساسيًّا حول كل هذه الأعمال الأدبية. من الذي كان يقوم بقراءتها ؟
في عالم اليوم ، ربما سيبدو ذلك سؤالا غريبًا نوعًا ما . فلو كان المؤلفون يكتبون كتبًا من أجل المسيحيين ، فالذين يقرأون الكتب سيكونون ولابد من المسيحيين. فإذا كان السؤال يتناول العالم القديم فإنه سيمثل مرارة خاصة لأن غالبية الناس ، في العالم القديم ، لم يكونوا يعرفون القراءة . إنَّ معرفة القراءة والكتابة هي أسلوبُ حياة بالنسبة لنا في الغرب المعاصر . نحن نقرأ طوالَ الوقت ، وكلَّ يوم . نقرأ الجرائد و المجلات و الكتب من كل الأنواع - ترجمات الشخصيات ، الروايات ،كتب "كيف تفعل كذا" (how-to books) ، كتب "اعتمد على نفسك" (self-help books)، كتب الحمية (diet)، كتب دينية ، كتب فلسفية ، علوم التاريخ ،مذكرات ، وهكذا بلا توقف .
لكنَّ السهولة التي نشعر بها اليوم مع اللغة المكتوبة ليس لها أي علاقة بممارسات القراءة وحقائقها في العصور القديمة. لقد أظهرت الدراسات المتعلقة بمعرفة القراءة والكتابة أن ما نعتقده حول معرفة الجماهير للقراءة والكتابة هي ظاهرة حديثة ، ظهرت فقط مع بزوغ فجر الثورة الصناعية (13) .فهي تحدث فقط عندما ترى الأمم أن ثمة فائدة اقتصادية في جعلها كلَّ شخص قادرا على القراءة ، إلى الدرجة التي تجعلهم ينتوون أن يكرسوا كل الموارد الضخمة - خاصة الوقت ، المال ، و الموارد البشرية- التي يحتاجونها للتأكد من أن كل إنسان قد حصل على قدر أساسي من التعليم يؤهله للقراءة والكتابة. في المجتمعات غير الصناعية ، كانت الموارد مطلوبة لأشياء أخرى بدرجة كبيرة ، ومعرفة القراءة والكتابة لم تكن تساعد اقتصاد المجتمع ولا رفاهيته ككل. وفي المحصلة ، حتى العصر الحالي ، كل المجتمعات تقريبًا كانت تضم أقلية صغيرة فحسب من القادرين على القراءة والكتابة .
وهذا ينطبق حتى على المجتمعات القديمة التي نربطها تلقائيًا بالقراءة والكتابة - روما ، على سبيل المثال ،خلال القرون المسيحية المبكرة ، أو حتى اليونان في أثناء الفترة الكلاسيكية . أفضل دراسة معروفة عن معرفة القراءة والكتابة في الأزمنة القديمة و أكثرها تأثيرا ،هي تلك التي كتبها ويليام هاريس البروفيسور بجامعة كولومبيا ،حيث تشير إلى أنه في أفضل الأوقات و الأماكن ـ أثينا ،على سبيل المثال ، في أوج الفترة الكلاسيكية في القرن الخامس قبل الميلاد- كانت معدلات القراءة والكتابة نادرًا ما تتعدى نسبة 10 – 15 في المائة من السكان . لكي نعكس حقيقة هذه الأرقام ، هذا يعني أنه في أفضل الظروف ،85 – 90 في المائة من السكان لم يكن بإمكانهم القراءة ولا الكتابة . في القرن المسيحي الأول ، في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية ، معدلات معرفة القراءة والكتابة ربما كانت أقل نوعًا ما (14) . حتى وضع تعريف ، كما سيتضح ، لما تعنيه القدرة على القراءة والكتابة هو عمل شديد التعقيد . فكثير من الناس يمكنهم القراءة لكنهم ، على سبيل المثال ، يعجزون عن تكوين جملة كاملة. ثمَّ ما هو معنى كونك تعرف القراءة ؟ هل الناس يمكن تصنيفهم بين من يعرفون القراءة والكتابة لو كان باستطاعتهم معرفة معنى المسلسلات الكرتونية في الوقت الذي لا يعرفون فيه معنى الصفحة الافتتاحية ؟ هل يمكننا أن نقول عن الناس إنهم يعرفون الكتابة لو كان باستطاعتهم توقيع أسمائهم في الوقت الذي لا يستطيعون فيه نسخ صفحة بها أحد النصوص ؟
مشكلة التعريف تبدو أكثر وضوحا عندما نطبقها على العالم القديم ، حيث كان لدى القدماء أنفسهم صعوبة في تحديد ما يعنيه أن تكون عارفا للقراءة والكتابة . أحد الأمثلة التوضيحية الأكثر شهرة تأتي من مصر في القرن المسيحي الثاني . طوال معظم العصور القديمة ، حيث لم يكن معظم الناس يعرف الكتابة ، كان ثمة " قرّاء" و "كتّاب" أجروا أنفسهم لتقديم خدمات لمن يحتاجهم من الناس ممن يمارسون الأعمال (business) التي تتطلب نصوصًا مكتوبة : إيرادات الضرائب ،عقود قانونية ،تراخيص ،رسائل شخصية ، وما شابه . في مصر ، كان ثمة موظفون رسميون تم تعيينهم للقيام بمهمة مراقبة بعض المهام الحكومية التي تتطلب معرفة الكتابة . هذه الوظائف للعمل كنساخ محليين ( أو في القرى) لم تكن عادة يسعى إليها: فمثل كثير من الوظائف الإدارية " الرسمية " ، كان الناس الذين يطلب إليهم أن يتولوها مطلوب منهم أن يدفعوا من جيوبهم أموالا للحصول على هذه الوظيفة . هذه الوظائف ، بمعنى آخر ، كانت تذهب إلى الأفراد الأكثر ثراءا داخل المجتمع وكانت تحمل بالنسبة لهم نوعا من المنزلة ،لكنها كانت تتطلب إنفاقا من أموالهم الشخصية .
المثال الذي يصور مشكلة تعريف معنى معرفة القراءة والكتابة يتعلق بأحد النساخ المصريين وكان يدعى بتاوس ، من قرية كارانيس في صعيد مصر . كما يحدث كثيرا ، عُيّن بيتاوس للقيام بواجباته في قرية أخرى اسمها بتوليمايس هورمو، حيث أوكلت إليه مهمة الإشراف على الشئون المالية والزراعية . في عام 184 ميلاديا ، كان من المفترض أن يقوم بالرد على شكاوى موجهة ضد ناسخ قرية أخرى من "بتوليمايس هورمو" ، وهو شخص يدعى "إيشيريون"، الذي كان قد عُيِّن في مكان آخر للقيام بمسئولياته كناسخ . سكان القرية تحت ولاية "إيشيريون" كانوا منزعجين بسبب عجز "إيشيريون" عن القيام بواجباته ، لأنه ،كما اتهموه ، كان "أمّيّا".
في تعامله مع هذا النزاع جادل "بتاوس" قائلا إن "إيشيريون" لم يكن أمِّيًّا على الإطلاق ، لأنه كان قد وقع بالفعل باسمه على مجموعة من الوثائق الرسمية . أي بمعنى آخر ، "معرفة القراءة والكتابة" كانت تعني من وجهة نظر "بيتاوس " ببساطة القدرة على التوقيع على الوثائق باستخدام الاسم .
"بيتاوس " نفسه كان يجد مشقة في التوقيع على الوثائق أكثر من ذلك بكثير . فلدينا قصاصة من البردي مارس "بيتاوس" عليها قدرته على الكتابة ،حيث كتب عليها ،لأكثر من اثني عشر مرة ، كلمات (باليونانية) تقول إنه كان متوجبا عليه توقيع وثائقا رسمية :" أنا "بيتاوس" ، ناسخ القرية ،قمت بتحرير هذه ." الأمر الغريب أنه قام بنسخ الكلمات في المرات الأربع الأولى بطريقة صحيحة ،لكنه في المرة الخامسة أغفل الحرف الأول من الكلمة الأخيرة ، وفي المرات السبع الباقية استمر في إغفال الحرف ،الأمر الذي يشير إلى أنه لم يكن يكتب كلمات يعرف كيف يكتبها، بل ينسخ السطر السابق ذكره ليس إلا.
من الواضح أنه لم يكن باستطاعته قراءة الكلمات البسيطة التي كان يدونها في الصفحة حتى. وذلك على الرغم من أنه كان الناسخ المحلي الرسمي (15) !
لو وضعنا "بيتاوس " بين "القادرين على القراءة والكتابة" في العصور القديمة ، فكم من الناس كان بإمكانهم قراءة النصوص فعليا وفهم معناها ؟ من المستحيل أن نحاول التفكير في رقمٍ دقيقٍ ، لكنَّ النسبة المئوية يبدو أنها لن تكون عالية جدا . هناك أسباب تدعونا للاعتقاد بأنه في داخل المجتمعات المسيحية ، كانت الأرقام أقل حتى من هذا بوجه عام . هذا سببه أن المسيحيين فيما يبدو ، خاصة في وقت مبكر من عمر الحركة ، كانوا في الغالب منحدرين من الطبقات الدنيا غير المتعلمة . كانت هناك استثناءات دائما ،بالطبع ، مثل الرسول بولس و المؤلفين الآخرين الذين دخلت أعمالهم ضمن العهد الجديد والذين كانوا كتَّابًا ماهرين بشكل واضح . بالتأكيد هذا هو الوضع الحقيقي للمسيحيين الأوائل ، الذين كانوا رسلا ليسوع . في روايات إنجيلية ، نجد أن معظم تلاميذ يسوع كانوا أميين بسطاء من الجليل - صيادين غير متعلمين ، على سبيل المثال . اثنان منهما ، بطرس ويوحنا ، قيل عنهما بوضوح أنهما كانا "أمِّيين" في سفر الأعمال ( 4 : 13). بولس الرسول يشير لشعب كنيسته الكورنثيين : " قليل منكم من هم حكماء بالمقاييس البشرية " (1 كو 1 : 27 ) ـ التي ربما تعني أن البعض القليل كان حاصلين على تعليم جيد ، لكن ليس الغالبية . فإذا تقدمنا إلى القرن المسيحي الثاني ، يبدو أن الأمور لم تتغير كثيرا . فكما أشرت ، بعض المثقفين قبلوا الإيمان ، لكنّ المسيحيين معظمهم كانوا من الطبقات الدنيا وغير المتعلمة . أحد الأدلة على صحة هذه الرؤيا تأتي من مصادر عديدة . واحدة من أكثرها طرافة هو أحد الوثنيين من خصوم المسيحية المسمى "سيلزس" والذي عاش في أواخر القرن الثاني . كتب "سيلزس" كتابا اسمه " الكلمة الحقة "( The True Word) ، هاجم فيه المسيحية لعدد من الأسباب ، متذرعا بأنها ديانة حمقاء خطرة يجب محوها من على وجه الأرض . للأسف ، لا نملك "الكلمة الحقة " ذاتها ؛ وكل ما لدينا هو اقتباسات منها وردت في كتابات أوريجانوس أحد الآباء المشهورين في الكنيسة ، الذي عاش لمدة سبعين عاما بعد "سيلزس" وطلب إليه أن يكتب ردا على اتهاماته .
كتاب أوريجانوس "ضد سيلزس" نجا من الضياع وهو المصدر الرئيسي لمعلوماتنا عما قاله الناقد المثقف "سيلزس" في كتابه ضد المسيحيين (16). أحد أهم خصائص كتاب أوريجانوس هو أنه يقتبس من أقدم كتاب من كتب "سيلزس" بشكل مطول ،سطرًا بسطر ، قبل أن يقدم تفنيده لما جاء في الاقتباس. هذا يسمح لنا بإعادة بناء دعاوى "سيلزس" بدقة متناهية . أحد هذه الدعاوى هو أن المسيحيين هم أناس جاهلون من الطبقات الدنيا . والغريب أن أوريجانوس ، في ثنايا رده ، لم ينكر ذلك . تأمل الاتهامات التالية التي وجهها "سيلزس".
الوصايا المسيحية هي مثل ذلك . "لا تتركوا شخصا متعلما ، أو حكيما ، أو عقلانيا يقترب . لأن هذه القدرات حسب اعتقادنا هي قدرات شريرة . أما الشخص الجاهل ، الشخص الغبي ، الشخص غير المتعلم ، الشخص الذي هو مثل طفل ، فلتتركوه يأتي بجسارة ."( ضد سيلزس 3 . 44 )
فوق ذلك ، نحن نرى أن هؤلاء الذين يظهرون معارفهم السرية في المعارض و يتجولون للتسول لن يدخلوا أبدا إلى جماعة الأذكياء من الناس ، ولن يجرؤا على كشف معتقداتهم النبيلة في حضورهم ؛ ولكن عندما يرون غلمانا مراهقين أو حشدًا من العبيد أو رفقة من الحمقى ، فإنهم يندفعون ويبدأون في التفاخر .( ضد سيلزس 3 . 50 )
في البيوتات الخاصة أيضا نرى عمال الصوف ، والإسكافيين ،وعمال غسل الملابس وأكثر الفلاحين جهلا و بداوة ، ممن لن تواتيهم الجراءة أن يتفوهوا ببنت شفة في مواجهة ساداتهم الأكبر سنا و الأكثر ذكاءا .لكنهم حالما يجدون صغار السن في السر أو بعض النساء الحمقى معهم ، فإنهم يخرجون من أفواههم بعض الأقوال المثيرة للدهشة مثل أنهم(أي الأطفال) ، على سبيل المثال، يجب ألا يولوا لحديث آبائهم وأساتذتهم في المدارس أي انتباه. . . ؛ويقولون إن هذه الأحاديث لا معنى لها وغير مفهومة … لكن ، لو كانوا يريدون ، فينبغي أن يتركوا آباءهم وأساتذتهم في المدارس ، وأن يذهبوا مع النساء والأطفال صغيري السن من زملاء لعبهم إلى محل الملابس الصوفية ، أو إلى محل الإسكافي أو إلى محل غاسلة الملابس ، حيث يمكنهم تعُّلم الكمال. و يقنعونهم من خلال قول ذلك. ( ضد سيلزس 3 . 56 )
يرد أوريجانوس بأن المسيحيين المؤمنون حقا هم في الحقيقة حكماء ( وبعضهم ، في الواقع ، من ذوي التعليم الجيد)، لكنهم حكماءا فيما يتعلق بالله ، وليس فيما يتعلق بالأشياء في هذا العالم . أي أنه ،بمعنى آخر ،لم ينكر أن المجتمع المسيحي يتشكل في الغالب من الطبقات الدنيا ،غير المتعلمة.


