صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

القيم الأخلاقية بين الإسلام و الغرب

المقدمة: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد إن للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان وما يصدر عنه، بل نستطيع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-05-2013 ~ 05:52 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي القيم الأخلاقية بين الإسلام و الغرب
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد
إن للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان وما يصدر عنه، بل نستطيع أن نقول: إن سلوك الإنسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معان وصفات، وما أصدق كلمة الإمام الغزالي إذ يقول في إحيائه: "فان كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة" ؛ فأفعال الإنسان، إذن موصولة دائما بما في نفسه من معان وصفات صلة فروع الشجرة بأصولها المغيبة في التراب.
ومعنى ذلك أن صلاح أفعال الإنسان يكون بصلاح أخلاقه، لأن الفرع بأصله، فإذا صلح الأصل صلح الفرع، وإذا فسد الأصل فسد الفرع ، كما قال تعالى :﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونًَ﴾ )الأعراف: 58. (ولهذا كان النهج السديد في إصلاح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون بإصلاح النفوس وتزكيتها وغرس معاني الأخلاق الجيدة فيها ولهذا أكد الإسلام على صلاح النفوس وبين أن تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء ويسر وعسر، ورخاء وضيق، وطمأنينة وقلق، وعزّ وذل كل ذلك ونحوه تبع لتغيير ما بأنفسهم من معان وصفات، قال تعالى: ﴿إن الله لا يغيِّرُ ما بِقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم﴾ الرعد-11).
وتظهر أهمية الأخلاق أيضاً من ناحية أخرى، ذلك أن الإنسان قبل أن يفعل شيئا أو يتركه يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الأخلاق المستقرة في نفسه فإذا ظهر الفعل أو الترك مرضيا مقبولا انبعث في النفس رغبة فيه واتجاه إليه ثم إقدام عليه، وإن كان الأمر خلاف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته وأحجمت عنه تركا كان أو فعلا.

والأخلاق و القيم السامية تكون المجتمعات الكفيلة ببناء حضارة تحقق تلك القيم في نظامها و تنظيماتها .
و لأهمية ذلك فقد رغبت الكتابة والحديث حول هذا الموضوع لما في ذلك من أثر في تصحيح السير و السريرة ، ودعوة للارتقاء نحو مجتمعات إسلامية تفعل قيم دينها في دنياها، وزادني الأمر إقداما تواصل الزملاء القائمين على برامج كرسي الأمير نايف للأخلاق و القيم في جامعة الملك عبد العزيز وعلى رأسهم معالي مدير الجامعة أ.د. أسامة بن صادق طيب، وسعادة المشرف العام على الكرسي الدكتور سعيد بن أحمد الأفندي مدير مركز البحوث الاجتماعية والإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز ؛ليكن ضمن فعاليات كرسي الأمير نايف للأخلاق و القيم الذي رُسم له إستراتيجية مبنية من خطط عملية شارك في إعدادها جملة من الأكاديميين المتخصصين لتكوين منظومة تعنى بالأخلاق و القيم في مستوى ما يحيط بها في العصر الحاضر من متغيرات نتجت عن حضارات و نظريات معاصرة، ويهدف الكرسي إلى بث القيم في المجتمع من خلال برامج علمية عملية ومناشط ثقافية تقوم على ثوابت الشريعة و قواعدها الكلية ومقاصدها المرعية وتتواصل مع المجتمع نحو نشر وعي متكامل يقدم الأخلاق و القيم كمعايير داخلية تسمو بها نفوس المجتمع في بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية، فهي مئرز الإسلام، ومنها انطلقت قوافل الإيمان التي فتحت العالم بقيم أصحابها قبل أسنتهم.
وفي هذه الكلمة التي تعنى بالحديث عن(القيم الأخلاقية بين الإسلام و الغرب) سأتحدث في خمسة محاور:
المحور الأول:تعريف الخُلق.
المحور الثاني:مصدر الأخلاق.
المحور الثالث: المذاهب الأخلاقية الغربية.
المحور الرابع:خصائص الأخلاق الإسلامية.
المحور الخامس:حماية الأخلاق.
وهنا يسرني أن أشكر معالي مدير جامعة الملك عبد العزيز أ.د. أسامة بن صادق طيب، وسعادة المشرف العام على الكرسي الدكتور سعيد بن أحمد الأفندي مدير مركز البحوث الاجتماعية والإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز، وكافة منسوبي الجامعة من اساتذة و إداريا و فننين.
كما أسأل الله تعالى لهم دوام التوفيق و السداد و الهداية و الرشاد و أن ينفع بنا جميعا العباد و البلاد .

كتبه

د.صالح بن عبدالله بن حميد




مدخل إلى مفهوم الأخلاق :
(الخُلُق) و (الأخلاق) كلمة يتداولها الناس فيقولون : (فلان على خُلُق ) أو (فلان ذو خُلُق ) ، وهم يقصدون بذلك – غالبا- ما يتصف به الإنسان من صفات نبيلة تجعله محل تقدير واحترام ، وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقد يطلقون لفظ الخُلُق يريدون به الصفات المذمومة ، فيقال (فلان سيئ الخُلُق ) ، ويقال (هذه أخلاق سيئة ) ، وهكذا .
وقبل تعريف الأخلاق وبيان معنى كلمة الخلق يجدر التفريق بين الخُلُق كصفة راسخة في النفس لها آثارها المحمودة أو المذمومة ، وبين الغرائز التي يندفع إليها الإنسان بطبعه وحاجته .
فالأخلاق منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم ، وآثارها تظهر على سلوك الإنسان وتصرفه ، فإذا كان الخلق المستقر في النفس حميدا أثمر سلوكا حميدا ، وإذا كان الخلق على خلاف ذلك جاءت نتائجه تبعا له ، كالكرم والبخل ، والصفح والانتقام، والأناة والعجلة والصبر والجزع.
وهنا يجب أن نعلم أن بعض الصفات المستقرة في النفس لا تعد من الأخلاق ، بل هي غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق ، وإنما تتميز الأخلاق عنها بأن آثار ها تحمد أو تذم ، وبالمثال يتضح المقال :
فالأكل عند الجوع غريزة ليس مما يحمد أو يذم ، لكنه إذا أصبح شرهاً صار أمرا مذموما لأنه يخرج عن حد الطبع السوي إلى الطمع المفرط، ويقابل الشره القناعة (بل لعله بهذا التمثيل يلاحظ تحول الصفة من غريزة طبيعية إلى صفة خلقية).
والحذرُ من وقوع مكروه ليس خلقا بل هو غريزة لا يحمد عليها ولا يذم ، لكن الحذر الخارج عن المألوف يصبح خوفا وجبنا يذم الإنسان على الاتصاف به ، ومثله البخل والإسراف والتهور وغيرها من آثار الغرائز التي تخرج عن حدها المألوف .
وإذا ظهر لك هذا الفرق الدقيق ، فما معنى الخلق أو الأخلاق ؟

