صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > إسلاميات > هدي الإسلام

هدي الإسلام معلومات ومواضيع إسلامية مفيدة

الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية

يعتبر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صاحب مقام راق في الأخلاق والآداب، فقد شهد له قبل الأصدقاء الأعداء، بل إن رب العالمين قد امتدحه في سورة القلم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-11-2013 ~ 03:33 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012



يعتبر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صاحب مقام راق في الأخلاق والآداب، فقد شهد له قبل الأصدقاء الأعداء، بل إن رب العالمين قد امتدحه في سورة القلم بقولـه: { وإنك لعلى خلق عظيم }.(1)
يقول الخازن في تفسيره مبينا علاقة هذه الآية بما قبلها: ( وهذا التفسير لقولـه { ما أنت بنعمة ربك بمجنون }؛ لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه، ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه. ولما كانت أخلاق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كاملة حميدة، وأفعاله المرضية الجميلة وافرة، وصفها الله تعالى بأنها عظيمة وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة، والآداب المرضية، فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه، و ويدخل في حسن الخلق التحرّز من الشح، والبخل، والتشديد في المعاملات. ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول، والفعل، والبذل، وحسن الأدب، والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب، والتساهل في جميع الأمور والتسامح بما يلزم من الحقوق، وترك التقاطع والتهاجر واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى، مع طلاقة الوجه، وإدامة البشر. فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق، ومكارم الأفعال. ولقد كان جميع ذلك في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ولهذا وصفه الله تعالى بقولـه: { وإنك لعلى خلق عظيم }. قال ابن عباس: معناه على دين عظيم لا دين أحب إلي، ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام. وقال الحسن هو آداب القرآن. سئلت عائشة ( رضي الله عنها ) عن خلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت: ( كان خلقه القرآن ). وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أوامر الله، وينتهي عنه من مناهي الله تعالى، والمعنى وإنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن. وقيل سمّى الله خلقه عظيما؛ لأنه امتثل تأديب الله إيّاه بقولـه خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، والله سبحانه وتعالى أعلم ).(2)
إن الأخلاق الحميدة التي امتاز بها سلوك النبي محمد( صلى الله عليه وسلم ) كداعية إلى خاتم الأديان السماوية كانت متأصّلة في ذاته قبل أن يتخذها ويطوّعها لخدمة الدعوة إلى دين الإسلام. إذ كيف يكون نبي يدعو إلى رحمة الله، وما أرسله الله إلا رحمة للعالمين، وتكون حياته ممتزجة بهذا الخلق العظيم، ثم نستبعد بعد ذلك ممارسته لخلق الرحمة كجزء من حياته، وكوسيلة من وسائل دعوته.
إن خلق الرحمة في شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خلق قد انبثقت منه معظم الأخلاق بعد ذلك، فهو لم يعفو إلا لأنه رحيم، ولم يكن حليما إلا لأنه رحيم لم تجبل نفسه على القسوة، ولم يكن متواضعا إلا لأن الكبر يولّد في القلب القسوة وهكذا. فجميع الأخلاق المحمدية التي تشكّلت في المنظومة قد انبثقت من خلق الرحمة الذي امتاز به الرسـول ( صلى الله عليه وسلم ) في شخصيّته وتركيبته، كما أنه استطاع وبحصافة منقطعة النظير أن يوظّف هذا الخلق الحميد كسبيل لنشر دعوته التي بعثه الله بها.
وحتى يتم استعراض ما يعكس لنا مكانة الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية، فإن الحديث لا بد أن يكون في هذا الباب حول عدد من المحاور التي ستكون على النحو التالي.
ففي الفصل الأول من هذا الباب يكون التناول حتى نقرّب الرؤية لما سنسهب الحديث حولـه في هذه الدراسة استعراض لمنظومة الخلق المحمدي، والتي دلّل عليها قول الله تعــالى: { وإنك لعلى خلق عظيم }.(3)، كما سنتناول ما تقوم عليه فلسفة الخلاق، وكيف انعكست هذه الأخلاق على واقع الحقيقة المحمدية.
أما الفصل الثاني من هذا الباب فسيكون تسليط الضوء فيه على مفهوم الرحمة المحمدية، ودلائلها كما وردت في آيات القرآن الكريم، والسيرة النبوية العطرة.
ولعل الخروج بفضل الله بعد هذا الاستعراض التمهيدي لمنظومة الأخلاق المحمدية، وكيفية تمثل الرحمة في الذات النبوية ودلائلها تتضح الرؤية لما تقوم عليه المنهجية الأخلاقية المحمدية على وجه العموم، وفي خلق الرحمة بشكل خاص.



المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
قديم 02-11-2013 ~ 03:34 PM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي
  مشاركة رقم 2
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


مظاهر الرحمة للبشر في شخصية محمد
(صلى الله عليه وسلم)
مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية
إعداد
أحمد مبارك سالم

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعين به، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، الذي أرسله الله سبحانه وتعالى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فأدى الأمانة أحسن الأداء، واستوعب برحمته سائر العالمين، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى سنته إلى يوم الدين.
تأتي الأعمال التي تستوعب جوانب من حياة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قمة الأعمال الصالحة التي ينال بها العبد الثواب. ومما لا شك فيه أن الأمر متعين على كل مسلم في الدفاع عن خاتم المرسلين، والذب عنه بمختلف الأسلحة، ويأتي على رأس هذه الأسلحة سلاح القلم الذي يبرز حقائق النبوة المحمدية ويحللها تحليلا يدحض من خلاله مختلف المفتريات التي تسول للمجانين ومختلي العقول أنفسهم لإبرازها للانحراف بالناس عن جادّة الصواب.
يأتي على رأس هذه الاتهامات اتهام النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالإرهاب والإضرار بالمصالح البشرية، ويستندون في ذلك إلى أفعال شرذمة قليلون يعيثون في الأرض فسادا، ويروّعون الآمنين، ويفسدون في الأرض، وينتسبون ويعلنون بعد ذلك نسبة مثل هذه الأفعال إلى الإسلام ولقدوة المسلمين محمد ( صلى الله عليه وسلم ). وهنا يأتي الدور لمن يتصيدون في الماء العكر، ويكيدون بالإسلام وبرموزه، وصفحات التاريخ تشهد على جرائمهم في حق الافتراء على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فتجدهم وبكل بجاحة يكيلون الإسلام ورموزه بالاتهامات الباطلة، والتي هي في الأصل مندحضة بذاتها، ولم يقتصر الدور على دحضها من خلال قنوات الفكر الإسلامي، بل كان للمنصفين والمتعقلين وأصحاب النظرة الموضوعية في الغرب الدور الكبير في دحض هذه الافتراءات وإبطالها.
تأتي هذه الدراسة لتشكل إضافة لما كتب حول الذات المحمدية الشريفة، والتي فيها استعراض لمظاهر الرحمة للبشر كما عكسها التكوين المحمدي فيما انعكست عنه من تصرفات ومواقف تقرر مدى الحيز الكبير الذي تربعت فيه الرحمة في قلب النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
إن ما تسعى إليه هذه الدراسة هو التأكيد على معــنى مفهوم الرحمة كما تمثلت من خلال تصرفات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأقواله وتقريراته، فالرحمة المحمدية هي الأساس الذي ارتكزت عليه الوظيفة المكلف بها النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، فهي منبع لجميل الأخلاق التي اتخذها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهجا لدعوته.
إن هناك ثمة ضعف في الإلمام بمنابع الرحمة المحمدية ومكانتها وتفرعاتها ، وأن واقعها متوازن مع ما تقضيه العدالة من متطلبات، وكيف كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتقن التعامل مع الواقع بحرفنة متقنة.
إن ما ستتضمنه هذه الدراسة يصب في ما استعرض في مؤلفات أخرى من تناول للشمائل المحمدية ولكن في قالب آخر، والتي فيها تناول مفصّل لأرقى الشمائل المحمدية وأبرزها بل وأهمها من حيث المكانة.
تأتي أهمية هذه الدراسة في ظل الوضع الراهن، حيث يتجدد التعرض لشخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وتلقى إليه الاتهامات الباطلة دون وجه حق. ويقع دور كبير على مفكري الإسلام، وكل من لهم قلم وقّاد في الذب والدفاع عن أبرز رموز الإسلام، والذي لـه الفضل الأكبر بعد الله فيما يعيشه من يدين بدين الإسلام.
كما تتمثل أهميته ما أبرز في هذه الدراسة من تناول لمختلف الأبعاد والتصورات حول مفهوم الرحمة المحمدية، وكيف انعكست على واقع التصرفات والمواقف التي مارسها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أرض الواقع.
لم أجد من خلال اطلاعي على ما كتب في موضوع الرحمة المحمدية مؤلفا مستقلا يفرد الكلام حولها، وما كتب لا يعدو كونه جزءا من تناول للشخصية المحمدية وصفاتها وشمائلها. إلا أن ما أبرزه الكتاب في ذلك يقرر كون الرحمة التي تمثلت في شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما هي إلا معجزة قد اختص بها الله سبحانه وتعالى نبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على نحو ملفت للنظر؛ وذلك باعتبار أنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين.

تهدف الدراسة التي تتناول أهم جانب يميّز شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وواقع حياته إلى إبراز هذا الجانب الذي انعكس على واقع حياته وتصرفاته ومواقفه؛ وذلك من أجل العمل على صياغة عرض تحليلي لكل أبعاد الرحمة المحمدية، والعمل على سبر أغوار التركيبة لإخراج اللآلئ المكنونة في داخل الذات وإبرازها سواء لمن يجهلها أو لمن تسوّل له نفسه إنكارها باستقراء خاطئ وغير موضوعي وتحركه النفس الأماّرة بالسوء بالتعرض لشخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولحقيقة سيرته الشريفة العطرة.
وقد كان الاعتماد في هذه الدراسة على بعض الكتب التي استقيت منها المعلومة، والتي منها ما كان الاعتماد عليه على النحو المعتاد، وذلك بأخذ بعض المواقف التي عكستها السيرة العطرة، وذلك ككتاب ( أولو العزم من الرسل ) لعمر أحمد عمر.
كما كان من أبرز الكتاب التحليلية، والتي تناولت الفلسفة التي أقام عليها الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، كتاب ( الإسلام ومنطق القوة ) لمحمد حسين فضل الله، والذي عكس تحليلا للتوازن الذي انتهجه النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ابتغاء سعيه نحو التغيير الحضاري، والذي ارتكز إلى الاستناد على أساس الرفق في سبيل تحقيق ذلك، وجعل العنف استثناء ضيّقا لا يلجأ إليه إلا في الضرورات القصوى والملحّة.
كما كان من أهم المصادر التي عززت من خلالها تحليلي لمفهوم الرحمة المحمدية ومظاهرها التي انعكست على البشر كتاب ( قالوا عن الإسلام ) لعماد الدين خليل، والذي طرحت مقتطفات منه في آخر هذه الدراسة، وهي عبارة عن جملة مما أبرزه عدد من المستشرقين والغربيين حول تحليلهم ونظرتهم بموضوعيه تجاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشخصيته ومواقفه. وخاصة تلك التحليلات التي عكست إبرازا للتوازن بين مفهومي الرحمة والعدالة كما عكستهما الشخصية المحمدية الفذّة.
لقد تم تقسيم هذه الدراسة إلى بابين، جاء الأول منهما من أجل تحقيق مكانة الرحمة بين الأخلاق المحمدية، وكيف أنها كانت أم الأخلاق ومنبعها، حيث تم تناول منظومة الخلق المحمدي كما قررته الآية الكريمة التي امتدح الله فيها رسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم )، ووصفه بأنه على خلق عظيــم.
كما تم التطرق في هذا الباب لفلسفة الأخلاق في الإسلام، وكيف أنها لا تشكل ركنا من أركانه، بل إنها تغلّف مختلف المأمورات الشرعية بغلاف يبرز حقيقة هذه المأمورات وفلسفتها المتمثلة بالارتقاء بالإنسان خلقيا في أرقى المنازل وأعلاها، ومرجعنا في ذلك من دون شك، وحتى نجني الأخلاق كما تمثلت على أرض الواقع في حلّة جميلة ما تمثلت به هذه الأخلاق في واقع الحقيقة المحمدية.
وبعد هذا التمهيد الذي تم توضيح الأخلاق كما هي في التصور الإسلامي، وكما كان انعكاسها على تصرفات ومواقف وأقوال وتقريرات النبي محــمد ( صلى الله عليه وسلم ). جاء التناول لعكس مفهوم الرحمة المحمدية، وما أثبتتها من دلائل وحجج تعكس مدى الإفعام للحياة الكريمة للنبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، ومدى التشبّع بهذا الخلق، والذي انعكست به حياة المصطفى في مختلف محطاتها.
أما الباب الثاني فبعد أن توضيح منظومة الأخلاق المحمدية، وكيف تشكلت وبرزت، وكيف كانت الرحمة منبعا لها، وما اشتملت عليه سيرة المصطفى من دلائل على ذلك، جاء الدور لتسليط الضوء على مظاهر هذه الرحمة المحمدية كما انعكست على البشر، سواء فيما تمثلت به من أقوال أو أفعال أو تقريرات.
إن لهذه الرحمة حقائق ينبغي أن تبرز على نحو يوضّح هذه المفهوم كما تمثل في شخصية الرسول الكريم، والتي انعكست كتصرفات شخصية كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يبرزها في تعاملاته مع أهله وأصحابه والأطفال وغيرهم.
أما الجانب الآخر لهذه المظاهر فهو ما عكسه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في واقع أداءه لوظيفته المتمثلة في دعوة الناس، وإنه وإن كان كلا الجانبين من رحمة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) تتمثل فيهما الدعوة والوظيفة الأساس. إلا أن الهدف من هذا التقسيم حتى أؤكد على أن الرحمة المحمدية لم تكن رحمة مصطنعة، بل كانت رحمة متأصلة في الذات قبل ذلك، ومعجزة من المعجزات، والتي استطاع المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) أن يوظفها تحقيقا لهدف رسالته ودعوته بعد ذلك.
إن هذه الرحمة تهدف وتقوم على تحقيق فلسفة تغيير حضاري راقية، والتي تدور بين الرفق حسب ما يقتضيه خلق الرحمة المتأصل في الذات، والموظّف في سبيل نشر الدين، والعنف حسب ما يقتضيه منطق العدالة الذي يفرض نفسه كحاجة تعامل حسب ما تقتضيه الفطرة التي فطر الله الناس عليه، وهي فطرة التدافع.
لقد كان استيعاب الرحمة الدعوية لواقع حياة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) استيعابا شاملا، فقد كانت منهجا للدعوة في وقت السلم ولا منهج غيرها. كما كانت تتأتى في منطق البطش والحرب، وذلك تأكيدا لما تهدف إليه المنهجية الإسلامية من هذا المنطق، والمتمثل بالتعامل وعلى قدر الحاجة وفق ما تقتضيه فطرة الله في أرضه، وهي فطرة التدافع.
ومن خلال ما سبق يتقرر لنا بعلم اليقين مدى الأبعاد الإيجابية التي اتخذتها مظاهر الرحمة في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). ولكن من المؤكد أن مقام الخدمة لجناب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتطلب منا نحن أبناء الإسلام، وأتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم )، أو كما يسمينا الغربيون بالمحمديين تحقيق عين اليقين في ذلك، وقد التمست تحقيق هذا الهدف باستعراض جملة من عدد من الأصوات الغربية المنصفة والموضعية والمتعقلة حول حقيقة الرحمة المحمدية وأبعادها ومقتضياتها، ولعل في ذلك قد تحقق بعد اكتمال الصورة التي عرضناها لحقيقة الأخلاق المحمدية، ولمكانة الرحمة المحمدية بينها، ولمظاهرها وأنواعها إضافة تؤكد على أن هذه الصورة لنبي الله محمـد ( صلى الله عليه وسلم ) لم تكن بأعيننا كأتباع، بل كانت بأعين المخالفين الذين كانوا سلاحا فتاكا ضد كل من سوّلت له نفسه التعرض لشخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وذلك بما أملته عليهم مبادئهم التي تدعوهم إلى الإنصاف، وردع الآراء التي تفتقد إلى العقلانية الصرفة.
لقد بذلت في هذه الدراسة جهدا متواضعا أمام الجهود التي بذلت عبر التاريخ وما زالت تبذل من أجل الدفاع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وما أعتقد أن فيه إضافة حسب اطلاعي على ما كتب في هذا الموضوع هو تناول بصورة مغايرة، ونسأل الله أن تتحقق بها الفائدة والاهتداء إلى الحقيقة لكثير من العقول التي غابت عنها الحقيقة بسبب التضليل الذي يمارسه أهل الظلم، وأصحاب الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين.
إن المؤلفات التي كتبت في هذا الموضوع قليلة إلى حد ما، كما أني لم اطلع على أي دراسة تناولت الموضوع على نحو مسهب كما ذكرت سابقا، إلا أن توفيق الله قد أزال مختلف الصعوبات، وتيسّر الأمر لإخراج هذه الدراسة في هذه الحلّة الجميلة.
والشكر موصول لكل من تعاون معي من أجل إتمام هذه الدراسة وإخراج البحث في صورته النهائية، وقبل كل ذلك الحمد والشكر موصول إلى المولى عز وجل أن وفقني في أن أضيف ورقة دفاع للذب عن رسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
أسأل الله العلي القدير أن يكتب لي الأجر والمثوبة على هذا العمل المتواضع، كما أسأله أن يكون سلاحا فتاكا لدحر كل من تسوّل لـه نفسه النيل من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ومن مقامه الرفيع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن استن بهديه وسنته إلى يوم الدين.
أحمد مبارك سالم
التاريخ:11/ ذو القعدة/ 1427 هـ
الموافق: 2 / ديسمبر / 2006م


الباب الأول
الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية
الفصل الأول: منظومة الخلق المحمدي ( وإنك لعلى خلق عظيم ).

المبحث الأول: فلسفة الأخلاق في الإسلام.

المبحث الثاني: الأخلاق كما تمثلت في واقع الحقيقة المحمدية.

الفصل الثاني: مفهوم الرحمة المحمدية، ودلائلها.

المبحث الأول: مفهوم الرحمة المحمدية.

المبحث الثاني: دلائل الرحمة المحمدية.


الباب الأول
الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية
يعتبر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صاحب مقام راق في الأخلاق والآداب، فقد شهد له قبل الأصدقاء الأعداء، بل إن رب العالمين قد امتدحه في سورة القلم بقولـه: { وإنك لعلى خلق عظيم }.(1)
يقول الخازن في تفسيره مبينا علاقة هذه الآية بما قبلها: ( وهذا التفسير لقولـه { ما أنت بنعمة ربك بمجنون }؛ لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه، ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه. ولما كانت أخلاق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كاملة حميدة، وأفعاله المرضية الجميلة وافرة، وصفها الله تعالى بأنها عظيمة وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة، والآداب المرضية، فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه، و ويدخل في حسن الخلق التحرّز من الشح، والبخل، والتشديد في المعاملات. ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول، والفعل، والبذل، وحسن الأدب، والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب، والتساهل في جميع الأمور والتسامح بما يلزم من الحقوق، وترك التقاطع والتهاجر واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى، مع طلاقة الوجه، وإدامة البشر. فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق، ومكارم الأفعال. ولقد كان جميع ذلك في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ولهذا وصفه الله تعالى بقولـه: { وإنك لعلى خلق عظيم }. قال ابن عباس: معناه على دين عظيم لا دين أحب إلي، ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام. وقال الحسن هو آداب القرآن. سئلت عائشة ( رضي الله عنها ) عن خلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت: ( كان خلقه القرآن ). وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أوامر الله، وينتهي عنه من مناهي الله تعالى، والمعنى وإنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن. وقيل سمّى الله خلقه عظيما؛ لأنه امتثل تأديب الله إيّاه بقولـه خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، والله سبحانه وتعالى أعلم ).(2)
إن الأخلاق الحميدة التي امتاز بها سلوك النبي محمد( صلى الله عليه وسلم ) كداعية إلى خاتم الأديان السماوية كانت متأصّلة في ذاته قبل أن يتخذها ويطوّعها لخدمة الدعوة إلى دين الإسلام. إذ كيف يكون نبي يدعو إلى رحمة الله، وما أرسله الله إلا رحمة للعالمين، وتكون حياته ممتزجة بهذا الخلق العظيم، ثم نستبعد بعد ذلك ممارسته لخلق الرحمة كجزء من حياته، وكوسيلة من وسائل دعوته.
إن خلق الرحمة في شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خلق قد انبثقت منه معظم الأخلاق بعد ذلك، فهو لم يعفو إلا لأنه رحيم، ولم يكن حليما إلا لأنه رحيم لم تجبل نفسه على القسوة، ولم يكن متواضعا إلا لأن الكبر يولّد في القلب القسوة وهكذا. فجميع الأخلاق المحمدية التي تشكّلت في المنظومة قد انبثقت من خلق الرحمة الذي امتاز به الرسـول ( صلى الله عليه وسلم ) في شخصيّته وتركيبته، كما أنه استطاع وبحصافة منقطعة النظير أن يوظّف هذا الخلق الحميد كسبيل لنشر دعوته التي بعثه الله بها.
وحتى يتم استعراض ما يعكس لنا مكانة الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية، فإن الحديث لا بد أن يكون في هذا الباب حول عدد من المحاور التي ستكون على النحو التالي.
ففي الفصل الأول من هذا الباب يكون التناول حتى نقرّب الرؤية لما سنسهب الحديث حولـه في هذه الدراسة استعراض لمنظومة الخلق المحمدي، والتي دلّل عليها قول الله تعــالى: { وإنك لعلى خلق عظيم }.(3)، كما سنتناول ما تقوم عليه فلسفة الخلاق، وكيف انعكست هذه الأخلاق على واقع الحقيقة المحمدية.
أما الفصل الثاني من هذا الباب فسيكون تسليط الضوء فيه على مفهوم الرحمة المحمدية، ودلائلها كما وردت في آيات القرآن الكريم، والسيرة النبوية العطرة.
ولعل الخروج بفضل الله بعد هذا الاستعراض التمهيدي لمنظومة الأخلاق المحمدية، وكيفية تمثل الرحمة في الذات النبوية ودلائلها تتضح الرؤية لما تقوم عليه المنهجية الأخلاقية المحمدية على وجه العموم، وفي خلق الرحمة بشكل خاص.


الفصل الأول
منظومة الخلق المحمدي
{ وإنك لعلى خلق عظيم }
تعبّر شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن منظومة مكونة من مجموعة من الأخلاق تمثّلت في شخصيته، وتصرفاته، وأفعاله، وسلوكياته، وهو بذلك قد نال أعلى الدرجات بشهادة جميع من عاشره ممن وافقه أم لم يوافقه.
إن عظيم الأخلاق وطيّبها من مأمورات الدين الإسلامي، بل هي من فلسفته ومنهجه ، حيث تقوم جميع القربات على الفلسفة الأخلاقية، فما من عبادة أو معاملة إلا ويزيّنها كريم الأخلاق.
وحتى نقف على الجانب الأخلاقي في تعاليم الإسلام نحاول أن نسلّط الضوء من خلال هذه الدراسة على عدد من المحاور التي يمكن أن نخرج من خلال استعراضها برؤية حول منظومة الخلق الطيّب في المنهجية الإسلامية، وكيف انعكست هذه المنظومة بمكوناتها على الذات النبوية الشريفـة.
وقد تم تقسيم هذا الفصل إلى مبحثين، ففي المبحث الأول منه كان تناولا لتعريف بفلسفة الأخلاق في الإسلام، والتصوير القرآني للخلق العظيم، وطيب الأخلاق.
أما المبحث الثاني من هذا الفصل، فبعد أن استعرضنا الفلسفة التي تقوم عليها الدعوة إلى الأخلاق في المنهجية الإسلاميّة، وكيف صوّرها القرآن. نتناول في هذا المبحث ما تمثّلت به الأخلاق الكريمة في حياة وواقع تصرفات الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وما دلّ على ذلك من دلائل تقرر قمة الخلاق التي وصل إليها مقام المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ).
المبحث الأول
فلسفة الأخلاق في الإسلام

إن المبدأ الذي يقوّم المنهج الإسلامي عليه دعائمه يقوم في جملته وتفصيله على الأخلاق، فما من عبادة أو تصرّف أو سلوك إلا ويمتزج بروح الأخلاق الطاهرة.

إن الأخلاق الفاضلة التي دعا إليها الإسلام تعبّر عن السلوك الحضاري الذي يتمثّل في كل ما يسمو بالفرد ويرقى بالمجتمع: روحيا بالعبادة، وعقليا بالعلم، واقتصاديا بالعمل، وخلقيا بالفضيلة، وجسديا بالرياضة، واجتماعيا بالتعاون، وماديا بالعمارة.
أولا: التعريف بفلسفة الأخلاق في الإسلام.
تعبّر فلسفة الأخلاق في الإسلام عن التجسيد الذي تمثّلت به على الدوام في شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، والذي كان يبتغي منه أصلا تفعيل مجتمع مثالي راق يتوخى فيه المسلم مكارم الأخلاق ومعاليها، ويحذر من سفاسفها. يقول الرسول الكريم: ( إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها ).(4)
إن الفلسفة التي تقوم عليها مكارم الأخلاق كما كان يهدف إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تتمثل في أنها أقصر الطرق للدخول في قلوب الآخرين، وأقوى الأساليب لفتح القلوب المستعصية، ولرب موقف أخلاقي بسيط يستطيع أن يصنع ما يعجز عنه أي موقف آخر غير منبعث عن المشاعر الأخلاقية الإنسانية، وإن كان قويا وذا شأن.
ولا غرو أن نجد قادة الحضارات ورجالاتها البارزين، وكل من كانت لـه دعوة إنسانية أو متسترة بالإنسانية – عبر التاريخ – كان يجد في الملكات والنوازع الأخلاقية ساعدا أمينا، ودواء ناجعا لنشر دعوته، وبث أفكاره مهما كانت اتجاهاتها، ومهما اختلفت مشاربها.
إن الجوانب الأخلاقية، والملكات النفسية التي كان يتمتّع بها أعظم رجل أنجبته البشرية، وعرفه التاريخ ليس بالأمر الهيّن، وهو أمر يجب أن يوضع في الحسبان.(5)

ثانيا: التصوير القرآني للخلق العظيم.