القراءة العامة في العصور المسيحية القديمة

يبدو أننا ، إذن ، في وضع ينطوي على تناقض ظاهريٍّ اتسمت به المسيحية الأولى. فالمسيحية كانت ديانة كتابية ، لديها كتابات من كل الأنواع ثبت أنها ذات أهمية بالغة لكل شأن تقريبًا من شئون الإيمان. إلا أن الناس لا يمكنهم قراءة هذه الكتابات. كيف يمكننا تفسير هذا التناقض ؟
في الواقع ، القضية ليست بكل هذه الغرابة لو تذكرنا ما أشرنا إليه من قبل ، ألا وهو أن المجتمعات من كل الأنواع في كل زمن من العصور القديمة كانوا عموما يحصلون على خدمات المتعلمين لمصلحة غير المتعلمين . لأن "قراءة" كتاب في العالم القديم لم تكن تعني ، عادة ً ، قراءة الإنسان كتابا لنفسه ؛ بل كانت تعني قراءته بصوت عالٍ أمام الآخرين . فمن الممكن أن يقال عن الشخص إنه قرأ كتابا عندما يكون في حقيقة الأمر قد سمعه يُقْرَأُ على لسان الآخرين . يبدو أنه لا مفر من التسليم بالاستنتاج الذي يقول إن الكتب- بقدر ما كانت مهمة للحركة المسيحية المبكرة – إلا أنها دائما ما كانت تقريبا تُقرأ بصوتٍ عالٍ في المشاهد الاجتماعية ، مثل مشهد الصلاة .
ينبغي أن نتذكر هنا أن بولس علَّم مستمعيه السالونيكيين أن " تُقْرَأَ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ. " ( 1 تس 5 : 27 ). وهذا من المحتمل أنه كان يحدث بصوت عال ، في الاجتماع . وكاتب الرسالة إلى أهل كولوسي كتب : وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ ايْضاً فِي كَنِيسَةِ اللاَّوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَا انْتُمْ ايْضاً." ( كولو 4 : 16 )
وتذكروا أيضًا تقرير جوستينوس الشهيد الذي يقول إنه " في اليوم المسمى الأحد ، كل من يعيشون في المدن أو في البلدة يجتمعون معا في مكان واحد ، وتُقرأ عليهم مذكرات الرسل و كتابات الأنبياء ، بقدر ما يسمح الوقت "(1 أبولوجي 67).
النقطة ذاتها أثيرت في كتابات مسيحية مبكرة أخرى . على سبيل المثال ، في سفر الرؤيا قيل لنا ، " طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّة "(1 : 3) ـ التي تشير بوضوح إلى القراءة العامة للنص . في كتاب أقل شهرة يدعى رسالة كلمنت الثانية ، من منتصف القرن الثاني ، يشير المؤلف ، في إشارة إلى كلماته الوعظية ،" أقرأ إليكم طلبا أن تصغوا إلى المكتوب ، لعلكم تخلِّصون أنفسكم ومن يقرأ لكم "(2 كلمنت 19 . 1 )
خلاصة القول ، كانت الكتب التي كانت ذات أهمية قصوى في المسيحية المبكرة تُقرأ في الغالب بصوت عال عبر هؤلاء الذين كان باستطاعتهم القراءة ، لكي يستطيع الأمِّيون الاستماع إليها ، وفهمها ، بل وحتى دراستها . على الرغم من أن المسيحية الأولى كانت في العموم تتشكل من المؤمنين الأميين ، إلا أنها كانت ديانة أدبية إلى حد كبير . مع ذلك، هناك موضوعات أخرى مهمة نحتاج أن ندرسها. لو كانت الكتب ذات أهمية كبيرة للمسيحية الأولى ، لو كانت تقرأ للمجتمعات المسيحية في محيط البحر المتوسط ، كيف حصلت هذه المجتمعات على هذه الكتب فعليًّا؟ كيف أصبحت متاحة للاستخدام العام . لقد حدث ذلك في عصور ما قبل ظهور أدوات النشر المكتبي ، وكذلك وسائل الطباعة الإليكترونية ،بل وحتى حروف الطباعة المتحركة. لو حصلت مجتمعات المؤمنين على نسخٍ من الكتب المسيحية العديدة المتداولة ،فكيف حصلوا على هذه النسخ ؟من كان يقوم بعملية النسخ ؟ والأكثر أهمية بالنسبة لموضوع دراستنا النهائي ،كيف يمكننا ( أو كيف أمكنهم ) أن نعرف أن النسخ التي حصلوا عليها كانت نسخًا دقيقة ، وأنهم لم يقوموا بتعديلها في أثناء عملية النسخ ؟



هوامش الفصل الأول

(1) يستخدم العلماء في عالم اليوم هذا المصطلح (Common Era) بديلا عن الشكل القديم (Anno domini) أو (A.D ) التي تعني :"في يوم ميلاد الرب"، لأن الأول منهما مناسب أكثر لكلّ الأديان.

(2) للاطلاع على وصف إجمالي يتناول تشكل القائمة الرسمية للكتاب المقدس اليهودي ، انظر مادتي ("Canon, Hebrew Bible") في كتاب "جيمس ساندر " (the Anchor Bible Dictionary) المطبوع بتحرير ديفيد نويل فريدمان (نيويورك ، دابلداي ،1992)، الجزء 1 ص 838 – 852 .
(3) إن إطلاق لقب "ربِّي" أو "معلم" على يسوع لا يعني أنني أقول إن المسيح حظي باحترام رسمي داخل الديانة اليهودية لكنني ببساطة أعني أنه كان معلمًا يهوديًّا . لم يكن ،بالطبع ،معلمًا فحسب ، ربما يمكن من الأفضل اعتباره كـ"نبيّ."
للاطلاع على المزيد من النقاشات ،انظر كتاب بارت إرمان : يسوع :النبيّ الرؤوي للألفية الجديدة (Apocalyptic Prophet of the New Millennium) من مطبوعات (جامعة أكسفورد نيويورك . القسم المطبوعات،1999).
(4) لمعرفة معنى هذا الاختصار انظر هامش رقم 1 بالأعلى
(5) سيشمل هذا الثلاث رسائل (الثلاثية البوليسية "Deutero-Pauline") إلى أهل كولوسي ،أهل أفسس ، والرسالة 2 إلى أهل تسالونيكي و ،بشكل خاص ، الرسائل "الرعوية " "pastoral" الثلاث وهي الأولى والثانية إلى تيموثي و الرسالة إلى تيطس . للاطلاع على أسباب تشكك العلماء في صحة نسبة هذه الرسائل إلى بولس نفسه ، انظر كتاب بارت إرمان "العهد الجديد : مقدمة تاريخية للكتابات المسيحية المبكرة (The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings), الطبعة الثالثة.(نيويورك:جامعة أكسفور .قسم المطبوعات،2004)،الفصل 23.
(6) في وقت متأخر، كانت هناك العديد من الرسائل المزيفة تدعي أنها الرسالة إلى اللاوديكيين. ما يزال لدينا واحدة منها،التي عادة ما تدخل في إطار ما يعرف بأبوكريفا العهد الجديد. وهي تزيد قليلا عن كونها مزيج من أقوال و جُمَلٍ بولسية (أي منسوبة إلى بولس)، تم ترقيعها معًا ليبدو مشابها لواحدة من رسائل بولس. هناك رسالة أخرى تسمى " إلى اللاوديكيين" تزييفها من خلال مارقيون ، المهرطق الذي عاش في القرن الثاني ، أمر واضح ؛ إلا أن هذه الرسالة لم يعد لها وجود.

(7) على الرغم من أن المصدر Q لم يعد له وجود، هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأنه كان وثيقة حقيقية ـ حتى لو كنا لا نعرف على وجه اليقين محتوياته الكاملة. انظر كتاب "العهد الجديد " لإرمان ، في الفصل ال6 . الاسم Q هو اختصار للكلمة الألمانية Quelle ،التي تعني "مصدر"(الذي هو مصدر لكثير من مادة لوقا ومتّى من أقوال المسيح).
(8) كمثال ،في الرسائل(tractates) المعروفة باسم رؤيا بطرس و المقالة الثانية لشيث العظيم (Treatise of the Great Seth)،اللذان اكتُشفا كلاهما في 1945 في مخبأ للوثائق "الغنوصية"قريبا من قرية نجع حمّادي في مصر . للاطلاع على الترجمة ،انظر مكتبة نجع حمادي بالإنجليزية ،لجيمس .م.روبنسون، الطبعة الثالثة (سان فرانسيسكو:هاربر سان فرانسيسكو ،1988 )،362 - 378.

(9) اسم غنصويين مأخوذ من كلمة جنوسيس اليونانية ،التي تعني "معرفة". الغنوصية تشير إلى مجموعة من الأديان من القرن الثاني فصاعدًا وهي تؤكد على أهمية الحصول على المعرفة السرية (secret knowledge) من أجل الخلاص من هذا العالم المادي الشرير.

(10) للاطلاع على نقاش أكثر تفصيلا "Lost Christianities:The Battles for ******ure and the Faiths We Never Knew(New York:Oxford Univ.Press,2003)
خاصةً الفصل 11 . للاطلاع على معلومات أكثر العملية برمتها يمكن الحصول عليها في كتاب هاري جامبل""The New Testament Canon:Its Making and Its Meaning مطبعة (فيلادلفيا:فورترس برس،1985). للاطلاع على شرح نموذجي علمي موثوق ،انظر كتاب بروس ميتزجر ""The Canon of The New Testament:Its Origin,Development,and Significance
طبع (أكسفورد :كلاروندون برس،1987).

(11) للاطلاع على ترجمة حديثة لرسالة بوليكاربوس ،انظر بارت إرمان( الآباء الرسوليين) من منشورات (Loeb Classical Library;Cambridge:Harvard Univ.press,2003)
المجلد 1.

(12) لمزيد من المعلومات حول مارقيون وتعاليمه ،انظر "الديانات المسيحية المفقودة" لبارت إرمان ص 103- 108 .
(13) انظر على وجه الخصوص كتاب "The ancient Literacy" لويليام .?.هاريس من مطبوعات(كامبردج، القسم الإعلامي بجامعة هارفارد).
(14) للمزيد حول معدلات معرفة القراءة و الكتابة بين اليهود في العصر القديم ، انظر كتاب كاثرين هـ. إزسر " الأمية اليهودية في فلسطين الرومانية"( توبنجين : موهر / سيبيك ،2001 ).
(15) انظر نقاش كيم هاينز أيتسن في كتاب " حراس الحروف: معرفة القراءة والكتابة ،قوة و ناقلوا الأدب المسيحي المبكر " ( نيو يورك ،جامعة أكسفورد ،القسم الإعلامي ،2000) ، 27 – 28 ، ومقالات هـ .سي .يوتي التي ذكرتها هناك .

(16) الترجمة الإنجليزية القياسية لهنري تشادويك " ضد سلزاس"( كامبردج : القسم الإعلامي بالجامعة ،1953)، هي التي تتبعتها هنا .