• المحور الأول:تعريف الخُلُق :
تعريف الأخلاق لغة واصطلاحاً : ـ

الخَلْق والخُلُق : أصل واحد ترجع الى التقدير ( تقدير الشيء )
والخَلْق : مخصوص بالهيئات والأشكال والصور
والخُلُق : مخصوص بالطبائع والسجايا
والخُلُق : يطلق على ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب لأنه يصير كالخلقة فيه
الخِيْم : هذه الكلمة في اللغة العربية تأتي مرادفة للخُلقُ ، وقيل : إنها تختص بماطبع عليه الإنسان من الأدب فيكون الخِيْم هو السجية والطبع والخُلُق هو المكتسب بالتربية والتأديب .
يقول الأعشى :
وإذا ذو الفضول ضنَّ على المولى وعادت لخِيِمها الأخلاق
أي رجعت الأخلاق إلى طبيعتها ، والخليقة الطبيعة : جمعها : خلائق يقول لبيد :
يا أيها المتحلِّي غير شمته ان التخلق يأتي دونه الخُلُق
ـ تعريفات علمائنا للأخلاق في اصطلاحهم :
الجاحظ ( ت : 255 )
الخُلُق : هو حال النفس بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار ، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا ، وفي بعضهم لايكون إلا بالرياضة والاجتهاد ،كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولاتَعمُّل ، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل وغير ذلك من الأخلاق المحمودة
أبن مسكويه ( ت : 421 )
الأخلاق : حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر ولا روية وهذه الحال تنقسم إلى قسمين : منها ما يكون طبيعيا من أصل المزاج كالانسان الذي يحركه أدنى شي فهو غَضبٌ ويهيج من أقل سبب ، وكالذي يضحك مفرطا من أدنى شي يعجبه ، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شي يناله ، ومنها مايكون مستفاداً بالعادة والتدريب وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر أولاً فأولاً حتى يصير ملكة وخلقاً .
الماوردي ( ت : 4500 )
الأخلاق : غرائز كامنة تظهر بالاختيار وتقهر بالاضطرار .
ـ نظرات المعاصرين :
ـ الأخلاق : تصور وتقييم ماينبغي أن يكون عليه السلوك متمشيا في ذلك مع مثل أعلى أو مبدأ أساسي تخضع له التصرفات الإنسانية ويكون مؤازراً للجانب الخيرِّ في الطبيعية البشرية
ـ مجموعة القواعد السلوكية التي تحدد السلوك الإنساني وتنظمه يحتذيها الإنسان فكراً وسلوكا في مواجهة المشكلات الإجتماعية والمواقف الخلقية المختلفة بما يتفق وطبيعة الآداب والقيم الاجتماعية السائدة )
ـ صفة مستقرة في النفس فطرية أو مكتسبة ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة .. ويقاس مستوى الخلق بقياس آثاره في السلوك فالخلق الحميد آثاره حميدة والذميم آثاره ذميمة
ماسبق كان نظرة للخُلُق والأخلاق من حيث هو طبيعة في النفس أو هيئة أو صفة أو ملكة أما لو نظرنا إلى الجانب المكتسب ودور التربية والأحكام والقوانين والتنظيمات التي تصنع وتسن من أجل اصلاح الناس وتهذيبهم فيكون تعريف الأخلاق أو علم الأخلاق على
النحو التالي :
القواعد والمبادىء والأسس التي يعرف بها معيار الخير والشر في سلوك الإنسان .
أو هي : القواعد المنظمة للسلوك الإنساني .
وهي في الإسلام محكومة بالوحيين الكتاب والسنة لتنظيم حياة الإنسان وتحدد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده على أفضل وجه
يقول الفيروز أبادي : الدين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين . وهو يقوم على أربعة أركان : الصبر والعفة والشجاعة والعدل . وكل الخصال الحسنة والأخلاق الحميدة تتفرع عن هذه الأركان الأربعة فالصبر مثلا : يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وإماطة الأذى والاناة والرفق وعدم الطيش والعجلة
و جماع حسن الخق : الصبر والرفق والعفو والانفاق
ويقول الطاهر بن عاشور في تفسيره : الخلق السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر . وتشمل طبائع الخير وطبائع الشر ولذلك لايعرف أحد النوعين من اللفظ إلا بقيد يضم إليه فيقال : خلق حسن وخلق قبيح وإذا أطلق عن التقييد انصرف إلى الخلق الحسن
ـ الانسان كائن أخلاقي : أي مدرك للقيم الأخلاقية قادر على الاتيان بها وفعلها وبناء عالم داخلي مرتب بل هذا هو الحد الفاصل بينه وبين غيره من الكائنات .
وشاء الله سبحانه وأراد أن تقوم الإنسانية على أساس معياري يعكس حياة تتميز بالأصالة والقوة والتميز ، فالبشر يميلون في تواصلهم بتبادل مشاعر ومعايير يؤثر بعضها في بعض تأثيراً ايجابياً أو سلبياً ومن ثم تتبلور مواقفهم النفسية والوجدانية هذا البناء المعياري هو قواعد السلوك أو مقاييس يحكم بها على السلوك قبولاً أو رداً .
الأخلاق هي صورة الفرد والمجتمع فهي الضابط والمعيار للسلوك الفردي والاجتماعي .
ويمكن أن نستخلص من ذلك كله أن الخلق باعتباره وصفاً للإنسان: "صفة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال من غير تكلف من آثارها الحسنة أو السيئة في السلوك".
ـ تعريف القيم : جمع قيمة وأصلها الواو من مادة (ق و م ) تدل على الاستقامة والعزم . وقيل للثمن قيمة لأنه يقوم مقام الشيء المثمن وفي الحديث : قالوا يارسول الله لوقومت لنا أي لو سعرت لنا ـ فقال إن الله هو المقوم . والمراد : لوحددت لنا القيمة .
ويأتي الِقَيم مصدر الفعل قام : مثل الصغر والكبر ومعناه حينئذ الاستقامة وفي هذا يقول كعب بن زهير :
فهم ضربوكم حين جرتم على الهدى بأسيافهم حتى استقمتم على القيم
وقال حسان : وأشهد أنك عند المليك أُرسلت حقا بدين قيم .
( ودين القيِّمة ) الملة المستقيمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة .
ومن أوضح المعاني وأدلها على المراد هنا قول صاحب اساس البلاغة :
القيمة : ثبات الشي ودوامه . بل قال صاحب القاموس : فلان ماله قيمة إذا لم يدم على شيء .
وهذا يشير إلى أن القيمة ترد بمعنى الأمر الثابت الذي يحافظ عليه المرء ويستمر عليه .
القيمة في الاصطلاح :
يمكن القول إن القيمة : معيار اجتماعي متصل بالنهج الأخلاقي للفرد والجماعة يُقيم موازين السلوك ونهج الأفعال كما يتخذها دليلا ومرشداً لمعرفة المرغوب فيه والمرغوب عنه والحسن والسيء .
ولعله من خلال التعريف اللغوي والاصطلاحي للقيمة يمكن استخلاص المعايير التالية :
ـ القيمة لها حقيقة المعيارية والتوجيه
ـ تحمل صفة الانتقائية والاختيار
ـ القيمة حين توظيفها التوظيف الحسن تقود إلى أفضل الاختيار الممكن .














تعريف القيم الإسلامية :
مجموعة المعايير والأحكام والموجهات المأخوذة من النصوص الإسلامية التي تحدد للمسلم المرغوب فيه والمرغوب عنه من السلوك والتصرفات .
لماذا العناية بالقيم الأخلاقية ؟

لماذا صار التوجه لإنشاء كرسي تتبناه الجامعة والجامعة _ أي جامعة _ أهي محضن الدراسات العلمية الرصينة المميزة ( تنظيرا وتطبيقا ) ومايصدر عن الجامعة فيما ينبغي أن يصدر بعد دراسة وعناية بالاختصاص أهدافا ورسائل .
وفي نظرة متعمقة للإجابة على هذا السؤال مع أنه بدهي لكنه كبير ومتين يمكن تبين المعالم التالية : ـ
1 ـ إبراز منظومة الأخلاق الإسلامية في ظل التقدم العلمي والتقني المعاصر وماصحبه من اضطرابات ومؤثرات تمس كل مكونات الحياة الإنسانية حتى أصبحت إشكالية الأخلاق في العصر الحاضر إشكالية متفاقمة في العالم كله .
2 ـ إبراز دور القيم الأخلاقية الإسلامية في صياغة الحياة وأهدافها وتحديد الأفضليات والتمييز بين المحاسن والمساوئ ومايترتب على ذلك من نتائج وآثار وحينما تتبين القيم الأخلاقية وتتجلى ليصبح الاختيار ممكنا واضحا وتنقشع الضبابية والارتجالية .
3 ـ الاسهام في طرح أوسع لموضوع الأخلاق والقيم الإسلامية فالدراسات في هذا تحتاج مزيد عناية وتأصيل وشمول ويترتب على ذلك إبراز فعاليات هذه الأخلاق والقيم في ميادين التربية بترشيد الجهود والدور المنشود في بناء شخصية المسلم والملامح المميزة للأصالة والاستقامة .
4 ـ الاسهام في صياغة أهداف الحياة عن طريق إبراز هذه القيم والأخلاق بل هو إسهام في الوعي بالذات الإسلامية والشخصية المسلمة في مجال التربية والتعليم والدعوة وكل ميادين الحياة العملية .
وفي نظر يجمع البناء الأخلاقي يمكن النظر في مجموعات ثلاث :
الأولى : مجموعة المعارف والمهارات والاتجاهات ( الأهداف الأخلاقية )
الثانية : مجموعة القيم والمثل العليا التي يبنى عليها البناء الأخلاقي
الثالثة : مجموعة الطرق والأساليب المحتاج إليها لبناء المجموعتين السابقتين .