يعد القرآن الكريم بصفته الكتاب المنزّل على النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو الكتاب الذي حكى الواقع الأخلاقي، والمنهج الأخلاقي في الإسلام، والذي تمثّل في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
إن القرآن الكريم هو أعظم شاهد على عظمة أخلاق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وهو الذي أشاد كثيرا بأخلاق صاحب الرسالة، واعتبرها صورة للمنهجية الأخلاقية الإسلامية التي تحدث عنها القرآن.
لقد كثرت الآيات التي تحدثت عن سجاياه الفاضلة، ولقد كانت هذه الآيات تجعل حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حية في قلوب المؤمنين الصادقين في الاتباع، وهم بذلك يحيون تعاليمه وأخلاقه ومنهجه حسب ما انعكس على واقع حياته، ومن هذه الآيات التي تحدثت عن المنهجية الأخلاقية في حياة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما يلي:
1. قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين }.(6)
فالآية القرآنية تحكي لنا جانب العفو، والرحمة، والرفق، واللين في حياة الرسول الأعظم، وما أكثر تلك المواقف في حياته.
لقد نزلت هذه الآية الكريمة بخصوص غزوة أحد بعد هزيمة المسلمين ووقوع المقتلة العظيمة فيهم، وذلك بعد عصيان أوامر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) العسكرية، وإخلائهم مواقعهم طمعا في الغنيمة، مما سبب استشهاد سبعين رجل منهم.
إن الآية تشيد بعظمة أخلاق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الذي لم يعنّف المسلمين على عصيانهم لأوامره أو لومهم بذلك.(7)
2. قال تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }.(8)
فهذه الآية الكريمة وصفت الرسـول ( صلى الله عليه وسلم ) بأوصاف تنم عن مدى تأثره واهتمامه بالمسلمين وشؤونهم وحرصه عليهم، وحين يصيب الواحد منهم بعض المشقّة والعنت، فإن ظلالا من الأسى والحزن يخيّم عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويعبّر الموقف عن مدى شفقته ورحمته بالمسلمين.(9)
3. قال تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم }.(10)
وهو أعظم ما وصف به المولى عز وجل رســول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ولا يداني هذا الوصف وصف من عند الله لرسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم ).
يقول القرطبي: ( ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبــي ( صلى الله عليه وسلم ) الحظ الأوفر، وسمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ).(11)
4. قال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }.(12)
فالمصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ما هو إلا رحمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم، والدليل عليه الجمع المحلّى باللام، وذلك مقتضى عموم الرسالة.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: ( كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدّق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغـرق ).
وروى العلامة الطبرسي عن ابن عباس أنه قال: ( رحمة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، فهو رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، ورحمة للكافر بأن عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والمسخ ).(13)
5. قال تعالى: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا }.(14)
والمعنى أنك ستهلك نفسك بإعراض المشركين عن الإسلام حزنا وأسفا، وهي تدل بوضوح على شفقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي عمّت حتى المشركين والمكذّبين برسالته، فهو يكاد يزهق نفسه الشريفة حزنا على ضلالة المشركين وعنادهم لرسالة الإسلام، ولجّهم في غيّهم، وبقاءهم على ضلالتهم.
قال الطبرسي: ( وهذه معاتبة من الله سبحانه وتعالى لرسوله على شدّة وجده، وكثرة حرصه على إيمان قومه حتى بلغ ذلك به مبلغا يقرّبه إلى الهلاك ).(15)
وليست هذه هي الآية الوحيدة التي تثبت شفقة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، بل هناك آيات أخرى تدلل على نفس معنى هذه الآية، ولعل ذلك يقرر مدى الرقة، والشفقة، والرحمة في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كصفة بارزة، وكخلق شامخ من أخلاقه الحميدة.
يقول المولى عز وجل تدليلا على ذلك: { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى }.(16)، ويقول كذلك: { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }.(17)
وتقرر الآية السابقة أن رسول الله ( صلى الله عليه وســلم ) كان شديد التأثّر والتأسّف والحزن على كفر المشركين، وكان يتمنّى دائما أن يهتدي هؤلاء إلى الإسلام، وينجوا بذلك من العذاب الخالد في النار، فجاءت الآية لتنهاه أيضا عن فرط تأسّفه الكبير لذلك، وأن لا يحمّل نفسه الشريفة عناء هذا الحزن والأسف.(18)
6. قال تعالى: { ولا تبسط يدك كل البسط فتقعد ملوما محسورا }.(19)
يذكر الخازن في تفسيره أن سبب نزول هذه الآية كما يروي جابر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه صبي فقال: ( يا رسول الله إن أمي تكتسيك درعا، ولم يكن لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا قميصه فقال للصبي: من ساعة لساعة يظهر كذا، فعد إلينا وقتا آخر، فعاد إلى أمه فقالت: قل لـه إن أمي تكتسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا، فأذّن بلال بالصلاة وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ).(20)
فهذه الآية تدل على ثلاث من الصفات الكريمة في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ):
· الكرم: حيث خلع قميصه الذي يرتديه في بدنه وأعطاه للسائل ضاربا بذلك أروع الأمثلة بالجود والكرم.
· الحياء: فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد استحيا من الغلام حين طلب منه القميص الوحيد الذي يملكه، ولم يرده خائبا مع حاجته إلى القميص.
· الزهد: فمن هذه الآية يبدو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن لـه قميص غيره، حيث أدى ذلك إلى بقاءه في المنزل حين الصلاة، وعدم ذهابه إلى المسجد لأنه كان عاريا عن القميص لا يملك غيره ليلبسه. كل ذلك فضلا عن كونه نبيا فهو قائد لدولة كبيرة يقود فيها السلطة الزمنية، وتحت تصرفه خزينة الدولة وبيت المال الذي يحوي ما يشتهيه المرء من الأموال وغيرها.(21)
7. قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق }.(22)
يذكر الخازن أن أكثر المفسرين يقررون أن هذه الآية قد نزلت في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
عن أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين عند مقدم النبـي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة. قال: ( فكانت أم هانئ تواظبني على خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخدمته عشر سنين. وتوفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا ابن عشرين سنة، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل. وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بزينب بنت جحش حين أصبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا. وبقي رهط عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأطالوا المكث، فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي ( صلى الله عليه وسلم )، ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي ( صـلى الله عليه وسلم ) بيني وبينه بالستر وأنزل الحجاب ).(23)
وهناك صور كثيرة ذكرها التاريخ لأولئك الذين كانوا يسيئون الأدب تجاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ولا يملكون أي حظ من الأخلاق الفاضلة، فغلب عليهم طباع الجفاء والغلظة والبربرية والهمجية. إلا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يواجه مثل هذه المواقف بكل مرونة وليونة، لولا أن القرآن يكشف تألّمه النفسي في بعض المواقف لما كان يتبين للصحابة والأجيال المقبلة أي إحساس وتألّم نفسي من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تجاه تلك المواقف. إذ لم يسجّل التاريخ في تلك المواقف أي موقف ينم عن خشونة أو تذمّر منه.
ومن تلك المواقف أيضا أن بني تميم كانوا إذا قدموا على رســول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقفوا على باب حجرته فنـادوا: ( يا محمد أخرج إلينا ). وكانوا إذا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تقدّموه في المشي، وإذا تكلموا رفعوا أصواته فوق صوته ويقولون: ( يا محمد يا محمد ما تقول في كذا وكذا ) كما يكلم بعضهم بعضا، فنزلت الآية الكريمة.(24): { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا لـه بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم * إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خير لهم والله غفور رحيم }.(25)
إن هذه الآيات الكريمة تعد جزءا من الآيات التي عكست التصوير القرآني للأخلاق المحمدية، فالقرآن الكريم ما كان ليصوّر حسن الأخلاق في آياته بمعزل عن الواقع الذي كان يعيشه النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) في معاملاته وعلاقاته.
فما من حقيقة قررها الشرع الحنيف إلا وتجدها منعكسة على واقع الحقيقة المحمدية، وذلك لما تشكله هذه الحقيقة من مثال عملي للشرعية الأخلاقية التي يقررها الإسلام في منهجه.
إن ما يمكن استخلاصه من خلال هذا الاستقراء للتصوير القرآني للمنهجية الأخلاقية في الإسلام يؤكد على أن الدستور الأخلاقي في الإسلام يعكس ارتباط معظم الأخلاق المحمدية التي استعرضناها في الآيات السابقة بخلق الرحمة، إذ أن أساس تمثل هذه الأخلاق في شخص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو اتصافه بالرحمة والشفقة على العباد، فرحمته جعلته عفوا، حليما، مشفقا، هادئا، حييا إلى غير ذلك من الصفات التي كانت اشتقاقا من واقع الرحمة المتأصل في حياته.
وإذا كان التصوير القرآني قد عكس لنا جملة من الأخلاق المحمدية، فإن فهمها حتى تتكوّن الصورة حولها كما انعكست على الواقع النبوي ضروري بمكان؛ وذلك حتى تتعزز صورة تمثل الأخلاق الحميدة في شخص رسـول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فكماله الخلقي لم يكن أسلوبا ومنهجا لدعوته فحسب، بل كان متأصلا في ذاته الطاهرة، فهو خلوق وإن لم يكن رسول من الرسل. وبمعنى آخر كان حسن الخلق صفة لا تنفك عنه، ولـه جانب كبير متعلق بذاته وشخصه، وبعد أن كلّفه الله بالرسالة، وبحكم تهيّئه بالكثير من الصفات لحمله، كان له استخدام محنّك لحسن أخلاقه المتأصلة في ذاته وشخصه أصلا كأسلوب لنشر دعوته ودينه، والذي هو أساس وظيفته في الحياة.

المبحث الثاني
محاسن الأخلاق كما تمثلت في واقع الحقيقة المحمدية
إذا كان ما سبق جزء من التصوير القرآني للفلسفة الأخلاقية التي يقوم عليها الإسلام كما انعكست على شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فإن من المستوجب أن نخوض أكثر في محاسن الأخلاق باستعراض جملة من الدلائل على ذلك؛ وذلك حتى تكتمل عندنا الرؤية بشكل أكبر حول محاسن الأخلاق المحمدية.
إن واقع الأخلاق المحمدية، وبناء على ما سلف فيه التأكيد أمر متأصل في ذات وشخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كإنسان قبل أن يكون تأصله فيه كرسول من عند الله جل وعلى. كما أن هذه الأخلاق الحميدة المتأصلة في ذاته وشخصه قد استثمرها في نشر دعوته ودينه كما أسلفنا الذكر في ذلك.
وحتى يثبت هذا الأمر بعين اليقين يتعين في هذا المقام بسط ما يدلل على ذلك، فالسعي متحقق في هذا المبحث لإثبات مدى تأصل محاسن الأخلاق في واقع الحقيقة المحمدية تأصلا ذاتيا منفصلا عن تصرفاته كداعية، وأن ما طوّعه من حسن خلقه كداعية انطلق فيه مما هو متأصل في ذاته أصلا مما جبله الله عليه.
يتأتى التأكيد على هذه الحقيقة من خلال تسليط الضوء على عدد من النقاط، ففي بداية المقام يكون الاستعراض لواقع أخلاق المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) قبل البعثة، وهي غالب عمره وحياته، وكيف تأصلت محاسن الأخلاق في تصرفاته في هذه المرحلة.
كما يكون التناول لواقع أخلاقه بعد البعثة في القسم الثاني من هذا المبحث، وكيف كانت تصرفاته الشخصية كداعية ورسول تدلل على كمال خلقه، وكرم تصرفاته، وكيف طوّع هذه الأخلاق كسبيل لنشر دعوته ودينه بحصافة منقطعة النظير.
وآخر محطة ستكون في هذا المبحث إكمالا لرؤية الإثبات المتمثل في التأكيد على تأصل محاسن الأخلاق في شخص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتصرفاته كإنسان قبل أن يكون كداعية، وهو استعراض لأبرز الأخلاق الحسنة التي تحلى بها في تصرفاته وأفعاله.
ولعل العقل المنصف يتأتى لديه الاقتناع التام حول ما ينبغي إثباته في هذا المبحث، وكما أسلفنا بأن الرحمة هي مصب لمعظم الأخلاق المحمدية السامية، وإذا كان في هذا المبحث قد ثبتت الرؤية التي تؤكّد ثبوت محاسن الأخلاق في النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كإنسان، فإن ذلك يعكس بداهة أن ذاته الشريفة مفعمة برحمة تتسع لتستوعب معظم الأخلاق الشريفة، ومعظم التصرفات الإيجابية.

أولا: أخلاق النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الجاهلية.

إن من أعظم الدلائل على التأصّل الذاتي لحسن الخلق في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )أنه كان يتميز بأفضلها حتى قبل أن يكون نبيا رسولا. لقد كان النبي محمــد ( صلى الله عليه وسلم ) من أحسن الناس خلقا في الجاهلية، فكان أجود الناس، وأصدق الناس، وأفضلهم مروءة، وخيرهم جوارا وأمانة، وأوفاهم ذمّة.
إن حقيقة تأصل هذه المحاسن الأخلاقية متحقق للعقلاء، وذلك لشهادة أعداؤه بحسن خلقه. قال النضر بن الحــارث: ( يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة ).
وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء الشرع بضدّها، فلم يكن يعبد الأصنام، ولم يأكل مما ذبح على النصب، ولم يشرب الخمر، ولم يكن يلهو مع قومه في حفلاتهم.
قال ( صلى الله عليه وسلم ): ( لما نشئت بغضت إلي الأوثان، وبغض إلي الشعر، ولم أهمّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول بيني وبين ما أريد من ذلك. ثم ما هممت بسوء بعدها حتى أكرمني الله برسالته، قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفا بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مـس الشمس، ولم أقض شيئا، ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك ).
وكان مصونا مما يستقبح، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها، إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك ).(29)
وما رؤي ملاحيا ولا مماريا أحدا، وكان أبعد الناس عن الفحش والأذى.(30)
لقد كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يتحدث القرآن الكريم عن أخلاقه الكريمة، وعن سمو شمائله على هذا المنوال من كرم الأخلاق. كما أن الكفار والمشركون قد نطقوا بهذه الحقيقة، وشهدوا بهذا الواقع والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبعث بعد، ولم ينل مقام النبوّة.
لقد كان للتنشئة الكريمة التي نشأ عليها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وسلم ) الأثر الأكبر فيما تحلّى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أخلاق عظيمة وفاضلة، وملكات نفسية لا يضارعه فيها أحد. فاتصاف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالخلق العظيم لم يكن وليد الفترة التي بعث فيها نبيا، أو من إفرازات تلك المرحلة تمشيا مع أهمية الوظيفة الملقاة على عاتقه.
إن التاريخ يذكر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذا منزلة أخلاقية عظيمة في العهد الجاهلي، وكان محل إعجاب قومه والشعب الذي عاش بين ظهرانيه، بل ومضرب المثل في ذلك.
لقد كان في الجاهلية يلقّب بالصادق الأمين، ويودعون عنده الودائع، ولما أراد الهجرة خلف عليا ( كرم الله وجهه ) لقضاء ديونه.
لقد تجلت مسألة صدقه وأمانته في قصة بناء الكعبة، والتي تدلل دلالة واضحة جدا على مكانة الرسول الأعظــم ( صلى الله عليه وسلم ) الأخلاقية عند العرب في الجاهلية ومدى منزلته لديهم. فيروى أن قريشا لما بنت الكعبة حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن اختصموا فيه، فكانت كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دۈن الأخرى، وهنا تحاوروا وتحالفوا وتواعدوا القتال، فمكثت قريش أربع ليال أو خمس ليال على ذلك. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا، فقال أبو أمية بن المغيرة، وكان عامئذ أحسن قريش كلها: ( يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ). فكان أول من دخل عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فلما رأوه قالوا: ( هذا الأمين قد رضينا به، هذا محمد )، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: ( هلمّ لي ثوبا )، فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: ( لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا ). ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه.
إن حسن الخلق في ذات النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كإنسان قد اعترف بها وأقر بها العقلاء، فالحق في ذلك أبلج ولا مماراة فيه، فلم تذكر لا كتب السير ولا كتب التاريخ ما يدلل لا بالتصريح ولا بالتعريض على ممارسة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لسيء الأخلاق ووضيعها، بل كان مثالا واضحا للرجل صاحب الخلق الحسن، فلم يذكر من يماثله في هذا المقام في العهد الجاهلي. ولعل في اتصافه هذا بحسن الخلق، وتأصل محاسن الأخلاق فيه ما يقرر بشكل مؤكد وبشهادة الأعداء تهيئته بفضل هذه الأخلاق المتأصّلة في ذاتة تهيئة لتأدية الرسالة، والتي تستعرض منها قبسا من نور حسن أخلاقه وشمائله.

ثانيا: أخلاق النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في عهد الرسالة.

إذا كان المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) قبل البعثة من أحسن الناس خلقا، فإن هذا الأمر لم ينفك عنه أبدا بعد عهد الرسالة، بل كان بروزه على شخصيته وتصرفاته وأفعاله بروزا واضحا. إذا كان يطوّع حسن الأخلاق تحقيقا للمهمة الرئيسة في حياته، والمتمثلة بدعوة الناس إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد أصبح توجهه في حسن الخلق موقع إثابة من الله سبحانه وتعالى في تطويعه لذلك سواء في دعوته، أو في إظهار شخصه وذاته أمام الناس. إذ من المستحيل أن يستثمر حسن خلقه في الدعوة دون أن تكون تصرفاته وأفعاله مقررة لتأصل الأخلاق الفضيلة في ذاته.
لقد كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أحسن الناس خلقا، ولم يكن حسن خلقه تكلفا وتجملا بين الناس، وإنما كان سجيّة متأصّلة في نفسه، ملازمة لـه في أحواله كلها، فالله سبحانه وتعالى جبله عليها.
لقد تأدب بآداب القرآن كما سبق أن استعرضنا تصوير القرآن لفلسفة الأخلاق، كما أن عبد الله بن عمرو قال: ( لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاحشا ولا متفحشا، وإنه كان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقا ).(31)
وقال علي ( رضي الله عنه ) في وصفه: ( كان أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة (32)، وأكرمهم عشرة ).(33)
لقد كان حسن العشرة مع أصحابه، كما كان حسن العشرة مع أهل بيته، فمن دلائل حسن عشرته لأصحابه ما يرويه أنس ( رضي الله عنه ) قال: ( كان إذا لقي رسـول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واحدا من أصحابه قام معه، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينزع عنه ).(34)
وعن أنس قال: ( لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيّس فليخدمك. قال: فخدمته في السفر والحضر، والله ما قال لــي لشيء لم صنعت هذا كذا ؟، ولا لشي لم لم تصنع هذا هكذا ).
ومن مواطن حسن عشرته بأهله ما روته السيدة عائشــة ( رضي الله عنها ) قالت: ( خرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم، ولم أبدن، فقال للناس: تقدّموا فتقدّموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك: فسابقته فسبقته، فسكت عني. حتى إذا حملت اللحم وبدنت وسمنت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدّموا فتقدّموا، فقال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك ).(36)
وكان يسمح لأزواجه باللهو والنظر إلى ما فيه متعة من غير ريبة، كما كان يعين أهله، ويقضي حوائجه بنفسه، وما كان يسيء إلى أحد، وما ضرب بيده امرأة ولا خادما، وكان يعين أصحابه ويتلطف بهم.
لقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) يسير خلف أصحابه، ويمشي مع ضعفائهم، ويحدّثهم بما يسرّهم، ويساعد المحتاج دون أن يشعره بالحرج؛ ولهذه الأخلاق كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) محبوبا من صحابته، فكانوا لا يطيقون فراقه.
كان ( صلى الله عليه وسلم ) أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا، بل هو فياض المكارم والكمالات على العالم، فقد جمع مكارم الأخلاق التي جاءت بها الأنبياء قبله، وجاء بها كلّها، وزادها كمالا على كمال، وجمالا فوق جمال.
وأثنى الله تعالى على حبيبه سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بحسن خلقه، وكمال أدبه وفضله، وفي التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية، كما أثنى عليه ومدحه بعظيم خلقه، وكمال أدبه وفضله في القرآن الكريم.
إن هناك أحاديث كثيرة تقرر حقيقة حسن خلقه، ولعل المقام حتى تتأكد هذه الحقيقة يقتضي بسط عدد من الأحاديث الــنبوية التي تقــرر ذلك، والتي بسطها الحافظ الأصبهاني في كتابه ( كتاب أخلاق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآدابه ):
· عن أبي التيّاح عن الصادق قال: ( كان رســول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحسن الناس خلقا ).
· عن عائشة ( رضي الله عنها قالت: ( ما كان أحسن خلقا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله عز وجل:{ وإنك لعلى خلق عظيم }).
· عن جرير ( رضي الله عنه ): أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل بعض بيوته فامتلأ البيت، ودخل جرير فقعد خارج البيت فأبصره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذ ثوبه فلفه ورمى به إليه، وقال: ( اجلس على هذا )، فأخذه جرير ووضعه على وجهه وقبّله.
· عن الأسود قال: سألت عائشة ( رضي الله عنها: كيف كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصنع في أهله ؟ قال: ( كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام فصلى ).
· عن الحسن بن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) في حديث طويل قال: ( سألت أبي عن دخول النبـي( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال: كان دخولـه لنفسه مأذونا لـه في ذلك، وكان إذا أتى إلى منزله جزّأ دخولـه ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثم جعل جزأه بين الناس، فيرد ذلك على العامة والخاصة، ولا يدّخر عنهم شيئا، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمته على قدر فضلهم في الدين، منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنه ذو الحوائج. فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبّت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره. قال في حديث سفيان بن وكيع: يدخلون روّادا ولا يتفرّقون إلا عن ذواق.(38)، ويخرجون أدلة – يعني فقهاء -. قلت: فأخبرني عن مخرجه كيف يصنع فيه ؟ قال: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحزن.(39) لسانه إلا مما يعينهم ويؤلفهم، ولا يفرّقهم. يكرم كريم كل قوم، ويولّيه عليهم، ويحذّر الناس ويحترس عنهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويهوّنه، معتدل الأمر غير مختلف، ولا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا. لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره الذين يلونة من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة.(40)، وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مواساة ومؤازرة. وسألته عن مجلسه فقال: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يجلس ولا يقوم إلا ذكر الله عز وجل، ولا يُوطن.(41) الأماكن وينهى عن إيطائها. وإذا جلس إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه بنصيبه. لا يحسب أحدا من جلسائه أن أحدا أكرم عليه منه من جالسه أو قاومه لحاجة صابرة حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم ينصرف إلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم، وحياء، وصدق، وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات، ولا تُؤبن فيه الحرم، ولا تنثى.(42) فلتاته، معتدلين يتواصلون فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. قلت كيف كانت سيرته بين جلسائه ؟، قال: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا فاحش ولا عيّاب، ولا مدّاح. يتغافل عما لا يشتهى ولا يُؤيس.(43) منه، ولا يجيب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عوراته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسه الطير، وإذا سكت تكلّموا ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم أنصتوا لـه حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أولهم. يضحك مما يضحكون، ويتعجّب مما يتعجّبون، ويصبر للغريب على الجفوة من منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليتجلبونهم.(44) فيقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه.(45)، ولا يقبل الثناء إلا من مُكاف.(46)، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام. فسألت: كيف كان سكوت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال: كان سكوت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أربع: على الحلم والحذر، والتقدير والتفكير. فأما تقديره ففي التسوية والنظر، والاستماع إلى الناس. وأما تفكيره ففيما يبقى ولا يفنى،. وجمع لـه الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه. وجمع لـه الحذر في أربه: أخذه بالحسن ليُقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته، والقيام فيما هو خير لهم، جمع لهم خيري الدنيا والآخرة ).
· عن أنس بن مالك قال: ( صحبت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين وشممت العطر كله، فلم أشم نكهة أطيب من نكهته. وكان إذا لقيه واحد من أصحابه قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل ينصرف عنه. وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناولها إياه فلم ينزع منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع عنه. وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول أذنه.(47) ناولها إياه فلم ينزعها عنه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها منه ).
إن ما سبق أن أوردنا من مواطن حسن خلق المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) من خلال استقراء نور من سيرته قد أكد لنا مدى الكمال الذي ظهر عليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كإنسان قبل أن يكون كداعية. ولعل البسط يقتضي في المقام التالي أن يكون فيه استعراض لعدد من الأخلاق المحمدية الشريفة، ومدى ارتباطها بالرحمة التي هي منبع لمحاسن الأخلاق في ذاته الشريفة.


ثالثا: نماذج من أبرز الأخلاق المحمدية، وارتباطها بالرحمة.

تبرز في شخصية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الإنسان عددا من الأخلاق التي تستمد وجودها من الأساس الطيب الذي نشأ عليه، فهو نبي أدبه ربه فأحسن تأديبه على الخير. ويكون الاستعراض في هذا المقام للعدد من أبرز الأخلاق المحمدية؛ وذلك كي نثبت أن هذه الأخــلاق في نهاية المقام مرتبطة بخلق الرحمة الذي امتاز به النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كونه من أولي العزم من الرسل. ولعل في هذه الأخلاق نوع من التداخل الذي يوجد صعوبة في تمييز أحدها عن الآخر.

· كمال لطفه ( صلى الله عليه وسلم )، ولين عريكته: فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليّن، الجانب، سهل الخلق، حسن المعاشرة مع الأهل والأصحاب وسائر الناس. يعطي جليسه حظا كبيرا من الانبساط والملاطفة وحسن المقابلة.

لقد كان أجود الناس صدرا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، فلم يكن لا فاحشا ولا متفحّشا، ولا سبابا، ولا لعّانا. لقد كان أشد الناس لطفا.

كما كان ( صلى الله عليه وسلم ) كريم العشرة مع زوجاته وسائر أهله، يلاطفهنّ، ويمازحهنّ، ويعاملهنّ بالودّ والإحسان، فكان من خير الناس لأهله، وألطف الناس بأهله. بسّاما ضحّاكا، لم ير قطّ مادّا رجليه بين أصحابه؛ وذلك لعظيم أدبه، وكمال وقاره.

وكان يعاون أهله في الأمور البيتية، ولذلك فهو يوصي بالنساء خيرا في مناسبات متعددة، وفي مجتمعات خاصة وعامة.(48)
ولعل في ما سبق ذكره دليل على لين العريكة وكمال اللطف، ولا شك أن لين العريكة وكمال اللطف نابعة من رحمة القلب وطيب النفس. فهاتان الصفتان لا تتأتيان فيمن يعاني من قسوة القلب، ويعاني من فقدان الشفقة في قلبه.
· عفوه وحلمه: فقد أمره الله بالعفو في قوله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }.(49)
فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم الناس عفوا، وأرجح الناس حلما. وكان يصبر على أذى المنافقين والمشركين، ويعفو عنهم. ولم يقتصر الخير في ذلك على نفسه، بل كان يعلمه أصحابه.
ويدل على هذا الخلق ما رواه أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال: ( كنت أمشي مع رسول الله ( صلى الله عليــه وسلم ) وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبــي ( صلى الله عليه وسلم ) قد أثرت به حاشية الرداء من شدّة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء ).(50)
كما كان حلمه سببا في محبة الناس لـه وإيمانهم به، وليس أدل على ذلك أن أهل مكة أسلموا عند عفوه عنهم، بل إن هذا الخلق لم يكن أمرا عارضا يظهر في المناسبات دون غيرها، ولم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتكلّف الظهور به، وإنما كان مجبولا عليه.
إلا أن حلمه كان ينتهي حين تنتهك حرمات الله، فينتقم لله عز وجل، ويدلل على ذلك ما ورد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت: ( ما خيّر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل ).(51)
· حياؤه: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشد الناس حياء، ويؤكد على ذلك قول الله تعالى: { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق }.(52)
عن أبي سعيد الخدري قال: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه ).(53)
ولشدّة حيائه وسخائه كان لا يسأل شيئا فيمنعه، ويؤكد على ذلك ما رواه سهل بن سعد ( رضي الله عنه ) قال: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حييا لا يسأل عن شيء إلا أعطى ).(54)
· تواضعه: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشد الناس تواضعا مع علو منصبه ورفعة رتبته، فقد خيّر أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، فاختار أن يكون نبيا عبدا.
وكان يكره أن يقوم لـه أصحابه، إذ خرج مرة متوكئا على عصا فقاموا إليه فقال: ( لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضا ).
وكان يعيش بين الناس، ولا يحتجب عن واحد منهم، ويؤكد على ذلك ما رواه الحسن ( رضي الله عنه ) أنه ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: ( لا والله ما كان يغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجّاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى النبي لقيه. كان يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف بعده، ويلعق والله يده ( صلى الله عليه وسلم ) ).(56)
وكان يسلّم على الصغار، ويحملهم، ويدخل السرور عليهم، ويدلل على ذلك ما روي عن أنس ( رضي الله عنه ) قال: ( إن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليخالطنا، يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النقير ؟؛ لأنه كان يلعب به فمات فحزن عليه ).(57)
وكان يمشي مع الضعفاء، ويلبي دعوتهم، ويدلل على ذلك ما روي عن أبي أوفى: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما ).
ولا يتميز بأي حال من الأحوال عن أصحابه في حال أو عمل، ويشتري متاعه بنفسه، ويحمله بيده، وما ذلك إلا دليل على حسن تواضعه.
· برّه ووفاؤه: لقد اتصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتواضعه وبرّه ووفاؤه، وحسن عهده، وصلته الرحم. ويدلل على ذلك ما ورد عن أنس ( رضي الله عنه ) قال: ( كان غلام يهودي يخدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فمرض، فأتاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر على أبيه وهو عنده فقال لـه: أطع أبا القاسم فأسلم. فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار).(59)
ووفد إليه وفد فقام يخدمهم بنفسه، فقال لـه أصحابه: نكفيك؟ فقال: ( إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم ).(60)
ولم ينس زوجه خديجة طيلة عمره، ولم يقصر في الوفاء لصديقاتها، ويؤكد ذلك ما روته عائشة ( رضي الله عنها ) قالت: ( ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، ولما كنت أسمعه يذكرها. وقد أمره ربه أن يبشرها في الجنة ببيتمن قصب، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهدي في خلّتها منها ).(61)
كما أنه لأجل بره ووفاءه لم ينس فضل أمه التي أرضعته، وقد قدمت حليمة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة، وكان قد تزوّج من خديجة، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خديجة فيها، فأعطتها أربعين شاة وبعيرا موقعا للظغينة، فانصرفت إلى أهلها، ثم قدمت عليه بعد الإسلام فأسلمت هي وزوجها وبايعا.
وعن قتادة قال: ( لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت: يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث، فقال لها: ( إن تكوني صادقة فإن بك أثرا لا يبلى ). قال فكشفت عن عضدها فقالت: ( نعم يا رسول الله، وأنت صغير عضضتني هذه العضة. قال: فبسط لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال: ( سلي تعطي، واشفعي تشفعي ).(62)
· جوده: ويؤكد على اتصاف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الصفة ما ورد عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال: ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه ربه كل ليلة رمضان حتى ينسلخ. يعرض عليه النبي القرآن، فإذا لقيه جبريل ( عليه السلام ) كان أجود بالخير من الريح المرسلة ).(63)
وعن جابر ( رضي الله عنه ) قال: ( ما سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإسلام شيئا إلا أعطاه ).(64)
وعن أنس ( رضي الله عنه ) قال: ( ما سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإسلام شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين.(65)، فرجع إلى قومه فقال: يــا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقــة ).(66)
· هيبته: كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع انبساطه وحسن خلقه هيبة قوية تجعل من يقوم لقتله يقف مبهوتا أمامه ويستسلم له.
لقد كانت هيبته تجعل بعض من يكلمه يرتجف من الرعب، ويدلل على ذلك ما روي عن ابن مسعود ( رضي الله عنه )، أن رجلا كلّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الفتح فأخذته الرعدة فقال: ( هوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد ).(67)
وعن سيدنا علي ( كرم الله وجهه ): ( كــان رسول ( صلى الله عليه وسلم ) أجود الناس صدرا، وأصدقهم حجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه. يقول نعته: لم أر قبله ولا بعده مثله ( صلى الله عليه وسلم ).(68)
· شجاعته: لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع حلمه وحيائه وتواضعه أشجع الناس، فقد قاد بضعا وعشرين غزوة بعد أن جاوز الخمسين من عمره، وقاتل بشجاعة لا توجد لدى غيره في عنفوان الشباب. وكان يقود جنده إلى ساحة المعركة كلما وجدت ضرورة للقتال، ولم يمنعه من ذلك شعورهم بالنشوة حين النصر، أو المرارة حين الهزيمة.
كان يثبت حين يفر الكماة، ويقبل حين يدبر الشجعان، ويحرز النصر لأصحابه مع قلة عددهم بشجاعته ومهارته، وكان حين البأس أقرب الناس إلى العدو، بل كان الشجعان من أصحابه يحتمون به في ساعة الخطر.
قال ابن عمر ( رضي الله عنه ): ( ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).(69)
ولم يكن أحد يسبقه لدرء الخطر، ويؤكد على ذلك ما رواه أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحسن الناس وأجود الناس، وكان أشجع الناس. ولقد فزع.(70) أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه سيف، وهو يقول: ( تراعوا ولم تراعوا.(71) قال: ( وجدناه بحرا.(72)، أو إنه بحر )، وكان فرسا يبطّأ ).(73)
· عدله وورعه: لا تجد في العظماء من جمع بين الهيبة والشجاعة، والعدل والورع مثل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فكان يعدل بين أصحابه، ويعطي كل واحد ما يستحق، وكان يقابلهم بالصفح والصبر، ويوضّح طريقته في المنح والعطاء، وكان يحذّر أصحابه من الظلم وأخذ شيء بغير حق. ويؤكد على ذلك ما ورد عن أم سلمة ( رضي الله عنها )، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن.(74) بحجته من بعض، فأقضي لـه على نحو ما أسمع، فمن قضيت لـه من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع لـه قطعة من النار ).(75)
وكان يأمرهم بأن يسووا بين أولادهم في العطية، ويقسم بين نسائه فيعدل ويقول: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ).(76)