تم الفصل الأول ولله الحمد

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:26 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 7
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


قبل البدء ...
هذا الجزء قام بترجمته أخونا الفاضل
توحــــــيد
-----------------------------------------------

الفصل الثاني: نساخ الكتابات المسيحية الأولى

كما رأينا في الفصل الأول، كانت المسيحية منذ بدايتها ديانة لها أدبياتها، حيث لعبت الكتب بكافة أنواعها دوراً محورياً في حياة ومعتقدات المجتمعات المسيحية الناشئة في حوض المتوسط. كيف إذن كان وضع هذه الأدبيات المسيحية من ناحية النشر والتوزيع؟ الإجابة، بطبيعة الحال،هي أنه لكي يتمَّ توزيع كتابٍ ما على نطاقٍ واسعٍ، فلابد من أن يتمَّ نسخه أولا.
النسخ في العالم اليوناني - الروماني
كانت الطريقة الوحيدة لنسخ كتابٍ في العالمِ القديمِ هي أن تتمَّ كتابتُه باليد حرفاً بحرف، وكلمةً وراء أخرى. كان ذلك عملاً بطيئاً ودقيقا - لكن لم يكن ثمَّة بديل آخر. ولأننا اعتدنا اليوم على رؤية نسخٍ عديدةٍ من الكتب تظهر على رفوف المكتبات في طول البلاد وعرضها خلال أيام من نشرها، فإننا نتقبل ببساطة أن تكون نسخةٌ ما من "شفرة دافنشي" مثلاً مطابقةً تماماً لأي نسخة أخرى من الكتاب نفسه . فلن تتغير أيٌّ من الكلمات - سيكون هو الكتاب نفسه أيًّا ما كانت النسخة التي نقرأها. لكنَّ الحالَ لم يكن كذلك في العالم القديم. فكما أنه لم يكن متيسرًا توزيعُ الكتبِ على نطاقٍ واسعٍ (لعدم وجود شاحناتٍ، ولا طائراتٍ، ولا سككٍ حديديةٍ) لم يكن كذلك ممكنًا إصدارُها على نطاق واسع (لعدم وجود المطابع). ولأنه لم يكن ثمة بُدٌّ من نسخها باليد، نسخة نسخة، ببطء، وبمعاناة، فإنَّ معظم الكتب لم يتمَّ إصدارُها بكميات كبيرة. والكتب القليلة التي تم إصدارُ نسخٍ عديدةٍ منها لم تكن متطابقة، إذ إنه لابد أن يكون الناسخون الذين نسخوا تلك النصوص قد قاموا بإدخال تعديلات عليها - مبدِّلين الكلمات أثناء نسخها، إما عن طريق الخطأ (زلات الأقلام وغيرها من صور الإهمال) أو عمداً (عندما يقصد الناسخ تغيير الكلمات التي ينسخها).
إنَّ أيَّ شخصٍ يقرأ كتاباً من العصورِ القديمة لا يستطيعُ الجزمَ بأنَّه إنما يقرأ ما كتبه المؤلَّفُ ذاته ، فلربما وقع للكلمات تبديل. بل - في الحقيقة - إنَّ المرجَّح هو أنَّ تبديلا للكلمات قد حدث ، ولو جزئيًّا.
يصدر الناشر اليوم عددًا معينًا من الكتب للجمهور عن طريق إرسالها لمحلات بيع الكتب. أما في العالم القديم، ولأن الكتب لم تكن تصدر بكميات كبيرة، ولا كانت هناك دورٌ للنشر ولا محلاتٌ لبيع الكتب، فقد كانت الأمور مختلفة (1). عادةً ما كان المؤلِّف يكتب كتابًا، وربما يجعل مجموعة من الأصدقاء يقرأونه، أو يستمعون إليه وهو يُقرأ عليهم. مما كان يشكل فرصةً لتعديلِ وتصحيحِ بعض محتوياته. بعد ذلك، وعندما يكون المؤلف قد أتمَّ كتابه، فإنه ينسخ بعضَ النسخ لبعض الأصدقاء والمعارف. تأتي بعد ذلك مرحلة النشر، وعندها لا يعود الكتاب تحت السيطرة الكاملة للمؤلِّف، وإنما بين أيدي آخرين. إن أراد هؤلاء الآخرون المزيد من النسخ - ربما لإعطائها لأقرباء أو لأصدقاء آخرين - كان عليهم أن يتَّخذوا الترتيبات الضرورية لنسخها، مثلا، بالاعتماد على ناسخٍ محليٍّ يتعيش من مهنة النسخ، أو على عبدٍ يجيدُ القراءةَ والكتابةَ ويقوم بالنسخ كجزءٍ من واجباته المنزلية.
نعلم أن هذه الطريقة يمكن أن تكون بطيئة وغير دقيقة لدرجة تدفع إلى الجنون، وأنَّ ما ينتج عن هذه الطريقة من نسخ يمكن أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح شيئًا مختلفًا تمام الاختلاف عن الأصل. والدليل على ذلك يأتينا من الكُتَّاب القدامى أنفسِهم. سأذكر هنا مثالين من الأمثلة المثيرة للاهتمام من القرن الأول الميلادي. في مقالة شهيرة عن مشكلة الغضب، يشير الفيلسوف الروماني "سينيكا" إلى الفارق بين الغضب الموجَّه نحو من قد سبب لنا الأذى، والغضب الموجه نحو ما ليس بإمكانه أن يفعل أيَّ شيء يعرِّضُنا للأذى. وليوضح النوع الثاني، يضرب مثلاً بـ "بعض الأشياء التي لا حياة فيها، كالمخطوطة التي نلقي بها لأنها مكتوبة بخط صغير للغاية، أو نمزقها لأنها مليئة بالأخطاء (2)." لا شك أن تجربة قراءة نص ممتلئٍ بـ "الأخطاء المطبعية" (أو أخطاء النسخ) هي تجربة محبطة لدرجة قد تؤدي إلى تشتيت ذهن القارئ.
هناك أيضا هذا المثال التهكمي الذي نجده في إحدى إبيجرامات الشاعر الروماني الساخر "مارشال" ، الذي يحيط قارئه علمًا في إحدى قصائده بأنه:
"إن بدت لك - أيها القارئ - أيًّا من القصائد المكتوبة في هذه الأوراق غامضة أو ركيكة فتلك ليست غلطتي، ولكنَّ الناسخَ هو من أفسدها بسبب عجلته لإتمام نسخ القصيدة من أجلك .أمَّا إن كنت تظن أنها غلطتي وليست غلطته، فسأعرف أنك معدوم الذكاء "ومع ذلك، أنظر، هؤلاء سيئون" كما لو كنت أنكر ما هو واضح، أجل إنهم سيئون، لكنك لا تستطيع أن تأتي بأفضل منهم؟" (3)
نسخ النصوص أفسح المجال لاحتمالات الأخطاء؛ وهذه المشكلة لوحظت على نطاقٍ واسعٍ طوال العصور القديمة.
النسخ في دوائر المسيحية الأولى
لدينا في النصوص المسيحية الأولى عددٌ من الإشارات التي ترصُد ممارساتِ النسخ (4). واحدة من أكثر هذه الإشارات إثارةً للاهتمام نجدها في نص رائج يرجع تاريخه إلى بدايات القرن الثاني واسمه "الراعي" لهرماس . قـُرئ هذا الكتاب على نطاق واسع خلال الفترة بين القرن الثاني الميلادي ووصولا إلى القرن الرابع الميلادي؛ حتَّى إن بعض المسيحيين يعتقدون أنه يجب أن يعتبر جزءًا من القائمة القانونية للكتاب المقدّسِ . وهو مدرج كأحد كتب العهد الجديد، على سبيل المثال، في واحدة من أقدم مخطوطاتنا التي لا تزال محفوظة ، ألا وهي المخطوطة " السينائية" الشهيرة التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع.
في الكتاب، نبيٌّ مسيحيٌّ يدعى "هرماس" كتب عددًا من الرؤى ، بعضها كان يتعلق بالمستقبل، والبعض الآخر كان يتعلق بالحياة الشخصية والاجتماعية لمسيحيِّي أيامه.
في موضع قريب من بداية الكتاب (وهو كتاب كبير، أكبر من أيٍّ من الكتب الأخرى التي عُدّت جزءًا من العهد الجديد) يرى هرماس رؤية تقرأ فيها سيدة عجوز، وهي تمثل نوعًا من الرمز الملائكي للكنيسة المسيحية، بصوت مرتفع من كتابٍ صغيرٍ. وتسأل هرماس إذا ما كان باستطاعته إعلام إخوانه المسيحيين بالأشياء التي سمعها. فيجيب بأنه لا يستطيع أن يتذكر كل ما قرأَتْه، ويطلب منها أن " اعطني الكتاب لأنسخ منه نسخة " فتعطيه إياه، وعندئذ يروي قائلاً:
"أخذتـُهُ وذهبت بعيداً إلى جزء آخر من الحقل، حيث نسختـُه بالكامل، حرفاً بحرف، لأني لم أستطع التمييز بين المقاطع . وعندئذ، عندما أتممت حروف الكتاب، انتـُزع فجأة من بين يديّ؛ لكنني لم أرَ من فعل ذلك." (الراعي 5.4)
وعلى الرغم من أنه كان كتابًا صغيرًا، إلا أنَّ نسخه حرفًا بحرف لابد وأنه كان عملا صعبًا. وعندما يقول هرماس إنه " لم يستطع التمييز بين المقاطع " فمن الجائز أنه كان يشير إلى إنه غير ماهر في القراءة – ذلك، أنه لم يكن مدرَّبًا كناسخٍ محترفٍ يستطيع أن يقرأ النصوص بطلاقة. إحدى المشاكل المتعلقة بالنصوص اليونانية القديمة (و التي تضمُّ كلَّ الكتابات المسيحية القديمة، بما فيها نصوص العهد الجديد) أنها عندما نُسِخَت، لم يستخدم في نسخها أيٌ من علاماتِ الترقيمِ ، ولم يتمَّ التمييز بين الأحرف الاستهلالية والأحرف العادية، وكذلك ، وهو ما سيراه القراء المعاصرون أكثر إثارة للدهشة، لم تُستَخدام المسافات للفصل بين الكلمات. هذا النمط من الكتابة المتصلة يسمى (سكريبتوا كونتينوا ) " ******uo continua". ومن الواضح أن هذا النمط جعل قراءة النص ، ناهيك عن فهمه. أمرًا عسيرًا في بعض الأحيان. فعبارة مثل: (godisnowhere) يمكن للمؤمن أن يقرأها: (God is now here) أي (الإله هنا الآن) ويمكن للملحد أن يقرأها (God is nowhere) وتعني: (الإله ليس له وجود) (5).وماذا يمكن أن تعني" lastnightatdinnerisaw abundanceonthetable"؟ هل تعني حدثًا عاديًا أم حدثًا خارقًا؟
من الواضح أن "هرماس" عندما يقول إنه لم يستطع التمييز بين المقاطع ، فإنه يعني أنه لم يستطع قراءة النص بطلاقة لكنه استطاع تمييز الحروف، وعلى ذلك فقد نسخها حرفًا بعد حرف . ومن الجلي أنك إن لم تفهم ما تقرأ، فإن احتمالات الوقوع في أخطاء النسخ تتضاعف.
ويشير "هرماس" إلى النَّسْخِ مرة أخرى في موضعٍ لاحقٍ من رؤيته. حيث تأتيه السيدة العجوز مرةً أخرى وتسأله إن كان قد سلَّم الكتاب الذي نسخة لقادة الكنيسة أم لم يفعل بعدُ؛ فيجيبها أنه لم يفعل ، فتقول له:
"حسنًا فعلت، إذ لدي بعض الكلمات لأضيفها. عندئذٍ، عندما أنتهي من الكلمات كلِّها فسوف تقوم بإبلاغها لكل من وقع عليهم الاختيار. وعلى ذلك فسوف تكتب كتابين صغيرين، وترسل أحدهما إلى "كلمنت" والآخر إلى "جرابت". "كلمنت" سوف يرسل كتابه إلى المدن الأجنبية، فهذه هي مهمته. أما "جرابت" فسوف تعظ الأرامل واليتامى. وأنت ستقرأ كتابك في هذه المدينة مع الشيوخ الذين يقودون الكنيسة."(الراعي 3 . 8)
وهكذا، فإن النص الذي كان قد نسخه ببطء أضيفت إليه بعض الإضافات التي كان عليه أن يسجِّلها؛ و كان عليه أن ينسخ منها نسختين. إحداهما ستعطى لرجل يدعى "كلمنت"، الذي من الجائز أن يكون هو نفسه الشخص المعروف من خلال نص آخر على أنه الأسقف الثالث لمدينة روما – وربما حدث هذا قبل توليه رئاسة الكنيسة – حيث إنه يبدو هنا كما لو كان مبعوثًا خارجيًّا للمجتمع المسيحي الروماني. هل كان ناسخًا رسميًّا يتولى نسخ نصوصَهم؟
النسخة الأخرى تذهب لامرأة تدعى "جرابت" التي يحتمل أنها كانت ناسخة هي الأخرى، وربما تولت إعداد نسخ لبعض أعضاء الكنيسة في روما. أما "هرماس" نفسُه فإنَّ عليه أن يقرأ نسخته من الكتاب على مسيحيي مجتمعه، (وقد يكون معظمهم من الأمِّيين الذين لا يستطيعون قراءة النص بأنفسهم) – إلا أن الطريقة التي يُفترَض أن ينفَّذَ بها ذلك مع عدم قدرته على التمييز بين المقاطع لم يتمَّ تفسيرُها مطلقًا.
وهكذا، فقد ألقينا نظرةً خاطفةً على الكيفية التي كانت تتمُّ بها عمليةُ النسخِ في الكنيسةِ الأولى. ومن المفترض أن الحال كان مشابها لذلك في الكنائس المختلفة المنتشرة على جانبي المتوسط، على الرغم من أن أيًا من هذه الكنائس (على الأرجح) لم تكن بحجم كنيسة روما. مجموعةٌ مختارةٌ قليلةُ العدد كانوا نسّاخ الكنيسة، وبعض هؤلاء النسّاخ كانوا أكثر مهارة من الآخرين . يبدو أنَّ "كلمنت" كان مكلَّـفًا بنشر الأدب المسيحي كواحدة من مهامه، بينما "هرماس" يؤدي المهمة لأنها ببساطة قد أوكلت إليه هذه المرة، والنُّسَخُ التي يقوم هؤلاء الأعضاء المتعلمون (وبعضهم أوسع علمًا من بعض)بنسخها تتم قراءتها على المجتمع المسيحي بعمومه.
ما الذي يمكن أن نضيفه عن هؤلاء النسّاخ المنتمين للمجتمع المسيحي؟ لا نعرف على وجه التحديد من كان "كلمنت" أو"جرابت"، إلا أن لدينا معلومات إضافية عن "هرماس"؛ فهو يقول عن نفسه إنه عبدٌ سابقٌ (الراعي 1. 1) ، ومن الواضح أنه كان قادرًا على القراءة والكتابة، بل ومتعلمًا تعليمًا جيدًا نسبيًّا. وهو لم يكن من بين قادة كنيسة روما (فلم يذكر بين شيوخ الكنيسة)، مع أن تقليدًا لاحقًا يزعم أنَّ أخاه ،الذي كان اسمه "بيوس"، أصبح أسقفاً للكنيسة في منتصف القرن الثاني (6). إن كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن تكون العائلة قد تبوَّأت مكانةً مرموقةً داخل المجتمع المسيحي – على الرغم من كون "هرماس" عبداً في يوم من الأيام. ولمَّا كان المتعلمون وحدهم، بطبيعة الحال، هم القادرين على الكتابة، ولما كان التعلم يتطلب عادة توفُّر الوقت والمال اللازمين (ما لم يكن الشخص قد تم تدريبه على القراءة والكتابة وهو عبد)، فمن الظاهر أن النسّاخ المسيحيين الأوائل كانوا من بين أكثر الناس ثراءً وأفضلهم تعليمًا في المجتمع المسيحي الذي عاشوا فيه.
كما رأينا، كانت عمليات النسخ خارج المجتمعات المسيحية، في العالم الروماني على اتساعه، تتمُّ إما على أيدي النسَّاخ المحترفين، أو على أيدي عبيدٍ قادرين على القراءة والكتابة ويتم تكليفهم بالنسخ من قبل سادتهم؛ ويعني ذلك، من بين ما يعني، أنه كقاعدة لم يكن الأشخاص الذين يقومون بالنسخ هم أنفسهم الأشخاص الراغبين في الحصول على النصوص، وإنما كان الناسخون في الغالب الأعمّ ينسخونها لمصلحة آخرين. إلا أنَّ واحدا من أهم الاكتشافات الحديثة التي قام بها العلماء الباحثون في نسـَّّاخ المسيحية الأولى، هو أن الحال كان على العكس من ذلك تماما. إذ يبدو أن المسيحيين الذين كانوا يقومون بالنسخ، كانوا هم أنفسهم من يحتاجون النُسَخ، بمعنى أنهم كانوا ينسخونها إما لاستخدامهم الشخصيّ، أو لمصلحة المقربين منهم، أو كانوا ينسخونها من أجل الآخرين في مجتمعهم (7). باختصار، لم يكن الأشخاص الذين قاموا بنسخ النصوص المسيحية الأولى، في معظم الأحوال – إن لم يكن في كلها، محترفين يمتهنون النسخ؛ وإنما ببساطة كانوا هم الأفراد القادرين على القراءة والكتابة من بين أعضاء الطائفة المسيحية، واللذين توفرت لديهم الرغبة والقدرة على النسخ. (مثل "هرماس" المذكور أعلاه)
بعض هؤلاء الأفراد – أو معظمهم؟ - ربما كانوا قادة للمجتمعات. لدينا من الأسباب ما يدفعنا للاعتقاد بأنَّ الزعماء المسيحيين الأوائل كانوا من الأعضاء الأكثر ثراءًا في الكنيسة، من ذلك أن الكنائس كانت عادةً ما تجتمع في منازل أعضاءها (لم تكن ثمة مبانٍ للكنائس، على حد علمنا، خلال القرنين الأول والثاني من عمر الكنيسة) ومنازل الأعضاء الأكثر ثراءًا هي التي كان بمقدورها أن تتَّسع لعددٍ كبيرٍ من الناس، حيث كان معظم الناس في تلك المدن القديمة يعيشون في غرف ضيقة. ولا يتعارض مع المنطق أن نفترض أنّ الشخص الذي تولَّى أمرَ توفير المكان، تولى قيادة الكنيسة أيضًا، كما تفترض عددٌ من الرسائل المسيحية التي وصلتنا، والتي يوجِّه فيها الراسل تحياته إلى فلان .. وإلى "الكنيسة التي تجتمع في بيته." أصحاب المنازل الأكثر ثراءًا هؤلاء، كانوا على الأرجح هم الأفضل تعليمًا، وعلى ذلك فليس من المستغرب أن يُطلب منهم أحيانًا أن "يقرأوا" الكتابات المسيحية على جماعات المصلين، كما نرى على سبيل المثال في (1تيموث 4 : 13) " إِلَى أَنْ أَجِيءَ اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ( أي العامة) وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ " فهل من الممكن، إذن، أن يكون قادة الكنيسة مسئولين، على الأقل لفترة لا بأس بها من الوقت، عن نسخ الكتابات المسيحية التي كانت تُقْرَأ على جماعة المصلين؟
مشكلات تتعلق بنسخ النصوص المسيحية المبكرة
لأنَّ النصوص المسيحية الأولى لم تكن تنسخ بمعرفة نسّاخ محترفين (8)، على الأقل في أثناء القرنين أو القرون الثلاثة الأولى من عمر الكنيسة، وإنما بمعرفة أشخاص متعلمين ينتمون للمجتمع الكنسي لديهم القدرة والرغبة لأداء هذه المهمة، فمن الممكن أن نتوقع أنه في النسخ الأولى، على وجه الخصوص، كان يوجد أخطاء النسخ شائعة الحدوث. في الحقيقة، توجد لدينا أدلة دامغة على ذلك، حيث كانت (هذه الأخطاء) محلا لبعض الشكاوى العارضة من مسيحيين يقرأون تلك النصوص ويحاولون اكتشاف الكلمات الأصلية التي خطتها أيدي المؤلفين. ففي إحدى المرات، على سبيل المثال، يسجل الأب "أوريجانوس" المنتمي لكنيسة القرن الثالث الشكوى التالية من نسخ الأناجيل الموجودة تحت تصرفه:
"لقد أصبحت الاختلافات بين المخطوطات عظيمة، إما بسبب إهمال بعض النسـّاخ أو بسبب التهور الأحمق للبعض الآخر؛ فهل كانوا يهملون مراجعة ما نسخوه،أم، بينما يراجعونه، يقومون بالحذف والإضافة على هواهم؟(9) "
لم يكن "أوريجانوس" الشخص الوحيد الذي لاحظ تلك المشكلة، فقد أشار إليها أيضاً خصمُه الوثني "سيلزس" قبل ذلك بسبعين سنة، ففي سياق هجومه على المسيحية وأعمالها الأدبية، طعن "سيلزس" في النسـَّاخ المسيحيين لاتِّباعهم أساليبًا تنتهك أصول النسخ:
" بعض المؤمنين يتصرفون كما لو كانوا في مجلس لاحتساء الشراب،يذهبون بعيدا إلى درجة التناقض مع أنفسهم، فيغيِّرون النصَّ الأصليَّ للإنجيل ثلاث مرات أو أربع أو مرات عديدة أكبر من ذلك، ويغيرون أسلوبه بما يمكّنهم من إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم ".(ضد سيلزس 2 . 27)
والملفت للنظر في هذه الواقعة بالتحديد هو أن "أوريجانوس"، عندما جوبه باتهام من أطراف خارجية برداءة الممارسات النسخية بين المسيحيين، أنكر أن يكون المسيحيون في الواقع قد غيّروا النص، على الرغم من أنه هو نفسه قد انتقد تلك الحقيقة في كتاباته الأخرى. والاستثناء الوحيد الذي يذكره في سياق الرد على "سيلزس" يتعلق بعدة مجموعات من المهرطقين الذين ،حسبما يزعم "أوريجانوس"،حرَّفوا النصوص المقدسة بأسلوب خبيث (10).
لقد سبق ورأينا هذا الاتهام بأن المهرطقين غيَّروا أحيانًا في النصوص التي قاموا بنسخها بهدف جعلها أقرب إلى تأييد وجهات نظرهم، حيث كان هذا هو ما اتهم به "مرقيون" الفيلسوف اللاهوتي المنتمي للقرن الثاني، الذي قام بتقديم قانونه الكنسي المكون من أحد عشر كتابًا مقدسًا بعد أن قام بحذف الأجزاء التي تتعارض مع نظريته التي تزعم أن "بولس" كان يرى أن الرب في العهد القديم لم يكن هو الربَ الحقيقيَّ. يزعم خصم "مرقيون" الأرثوذكسي "إيريناوس " أن "مرقيون" قد قام بما يلي:
مزق أوصال رسائل "بولس"، حاذفاً منها كل ما قاله الرسول عن الرب الذي خلق العالم ، ليطمس حقيقة أنه أب ربنا يسوع المسيح ، وكذلك فعل مع هذه الفقرات من الكتابات النبوية التي اقتبسها الرسل لكي يعلّمونا أنهم جهروا بالأمر فيما سبق مجئ السيّد.
(ضد الهراطقة 1 . 27 . 2 )