الأخلاق الإسلامية :
الأخلاق الإسلامية هي السلوك من أجل الحياة الخيرة وطريقة للتعامل الإنساني، حيث يكون السلوك بمقتضاها له مضمون إنساني ويستهدف غايات خيرة.
وقد عرف بعض الباحثين الأخلاق في نظر الإسلام بأنها : عن «مجموعة المبادىء والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه »
ويتضح من هذا التعريف أن الأخلاق في نظر الإسلام هي جمع شامل في منظور متكامل بين مصدرها .
وللنظام الأخلاقي في الإسلام خصيصتان مميزتان :
الأولى: خصيصة ربانية ، إذ يجب أن يتبع الإنسان في هذه الحياة منهج الله وهذا ما جا به الوحي كتابا وسنة .
الثانية: الطبيعة الإنسانية من حيث إن هذا النظام يتضمن المبادىء العامة، وللإنسان دوره في تحديد مسؤولياته الخاصة والتعرف على طبيعة مظاهر السلوك الإنساني المعبرة عن القيم. يوضح ذلك قول رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم «البر حسن الخلق »
أصالة الفكر الأخلاقي عند المسلمين :
الفكر الأخلاقي وجدت أسبابه ودواعيه منذ تنزل الوحي على نبينا الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم عقيدة وشريعة وأخلاقا في امتزاج وانسجام لا انفصام بينه يجسد ذلك جل آيات القرآن الكريم وسوره وليتأمل الناظر هذه السورة {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}*{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}*{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}*{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ}*{الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ }* {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} *{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإنه قد تقرر عند العلماء أنه لا يوجد فكر ديني دون أن يكون فكر أخلاقي انطلاقا من أن الفكر الديني هو الذي يحدد الإطار العام لأفكار معتنقيه، ويجيب عن التساؤلات الإنسانية الكبرى مثل خلق الإنسان والتدبر في نعم اللّه وآلائه، أما الفكر الخلقي فإنه يحدد أنماط السلوك التي يمارسها الإنسان في هذه الحياة، ومن المعروف أن الإسلام عقيدة وشريعة؛ فالعقيدة تتضمن الفكر والشريعة تتضمن أنماط السلوك تجاه المولى- عز وجل- كما في العبادات، أو تجاه النفس كما في العفة والطهر ونحوها، أو تجاه الآخرين كما في البر والصدقة والإيثار ونحو ذلك.
لقد وجد الفكر الأخلاقي عند المسلمين طريقة للتأثير على الفكر الأخلاقي على المستوى العالمي ، ولا يزال هذا الفكر مسيطرا على سلوك المسلمين في الحاضر، ويعمل على صياغة حياتهم في المستقبل، ولم يكن الأمر كذلك إلا لكون هذا الفكر الإسلامي فكرا عالميا يعالج قضايا الحياة الإنسانية من منظور يسمو على النواحي القومية والعرقية والإقليمية، وما ذلك إلّا «لأن الإسلام الذي ينبعث منه هذا الفكر هو دين كامل شامل من ناحية، ولأن ممارسة هذا التفكير في ظل الإسلام، وانطلاقا من القيم والثوابت الإسلامية تجعل هذا الفكر بالفعل فكرا عالميا أو إنسانيا، يؤمن به من يؤمن على هذا الأساس، أو ينكره على هذا الأساس» ، من ناحية أخر.
تطور الفكر الأخلاقي وثراؤه عند المسلمين:
إن أهم ما يميز هذا الفكر ويؤكد أصالته هو هذا التنوع الهائل، وذلك الكم الضخم من المؤلفات التي أسهم بها العلماء المسلمون في المجال الأخلاقي، وقد كانت هذه الجهود المباركة- شأنها شأن أي جهد علمي خلّاق- قد بدأت متدرجة ، مختلطة بغيرها ثم تمازيت واستقلت .
لقد أرسى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة المفاهيم والقيم اللازمة لإقامة حياة سعيدة ، مع الجزاء الأوفى في الآخرة، وقد تفاعل الفكر الإنساني مع هذه المبادىء والقيم ،فقد أبرز القرآن الكريم للناس نظرة جديدة إلى الكون والحياة والمجتمع، وكانت هذه الجدة متمثلة في الوسطية والحيوية والحركة والتكامل وتطور الفكر الإسلامي كوحدة متكاملة ، ومن ثم ظهرت العلوم والمعارف والعقائد، والأحكام، واللغة، والأدب، والنحو والصرف، والاشتقاق ، والمعاني ، والبديع، والبيان، والحديث والتفسير، والأصول، والعلوم التجريبية.
المؤلفات في الأخلاق :
في الفقر التالية استعراض لأهم الأعمال والمؤلفات الأخلاقية التي أسهم بها العلماء المسلمون في مجالي القيم والأخلاق الإسلامية، مما يبرهن على أصالة الفكر الإسلامي ، وتطوره التطور الطبيعي وإسهامه في مجال الفكر الخلقي على المستوى العالمي.
بدايات مبكرة :
ظهرت الاهتمامات المبكرة بالفكر الأخلاقي منذ عهد الصحابة- رضوان اللّه عليهم- والتابعين- رحمهم اللّه تعالى- على عدة وصايا ونصائح مأخوذة من الآثار المنقولة عنهم في تفسيرهم لآيات القرآن الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،
وفي القرن الثاني الهجري بدأت الأعمال العلمية المنظمة في مجال العلوم الفقهية التي تضمنت إشارات واضحة إلى ميادين الأخلاق ، وقد تمثلت هذه الجهود في أعمال الأئمة المجتهدين أمثال الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150 هـ)، والإمام مالك بن أنس (ت 179)، والإمام الشافعي (ت 204 هـ)، والإمام أحمد بن حنبل (ت 241)، وقد كان هؤلاء بذواتهم قدوة، وكان ما توصلوا إليه من استنباطات في الأحكام والتوجيهات التي ينظم حياة الناس في كافة مستويات الحياة من فردية وأسرية واجتماعية، وقد كانت اجتهادات هؤلاء الأئمة معالم طريق في المجتمع الإسلامي في إطار معياري أخلاقي سديد .
وفي القرن الثالث الهجري ظهرت بوادر الأعمال العلمية التي خصصها مؤلفوها للحديث عن موضوعات أخلاقية، أمثال «الجاحظ» ، ومن مؤلفاته البارزة «تهذيب الأخلاق» .. ورسالة في كتمان السر وحفظ اللسان، ورسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ورسالة في المودة والخلطة وأخرى في الجد والهزل ، هذا بالإضافة إلى ما تضمنته كتاباته الأخرى مثل «البيان والتبيين» و«البخلاء» و«الحيوان» إذ تضمنت العديد من الوصايا الخلقية التي برزت في شكل أدبي جذاب. وفي نفس الفترة (تقريبا) ظهرت الموسوعات الأدبية والتاريخية التي ضمنها مؤلفوها أبوابا في الأخلاق، من ذلك ما كتبه ابن قتيبة (ت 276 هـ) عن الطبائع والأخلاق في موسوعة «عيون الأخبار»، وقد تتابع تأليف هذه الموسوعات في القرون التالية .
مدرسة النص والأثر :
يقصد بهذه المدرسة ما أبدعه نظر الفقهاء والمحدثين والزهاد في مجال التربية والسلوك اللذين يستمدان أصولهما من قواعد الشريعة الإسلامية ويستلهمان مبادئهما من الكتاب والسنة وغيرهما من المصادر الإسلامية الخالصة مثل الإجماع والقياس ، وهذه المؤلفات لم تغرق في المباحث النظرية المجردة بل أسهمت بنصيب وافر في مجال السلوكيات والأخلاق العملية، وهذا عرض موجز لأهم علماء هذه المدرسة وأبرز مؤلفاتهم في المجال الأخلاقي :
1- ابن المبارك (ت 181 هـ) وله كتاب الزهد، وهو كتاب مليء بالتوجيهات الخلقية، وأدلتها من القرآن والسنة وأقوال التابعين خاصة الزهاد منهم.
2- وكيع بن الجراح (ت 197 هـ)، وله أيضا كتاب «الزهد» وقد رتبه على الأبواب، وضمنه أحاديث الزهد والرقائق والأدب والأخلاق.
3- الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) وله كتابا: «الزهد» و«الورع» وقد سلك فيه مسلك ابن المبارك.
4- هنّاد بن السّري (ت 243 هـ) وله أيضا كتاب الزهد وقد تلمذ على الإمام وكيع بن الجراح وتأثر به.
وقد تناولت هذه المصنفات في «الزهد» الحث على مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا والتطلع إلى ثواب اللّه في الآخرة، ومادتها تتكون من القرآن الكريم والحديث الشريف وآثار السلف الصالح .
5- أبو عبد اللّه المحاسبي (ت 243 هـ)، وكانت جهوده في المجال الأخلاقي متنوعة، فكتب في الوصايا، وآداب النفس، ورسالة المسترشدين والرعاية لحقوق اللّه، والتوبة، وقد تضمنت هذه المؤلفات نقودا لاذعة للسلوكيات الشائنة في عصره، ودعوة للرجوع إلى الكتاب والسنة.
6- الإمام البخاري (ت 256 هـ)، وهو صاحب الجامع الصحيح (صحيح البخاري)، وله في الأخلاق «كتاب الأدب المفرد»، تعرض فيه لجمع الأحاديث المتعلقة بالآداب والأخلاق، ويعد هذا الكتاب من أسبق ما ألفه علماء الحديث في المجال التربوي والأخلاق الإسلامية.
7- ابن أبي الدنيا (ت 281 هـ) ويعد من أبرز المؤلفين في الأخلاق والتربية الإسلامية، وقد تبحر أيضا في علوم الحديث، ومن أهم مصنفاته في التربية والأخلاق: «الإخلاص»، «الأمر بالمعروف»، «الحذر والشفقة»، «ذكر الموت»، «ذم الغضب»، «الرضا عن اللّه والصبر على قضائه»، «الغيبة والنميمة»، «القناعة»، «الصمت )
وآداب اللسان» وغيرها مما يتضمن محمود الأخلاق ومذمومها ، وتمتاز هذه المصنفات بالوحدة الموضوعية، وجودة الترتيب، ونسبة الآثار والأقوال لأصحابها. مع الاعتناء الكامل بذكر الشواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف.
8- الإمام النسائي (ت 303 هـ)، ويعد كتابه «عمل اليوم والليلة» من أهم المساهمات التي قدمها علماء الحديث في الميدان الأخلاقي، إذ تضمن صفة الذكر في الصباح والمساء، ثم تناول جزئيات الحياة اليومية من صلاة وصيام وجهاد والوضوء ودخول المسجد، والبيع والشراء، وعيادة المرضى وغير ذلك مما يتناول تفصيل الحياة اليومية، الفردية والأسرية والاجتماعية، والكتاب في الواقع هو معجم للمثل والقيم الإسلامية.
9- أبو بكر الخرائطي (ت 327 هـ) وأبرز مؤلفاته كتابان: أحدهما «مكارم الأخلاق ومعاليها» والثاني «مساوىء الأخلاق ومذمومها وطرائق مكروهها» وكما يتضح من عنوان الكتابين أنهما يعنيان بسلوك المسلم إن إيجابا باتباع الأخلاق الحميدة المأمور بها، وإن سلبا باجتناب الأخلاق المذمومة المنهي عنها.