· زهده وإعراضه عن الدنيا: فقد اختار رسـول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الزهد وعيش الكفاف، ويؤكد على ذلك ما ورد عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ).(76)

وكان معرضا عن الدنيا، فقد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد، وجلبت إليه الغنائم والفيء والجزية والصدقات مالا يجبى للملوك إلا بعضه، وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين.
وقال: ( ما يسرني أن لي مثل أحد ذهبا ببيت عندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين)..
وكان ينام على الحصير، وقد دخل عليه عمر ( رضي الله عنه ) فرآه على حصير قد أثر في جنبه، وتحت رأسه مرفقه من أدم حشوها ليف.(78)
وكان يصبر على الجوع، فعن عائشـة ( رضي الله عنها ) قالت: ( ما شبع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة أيام تباعا من خبز برّ حتى مضى لسبيله ).(79)
وكان التمر غذاؤه الرئيسي، ومع ذلك لم يكن يجد التمر في كثير من الأيام، وكان لا يجد ما يشتري به قوتا لأهله، فعن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت: ( توفي رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير ).(80)
· مزاحه: فقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أكثر الناس مزاحا، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا، ويقر ذلك ما روي عن الحسن قال: ( أتت عجوز إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكي، فقال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز. إن الله تعالى يقول: { إنا أنشئناهنّ إنشاء * فجعلناهنّ أبكارا } ).(81)
· ضحكه و تبسمه: ويؤكد ذلك ما روي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: ( ما رأيت أحدا كان أكثر تبسما من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).(82)
وكان لا يضحك إلا تبسما، ويؤكد ذلك ما روي عن الحسن بن علي ( رضي الله عنه )، عن خاله هند بن أبي هالة في صفة ضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ( جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام ).(83)
إن ما سبق أن ذكر ما هو إلا جملة من أخلاق النبي ( صلى الله عليه وسلم )، وإلا فهي كثيرة لا تحصى، كما أنها انعكست على كل المواقف والتصرفات التي مارسها ( صلى الله عليه وسلم ) في حياته.
إن هذه الصفات التي بياناها بالدليل والبرهان تقرر المكانة الأخلاقية للرسول ( صلى الله عليه وسلم )، وكيف أن هذه الأخلاق جعلته يسمو بنفسه عن مفاسد الأمور وسفاسفها.
وإذا أردنا أن نخرج بنتيجة وغرض من هذا الاستعراض فإننا نجد بأن هذه الصفات تنبع وتصب في نهاية المطاف في أبرز صفة من صفات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي الرحمة.
وإذا أردنا أن نستقرأ واقع انعكاس هذه الصفات من خلال ما تأصل في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من رحمة، فإننا نجدها نابعة في جوانب منها من الرحمة التي كانت متأصلة في شخص رسول ( صلى الله عليه وسلم )، وتصرفاته. وقد أصبحت أخلاقه شاهدا شامخا تقرر في النفس مدى الرحمة التي عكسها على واقع حياته.
فكمال لطفه ( صلى الله عليه وسلم )، ولين عريكته ما انعكست كصفة على شخصيته لولا أنه رحمة للعالمين، ويمتلك رحمة في قلبه تسع جميع الناس على اختلاف أطيافهم وأجناسهم.
كما أن عفوه وحلمه تقرر معنى آخر، ومظهرا آخر من مظاهر الرحمة، إذ يستعصي على صاحب القلب القاسي، والذي يمارس القسوة في تصرفاته ولا يمتلك أي رحمة أن يكون عفوا أو حليما.
أما حياؤه فنابع من لين عريكته مع أصحابه، ومدى رفقه بهم، فلو لم يكن رفيقا في علاقته، رحيما في تصرفاته لما كان حييا.
وبالنسبة لتواضعه فإن قاسي القلب مفتقد الرحمة لا يتواضع للناس، وهو بذلك يفتقد بتكبره على الناس أي رفق بهم واعتناء.
كما أن برّه ووفاؤه يقرر مدى لينه في علاقته بأهله، وتقديره لصلته بهم، ولولا أن في قلبه رحمة تتسع لذلك لما تأتى منه خلق البر والوفاء.
إن جوده ( صلى الله عليه وسلم )، ويده الممتدة في كل وقت وحين للفقراء والمحتاجين صفة لا تتأتى من صاحب القلب القاسي، والذي يفتقد جوانب الإحسان التي يتطلبها الجود في المرء.
وبسبب خلو قلبه من القسوة والجفاء تجده عادلا وورعا. كما أن زهده وإعراضه عن الدنيا تنبع من عميق الرحمة في قلبه، ويؤكد على ذلك أيضا ما كان عليه في مزاحه، ضحكه و تبسمه، وهي صفات تقرر مدى العطف والرفق في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في تعامله مع البشر.
إن صاحب القلب القاسي، والذي يمتلك مساحة شاسعة من الجفاء والغلظة في تصرفاته وأفعاله لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتأتى منه هذه الأخلاق جميعا، بل إن ذلك يعد من قبيل المحال.
ولا شك أن ما ذكر وقرر من صفات تمتع به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تؤكد مدى المساحة الشاسعة للرحمة التي كانت في قلبه ( صلى الله عليه وسلم ) من خلال تعاملاته مع البشر. ولا ينكر رحمة الرسول ومظاهرها إذا تأكد لـه تمتعه بهذه الأخلاق الطيبة والحميدة إلا منكر جاحد يكذّب حقائق الواقع، وما تؤكده كتب التاريخ التي أوردت سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العطرة.

الفصل الثاني
مفهوم الرحمة المحمدية ودلائلها
تعتبر الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية هي العمود الفقري الذي تقوم عليه مجمل التصرفات الأخلاقية التي بدرت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، أو بمعنى آخر منظومة الأخلاق المحمدية. وقد تأكّد ذلك من خلال ما سبق أن استعرضناه من دلائل تقرر ذلك.
إن هذه المنظومة قررتها الآيات القرآنية، والأقوال والأفعال والتقريرات النبوية، كما أن لها فلسفة تقوم عليها كمنهج في حياة المسلم، حيث لا تقوم لحياته قائمة، ولا يكون لها معنى إلا إذا تزينت أفعاله وتصرفاته بطيب الأخلاق، ولا يمكن اقتفاء هذه الأخلاق إلا من خلال تمثلها في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وانعكاسها على واقع حياته.
ولعل المقام في هذا الفصل، بعد أن تحقق تقريب الرؤية حول مفهوم الرحمة المحمدية، ومقامها كأحد الأخلاق النبوية ومنزلتها بين هذه الأخلاق يتطلب منا أن نعرّف بهذا الخلق السامي الذي يصب فيه انعكاس الأخلاق المحمدية الراقية. حيث نستعرض في بداية المقام، ومن خلال المبحث الأول تعريفا بمفهوم الرحمة كما تناوله أهل اللغة، وكما عكسه الفكر المسلم من خلاله فهمه للطرح النبوي لهذا الخلق العظيم.
كما نحاول أن نسلّط الضوء من خلال المبحث الثاني من هذه الفصل على الأدلة التي تقرر هذا المفهوم، وهذا الخلق النبوي الكريم في القرآن العظيم، وفي السنة النبوية المشرفة.

المبحث الأول

مفهوم الرحمة المحمدية
أولا: الرحمة عند أهل اللغة

يورد أهل اللغة في قاموس ( منجد الطلاب ) معنى الرحمة تحت التصريف الثلاثي: ( رحم )، { رَحِمه – رحمَة – مرحمة – رُحما – رُحُما }، رق له، وشفق عليه، وتعطّف وغفر له.
وتقول ( استرحمه ) استعطفه، و ( الرَحْمة، والرُحََمي، والرُحم ) رقة القلب، وانعطاف يقتضي المغفرة والإحسان. و ( الراحم والرحوم ) هو من يرحم.(84)
أما في مختار الصحاح فقد ورد فيه معنى الرحمة بمعنى الرقة والتعطّف، كما ورد بأن ( الرَّحِم ) وهي القرابة مشتقة من الرحمة.(85)
ولعل ما يتأكد من خلال ما أورده أهل اللغة بأن الرحمة اسم جامع للعطف، والشفقة، ورقة القلب، والمغفرة، والإحسان، والصلة، وما يستنتج هو أن الرحمة ما هي إلا تعبير عن اللين في المعاملة، والرفق مع الآخر.

ثانيا: مفهوم الرحمة المحمدية
يطرح الفكر الإسلامي معنى الرحمة حسب الثابت من استقراء النصوص الشرعية على أنها مفتاح للعلاقة في الفلسفة الإسلامية، إذ لا يمكن فصل المنهج الإسلامي والتركيبة الأيديولوجية للفكر الإسلامي دون صبغها وتجملها بالرحمة، والتي تستقى من واقع حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتصرفاته.
ومن هنا فإن أحمد عسّاف يقرر بأن الله سبحانه وتعالى قد وسع كل شيء رحمة وعلما، فكان بذلك أن سرت صفة الرحمة في أرجاء الوجود على نحو لم تدع منه شيئا، وهي أساس علاقة الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين، وفضله عليهم، وبره بهم.
إن الرحمة المطلقة شارة الكمال المطلق، وعلى قدر حظ الإنسان من هذا الوصف الجميل تكون عظمته، ومن هنا كان الأنبياء ( عليهم السلام ) أرحم الناس، وكان خاتم النبيين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أوفرهم نصيبا من هذا الخلق العالي.
ولا شك أن رحمته الغامرة هي التي جعلته يألف طباعهم، ويقرّب بعيدهم. ولولا بشاشته التي لا تنطفئ، ورقّته التي لا تفيض ما استطاع أن يؤلّف هذه الجموع، ويعتقد أن هذا أعظم مظهر للرحمة في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
فلا عجب إذا كانت رسالته رحمة للعالمين، وكانت تعاليم هذه الرسالة ينبوعا جيّاشا بكل ما تحتاج إليه الإنسانية من حب وإيناس ومودّة. وقد أمر الإسلام بالتراحم العام، وجعله دلالة الإيمان الكامل، واليقين الصادق، فالمسلم يلقى الناس كلهم، وفي قلبه عطف كامن وبر خالص، وهذا ما قرره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أقواله وأفعاله وتقريراته، فمن لا يرحم الناس لا يرحمه الله.
إن مواطن الرحمة قد اجتمعت كله في شخصه الكريم، فقد رحم اليتامى، والأرامل، والأطفال، وأحسن في معاملة الأشخاص الذين يعاملهم.(86)، فكان بذلك وبفضل هذا الخلق جامعا لكل خلق كريم نتيجة الرحمة التي كانت تملأ قلبه، فكان بفضلها، وكانت بفضله هداية للناس.
أما محمد الغزالي فيقرر بأن الرحمة كمال في الطبيعة تجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها، وهو ما يتحقق للمستقرئ لسيرة سيد البشر ( صلى الله عليه وسلم ).
فقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) يأسى لأخطائهم ويتمنى لهم الهدى، وهو بذلك يحقق كمال في الطبيعة، وارتقاء في السجيّة، ذلك أن تبلّد الحس يهوى بالإنسان إلى منزلة الحيوان، ويسلبه أفضل ما فيه.
إن العاطفة الحيّة النابضة بالحب والرأفة هي التي تنطلق منها تصرفات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأفعاله، وهو منزّه عن كل اتهام بالقسوة وغلظة القلب، وذلك لما للقسوة والغلظة من ارتكاس بالفطرة إلى منزلة البهائم، وهو ما تنزّه عنه المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ).(87)
إن الفلسفة التي يقوم عليها مفهوم الرحمة في الإسلام كما برزت في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تتمثل في أنها شعار يحفظ للروح تفاعلها الدائم مع الآلام التي يعانيها الناس من خلال الأزمات الكثيرة، والمصائب الشديدة؛ وذلك كي يبقى الإنسان على صلة بالعنصر الإنساني في داخله، فتوقظ فيه الرحمة الوجدانية التي تنساب منها الرحمة العملية بالتعاون والتعاطف والمشاركة في كل الهموم والآلام الإنسـانية؛ وذلك لتخفيفها أو إزالتها نهائيا من حياتهم جميعا.(88)
وبتحليل كلام حسن فضل الله يستنتج بأن خلق الرحمة في الفلسفة الإسلامية هي تعبير عن صلة الإنسان بالعنصر في داخله، أي أن تواجد الرحمة في قلب الإنسان وانعكاسها على أفعاله مقرر لإنسانيته، فالرحمة إذا في قلب الإنسان دليل على إنسانيته.
ومن خلال ذلك فإن ما يتقرر من خلال استقراء حياة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرر بأن التعبير عن الإنسانية من خلال الانطلاق في تمثل خلق الرحمة في الوجدان النبوي كان على درجة راقية من الإنسانية. لا سيّما وأن الرحمة بمعانيها التي تقررت استنتاجا لما توصل إليه أهل اللغة لا يمكن أن يستثمرها الإنسان في مجال ما قبل أن تكون متأصلة في ذاته وشخصه. ولعل الاستنتاج من ذلك يقود إلى أن النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد أتقن عكس توظيف مدى الانغراس للرحمة في ذاته وشخصه باعتبارها سجيّة من أبرز سجاياه على منهجيته وأسلوبه في الدعوة إلى دين الله تعالى المكلّف بها.
ويقرر مصطفى ثغرة بأن الرفق والرحمة كان مما رفع الله به ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وهو ما تقرر في تأكيده على أن الرفق ما حلّ في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
لقد كان من رفقه في تربية أصحابه أن لا يعنّف من أخطأ منهم، كما كان يأتي الناس من جهة ما يعرفون، ليصل بهم إلى ما يُنكرون. فلا يمنع الشر بالقوة إذا أغنت الكلمة، ولا يرشد الناس بما يعلوا على مداركهم وأفهامهم. بل يجري في مجاري حديثهم، ويرفق بهم، ويضرب لهم الأمثال التي تقرّب لهم الحقيقة إلى أذهانهم.
إنه المربي المثالي إذا جعل هدفه أسمى من الانتقام والعقاب، ومن الانتصار للذات، فقد أدى مهمته بنجاعة، وتغلّب على كل العقبات.
لقد كانت وصيته بالإحسان إلى المسيء، وترجم عن ذلك بمواقفه، فتجسّمت في سيرته، لتصنع المثالية في نفوس الأفراد والجماعات، وذلك أبلغ من مئات الدروس والعظات.
إن تذكير المسيء بإساءته قد يغرق شعوره في الإثم، وقد يعنّته فتأخذه العزة بالإثم، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) حين يرى ما لا يحب من أصحابه لا يردّهم عن خطئهم أمام الناس لئلا يحرجهم ويضايقهم، ولكنه يعمّم الخطاب في التوجيه.
ثم يقرر مصطفى ثغرة بـأن الحق في التماس دلائل الرفق ومظاهره كان متمثلا في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حسن معاملته لأعدائه قبل أصفيائه، ولمن ليس بينه وبينهم عداء ولا صفاء. فما ثأر قط من أحد أساء إليه في شخصه، فهو صاحب الفضل الذي لا يدانى على كل من هداهم إلى نور العقل ونور البصيرة.(89)
ولعل ما سبق أن ذكر هو جملة ما ذكر عن مفهوم الرحمة المحمدية، وإلا فمفهومها بسموّه المحمدي لا يتسع لذكره الصفحات ثم الصفحات. فهو متمثل في الذات المحمدية ومتأصل كسجية لا تنفك عن شخصه الكريم، بل هو تعبير عن إنسانيته قبل نبوّته.
إن ما قرره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتمثل مفهوم الرحمة في تصرفاته وأفعاله وتقريراته صورة عكست الجانب الإنساني فيه. بل إن المسلمين مأمورون باقتفاء هذا الخلق الكريم من خلال استقراء الآلية التي استطاع أن يتمثل من خلالها الرحمة في شخصه الكريم، وذلك بحرفنة منقطعة النظير، وعلى نحو استطاع من خلاله أن يوظفها للقيام بواجبه الأسمى، وهو الدعوة إلى دين الله تعالى.
إن مفهوم الرحمة المحمدية للبشر وفق ما أراه تعبير عن أرقى لغات التعامل مع الناس، وذلك بما يعكسه هذا المفهوم كأسلوب ومنهج حياة من رقي في المعاملة. لا سيّما وأن أساس تحلي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالرفق واللين والرحمة كان منبعا لمعظم الأخلاق المحمدية التي اشتهرت بها مدرسة الأخلاق المحمدية. فلولا الرحمة لما كان عفوا، ولولا الرحمة لما كان صبورا، ولولا الرحمة لما كان حليما، ولولا الرحمة لما كان صادقا، وذلك على نحو ما قررنا سابقا.
ومن هنا فإن ما نستقر به حول مفهوم الرحمة المحمدية يتمثل في أنها تعبير راق في المعاملة الإنسانية، يعكس سهولة في التعامل مع الآخرين، وذلك على نحو يعزز لغة التواصل والتراحم معهم.

المبحث الثاني
دلائل الرحمة المحمدية

إذا كان مفهوم الرحمة قد تمثل في إنسانية الرسول محمد( صلى الله عليه وسلم )، فإنه من دون شك لم ينسب هذا الأمر بمعناه الراقي والسامي كما انعكس من خلال استعرضناه حول مفهوم الرحمة المحمدية، ولم يكن إلا وفقا لما قررته المصادر الشرعية المتمثلة في الكتاب الكريم، والسنة المطهّرة، وهي من دون شك كثيرة. لا سيّما وأن مجمل تصرفاته وأفعاله وتقريراته كان تتسم بالرفق واللين والشفقة على أمته وعلى الإنسانية جميعا.
وحتى تتضح صورة المفهوم على نحو يقرر التأكيد في العقل على ما سبق أن قرر حول الرحمة المحمدية، يتسلّط الضوء من خلال هذا المبحث على الدلائل التي عكست المعاني السامية للرحمة المحمدية كما تمثلت في المواقف التي انعكست على أرض الواقع، وذلك على النحو التالي.

أولا: الدلائل القرآنية

لقد امتن الله سبحانه وتعالى على العالم عندما بعثـه إليهم رسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) برجل يمسح آلامهم، ويخفف أحزانهم، ويرثي لخطاياهم، ويستميت في هدايتهم، ويأخذ بناصر الضعيف، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها، ويخضد شوكة القوي حتى يردّه إنسانا سليم الفطرة لا يضرى ولا يطغى. فأرسل محمدا ( صلى الله عليه وسلم )، وسكب في قلبه الحلم والعلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى، وما جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرا.(90)، وأول ما يذكر من الآيات القرآنية التي قررت ذلك قوله تعالى.

· قال تعالى: { فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر }.(91)

إن القلوب الكبيرة قلّما تستجيشها دوافع القسوة، فهي أبدا إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والاضطغان.
إن القسوة في خلق الإنسان دليل نقص كبير، وفي تاريخ الأمة دليل فساد خطير، فلا عجب إذا حذّر الإسلام منها واعتبرها علّة الفسق عن أمر الله، وسر الشرود عن صراطه المستقيم.

· قال تعالى: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }.(92)

وقد أمر الإسلام بالتراحم العام، وجعله من دلائل الإيمان الكامل؛ وذلك لكون الإسلام رسالة خير وسلام وعطف على البشر كلهم، ويؤكد ذلك مخاطبة الله لرسوله.{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }.(93)،
وسـور القرآن كلهم مفتتحة بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ).
إن من ابرز مكارم الأخلاق التي أمر الله سبحانه وتعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بها التعامل مع الناس بالرفق لا بالعنف، وباللين لا بالخشونة، وبالسماحة لا بالفظاظة، ومجاهدة نوازع الغضب وعدم الانتصار للنفس، وكظم الغيظ، والعفو عند المقدرة، والحلم عند السَّورة، وهو ما يقرره الله سبحانه وتعالى في أمره لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى.
· قال تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }.(94)
ولعل الكثير من النصوص القرآنية التي تؤكد على خلق الرحمة قد ذكر فيما سبق من استعراض، وما يستدعي الذكر في خاتمة المطاف في سرد هذه الآيات التي تقرر خلق الرحمة، ما ذكره الله سبحانه وتعالى في أعظم آية في سورة التوبة، والتي تحدثت عن قتال المشركين، والتي بيّنت أساس العلاقة، والأسلوب الدعوي المحمدي في دعوة أهل الشرك بقوله تعالى.
· قال تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }.(95)
فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعز عليه عنت الكفار وضلالهم وإعراضهم عن رسالته، فهو يخاف وقوع العقاب

عليهم، وهو حريص كل الحرص على إيمانهم، وهو في ذلك بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وينقل الخازن في تفسيره عن الحسن بن الفضل أن الله سبحانه وتعالى لم يجمع لأحد من أنبيائه بين أسمين من أسمائه إلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسماه رؤوفا رحيما.(96)

ثانيا: الدلائل النبوية


تقرر الدلائل النبوية التي عكست أقـوال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأفعاله وتقريراته التزام الرســول ( صلى الله عليه وسلم ) بالأوامر الربانية بالتزام الرحمة والرفق واللين في المعاملة مع الناس، ولعل ما يسلط عليه الضوء في هذا المقام هو عدد من الدلائل النبوية الصريحة والضمنية، والتي تعكس جوانب الرحمة واللين والرفق في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). ومن ثم العمل على معالجتها معالجة تفصيلية وتحليلية في الباب القادم، وذلك بعد أن اتضح مما سبق مكانة الرحمة بين الأخلاق النبوية، وكيف أنها منبع لمجمل الأخلاق المحمدية، وما تم تناوله حول مفهوم هذا الخلق الكريم، ودلائل الالتزام به كما قررته الآيات القرآنية.
يتأتى الطرح في هذا المقام لعدد من الأحاديث النبوية الصحيحة التي تقرر واقع هذا الخلق الكريم في شخصية الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
· عن ثابت بن أنس: أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يسمع بكاء الصبي وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة القصيرة، والسورة الخفيفة.
· عن مالك بن الحويرث قال: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رحيما رفيقا، أقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا إليه، فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ): ( أرجعوا إلى أهاليكم فأقيموا فيهم ).
· عن أنس بن مالك قال: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه. فإن كان غائبا دعا لـه، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده ).
· عن أنس بن مالك، أن أعرابيا أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله وعليه بُرد فجذبه فشق البُرد، حتى بقيت الحاشية في عنق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر لـه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشيء.
· عن معاذ بن جبل قال: ( بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى اليمن فقال: يا معاذ، إذا كان في الشتاء فغلّس بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تُملّهم، فإذا كان الصيف فأسفر بالفجر، فإن الليل قصير والناس ينامون فأمهلهم حتى يدّاركوا ).(97)
· عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال: ( كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حصير يفرشه بالنهار، فإذا كان الليل حَجَره في المسجد ليصلي عليه، قال: فتبع لـه رجال فصلوا بصلاته، فانصرف ليلة وقد كثروا وراءه فقال: أيها الناس عليكم بما تطيقون من الأعمال، فإن الله عز وجل لا يملُّ حتى تملّوا، وإن خير الأعمال ما دُووم عليها وإن قل. ثم قال: ما منعني من أن أصلي ههنا إلا أني أخشى أن ينزل عليّ شيء لا تطيقونه ).(98)
· قال ( صلى الله عليه وسلم ): ( من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء، ومن لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر لـه، ومن لا يتب لا يتب عليه. إنما يرحم الله من عباده الرحماء. ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يعرف حق كبيرنا. وليس منا من غشنا، ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه. البركة في أكابرنا، فمن لم يرحم صغيرنا، ويجل كبيرنا فليس منا ).(99)
· قال ( صلى الله عليه وسلم ): ( طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذلّ في نفسه من غير مسألة، وأنفق مالا جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذلّة والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة ).(100)
· عن أبي هريــرة ( رضي الله عنه )، سمعت الصادق المصدوق صاحــب هذه الحجرة أبا القاسم قال ( صلى الله عليه وســلم ) يقول: ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي ).(101)
· قال ( صلى الله عليه وسلم ): ( الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. الرحمة شجنة.(102) من الرحمن، من وصله وصلها الله، ومن قطعها قطعه الله ).(103)
· عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ): ( قبّل رســول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحسن أو الحسين بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا قط. فنظر إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال: ( من لا يرحم لا يرحم )، وفي رواية: ( أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك ).(104)
· عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال، أن رجلا جاءه يشكو قسوة قلبه فقال لـه: ( أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك. يلن قلبك، وتدرك حاجتك ).(105)
· عن أبي مسعود البدري قال: ( كنت أضرب غلاما بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي: أعلم أبا مسعود. فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فإذا هو يقول: ( أعلم أبا مسعود أن الله أقــدر عليك منك على هذا الغلام ). فقلت: ( يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى )، فقال: ( أما لو لم تفعل للفحتك النار ).(106)
· قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( ما خففت عن خادمك من عمله لك أجرا في موازينك ).(107)
· عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت: ( نهاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل ؟ قال: ( إني لست كهيئتكم. إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ).(108)
· أخرج مسلم، عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قــال: ( قيل يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: ( إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ).
· أخرج أبو نعيم في الدلائل، عن أبي أمامة ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين ).
· أخرج أحمد وأبو داود والطبراني، عن سلمان: ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي، أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، وأجعلها عليه صلاة يوم القيامة ).
· أخرج البيهقي في الدلائل، عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا رحمة مهداة ).
· أخرج عبد الله بن حميد، عن عكرمة ( رضي الله عنه ) قـال: ( قيل يا رسول الله، ألا تلعن قريشا بمــا أتوا إليك؟ ) فقال: ( لم أبعث لعانــا إنما بعثت رحمــة ).(109)
إن ما سبق من أحاديث صحيحة واردة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تقرر حقيقة خلق الرحمة إما في سلوكيات يمارسها ( صلى الله عليه وسلم ) في حياته، وإما في أقوال يوجهها إلى صحابته الكرام ( رضوان الله عليهم ).
إن ما ذكر ما هو إلا جزء بسيط من الدلائل التي تقرر اتصاف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الخلق الكريم، سواء أكانت دلائل قرآنية، أم دلائل نبوية، وإلا فإن المستقرئ للسيرة النبوية العطرة يجد هذه الصفة متمثلة في كل التصرفات والأقوال المحمدية، والتي تصب في قالب الرحمة إما من قريب وإما من بعيد.
وحتى ممارساته ( صلى الله عليه وسلم ) في حروبه وغزواته لم تكن تخلو من الرحمة، ولم يكن يستخدم القوة في يوم من الأيام لأجل القوّة؛ وذلك لأن فيها شيء من القسوة، إلا أن الضرورة الملحّة، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وحتى يؤدي أمانة الدعوة إلى الناس جميعا استخدم القوة وعبر عنها بلغة المنطق، فهو نبي الرحمة، ويمتلك مفهوما ساميا، ومنطقا راقيا في استخدام القوة.
وحتى نقرب الصورة أكثر لمظاهر الرحمة بالبشر في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فلا بد من تسليط الضوء من خلال الباب التالي على مظاهر الرحمة النبوية كما بدت في السيرة النبوية بنوعيها، سواء الرحمة باعتبارها شيئا متأصلا في ذاته وشخصه، وما انعكس على واقع تصرفات حياته، وذلك كرحمته بالأطفال والنساء، وبأصحابه ( رضوان الله عليهم أجمعين )، أو باعتبارها استثمارا لنشر دين الله تعالى، وذلك بتمثلها كرحمة دعوية ربّانية، سواء ما كان منها في وقت السلم أو ما كان منها في وقت الحرب.