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:27 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 8
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


لم يكن مرقيون هو المتهم الوحيد . فتقريبا في الفترة ذاتها التي كان إيريناوس يعيش فيها ،عاش أسقف كورينثيا الأرثوذكسي المسمى "ديونيسيوس" الذي كثيرا ما جأر بالشكوى من أن المؤمنين الكاذبين قد حرَّفوا كتاباته من غير وازع من ضمير ، مثلما قد فعلوا مع كثير من النصوص المقدسة .
عندما دعاني رفاقي المسيحيون إلى أن أكتب رسائل إليهم فعلت ما طلبوه مني . رسل الشيطان هؤلاء مملؤون بالزوان © ، يحذفون أشياء و يضيفون أشياء . لهم العذاب مدَّخر . لا عجب إذن لو تجرأ بعضهم على تشويه أعمالي المتواضعة ماداموا يتآمرون على العبث حتى بكلمة الرب نفسه .

كانت الاتهامات من هذا النوع الموجه ضد "الهراطقة" ـ أي بخصوص قيامهم بتحريف نصوص الكتاب المقدس ليجعلوها تقول ما أرادوا منها أن تعنيه ـ أمر واسع الانتشار بين الكتّاب المسيحيين الأوائل . من الجدير بالملاحظة ، مع ذلك ، أن دراسات حديثة أظهرت أن الدليل المستمد من مخطوطاتنا الباقية يشير بأصابع الاتهام إلى الاتجاه المعاكس . فالنساخ الذين كانوا مؤمنين بالتقليد الأرثوذكسي كثيرا ما قاموا بتحريف النصوص ، أحيانا بهدف التخلص من احتمال أن " يسئ استخدامها " المسيحيون لتأكيد العقائد الهرطوقية وأحيانا ليجعلوها أكثر موافقة للعقائد التي يتبنّاها مسيحيو طائفتهم . (11)

الخطورة الحقيقية التي تمثلت في إمكانية تحريف النصوص حسب الرغبة ، بمعرفة نسّاخ لم يشعروا بالاستحسان تجاه الطريقة التي صيغت بها هذه النصوص ،هي أمر واضح بطرق أخرى كذلك . نحتاج دائما إلى أن نتذكُّر أنَّ نساخ الكتابات المسيحية المبكرة كانوا يعيدون إنتاج نصوصهم في عالمٍ لم يعرف ماكينات طباعة أو بيوت نشر فحسب وإنما أيضًا لم يكن فيه على الإطلاق أية قوانين تتعلق بحقوق النشر. فكيف يمكن للمؤلفين أن يضمنوا أن نصوصهم لم تكن تتعرض للتَّعديل عند توزيعها ؟ الإجابة المختصرة هي أنهم لم يكن لديهم أية ضمانة على الإطلاق . وهذا ما يوضِّح السبب الذي من أجله كان المؤلِّفون في أحايين كثيرة يبتهلون لكي تتنزَّل اللعنات على أي ناسخ يُدْخِلُ على نصوصهم أية تعديلات بغير إذن منهم . هذا النوع من اللعنات نجده في إحدى الكتابات المسيحية المبكرة التي نجحت في أن تصبح جزءا من العهد الجديد ، ألا وهي سفر الرؤيا ،التي يكتب مؤلفها ، قريبا من نهاية نصه ، تحذيرا رهيبًا :

لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هَذَا يَزِيدُ اللهُ عَلَيْهِ الضَّرَبَاتِ الْمَكْتُوبَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ يَحْذِفُ اللهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ الْمَكْتُوبِ فِي هَذَا الْكِتَابِ. (رؤيا 22 : 18 – 19 )

لم يكن هذا تهديدًا للقارئ بأنه ينبغي أن يقبل أو أن يؤمن بكلِّ ما هو مكتوب في كتاب النبؤات هذا ، كما يتمُّ تفسيره في أحيان كثيرة ؛ بل هو تهديد تقليديٌّ لنسّاخ السفر بأنهم ينبغي أن لا يضيفوا أو يحذفوا أيًّا من كلماته . لعناتٌ مشابهةٌ يمكن رؤيتها متناثرة في ثنايا عدد من الكتابات المسيحية المبكرة . تأمَّلْ التهديدات الأكثر صرامة التي كتبها العالم المسيحي اللاتيني روفينوس بخصوص ترجمته لواحد من أعمال أوريجانوس :

أناشد كل إنسان ربما ينسخ أو يقرأ هذه الكتب، بإخلاص في حضرة الله الآب والابن والروح القدس ، وأستحلفه بحق إيمانه بالملكوت الآتي ، وبكنيسة القيامة من الأموات ، وبالنار الأبدية المُعدّة للشيطان وملائكته ، أن لا يضيف أيَّ شئ لما هو مكتوب و أن لا يحذف منه شيئا ، وأن لا يحدِثَ أي إدخال أو تحريف ،و أن يقارن بين منسوخ يده وبين النسخ التي قام بالنسخ منها، كي لا يرث إلى الأبد هذا المكان ، حيث العويل وصرير الأسنان وحيث النار التي لا تنطفئ والأرواح التي لا تموت .(12)

هذه التهديدات الرهيبة ـ جحيم وكبريت ـ هي ببساطة من أجل تحريف بعض الكلمات الواردة في نص . بعض المؤلفين ، رغم ذلك ، كانوا عازمين بكل ما في الكلمة من معنى على التأكد من أن تنسخ كلماتهم بصورة سليمة ، فليس ثمة تهديد يمكن أن يكون رادعًا على نحوٍ كافٍ في مواجهة نسّاخ يمكنهم تحريف النصوص حسب أهوائهم ، في عالم لم تكن فيه حقوق نشر وتأليف.