10- أبو بكر الآجري (ت 360 هـ)، وله في المجال الأخلاقي مصنفات عديدة منها: «أخلاق حملة القرآن»، و«أخلاق العلماء»، و«أدب النفس»، و«كتاب أهل البر والتقوى»، و«كتاب التوبة»، و«كتاب التهجد»، وغيرها كثير، وقد أجمل في هذه الكتب الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء وحملة القرآن والمسلمين بوجه عام.
11- ابن السني (ت 364 هـ) وله كتاب «عمل اليوم والليلة» ويتضمن (مثل كتاب النسائي) قواعد السلوك الخلقي للمسلم في يومه وليلته، ومن ثم في حياته كلها.
12- أبو طالب المكي (ت 386 هـ) وفي كتابه «قوت القلوب» آداب أخلاقية عديدة كالأخوة والصداقة والمودة والمحبة، كما تناول الأخلاق الأسرية والتوافق العائلي وغيرها، وقد تأثر مكي بالمحاسبي تأثرا كبيرا، كما أثر في فكر الغزالي خاصة في «إحياء علوم الدين» .
13- أبو عبد اللّه الحليمي (ت 403 هـ) وقد تناول الأخلاق من منظور شعب الإيمان في كتابه «المنهاج في شعب الإيمان» ضم سبعة وسبعين بابا، وقد اكتفى بذكر متون الأحاديث الواردة في كل شعبة، كما ذكر الآثار، وكان من دوافعه لتأليف هذا الكتاب ما رآه من اشتغال جمهور الناس عن العلوم بالتبقر (التوسع) في الأهل والمال، والتهافت في الحرام والحلال والتنافس في رتب الدنيا، والتغافل عن درج الآخرة»
14- ابن حزم الأندلسي (ت 421 هـ) وكتابه «الأخلاق والسير في مداواة النفوس» يقدم نموذجا من التجربة العملية التي تؤكد إمكانية مقاومة الرذائل.
15- أبو زيد الدبوسي (ت 430 هـ)، ويعد كتابه «الأمد الأقصى» من أهم الكتب في المجال الأخلاقي حيث تناول العلل النفسية والقلبية التي تحبط الأعمال، كالرياء والعجب ونحوهما
16- أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) وله كتابات مهمة في علم الأخلاق مثل أدب الدنيا والدين، ونصيحة الملوك، وتسهيل النظر وتعجيل الظفر، ويحفل كتابه «أدب الدنيا والدين» بالمباحث الأخلاقية كالحياء والصدق، وآداب الكلام والصبر والشورى، وكتمان السر، والمروءة، كما تضمنت مباحثه أيضا الأخلاق المذمومة من نحو الكذب والغيبة والنميمة، أما الكتب الأخرى فقد تضمنت العلاقة بين الأخلاق وسياسة الناس، وهذا مبحث فريد مميز في فكر الماوردي .
17- البيهقي (ت 458 هـ) وله «شعب الإيمان» وقد تحرى فيه ذكر الأحاديث بأسانيدها وأشار إلى درجة صحتها، وقد عقب على أحاديث كل شعبة بانطباعاته العقدية وآرائه الفقهية، وبلغت مروياته من الأحاديث والآثار 11269 حديثا وأثرا، ويعد كتابه من الكتب الجامعة في مجال الأخلاق.
18- الراغب الإصفهاني (ت 502 هـ)، وله مؤلفات عديدة في موضوع الأخلاق منها: «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، و«الذريعة إلى مكارم الشريعة» وقد تضمن كتابه «محاضرات الأدباء» مباحث أخلاقية عديدة، وقد أولى الجانب النظري للأخلاق اهتماما كبيرا، وكان فكره إسلاميا خالصا.
19- أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) ويعد من أشهر من تحدث عن الأخلاق في التراث العربي نظرا لشهرة كتابه الموسوعي «إحياء علوم الدين، وله في المجال الأخلاقي أيضا «ميزان العمل»، ويجمع فكره الأخلاقي أطراف وخيوط مذاهب أخلاقية عديدة، وقد اختلف الناس في تقويم آرائه اختلافا كبيرا.
20- ابن الجوزي (ت 596 هـ)، ومن مؤلفاته في هذا المجال «صفة الصفوة» وقد تضمن وصايا أخلاقية عديدة من خلال التراجم التي قدمها، وله أيضا «صيد الخاطر».
21- الحافظ المنذري (ت 656 هـ)، ويعد كتابه «الترغيب والترهيب» من أهم الكتب التي صنفت في الشريعة وفقا للمجالات الأخلاقية، إن حسنة بالترغيب فيها، وإن سيئة بالترهيب منها.
22- العز بن عبد السلام (ت 660 هـ)، وله في الأخلاق كتابه القيم «شجرة المعارف والأصول» الذي يحتوي على عشرين بابا، يستهدف منها إصلاح القلوب لأنها منبع كل إحساس.
23- الإمام النووي (ت 676 هـ)، وكتابه «رياض الصالحين» تضمن أبوابا في الأخلاق من خلال الآيات والأحاديث التي استشهد بها.
24- ابن تيمية (ت 728 هـ)، وتتمثل أهم جهوده في ميدان التربية والأخلاق في «مجموع الفتاوى» وقد استخرج بعض الباحثين ما كتبه شيخ الإسلام عن الأخلاق ، كما استطاع باحث آخر أن يستخلص أسس النظرية الأخلاقية عند ابن تيمية، فتحدث عن وهبية الأخلاق وكسبيتها، ومصدر الإلزام الخلقي، وغيرها من مباحث توضح الفكر الأخلاقي عنده .
25- الذهبي (ت 748 هـ)، ويعد كتابه عن «الكبائر» متعلقا بالجانب السلبي للأخلاق، حيث أوضح الأخلاق المذمومة التي تعد من كبائر الذنوب وذكر من الآيات والأحاديث ما يدل على غلظ العقوبة فيها.
26- ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) وله إسهامات عديدة في مجال الأخلاق نذكر منها: الفوائد، ومدارج السالكين، وعدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وإعلام الموقعين، والداء والدواء، وإغاثة اللهفان، وقد تناول في هذه الكتب أسس علم الأخلاق.
27- ابن مفلح (ت 763 هـ)، وقد طرح فكره الخلقي من خلال كتابه المشهور «الآداب الشرعية والمنح المرعية) وفيه الكثير عن الفضائل الخلقية التي يجب أن يتحلى بها المسلم.
28- ابن حجر المكي الهيتمي (974 هـ) ويمثل كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر» جهدا لا غنى عنه في توضيح كبائر الذنوب التي ينبغي أن يبتعد عنها كل مسلم.
29- السفاريني الحنبلي (ت 1188 هـ)، وله في المجال الأخلاقي كتاب غذاء الألباب، وهو شرح لمنظومة الآداب ، وقد تضمن الحديث عن حسن الخلق إجمالا، ومكارم الأخلاق تفصيلا، مثل: البر وحسن الظن، ونحو ذلك، وتناول أيضا مذموم الأخلاق مثل الغيبة وآفات اللسان، والفحش ونحو ذلك، وقد تناول الحكم الفقهي لمعظم ما تناوله من الفضائل أو الرذائل.
مدرسة العقل والرأي:
لقد بدأ بزوغ هذه المدرسة في الفكر الفلسفي عامة والأخلاقي خاصة منذ منتصف القرن الثالث الهجري، وقد كانت إسهامات هؤلاء ذات قيمة في المجال الأخلاقي وكان دورهم واضحا في ذلك :
إذ نظروا في الثقافة اليونانية وعدلوا فيها وأضافوا إليها كثيرا من الفكر الأخلاقي عند المسلمين .
ثم أعطوها للعالم مرة أخرى بعد تجريدها من النزعات الوثنية اليونانية، ويذكر في هذا الإطار:
- يعقوب بن إسحاق الكندي (ت 260 هـ)، وله في الأخلاق «القول في النفس».
- أبو بكر الرازي (ت 313 هـ) وله في المجال الأخلاقي كتاب «الفقراء والمساكين».
- الحكيم الترمذي (ت 320 هـ) وكان عالما بالحديث وأصول الفقه، ومن مؤلفاته في الأخلاق «كتاب الذوق» ويتضمن الفرق بين المداراة والمداهنة، والمحاجة والمجادلة والانتصار والانتقام، وله أيضا «الرياضة وأدب النفس» وكتاب المناهي، وغيرها.
- أبو نصر الفارابي (ت 339 هـ) (محمد بن أحمد) ويعرف بالمعلم الثاني، ومن مؤلفاته في الأخلاق «آراء أهل المدينة الفاضلة»، «الآداب الملوكية».
- ابن مسكويه (ت 421 هـ)، ومن أشهر مؤلفاته في الأخلاق، كتاب «تهذيب الأخلاق» في التربية.
- ابن سينا (ت 428 هـ)، قال عنه الإمام ابن تيمية: تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والميعاد والشرائع لم يتكلم بها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم، وأنه استفادها من المسلمين ، ومن مصنفاته في الأخلاق «رسالة في الحكمة»، «كتاب الطير» في الفلسفة، «أسرار الصلاة»، «الانصاف» في الحكمة .
- ابن باجة الأندلسي (ت 533 هـ) المعروف بابن الصائغ، وقد شرح كتب أرسطو، وله كتب عديدة منها:
«اتصال العقل»، «كتاب النفس».
- ابن الطفيل (محمد بن عبد الملك)، وهو صاحب قصة «حي بن يقظان» وله في المجال الأخلاقي رسالة «في النفس».
- ابن رشد (ت 595 هـ) ومن كتبه في الأخلاق: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، وقد ترجمت كتبه إلى اللاتينية والعبرية والإسبانية .
إن هؤلاء جميعا وإن تأثروا بالفلسفة اليونانية، إلّا أنهم لم يقتصروا عليها، وإنما أضافوا إليها وحرصوا على تنقيتها من شوائبها، ثم أخذها عنهم الأوروبيون منذ مستهل عصر نهضتهم.
الامتدادات في العصر الحاضر :
وفي العصر الحاضر تتابعت جهود العلماء في الكشف عن الخصائص الأخلاقية والقيم التربوية في
الإسلام وعلى رأس هذه الجهود يأتي كتاب الشيخ محمد عبد اللّه دراز «دستور الأخلاق في القرآن الكريم» ، والشيخ محمد الغزالي في كتابه «خلق المسلم» وكتابه «هذا ديننا» وكتاب ( خلق المؤمن ) لأبي بكر الجزائري ذلك من مؤلفاته الأخلاقية،: منهج القرآن في تربية المجتمع لعبد الفتاح عاشور، الاتجاه الأخلاقي في الإسلام لمقداد يالجن، والتربية الأخلاقية الإسلامية له أيضا، فلسفة التربية الإسلامية في القرآن الكريم لعلي خليل أبو العينين، والتربية الخلقية في الإسلام لسلوى رمضان وغير ذلك .
ويظهر من ذلك كله: أن هناك مؤلفات إسلامية عديدة ومتنوعة في المجال الأخلاقي، وبنظرة تحليلية يمكن استخلاص أهم ما تضمنته هذه المؤلفات في النقاط والموضوعات الآتية:
1- معنى الأخلاق وضرورتها وأهميتها في حياة الفرد والمجتمع وكل ما يتعلق بذلك من مباحث نظرية أو سلوكية.
2- إصلاح النفس وإصلاح الجسد وإصلاح الأسرة، بل إصلاح المجتمع بأسره.
3- الأخلاق في المجال السياسي وهي ما يترتب عليه إصلاح المجتمع البشري كله.
4- الأخلاق التي يجب أن تكون عليها العلاقة بين الإنسان وخالقه عز وجل.
5- الأخلاق النوعية كأخلاق العلماء وأهل القرآن.
6- الأخلاق السلبية التي ينبغي أن يتخلى عنها الأفراد والمجتمع والتي هي بمثابة الأمراض الفتاكة التي لابد من محاربتها والقضاء عليها والوقاية منها ومعرفة كيفية معالجتها.