الهوامش


1. القلم 4.
2. الخازن – علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي، تفسير الخازن ( المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل )، المجلد الرابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، ص 294.
3. القلم 4.
4. رواه الحاكم عن سهل بن سعد ( صحيح الجامع الصغير 1889 )، وقد أورد هذا الحديث القرضاوي – يوسف، في كتابه السنة – مصدرا للمعرفة والحضارة، الطبعة الثانية، 1418هـ - 1998م، دار الشروق، القاهرة – مصر، ص 7.
5. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، الطبعــة الأولى، 1411 هـ - 1991م، دار البيان العربي، بيروت – لبنان، ص 7.
6. آل عمران 159.
7. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 36.
8. التوبة 128.
9. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 37.
10. القلم 5.
11. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 38.
12. الأنبياء 107.
13. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 39.
14. الكهف 6.
15. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 40.
16. طه 1 – 3.
17. فاطر 8.
18. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 40.
19. الإسراء 29.
20. الخازن – علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي، تفسير الخازن ( المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل )، المجلد الثالث، مرجع سبق ذكره، ص 163.
21. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 41.
22. الأحزاب 53.
23. الخازن – علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي، تفسير الخازن ( المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل )، المجلد الثالث، مرجع سبق ذكره، ص 475.
24. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 43.
25. الحجرات 2 – 5.
26. الأحزاب 23.
27. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، مرجع سبق ذكره، ص 45.
28. رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب، وقد ورد هذا الحديث في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، المجلد الثاني – الجزء الخامس، الطبعة الأولى، 1409هـ - 1988م، دار حسان للطباعة والنشر، دمشق – سورية، ص 395.
29. رواه ابن إسحاق في السيرة، وورد في كتاب لعمـر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 396.
30. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 397.
31. رواه البخاري، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 396.
32. لين العريكة، وحسن العشرة.
33. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 733، وقد نقــل هذا الحديث من كتاب ( الشفاء ) للقاضي عياض ج 1، ص 69.
34. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 733، وقد نقــل هذا الحديث من كتاب ( الوفا ) لابن الجوزي، ص 416.
35. رواه مسلم 52، ( 2309 )، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 733.
36. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 734، وقد نقــل هذا الحديث الذي رواه أحمد من كتاب ابن الجوزي ( الوفا بأحوال المصطفى )، ص 444.
37. أي في خدمة أهله، بمعنى أنه يساعدهم في مصالح البيت، وهذا من كمال تواضعه ( صلى الله عليه وسلم ).
38. أي طالب للعلم، والترواق – المأكول والمشروب، والمراد أنهم لا يتفرّقون إلا عن علم وأدب ينالونه منه.
39. يحفظ لسانه فلا يتكلم إلا فيما يعنيه من شؤونهم الدينية وغيرها.
40. أي ما يصلح لكل ما ينفع من الأمور.
41. أي لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به، وينهى أن يتخذ الرجل مجلسا يعرف به، وهذا كان في أول الأمر، ثم أذن للصحابة فثبّتوا لـه دكّة يقعد عليها ليعرفه الوفود القادمون إليه.
42. أي لا تشاع، والمعنى ليس لمجلسه فلتات فتشاع. وقوله فلا توبن أي لا تذكر فيه بقبيح، فمجلسه ( صلى الله عليه وسلم ) تصان فيه الحرمات.
43. المراد الجدال والإكثار من الكلام فيما يفيد وفيما لا يفيد.
44. أي يطلبون مجيء الغرب إلى مجلسه ليستفيدوا من أسئلتهم؛ لأن الصحابة يهابونه( صلى الله عليه وسلم ).
45. أي أعينوه بالشفاعة ونحوها.
46. أي لا يقبل الثناء من شخص ابتداء، بل لا بد أن يسبق إليه معروف منه، فيكون الشخص بثنائه مكافئا ( صلى الله عليه وسلم ).
47. أي مال على أذنه ليس لـه حديث خاص. وناوله إياها أي أصغى إليه فلم ينزعها عنه. أي لم ينصرف عنه حتى ينهي حديثه فينصرف هو من نفسه، وهذا من كمال خلقه ( صلى الله عليه وسلم ).
48. سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميدة وخصاله المجيدة، الطبعة الرابعة، 1405هـ - 1985م، مكتبة دار الفلاح، حلب – سورية، ص 132.
49. الأعراف 199.
50. رواه البخاري ( 3149 )، ومسلم، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 738.
51. رواه البخاري ( 3560 )، ومسلم ( 2327 )، وأبو داوود والترمذي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 741.
52. الأحزاب 53.
53. أي لا يتكلم به لحيائه، بل يتغير وجهه، والحديث رواه البخاري ( 3562 )، ومسلم ( 2320 )، والترمذي.
54. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 748، وقد نقــل هذا الحديث الذي رواه أحمد من كتاب ابن الجوزي ( الوفا بأحوال المصطفى )، ص 434.
55. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 749، وقد نقــل هذا الحديث الذي رواه أحمد من كتاب ابن الجوزي ( الوفا بأحوال المصطفى )، ص 435.
56. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 750، وقد نقــل هذا الحديث الذي رواه أحمد من كتاب ابن الجوزي ( الوفا بأحوال المصطفى )، ص 436 - 437.
57. رواه الترمذي في الشمائل، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 750.
58. رواه الدارمي في سننه والبهقي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 750.
59. رواه البخاري ( 1356 )، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 752.
60. رواه البيهقي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 754.
61. رواه البخاري ( 6004 )، ومسلم ( 2327 )، وأبو داوود والترمذي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 754.
62. رواه البيهقي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 754.
63. رواه البخاري ( 1902 )، ومسلم ( 2308 )، والترمذي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبــق ذكره، ص 754.
64. رواه البخاري ( 6034 )، ومسلم ( 2311 )، والترمذي والدارمي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 754.
65. أي عيش كأنها تملأ ما بين جبلين.
66. رواه مسلم، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبــق ذكره، ص 757.
67. رواه ابن كثير والبيهقي في السيرة النبوية، ج 3، ص 566، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبــق ذكره، ص 759.
68. رواه الترمذي في الشمائل، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 759.
69. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكره، ص 760، وقد نقــل هذا الحديث من كتاب ( الشفاء ) للقاضي عياض ج 1، ص 67.
70. أي سمعوا صوتا فخافوا أن يهجم عليهم العدو.
71. كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيسا وإظهارا للرافق بالمخاطب، والمرجع في ذلك، عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 761.
72. أي واسع الجري.
73. أي يعرف بالبطء والعجز وسوء السير، والحديث رواه البخاري ( 6033 )، ومسلم ( 2307 )، والترمذي وابن ماجة، وقد أورد هذا الحديث عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكـره، ص 761.
74. أبلغ وأعلم بالحجّة.
75. رواه مالك وأحمد والستة، مسلم ( 1713 )، وقد أورد هذا الحديث عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكـره، ص 762.
76. يعني به الحب والمودّة.
77. القوت ما يقوت به البدن ويكف عن الحاجة، والحديث رواه البخاري ( 6460 )، ومسلم ( 1055 )، والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقد أورد هذا الحديث عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكـره، ص 765.
78. رواه البخاري ( 5843 )، وابن ماجة ( 4853 )، وقد أورد هذا الحديث عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكـره، ص 766.
79. رواه البخاري ( 6459 )، ومسلم ( 2972 )، وقد أورد هذا الحديث عمــر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكـره، ص 768.
80. رواه مسلم ( 1635 )، وأحمد والأربعة، وقد أورد هذا الحديث عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكـره، ص 770.
81. رواه الترمذي، والآيتان من سورة الواقعة: 35 – 36، وقد أورد ذلك عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل،مرجع سبق ذكـره، ص 774.
82. رواه الترمذي في الشمائل، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 775.
83. رواه الترمذي، وورد في كتاب لعمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، مرجع سبق ذكره، ص 775.
84. فؤاد إفرام البستاني، قاموس منجد الطلاب، الطبعة الحادية والأربعون، دار المشرق، بيروت – لبنان، ص 236.
85. الرازي – محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، قاموس ( مختار الصحاح ) مكتبة لبنان، بيروت – لبنان، ص 100.
86. عساف – أحمد محمد، قبسات من حياة الرسول، الطبعة الثامنة، 1407هـ - 1987م، دار إحياء العلوم، بيروت – لبنان، ص 262.
87. الغزالي – محمد، خلق المسلم، غير معروف مصدر الطباعة ولا رقمها، ص 203.
88. فضل الله – محمد حسين، الإسلام ومنطق القوة، الطبعة الثالثة، 1406هـ - 1986م، الدار الإسلامية، بيروت – لبنان، ص 150.
89. ثغرة – مصطفى، من مباحث العقيدة – بينات النبوة الخاتمة من القرآن والسنّة والأخبار - سلسلة الحضارة العربية الإسلامية، الطبعة الأولى، 1988م، دار التركي للنشر، تونس، ص 161.
90. الغزالي – محمد، خلق المسلم، مرجع سبق ذكره، ص 204.
91. آل عمران 159.
92. الحديد 16.
93. الأنبياء 107.
94. الأعراف 199.
95. التوبة 128.
96. الخازن – علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي، تفسير الخازن ( المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل )، المجلد الثاني، مرجع سبق ذكره، ص 282.
97. الأصبهاني – أبي محمد جعفر بن حيّان، تحقيق السيد الجميلي، أخلاق النبي ( صلى الله عليه وسلم )، الطبعة الأولى، 1405هـ – 1985م، بيروت – لبنان، ص 66.
98. الأصبهاني – أبي محمد جعفر بن حيّان، تحقيق السيد الجميلي، أخلاق النبي ( صلى الله عليه وسلم )، مرجع سبق ذكره، ص 70.
99. الخطيب – محمد خليل، خطب الرسول ( صلى الله عليه وسلم )- جمع وشرح، الطبعة الأولى، 1373هـ، دار الفضيلة، القاهرة – مصر، ص 154، وقد روى الحديث الذي أورده الخطيب الطبراني في الزواجر، ج 2، ص 54.
100. رواه الطبراني، وورد في كتاب الغزالي - محمد، خلق المسلم، مرجع سبق ذكره، ص 205.
101. رواه أبو داوود، وورد في كتاب الغزالي - محمد، خلق المسلم، مرجع سبق ذكره، ص 208.
102. أي القرابة المشتبكة اشتباك العروق.
103. رواه الترمذي، وورد في كتاب الغزالي - محمد، خلق المسلم، مرجع سبق ذكره، ص 208.
104. رواه البخاري، وورد في كتاب الغزالي - محمد، خلق المسلم، مرجع سبق ذكره، ص 209.
105. رواه الطبراني، وورد في كتاب الغزالي - محمد، خلق المسلم، مرجع سبق ذكره، ص 209.
106. رواه مسلم، وورد في كتاب الغزالي - محمد، خلق المسلم، مرجع سبق ذكره، ص 211.
107. رواه أبو يعلى وابن حبان، وورد في كتاب السيد سابق، دعوة الإسلام، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985م، بيروت – لبنان، ص 173.
108. متفق عليه، وورد في النووي – أبي زكريا يحي بن شرف، رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1987م، بيروت – لبنان، ص 97.
109. www.sunna.org






















الباب الثاني


مظاهر الرحمة المحمدية للبشر
الفصل الأول: حقائق ومظاهر الرحمة الشخصية


الفصل الثاني: مظاهر الرحمة الدعوية

المبحث الأول: فلسفة التغيير الحضاري ما بين الرفق والعنف
المبحث الثاني: الرحمة منهج للدعوة في وقت السلم

المبحث الثالث: الرحمة منهج للدعوة في منطق البطش والحرب.


الفصل الثالث: الرحمة المحمدية في الفكر الغربي المتعقل





الباب الثاني


مظاهر الرحمة المحمدية للبشر
إذا كان قد ثبت من خلال ما تم استعراضه فيما سبق بأن أساس الكمال الأخلاقي المحمدي قد تمثل في رحمة اتسعت لكل من عايش الحقيقة المحمدية، فإن لهذه الرحمة مظاهر عظيمة وراقية. فقد اتسعت لتستوعب الجمادات، فلا يخفى حنين الجذع إليه، كما استوعبت بعمقها الحيوانات والطيور، وهي قبل ذلك لا محالة قد استوعبت الإنسان بأرقى المفاهيم التي انعكست على واقع السيرة النبوية الشريفة بما حوته من أحداث.
إن الرحمة كما تقرر جزء أساس في منظومة الأخلاق المحمدية، فهي من أعظم الأخلاق الرئيسة التي امتاز بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، والتي كانت مصبا ومنبعا لمعظم الأخلاق الأخرى.
لقد اتضح مما سبق مفهوم هذا الخلق الكريم الذي امتاز به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، كما تم تقرير الأدلة التي أكدت على هذا الخلق الكريم، سواء ما كان منها من دلائل قرآنية، أو ما كان منها من دلائل محمدية قد وردت في السيرة العطرة على نحو ما ذكر في الباب السابق.
وحتى تكتمل الصورة حول حقيقة خلق الرحمة كما انعكس على واقع الحياة المحمدية، فلا بد من التأكيد على أن هذه الرحمة باعتبارها جزءا لا يتجزأ من شخصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، وواقع متشابكا مع أحداث حياته، فإن المقام يستدعي استحضار حقائقها ومظاهرها، ولو أن الرحمة لم تكن سجية وصفة متأصلة في شخصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما كانت انعكاسا لمختلف تصرفاته في الحياة.
لقد فطره الله منذ ولادته على هذا الخلق الكريم، وجعله ينشأ في بيئة يسودها واقع الرحمة منذ طفولته، وهو ما جعلها تزيد كسجية عمقا وتأصلا في ذاته.
وإذا كان خلق الرحمة خلقا قد تأصل في ذاته، وانعكس على واقع حياته، فإنه من الأحرى أن يوظّف هذا الخلق المؤثر في سبيل نشر دعوته ودينه؛ ليستوعب بفضل ذلك ويمتلك ألباب العقلاء ممن آمن واستظل بظلال الإسلام بفضل دعوته.
ولا غرو أن الجهاد والقتال جزء لا يتجزأ من أجزاء الدعوة، وأسلوب ثانوي من أساليبها، وقد استخدمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أجل نشر دينه ودعوته، ورغم أن استخدمه، إلا أنه كان رحيما في استخدامه وتفعيله على ارض الواقع.
إن حقيقة العبقرية التي بلغها النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في توظيف محاسن أخلاقه من أجل تأدية وظيفته المتمثلة بنشر الدين على وجه الكمال حقيقة جديرة بالتناول والاستعراض. ومما لا شك فيه أن الرحمة كأبرز الأخلاق المحمدية كان لها الأثر والأثر الكبير في نشر حقائق الدين وتعاليمه.
ومن أجل ذلك فإن الوقوف إذا كان في الباب السابق من أجل إثبات مقام الرحمة بين الأخلاق المحمدية، والتعريف بها، وإبراز دلائلها من الكتاب والسنة. فإن الوقوف على أنواعها ومظاهرها جدير هو الآخر بالتناول، وهو ما نسلط عليه الضوء في هذا الباب، وذلك حتى نحلل درجة تمثل هذا الخلق الكريم في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما انعكست على واقع سيرته، وحقيقة أفعاله وتصرفاته، وذلك حتى نصل في النهاية إلى خلق إلمام تام بمظاهر هذا الخلق الكريم، وانعكاسه على البشر في واقع حياة ومعاملات النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
الفصل الأول
حقائق ومظاهر الرحمة الشخصية
من البديهي أن الإنسان عندما يكلّف بعمل فإنه لا يكلفه به إلا من يعلم على يقين بأنّه يمتلك أدواته، إذ أنه يقف عاجزا أمام هذا العمل المكلّف به إذا كان غير متأهّل لـه انطلاقا مما هو متأصّل في ذاته، أو انطلاقا مما هو مكتسب في حياته، وكلا الأمرين يصبّان في النهاية في القالب المراد إخراجه بالشكل المنمّق والدقيق.
إن حمل راية الدعوة إلى دين الإسلام كانت مليئة بالمصاعب، متحققة بالحكمة قبل القوّة، كما أنها في ذات الوقت تحتاج إلى إمكانات متعددة حتى يؤديها صاحبها على الوجه الأكمل.
تعد الرحمة كخلق هام كان ينعكس على مختلف التصرفات النبوية أحد الأدوات الهامة التي استخدمها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في واقع حياته، فهو لم يزل موظفا لهذه السجيّة التي أصّلها الله سبحانه وتعالى في داخله حتى يؤدي المهمة المكلف بها. كما كان للبيئة التي نشأ فيها، وللواقع الذي ترعرع فيه دور كبير في تنمية هذه الصفة. وأرى بأن العنصر الوراثي الذي خلقه الله سبحانه وتعالى في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان لـه الدور الأكبر في ما انعكس على التصرفات الحياتية عنده، فالمهمة المكلّف بها تعتبر من أشق المهام التي كلّف بها البشر عبر التاريخ، فهو ليس نبي ككل الأنبياء. إنه مكلف بأداء خاتمة الرسالات السماوية، وبتبليغ المبادئ الإسلامية كما كلّفه الله تعالى.
لقد تعددت التصرفات والمبادرات التي صدرت من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كأثر وانعكاس للرحمة المتأصّلة في داخله كإنسان، فالممارسات التي تصطبغ بحقيقة الرحمة لم تكن منعكسة على التصرفات التي يبتغي منها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أداء دعوته فحسب. كما أن العقل يقتضي أن من كانت له سجيّة، فهي تتأتى في كل مواقفه الحياتية، سواء ما اتصل فيها بواقع دوره ووظيفته، أو ما اتصل فيها بواقع حياته وفطرته.
وحتى تتضح الرؤية بشكل أكبر حول مظاهر الرحمة المتأصّلة في الذات، فإنه يتعين الوقوف على محطات ومواقف تعرض لها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في حياته، وكان لهـا دور كبير في إبراز هذا السلوك – حسب ما أرى – على تصرفاته.
إن من الأهمية بمكان الوقوف على عدد من المواقف والتصرفات في محطات متعددة من الحياة حول واقع الرحمة كخلق متأصّل في الذات المحمدية الشريفة، قبل أن يكون انعكاسا وتوظيفا لإخراج الدور بصورة أكمل وأتقن.
إن الرحمــة من سمات الكمال التي تحلّى بها الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، فقد وهبه الله قلباً رحيماً ، يرقّ للضعيف ، ويحنّ على المسكين ، ويعطف على الخلق أجمعين ، حتى صارت الرحمة لـه سجيّة ، فشملت الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر.
إذا كان الله سبحانه وتعالى قد امتن على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بالخلق الكريم، وامتدحه بعد ذلك بما حباه، فإن آيات الرفق والرحمة قد تأصّلت فيه بفضل ما عاصره في حياته من مواقف.

أولا: حقائق الرحمة المحمدية

عندما أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أرسله رحمة لجميع بني الإنسان، بل ورحمة عامة لجميع خلق الله تعالى.
لم تكن رحمته هداية للناس إلى دين الله تعالى فحسب، بل كانت رفقا بالخلق، ورأفة بهم وبظروفهم وأحوالهم، ، فقد اقتضى في تصرفاته الابتعاد عن كل شر وفساد وضرر، كما اقتضت كذلك جلب كل خير وصلاح ونفع.
لقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو الأرئف والأعطف عليهم حتى من أنفسهم، فكان بفضل ذلك أحق بهم من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكم أنفسهم، فعليهم أن يبذلوها دونه، ويجعلونها فدائه ( صلى الله عليه وسلم ).(1)
لم تكن شجاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقوته وشدته تطغى على خلق الرحمة أبدا، فقد كان خلق الرحمة عنده في كماله، كما كانت سائر الأخلاق في كمالها، فهو يوظف كل منها التوظيف المناسب.
إن ثمة مواطن يفقد فيها الرحماء رحمتهم، ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا تفارقه رحمته، وإن من أعظم دلائل عظم تأصّل الرحمة في ذاته أنه كان يؤذى ويضرب ويضطهد فيقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون ).
إن المواطن التي تختلط فيها عادة عواطف الرحمة بعواطف الانتقام أو الانتصار تبقى صفة الرحمة عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في محلها لا تطغى على غيرها، ولا يطغى غيرها عليها.
لقد كانت رحمته تسع الناس جميعا، ويحس بها المستضعفون قبل الأقوياء، فقد كانت تعم الخلق ولكنها لا تجاوز محلها فتطغى على صفات الكمال الأخرى.(2)
إن خلق الرحمة في الحقيقة المحمدية هي التي جعلت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يألف طباع الناس، ويقرّب بعيدهم. ولولا بشاشته التي لا تنطفئ، ورقته التي لا تفيض ما استطاع أن يؤلّف هذه الجموع.
لقد كانت تعاليم رسالة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلـم ) ينبوعا جيّاشا بكل ما تحتاج إليه الإنسانية من حب وإيناس ومودّة.(3)

ثانيا: مظاهر الرحمة المحمدية

لقد تجلّت رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) في عددٍ من المظاهر والمواقف، ولعل المقام يقتضي إبراز مثل هذه المواقف؛ وذلك حتى يقف المنصف على ما سبق أن ورد من حقائق حول الرحمة المحمدية، وكيف انعكست على واقع المواقف والتصرفات والمبادرات التي كانت تحيا بها حياة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).

· رحمته بالأطفال والأيتام

إذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رحيما في تصرفاته مع خلق الله أجمعين، وحتى مع أعداء الله من الكفار. فإن رحمته كانت أدعى للتواجد في مواقفه وتصرفاته مع الأطفال والأيتام. فعديم الرحمة في تصرفه معهم فاقد للإنسانية في تصرفاته، كما أن صفة الرحمة تنعدم في ممارساته.
لقد قررت الكثير من المواقف والمظاهر التي حوتها تعاملات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومواقفه مع الأطفال والصبيان والأيتام. ومن هذه المواقف التي تقرر عمق الرحمـة في قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) للأطفـال واليتامى ما رواه أنس بن مالـك ( رضي الله عنه ) قال: أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز ( أسرع ) في صلاتي مما أعلم من شدّة وجد أمه من بكائه ).
وعن أنس ( رضي الله عنه ) قال: ( ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي ( صلى الله عليه وسلـم )، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه ).(5)
لقد كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعامل الصبية معاملة كلها رحمة ورقة وتلطف بهم، وكان يلوم على القسوة والجمود، ويضرب الأمثلة للناس ليغير المفاهيم الخاطئة، ويرسي أصول المحبة والرحمة والشفقة خاصة بالأطفال؛ وذلك لما يعكسه هذا التصرف وفق هذا المفهوم في تنشئتهم على هذا الخلق الكريم.
لقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) يحمل الصبيان ويقبّلهم، ويتركهم يركبون على ظهره، ويضعهم في حجره، ويحملهم على عاتقه وهو يصلي. ويقرر ذلك ما رواه أبو هريــرة ( رضي الله عنه ) قال: ( قبّل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحسن والحسين بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: ( إن لي عشــرة من الولد ما قبّلت أحدا منهم قط، فنظر إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال: ( من لا يرحم لا يُرحم ).(6)
وعن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت: ( جاء أعرابي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: ( إنّكم تقبّلون الصبيان وما نقبّلهم )، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسـلم ): ( أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك ).(7)
ولعل ما يلاحظ من خلال التوجيهات النبوية لمن اقتضت جفوتهم غياب الرحمة في التصرف حتى مع الأطفال الزجر الشديد على ذلك، ففي الحديث الأول حذّر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائلا بأن من لا يرحم لا يرحم. كما قرر كذلك سبب تصرف هذا الأعرابي بأن يرجع إلى أن الله قد نزع من قلبه الرحمة والشفقة والرأفة، وهو شيء مذموم في الإسلام.
إن ما يتقرر من خلال الحديثين السابقين أن افتقاد الرحمة بشكل عام، وخاصة في التصرفات مع الأطفال أمر مذموم في الدين، بل هو من الأمور التي تتحقق بها مخالفة الدين ومبادئه وقيمه ومنهجه على نحو صريح وواضح.
وقد ثبت في الصحاح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبّل إبراهيم وشمّه، وأنه تأخّر في السجود تأخرا ملحوظا، فلما سئل عن السبب في ذلك بعد الصلاة قال: ( إن ابني ارتحلني وأنا ساجد فكرهت أن أعجّله ).(8)، وكان الذي فعل ذلك هو الحسن ابن ابنته فاطمة.
وقد ثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حسن شفقته بالأطفال ورحمته عليهم أنه كان يضع الطفل في حجره فربما بال عليه، ثم يرش موضع البول بالماء، وذلك دون أن تكون له ردة فعل أخرى.
كما ثبت أنه حمل أميمة بنت ابنته زينب على عاتقه وهو يصلي ( صلى الله عليه وسلم )، وكان الصحابة يأخذون الصبية الذين لا يعبثون ولا يشوّشون على الناس إلى المسجد ليدربوهم على الصلاة، وعلى تعلّم الآداب العامّة، فكان المجتمع الإسلامي يحيا مع قائده ( صلى الله عليه وسلم ) واقع رحمة وشفقة وذلة في التعامل مع الناس، والأطفال كجزء منهم.(9)
ولم تكن رحمته على الصبيان دون رحمته على عياله، فقد كان يعطف على عياله كأب حنون، ومرب فاضل، فكان يعطف عليهم، ويحسن إليهم. وفي ذلك يروي مسلم في صحيحه عن عمرو بن سعيد: عن أنس ( رضي الله عنه ) قال: ( ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، قال: ( كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليُدَّخَنُ – أي يعلو منه الدخان -، وكان ظئره قينا فيأخذه – أي فيأخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ابنه المسترضع فيقبله ثم يرجع ).(10)
وقد تمثلت رحمته بعياله عند فراق ولده إبراهيم، حيث دمعت عينيه على فراقه. فعن أنس ( رضي الله عنه ): أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه – أي في حالة الاحتضار -، فجعلت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تذرفان – تدمعان – فقال له عبد الرحمن بن عوف: ( وأنت يا رسول الله )، فقال: ( يا ابن عوف إنها رحمة )، ثم أتبعها بالأخرى فقال: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ).(11)
أما رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) باليتيم كانعكاس على رحمته بالأطفال، فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخصّهم برحمة تعوضهم عن حنان أبيهم أو أمهم أكثر من غيرهم من الأطفال. وكان يوصي بالإحسان عليهم، والعطف عليهم، ورحمة حالهم.
فلم يكن يقهر اليتيم امتثالا لأمر به جل وعلى، بل كـان ( صلى الله عليه وسلم ) يحسن إلى اليتامى ويبرّهم، ويوصي بكفالتهم والإحسان إليهم، بل ويبيّن الأجر الجزيل على عمل ذلك.
عن سهل بن سعد ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكـذا ).(12)، وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما.
وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ): عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ( خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يســاء إليه ).(13)
وذكر ( صلى الله عليه وسلم ) فضل المرأة التي مات زوجها، فحبست نفسها في تربية أولادها ولم تتزوج، فعن عوف بن مالك الأشجعي ( رضي الله عنه ): أن رسـول الله ( صلـى الله عليه وسلم ) قال: ( أنا وامرأة سفعاء الخدّين.(14) كهاتين يوم القيامة – الوسطى والسبابة – امرأة آمَت زوجها ذات منصب وجمال، حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا ).(15)
وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ): أن رجلا شكا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قسوة قلبه، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( امسح على رأس اليتيم ، وأطعم المسكين ).(16)
إن أساس انطلاق الرحمة في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت من خلال رحمته بالأطفال، فهو في ذلك ما ترك فعلا ولا قولا ولا تقريرا، ولا وعدا بالإحسان والجزاء من عند الله لمن يمتلك هذه الرحمة تجاه الأطفال إلا أكد عليه في كل مقام.
وأرى أن من تنعدم الرحمة عنده تجاه الأطفال والأيتام تنعدم عنده فيما سوى ذلك، فالقاسي في تصرفه على أولاده وعلى الصبيان والأيتام، تجده جافيا وقاسيا في كل شيء.
إن الرحمة بالأطفال هي أساس انطلاق الرحمة في قلب الإنسان، فمن دونها تعدم كل الرحمات؛ وذلك لما يتمتع به هؤلاء الأطفال من براءة وأريحية تجعل القلب القاسي يلين، فيستعصي على النفس فعل القسوة تجاههم على أي شكل من الأشكال، ويكون العطف عليهم تربية للنفس كما استقرئنا ذلك مما سبق من مواقف وأقوال واردة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، والذي قرر في قوله للأعرابي بأن الله قد نزع من قلبه الرحمة عندما علم بأن لديه عشرة من الولد لم يقبل منهم أحدا أبدا، وقرر جزاء على ذلك أن الرحمة لا يستحقها بسبب فقدانها عنده تجاه الأطفال والصبيان.