التغييرات التي تعرض لها النص

يخطئ ، مع ذلك ، من يفترض أن التغييرات الوحيدة التي كانت تحدث ، كانت تقع عن طريق نسَّاخٍ فعلوا ذلك بمخاطرة شخصية عبر تدخلهم المتعمَّد في صياغة النص. في الواقع ، غالبية التغييرات الموجودة في مخطوطاتنا المسيحية المبكرة ليس لها علاقة باللاهوت ولا بالأيديولوجيا . معظم التغييرات هي إلى حدٍ بعيدٍ نتاج أخطاء محضة وبسيطة ـ أخطاء القلم ، حذوفات عرضية ، إضافات ناتجة عن الإهمال ، أخطاء في التهجي ،أغلاط من هذا النوع أو ذاك . لقد كان النساخ غير مؤهلين : ومن المهم أن نتذكر أنَّ معظم النساخ في القرون الأولى لم يكونوا مدربين على القيام بهذا النوع من العمل بل كانوا ببساطة أفرادًا متعلمين من بين أعضاء كنائسهم وكانوا ( إن بصورة أكبر أو أقل) قادرين على القيام بذلك وراغبين فيه . بل حتى فيما بعد ، بدءا من القرنين الرابع والخامس ، عندما ظهر النساخ المسيحيون كطبقة محترفة داخل الكنيسة (13) ، وفيما بعد حينما كانت معظم المخطوطات تُنسخ بمعرفة رهبان مكرّسين لهذا النوع من العمل داخل الأديرة - حتى في ذلك الوقت ،كان بعض النساخ أقل براعة في النسخ من الآخرين. في هذه الأوقات كلها كانت المهمة شاقة ، كما يشار إلى ذلك في بعض الملاحظات التي أضيفت إلى بعض المخطوطاتٍ والتي يكتب فيها أحد النساخ نوعًا من صرخات الارتياح مثل ، " نهاية المخطوطة . لله الحمد " (14) . وقد يكون النساخ في بعض الأحيان مهملين بالفطرة ؛وأحيانا يكونون جوعى أو شاعرين بالنعاس ، وفي أحايين أخرى يكونون فحسب غير معنيين بتقديم أفضل ما عندهم.

وحتى النساخ الذين اتسموا بالكفاءة ،و اليقظة و نالوا قسطًا من التدريب كانوا يقعون أحيانًا في الأخطاء . وفي بعض الأحيان قاموا بتغيير النص، كما رأينا ، لأنهم اعتقدوا أنه كان من المفترض أن يتم تغييره . إلا أن ذلك لم يكن نتيجة فحسب لأسباب لاهوتية معينة. لقد كانت هناك أسباب أخرى من وجهة نظر النسَّاخ تجعلهم يقومون بتغييرات عمدية - على سبيل المثال، عندما كانوا يأتون أمام فقرة بدت وكأنها تمثل خطئًا يجب تصحيحه ، أو ربما أمام تناقض موجود في النص ،أو إشارة جغرافية خاطئة ، أو إحالة إلى أحد نصوص الكتاب المقدس في غير محلها . لذا ، عندما أحدث النساخ تغييرات مقصودة ، كانت دوافعهم أحيانا نقية نقاء الثلج الأبيض . لكنّ التغييرات حدثت رغم ذلك ، وكلمات المؤلفين الأصلية ،نتيحة لذلك ،ربما قد حُرِّفت و ضاعت نهائيًّا. هناك صورة توضيحية طريفة للتغيير العمدي الذي وقع لنص موجود في واحدة من أنقى مخطوطاتنا القديمة ،ألا وهي المخطوطة الفاتيكانية ( يسميها البعض كذلك لأنها اكتشفت في المكتبة الفاتيكانية )،التي كتبت في القرن الرابع . ففي افتتاحية سفر العبرانيين هناك فقرة يقال لنا فيها ، وفقا لمعظم المخطوطات، إنَّ " المسيح يحمل (باليونانية : PHERON) كل الأشياء بكلمة قدرته"( عبرانيين 1 : 3 ). أما في المخطوطة الفاتيكانية ،فقد أحدث الناسخ الأصلي اختلافا دقيقا في النص ، باستخدامه أحد الأفعال المشابهة في اللغة اليونانية ؛ حيث يُقرأ النص في الفاتيكانية كالتالي:" المسيح يُظِهر ( باليونانية :PHANERON) كل الأشياء بكلمة قدرته." بعد ذلك بعدة قرون ، قرأ ناسخ ثان هذه الفقرة في المخطوطة (الفاتيكانية) وقرر أن يستبدل الكلمة الغريبة يُظهِِر ( manifests ) بالأكثر شيوعا يحمل (bears) - ماحيًا بذلك الكلمة الأولى وكاتبًا الأخرى. ثمّ قرأ المخطوطة ، بعد ذلك ببعض القرون ، ناسخ ثالث ولاحظ التحريف الذي فعله سلفه ؛ فمحى ، بدوره ،الكلمة يحمل وأعاد كتابة الفعل يظهر .ثم أضاف ملاحظة ناسخ في الهامش ليشير إلى ما دار في خلده عن الناسخ الثاني الذي سبقه . تقول الملاحظة :" أيها الوغد الأحمق ، دع القراءة القديمة ،لاتحرفها !"

أحتفظُ بنسخة من تلك الصفحة وقمتُ بوضعها داخل إطار وعلقتها على الحائط فوق مكتبي كوسيلة ثابتة تذكرني بالنساخ ونزوعهم إلى تغيير ، وإعادة تغيير ما لديهم من نصوص. من الواضح أنَّ هذا كان تغييرا لحق بكلمة واحدة : فلماذا كل هذا الاهتمام به ؟ إن مبعث الاهتمام بهذا التغيير هو أن الطريقة الوحيدة لفهم ما يريد المؤلف أن يقوله هي أن تعرف كيف كانت كلماته - كل كلماته - في الحقيقة .( فكّر في كل المواعظ التي تبنى على أساس كلمة واحدة موجودة في أحد النصوص: ماذا لو أن هذه الكلمة لم يكتبها المؤلف في الحقيقة ؟) إن القول إن المسيح كشف كل الأشياء بكلمة قدرته يختلف اختلافًا تامًّا عن قولنا إنه يمسك الكون كله بكلمته !

مشكلات التعرف على "النص الأصلي"

وهكذا ، وقعت كل أنواع التغيير في المخطوطات عبر النساخ الذين قاموا بنسخها . ولعلنا نقوم بدراسة أنواع التغييرات بتعمق أكبر في أحد الفصول الأخيرة من هذا الكتاب . أما الآن ، يكفي أن نعرف أن هناك تغييراتٍ كانت تحدثُ ،و أنها كانت تحدث على نطاق واسع ، خاصة خلال المائتي عامًا الأولى التي كانت تنسخ فيهما النصوص ،عندما كان معظم النساخ من الهواة . أحد القضايا الرئيسية التي ينبغي أن يتعامل معها النقاد النصيين هي الطريقة التي سيستخدمونها في استرجاع النص الأصلي ـ أي النص كما كتبه المؤلف أول مرة - مع الوضع في الاعتبار أن مخطوطاتنا مليئة على نحوٍ بالغ بالأخطاء . هذه المشكلة تتفاقم وذلك لأنه ما أن يقعَ خطأٌ ،فمن الجائز أن يتحول إلى جزءٍ ثابتٍ من التقليد النصيِّ ، بل أكثر ثباتًا ،في الواقع ، من النص الأصلي نفسه . بطريقة أخرى ،أقول إنه بمجرد أن يغير ناسخٌ من النساخ نصًا ـ سواءٌ أكان ذلك بشكل عارض أو بصورة متعمدة - فإن هذه التغييرات تصبح باقـية في مخطوطته (ما لم يظهر ،بطبيعة الحال، ناسخ آخر ليصحح الخطأ). الناسخ التالي الذي ينسخ هذه المخطوطة ينسخ هذه الأخطاء (ظنًّا منه أنها هي ما يقوله النص )، و يضيف أخطاءا من عنده . الناسخ الذي يليه والذي سينسخ بعدئذ تلك المخطوطة سيقوم بنسخ الأخطاء التي تخص الناسخين السابقين له كليهما ويضيف أخطاءًا من عنديات نفسه ، وهكذا دواليك . الطريقة الوحيدة التي ستتكفل بتصحيح الأخطاء هي أن يعترف ناسخٌ بأنَّ ناسخًا سابقًا له قد وقع في خطأ ويحاول هو أن يصحِّحَ المشكلة . ليس هناك ضمانة ،رغم ذلك ، أن يقوم هذا الناسخ ،الذي يحاول تصحيح هذا الخطأ ،بالأمر بطريقة صحيحة . بطريقة أخرى ،هذا الناسخ ربما في الواقع يغيّر النص بطريقة غير صحيحة عندما كان كل ما يفكر فيه هو أن يصحح الخطأ، لذلك ينتج عندنا الآن ثلاثة أشكال من النص :النص الأصلي ،النص الخطأ ، النص الناتج عن المحاولة الخاطئة لتصحيح الخطأ. وتتعدد الأخطاء و تتكرر ؛ أحيانا يتم تصحيحها و أحيانا تتفاقم المشكلة .وهكذا تسير الأمور لقرون . أحيانا ، بالطبع ، يكون لدى ناسخ أكثر من مخطوطة واحدة بين يديه ، و يستطيع تصحيح الأخطاء في المخطوطة الأولى من خلال القراءات الصحيحة في المخطوطة الأخرى .هذا فعليًّا ، في حقيقة الأمر ، يؤدي إلى تحسين الموقف بصورة ملحوظة . من ناحية أخرى ، من المحتمل أحيانا أيضًا أن يقوم ناسخ بتصحيح المخطوطة الصحيحة في ضوء النص الخاص بمخطوطة غير صحيحة . والاحتمالات تبدو بلا نهاية . مع وضع هذه المشكلات في الاعتبار ، كيف يمكننا أن نأمل في استعادة نصٍّ أصليٍّ ما ، أي النص الذي كتبه المؤلف بالفعل ؟ إنها مشكلة هائلة . في الواقع ، إنها مشكلة ضخمة إلى درجة أنَّ عددًا من نقاد النصوص بدأوا في الادعاء أننا ربما سنتوقف أيضًا عن مناقشة أي شئ يتعلق بالنص " الأصلي" ، لأن النص الأصلي بالنسبة إلينا لا يمكن الوصول إليه . ربما يكون في هذا القول نوعٌ من المبالغة ، لكنَّ مثالا واقعيًّا أو مثالين مأخوذين من كتابات العهد الجديد ربما يكشف لنا حقيقة هذه المشكلات.

أمثلة لهذه المشكلات


بالنسبة للمثال الأول ، دعونا نأخذ رسالة بولس إلى أهل غلاطية . الصعوبات العديدة التي يتحتم علينا التعامل معها ، حتى بخصوص الكتابة الأصلية للرسالة ، ربما ستجعلنا متعاطفين أكثر مع هؤلاء الذين يريدون أن نتخلى عن التفكير في الشكل الذي كان عليه النص " الأصلي ". لم تكن غلاطية مدينة منعزلة بها كنيسة منعزلة ؛ بل كانت منطقة في آسيا الصغرى (تركيا المعاصرة ) كان بولس قد أنشأ فيها كنائس. عندما يكتب إلى أهل غلاطية ، فهل كان يكتب لواحدة من الكنائس أم لها جميعا ؟ كان بولس ،على ما يبدو ، بما أنه لا يحدد أي مدينة على وجه الخصوص ، يقصد أن تصل الرسالة إليها جميعا . هل هذا يعني أنه كتب نسخا متعددة من الرسالة نفسها ، أم أنه أراد أن يتم تمرير الرسالة الواحدة على كل كنائس المنطقة ؟ ليس لدينا معلومات بخصوص هذا الأمر . لنفترض أنه كتب نسخا متعددة . فكيف فعل ذلك ؟ في البدء ، يبدو أن هذه الرسالة ، مثل رسائل بولس الأخرى ،لم تكتب بخط يده وإنما بيد أمين سر للنسخ . الدليل على ذلك يأتي من نهاية الرسالة ، حيث أضاف بولس حاشية في مخطوطته الخاصة ، لكي يعرف المرسل إليهم أنه شخصيا هو المسئول عن الرسالة ( وهو أسلوب شائع مستخدم في الرسائل المكتوبة بطريق الإملاء في العصور القديمة ):" اُنْظُرُوا، بأي أحرف كبيرة أكتب إِلَيْكُمْ بِيَدِي!"(غلاطية 6 : 11). رسالته المكتوبة بخط يده ، بكلمات أخرى ، كانت أكبر حجما و ربما أقل احترافية من ناحية الشكل من تلك التي كتبها الناسخ الذي كان قد أمليت عليه الرسالة (15) .