• المحور الثاني:مصدر الأخلاق :
تقدم الحديث عن معنى الأخلاق في اللغة والاصطلاح ، وهنا يجدر بنا الحديث عن مصدر الأخلاق الذي اختلف تبعا لاختلاف نظرة الناس إلى الخير والشر مما يعد سلوكا يتعامل به الناس فيما بينهم .
فهل مصدر الأخلاق :
- المجتمع بعاداته وأعرافه ؟
- أم العقل البشري بقدراته وطاقاته ؟
- أم الضمير الإنساني بعواطفه وانفعالاته ؟
- أم أنها قيم اللذة والسعادة والمنفعة ؟
- أم أن هناك مصدرا خارجاً عن هذه المصادر البشرية .
هذه أهم الاتجاهات الفلسفية الأخلاقية في تاريخ البشرية التي لم تتفق على مصدر واحد لتقويم سلوك الإنسان ، ولم تحدد له مرجعا سلوكيا أخلاقيا يحتكم إليه ، وسيظهر من خلال هذا العرض أسباب هذا التعدد والاختلاف .
المذهب الأول
يرى أصحاب هذا المذهب أن المجتمع بأعرافه وعاداته هو مصدر الأخلاق ومقياسها.
والعرف مجموعة من العادات التي درج الناس عليها جيلا بعد جيل في مجتمع ما ، ورأوا ضرورة احترامها وأن تقوم الحياة على أساسها ، ومن خالفها يعاقب .
ولكن : هل يصلح أن يكون ( العرف ) مصدراً للأخلاق ،ومقياسا تقاس به الأعمال ، وميزانا للسلوك البشري ؟
إن نظرة متأنية تبين لنا أن العرف متغير وغير ثابت ، إذ يختلف باختلاف الزمان فما كان مألوفا متعارفا عليه في القديم قد يتغير ويصبح منكرا ومستهجنا عند الناس .
كان شرب الخمر ووأد البنات عرفا في الجاهلية ، فجاء الإسلام فمنعه وقضى عليه ، وكذا السرقة والنهب كانت سائغة في بعض الأعراف فلما دخلتها المدنية حرمتها .
فالعرف قد يخالف الدين ، وقد يخالف تطور المجتمعات ورقيها ، لذا يتبدل ويتغير .
ويختلف العرف باختلاف المكان فعرف الرجل الشرقي وعاداته يختلف عن عرف الغربي ، وكذا عرف أهل البادية يباين عرف أهل الحاضرة ولو في بعض جوانبه .
( إن العرف مثله كمثل الريح ، يمر على مزرعة (ورد) فيحمل رائحة الورد ، ويمر على مزرعة ( فُل ) فيحمل رائحة الفل ، ويمر على مزبلة فيحمل رائحة المزبلة ، فهو متغير ، تراه في مصر غيره في إنجلترا ، وتراه في جنوب إفريقيا غيره في بلاد القطب الشمالي ، وبين رجال السياسة غيره بين رجال المال والأعمال وهكذا ، وليس في استطاعة ( أخلاقي ) أن يقيس أعمال الناس بمقياس شأنه ذلك ) .
وقد وردت أدلة في القرآن الكريم والسنة تنعي على الانسياق وراء العرف انسياقاً أعمى ليكون مصدراً للسلوك ومقياساً للأعمال، ومنها :
قوله تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولوا كان أبآؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } .(البقرة)
وقوله سبحانه {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ... }(المائدة )
وقوله عز وجل {بل قالوا إنا وجدنا أبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام {لا يكن أحدكم أمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت }
والخلاصة أن العرف لا يصلح أن يكون مصدرا للأخلاق ولا منبعا لها ، ولا ضابطا يضبط أصولها ، ولا أساسا ينبني عليه سلوك الإنسان .
المذهب الثاني :
وإذا كان العرف لا يصلح ، فهل العقل البشري يصلح مصدراً للأخلاق ومقياسا وضابطا ، فما يراه العقل خَيْرا يكون خَيْرا ، وما يراه شرا يكون شرا ، وما يراه فضيلة يكون فضيلة ، وما يراه رذيلة يكون رذيلة ؟
إن أصحاب هذا المذهب يرون أن العقل قادر على وضع القانون الأخلاقي الذي يضبط حياة الناس وينظم تعاملهم أفرادا وجماعات .
ولكن : إذا أريد الاحتكام إلى العقل في قياس الأخلاق ، فأي عقل يحتكم إليه ؟
هل يحتكم إلى عقول الفلاسفة قديما وحديثا ؟ أم يحتكم إلى عقول أهل السياسة ؟ أم إلى عقول أهل الأموال والتجارة ؟
إلى أي عقل يحتكم ؟
فإذا كانت الأعراف تختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئة والثقافة ، فكذلك العقول تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر ، ومن ثقافة وبيئة إلى غيرها .
وهذا لايعني الانتقاص من قدر العقل ولا التقليل من منزلته ، فهو من أعظم نعم الله على الإنسان ، لكن له حدوده وقدراته ، مع ما فُطِر الناس عليه من اختلاف تلك القدرات والحدود ، وقد تبين قصور العقل عن إدراك بعض ما يحيط به ويدور في فلكه، فكيف يصح أن يكون العقل هو مقياس الأخلاق ؟
فالخلاصة أن العقل كما هو الحال في العرف لا يصلح وحده ليكون مصدرا للأخلاق ولا مقياسا لها ، ولا حكما عليها .
المذهب الثالث :
يرى أصحاب هذا المذهب أن الضمير البشري هو مصدر الأخلاق ، والمقصود بالضمير : القوة الخفية النابعة من نفس الإنسان ، فتوضح له طريق الخير وتدفعه إلى سلوكه ، وتبين له سبيل الشر وتحذره منه ، ويشعر الإنسان براحة في طاعة هذه القوة الخفية ، وبتأنيب عند عصيانها .
ولكن هل يصلح الضمير مصدرا للأخلاق ومقياسا لها ؟
إن المتأمل في أحكام الضمائر يجدها غير ثابتة ، بل هي متغيرة مختلفة ، بحسب الزمان والمكان ، فأحكام الضمير لإنسان القرن العشرين تختلف كثيراً عن أحكام ضمير إنسان عاش في العصور القديمة أو الوسطى.
وتختلف كذلك بحسب المكان والبيئة والثقافة ، فالضمير في أوروبا غيره في أواسط إفريقيا ، غيره في البلدان الإسلامية .
زد على ذلك أن أحكام الضمير مبهمة لا وضوح فيها ، فكيف يعتمد عليها في أمر عظيم الشأن ، وهذا حالها ؟
وكثيرا ما تتغلب العواطف والانفعالات والعادات والتقاليد والمواقف الخاصة والمصالح الشخصية في ضمائر الناس وأحكامها .
وكلمة الضمير بهذا المفهوم الأخلاقي لم ترد في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية ، ولا وجود لها في معاجم لغة العرب ، بل هو مصطلح حادث منقول عن كتب الفلسفة المعاصرة.
ولقد كان من دواعي استعمال هذا اللفظ في الفلسفة المعاصرة إحلال مفهوم أخلاقي منفصل عن مفهوم الأديان وليكون عوضا عن تعاليمها .
المذهب الرابع
وذهبت طائفة أخرى إلى أن مقياس الأخلاق وميزانها يرجع إلى اللذة والمنفعة ، فما يحقق اللذة والمنفعة المادية يكون خيرا ، وما يحقق ألماً وضرراً مادياً يكون شراً يجب تجنبه والبعد عنه ، فالفضيلة تدور مع اللذة والمنفعة وجودا وعدماً .
ومعنى هذا أن الإنسان لا يستطع أن يجزم بشيء سوى ما يصيب بدنه من اللذة والألم ، فاللذة هي الخير ، والألم هو الشر ، فالحكمة كل الحكمة - في هذا الاتجاه – أن يغتنم الإنسان الفرصة قبل فواتها وينتهب المسرات قبل انقطاعها ، ولا مرشد إليها سوى ما ركب فيه من الطبائع والغرائز ، فيسعى لإشباعها وإرضائها ، وهكذا تكون الأخلاق تبعا للذة والسعادة والمنفعة .
ومن تأمل هذا المذهب بواقعية ونظر ثاقب رأى أنه أشبع جانب الحس والمادة ، وأغفل الجانب الروحي والمعنوي في الإنسان ، وهو جانب له أثره ، وله أهميته في حياة الفرد وفي كيان الأسرة ونظام المجتمع .
إن هذا الرأي إذا ساد فإنه يفسح المجال أمام نزعة الأثرة والأنانية والظلم والتسلط ، ويقضي في المقابل على قيم هامة لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها ، كالإيثار والكرم والتعاطف وروح التسامح والبر والإحسان إلى الغير، فتحولت المنفعة إلى المنفعة الشخصية الخاصة.
( ومما يضعف هذا المذهب أن المحفوظ من سير الأبطال وقادة الأمم كيف سمت بهم هممهم العظيمة إلى اطِّراح لذاتهم وما هم فيه من رفاهية العيش وهناءة البال ، لا سعيا وراء اللذة والمسرة ، بل لينقذوا غيرهم غير مكترثين بما يصيبهم في ذات أنفسهم من أذى وإهانة ، كأنهم يفرحون بما يدهمهم في سبيل ذلك من نوازل الأحداث وخطوب الزمن ، لا تهدهم العظائم ولا تفزعهم الشدائد ) .
لكن هل يصلح مقياس اللذة والمنفعة مصدرا للأخلاق ؟
يجد بعض الناس لذته في ركوب الصعاب ومقارعة الخطوب ومنازلة النوازل ، خلافا لما اعتاده الناس وألفوه من وجود اللذة في الراحة والدعة ، ويجد بعض الناس متعته في مساعدة الغير وقضاء حوائجهم .
ماذا يعني هذا ؟
معناه أن معيار اللذة والمنفعة يختلف من إنسان لآخر ومن فكر لآخر ومن ثقافة لأخرى .
يقول أحمد أمين ( ليس مقياس السعادة العامة مقياسا ثابتا محددا ، وهذا يجعل الحكم بأن العمل خير أو شر مجالا للخلاف الكثير ، ذلك بأن مدار الحكم هو اللذة والألم ، وتقدير ما في العمل من اللذة والألم يختلف باختلاف الأشخاص ، فقد يرى أحد في عملٍ لذةً كبيرة ، ويرى آخر فيه لذة أكبر أو أقل ، فيترتب على ذلك اختلافهم في الحكم على الشيء بالخيرية أو الشرية ) .
( أضف إلى ذلك أن اتخاذ المنفعة في ذاتها معيارا للأفعال الخلقية مفض – لا محالة – إلى اللبس بين الحق والباطل ، فطالما جر الباطل إلى لذة وحبور ، وجاء في سبيل الحق ما لا يوصف من الهموم والشرور ، ومع ذلك فالحق أحق أن يتبع ، وما خير بخير بعده النار وما شر بشر بعده الجنة ) .
وهنا يظهر لك جليا أن هذا المقياس مضطرب ، فلا يصلح أن يكون أساسا مطلقا للأخلاق كما ذهب إليه أصحاب هذا القول .
وبنظرة فاحصة إلى ما تقدم من المذاهب يتبين لنا أن المجتمع بعاداته وأعرافه وقيمه ، وكذا الضمير الإنساني ، والعقل البشري ، والمنفعة المادية كلها تؤثر في معيار الأخلاق سلبا أو
إيجابا ، لكنَّ واحدا منها لا يصلح ليكون وحده مصدراً للأخلاق ومقياسا لها ،وحكما عليها.