· رحمته بأزواجه

لقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أرحم الناس بأهله، فقد كان رحيما وملاطفا لزوجاته أمهات المؤمنين ( رضوان الله عليهن ).
ومن رحمته بأهله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يعاونهم في الأمور البيتية، فقد كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة كما ورد في الحديث الذي روته السيدة عائشة أم المؤمنين ( رضي الله عنها ).
ولم يكن ( صلى الله عليه وسلم ) من جبابرة الرجال، بل كان كثيرا ما يخدم نفسه بنفسه، ففي الحديث الذي روته السيدة عائشة أم المؤمنين ( رضي الله عنها ) قالت: ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم ).(17)
ومن مواطن الرحمة بالأهل والأقارب صلة الرحم، والتي حظ عليها النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كثير من الأحاديث. كما أكد في أحاديث أخرى على ضرورة العمل على بر الوالدين، بل إن هناك أحاديث تعتبر عقوق الوالدين من السبع الموبقات.
يحكي الأستاذ العقاد واقع معاملة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لزوجاته بأن ما أوجبه على المسلمين عامة في معاملاتهم لزوجاتهم كان دون ما أوجبه على نفسه في معاملة زوجاته بكثير، فكان يشفق أن يرينه غير باسم في وجوههن، ويزورهنّ جميعا في الصباح والمساء، وإذا خلا بهنّ كان ألين الناس بسّاما ضحّاكا كما قالت عنه أم المؤمنين السيدة عائشة ( رضي الله عنها ).
ولم يجعل من هيبة النبوّة سدا رادعا بينه وبين نساءه، بل أنساهنّ برفقه وإيناسه أنّهن يخاطبن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض الأحايين.
وكان من رحمته بهنّ أن كان يستغفر الله فيما لا يملك من التسوية بين إحداهنّ وسائرهنّ، وهو ميل قلبه: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك ).(18)
لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خير الناس بأهله، ولم يذكرنه أمهات المؤمنين بعد وفاته إلا بالذكر الحسن، وطيب العشرة، وحسن الصحبة.
لقد كانت الواحدة منهنّ تقدّر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كزوج لها، وكرجل يعاشرها، وكان اتصاله بجميع نساءه دون تمييز بينهنّ، وكان التزامه بالإحسان لهنّ، والرفق بهنّ، والشفقة عليهنّ.
وقد ضرب صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التلطّف مع أهل بيته ، حتى إنه كان يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية ( رضي الله عنها ) رجلها على ركبته حتى تركب البعير ، وكان عندما تأتيه ابنته فاطمة ( رضي الله عنها ) يأخذ بيدها ويقبلها، ويجلسها في مكانه الذي يجلس فيه.(19)

· رحمته بالمؤمنين والأصحاب

لقد جاءت رحمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالمؤمنين امتثالا لقول الله تعالى: { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }.(20)
عن أنس ( رضي الله عنه ) قال: ( كان رسـول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أشد الناس لطفا، والله ما كان يمتنع عن غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه، وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إيّاها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه ).(21)
فهذا الحديث يقرر مدى الحميمية التي كان يتمتع بها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في معاملته مع المؤمنين والأصحاب، فقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد العطف والألفة في معاملته مع المؤمنين جميعا.
عن أبي غالب ( رضي الله عنه ) قال: قلت لأبي أمامة ( رضي الله عنه ) حدّثنا حديثا سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ( كان حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن، يكثر الذكر، ويقصّر الخطبة، ويطيل الصلاة، ولا يأنف ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرغ من حاجته ).(22)
لقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحرص على الرفق بأمته، فهو في كل حين يراعي ظروف أتباعه، ويتوقى كل ما يشق عليهم، ويدعوهم إلى الاعتدال في السلوك، ويحذّرهم من الإفراط والتفريط رحمة بهم وإشفاقا عليهم، وتفاديا لأن يتعرّضوا لداء الكبت اللعين، أو الانحلال المهين.
ويحذّرهم أن يغالوا في العبادة، وينبههم إلى أن الإسلام دين وسط يعترف لذوي الحقوق بحقوقهم، ويوصي بإعطاء كل ذي حق حقه، فللزوجة حق لا بد لها أن تأخذه، كما أن للغرائز البشرية المدفونة في الإنسان - وفي مقدمتها الغريزة الجنسية - مطالب لا بد من الوفاء بها في حدود الاعتدال، وكذلك للجسم والعقل والروح والأهل وللمجتمع حقوق لا بد من تأديتها بالتمام والكمال.
وعلى هذا الأساس جاءت تعاليم الإسلام تتشبّع بالرحمة، وتتحاشى التعسير، وتقوم على التيسير، لتصل بعد ذلك إلى التوازن الذي يقوم على مبادئ الدين السمحة.(23)
إن ما سبق أمثلة لرحمته بالمؤمنين، وإلا فإن واقع تعاملاته جميعها تعكس رحمة منقطعة النظير بالمؤمنين والأصحاب، ولعل ما ذكر من أحاديث في هذا المقام، وما ذكر آنفا من دلائل أخرى تقرر مدى الشفقة والرحمة في تعامل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه ومع المؤمنين، فهو عزيز عليه ما عنتوا، حريص عليهم أبد الآبدين، كما أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم.
لقد أقام التزامه بالآية خير قيام، وما ترى إنسانا أو قائدا عامل الناس كرسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فقد كان يعامل المستضعفين والكبار والصغار والرؤساء والأتباع هذه المعاملة على حد سواء، فقد هذّبه ربّه وأدبه فأحسن تهذيبه وتأديبه.

· رحمته بالضعفاء

يحكي لنا الأستاذ العقّاد قمة الرحمة والشفقة في معاملة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) للعبيد بأنه أحسن وأجمل وامتاز في أمر دينه بذلك على كل محسن إلى الأرقاء في زمانه.
إن كثيرا من الأبناء لا يتمنّون عند آبائهم خيرا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد وعبيده، ومن من الآباء يحسن إلى أبناءه خيرا من إحسان محمد لزيد بن حارثة ولابنه أسامه ؟
لقد خيّرت الشريعة الإسلامية المحسنين بين المنّ وإعتاق الأسرى، وبين الفداء بالمال أو المبادلة، وأيهما اختار المالك فهو إحسان.
لقد اختار النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) المنّ وزاد عليه، فأعتق كل أسير صار إلى حوزته، وزاد على العتق تلك الرحمة المحمدية التي شملت كل منتم إليه، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلّم والوالد من ضرب وتعزير، وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب إلى الملاطفة منها إلى العقاب.
وكانت رحمته بعبيد غيره كرحمته بعبيده، فكان يجاملهم، ويجبر كسرهم، ويقبل منهم الهدية، ويكافئ عليها، ويلبي دعوتهم إذا دعوه إلى الطعام، ويوصي بهم، ويأمر باتقاء الله في معاملتهم.(24)
ولعل فيما ورد من أحاديث عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) خادم رسول الله ما يقرر مدى الرحمة التي يتعامل بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع الضعفاء من عبيد وخدم، ومساكين، فما من مسكين إلا وعطف عليه، وأعطاه من مال الله. بل كان ينهى عن الإساءة إلى العبيد والخدم كل من تسوّل له نفسه ذلك.
لقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) يهتمّ بأمر الضعفاء والخدم، الذين هم مظنّة وقوع الظلم عليهم، والاستيلاء على حقوقهم ، وكان يقرر بأنهم الإخوان الذين جعلهم الله تحت اليد، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، وألا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فليعنه.
ومن مظاهر الرحمة بهم كذلك ، ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعده معه أو ليناوله منه فإنه هو الذي ولي حره ودخانه ).(25)
لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يزور ضعفاء المسلمين ويلاطفهم ويؤانسهم، ويجلس معهم، ويعود مرضاهم، ويحضر جنائزهم، وفي هذا تكريم لهم، ومواساة وإحسان إليهم؛ وذلك كي يشعروا بعزّتهم وكرامتهم وسعادتهم.
فعن سهل بن سعد ( رضي الله عنه ) قال: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأتي ضعفاء المسلمين، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم ).(26)
إن الأحاديث والمواقف التي تقرر رحمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإشفاقه على خدمه كثيرة، ومما لا شك فيه أن الضعفاء من خدم ومساكين وعبيد بحكم وضعهم أدعى للعطف والرحمة من غيرهم، بل إن الإثم يعتبر نتيجة لكل من تسوّل له نفسه استغلال هذا الضعف الذي تحت يده فيبدر منها ما تنعدم فيه الرحمة والشفقة.
إن المقام لا يتسع لذكر الأحاديث الدالة على حث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإحسان إلى الضعفاء والعطف عليهم فهي كثيرة وسبق أن ذكرت، بل إن ذلك أدعى لرفع مقام الإنسان إلى أعلى الدرجات والمقامات، ومن دون رحمة يهديها السيد لعبده، ولخادمه تتخلف الإنسانية في شخصية الإنسان، ولنا في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مدرسة تعكس لنا السلوك الإيجابي الذي ينبغي أن تنعكس به تصرفاتنا مع العبيد والضعفاء والمساكين.

· رحمته بالمتعلم

تعتبر الرحمة والشفقة صفة أصيلة ينبغي أن يتحلى بها المربي والمعلّم، فقاسي القلب لا يصلح لأن يكون مربيا؛ لأن هذه الرحمة – التي هي حركة قلبية، وتألّم نفسي – هي العصب الحسّاس الذي يدفع المربي ذاتيا وعن رغبة للتخفيف عن الشخص الذي يربيه.(27)
يعتبر أسلوب الرحمة والشفقة من أنجح الأساليب في التعليم والتربية، فإشعار الطالب بالحنان والعطف وشدّة الحرص عليه يجعله أكثر اهتماما بالعلم.
إن من أدب المعلم في الإسلام أن يرفق بالمتعلم ويأخذ بيده، ويعامله معاملة الأب لولده، مقتديا بالمعلم الأول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي وصفه الله تعالى بقوله: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } .(28)، والـذي وصف نفسه فقال: ( إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ).(29)
وأهم ما يميّز علاقة الأبوة بالبنوّة هي صفة الرحمة والشفقة، والرفق والحنو، وهذا ما ينبغي أن يحس به المتعلم في معلمه عندما يغرس العطف في المتعلم.
ومن دلائل هذا الرفق أن يتبنى روح التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير. وهذا ما أوصى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند بعثه لأصحابه معلمين وهداة وقضاة، مثل: معاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، حيث قال لهما عندما بعثهما إلى اليمن: ( يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرا ).(30)
قال الحافظ في الفتح: ( وفي الحديث الأمر بالتيسير، والرفق بالرعيّة، وتحبيب الإيمان إليهم، وترك الشدّة لئلا تنفر قلوبهم، ولا سيّما فيمن كان قريب العهد بالإسلام، أو قارب حد التكليف من الأطفال؛ ليتمكّن الإيمان من قلبه، ويتمرّن عليه .
وكذلك الإنسان في تدريب نفسه على العمل إذا صدقت إرادته لا يشدد عليها، بل يأخذها بالتدريج والتيسير، حتى إذا أنست بحالها ودامت عليها نقلها إلى حال آخر، وزاد عليها أكثر من الأولى، حتى يصل إلى قدر احتمالها، ولا يكلّفها بما لعلّها تعجز عنه ).(30)
وفي حديث آخر: ( علّموا ويسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت).(31)
وفي آخر: ( علّموا ولا تعنّفوا، فإن المعلّم خير من المعنّف ).(32)
وذلك أن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وهو يحب الرفق في الأمر كلّه، ويجزي على الرفق ما لا يجزي على العنف، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا دخل العنف في شيء إلا شانه. وأحق الأشياء بالرفق التعليم، حيث أن ذلك يولّد الرغبة لديهم بتحصيل العلم.
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أرفق الناس بالمتعلمين، وأبعدهم عن التشديد والتعسير، والفظاظة، والغلظة. وهذا ما نوّه به القرآن من أخلاقه ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى: { فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر }.(33)
وكان الرجل يأتي من البادية، ويخاطبه باسمه مجرّدا، ويناديه من بعد، ويكلّمه بجفوة، وأحيانا يستوقفه في الطريق، فيسع هذا كلّه لحلمه وحسن خلقه، ويجيبه عما يسأل، وأكثر مما سأل، وقد يهم أصحابه به، أو يثورون في وجهه فيهدئ من ثورتهم، ويسكّن من غضبهم.
ولم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرفق بالمتعلمين فحسب، بل كان يواجه جفاء بعضهم بالإشفاق، وهذا إن دل فإنّما يدل على مدى تأصل الرفق والشفقة والرحمة في ذاتـه وشخصه. فعن أبي أيوب ( رضي الله عنه ): أن أعربيا عرض لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في سفره، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: ( يا رسول الله أو يا محمد، أخبرني بما يقرّبني من الجنّة، ويباعدني عن النــار ). قال: فكف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم نظر في أصحابه ثم قال: ( كيف قلت ؟ ) فأعادها. فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ): ( تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيــم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم. دع الناقة ).(34)
ويعد أعظم نموذج للرفق بالمتعلمين إذا أخطئوا رسول ( صلى الله عليه وسلم )، فهو خير من يقدّر الظروف، ويراعي الأحوال، ويسع الناس جميعا، فحتى ذلك الأعرابي الذي لم يخجل أن يبول في ركن المسجد أمام الناس لم يغلّظ عليه، وقابله لما ينبغي لمثله من الرفق واللين.
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال: ( بينما نحن في المسجد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): مه مه ( كلمة زجر ) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعاه فقال له: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل أو الصلاة وقراءة القرآن ). أو كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). قال: ( فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه ).(35)
لقد راعى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يوصل المعلومة بداوة هذا الرجل ونشأته وظروف حياته، فلم يستجب لثورة أصحابه وهياجهم عليه، وعرّفهم أن علاج الأمر سهل في مسجد لم يكن مفروشا إلا بالحصباء، وهو صب دلو من ماء. ثم نبّههم إلى رسالتهم التي كلّفوا حملها للناس، وهي التيسير لا التعسير.
وروى أبو أمامة ( رضي الله عنه ): ( أن فتى من قريش جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنى ؟، فأقبل القوم إليه وزجروه فقال ( صلى الله عليه وسلم ): ادنه، فدنا فقال: أتحبه لأمك ؟، قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبّونه لأمهاتهم. ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمّته وخالته، وفي كل ذلك يقول: أتحبه هكذا ؟، فيقول: لا والله جعلني الله فداك، فيقول ( صلى الله عليه وسلم ): ولا الناس يحبونه، ثم وضع يده عليه وقال: ( اللهم اغفر له ذنبه، وطهّر قلبه، وحصّن فرجه ). فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء).(36)
لقد لقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الشاب بلين عجيب، وبرفق هادئ علّمه أمور دينه، فخرج تام القناعة بما سمع.
إن أولى المخطئين بالإشفاق من كان خطؤه عن جهل أو غفلة أو ضعف، وبخاصّة من أخطأ لأول مرّة، كالأعرابي والشاب الذين استعرضنا قصة كل منهما.
إن ما سبق أن استعرض من مظاهر للرحمة التي تأصّلت في مواقف وتصرفات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تقرر حقيقة الذات المحمدية، وكيف أن صفة الرحمة صفة شخصيّة قد تأصلت في تصرفاته ومواقفه، مما يعني بما لا يدع مجالا للشك أن القسوة قد انعدمت في قلب رســول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فلم تثبت كتب السيرة أي موقف يدل على قسوة بادرة من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا من قريب أو بعيد.
لقد تأكدت رحمته بالأطفال والأيتام، ورحمته بالضعفاء، ورحمته بالنساء، ورحمته بالمؤمنين، ورحمته بالمتعلم، وكيف تأصلت هذه الرحمات وانصبّت وانعكست على واقع تصرفاته ومواقفه في مختلف تعاملاته.
ولا اعتقد أن إنسانا بهذه المواقف يسري إلى الظن الاعتقاد بأنه إنسان قاس، وذلك حسب ما تحكم به لغة العقل والعقلاء، وليست لغة الهوى والانحراف بالفكر عن جادّة الصواب.
إن الإنسان المنصف الذي ينظر في حكمه على الآخر بإنصاف واعتدال يقرر ومن دون تردد بأن شخصيّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما عكسته من مواقفها وتصرفاتها تنم عن شخصية مفعمة بالرفق واللين، فهو لا تبدر منه تصرفات تعكس ذلك فحسب، بل تتعزز توجيهاته الراقية إلى أصحابه بضرورة مراعاة التخلّق باللين والرفق مع كل شيء في الحياة فضلا عن الإنسان.
مهما كانت درجة قسوة قلب الإنسان ترى رســول الله ( صلى الله عليه وسلم ) برفقه ولين عريكته يحتويه بعطفه وسماحته، ومهما كانت قسوة المخاطب تجده بخطابه يستوعب كافة درجات القسوة والغلظة ومختلف صور الجفاء والرعونة.
إن رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) كما تأكد مما سبق شيء متأصّل في ذاته لا ينفك عنه، فمن المستحيل أن تجد موقف له من المواقف قد تميز بالجفاء والغلظة.
كما أن رحمته ليست رحمة عادية يتميّز بها أي إنسان يدعو إلى منهج، فنجاحه في المواقف التي تعرّض لها يعجز عنه أي إنسان آخر. وهذا ما يقرر بأن هناك ثمة دعم ربّاني يؤكّد على أن هذه الرحمة إعجاز إلهي قد أوجده في شخصيّة رسوله ( صلى الله عليه وسلم )، فانعكس على تصرفاته ومواقفه جميعا، واتخذه منهجا لدعوته بعد ذلك، وهو ما سنقرر الحديث حوله في الفصل التالي.
















الفصل الثاني
مظاهر الرحمة الدعوية
تعد شخصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كما تبيّن مما سبق شخصية رحيمة انعكس الرفق في غالب تصرفاتها ومواقفها. ومما لا شك فيه أن تأصل الرحمة بالصورة التي أوردناها، وبالمظاهر التي اتخذتها كما اتضح يعبر عن مدى التشبّع الذي يمكّن صاحبه من أن يعكس واقع هذه الصفة بصورة منقطعة النظير.
لم تقتصر ممارسة سلوكيات الرحمة في المواقف التي برزت في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على حياته الشخصية والعادية، فهو في المقام الأول رسول من عند الله تعالى، ومكلّف بمهمّة ينبغي عليه أن يؤديها على التمام والكمال، ومن خلال ذلك فإن تطويع خلق الرحمة في أسلوب دعوته لكسب قلوب الناس وإقناعهم بالدين أوجب من تطويعها في مواقفه الشخصية.
إلا أنه وفي ذات الوقت لولا انطباع تصرفاته الشخصية بالرحمة، ولولا أن الرحمة صفة متأصلة في شخصيتــه ( صلى الله عليه وسلم )، ومن الطبائع التي جبل عليها لما انعكست واقعا في منهجية دعوته.
وحتى نقرّب الصورة أكثر لإيضاح الرحمة الدعوية، وكيف انعكست في أسلوب دعوة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، فلا بد من تناول فلسفة التغيير الحضاري كهدف من أهداف الدعوة المحمدية ما بين الرفق والعنف، وآلية التوزان في استخدام هذا وذاك.
كما نسلّط الضوء على الأصل في استخدام أسلوب الرحمة كمنهج دعوة في وقت السلم والرخاء، وكيف أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سعى لاستثمار خلق الرحمة في هذا الواقع كفلسفة للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، وأن أساس دعوة الآخر إلى المبادئ تتطلب الرفق والرحمة والشفقة بالمدعو كأصل وليس كاستثناء.
ولم تكن رحمة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) مقصورة على تصرفاته الشخصيّة وممارساته اليومية في مواقفه التي استعرضناها فيما سبق، بل اتسعت رحمته لتكون أسلوبا ومنهجا للدعوة في منطق البطش والحرب، وهو ما يعجز عنه غيره.
إن المستقرئ لممارسات النبوة عبر جميع الأصعدة وفي كل الميادين يجدها مفعمة بالرحمة والرفق والشفقة، وقد اجتهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كي يقرر كون رسالته رحمة للعالمين قدر استطاعته، وبذل لأجل ذلك أقصى جهده، فكان ثمرة ذلك أن أكمل الله به الدين، وأتم بذلك على عباده النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا.
المبحث الأول
فلسفة التغيير الحضاري ما بين الرفق والعنف
عندما آوى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى غار حراء جاءه جبريل ( عليه السلام ) ليعلمه بالمهمّة المقدّسة التي كلّفه الله بها، وأن عليه أن يضع استراتيجية وأسلوبا لتحقيق أفضل النتائج في هذه المهمّة، وأن يتّخذ أفضل الأساليب من أجل نشر الدين والمنهجية الإسلامية.
ومنذ ذلك اليوم وهو يعلم أن حياته ستكون جهادا في جهاد، وألم في ألم، وضيق في ضيق، إلا أنه يعلم أن الفرج لا محالة آت، وأن مع العسر يسرا، وأن الله معه في تبليغ هذه الرسالة السامية إلى البشرية، ورغم أن واجبه ما كان يتمثل إلا بما استوجبه الله عليه من البلاغ المبين، إلا أنّه كلّف نفسه ما لا تطيق حرصا على دعوة أكبر قدر ممكن إلى الدين الجديد، وكان يزعجه ويؤلمه إعراض بعضهم عن خيري الدنيا والآخرة.
لقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسعى للرفق في كل شيء حتى مع أعدائه، إلا أن ميزان الحياة قد اقتضى منه أن يفتقد الرفق في بعض التصرفات، لينتج سلوكا يفتقد إلى الرفق إلى حد ما، وما دعاه إلى ذلك ما اقتضته الضرورة الحياتية كما قررتها الفطرة الربانية، والتي طوّعها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خدمة لأداء وظيفته، ولم يكن يبتغي في يوم من الأيام استخدامها لأغراض دنيوية.
كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يلقى من أذى قومه صنوفا وألوانا، وذلك على الرغم من أنه لو سأل الله لأهلك أعدائه، وكم مكّن لـه أن يحل بهم من الانتقام ما يجعلهم مثلا وعبرة للآخرين.لكنه كان يقابل الإساءة بالإحسان، والأذى بالعفو والغفران.

أولا: { وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين }

إن المستقرئ لما ورد في كتاب الله تعالى من آيات تحكي كون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة للعالمين يتضح لـه جليا أن جميع ما جاءت به الرسالة المحمدية، وجميع ما اشتملت عليه من عبادات ومعاملات، وآداب وأخلاق، وحقوق وواجبات كان مبنيا على أساس الرحمة بالعباد.
وحتى ما جاءت به الرسالة المحمدية من العقوبات الشرعية، وهي القصاص والحدود والتعزير، كل ذلك إنما هو رحمة للعالمين، ورحمة للبلاد والعباد؛ لأن في ذلك إيقافا للمفسد من التوغّل في الفساد، ومنعا لفساده لئلا يستشري لغيره، فإن عضو الجسم في الإنسان إذا فسد فمن الرحمة أن يبتر لئلا يستشري الفساد لغيره.
لقد كانت مساحة الرحمة في رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) متسعة لتشمل الإنس والجن بجميع طبقاتهم، فهو مكلّف بتبليغ الرسالة للجن والإنس.
كما اتسعت هذه المساحة لتشمل الملائكة، وهو ما ذهب إليه جماهير العلماء والعرفاء، وذلك إما باعتبار أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مرسل إليهم برسالة فيها تكليف لهم بأوامر ونواهي، وذلك ما رجّحه كثير من محققي المحدثين والفقهاء، فهو نتيجة لذلك رحمة لجميع الكائنات في الكون، ولكل منهم جانب من ذلك. وإما باعتبار أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مرسل إليهم رسالة تشريف، فقد شملهم بعموم رحمته، ونالوا بواسطته علوما جمّة كثيرة، وأسرارا مكنونة، وذلك مما أودعه الله سبحانه وتعالى كتابه الذي أنزله على نبيه محمـد ( صلى الله عليه وسلم )، والإيحاءات النبوية التي أوحاها إليه.(37)

ثانيا: صناعة الإنسان

لقد مارس المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) صناعة الإنسان بحرفنة ربانية متناهية في الدقّة، يمكن أن يتخذ من خلالها الدعاة منهجا وأسلوبا لتحقيق هدف التغيير الإيجابي في المجتمع الإنساني.
ومما لا شك فيه أن فترة الدعوة التي عمل فيها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على بذل أقصى الجهد في الارتقاء بالإنسان، وانتقاله من مرحلة إلى أخرى يدلل دلالة عظيمة على أن منهجيته في ذلك كانت تمتاز بمرونة متناهية تصب في قالب رحمة وقلب مشفق على المدعو، فهو أشد فرحة بهداية الناس أكثر من أي حدث آخر. ولعل في إخلاصه وجديّته المتناهيتين، وما حباه الله من قدرات إلهية ما جعله يحقق هدفه المنشود بدقّة متناهية. ولا شك أن الوقوف على فلسفة التغيير الحضاري التي منهج دعوته عليها يستوقف كل صاحب لب وبصيرة ليستقرئها بدقة.
عندما نتناول بالدراسة العلمية، والتحليل المفصّل شخصية مفكّر، فإننا نضع في حسباننا مدى الرسوخ الذهني للأفكار والمبادىء التي كان يدعو إليها في أذهان الناس؛ فهذا يعزّز لدينا مدى حجم حقيقة الاقتناع لفكر هذا المفكّر. وتكوين القناعات الناس ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى قدرات عظيمة لا بد أن يتأهّل بها المحاور؛ وذلك كي يرسّخها في عقيدة نظيره، وهذه القدرات إذا امتلكها الإنسان فإنه يستطيع من خلالها أن يقرّ أفكاره في عقول الآخرين، فالأفكار والمبادىء التي تستقر عند صاحب مذهب يدعو إليه، تحتاج إلى فنّ لطرحها والتحاور حولها، وترسيخها في الأفهام. ولا يخفى علينا عندما نتكلّم عن المصلحين الذين أحدثوا تغييرات جذرية في المجتمعات البشرية، وذلك عن طريق الحوار البنّاء مع الآخر، فإنه يبرز لدينا الدور العظيم الذي قام به النبي العبقري محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على مدى ثلاثة وعشرين عاما اشتملت على أربعة مراحل، وكان لكل مرحلة آلياتها وأساليبها، فما أحدثه من تغيير في مجتمع يستحيل فيه التغيير، يجعل المفكرين على مختلف مذاهبهم ومشاربهم يلقون جلّ اهتمامهم؛ ليقفوا على الآليات التي يطرح بها هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهجيته، ليروا بعد ذلك بعدا منهجاّ عظيماّ يستطيع من خلاله كل متحاور أن يدعّم القدرة على عرض المنهج، والدعوة إليه، والتحاور فيه، وذلك وفق أسس يستطيع من خلالها أن يستقطب الفكر الذي يتحاور معه، وبذلك سيجد فكره يلقى قبولا لدى الآخر.
لقد كانــت قدرة تأثير الحوار النبوي ذات قوة فاعلة استطاع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من خلالها أن يستقطب عقولا جامدة يستحيل الحوار معها، وتغيير فكرها، إلا باتباع منهجية ذات قواعد استطاع من خلالها أن يستقطب جميع الطبقات الفكرية الموجودة في المجتمع الجاهلي، وقد عزّز هذه المنهجية توجيه إلهي استوعب العقول بأسلوب جذاب، نتج عنه استقرار المنهج الشرعي لدى كثير من العقول الواعية.
لقد وضع المفكر السيلاني البروفسـور عبد المجيد مكين، المنهجية التي تناول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من خلالها الطرح لمنهجية الإسلام في التفاهم والحوار، وكل ذلك وفق استعدادات وأساليب علمية، لو رجعنا إليها لوجدنا ما يغنينا عن الاستعانة بأي منهجية أخرى. وذلك من خلال رؤيته التي وضعها للمنهج النبوي في التغيير الحضاري، والتي وضع من خلالها العلامات البارزة فيه وهي:
· أنه مارس عمليات الربط الحضاري على المستوى النفسي والاجتماعي، وحقّق فيها أعلى مستويات الإتقان المنهجي والثقافي، وترك لنا نموذجاّ لبناء حضاري عالمي شامخ، بمقدوره أن يقدّم لنا ( الهداية الحضارية ) كلما استدعيناه بوعي، وفهمناه بعمق.
· كان الوعي المنهجي النبوي، هو الوعي الذي يعطي للحركة التغييرية القدرة اللازمة لفهم سنن الذكر، وسنن الأنفس وسنن الكون؛ ذلك أن فهم هذه الأنواع من السنن، هو الذي يجعل المشكلة الحقيقية للأمة واضحة دون غموض، وممكنة الحل في حدود الطاقة البشرية.
· يهتم المنهج النبوي بإعداد المشاريع التربوية، من مراعاة لتوزيع الخريطة الثقافية والجغرافية للناس وقدراتهم واستعداداتهم؛ وذلك حتى تصبح تربية اجتماعية، تطول كل شرائح المجتمع ومؤسساته، فكل شريحة تحتاج إلى فهم معادلتها، والأسلوب الأمثل في التعامل مع قضاياها ومتطلباتها.
· في ظل الطرح الإسلامي يبدو لنا معيار الوحي هو المدخل الوحيد لدراسة مشكلات وقضايا الفكر الإسلامي؛ إذ لا تجدي الطريقة العلمية الحديثة شيئا في استنكاه خبايا الظواهر الإسلامية، ومغازيها الحقيقية، وأبعادها الجوهرية التي لا يمكن فهمها، إلا في ضوء معيار الوحي. (38)
إن هذه المعايير التي اتضح من خلال تناولها رؤية البروفيسور مكين للمنهج النبوي في التغيير الحضاري نــستطيع من خلالها أن نضع رؤية إسلامية للآلية التي يمكن التعامل بها مع الآخر، وذلك وفق أطر تستقطب وتجذب بـها الفكر الآخر من خـلال وضع منهجية علميـة تتفق أسسهـا مع الشريعة الإسلامية، ولن يتـأتى ذلك إلا من خلال دراسات تتناول هذا المنهج بكل أبعاده0
يعد الحوار أسلوب من أساليب الرفق بالمدعو، فمتى كان المدعو راغبا في الحوار، فإن الرفق سمة تتسم في واقع العلاقة به، وفي الأسلوب والمنهج الذي يتبع في دعوته، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تعنيف من كان متقبلا للغة الرقي بين المتخاطبين والمتمثلة في الحوار.
ثالثا: منهجية التغيير ما بين الرفق والعنف