الآن ، لو أملى بولس الرسالة ، فهل أملاها كلمة بكلمة ؟ أم هل قام بتوضيح النقاط الرئيسية وترك للناسخ الحرية في تسويد ما تبقى ؟

المنهجان كلاهما كانا شائعا الاستخدام لدى كتَبَة الرسائل في العصر القديم (16) . لو أكمل الناسخ بقية الرسالة ، فهل يمكننا التيقن من أنه قد أكملها تماما على الصورة التي أرادها بولس ؟ فإذا لم يفعل ، فهل لدينا في الواقع كلمات بولس ، أم هي كلمات بعض النساخ المجهولين ؟ لكن دعونا نفترض أن بولس أملى الرسالة كلمة بكلمة . فهل من الممكن أن يكون الناسخ في بعض المواضع قد كتب الكلمات الخاطئة ؟ أغرب من ذلك قد حدث . في هذه الحالة ، فمخطوطة الرسالة ( أي النص الأصلي ) فيها من البداية " خطأ" ، لذا فجميع النسخ اللاحقة لن تكون من كلمات بولس ( في المواضع التي أخطأ فيها ناسخه ).
فلنفترض ، مع ذلك ، أن الناسخ كتب الكلمات صحيحة بنسبة مائة بالمائة . لو صدرت نسخ عديدة من الرسالة ، فهل يمكننا أن نتأكد من أن كل النسخ كانت أيضًا صحيحة مائة بالمائة ؟ من المحتمل ، على الأقل ، أنه حتى لو نسخت جميعا في حضور بولس ، فكلمة أو اثنين هنا أو هناك ستتغير في نسخة أو في أخرى من النسخ. لوكان الأمر كذلك ،ماذا لو أن واحدة من تلك النسخ كانت هي التي صنعت منها كل النسخ اللاحقة ـ بدءا من القرن الأول ،وصولا إلى القرنين الثاني والثالث،وهلم جرًّا؟
في هذه الحالة ، النسخة الأقدم التي مثلت الأساس لكل النسخ اللاحقة من الرسالة لم تكن بالتمام ما كتبه بولس ،أو الذي أراده أن يُكتب. وبمجرد أن تنتشر النسخة ـ أي بمجرد أن تصل إلى غايتها في إحدى مدن غلاطية ـ فهي ،بطبيعة الحال ،ستنسخ ، وستحدث الأخطاء . في بعض الأحيان ربما سيغير النساخ النص بصورة عمدية ؛وأحيانا تقع الأخطاءعن طريق السهو . هذه النسخ المشتملة على الأخطاء يتم نسخها ؛وهكذا ،سيحدث الأمر ذاته في المستقبل. في مكان ما وسط هذا كله ، النسخة الأصلية ( أو كل من النسخ الأصلية ) ينتهي بها الحال إلى الضياع، أو البِلى ، أو إلى التلف. في بعض الأحيان ، لا يعود ممكنا مقارنة نسخة بالأصل للتأكد من أنها "صحيحة" ، حتى لو وُجِد شخص ما لديه الرغبة في فعل ذلك.
ما ظل باقيا اليوم ، إذن ، ليس هو النسخة الأصلية من الرسالة ، ولا واحدة من النسخ الأولى التي كان بولس نفسها قد كتبها ، ولا أيًا من النسخ التي أنتجت في أيٍّ من مدن غلاطيا التي أرسلت إليها تلك الرسالة ، ولا أيًا من النسخ المنسوخة بناءا على هذه النسخة . النسخة الأولى الكاملة إلى حد ما التي نملكها من الرسالة إلى أهل غلاطية (مخطوطة مؤلفة من كِسَر ،أي أن فيها عددا من الأجزاء المفقودة ) هي ورقة بردي تعرف باسم (P46)( حيث أنها كانت البردية رقم ستة وأربعين من برديات العهد الجديد وضعا في الفهارس أو الكشوف الخاصة بذلك)، والتي يرجع تاريخها إلى 200 ميلاديا تقريبا (17) . أي تقريبا بعد مرور 150 عاما من كتابة بولس للرسالة . لقد كانت متداولة ، ويتم نسخها أحيانا بشكل صحيح وأحيانا بشكل غير صحيح ، لخمسة عشر عَقْدًا قبل أن يتم إنتاج أيٍ من النسخ التي بقيت إلى الوقت الحاضر. لا يمكننا إعادة بناء نسخة من تلك النسخ التي أنتجت منها البردية " P46 ". فهل كانت هي ذاتها نسخة دقيقة ؟ لو كان الأمر كذلك ،فإلى أي درجة كانت دقتها (how accurate)؟ لقد كانت بالتأكيد تحوي أخطاءا من نوعا ما ، كما كان الحال مع النسخة ذاتها التي نُسِخَت منها ، والنسخة التي نسخت منها تلك النسخة ، وهلم جرا.
باختصار ، إن الحديث عن النص "الأصلي" للرسالة إلى أهل غلاطية هو أمرٌ شديد التعقيد . فالنص ليس لدينا . وأفضل ما يمكننا فعله هو أن نعود إلى مرحلة نسخه المبكرة ، وأن نأمل ببساطة في أن ما نعيد بناءه فيما يتعلق بالنسخ التي أنتجت في هذه المرحلة ـ بناءا على النسخ التي حدث وأن نجت من الضياع ( بعدد متزايد كلما اتجهنا إلى العصور الوسطى ) ـ يعكس بصورة معقولة ما كتبه بالفعل بولس نفسُه ، أو على الأقل ما كان ينوي أن يكتبه حينما قام بإملاء الرسالة .
بالنسبة للمثال الثاني لهذه المشكلات، دعونا نأخذه من إنجيل يوحنا . هذا الإنجيل يختلف بشدة عن غيره من الأناجيل الموجودة في ثنايا العهد الجديد ،فهو يخبرنا بعدد من القصص التي تختلف عن مثيلاتها في الأناجيل الأخرى و يستخدم أسلوب كتابة شديد الاختلاف . هنا ،في يوحنا ، أقوال المسيح هي عبارة عن حورات مطولة كبديل عن الأقوال المباشرة والفصيحة ؛ لا يقول يسوع في يوحنا ، على سبيل المثال ،أمثالا أبدا وهو ما يختلف مع الأناجيل الثلاثة الأخرى . فوق ذلك ، الأحداث المحكية في يوحنا غالبا ما لا يكون لها وجود إلا في هذا الإنجيل فحسب : فعلى سبيل المثال ، حوارات المسيح مع نيقوديموس (في الفصل 3 ) ومع المرأة السامرية (الفصل 4) أو معجزاته الخاصة بتحويل الماء إلى خمر (الفصل 2) و إقامة أليعازر من الأموات (الفصل10). إن الصورة التي يرسمها المؤلف ليسوع هي صورة مختلفة اختلافًا تامًّا أيضًا ؛ فيسوع يقضي كثيرا من وقته ،وهو ما يختلف مع الأناجيل الثلاثة الأخرى ، في شرح من يكون هو (باعتباره المرسل من السماء )و في صنع " المعجزات" لكي يثبت أن ما يقوله عن نفسه صحيح .
لقد كان ليوحنا بلا شك مصادره الخاصة التي بنى عليها روايته ـ مصدر ربما كان يحكي معجزات يسوع ، على سبيل المثال ، ومصادر كانت تصف حواراته (18) . لقد جمع هذه المصادر معا ليحصل على سرده المتدفق لحياة يسوع ، ومهمته التبشيرية ، وموته و قيامته. من المحتمل ، مع ذلك ، أن يكون يوحنا في الواقع قد أنتج عددا مختلفا من النسخ لإنجيله . لقد لاحظ القراء طويلا ،على سبيل المثال، أن الفصل 21 يبدو وكأنه إضافة متأخرة . يبدو الإنجيل بالتأكيد أنه قد انتهى عند العدد 20 : 30 – 31 ؛ وأن الأحداث الواردة في الفصل 21 تبدو كنوع من الأفكار التي تخطر على البال في وقت متأخر ، ويحتمل أن تكون قد أضيفت لكي تكمل قصص ظهورات ما بعد القيامة ولتشرح أنه عندما مات "التلميذ الحبيب" المسئول عن حكاية التقاليد في الإنجيل ، لم يكن ذلك عكس النبوءة (قارن مع 21 : 22 – 23 ). فقرات أخرى من الإنجيل أيضًا غير مترابطة تماما مع الفقرات الباقية . حتى الفقرات الافتتاحية 1 : 1 – 18 ، التي تشكل نوعا من المقدمات الاستهلالية للإنجيل ، تبدو وكأنها مختلفة عن باقي الأعداد . هذه القصيدة المشهورة التي تتحدث عن "كلمة" الله الذي كان موجودا مع الله منذ البدء وكان نفسه الله ، والذي "صار جسدا " في المسيح يسوع . هذه الفقرة مكتوبة بأسلوبٍ شعريٍ رفيع ليس له وجود في بقية الإنجيل ؛ فوق ذلك ،وبينما تتكرر موضوعاته الحيوية في بقية القصة ، بعض كلماته الأكثر أهمية لم تتكرر مرة أخرى. لذا ، يسوع قد رسمت له صورة في أنحاء القصة باعتباره الشخص الذي جاء من فوق ، لكنه لم يُدْعَ "الكلمة" مرة أخرى في الإنجيل. هل يمكن أن تكون هذه الفقرة الاستهلالية قد أخذت من مصدر مختلف عن بقية الرواية ، وأنها أضيفت كبداية لائقة بمعرفة المؤلف بعد أن كانت نسخة أقدم من كتابه قد تم بالفعل نشرها ؟
افترض جدلا ، لمدة ثانية ، أن الفصل 21 و الأعداد 1 : 1- 18 لم يكونوا عناصر أصلية من الإنجيل . ماذا سيقدم ذلك من نفع لناقد نصيّ يريد أن يعيد بناء النص "الأصلي"؟ وأي أصل يعاد بناؤه ؟ كل مخطوطاتنا اليونانية تحتوي على هذه الفقرة موضع الدراسة . لذا فهل يعيد الناقد النصيّ بناء شكل من الإنجيل كان يحتوي هذه الفقرات في الأصل باعتباره النص الأصلي ؟ لكن أليس من الأولى أن نعتبر أن الشكل " الأصلي " المفترض أن يكون هو النسخة الأقدم ، هو ذلك الذي لا يحتويها ؟ لو أن شخصا أراد أن يعيد بناء الشكل الأقدم ،فهل من العدل أن يتوقف عند إعادة بناء ، فلنقل ، النسخة الأولى من إنجيل يوحنا ؟ لماذا لا يذهب حتى أبعد من ذلك و يحاول أن يعيد بناء المصادر التي تقف وراء الإنجيل ، مثل مصادر الآيات و مصادر الحوارات ، أو حتى التقاليد الشفهية التي تقف وراءها ؟
هذه أسئلة تؤرق النقاد النصيين ، والتي أدت بالبعض إلى أن يجادلوا حول ضرورة إهمال أي سعي وراء النص الأصلي ـ حيث إننا حتى لا يمكننا أن نتفق حول ما يحتمل أن يعنيه الحديث عن النص "الأصلي" ، فلنقل ،للرسالة إلى أهل غلاطية و إنجيل يوحنا . من ناحيتي ،مع ذلك ، ما زلت أفكر في أننا حتى لو لم نكن قادرين على الوصول إلى اليقين التام بخصوص ما يمكننا أن نحصل عليه ، إلا أننا نستطيع على الأقل أن نصل إلى التأكد من أن كل المخطوطات الباقية قد نسخت من مخطوطات أخرى ، والتي كانت بدورها منسوخة من مخطوطات أخرى ، وأننا على الأقل قادرين على العودة إلى المرحلة المبكرة و الأكثر قدما لكل تقليد مخطوط لأيٍ من كتب العهد الجديد . كل مخطوطاتنا لرسالة الغلاطيين ،على سبيل المثال ،تعود بشكل واضح إلى نص ما كان ينسخ ؛ كل مخطوطاتنا الخاصة بإنجيل يوحنا تعود بوضوح إلى نسخة من إنجيل يوحنا كانت تضم المقدمة الاستهلالية و الفصل 21 . وهكذا ينبغي أن نبقى راضين عن معرفتنا أن العودة إلى أقدم نسخة يمكن الحصول عليها هو أفضل ما يمكننا فعله ، سواء أستعدنا النص " الأصلي " أم لا . هذا الشكل الأكثر قدما من النص هو بلا شك متصل بشكل وثيق ( وثيق للغاية ) بما كتبه المؤلف في الأصل ، و لذلك فهو بمثابة الأساس لتفسيرنا لتعاليمه الخاصة .