المحور الثالث: المذاهب الأخلاقية الغربية
نتحدث في هذا المحور بنبذةٍ مختصرة عن المذاهب الأخلاقية الغربية على النحو التالي:
أولاً: الأخلاق الغربية
يؤكد مؤرخو الفلسفة أن الأخلاق الغربية مرت بثلاث مراحل كبرى هي:
المرحلة الأولى: الأخلاق اليونانية.
المرحلة الثانية: الأخلاق اليهودية والأخلاق المسيحية.
المرحلة الثالثة: الأخلاق الغربية المعاصرة.
وتمتاز المرحلة الأولى التي أسسها اليونان بالتخلي عن الدين واستبعاده من الفكر الأخلاقي والاعتماد على العقل والتجربة( ). واتجهت الفلسفة اليونانية إلى مخاطبة العقل وحده والتركيز على تفسير الوجود الخارجي دون اهتمام يذكر بالإنسان حتى جاء سقراط الذي اهتم بسلوك الإنسان وبالرد على فلسفة من سبقه من السوفسطائية التي شغلت في طرق البرهنة المنطقية والنظر في سبل وصول المعلومات. والرد على مفاهيم السوفسطائية في أن طبيعة الإنسان مكونة من شهوة وهو أن أساس المعرفة هو الإحساس أو المعرفة الحسية ومن العدل أن يسود القوي على الضعيف انسجاماً مع الطبيعة وغيرها من المفاهيم .
والفضائل عند أفلاطون أربعة هي:
1- الحكمة فضيلة العقل.
2- العفة فضيلة القوة الشهوية.
3- الشجاعة فضيلة القوة الغضبية.
التناسب بين القوى الثلاث أعلاه في النفس يمثل الفضيلة الرابعة العدالة على مستوى الفرد وأما على مستوى المجتمع فتكون العدالة أن يقوم الفرد بأداء الوظيفة المناسبة في المجتمع. والعدالة في نظر أفلاطون (حالة باطنية عقلية أخلاقية) يظهر بها صحة النفس وجمالها.
ويرى أرسطو أن الفضيلة ليست أمراً موروثاً وليست وليدة المعرفة فقط وإنما هي عادة أو ملكة من عادات النفس الناطقة والتي يمكن الوصول بها إلى درجات الكمال، ويعطي أرسطو اهتماماً في التركيز على أهمية التعليم وملاحظته لحياة المتعلم وبين أن بعض الفضائل لا تتحول عند الإفراط بها إلى رذائل مثل الذكاء والإدراك الدقيق للقواعد العلمية والمهارة وهي أرقى درجات الكمال في العلوم( ).
وبين أرسطو أنواع الخير التي تشمل الخير الخاص وهو خير خاص بالنفوس وهو أساسي وجوهري وخير خاص بالأجساد مثل الصحة والمال وخير خارجي لا يمكن الاعتماد عليه في تحقيق السعادة الفردية مثل الشهرة.
ثانيا: الفلسفة النفعية :
تستند الفلسفة النفعية إلى المبدأ القائل بأن الناس يبحثون عن السعادة ويتجنبون الألم وأن الإنسان عقلاني بطبيعته في عملية الاختيار بين البدائل المتاحة له وأن عملية الاختيار، كما يقول كتاب المنفعة تتأثر بالمنافع والمضار المترتبة على الاختيار.
ويؤكد بعض الكتاب أن السلوك الفردي يمكن تفسيره بالاستناد إلى المصالح أو المنافع الفردية المترتبة على هذا السلوك. وأن المنفعة الفردية تفسر سلوك الأفراد في المواقف الاجتماعية المختلفة من خلال اختيارهم للبدائل التي تحقق منفعة بأقل تكلفة ممكنة.
والفلسفة النفعية التي ظهرت في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر تمتد جذورها إلى منابع الفلسفة الغربية وتحديداً الفلسفة اليونانية القديمة المتمثلة في المذهب الابيقوري الذي يركز على اللذة ، واعتبارها الخير الأعظم مع التحفظ على أن الإفراط في اللذة يؤدي إلى عواقب غير محمودة، والفلسفة النفعية الحديثة تميز بين المنفعة الفردية، والمنفعة العامة وتعتبر المنفعة العامة ذات طابع اجتماعي عقلاني من حيث اعتماد المنهج التجريبي في تحديد مدى المنفعة المتحققة لأكبر عدد ممكن في المجتمع. والفلسفة النفعية تعتمد على الأساليب العلمية في تحويل دراسة الظواهر الأخلاقية والأخلاق بشكل عام إلى علم واقعي.
ثالثاً: الفلسفة الوضعية
ويتلخص موقف الفلسفة الوضعية في موضوع الأخلاق بأنه علم واقعي يخضع للأسلوب الاستقرائي في البحث العلمي ويعتمد على الملاحظة ويركز على العادات والعرف والآداب العامة والمثل العليا للجماعة وهذا الموقف يرى الأخلاق ظاهرة موضوعية وليست مرتبطة بكونها ظاهرة ذهنية وهذا الاعتقاد يتفق مع ضرورة إخضاع الظاهرة الأخلاقية للملاحظة بما في ذلك نتائج الأفعال أو الظاهرة الأخلاقية.
وتشمل ملامح الفلسفة الأخلاقية، ما يلي ( ):
أولاً : تقوم الأخلاق على أساس الملاحظة وتنظر للإنسان نظرة واقعية كما هو .
ثانياً: الأخلاق نسبية وليست ثابتة وقد أثار هذا الاعتقاد الانتقادات الكثيرة والأخلاق نسبية لأن المعرفة نسبية.
ثالثاً: الأخلاق في سيادة مشاعر الإيثار وليس الأثرة ومشاعر المودة على دوافع الأنانية وتغلب الطبيعة الاجتماعية للإنسان على المنفعة الفردية.
رابعاً: الميول الغيرية فطرية لدى الإنسان وهي أساس الأخلاق في تعامل الفرد مع الغير.
خامساً: تنشأ الأخلاق أو الحاسة الخلقية بسبب وجود الميول والعواطف الفردية بين الناس . وتتطور بتطور الإنسان لتصبح هذه العواطف ذات صيغة عقلية.
وخلاصة القول أن هناك تشابهاً كبيراً بين آراء الفلاسفة الوضعيين في تعريف الأخلاق بأنها نسبية ويجب أن تستند إلى علم الاجتماع باعتبارها علماً وضعياً يقوم على الملاحظة والمعرفة الحسية في بدايته ويتحول من فلسفة وضعية إلى علم وضعي. والأخلاق وليدة الحياة الاجتماعية وتشكل مثلها العليا وسائل ضبط اجتماعي فتفرض قيوداً على الحرية الشخصية مثلها مثل القانون الوضعي.