إن الحاجة أو الهدف الذي يسعى النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تحقيقه هو بناء دولة يمكن للحاكم فيها أن ينطلق، ويمكن من خلال نفوذها نشر الدعوة إلى دين الله تعالى، وهي الوظيفة الأساسية في حياة النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
ولكن ما هو الأسلوب الأمثل لإخراج هذه الدولة إلى حيّز الوجود، فخروجها إلى حيّز الوجود يعني أن الرحمة المحمدية ستتخذ أفقا أوسع للانتشار، فيعم الخير جميع البشرية.
لا بد من تغيير الحكم الفاسد إلى حكم صالح، وتبديل الدولة الكافرة بدولة إسلامية، فما هو السبيل إلى نشر هذه الرحمة المحمدية ... هل السبيل هو العنف والبطش، أو الرفق واللين، أو هما معا كل بحسب موضع وظروفه ؟
إن المقرر في المنهجية المحمدية هو تفضيل الرفق في المقام الأول، وبالدرجة الأولى، وسيرة المصطفى من خلال استقراء أحداثها تقرر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يلجأ إلى أسلوب اللين في كل شيء ما أمكن، سواء في ذلك مجال الدعوة أو مجال الحكم.
لقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) يؤخّر أسلوب العنف ما كان للرفق سبيل، فإذا فقدت حالات اللين والرفق، كان العنف هو سبيله إلى الوصول إلى حل المشكلة، أو بلوغ الهدف؛ وذلك لأن العنف لا يخلوا من كثير من السلبيات الفردية. وهذا هو أسلوبه العملي في بداية الدعوة ونهايتها، فقد كان يتفادى الحرب ما أمكنه ذلك، فلا يخوضها إلا إذا فرضها عليه العدو، أو من طبيعة الظروف العامة المحيطة به.(39)
قد يظن البعض بأن القوة تساوي العنف، وهو ما يتناقض مع المنطق المحمدي في التعامل مع الآخر، وأن الضعف يساوي اللاعنف، وما يلتقي به من مفاهيم المسالمة والموادعة والصفح والعفو والمغفرة وما إلى ذلك.
إن القوة ليست كلها عنف، ولا الضعف كله يتمثل في اللاعنف، فقد يكون الضعف بالمعنى السابق تعبيرا عن القوة إذا نظرنا له من زاوية أخرى، وقد تكون القوة بالمعنى السابق تعبيرا عن الضعف إذا نظرنا لها من زاوية أخرى.(40)
إن الناظر والمستقرئ للمواقف التي تعكس منهجية التغيير في الحقيقة المحمدية يجدها تفضّل في غالب أمرها أسلوب اللين والرفق كسبيل لتحقيق الهدف، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر ينبع من واقع الفلسفة التي أقام عليها رسـول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعوته.
إن الأصل في العلاقة بين المسلمين والآخر في إيصال حقائق هذا الدين هو السلم، والحرب والبطش يعتبر استثناء في ذلك، ولا شك أن السلم فيه تعبير عن الرفق واللين في المعاملة، وهو ما يعكس واقعا مليئا بالرحمة والشفقة، والتي تلبي حاجة النفس البشرية في الاستجابة للخطاب الدعوي على نحو إيجابي مثمر.
إن الرسالة المحمدية حوت أسلوبا ومنهجا ، وقواعد وأسسا مفعمة بالشفقة والرحمة. كما أن فلسفة التغيير في المنهجية المحمدية تقوم على أسلوب أصل يتمثل في الحوار واللين فيه، والشفقة في التعامل، والرحمة في المخالطة مع الآخر، واستثناء يتمثل في عكس ذلك.
ففلسفة التغيير إذا تفعّل الرفق واللين في إيصال حقائق هذا الدين، وفي ذات الوقت يكون للعنف وجودا في واقع العلاقة، وفي هدف التغيير، وهذه المنهجية النبوية القائمة على التوازن تقتضيها فطرة الصراع بين الجماعات البشرية، وهو ما حتّم ضرورة تفعيل الرفق والعنف حسب متطلبات الوضع والظروف.
وحتى نقف على هذين المنهجين المتضادين، وكيف جمع بينهما المصطفى بشكل متوازن ومعتدل، وما استطاعه من استقصاء الصواب في تفعيل أيا من هذين المنهجين حسب ما يخدم منهجيته الدعوية. فلا بد من التأكيد على أن التغيير كفلسفة تقوم عليها منهجية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في وقت السلم لـها أدواتها وآلياتها، وكيفياتها وأوضاعها المفعمة بالشفقة واللين والرحمة. كما أن التغيير كفلسفة تقوم عليها منهجية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لـها هي الأخرى أدواتها وآلياتها، وكيفياتها وأوضاعها المفعمة بالشفقة واللين والرحمة، وهو ما تفتقده الكثير من المنهجيات؛ وذلك أن أساس استخدامه ( صلى الله عليه وسلم ) للقوة ليس لذات القوة، بل لتحقيق أهداف سامية تحتاج إلى استخدام أسلوب العنف لتحقيق الهدف، وذلك فطرة وواقع قد سنّه الله في صورة العلاقة الأخرى – والتي تقتضي العنف - بين الجماعات البشرية.






المبحث الثاني
الرحمة منهج للدعوة في وقت السلم
كانت ثمرة رحمة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) المتأصّلة في ذاته انعكاسا ورحمة بالأعداء حرباً وسلماً، فعلى الرغم من تعدد أشكال الأذى الذي ذاقه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه من الكفار في العهد المكي، إلا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قد ضرب المثل الأعلى في حسن التعامل معهم، وليس أدلّ على ذلك من قصة إسلام الصحابي الجليل ثمامة بن أثال ( رضي الله عنه ) عندما أسره المسلمون وأتوا به إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فربطوه بسارية من سواري المسجد، ومكث على تلك الحال ثلاثة أيام وهو يرى المجتمع المسلم عن قرب، حتى دخل الإيمان قلبه، ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإطلاقه. فانطلق إلى نخـل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد فقال: ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله، يا محمد: والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ).
وسرعان ما تغير حال ثمامة فانطلق إلى قريش يهددها بقطع طريق تجارتهم، وصار درعاً يدافع عن الإسلام والمسلمين .
كما تجلّت رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً في ذلك الموقف العظيم، يوم فتح مكة وتمكين الله تعالى له، حينما أعلنها صريحةً واضحةً: ( اليوم يوم المرحمة ). وأصدر عفوه العام عن قريش التي لم تدّخر وسعاً في إلحاق الأذى بالمسلمين، فقابل الإساءة بالإحسان، والأذيّة بحسن المعاملة.
لقد كانت حياته ( صلى الله عليه وسلم ) كلها رحمة، فهو رحمة، وشريعته رحمة، وسيرته رحمة، وسنته رحمة.(41)، وصدق الله إذ يقول: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }.(42)
لقد تمثلت في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الرحمة المهداة، فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو الرحمة التي أرسلها الله تعالى رحمة للعالمين والمؤمنين، بل ورحمة للكافرين، ورحمة لجميع بني الإنسان، ورحمة للحيوان، فهورحمة عامة لجميع خلق الله تعالى.
إن الإسلام رسالة سلام ورحمة وخير وعطف على البشرية جمعاء. لذا كان ( صلى الله عليه وسلم ) يؤثر الوئام والسلام، بل هو رسول للسلام والرحمة.
إن المستقرئ لسيرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يــرى الرحمة متمثلة في كل فضيلة من هذه الفضائل، فالله جل وعلى أدبه فأحسن تأديبهليكون قدوة للناس، وقد تحقق له ( صلى الله عليه وسلم ) تمام مكارم الأخلاق.
لقد أشيع أن الإسلام دين حقد وبطش على الآخرين، وهذه الشائعة يروج لها أعداء الإسلام باستمرار، ولابد من دحر هذه الشائعة وإنكار هذا الظلم في حق الإسلام. كما لا بد من التأكيد على أن الجهاد في الإسلام لا يعني الحقد على الكافرين، ويقرر ذلك ما أكده الرسـول ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون ). كما طلب منه أصحابه صلى الله عليه وسلم عندما انصرفوا من حصار الطائف: ( أدع الله على ثقيف )، فقال: ( اللهم أهد ثقيفاً وأت بهم ).
وقد غرس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أصحابه هذه الصفة، صفة الرحمة والرأفة لجميع خلق الله سبحانه وتعالى، وبالتالي أصبحت علاقة المسلمين بغير المسلمين تقوم على البر والتعاون والعدالة بل والمصاهرة ولاسيما أهل الكتاب. وقد كانت غزوات الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، والسرايا التي بعثها النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما هي إلا حماية لحرية نشر الدعوة بحيث لا يكرهون أحداً على الدخول في الإسلام لأنه دين سلام وأمن وأمان.

أولا: صبره على أذى المشركين

إن من أبرز دلائل الرحمة المتأصلة في ذاته ( صلى الله عليه وسلم )، والصورة النموذجية التي عكس بها استثماره لهذه الرحمة التي حباه الله إياها، فاستطاع أن يوظّفها ويستثمرها في سبيل نشر دعوته ومنهجه، هو صبره على أذى المشركين، وتحمّله للشدائد في سبيل الله تعالى.
فقد كان من أولي العزم من الرسل، وكان صبره ( صلى الله عليه وسلم ) يفوق صبر الصابرين، وتحمّله لأنواع أذى المعاندين لـه يعلو تحمّل العالمين، فكم لقي من سفهاء قريش وأشدائهم من الغلظة والسفاهة والجفاء والشدّة.
ولا ريب أن الكلام البذيء الفاحش المسيء لـه من صناديد قريش وعتاتها كلام في أصحاب النفوس الأبية، والأخلاق الرضية، ويتأثرون به أضعاف ما يتأثر به غيرهم، وإن الأفعال المؤذية لتعمل في نفوسهم أضعاف ما تعمل في غيرهم ممن لا خلاق لـه ولا خلق، فما ظنّك بنفسية سيدنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) التي هي مجمع الكمال والأفضال ومصدرها، وما الظن من تأثره بالكلام المؤذي، والفعل المسيء إليه.
لقد كان المشركون يتصدّون لـه بالعداوة، ويقابلونه بأنواع الأذى بجموعهم وجماهيرهم، وبأفرادهم ونسائهم وصبيانهم.
ومن أبرز المواقف التي عكست مدى البون الشاسع التي اتخذته الرحمة في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ما كان متمثلا في صبره على أذى قريش وتعذيبهم.
· ثبت في الصحيحين، من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة حدّثته أنها قالت لرسـول الله ( صلى الله عليه وسلم ): هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟
قال: ( ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد الليل بن عبد كَلال فلم يجبني إلي ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ولم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل ( عليه السلام )، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
ثم ناداني ملك الجبال فسلّم علي ثم قال: يا محمد قد بعثني الله. إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت. إن شئت تطبق عليهم الأخشبين، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ( أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبـد الله لا يشرك به شيئا ).(43)
· عرض الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه على القبائل، وبدء إسلام الأنصار، وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خلال هذه الفترة كلها يعرض نفسه في موسم الحج على القبائل التي تتوافد على مكة من كل سنة. يتلوا عليهم كتاب الله، ويدعوهم إلى توحيد الله فلا يستجيب له أحد.
يقول ابن سعد في طبقاته: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوافي الموسم كل عام يتّبع الحجاج في منازلهم في المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز. يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلّغ رسالات ربّه ولهم الجنّة، فلا يجد أحدا ينصره، ويقول: ( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنّة )، وأبو لهب يقول: ( لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب )، فيردّون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقبح الرد ويؤذونه ).(44)
· وآخر صور الإيذاء التي تعرض لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما روي عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) قال: ( بيّنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي عن البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت جزور – أي بعير بالأمس -، فقال أبو جهل: أيّكم يقوم إلى سلا – أي كرش – جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد ؟، فانبعث أشقى القوم – عقبة بن أبي معيط - فأخذه، فلما سجد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وضعه – أي وضع كرش البعير بين كتفيه ( صلى الله عليه وسلم ) فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض. قال ابن مسعود: ( وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة – أي قوة وجماعة – طرحته عن ظهره ( صلى الله عليه وسلم )، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ساجد ما يرفع، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة ( رضي الله عنها ) فجاءت هي وجويرية فطرحته عنه ( صلى الله عليه وسلم )، ثم أقبلت إليهم تشتمهم. فلما قضى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاث مرات، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: ( اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط )، وذكر السابع ولم أحفظه. فو الذي بعث محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) بالحق لقد رأيت الذي سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب – أي البئر – قليب بدر ).(45)
إن المصطفى في تعامله مع غير المسلمين، وعلى الرغم مما لاقاه من أذى من أهل الطائف، إلا أنه صبر واحتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى، وفعّل ضمن أصول دعوته أنه ما أرسل إلا رحمة للعالمين، كيف لا وهو من أولي العزم من الرسل الذين صبروا على شديد أذى قومهم. وهمه رغم ما لاقى من ضنك وعذاب أن يرى من يدعوهم مستجيبين لدعوة دينه، ولحقيقة يقينه، وفي أن يصل هذا الدين بتعاليمه إلى القاصي والداني، ولا همّ لـه غير ذلك. وقد هيّأه الله بما ملّكه من أدوات من رحمة وشفقة ولين في قلبه، إضافة إلى صبر على بلاء الدعوة إلى دينه؛ ليكون صبره هذا منهجا راقيا في دعوة الناس إلى الحق والفضيلة.
إن ما يتضح من خلال صور الإيذاء التي تعرض لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وهو صاحب المكارم والأخلاق والمقامات العالية، ونفسه أشد تأثرا من غيره، وبما تعرض له من إهانة، تقرر بأن الرحمة التي خص الله سبحانه وتعالى بها رسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) لم يضعها في قلب بشر غيره ولا حتى من الأنبياء ( عليهم السلام ).
فالحديث الأول يبيّن مدى الانتهاك الذي مارسه أهل الطائف في حق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، والذين رموه بالحجارة، وحرّضوا سفهاءهم وصبيانهم على ذلك. إلا أنه على الرغم من ذلك فإنه عندما طلب منه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، أبت النفس الرحيمة والمشفقة على المدعويين أن يفعل ملك الجبال ذلك، علّ الله أن يخرج من أصلا بهم من يعبد الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك قمّة الرحمة والشفقة بعباد الله تعالى الذين وُلِّي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لدعوتهم.
أمــا حديث وفد يثرب، فقد كـان رســول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يلف على القبائل لدعوتها إلى الدين الجديد، وأبو لهب يسير خلفه، ويحذّر الناس منه، ويتهمه بالسحر والكذب، وهو لا يعبأ لـه، بل ويشفق عليه إن كان من الذين لم يستجيبوا لدعوته.
وحتى الكفار الذين رموا على ظهره الشريف ( صلى الله عليه وسلم ) سلا الجزور لم تكن ردّة فعله عليهم إلا بالدعاء. أما السيدة فاطمة وجويرية ( رضي الله عنهما ) فأخذتا يشتمانهم، وفي ذلك يتضح لك الفرق بين الموقفين، إذ أن موقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤكّد مدى صبره على أذاهم، وأنه غرضه من ذلك أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، ويحتاج لأجل ذلك رحمة وشفقة ورأفة بحالهم، وذلك حتى يأذن الله في أمرهم.

ثانيا: رحمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالكفار

إن الآية الكريمة التي قررت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو رحمة للعالمين تشير إلى حقيقة هامة جدا، وقد كانت هذه الحقيقة من سمات الرسول( صلى الله عليه وسلم ) البارزة، ومن علاماته الفارقة، وهي الرحمة الشاملة التي كان يفيض بها على كل ذي روح ... على الإنسان وعلى الحيوان وحتى النبات.
لقد كانت رحمته تمتد إلى كل إنسان سواء أكان من العبيد أو الأحرار أو الأطفال أو الشيوخ أو النساء أو الضعفاء أو المساكين، وحتى المشركين والمنافقين.
ولا يصدّق البعض أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرحم حتى المشركين والكفار الذين كذّبوه وآذوه بشتى الأساليب، إلا أن هذه الحقيقة حقيقة ثابتة ومشرقة وواضحة حسب ما تؤكده حقائق سيرته.
فكلما ازداد الكفار عتوا وعنادا، لم يزده ذلك إلا صبرا وتحملا، وتضرعا إلى ربه العلي القدير بأن يهديهم، ولم يذكر التاريخ أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا مرة واحدة على المشركين جمعا.
يذكر ابن هشام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد شج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ).(46)
لم تكن رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) قاصرة على المؤمنين، بل شملت الكفار أيضا، وتتجلى هذه الرحمة بالكافرين في أروع معانيها بحرص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على إنقاذهم من النار يوم القيامة، فكان يرهق نفسه في دعوتهم، ويتملّكه الحزن العميق لإعراضهم.(47)، حتى خاطبه الله تعالى بقولـه: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا }.(48)، وقوله تعالى: { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }.(49)










المبحث الثالث
الرحمة منهج للدعوة في منطق البطش والحرب

إن الحرب في الإسلام ليست إلا حربا دفاعية لصد الاعتداء، لذا لم يحارب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا من حاربوه، ويدلل على ذلك قول الله تعالى: { وقاتـلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتــدين }. (40)
بل يقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) السـلم دائماً ويرحب بذلك. قال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }.(41)، حيث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يقاتل عدواً إلا إذا كان مضطرا إلى قتاله، ولم يثبت في جميـع الغزوات أن اعتدى على أحد من القبائل إلا مضطراً لقيامها بالمخالفات، وذلك لأن الله لا يحب المعتدين. كما أنه لم يثبت خلال جميع الغزوات والسرايا أن من أهدافها إكراه الناس على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الرئيس هو حماية الحرية والدفاع عنها.
وتؤكد الإحصائيات أن جميع الغزوات والسرايا بلغ عدد جميع القتلى من الجانبين 1018 قتيلاً ؛ وذلك لأنها كانت حروبا دفاعية لا يبدأ فيها المسلمون بالاعتداء على أحد، ولا يقاتلون إلا مكرهين على القتال.
لقد كانت غزوات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وسراياه حاقنة للدماء، عاصمة للنفوس والأعراض،وتخضع لآداب وأخلاق عالية، بالإضافة إلى تطبيق تعليمات رحيمة. وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أمّر أحداً على جيش أو سرية أوصاه: ( اغزوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلواوليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولاتقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً.(
وفي هذه الغزوات لم يتعرض الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لغير الذين قاتلوه، كما كان ( صلى الله عليه وسـلم ) شديد الحرص على سلامة واحترام أرواح الأبرياء، والعناية بالأسرى، ولا يستخدم الإسلام القوة ليفرض نفسه على الآخرين، وإنما يسعى باستخدام ذلك إلى إحقاق الحق، وإبطال الباطل.
إن ما تقوم عليه علاقة المسلمين بغيرهم علاقة تبنى على العدل والقسط والبر والإحسان، والتعاون، والمصاهرة، ولكل ما ذكر دليل من الواقع الميداني في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ومن ابرز ما يقرر ذلك.
· لماأسلم ثمامة بن أثال أقسم لأهل مكة أنه لن يرسل إليهم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). ثم عاد إلى اليمامة، فمنع قومه أن يحملوا إلى مكة شيئاً. فكتبوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرونه بأنه يأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلى بين قومهوبين الحمل إلى أهل مكة؛ وذلك ليؤكد على أن رحــمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت أعلى من الخصومة، وأرفع من العداوة، وأعظم من مقابلة التجويع بمثله. فإنه لم يكد يقرأ كتاب قريش حتى أرسل إلى ثمامة أن يخلي بين قريش وبين حنطة اليمامة، وهو يعلم أن تجويع قريش يضعفها اشد الضعف، ويقيه شرورها، ولعله أن يعجل بسعيها إلى اعتناق الإسلام.
· إن التعامل مع الأسرى من قبل المسلمين كان تعاملا راقيا، فقد كانوا ينفذون وصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بحسن التعامل مع الأسير، حتى إن الصحابــة ( رضوان الله عليهم ( كانوا يفضلون الأسرى على أنفسهم ولا سيما بالطعام وتحقيق رغباتهـم.(52)
لقد تمثلت الرحمة والرفـق واللين في غزوات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من خلال منحيين، فبالنسبة للمنحى الأول فقد كانت هذه الغزوات تهدف إما إلى الدفاع عن النفس وحماية الدعوة الإسلامية، وإما إلى تحقيق الرحمة للعالمين، وهو هدف الرسالة المحمدية المتمثل بنشر دين الله تعالى، ومحاربة كل من يقف أمام تحقيق هذه الهدف السامي.
وفي وقت الحرب تقتضي فطرة الإنسان أن يكون المحارب شرسا يسعى لدحر عدوه بمختلف الوسائل، وذلك بحكم سعيه إلى النصر والغلبة على عدوه، ومن ثم دحره وإنهاء أمره، وتاريخ الحروب يؤكد على هذه الحقيقة. أما حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وغزواته فلم تكن كذلك، فهي تهدف إما للدفاع وإما لنشر الدين، والوسيلة لتحقيق ذلك تقتصر على ما يحقق الهدف، وفي ذلك رحمة الحرب في المنهجية المحمدية، إذ يقتصر أثرها على ما يمكن من خلاله تحقيق الهدف وهو نشر الدين ولا شيء غير ذلك.
أولا: فلسفة الحرب في منهجية الدعوة المحمدية

إن الحرب في نظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) وسيلة وليست غاية، فهي لضمان مسيرة الدعوة إلى الله تعالى، ونشر العدل، فهي حرب إنسانية لا تستهدف إراقة الدماء، ولا إذلال الرقاب. وقد ورد التأكيد على ذلك في وصايا الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) لقواد جيوشه، وهو ما يقرر لنا الفلسفة التي كانت تقوم عليها حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ).(53)
ومن أهم الدلائل التي تعكس هذه الفلسفة التي يقوم عليها منطق الحرب والبطش في الإسلام، وأنه لا يعدو إلا كونه وسيلة قد فرضتها طبيعة الحياة البشرية التي تقتضي الصراع قصة فتح مكّة، والتي تعد من أعظم الفتوحات الإسلامية.
لقد أنقذ النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) في هذه المعركة أهل مكّة وجنّبهم ما كان يتهددهم من القتل والأسر، وعهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، ولم يخدش مشاعر المغلوبين من قومه وعشيرته، وهم أهل نخوة وشمم، وهذا جانب آخر من رحمته تمثل في اجتنابه إيلام المشاعر، والذي تقرر عندما قال لهم القائد المنتصر: ( يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم ؟ ). قالوا: ( أخ كريم وابن أخ كريم ).قال: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ).(54)





ثانيا: المعاني السامية لأخلاقيات الحرب وآدابها

إن البطولة الجهاديّة في الإسلام لا تكمن في قدرة المجاهد على القتل، بل تكمن في قدرته على التحكّم في النفس لحظة القتال.
ولا تكمن الرجولة في الثبات على الموقف في ميدان المعركة، بمقدار ما تكمن في الثبات على المبدأ في ساحة القتال.
ولا تكون البسالة في حمل السلاح في وجه الأعداء بمقدار ما تكون في حمل قلب مفعم بالرحمة والعطاء.
إن أخلاقيات المجاهدين هي ما يميّزهم عن غيرهم من المحاربين، وتجعل قدرتهم الأساسيّة في رسالتهم لا في أسلحتهم، وقوّتهم في إنسانيّتهم لا في زنودهم، وعظمتهم في قيمهم لا في فتوحاتهم.
وإذا كان النصر في القتال يعتمد على التربية العسكرية، والإقدام على التضحية، وإتقان فنون القتال، والثبات في مواطن البأس. فإن التربية الأخلاقيّة، والتمسّك بمبادئ الفروسيّة، والالتزام بالمثل الإنسانيّة هي التي تمنع صاحبها من الطغيان والضلال. فالمحاربة لا تكون إلا بالأخلاق، ولا تنتصر إلا بالفضائل، وتتخذ في المقام الأوّل القيم العليا وسائلا للنصر، والتاريخ يشهد بأن الأخلاق التي تمتّع بها المسلمون كالعفّة، والاستقامة، والثبات على المبدأ، وتقوى الله كانت من أقوى الأسلحة في كسبهم للمعارك.
وعبر التاريخ كانت الأخلاق هي السلاح الأوّل للجهاد في الإسلام، ويؤكّد على ذلك قول منتغمري ( قائد قوّات الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية ): ( إن المسلمين كانوا يستقبلون في كل مكان كمحرّرين للشعوب من العبوديّة، وذلك لما اتسموا به من تسامح، وإنسانيّة وحضارة، فزاد إيمان الشعوب بهم، علاوة على تميّزهم في نفس الوقت بالصلابة والشجاعة في القتال. وقد ظلّت جميع المناطق التي فتحها المسلمون في القرن السابع حتى يومنا هذا – ما عدا أسبانيا – تحتفظ بالإسلام، وكذلك بالعادات، والتقاليد، والتراث الإسلامي ).
ويقول الكونت هنري كاستري: ( إن المسلمين امتازوا بالمسالمة وحرّية الأفكار في المعاملات، ومحاسنة المخالفين ).
ويقول العلامة الفرنسي جوستاف لوبون: ( إن القوّة لم تكن عاملا في نشر القرآن، وإن العرب تركوا المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا كان بعض النصارى قد أسلموا واتخذوا العربيّة لغة لهم، فذلك لما كان يتّصف به المسلمون الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس بمثله عهد، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى، وقد عاملوا كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم ... والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل المسلمين ).
هذه شهادة الغربيين المنصفين على عدالة الإسلام، ورحمة المسلمين، وهي شهادات تؤكّد عظم مبادئ الإسلام وأخلاقه في الجهاد، ويؤكّد على أن الجهاد رسالة كان يتمثل فيها الأخلاق كسلاح من أقوى أسلحة المواجهة بين قوى الإسلام من جهة، وبين قوى الجاهليّة من جهة أخرى، وكثيرا ما كان المسلمون يكسبون المعارك من دون أن يجرّدوا أسلحتهم لهذا السبب.(55)
إن تلك الأخلاق هي التي ينبغي أن يتّصف بها المسلمون في جهادهم؛ وذلك لأنّها هي التي دفعت الأمم الأخرى إلى استقبال المسلمين أينما حلّوا، وهي التي حبّبتهم إلى الناس، وخذلت عنهم الأعداء، وهي التي دفعت بأهل حمص إلى البكاء والنحيب حين غادرهم الجيش الإسلامي إلى اليرموك وجعلتهم يغلقون أبواب مدينتهم في وجه الروم. وهي التي دفعت بأهل سمرقند إلى أن يتمنّوا انتصار جيوش المسلمين. وهي التي دفعت الألوف من أهل الأندلس إلى الانضمام في جيش طارق بن زياد. وهي التي دفعت شعوب جنوب شرقي آسيا، وبلاد أفريقيا إلى الدخول في الإسلام من دون قتال ...
وإذا كانت الأخلاق هي المعيار الأبرز الذي ميّز الجهاد في سبيل الله عن الحرب، فإن أبرز هذه الأخلاق، وأبرز هذه الآداب التي تعتبر عاملا للنصر على الأعداء تتمثّل في التقوى والإخلاص، وهما محوران هامّان لأعمال المجاهدين، وبدونهما لن يحوزوا هداية الله ورضوانه اللذان هما عماد النصر في سبيل الله تعالى.
إن التقوى هي حصن المجاهدين، وهي دعوتهم الأولى، وبها يصمدون، كما أنّهم بها لا يعتدون، ومن يحمل السلاح هو أحوج الناس إليها حتى لا ينحرف عن القيم؛(56) وذلك لأنّها روح العلاقات الصائبة مع قضايا الحياة كلّها.
أما الإخلاص فبدونه لا يكون للجهاد وجود، ولا يكون الجهاد بدونه في سبيل الله، وهو الشرط الأساسي للجهاد، وعلى المجاهدين أن يبيعوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله تعالى، وليس لأي شيء آخر، فالقتال إذا لم يكن لمرضاة الله فهو في سبيل الشيطان.
ومن أخلاق الجهاد وآدابه كذلك نكران الذات، فالبطل هو من يذوب في أهدافه، ويغامر بكل ما يملك من أجل تحقيقها، فلا يفترض لنفسه ذاتية منفصلة عن ذاتيّة الأهداف، فالبطل يبحث عن الأفعال لا عن انتسابها إليه، ويستهدف الحقيقة لا الشكر عليها.
إن المجاهد يبحث عن ثواب الله، ولا ينال هذا الثواب إلا إذا جعل ما عند الله محورا لأعماله، وهدفا لمواقفه، وجزاءا على تضحياته ... لا يريد من أحد جزاء ولا شكورا.
ومن يخوض الجهاد لا بد أن ينوي التقرّب إلى الله تعالى بما خاض فيه، إذ من الممكن أن يستشهد في هذا الطريق، فإذا أنكر الذات كان له نصيب عند الله تعالى، ومن أراد الذكر، أو السمعة، أو المغنم لم يكن له إلا ما أراد.(57)
ولا بد كذلك انطلاقا من ضرورة كون الجهاد في سبيل الله أن تتمثّل فيه الأخلاق والآداب، وذلك بتعريف القائد بقواعد الحرب، وآدابه ، وأخلاقه، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا بعث بجيوشه يوصيهم بالقواعد الأخلاقيّة ليتحقق المعنى الحقيقي للجهاد في سبيل الله تعالى.
إن القائد المسلم يسير إلى المعركة وهو مجهّز بنفسيّة عالية تحترم إنسانيّة البشر، فلا اعتداء على مصنع، ولا على مدني لا يحمل السلاح، ولا يقتل طفلا ولا امرأة، ولا اعتداء على شيخ هرم، ولا تخرج المعركة عن حدودها المسلّحة إلى شبر واحد آمن، ولا تخرج المعركة داخل حدودها على النظام الإسلامي. فلا اعتداء، ولا مثلة، ولا خيانة.(58)، والتزام القائد بهذه الأخلاقيات ينعكس على التزام الجيش.