يتبــــــــــــــــــع بإذن الله

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:28 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 9
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


إعادة بناء نصوص العهد الجديد
هناك مشكلات مماثلة ، بطبيعة الحال ، تنطبق على كتاباتنا المسيحية المبكرة ، سواء أكانت تلك الموجودة في العهد الجديد أو الموجودة خارجه ، وسواء أكانت أناجيل ، وأعمالا ، رسائلا ،رؤىً ، أو أيًّا من أنواع الكتابة المسيحية الأخرى .
مهمة الناقد النصي هي "تحديد" ما يمثله الشكل الأقدم لكل هذه الكتابات . كما سنرى ، هناك مبادئ مستقرة للقيام بهذا ال"تحديد" ، وهناك طرق لتقرير أي من الاختلافات الموجودة في مخطوطاتنا هي التي تمثل الأخطاء(غير المقصودة) ، وأيها يمثل تغييرات مقصودة ، وأيها يبدو أنه يعود إلى المؤلف الأصلي . لكنها ليست مهمة يسيرة . فالنتائج ، من ناحية أخرى ،يمكن أن تكون كاشفة ،وممتعة و حتى مثيرة . لقد كان النقاد النصيون قادرين على تحديد عدد من المواضع التي لا تمثل فيها المخطوطات التي بين أيدينا نص العهد الجديد الأصليّ وذلك بيقين نسبيّ. بالنسبة لهؤلاء الذين ليس لديهم إطلاقا أيُّ معرفة مناسبة بهذا المجال ، ولكنهم يعرفون العهد الجديد جيدا ( فلنقل ، من خلال الترجمة الإنجليزية)، يمكن أن تكون بعض النتائج مفاجئة . في ختام هذا الفصل ، سأناقش فقرتين مشابهتين ـ فقرتان من الأناجيل ،في حالتنا هذه،نحن الآن على يقين تام من أنهما لم تكونا منتميتين في الأصل إلى العهد الجديد، على الرغم من أنهما أصبحتا أجزاءا مشهورة من الكتاب المقدس بالنسبة للمسيحيين عبر القرون وظلا هكذا حتى اليوم .

المرأة الزانية
قصة يسوع والمرأة الزانية ربما هي واحدة من أشهر قصص يسوع في الكتاب المقدس ؛ ولقد ظلت دائما إحدى القصص المفضلة لدى جميع أفلام هوليوود التي تناولت حياته . بل إنها حتى نجحت في أن تكون جزءا من فيلم آلام المسيح لمخرجه مل جيبسون ،رغم أن الفيلم يركز فقط على الساعات الأخيرة من حياة يسوع ( القصة تمت معالجتها في إحدى الارتجاعات الفنية (flashbacks) ). هذه القصة ،رغم شهرتها ، موجودة في فقرة واحدة فقط من العهد الجديد ،تحديدا في يوحنا 7 : 53 ـ 8 : 12 ، وهي لا تبدو أصليةً حتى في هذا الموضع .

حبكة القصة عادية . فيسوع يعلِّم في الهيكل ، ومجموعة من الكتبة والفريسيين ،أعداءه اللدودين ،يقتربون منه ، محضرين معهم امرأة " أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ" .لقد أحضروها أمام يسوع لأنهم يريدون أن يضعوه أمام اختبار. فالشريعة الموسوية ،كما يخبرونه ،تطالب بأن ترجم مثل هذه المرأة حتى الموت ؛ لكنهم يريدون أن يعرفوا ما سيقوله هو حول هذا الأمر. هل ينبغي أن يرجموها أم يظهروا تجاهها الرحمة ؟ إنه شَرَكٌ ،بطبيعة الحال. فلو أخبرهم يسوع أن يتركوها لحال سبيلها ، سيتهم بأنه قد انتهك شريعة الله ؛ ولو قال لهم أن يرجموها سيتهم بمخالفة تعاليمه الخاصة عن المحبة والرحمة و الغفران . لم يتعجل يسوع الرد ؛ بدلا من ذلك انحنى ليتمكن من الكتابة على الأرض . ولما استمروا في سؤاله ، إذا به يقول لهم ،" مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ! ". ثم يعود إلى كتابته على الأرض ،في حين يبدأ هؤلاء في المغادرة - وهم يشعرون كما هو واضح بالخزي من فعلتهم الشريرة - حتى إن أحدًا بخلاف المرأة لم يبق في المكان. فنظر يسوع إلى أعلى ، وهو يقول:" يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟ " فردت عليه " لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ " فأجابها حينئذ " ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً" . إنها قصة رائعة ، مفعمة بالمشاعر و بالمدارة الماكرة التي استخدم فيها يسوع ذكاءه لينجو بنفسه- ناهيك عن المرأة المسكينة- من هذا الشَرَك .

بطبيعة الحال ، بالنسبة لقارئٍ يقظٍ ، تثير القصة أسئلة عديدة . لو كانت هذه المرأة مقبوض عليها بتهمة الزنا ، على سبيل المثال ،فأين الرجل الذي ضبطت معه ؟ كلاهما مستوجبٌ الرجم ، وفقا لشريعة موسى (انظر لاويين 20 : 10 ). فوق ذلك ، عندما كتب يسوع على الأرض ، ماذا كان يكتب بالضبط ؟ (وفقا لتقليد قديم ، كان يسوع يكتب خطايا المشتكين ،الذين لما رأوا أن جرائمهم كانت معروفة ،غادروا يجللهم العار!)

وحتى لو كان يسوع بالفعل يعلِّم رسالة المحبة ،فهل كان يعتقد فعلا أن شريعة الله التي أعطاها لموسى لم تعد سارية المفعول و ينبغي أن لا تطاع ؟ وهل كان يعتقد على وجه الإطلاق أن الخطايا لا يعاقب المرء عليها ؟

على الرغم من رونق القصة ،وجودتها الأخاذة ، وحبكتها الفطرية ، فهناك مشكلة أخرى عويصة تواجهها . كما سيتضح ، فهذه القصة لم تكن أصلية في إنجيل يوحنا. بل لم تكن ،في الواقع ، جزءا أصيلا من أيِّ إنجيل . فلقد أضيفت بمعرفة ناسخ آخر في زمن متأخِّر . كيف نعرف ذلك ؟ في الواقع ، العلماء الذين اشتغلوا بالتقليد المخطوط ليس لديهم أي شكوك بشأن هذه الحالة على وجه الخصوص . في هذا الكتاب في وقت لاحق سنقوم بفحص أكثر عمقًا أنواع الدليل الذي يورده العلماء للحكم على هذا النوع من التغيير. سأشرح الآن قليلا من الحقائق الأساسية التي ثبت أنها مقنعة للعلماء كلهم تقريبا من مختلف الاتجاهات : القصة غير موجودة في أقدم وأفضل مخطوطاتنا لإنجيل يوحنا (18) ؛ أسلوب الكتابة المستخدم فيها أصعب كثيرًا من ذلك الذي نجده في بقية إنجيل يوحنا (بما في ذلك القصص التي قبلها والتي بعدها مباشرة)؛كما تتضمن عددا كبيرا من الكلمات والجمل التي هي بطريقة أخرى غريبة عن الإنجيل . والنتيجة التي لا مفر منها : هذه الفقرة لم تكن جزءًا أصيلا من الإنجيل .

فكيف حدث أن أضيفت هذه القصة إذن ؟ هناك العديد من النظريات حول هذا الأمر . معظم العلماء يعتقدون أنه من المحتمل أنها كانت قصة معروفة ومتداولة في التقليد الشفوي حول يسوع ،وأنها أضيفت في لحظة ما إلى هامش إحدى المخطوطات . ومن هناك اعتقد بعض النساخ أو غيرهم أن الملاحظة الموجودة في الهامش يقصد منها أن تكون جزءا من النص ولذلك أدخلوها مباشرة بعد القصة التي تنتهي عند يوحنا 7 : 52 . من الجدير بالملاحظة أن نساخا آخرين أدخلوا القصة في مواضع مختلفة في العهد الجديد ـ بعضهم بعد يوحنا 21 : 25 ،على سبيل المثال،والآخرون ،وهو أمر في غاية الطرافة ،بعد لوقا 21 : 38 . على أية حال ، أيّا كان كاتب القصة ، إلا أنه لم يكن يوحنا بالتأكيد.

لو لم تكن هذه القصة جزءا من يوحنا في الأصل،فهل كان من المفترض أن تكون جزءا الكتاب المقدس؟ لن يجيب كل إنسان على هذا السؤال بالطريقة ذاتها ،لكن بالنسبة لغالبية النقاد النصيين ، الإجابة هي لا .

الاثنا عشرة عددًا الأخيرة من مرقس


المثال الثاني الذي سنناقشه ربما لا يكون مألوفا لدى القارئ المتقطع للكتاب المقدس، لكنه كان ذا أثر عظيم الشأن في تاريخ التفسير الكتابي (biblical) ويفرض مشكلات على الدرجة نفسها على علماء التقليد النصي للعهد الجديد. إن هذا المثال مأخوذ من إنجيل مرقس و يتعلق بخاتمته.

في الرواية المرقسية ، يقال لنا إن يسوع يصلب و يدفن بمعرفة يوسف الأريماتي في اليوم السابق للسبت (15 : 42 – 47 ). في اليوم التالي للسبت ،عادت مريم المجدلية و نساء أخريات إلى القبر ربما لكي يدهنَّ الجسد (16 : 1- 2 ). عندما يصلن ، يجدن أن الحجر قد تم تحريكه بعيدا . ولدى دخولهن إلى القبر ، يرين شابا في ثوب أبيض ، يخبرهن أن،" لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. " ثم يأمر النساء أن يخبرن التلاميذ أن يسوع قد سبقهم إلى الجليل و أنهم سيرونه هناك ،" هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ " لكن النساء يهربن من القبر ولا يقلن أي شئ لأي شخص ،" لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ "(16 : 4-8 ).

ثم تأتي الأعداد الاثنا عشر الأخيرة في مرقس الموجودة في كثير من الترجمات الإنجليزية المعاصرة ، وهي الأعداد التي تواصل الحكاية. يسوع نفسه يقال عنه إنه ظهر لمريم المجدلية ، التي ذهبت و أخبرت التلاميذ ؛ لكنهم لم يصدقوها( ألعداد 9 – 11). فيظهر بعد ذلك إلى اثنين آخرين (الأعداد 12-14 )، وفي النهاية للأحد عشر تلميذا (الاثنا عشر باستثناء يهوذا الإسخريوطي) الذين اجتمعوا معا على المائدة . يوبخهم يسوع على عدم إيمانهم ،ثم يكلفهم بالخروج و أن يكرزوا بإنجيله " لكل الخليقة". من يؤمن ويعتمد " يخلُص"، ومن لا يؤمن "يُدن". ثم يأتي اثنان من أكثر الأعداد إثارة للجدل في الفقرة :

وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ.يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ. (الأعداد 17 – 18 )

يُرْفَع يسوع إلى السماء ، ويجلس على يمين الله . وأما التلاميذ فيخرجون إلى العالم مكرزين بالإنجيل ،و كلامهم يشهد على صحته ما يرافقه من آيات (الأعداد 19 – 20 ).

إنها فقرة رهيبة ،غامضة ،مثيرة للمشاعر ،و قوية . إنها واحدة من الفقرات التي يستخدمها المسيحيون الخمسينيون لإظهار أن أتباع يسوع سيكونون قادرين على التكلم ب"ألسنة" غير معروفة لهم ، كما يحدث ذلك في أثناء طقوس العبادة عندهم ؛ وهي الفقرة الرئيسية التي تستخدمها مجموعات "مدربي الثعابين الأبالاتشيين " (Appalachian snake-handlers) الذين حتى اليوم يمسكون بالثعابين السامة في أيديهم لكي يظهروا إيمانهم بكلمات يسوع بأنهم عندما يفعلون ذلك لن يصيبهم أي أذى. لكن ثمة مشكلة واحدة . مرة أخرى ، هذه الفقرة ليست جزءا أصيلا في إنجيل مرقس . فلقد أضافها أحد النساخ المتأخرون . هذه المشكلة النصية بطريقة ما هي أكثر إثارة للجدل من الفقرة التي تتحدث عن المرأة الزانية ، لأن مرقس بدون هذه الأعداد الختامية سيكون له خاتمة شديدة التناقض و يصعب فهمها .

هذا لا يعني ،كما سنرى بعد لحظات، أن العلماء يميلون لقبول هذه الأعداد . أسباب اعتبارها إضافة هي أسباب قوية ، وتقريبا لا يمكن الجدال بشأنها . لكنَّ العلماء يتجادلون حول ما كانت عليه بالفعل النهاية الأصلية لإنجيل مرقس ، مع التسليم بأن هذه الخاتمة ،الموجودة في كثير من الترجمات الإنجليزية (على الرغم من أنها توسم عادة بأنها غير موثوقة )و في بعض المخطوطات اليونانية الأحدث ،غير أصلية . الدليل على أن هذه الأعداد لم تكن أصلية في إنجيل مرقس مشابه نوعيًا لذلك الخاص بالفقرة التي تتحدث عن المرأة الزانية ،ومرة أخرى لست بحاجة إلى الدخول في التفاصيل هنا .هذه الأعداد مفقودة في أقدم وأفضل مخطوطاتنا التي تخص إنجيل مرقس ، إلى جانب شواهد أخرى هامة ؛ فمثلا أسلوب الكتابة فيها يختلف عن ما نجده في أي مكان آخر في مرقس ؛ التحول أو النقلة بين هذه الفقرة و الأخرى التي تسبقها يصعب فهمه( مريم المجدلية ، مثلا ، يتم التعريف بها في العدد 9 كما لو كانت لم تذكر من قبل ، على الرغم من أنها تم التحدث عنها في الأعداد السابقة ؛ هناك مشكلة أخرى مع اللغة اليونانية يجعل حتى هذا التحول أكثر صعوبة )؛ وهناك عدد كبير من الكلمات والجمل في الفقرة ليس لها وجود في أي مكان آخر في مرقس. باختصار ، الدليل كاف لإقناع كل علماء النص تقريبا أن هذه الأعداد تمثل إضافة إلى إنجيل مرقس. في غياب هذه الأعداد ،مع ذلك ،تنتهي القصة بشكل مفاجئ للغاية . انتبه لما سيحدث عندما تحذف هذه الأعداد .يقال للمرأة أن تخبر التلاميذ أن يسوع سيسبقهم إلى الجليل و سيلتقيهم هناك ؛ لكنهن ،أي النساء ، يهربن من القبر و لا يقلن أي شئ لأي شخص " لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ ". وهنا ينتهي الإنجيل . من الواضح أن النساخ اعتقدوا أن الخاتمة كانت مفاجئة للغاية . هل النساء لم يخبرن أحدًا ؟ إذن ،هل التلاميذ لم يعرفوا على الإطلاق بحدوث القيامة ؟ وهل يسوع نفسه لم يظهر لهم أبدا ؟ يالها من خاتمة! لحل هذه المشكلة ، أضاف النساخ خاتمة من عندهم (19) .