المحور الرابع: خصائص الأخلاق الإسلامية
تمتاز الأخلاق الإسلامية بمنظومة من الخصائص العظيمة الجميلة التي تعكس روح الإسلام وجماله وجاذبيته ، وإليك بيان جملة من هذه الخصائص .
أولا :
ربانية المصدر .
الإسلام كلُه عقائدُه وعباداتُه ومعاملاتُه وأخلاقُه وسلوكياتُه من عند الله جل وعلا ، وما من أمر من أمور الإسلام إلا وهو يستمد تعاليمه ونظمه ومبادئه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومعنى أن الأخلاق الإسلامية ربانية المصدر أي أنها من الله تعالى هو الذي أمر بها وحث عليها ورغب فيها ، ونهى عما يخالفها وحذر منه إما في القرآن الكريم أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ،وأثنى عليه بالخلق العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم/4] وكانت تزكية النفوس محورا من محاور دعوته عليه الصلاة والسلام {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }[الجمعة/2] .
قال ابن كثير رحمه الله : " وذلك أن العرب كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكا وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع ، وجمع له تعالى وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين ولا يعطيه أحدا من الآخرين فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين " ( ).
فتزكية النفوس تطهيرها وتنمية الخير فيها ، وصيانتها من الانحراف والفساد ، فكل ما
جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق العظيم كان بوحي من الله تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم /3 ، 4].
إن ربانية هذه الأخلاق تعطيها ثقة وقبولاً ، وتجعلها في موضع الرضا والتسليم ، لخلوها من التناقض والاختلاف والغموض .
إن ربانية هذه الأخلاق جعلتها في غاية الوضوح والجمال فهي تدعو إلى نفسها بنفسها ، بخلاف القيم الوضعية التي تحتاج إلى وسائل بهرجة وتزيين لإلباسها ثوب الرواج والقبول الذي قد لا تتصف به على الحقيقة .
لقد رأينا فيما مضى أن مصادر الأخلاق الوضعية يكتنفها النقص والتناقض ، وتختلف باختلاف الزمان والمكان والثقافات مما عكر صفوها ، وجعل تعميمها وشمولها غير متاح ولا ممكن .
إن خاصية ( الربانية ) في الأخلاق الإسلامية كالرأس للجسد والروح للحياة ، لا قيام للأخلاق بدونه ، فكل ما يأتي بعد ذلك من الخصائص تبع لهذه الخاصية سائر تحت لوائها .
إن الله تعالى وصف كتابه بأنه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }[فصلت/42] ووصف رسوله بأنه لا ينطق عن الهوى مما جعل كل أمر من أمور هذا الدين غاية في الكمال ومراعاة مصالح العباد .
وإذا تأملت الأخلاق الإسلامية وجدتها تدور في هذا الفلك الجميل ، فكل خلق يكمل الآخر ويجانسه ويرسخه ، وسيظهر لك أيها القارئ الكريم مصداق هذا في ثنايا هذه المباحث القيمة موضحا بأدلته من الكتاب والسنة .
وبعد هذا يمكننا القول : إن المنهج الرباني الأخلاقي الذي جاء به الإسلام هو الأصلح مطلقا ليكون أساسا للأخلاق ومعيارا تقاس به السلوكيات وتحتكم إليه ، وذلك لما له من الخصائص العظيمة التي يأتي ذكرها ، مع مراعاته للعقل والعادات والأعراف التي لا تخالف الشرع .
ثانيا :
الشمول والعموم .
إن من أهم ما يميز الأخلاق الإسلامية أنها شاملة شأنها في ذلك شأن الدين كله في شموله وعمومه ، ذلك أن الإسلام آخر الأديان ، ورسوله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وخاتمهم ، وجاء القرآن الكريم وحيا من الله جل وعلا مراعيا لهذا الأمر .
بَيَّن القرآنُ الكريم علاقةَ الإنسان بربه وخالقه جل وعلا ، وبَيَّن علاقة الإنسان بنفسه وما يجب عليه من صيانتها وحفظها ، وكذلك علاقة الإنسان بغيره من بني جنسه ، بل وتعدى إلى ذكر ما يجب عليه من الرفق والتعامل برحمة مع المخلوقات التي تعيش حوله ، أو ينتفع بها بوجه ما .
إنك تدرك شمول خلق الإسلام وهو يخاطب بدعوته الجن والإنس ، والعرب والعجم والأبيض والأسود على حد سواء {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات/56] ، ويقول سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات/13].
فإذا كانت دعوته عامة شاملة فكذلك قيمه الأخلاقية ومبادئه توافق هذا الشمول ولا تختزله في بعض جوانبه أو تمارسه على بعض الفئات من أتباعه دون بعض .
تدبر هذه الآية الكريمة لترى خطابه الشامل وهو يدعو إلى الأخلاق ويأمر بها{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } [الإسراء /53] .
" يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاورتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم وأخرج الكلام إلى الفعال ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة فإنه عدو آدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم وعداوته ظاهرة بينة ".( ) إنها دعوة عامة للقول الطيب والعفة في المنطق بجميع أنواعه في كل حال ومع كل أحد .
قال تعالي{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[النحل/90]
وتزخر السنة النبوية بالكثير من الأدلة العامة والخاصة التي تدعو إلى حسن الخلق ، وتحث على التعامل به ، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ( اتق الله حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) .
إن الأمر بالتقوى حيثما كان المرء لهو أعظم دليل على شمول الأخلاق الإسلامية للإنسان في جميع أحواله في السر والعلن والرضا والغضب ، على أي حال كان ، وفي أي زمان .
وفي قوله عليه الصلاة والسلام ( وخالق الناس بخلق حسن ) أي عامل الناس كل الناس دون استثناء بجميع الأخلاق الحسنة التي تحب أن يعاملوك بها .
ولقد أَجَمل الإسلام في ذكر الأخلاق وفصل فيها وبيَّن ليرفع اللبس عن الناس فيما يلزمهم فعله والتحلي به ، وما يلزمهم تركه واجتنابه .
ومن ذلك :
1- أن القرآن الكريم دعا إلى الوفاء بالعهود {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } [الإسراء /34] .
2- وأمر بحفظ الأمانات وأدائها والعدل مع كل أحد {إن الله بأمركم أن توأدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء/ ] .
3- ويأمر بالصدق ويرغب فيه ويصف أهله بأجمل الصفات {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }[التوبة / ]
وعندما يأتي الحديث عن الأخلاق المرذولة القبيحة يسهب ويتوسع في بيانها ويحذر من الاتصاف بها ، وينعت أهلها بما تنفر منه النفوس
إيضاح وبيان
( وشمول الأخلاق في الإسلام نعني به أن دائرة الأخلاق الإسلامية واسعة جدا ، فهي تشمل جميع أعمال الإنسان الخاصة بنفسه أو المتعلقة بغيره ، سواء كان الغير فردا أو جماعة أو دولة ) فلا يخرج شيء عن دائرة الأخلاق ولزوم مراعاة معانيها ، مما لا نجد له نظيرا في أية شريعة سماوية سابقة ، ولا في أي قانون وضعي بشري
ثالثا :
الثبات واللزوم
من خصائص الأخلاق الإسلامية أنها ثابتة في مبادئها وحقائقها وحدودها ، فالصدق خلق حميد دائما لا يمكن ذلك في زمان دون آخر أو لدى جيل دون غيره ، وهذا الثبات يضمن دقة المعايير واستقرار القيم وصحة التربية .
نعم قد يتطور عرض الأخلاق لكنه في الحقيقة تطور شكلي ، ومن الأصول العامة المشتركة بين الرسالات السماوية الدعوة إلى الأخلاق الحميدة ، واجتناب الرذائل
وهذه قمة الدلالة على ثبات الأخلاق كما نلحظ ذلك في كل فطرة سليمة في أي جيل أو عند أصحاب أي مذهب .
ومن صور الثبات في الأخلاق لزومها على كل حال " إن الالتزام بمقتضى الأخلاق مطلوب في الوسائل والغايات فلا يجوز الوصول إلى الغاية الشريفة بالوسيلة الخسيسة ، ولهذا لا مكان في مفاهيم الأخلاق الإسلامية للمبدأ الخبيث ، كقول أصحاب المفاهيم المادية البحتة (الغاية تبرر الوسيلة ) وهو مبدأ لا مكان له في دستور الأخلاق الإسلامية ، ومما يدل على ضرورة مشروعية الوسيلة ومراعاة معاني الأخلاق فيها قوله تعالى {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال/72] فهذه الآية الكريمة توجب على المسلمين نصرة إخوانهم المظلومين قياما بحق الأخوة في الدين ، ولكن إذا كانت نصرتهم تستلزم نقض العهد مع الكفار الظالمين لم تجز النصرة لأن وسلتها الخيانة ونقض العهد ، والإسلام يمقت الخيانة ويكره الخائنين "( )
أثر هذه الخاصية في الأمة
وبقدر ثبات الأخلاق وشيوع أثرها في حياة الناس بقدر ما تزدهر الأمم وتتقدم حتى ولو كانت غير مسلمة ، فثبات المعايير أمر عظيم لا مكان فيه للمجاملات والرشاوى والنزوات الشخصية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ) .
إن الخلق في منابع الإسلام الأولى - من كتاب وسنة – هو الدين كله وهو الدنيا كلها ، فإذا نقصت أمة حظاً من رفعة الله في صلتها بالله ، أو في مكانتها بين الناس ، فبقدر نقصان فضائلها وانهزام خلقها . ( ) (خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ص 43) .