ثالثا: معاملة الأسرى

تعد معاملة الأسرى حسب ما تنطق به سيرة البشر معبرة عن مدى رفق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في معاملة الكفار حتى وإن كانوا محاربين. وقد نصّت السياسة العسكريّة في الإسلام في تعاملها مع الأسرى والغنائم على عدّة أمور متّصلة بالتعامل بعد الحرب، خاصة فيما يتعلق بالأسرى، وكيفية التعامل معهم؟
لقد كفل الدين الإسلامي في أعقاب المعركة العسكريّة للأسرى حقوقهم إذا تحققت فيهم العبرة المرجوّة المستهدفة من الحرب الإسلاميّة، ويؤكد على ذلك قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ): ( استوصوا بالأسارى خيرا ).(59)، ويقول أبو السعود في تفسير قول الله تعالى: { ويطعمون الطعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا }.(60). وقد كان ( صلى الله عليه وسلّم ) يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: ( أحسن إليه )، وفي ذلك دليل على حظ الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) المسلمين على الرحمة والرفق بالأسير من جيش الكفار.
وبهذا ضمن الإسلام للأسير حياة بعيدة عن غضب القلب المشتعل لحظة المعركة، ووضحت بذلك أهميّة الجهاد النفسي الذي يتحلّى به المسلم؛ وذلك ليكون صمام الأمان لصيانة هذه التعاليم في لحظات يغلي الدم فيها بالطبع، فيمتنع المسلم عن إلحاق أي أذى بالأسير، بل ليدرك أن الوصيّة النبويّة والقرآن تلزمه بإكرام الأسارى.
وفي هذا الإكرام لقاء مع منهج الدعوة إلى الله بالكلمة الطيّبة، فلربما كانت المعاملة الحسنة سببا لدخول بعض الأسارى في الإسلام، وذلك غاية ما يحرص عليه المسلم، وغاية ما قامت من أجله الحرب.
لقد اتضح من خلال استعراض ما سبق أن الرحمة العالمية بمعانيها ومقاصدها قد تجلت واضحة في مختلف مواقف الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) في حياته. كما اتضح كذلك أن الرحمة المحمدية بمظاهرها قد اخترقت مختلف تصرفات الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) ومواقفه في الحياة مع المسلمين ومع غيرهم، وحتى مع أجناس غير أجناس البشر.
إن هذه المفاهيم حول الرحمة المحمدية قد أكدت الحقائق والمظاهر التي كانت عليها، والتي لنا فيها أسوة حسنة، وهي بأنواعها سواء أكانت رحمة ذاتية شخصية، أو رحمة دعوية نبوية تصب في النهاية في سبيل تحقيق أهداف الدعوة إلى دين الله تعــالى. حيث استطاع رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) أن يوظّفها خير توظيف في سبيل تحقيق أهدافه، سواء الشخصية بكسب ود الناس وذكرهم له ولمعاملته بالخير حتى بعد وفاته، أو كانت رحمة دعوية يبتغي من ورائها نشر دين الله تعالى في ربوع أرضه.
لقد اقتضت طبيعة الحياة الفطرية للإنسان أن يتخذ الصراع سبيلا وواقعا للعلاقة بين الطرفين المتضادين في المبادئ، ولعل الواقع الذي يبرز نفسه في ذلك سعي كل طرف للقضاء على الآخر.
ولكن واقع هذا الصراع في منطق رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) كان توظيفه توظيفا إيجابيا، فقد أصّل فيها أسلوب الرفق كسبيل لإقناع الآخر بالفكر، وقد فرض عليه حسب ما تقتضيه الفطرة البشرية كاستثناء محاربة الآخر واستخدام العنف الرشيد معه، وذلك إما كسبيل للدفاع عن النفس، وإما كسبيل لإزالة أي عرقلة للدعوة إلى دين الله تعالى، ومانع من تحقيق أهداف الرسالة ومآربها.
لقد اتخذت مظاهر الرحمة للبشر تواجدا بارزا في كل علاقات رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) بالآخرين، كما أنها كانت توظّف من قبل صاحب الرسالة كأصل وواقع للعلاقة، والتي لا يضطر إلى غيرها، ولا يحيد عنها إلى البطش إلا إذا أعوزته الوسائل السلمية، والتي يعتقد فيها أنها ترقق القلب، فتغير الفكر بمنهجية إيجابية عادلة.

























الفصل الثالث


الرحمة المحمدية في الفكر الغربي المتعقل



لقد اتضح من خلال ما سبق أن استعرضنا حول مفهوم الرحمة المحمدية، وكيف أن هذه الرحمة قد اتسعت بمظاهرها وأنواعها لتشمل البشرية كافة، ولتستوعب سائر المواقف في حياته .
إن المنصف الذي يستقرئ الفلسفة التي كانت تقوم عليها منهجية المعاملة في شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوقن تمام اليقين بأن فلسفة المعاملة عند النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد احتوت جميع مخلوقات الله حتى الجمادات.
لقد اتضح من خلال ما سبق كيف كان النبي محـمد ( صلى الله عليه وسلم ) يرحم الأطفال، ويرحم النساء، ويرحم الأصحاب، ويرحم الأهل، ويرحم حتى الكفار، فهو ما أرسل إلا رحمة للعالمين.
إن من يستقرئ لين وشفقة ورحمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن يستقرئ واقع تصرفاته ومواقفه تجاه الآخرين يوقن تمام اليقين أن رسول الله ( صلى الله عليــه وسلم ) إنسان تملأ قلبه الرحمة والشفقة، وينعكس على تصرفاته ومواقفه اللين والرفق بالآخرين، كما يتضح لـه كذلك بأن الرحمة المحمدية التي كان يمتلكها هي معجزة قد امتاز بها، ولا يمكن لأي بشر غيره أن يحتويها في قلبه، فهي إذا خصوصية محمدية قد امتاز به النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس على سائر البشـر فحسب، بل وعلى سائر الأنبياء ( عليهم السلام ).
إن المنصف الذي يضع العقل في حكمه على الشيء يقتضي أن يبني رأيه على موضوعية تحليلية حسب ما يقتضيه منطق العقل. ولا شك أن منطق العقل يقتضي التسليم بالرحمة المميّزة في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، سواء أكان ذلك في شخصيته وذاته، وذلك بما انعكس من تصرفات، أم كان في أداءه لوظيفته الأساس وهي دعوة الناس إلى دين الله تعالى.
وإذا كان قد تقرر لنا نحن المسلمون بأن الرحمة قد تأصلت في ذات النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وانعكست على تصرفاته، فإن المنصفين في العالم الغربي لهم آراء موضوعية في مسألة الرحمة المحمدية، وكيف أنها ميزة نبوية استطاع النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يوظّفها خير توظيف في سبيل نشر دعوته.
أما بالنسبة لآراء غير المسلمين والتي تفتقد إلى الموضوعية والحيادية، فإنها مدحوضة بآراء غيرهم، فقد تربّص المنصفون في العالم الغربي لأمثال هؤلاء المتعصبين الذين لا تنطلق آرائهم من خلال فهم موضوعي ومنصف يعكس رأيا حيادي حول تمثل الرحمة في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ويستندون في ذلك إلى فهم مغلوط للواقع وللسيرة النبوية.
فاتهامهم مثلا للنبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالإرهاب مردود عليه من جميع الجهات، فقد كان يضطهد هو وأصحابه في مكة في بداية الدعوة - والتي استمرت على مدى ثلاث عشرة سنة - ولم يكن لـه أي ردة فعل على ذلك. كما أنه قضى غالبية فترة دعوته في المدينة المنورة، والبالغة عشر سنين في حرب دفاعية عن كيانه الذي كلّفه الله بحمايته كسبيل لحماية ونشر الدعوة إلى دين الله تعالى.
ولم يكن في يوم يرغب في الحرب لذات الحرب، ولم يكن يرغب فيها كسبيل للقتل والسلب والنهب، وهذه الحقيقة تقررها الكثير من الوقائع التي تسردها كتب السيرة، إذ لا يعقل أن من يؤذى بالصورة التي كانت عليها الفترة المكية، ولا يرد على ذلك أن يقصد الحرب لأغراض دنيئة.
لقد استطاع الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتقن توازنا في توظيف العنف والرفق كوسيلتان لأداء مهمته التي كلفه الله بها بحرفنة تامة. وليس المعرض سرد آراء المنتقدين للحقيقة المحمدية؛ وذلك من أجل تحليلها والرد عليها، بل المقام يقتضي حتى يتقرر التأكيد على مدى تأصل صفة الرحمة بمظاهرها في التركيبة المحمدية، وذلك ليس بما أثبته الكتاب المسلمون في مؤلفاتهم واسقراءاتهم وتحليلاتهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولشخصيته، بل بما قرره المنصفون من المستشرقين والمفكرين الغربيين من إقرار بطبيعة الرحمة المحمدية التي خص الله بها النبي محـمد ( صلى الله عليه وسلم ).
إن هؤلاء الكتاب والمستشرقين أعجبوا بشخصية الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم)، على الرغم من أنهم لم يرتدوا عباءة الإسلام فقد قالوا كلمة الحق، والتي سطرتها كتب التاريخ على ألسنتهم وفي كتبهم وتراثهم. وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته قد فاضت بكم من الرقي الشخصي والأخلاقي والحضاري إلى أبعد حد مما جعلهم يعجبون به إلى حد جعلهم يسطرون فيه الكتب ويذكرون شخصه في كل وقت.
ونحاول أن نسلّط الضوء في خاتمة هذه الدراسة على بعض الآراء لمفكرين منصفين من الغرب، وذلك في تحليلهم لمفهوم الرحمة المحمدية، بل وردهم على غيرهم ممن يشككون في ذلك، وذلك على النحو التالي.
· يقول راما كريشنا راو ( البروفسور رما كريشنا راو في كتابه "محمد النبي" ) : ( لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا ).
إن ما يتضح من خلال ما أكد عليه البروفسور كرشنا راو في كتاب ( محمد النبي ) أنه توصل من خلال استقراءه لنبذ من حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) - وليس حياته كلها - صور جميلة أكد عليها في مقولة السابقة. كما أنه أكد على صور هامة وبارزة في شخصية محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وهي أنه (صلى الله عليه وسلم) كان ملاذا لليتامى، وحماية للعبيد، ومحرر للنساء. ولولا رحمة قد تربعت واستقرت في قلبه كإنسان لما استوعب برحمته من يكونون الملاذ الأول للرحمة، وهو المستضعفين والمقهورين في الأرض من يتامى وعبيد ونساء، والذين حواهم بقلبه الرحيم، وحماهم من الظلم والقهر.
· يقول سانت هيلر ( العلامة برتلي سانت هيلر الألماني، وهو مستشرق ألماني ولد في درسدن 1793 ـ 1884 قال في كتابه ( الشرقيون وعقائدهم ): ( كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفــات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمـة ).(61)
أما العلامة برتلي سانت هيلر الألماني، فإن ما ذكره في كتابه ( الشرقيون وعقائدهم )، فقد قرر ما ذكر سابقا حول التوازن الإيجابي في شخصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، وذلك حسب ما تفرضه مقتضيات الحياة التي جبل الله سبحانه وتعالى النفس البشرية عليها. فهو يقرر في ما ذكره في كتابه أن شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد تميّزت وبشكل لافت للنظر بأجل ما تحمله النفس البشرية، وهما صفتا العدالة والرحمة.
لقد أكد العلامة برتلي على أنه إذا كان النبي محمـد ( صلى الله عليه وسلم ) يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، وذلك وفق ما تفرضه مقتضيات العدالة. فإنه في ذات الوقت كان داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وبفضل ذلك استطاع أن يؤدي وظيفته الموكلة إليه بحرفنة منقطعة النظير.
· يقول أرنولد ( إن المعاملة الحسنة التي تعودتها وفود العشائر المختلفة من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واهتمامه بالنظر في شكاياتهم، والحكمة التي كان يصلح بها ذات بينهم، والسياسة التي أوحت إليه بتخصيص قطع من الأرض مكافأة لكل من بادر إلى الوقوف في جانب الإسلام وإظهار العطف على المسلمين، كل ذلك جعل اسمه مألوفاً لديهم، كما جعل صيته ذائعاً في كافة أنحاء شبه الجزيرة سيداً عظيماً ورجلاً كريما. وكثيراً ما كان يفد أحد أفراد القبيلة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة ثم يعود إلى قومه داعياً إلى الإسلام جاداً في تحويل إخوانه إليه ).
إن السيد أرنولد يقرر في كلمته هذه أن أسلوب التسامح الذي ينطلق من دفء الرحمة التي كانت تستقر في قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان لـه أثرا كبيرا في نشر دعوته ومبادئه، فقد استطاع طيلة الفترة التي كان يؤدي فيها مهمته أن يجعل بفضل رحمته وتسامحه ولينه في المعاملة من يزوره من العشائر يعود إلى قومه داعيا إلى الإسلام، بل وجادا في تحويل إخوانه إليه. وترجع هذه القوة في التغيير لحسن أسلوب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في دعوته ولطفه ولينه في معاملة الآخر.
· يقول واشنجتون إيرقنج ( كانت تصرفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر، فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي، ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو ).(62)
يسجّل السيد واشنجتون إيرقنج أعظم مواقف الرحمة لنبي الرحمة ( صلى الله عليه وسلم )، فعلى الرغم من أن القوم الذين دخل عليهم لطالما عذبوه، ولطاما عذبوا أصحابه، وأذاقوهم ويلات العذاب والتنكيل، وهو يدخل عليهم وقد أصبح في مركز قوي، ولكنه يقرر وبكل حكمة نبوية أنه نبي مرسل، وليس قائدا مظفّر. فعلى الرغم من موقفه الذي يصير فيه الحليم غضبانا، والحكيم مجنونا، إلا أنه توّج نجاحه وانتصاره وفق ما يقتضيه منطق دعوتهم، وهدف رسالته ومنهجه. لقد توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو لأكثر الأقوام إيذائا لـه ولأصحابه ... أخ كريم وابن أخ كريم ... اذهبوا فأنتم الطلقاء.
· يقول مارسيل بوازار ( منذ استقر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في المدينة، غدت حياته جزءاً لا ينفصل من التاريخ الإسلامي، فقد نقلت إلينا فعاله وتصرفاته في أدق تفاصيلها، ولما كان منظماً شديد الحيوية، فقد أثبت نضالية في الدفاع عن المجتمع الإسلامي الجنيني، وفي بث الدعوة، وبالرغم من قتاليته ومنافحته، فقد كان يعفو عند المقدرة، ولكنه لم يكن يلين أو يتسامح مع أعداء الدين، ويبدو أن مزايا النبي الثلاث، الورع والقتالية والعفو عند المقدرة قد طبعت المجتمع الإسلامي في أبان قيامه وجسدّت المناخ الروحي للإسلام، وكما يظهر التاريخ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قائداً عظيماً ملء قلبه الرأفة. يصوره كذلك رجل دولة صريحاً قوي الشكيمة له سياسته الحكيمة التي تتعامل مع الجميع على قدم المساواة وتعطي كل صاحب حق حقه، ولقد استطاع بدبلوماسيته ونزاهته أن ينتزع الاعتراف بالجماعة الإسلامية عن طريق المعاهدات في الوقت الذي كان النصر العسكري قد بدأ يحالفه، وإذا تذكرنا أخيراً على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يتمتع بع زعيم من زعماء العرب، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلي بها، استطعنا أن نستخلص أنه لا بد أن يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير به إنسانا فوق مستوى البشر حقاً، وأنه لا بد أن سكون نبياً حقيقياً من أنبياء الله ).(63)
إن الشاهد في مقولة مارسيل بوازار ما قرره في حق نبي الله محمد ( صلى الله عليه وسلم )، فهو على الرغم من قتاليته ومنافحته، فإنه كان يعفو عند المقدرة. وهو مع ذلك لم يكن يلين أو يتسامح مع أعداء الدين.
لقد جمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين مزايا ثلاث، وهي الورع والقتالية والعفو عند المقدرة. وكما يظهر التاريخ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قائداً عظيماً ملء قلبه الرأفة والرحمة والشفقة. ولعل المستنتج من هذه الحقيقة التي عرضها مارسيل أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اتخذ منهج التوازن العقلاني الذي يتلائم مع الواقع، وذلك على نحو يخدم تحقيقه لهدفه ببلوغ دعوة الإسلام على أقاصي الأرض وأدانيها.
· يقول دوراني ( أستطيع أن أقول بكل قوة أنه لا يوجد مسلم جديد واحد لا يحمل في نفسه العرفان بالجميل لسيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما غمره به من حب وعون وهداية وإلهام، فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحباً بنا حتى نقتفي أثره ).(64)
إن دوراني يؤكـد على ما من أجله ابتعث المولى عز وجل رسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم )، فقد ابتعثه من أجل إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فكان بذلك رحمة للعالمين، وفي ذلك أمر لأتباعه باقتفاء أثره.
ومما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى عندما أرسل رسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) من أجل هداية الناس إلى الإسلام، والثواب بالجنة والبعد عن النار، كان ذلك مقرر لكونه رحمة للعالمين، فالرحمة متأتية في شخصه وفي حياته، وفي تصرفاته ومواقفه، وهو متشبّع بها كمال التشبّع حتى يحقق هذه الأسمى.
· يقول لويس سيديو ( ما أكثر ما عرض محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حياته للخطر انتصاراً لدعوته في عهده الأول بمكة، وهو لم ينفك عن القتال في واقعة أحد حتى بعد أن جرح جبينه وخده وسقطت ثنيتاه، وهو قد أوجب النصر بصوته ومثاله في معركة حنين. ومن الحق أن عرف العالم كيف يحيي قوة إرادته ومتانة خلقه .. وبساطته، ومن يجهل أنه لم يعدل إلى آخر عمره، عما يفرضه فقر البادية على سكانها من طراز حياة وشظف عيش؟ وهو لم ينتحل أوضاع الأمراء قط مع ما ناله من غنى وجاه عريض، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) حليماً معتدلاً، وكان يأتي بالفقراء إلى بيته ليقاسمهم طعامه، وكان يستقبل بلطف ورفق جميع من يودّون سؤاله، فيسحر كلماءه بما يعلو وجهه الرزين الزاهر من البشاشة، وكان لا يضج من طول الحديث، وكان لا يتكلم إلا قليلاً فلا ينّم ما يقول على كبرياء أو استعلاء، وكان يوحي في كل مرة باحترام القوم لـه، ودل ( صلى الله عليه وسلم ) على أنه سياسي محنّك ).(65)
إن ما قرر لويس سيديو في مقولته هذا ما سبق أن وضحناه في مقولة البروفيسور رما كريشنا راو في كتابــه ( محمد النبي )، وهو ما كانت عليه تصرفاته النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومواقفه تجاه الفقراء والمساكين، والذين كان من رحمته بهم، وشفقته على حالهم أنه كان يقاسمهم الطعام وكأنه جزء منهم، بل قرر ما كان عليه من رحمة بما ورد عنه من استقباله لكل من يودّون سؤاله بلطف ورفق، ويقرر هذا اللطف هذا الرفق ما كان يعلو وجهه من بشاشة تعكس مدى تأصل الرحمة بالآخرين في قلبه.
· يقول كارلايل ( لوحظ على محمد ( صلى الله عليـه وسلم ) منذ صباه أنه كان شاباً مفكراً وقد سمّاه رفقاؤه الأمين – رجل الصدق والوفاء – الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره. وقد لاحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة. أني لاعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لبّ. وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريماً براً رؤوفاً تقياً فاضلاً حراً، رجلاً شديد الجد مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة، جمّ البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب. وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق، وكان ذكي اللب، شهم الفؤاد، عظيماً بفطرته، لم تثقفه مدرسة ولا هذبه معلم وهو غني عن ذلك، فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء ).
إن ما قرره كارلايل في حق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما هو إلا واقعا لما عكسه من لين عريكة في التعامل مع الآخرين. فقد كان سهل الجانب، جمّ البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب.
ولعل هذه الصفات لا يمكن أن تتأتى فيمن كان يعاني من مرض القلب، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) منزه عن أمراض القلوب، فحسن عشرته مع أصحابه وأهله وحتى مع الكفار، ومداعبته و وممازحته للآخرين تقرر تأكد كونه شخصية رحيمة مشفقة لينة الجانب، وهو ما يتفق عليه جميع العقلاء، ولا ينكره إلا جاحد معاند.
· وقال أيضاً ( لقد كان في فــؤاد ذلك الرجل الكبــير ( صلى الله عليه وسلم ) ابن القفار والفلوات العظيم النفس، المملوء رحمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحجى ونهى. أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه. وكيف وتلك نفس صامتة كبيرة ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين؟ فبينما نرى آخرين يرضون بالاصطلاحات الكاذبة ويسيرون طبق اعتبارات باطلة، إذ ترى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يرض ن يلتفع بالأكاذيب والأباطيل. لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات. لقد كان سرّ الوجود يسطع لعينيه بأهواله ومخاوفه ومباهره، ولم يك هنالك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فكأنه لسان حال ذلك السرّ يناجيه: هآنذا، فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى الهي مقدس، وما كلمة مثل هذا الرجل إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة، فإذا تكلم كل الآذان برغمها صاغية وكل القلوب واعية، وكل كلام ماعدا ذلك هباء، وكل قول جفاء ).(66)
كما يقرر كارلايل في مقولة أخرى ما يؤكد على جانب آخر لرحمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وكيف أن هذه الرحمة كانت معجزة من عند الله سبحانه وتعالى. فعلى الرغم من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ابن القفار والفلوات، فقد كان فؤاده فؤاد ذلك الرجل الكبــير العظيم النفس، المملوء رحمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحجى ونهى.
إن ما تقتضيه فطره الله في أرضه أن تجد من يسكن القفار والفلوات في قلبه قسوة وشدة في المعاملة، إلا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وعلى الرغم من أنه ابن الفلوات والقفار، إلا أن قلبه كان مملوءا بالرحمة والحنان والبر، وقد انعكس ذلك على واقع معاملاته مع الناس. فقد امتاز برحمة لم ترتسم في أي قلب من القلوب البشرية حتى قلوب الأنبياء ( عليهم السلام )، فهم لم يؤتوا صفة إلا وأوتي الرسول (صلى الله عليه وسلم) خير منها.
إن ما يتقرر من خلال واقع البيئة التي خرج منها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو أن يكون قاسيا ومعبرا عن الواقع الذي خرج منه، إلا أن رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) التي لا تدانيها رحمة كانت معجزة من المعجزات التي ميّزه الله سبحانه وتعالى بها، بل وجعل مدحه بما حباه من أخلاق ترتكز انعكاسا عليها.
· يقول عبد الله لويليام ( كان محمـد ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم ما يكون من كريم الطباع وشريف الأخلاق ومنتهى الحياء وشدة الإحساس، وكان حائزاً لقوة إدراك عجيبة، وذكاء مفرط، وعواطف رقيقة شريفة، وكان على خلق عظيم وشيم مرضية مطبوعاً على الإحساس ).(67)
لقد امتاز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما قرره عبد الله لويليام صاحب عواطف رقيقة شريفة، فقد كان شديد التأثر بما يراه من أحوال قد يتعرض لها بعض أصحابه، كما أن بكاؤه على ابنه إبراهيم يقرر مدى الرقة والعطف وفرط الحساسية مما امتاز به بشكل ملفت للنظر. وتبرز رقة العواطف الرقيقة والشريفة من خلال شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من خلال حرصه على هداية جميع الناس، ولولا أن الله عاتبه على ذلك وأبلغه بأن ما عليه إلا البلاغ لظل يعاتب نفسه على عدم اهتداء الناس بهديه، ولعل في ذلك مؤشر كبير على كمية العواطف الرقيقة التي كان النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يمتلكها بين جوانحه الشريفة.
· يقول ولز ( حج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع من المدين إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة. إن أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة. إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جمــاعة أخرى سبقتهــا ).(68)
يورد ويلز تحليلا عظيما لآخر الكلمات التي سجلها التاريخ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وهو ما ذكره من وصايا في حجة الوداع، وكيف أن كلماته في هذه الوصايا كانت إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ.
لقد خلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بفضل هذه الوصية جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جمــاعة أخرى سبقتهــا. فكان أثر دعوته، وروح رحمته يسري إلى أتباعه من بعده الذين ساروا على نهجه، وهم يعلمون تمام العلم أن الرحمة التي أخذوها مما تأصلت عليه شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وما انعكس عليه واقع حياته وتصرفاته ومواقفه مع الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والعجائز والأصحاب والأهل والأطفال وسائر المستضعفين في الأرض وحتى الكفار، هي أساس المنهجية التي يقيمون عليها نشر دين الله في أرضه؛ وذلك حتى يكون تسلمهم وتأديتهم للوظيفة التي أوكلها إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مؤصلا على المنهجية التي رباهم عليها فأحسن تربيتهم وأتقنها على أكمل الوجه وأحسنها.
إن مظاهر الرحمة للبشر في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثابتة بما عكسته كتب السيرة، وبما دوّنته كتب التحليل لشخصيته العظيمة. فما من موقف تستقرئه في حياته وتعاملاته مع البشر إلا وتجده إما عاكسا لجانب الرحمة بالإنسان، وإما أن تجده مقتضيا للعدالة. ولا شك أن اقتضاء هذا الموقف للعدالة يقرر رحمة من نوع آخر من مظاهر الرحمة المحمدية.
لقد تقرر من خلال هذه الدراسة أن الرحمة المحمدية هي معجزة ربانية، وهي سيد الأخلاق في حياته، كما أنها منبع الأخلاق المحمدية يتمثل في ما اتسع لـه صدره ( صلى الله عليه وسلم ) من رحمة، وهو أمر من دون شك يتفق عليه العقلاء جميعا.
إن أكبر دليل على تمثل الرحمة بالبشر في شخصية الرسول الكريم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو واقع الانتشار لدينه اليوم في ربوع الأرض.
تأتي هذه الدراسة لتشكل بإذن الله نوعا من الإضافة في الدفاع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضد مختل الادعاءات التي بناها أصحابها على ما قرره هوى النفس عندهم. وإن قراءة متأنية لما قال المنصفون والموضوعيون والمحايدون من المفكرين الغربيين، والمستقرءون لشخصية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وواقع حياته منهم، وذلك حسب ما ذكر في آخر هذه الدراسة يقرر لك واقع الرحمة في الحقيقة المحمدية.
إن ما ذكر ما هو إلا غيض من فيض، وإن استقراء كلام المنصفين من العالم الغربي حول شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتحليل شخصيته يحتاج إلى دراسة أخرى، وما تستعين به هذه الدراسة من أجل تحقيق هدفها متحقق بإذن الله تعالى بما ذكر من نماذج من كلام المنصفين من غير المسلمين. ونسأل الله في ختام هذه الدراسة أن يكون الإيصال قد تحقق لحقيقة الرحمة المحمدية للبشر، والتي تمثلت في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
وبذلك نكون قد وصلنا إلى درجة تفرض علينا الإعراض عن أمثال هؤلاء السفهاء الذين يتهمون النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالإرهاب. وأن أمثال هؤلاء عندما يقرءون تاريخهم بموضوعية – وهم يعلمون ذلك – قد اتضح لهم البون الشاسع بين ما كان عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من رحمة وسعت كل العالمين، وما يرتكبونه في حق الحضارة الإنسانية اليوم من جرائم تدمّر الإنسانية، وتهدم روح الحضارة الإنسانية الشامخة التي أسسها نبي الرحمة محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم )، وهو ما تقرر بشهادة العقلاء والمنصفين من أبناء جلدتهم، والذين وصل الحد بهم إلى الرد على كل من ابتعد على الإنصاف منهم، فالمسألة مندحضة تماما الاندحاض من كل جانب، وما ذكرناه في هذه الدراسة ما هو إلا شيء من التقرير لما ذكره المتشرفون بالدفاع عن شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). ونسأل الله أن تكون فيها الفائدة التي تبين الحقيقة لمن يبحث عن الحقيقة، وتوضح الصورة لمن يبحث عن الصورة، وتؤكد الأصل لمن ينأى بنفسه عن التزوير والتحريف والتضليل لحقائق الأمور وثوابتها الجلية.