"بعض العلماء يتفقون مع النساخ حول الاعتقاد بأن العدد 16 : 8 هو نهاية تم بترها بشكل مفاجئ جدا يتجاوز الحد المعقول بالنسبة لخاتمة إنجيل. و لا يعني هذا ،كما أشرت من قبل ، أن هؤلاء العلماء يؤمنون بأن الأعداد الاثنا عشر الأخيرة الموجودة في مخطوطاتنا الحديثة نسبيا تمثل النهاية الأصلية ـ هم يعلمون أن هذا ليس صحيحا ـ لكنهم يعتقدون أن الصفحة الأخيرة من مرقس ، التي يلتقي فيها يسوع فعليا تلاميذه في الجليل ، من المحتمل ، أن تكون قد فُقِدَت بطريقة ما، ويعتقدون أن كل نسخنا من الإنجيل تعود لتلك المخطوطة المبتورة بدون صفحتها الأخيرة . هذا التفسير جائز تماما .ومن الجائز أيضًا ،في رأي علماء آخرين ،أن مرقس لم يكن يقصد حقا أن ينهي إنجيله بالعدد 16 : 8 (20) . فهي بالتأكيد نهاية مروعة . فالتلاميذ لم يعلموا أبدا حقيقة قيامة يسوع لأن النساء لم يخبرنهم بذلك على الإطلاق . بقي سبب وحيد فقط يدفعنا للتفكير بأن هذه ربما تكون الطريقة التي اختارها مرقس لينهي بها إنجيله :ألا وهو أن مثل هذه النهاية تتوافق جيدا مع دوافع أخرى في كل مكان من إنجيله .فكما لاحظ دارسوا إنجيل مرقس طويلا ، لم يبدُ التلاميذ أبدا " أذكياء" في هذا الإنجيل (بخلاف بعض الأناجيل الأخرى). فالإنجيل يقول عنهم مرارا وتكرارا أنهم لم يفهموا يسوع (6 : 51 – 52 ؛ 8 : 21 )، وعندما يقول لهم يسوع في مناسبات عديدة أنه ينبغي أن يتألم ويموت ، يفشلون بوضوح في فهم كلماته (8: 31 – 33 ؛9 : 30 – 32 ؛10 : 33- 40 ). ربما ،في واقع الأمر ، لم يكن بإمكانهم على الإطلاق أن يفهموا( بخلاف قرّاء إنجيل مرقس ، الذين يستطيعون أن يفهموا من هو المسيح في الواقع من أول الأمر ). أيضًا ، من الطريف أن نلاحظ أنه في كل موضع من إنجيل مرقس ، عندما يتمكن شخص ما من فهم شئ ما عن المسيح ،يأمر يسوع هذا الشخص بالسكوت ـ إلا أن الشخص كثيرا ما يتجاهل الأمر ويذيع الخبر ( انظر مثلا 1 : 43 – 45 ). فياله من أمر مثير للسخرية أنه عندما يقال للنساء عند القبر أن لا يصمتن بل يتكلمن ، فإذ بهن يتجاهلن الأمر أيضًا ـ ويصمتن !

باختصار ، ربما كان مرقس قد تعمد أن يوقف قارئه مندهشا أمام هذه النهاية المبتورة ـ وهي طريقة ذكية لجعل القارئ يتوقف ، ويأخذ نفسا متقطعا و يسأل : ما هذا ؟




الخاتمة

الفقرات التي ناقشناها فيما سبق تغطي موضعين فقط من بين آلاف المواضع التي تعرضت فيها مخطوطات العهد الجديد للتغيير على يد النساخ . في المثالين كليهما ، نحن نتعامل مع إضافات أحدثها النساخ في النص ، أضافات ضخمة العدد . ومع أن معظم التغييرات لم تكن بهذه الجسامة ، إلا أنه ثمة كثير من التغييرات الهامة (وكثير جدا من التغييرات غير الهامة ) في مخطوطات العهد الجديد الموجودة لدينا . في الفصول التالية سنرغب في رؤية كيف بدأ العلماء في اكتشاف هذه التغييرات وكيف طوروا مناهج لفهم ما كان عليه الشكل الأقدم من النص ( أو النص " الأصلي ") ؛ سنكون حريصين بشكل خاص على رؤية المزيد من الأمثلة عن المكان الذي تعرضت فيه هذه النصوص للتغيير ـ وكيف أثرت هذه التغييرات على ترجماتنا الإنجليزية للكتاب المقدس . أودّ أن أنهي هذا الفصل بملاحظة بسيطة عن أمر مثير للسخرية الشديدة يبدو أننا اكتشفناه . كما رأينا في الفصل 1 ، كانت المسيحية منذ البداية ديانة كتابية أكدت على بعض النصوص باعتبارها الكتاب المقدس الرسمي . وكما رأينا في هذا الفصل ، رغم ذلك ، نحن لا نملك في الواقع هذه النصوص الرسمية . إن الديانة المسيحية هي ديانة توجهها النصوص وهذه النصوص قد تعرضت للتحريف ، وما بقي فقط ،في شكل نسخ، يختلف من واحدة لأخرى ، وفي كثير من الأحيان يكون الاختلاف في أمور شديدة الأهمية . إن مهمة الناقد النصي هي محاولة استعادة الشكل الأقدم من هذه النصوص . هذه المهمة واضح أنها شديدة الأهمية ، حيث إننا لا يمكن أن نفسر الكلمات الواردة في العهد الجديد لو لم نكن نعرف الشكل الذي كانت عليه الكلمات . فوق ذلك ، كما آمل أن يكون واضحا الآن ، معرفة هذه الكلمات هي أمر مهم ليس فقط من أجل هؤلاء الذين يعتقدون أن هذه الكلمات موحاة من الله . بل هي مهمة من أجل أي شخص يعتقد أن العهد الجديد كتاب هام . وبالتأكيد كل شخص مهتم بالتاريخ ، والمجتمع و بثقافة الحضارة الغربية يعتقد ذلك ، لأن العهد الجديد ،إن لم يكن أكثر من ذلك ، هو منتج ثقافي ضخم ، وكتاب يوقِّره الملايين ويمثل الأساس لأكبر الديانات في عالم اليوم ."


يتبع ..

  رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012 ~ 11:28 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 10
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


هوامـــش الفصل الثاني
(1) لمزيد من النقاش ، انظر كتاب هاري واي. جامبل " كتب وقراء في الكنيسة المبكرة: تاريخ النصوص المسيحية (نيو هافن : مطبعة جامعة يال ،1995 )، الفصل 3.
(2) " مقالات أخلاقية "(Moral essays ) لسينيكا ،تحرير وترجمة جون و. باسور (John .w Basore ) (مكتبة لويب الكلاسيكية ؛ لندن :هاينمان ،1925 )، ص 221 .
(3) مارشال : الإبيجرامات ، تحرير وترجمة والتر .سي . إيه. كر (مكتبة لويب الكلاسيكية ؛ كمبريدج : مطبعة جامعة هارفارد ،1968 )،1 :115 .
(4) للاطلاع على نقاش واسع انظر كتاب "حراس الحروف " لهاينز أيتزن".
(5) استعرت هذا المثال من بروس .م .ميتزجر . انظر كتاب "نص العهد الجديد: نقله و ضياعه و استعادته " لبروس ميتزجر وبارت إرمان ، الطبعة ال4 (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد ،2005 )، 22 – 23 .
(6) هذا ما صرح به في القائمة الموراتورية الشهيرة ، أقدم قائمة من الكتب المقبولة باعتبارها "قانونية" بمعرفة مؤلفها المجهول . انظر "الديانات المسيحية المفقودة " لبارت إرمان ،240 – 243 .
(7) هذه واحدة من استنتاجات كيم هاينز الهامة في كتابه "حراس الحروف ".
(8) أقصد بقولي "ناسخ محترف" هؤلاء النساخ الذين كانوا مدربين بشكل خاص و/أو يحصلون على مقابل مادي نظير قيامهم بنسخ النصوص كجزء من وظيفتهم . في فترة متأخرة ، كان الرهبان في الأديرة بصورة نمطية مدربين ، لكنهم لم يكونوا يحصلون على مقابل مادي؛ وربما يشملهم تعريفي بين طبقات النساخ المحترفين .
(9) تفسير متى 15 .14 ، كما يقتبسه بروس ميتزجر في كتابه " إشارات واضحة في أعمال أوريجانوس إلى القراءات المتباينة في مخطوطات العهد الجديد" في الدراسات الكتابية والآبائية في ذكرى روبرت بيرس كاسي ، بتحرير ج. نيفيل بيردسال و روبرت .و.تومسون (فرايبرج :هيردر،1968 )،78 – 79 .
(10) ضد سيلزس 2 . 27 .
© نوع من النبات يرمز به إلى الأتباع الزائفين كما في متى 13 : 25 – 30 .
(11) انظر كتاب بارت .د إرمان " التخريب الأرثوذكسي للكتاب المقدس : آثار النزاعات المبكرة حول طبيعة المسيح على نص العهد الجديد (نيو يورك : مطبعة جامعة أكسفورد ،1993 )
(12) أوريجانوس "حول المبادئ الأولى "(On Frist principles ) مقدمة روفينوس ؛كما اقتبسها جامبل في كتابه " كتب وقراء" ص 124 .
(13) انظر هامش رقم 8 في الأعلى .
(14) لملاحظات أخرى أضيفت إلى المخطوطات بمعرفة نساخ منهكين أو شاعرين بالملل ، انظر الأمثلة التي ساقها ميتزجر وإرمان في " نص العهد الجديد" الفصل 1 ، القسم الثالث .
(15) في مناسبة واحدة فحسب عرف واحد من أميني سر النسخ لدى بولس نفسه ؛ كان شخص يسمى تيرتيوس ، أملى عليه بولس رسالته إلى أهل رومية ، انظر رومية 16 : 22 .
(16) انظر ،على وجه الخصوص ، كتاب "السكرتاريا في رسائل بولس (the Secretary in the Letters of Paul) " لـ إي.راندولف ريتشاردز (توبنجن :مور/سيبيك ، 1991 ).
(17) حتى العهد الجديد يشير غإلى أن كتبة الإنجيل طان لديهم "مصادر " لقصصهم . في لوقا 1 : 1- 4 ،على سبيل المثال ،يصرح المؤلف أن "كثيرين" من السابقين كانوا قد كتبوا قصة حول الأمور التي قالها يسوع وفعلها ،وأنه ، بعد قراءته لكتاباتهم ومشاورته "لشهود وخدام الكلمة "، قرر أن يكتب قصته الخاصة ، وهي القصة التي كما يقول هو ،خلافا للآخرين ،"أكثر دقة ". أو بكلمات أخرى ، كان لدى لوقا مصدرا الأحداث التي حكاها كلاهما المكتوب منهما والشفوي ـ فهو نفسه لم يكن شاهدا على حياة يسوع الأرضية . والأمر نفسه يبدو متطابقا مع كُتَّاب الأناجيل الآخرين كذلك . بخصوص مصادر إنجيل يوحنا ،انظر كتاب إرمان "العهد الجديد " 164 – 167.
(18) سنرى فيما بعد كيف أن بعض المخطوطات يمكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من الآخرين .
(18) سنرى فيما بعد كيف أن بعض المخطوطات يمكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من الآخرين .
(19) في الواقع ، كان هناك نهايات مختلفة أضيفت بمعرفة نساخ مختلفين ـ ليس فقط الاثنا عشر عددا المألوفة لقراء الكتاب المقدس الإنجليزي . للاطلاع على كل النهايات ، انظر كتاب بروس ميتزجر " تفسير نصي حول العهد الجديد اليوناني " الطبعة الثانية . (نيويورك : جمعية الكتاب المقدس الموحد ،1994 )، 102 ـ 106 .
(20) انظر كتاب إرمان " العهد الجديد " الفصل 5 ،خصوصا الصفحات 79 – 80 .

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الكتاب المقدس ، الإنجيل


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
صفات الرب في الكتاب المقدس للدكتور منقذ السقار نور الإسلام لاهوتيات 0 09-04-2013 07:31 AM
تحريف الكتاب المقدس نور الإسلام لاهوتيات 0 06-08-2012 11:54 AM
مخطوطات قمران تشهد على تحريف الكتاب المقدس (سفر صموئيل) متى المسكين لاهوتيات 0 05-02-2012 07:12 AM
تحريف الكتاب المقدس جـ2 اعتراف علماء المسيحية بالتحريف مزون الطيب هدي الإسلام 0 18-01-2012 12:01 PM
تحريف الكتاب المقدس ج4 نهاية إنجيل مرقس مزون الطيب هدي الإسلام 0 18-01-2012 12:00 PM


الساعة الآن 05:54 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22