الهوامش



1. سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة، وخصاله المجيدة، الطبعة الرابعة، 1405هـ - 1985م، مكتبــة دار الفلاح، حلب – سورية، ص 193.
2. سعيد حوى، الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، الطبعة الثانية، 1391هـ - 1971م، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ص 143.
3. عساف – أحمد محمد، قبسات من حياة الرسول، الطبعة الثامنـة، 1407هـ - 1987م، دار إحياء العلوم، بيروت – لبنان، ص 262.
4. صحيح البخاري، ج 1، وأورد هذا الحديث عساف – أحمد محمد، قبسات من حياة الرسول،مرجع سبق ذكره، ص 198.
5. عسـاف – أحمد محمد، قبسات من حياة الرسول،مرجع سبق ذكره، ص 171.
6. حســن أيوب، السلوك الاجتماعي في الإسلام، الطبعة الأولى، 1422هــ - 2002م، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة – مصر، ص 214.
7. رواه البخاري ومسلم، وأورد هذا الحديث حســن أيوب، السلوك الاجتماعي في الإسلام، مرجع سبق ذكره،ص 214.
8. حديث ورد في الصحاح، وأورد هذا الحديث حســن أيوب، السلوك الاجتماعي في الإسلام، مرجع سبق ذكره،ص 214.
9. حســن أيوب، السلوك الاجتماعي في الإسلام، مرجع سبق ذكـره، ص 214.
10.حديث رواه مسلم، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة، وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 195.
11.حديـث رواه البخاري، وروى بعضه مسلم، وأورده سراج الدين – عبد الله،سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 195.
12.حديث رواه البخاري، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 199.
13.حديث رواه ابن ماجة، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة، وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 199.
14.وهي التي تغير لونها إلى الكمودة والسواد من طول الأيمة. يريد بذلك أنها حبست نفسها على أولادها ولم تتزوج حتى تحتاج إلى الزينة والتصنّع للزوج. كما في ترغيب المنذري.
15.حديث رواه أبو داود في السنن، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة، وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 199.
16.حديث أحمد. قال الحافظ المنذري رجاله رجال الصحيح، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائــله الحميــدة وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 199.
17.حديث ورد في مسند أحمد، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 196.
18.العقاد – عباس محمود، غير معلوم الطبعة ولا تاريخها، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، ص 97.
19.www.islamweb.net
20.الشعراء 215.
21.أخرجه أبو نعيم في الدلائل، وأورده سعيد حوى، الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، الطبعة الثانية، 1391هـ - 1971م، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ص 71.
22.أخرجه الطبراني وإسناده حسن كما قال الهيثمي في ج 9، ص 20، وأخرجه البيهقي والنسائي عن عبد الله بن أبي أوفى ( رضي الله عنه )، كما في البداية ج 6، ص 45 ، وأورد هذا الحديث سعيد حوى، الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، مرجع سبق ذكره، ص 45.
23.فايد – محمود عبد الوهاب، الرسالة المحمدية وشواهدها، الطبعة الأولى، 1389هـ - 1969م، مكتبة القاهرة، ص 243.
24.العقاد – عباس محمود، مرجع سبق ذكره، ص 132.
25.رواه ابن ماجة وأصله في مسلم، وورد في موقع www.islamweb.net
26.عزاه في الجماع الصغير إلى الطبراني وأبي يعلى والحاكم رامزا إلى صحته، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 166.
27. قلعة جي – محمد روّاس، دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد ( صلى الله عليه وسـلم ) – من خلال سيرته الشريفة، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1988م، دار النفائس، بيروت – لبنان، ص 264.
28. التوبة 128.
29.ذكر في تخريج الإحياء أخرجه أبو داوود والنسائي وابن ماجة وابن حبان من حديث أبي هريرة، وأورده القرضاوي – يوسف، الرسول والعلم، الطبعة الخامسة، 1411هـ - 1991م، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، ص 117.
30.حديث ورد في فتح الباري ج 16، ص 286، ط الحلبي، وأورده القرضاوي – يوسف، الرسول والعلم، مرجع سبق ذكره، ص 119.
31.رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث ابن عباس، ورمز السيوطي إلى صحته، واعترض المناوي بأن فيه ليث ابن أبي سليم وهو مدلس إلا مقرونا بغيره، الفيض ج4 /328، حديث رقم ( 5480 )، وأورده القرضــاوي – يوسف، الرسول والعلم، مرجع سبق ذكره، ص 119.
32. أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن عدي والبيهقي في الشعب، وفيه راو منكر الحديث، لكن الزركشي جعل من شواهده حديث أبي موسى ( يسّرا ولا تعسّرا )، وأورده القرضـاوي – يوسف، الرسول والعلم، مرجع سبق ذكره، ص 119.
33. آل عمران 159.
34. رواه البخاري ومسلم واللفظ لـه، ترتيب ( 3635 )، وأورده القرضاوي – يوسف، الرسول والعلم، مرجع سبق ذكره، ص 120.
35.الحديث رقم ( 285 ) في صحيحه، باب ( 3 )، كتاب الطهـارة، ج 1، ت محمد فؤاد عبد الباقي، وأورده القرضـاوي – يوسف، الرسول والعلم، مرجع سبق ذكره، ص 122.
36.رواه أحمد والطبراني في الكبير كما في جمع الفوائد وأعذب الموارد، حديث رقم ( 107 )، وأورده القرضاوي – يوسف، الرسول والعلم، مرجع سبق ذكـره، ص 122.
37.سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رســول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 203.
38.برغوث عبد العزيز بن مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، سلسلة فصلية تصدر عن وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بقطر، وذلك تحت عنوان ( كتاب الأمة )، العدد 43، الطبعة الأولى، عام 1415هـ - 1995م، على صفحة الغلاف الخلفي0
39.فضل الله - محمد حسين، الإسلام ومنطق القوة، الطبعة الثالثة، 1406هـ - 1986م، الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ص 264.
40.فضل الله - محمد حسين، الإسلام ومنطق القوة، مرجع سبق ذكــره، ص 301.
41.www.islamweb.net
42. الأنبياء 107.
43. رواه الشيخان، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 188.
44.البوطي - محمد سعيد رمضان، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، الطبعة الحادية عشرة، دار الفكـر المعاصر، بيروت - لبنان، دار الفكر، دمشق - سورية، 1417 هـ - 1996م، ص 115.
45.رواه الشيخان، وأورده سراج الدين – عبد الله، سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – شمائله الحميــدة، وخصاله المجيدة، مرجع سبق ذكره، ص 188.
46.سيرة ابن هشام ج 3، ص 84، وأورد هذا النص القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، الطبعــة الأولى، 1411هـ - 1991م، دار البيان العربي، بيروت – لبنان، ص 128.
47.قلعة جي – محمد روّاس، دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) – من خلال سيرته الشريفة، مرجع سبق ذكره، ص 83.
48. الكهف 6.
49.فاطر 8.
50.البقرة 190.
51.الأنفال 61.
52. www.alryadh.com
53. قلعة جي – محمد روّاس، دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) – من خلال سيرته الشريفة، مرجع سبق ذكره، ص 260.
54.جعفر ماجد، محمد النبي الإنسان،سلسلة معارف للجميع، 1991م، بيت الحكمة، قرطاج – تونس، ص 132.
55.محمّد هادي كاظم، الصراع ومتطلّبات الحياة، شركة المصطفى، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1997م، المنامة - مملكة البحرين، ص 151.
56.محمّد هادي كاظم، الصراع ومتطلّبات الحياة، شركة المصطفى، مرجع سبق ذكره، ص 156.
57.محمّد هادي كاظم، الصراع ومتطلّبات الحياة، شركة المصطفى، مرجع سبق ذكره، ص160.
58.شلبي - رؤوف، الدعوة الإسلاميّة في عهدها المدني- منهجها وغاياتها، سلسلة موسوعة الدعوة الإسلاميّة، الرقــم 3، الطبعة الأولى، دار القلم، دولة الكويت، ص 420.
59.رواه الطبراني في الكبير من طريق أبي عزيز، وقال حديث حسن، وقد ورد هذا الحديث في كتاب شلبي - رؤوف، الدعوة الإسلاميّة في عهدها المدني- منهجها وغاياتها، مرجع سبق ذكره، ص 456.
60. الإنسان 8.
61.www.sunna.org
62.عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض – المملكة العربية السعودية، ص 94.
63. عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 99.
64. عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 105.
65. عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 117.
66. عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 124.
67. عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 130.
68. عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 144.



الخاتمة



لقد حازت الرحمة مكانة بين الأخلاق المحمدية، فهي أم الأخلاق ومنبعها، والتي امتدح المولى عز وجل فيها رسوله (صلى الله عليه وسلم) ووصفه بأنه على خلق عظيــم.
إن فلسفة الأخلاق في الإسلام وإن كانت لا تشكل ركنا من أركانه، فهي تغلّف مختلف المأمورات الشرعية بغلاف يبرز حقيقة هذه المأمورات وفلسفتها المتمثلة بالارتقاء بالإنسان خلقيا في أرقى المنازل وأعلاها. والمرجع في ذلك من دون شك، وحتى نجني الأخلاق كما تمثلت على أرض الواقع في حلّة جميلة ما تمثلت به هذه الأخلاق في واقع الحقيقة المحمدية.
ولمفهوم الرحمة المحمدية دلائل وحجج تعكس مدى الإفعام للحياة الكريمة للنبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، ومدى التشبّع بهذا الخلق، والذي انعكست به حياة المصطفى في مختلف محطاتها. ويقرر ذلك عددا من مظاهر هذه الرحمة المحمدية كما انعكست على البشر، سواء فيما تمثلت من أقوال تعدو إليها، أو أفعال تنعكس على أرض الواقع، أو تقريرات تحض عليها وتؤكدها.
إن لهذه الرحمة حقائق ينبغي أن تبرز على نحو يوضّح هذه المفهوم كما تمثل في شخصية الرسول الكريم، والتي انعكست كتصرفات شخصية كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يبرزها في تعاملاته مع أهله وأصحابه والأطفال وغيرهم.
أما الجانب الآخر لهذه المظاهر فهو ما عكسه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في واقع أداءه لوظيفته المتمثلة في دعوة الناس. وإنه وإن كانت الرحمة فيما انعكست عليه تتمثل فيهما الدعوة والوظيفة الأساس، إلا أن هذا التقسيم يبتغى من وراءه التأكيد على أن الرحمة المحمدية لم تكن رحمة مصطنعة لتأدية مهمة الرسالة، بل كانت رحمة متأصلة في الذات، ومعجـزة من المعجزات، والتي استطاع المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) أن يوظفها تحقيقا لهدف رسالته ودعوته.
إن هذه الرحمة يقوم على تحقيق فلسفة تغيير حضاري راق، تدور بين الرفق حسب ما يقتضيه خلق الرحمة المتأصل في الذات، والموظّف في سبيل نشر الدين، والعنف حسب ما يقتضيه منطق العدالة الذي يفرض نفسه كحاجة تعامل تقتضيها الفطرة التي فطر الله الناس عليه، وهي فطرة التدافع.
لقد كان استيعاب الرحمة الدعوية لواقع حياة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) استيعابا شاملا، فقد كانت منهجا للدعوة في وقت السلم ولا منهج غيره. كما أنها كانت تتأتى في منطق البطش والحرب؛ وذلك تأكيدا لما تهدف إليه المنهجية الإسلامية من هذا المنطق، والمتمثل بالتعامل وعلى قدر الحاجة وفق ما تقتضيه فطرة الله في أرضه بسنة التدافع.
ومن خلال ما سبق يتقرر بعلم اليقين مدى الأبعاد الإيجابية التي اتخذتها مظاهر الرحمة في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). ولكن من المؤكد أن مقام الخدمة لجناب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتطلب منا نحن أبناء الإسلام، وأتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم )، أو كما يسمينا الغربيون بالمحمديين تحقيق عين اليقين في ذلك، وقد التمست تحقيق هذا الهدف باستعراض جملة عدد من الأصوات الغربية المنصفة والموضعية والمتعقلة حول حقيقة الرحمة المحمدية وأبعادها ومقتضياتها. ولعل في ذلك قد تحقق بعد اكتمال الصورة التي عرضناها لحقيقة الأخلاق المحمدية، ولمكانة الرحمة المحمدية بينها، ولمظاهرها وأنواعها إضافة تؤكد على أن هذه الصورة لنبي الله محمـد ( صلى الله عليه وسلم ) لم تكن بأعيننا كأتباع، بل كانت حتى بأعين المخالفين الذين كان كلامهم سلاحا فتاكا ضد كل من سوّلت لـه نفسه التعرض لشخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وذلك بما أملته عليهم مبادئهم التي تدعوهم إلى الإنصاف والموضوعية، وردع الآراء التي تفتقد إلى العقلانية الصرفة.

أولا: نتائج الدراسة

يتضح من خلال ما سبق وهو إجمال لما ورد في هذه الدراسة تم التوصل إلى عدد من أبرز النتائج نجملها على النحو التالي:
1. إن الأخلاق الحميدة التي امتاز بها سلوك النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كداعية إلى خاتم الأديان السماوية كانت متأصّلة في ذاته قبل أن يتخذها ويطوّعها لخدمة الدعوة إلى دين الإسلام.
2. إن خلق الرحمة في شخصية النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) انبثقت منه معظم الأخلاق، فهو لم يعفو إلا لأنه رحيم، ولم يكن حليما إلا لأنه رحيم، ولم تجبل نفسه على القسوة.
3. استطاع النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبحصافة منقطعة النظير أن يوظّف أخلاقه الحميدة كسبيل لنشر دعوته التي بعثه الله بها.
4. إن عظيم الأخلاق وطيّبها من مأمورات الدين الإسلامي، بل هي من فلسفته ومنهجه، حيث تقوم جميع القربات على الفلسفة الأخلاقية، فما من عبادة أو معاملة إلا ويزيّنها كريم الأخلاق.
5. إن الفلسفة التي تقوم عليها مكارم الأخلاق كما كان يهدف إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تتمثل في أنها أقصر الطرق للدخول إلى قلوب الآخرين، وأقوى الأساليب لفتح القلوب المستعصية.
6. لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وســلم ) كما قرر القرآن الكريم شديد التأثّر والتأسّف والحزن على كفر المشركين، وقد نهاه الله عن ذلك كي لا يحمّل نفسه الشريفة عناء هذا الحزن والأسف، وذلك دليل ناصع على عمق الرحمة في قلبه.
7. ما من حقيقة قررها الشارع إلا وتجدها منعكسة على واقع الذات المحمدية، وذلك لما تشكله هذه الحقيقة من مثال عملي للمنهجية الشرعية الأخلاقية التي يقررها الإسلام في منهجه.
8. إن ما يمكن استخلاصه من خلال هذا الاستقراء للتصوير القرآني للمنهجية الأخلاقية في الإسلام أن المقرر في الدستور الأخلاقي في الإسلام يعكس ارتباط معظم الأخلاق المحمدية في الآيات القرآنية بخلق الرحمة.
9. لقد كان حسن الخلق في شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صفة لا تنفك عنه، ولها جانب كبير متعلق بذاته وشخصه، وبعد أن كلّفه الله بالرسالة، وبحكم تهيّئه بالكثير من الصفات لحملها، كان لـه استخدام محنّك لحسن أخلاقه المتأصل في ذاته وشخصه أصلا كأسلوب لنشر دعوته ودينه.
10. إن صاحب القلب القاسي، والذي يمتلك مساحة شاسعة من الجفاء والغلظة في تصرفاته وأفعاله لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتأتى منه الأخلاق التي امتاز بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، بل إن ذلك يعد من قبيل المحال.
11. إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) منزّه عن كل اتهام بالقسوة وغلظة القلب، وذلك لما للقسوة والغلظة من ارتكاس بالفطرة إلى منزلة البهائم، وهو ما ينزّه عنه المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ).
12. إن الفلسفة التي يقوم عليها مفهوم الرحمة في الإسلام، وكما تمثل في شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تتمثل في أنها شعار يحفظ للروح تفاعلها الدائم مع الآلام التي يعانيها الناس من خلال الأزمات الكثيرة، والمصائب الشديدة.
13. إن ما قرره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتمثل مفهوم الرحمة في تصرفاته وأفعاله وتقريراته صورة عكست الجانب الإنساني فيه.
14. إن المستقرئ للسيرة النبوية العطرة يجد كل التصرفات والأقوال المحمدية تصب في قالب الرحمة إما من قريب وإما من بعيد.
15. إذا كان خلق الرحمة خلقا قد تأصل في ذاته ( صلى الله عليه وسلم )، وانعكس على واقع حياته، فإنه من الأحرى أن يوظّف هذا الخلق المؤثر في سبيل نشر دعوته ودينه؛ ليستوعب بفضل ذلك ويمتلك ألباب العقلاء ممن آمن واستظل بظلال الإسلام بفضل دعوته.
16. إن ثمة مواطن يفقد فيها الرحماء رحمتهم، ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا تفارقه رحمته، وحتى في المواطن التي تغيب عادة فيها عواطف الرحمة بعواطف الانتقام أو الانتصار تبقى صفة الرحمة عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في محلها لا تطغى على غيرها، ولا يطغى غيرها عليها.
17. كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسعى للرفق في كل شيء حتى مع أعدائه، إلا أن ميزان الحياة قد اقتضى منه أن يفتقد الرفق في بعض التصرفات.
18. إن مساحة الرحمة في رسالة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اتسعت لتشمل الإنس والجن بجميع طبقاتهم، كما اتسعت هذه المساحة لتشمل الملائكة، وهو ما ذهب إليه جماهير العلماء والعرفاء.
19. لقد مارس المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) صناعة الإنسان بحرفنة ربانية متناهية في الدقّة، يمكن أن يتخذ من خلالها الدعاة منهجا وأسلوبا لتحقيق هدف التغيير الإيجابي في المجتمع الإنساني.
20. كان ( صلى الله عليه وسلم ) يؤخّر أسلوب العنف ما كان للرفق سبيل، فإذا فقدت حالات اللين والرفق، كان العنف هو سبيله إلى الوصول إلى حل المشكلة، أو بلوغ الهدف.
21. قد يظن البعض بأن القوة تساوي العنف، وهو ما يتناقض مع المنطق المحمدي في التعامل مع الآخر.كما القوة ليست كلها عنف، ولا الضعف كله يتمثل في اللاعنف.
22. إن أساس استخــدام النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) للقوة لم يكن لذات القوة، بل لتحقيق أهداف سامية تحتاج إلى استخدام أسلوب العنف لتحقيق الهدف.
23. إن من أبرز دلائل الرحمة المتأصلة في ذاته ( صلى الله عليه وسلم )، صبره على أذى المشركين، وتحمّله للشدائد في سبيل الله تعالى.
24. إن الحرب في نظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) وسيلة وليست غاية، فهي لضمان مسيرة الدعوة إلى الله تعالى، ونشر العدل، فهي حرب إنسانية لا تستهدف إراقة الدماء، ولا إذلال الرقاب.
25. استطاع الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتقن توازنا في توظيف العنف والرفق كوسيلتان لأداء مهمته التي كلفه الله بها بحرفنة تامة.
26. إن استقراء كلام المنصفين من العالم الغربي حول شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتحليل شخصيته يقرر أن ثمة هناك عدد من المفكرين المنصفين الذين يبسطون آرائهم بموضوعية.

ثانيا: توصيات الدراسة

يتضح من خلال ما استعرض من نقاط في هذه الدراسة، وما تم التوصل إليه من نتائج هامة، فإن التوصيات التي نخرج بها يتمثل أبرزها في:
1. ضرورة العمل على تجييش الفكر الإسلامي ووضعه موضع الاستعداد ترقبا لأي تعرض لذات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الشريفة. وبمعنى آخر استمرار حملة النصرة لنبي الرحمة ( صلى الله عليه وسلم ) كحملة دائمة تضع إمكانياتها موضع الاستعداد للرد على مختلف الافتراءات التي تثار حول نبي الرحمة ( صلى الله عليه وسلم ).
2. العمل على وضع مؤلفات توضح فلسفة التوازن بين الرفق والعنف في منهجية المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وإبرازها باللغات المختلفة؛ وذلك من أجل تصحيح الصورة في العقل الغربي عن ذلك.
3. ضرورة الاجتهاد في عمل سلسلة تتناول مختلف الشمائل والأخلاق المحمدية على نحو تحليلي، والعمل على ترجمتها في ملخصات إلى لغات متعددة، ونشرها في مختلف وسائل المعرفة.
4. العمل على التواصل مع المنصفين من العالم الغربي؛ وذلك من أجل توظيفهم للدفاع عن النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وذلك وفقا لما ينطلقون من خلاله من مبادئ تقتضي الإنصاف والعدالة والموضوعية.
5. إبراز الجوانب الأخلاقية التي تتمتع بها مختلف التعاليم الإسلامية، والعمل على إيصالها للناس.
6. إظهار الرحمة المحمدية على أنها صفة ذاتية في شخصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، كما أنها معجزة امتاز بها عن سائر الأنبياء ( عليهم السلام ).
7. إيضاح أهمية خلق الرحمة والشفقة من خلال تمثله في حياة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) فيما تقوم عليه المنهجية الإسلامية، وأنها يعتبر عمادها.
8. إبراز المكانة التي تبوأها النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قلوب المسلمين، وأن التعرض لذاته يوجب شحذ الهموم والجهود لردع الجاني بمختلف الوسائل المشروعة.
9. الرد على مختلف الشبه والاتهامات والافتراءات التي يثيرها المتطرفين في العالم الغربي، وتفعيل نشر أبرز المواقف في سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كدحض لهذه الشبه.
10. العمل على استقراء ودراسة الكيد للإسلام والمسلميــن، والافتراء على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عــبر التاريخ، وحتى يومنا هذا؛ وذلك من أجل العمل على الاستفادة من التجارب وتفعيل الأساليب الفعّالة لردع المفترين والمستهزئين برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
وهذا هو ما خرجنا به من خلال ما تم استعراضه من نقاط تهدف إلى إبراز وتحليل وإثبات أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة للعالمين.
لقد تأصلت الرحمة في ذاته وشخصه ودعوته وسلوكياته وتصرفاته وسائر مواقفه، وذلك متحقق بشهادة العدو قبل الصديق. ونسأل الله في الختام هذه أن تشكّل هذه الدراسة ورقــة دفاع ومرافعة محاماة عن جناب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وأن يكتب الله لنا بها الأجر والمثوبة.



قائمة المراجع


· القرآن الكريم

أولا: الكتب
1. الأصبهاني – أبي محمد جعفر بن حيّان، تحقيق السيد الجميلي، أخلاق النبي ( صلى الله عليه وسلم )، الطبعة الأولى، 1405هـ – 1985م، بيروت – لبنان.
2. البوطي - محمد سعيد رمضان، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، الطبعة الحادية عشرة، دار الفكـر المعاصر، بيروت - لبنان، دار الفكر، دمشق - سورية 1417هـ - 1996م.
3. الخطيب – محمد خليل، خطب الرسول ( صلى الله عليه وسلم )- جمع وشرح، الطبعة الأولى، 1373هـ، دار الفضيلة، القاهرة – مصر.
4. الخازن – علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي، تفسير الخازن ( المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل )، المجلد الرابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان.
5. الرازي – محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، قاموس ( مختار الصحاح ) مكتبة لبنان، بيروت – لبنان.
6. السيد سابق، دعوة الإسلام، الطبعة الأولى، 1405هـ - 1985م، بيروت – لبنان.
7. العقاد – عباس محمود، غير معلوم الطبعة ولا تاريخها، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت – لبنان.
8. الغزالي – محمد، خلق المسلم، غير معروف مصدر الطباعة ولا رقمها.
9. القرضاوي – يوسف، في كتابه السنة – مصدرا للمعرفة والحضارة، الطبعة الثانية، 1418هـ - 1998م، دار الشروق، القاهرة – مصر.
10. القرضاوي – يوسف، الرسول والعلم، الطبعة الخامسة، 1411هـ - 1991م، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان.
11. القزويني – حسن مترضى، الرسول الأكرم ( مدرسة الأخلاق )، الطبعــة الأولى، 1411هـ - 1991م، دار البيان العربي، بيروت – لبنان.
12. النووي – أبي زكريا يحيى بن شرف، رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1987م، بيروت – لبنان.
13. برغوث عبد العزيز بن مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، سلسلة فصلية تصدر عن وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بقطر، وذلك تحت عنوان ( كتاب الأمة )، العدد 43، الطبعة الأولى، عام 1415هـ - 1995م.
14. ثغرة – مصطفى، من مباحث العقيدة – بينات النبوة الخاتمة من القرآن والسنّة والأخبار، سلسلة الحضارة العربية الإسلامية، الطبعة الأولى، 1988م، دار التركي للنشر، تونس.
15. جعفر ماجد، محمد النبي الإنسان،سلسلة معارف للجميع، 1991م، بيت الحكمة، قرطاج – تونس.
16. حســن أيوب، السلوك الاجتماعي في الإسلام، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2002م، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة – مصر.
17. شلبي – رؤوف، الدعوة الإسلاميّة في عهدها المدني- منهجها وغاياتها، سلسلة موسوعة الدعوة الإسلاميّة، الرقــم 3، الطبعة الأولى، دار القلم، دولة الكويت.
18. عساف – أحمد محمد، قبسات من حياة الرسول، الطبعة الثامنة، 1407هـ - 1987م، دار إحياء العلوم، بيروت – لبنان.
19. عماد الدين خليل، قالوا عن الإسلام، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض – المملكة العربية السعودية.
20. عمر أحمد عمر، أولو العزم من الرسل، المجلد الثاني – الجزء الخامس، الطبعة الأولى، 1409هـ - 1988م، دار حسان للطباعة والنشر، دمشق – سورية.
21. فضل الله – محمد حسين، الإسلام ومنطق القوة، الطبعة الثالثة، 1406هـ - 1986م، الدار الإسلامية، بيروت – لبنان.
22. سعيد حوى، الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، الطبعة الثانية، 1391هـ - 1971م، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
23. فايد – محمود عبد الوهاب، الرسالة المحمدية وشواهدها، الطبعة الأولى، 1389هـ - 1969م، مكتبة القاهرة.
24. قلعة جي – محمد روّاس، دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمــد ( صلى الله عليه وسلم ) – من خلال سيرته الشريفة، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1988م، دار النفائس، بيروت – لبنان.
25. محمّد هادي كاظم، الصراع ومتطلّبات الحياة، شركة المصطفى، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1997م، المنامة، مملكة البحرين.

ثانيا: معاجم اللغات.

· فؤاد إفرام البستاني، قاموس منجد الطلاب، الطبعة الحادية والأربعون، دار المشرق، بيروت – لبنان.
· الرازي – محمد بن أبي بكر عبد القادر، قاموس مختار الصحاح، إخراج: دار المعاجم في مكتبة لبنان، مكتبة لبنان ناشرون.

ثالثا: الشبكة العالمية للمعلومات ( الإنترنت ).

· www.alryadh.com
· www.islamweb.net
· www.sunna.org







الفهرست


المقدمة 1
الباب الأول: الرحمة في منظومة الأخلاق المحمدية 10
الفصل الأول: منظومة الخلق المحمدي 13
المبحث الأول: فلسفة الأخلاق في الإسلام 15
التعريف بفلسفة الأخلاق في الإسلام 15
التصوير القرآني للخلق العظيم 16
المبحث الثاني: محاسن الأخلاق كما تمثلت في واقع الحقيقة المحمدية 25
أخلاق النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الجاهلية 26
أخلاق النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في عهد الرسالة 29
نماذج من أبرز الأخلاق المحمدية، وارتباطها بالرحمة 35
كمال لطفه ( صلى الله عليه وسلم )، ولين عريكته 36
عفوه وحلمه 37
حياؤه 38
تواضعه 39
برّه ووفاؤه 40
جوده 41
هيبته 41
شجاعته 42
عدله وورعه 43

زهده وإعراضه عن الدنيا 44
مزاحه 44
ضحكه و تبسمه 47
الفصل الثاني: مفهوم الرحمة المحمدية ودلائلها 48
المبحث الأول: مفهوم الرحمة المحمدية 48
الرحمة عند أهل اللغة 48
مفهوم الرحمة المحمدية 54
المبحث الثاني: دلائل الرحمة المحمدية 54
الدلائل القرآنية 57
الدلائل النبوية 63
الهوامش 75
الباب الثاني: مظاهر الرحمة المحمدية للبشر 78
الفصل الأول: حقائق ومظاهر الرحمة الشخصية 80
حقائق الرحمة المحمدية 81
مظاهر الرحمة المحمدية 81
رحمته بالأطفال والأيتام 87
رحمته بأزواجه 89
رحمته بالمؤمنين والأصحاب 91
رحمته بالضعفاء 93
رحمته بالمتعلم 100
الفصل الثاني: مظاهر الرحمة الدعوية 102
المبحث الأول: فلسفة التغيير الحضاري ما بين الرفق والعنف 103
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين } 104
صناعة الإنسان 107
منهجية التغيير ما بين الرفق والعنف 111
المبحث الثاني: الرحمة منهج للدعوة في وقت السلم 113
صبره على أذى المشركين 118
رحمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالكفار 120
المبحث الثالث: الرحمة منهج للدعوة في منطق البطش والحرب 123
المعاني السامية لأخلاقيات الحرب وآدابها 124
معاملة الأسرى 127
الفصل الثالث: الرحمة المحمدية في الفكر الغربي المتعقل 131

الهوامش 146
الخاتمة 153

نتائج الدراسة 155
توصيات الدراسة 159
قائمة المراجع 162

الكتب 162
الشبكة العالمية للمعلومات ( الإنترنت ) 165
الفهرست 166

  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أنيس المرأة في شهر الرحمة نور الإسلام هدي الإسلام 0 24-06-2013 07:38 AM
فرنسا: المجلس الإسلامي يدين محاولة حرق مسجد الرحمة نور الإسلام الإسلام والعالم 0 23-09-2012 05:52 AM
ذبابة تهزم الملحدين ـ نظرية التطور المحمدية نور الإسلام هدي الإسلام 0 19-08-2012 02:21 PM
نريد إسقاط النظام لا سقوط الأخلاق !! مزون الطيب المقالات 0 17-02-2012 07:47 PM
مرجع حول الأخلاق في الإسلام نور الإسلام كتب ومراجع إسلامية 0 11-01-2012 12:12 PM


الساعة الآن 01:50 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22