رابعا :
إقناع العقل وإشباع الوجدان .( فطرية )
إن أي أمر يوافق الفطرة يسهل على النفس تقبله والقيام به .
يسعى الإسلام في تربية الفضائل إلى إقناع العقل وإشباع الوجدان والقلب بحب الخُلُق الكريم والالتزام به ، وكره الخلق الذميم واجتنابه ، وهذه صورة من صور العظمة في الأخلاق الإسلامية خاصة حيث لا يكون الأمر والنهي مطلقين أو مجردين عن بيان العلة ، وإن حدث فالالتزام والطاعة واجبة .
تطبيق :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات / 12] .
تأمل هذه الآية لترى طريقة القرآن الكريم في النهي عن الغيبة حيث لم يكتف بالنهي اللفظي بل أردف ذلك بصورة عقلية تمثيلية تبين بشاعة هذا الخلق ، فجمع بين اللفظ والصورة ليتحقق بذلك الإقناع العقلي الذي يدعو الإنسان إلى الترفع عن هذا الخلق .
إن الأوامر اللفظية المجردة قد لا تحقق المرجو منها على الوجه المطلوب لكنها عندما تقترن بالصور العقلية التمثيلية تصبح أسهل ، ويكون الإنسان أقدر على فهمها واستيعابها ، وهذا ما تحققه الأخلاق الإسلامية حينما تخاطب الإنسان خطابا إيمانيا عقليا فتقنع العقل وتشبع الوجدان .
لقد شبه الله الغيبة بأكل لحم إنسان ميت ، وهذا أمر يكرهه الإنسان السوي ويشمئز منه بطبعه ، ومن كره ذلك بطبعه السوي فعليه أن يكرهه بموجب أمر الشرع ، وهنا يجتمع للإنسان موافقة الشرع وحجة العقل .
وانظر كيف يقنع المنطق النبوي الإنسان بعدم الرجوع في هبته ، قال صلى الله عليه وسلم : ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه ) .
" وللعقل في الشرع مكان عظيم حيث إنه أساس كل فضيلة ، وينبوع كل أدب ، أوجب الله التكليف بكماله ، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه ، روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( أصل الرجل عقله ، وحسبه دينه ، ومروءته خلقه ) .
وقال الحسن البصري رحمه الله : ما استودع الله أحدا عقلا إلا استنقذه به يوما ما .
وقال بعض الحكماء : العقل أفضل مرجو ، والجهل أنكى عدو .
وقال آخر : خير المواهب العقل ، وشر المصائب الجهل .
ومع أهمية العقل وكونه أداة الفهم والتدبر والتأمل والاستنباط ، فليس كل الناس لديهم أهلية استخدام العقل والإقناع به ، فهناك من يغلب عليه التأثر بالقلب والضمير
والاستجابة للفطرة والوحي الشريف لمجرد صدور الأمر من الشرع وتأثر القلب به وميله إليه ومن هناك كانت سمة الأخلاق الإسلامية الجمع بين الأمرين لموافقة أحوال جميع المخاطبين.
فمخاطبة القلب وإشباعه يحقق له السكينة والطمأنينة الكافية لاستجابته والتزامه بأوامر الشرع ونواهيه .
قال تعالى { {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد/28] فالطمأنينة سكون القلب إلي الشيء وعدم اضطرابه وقلقه ، وفي الأثر (الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ) أي أن الصدق يطمئن إليه قلب السامع ، ويجد عنده سكونا، والكذب يوجب له اضطرابا وشكاً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( البر ما اطمأن إليه القلب ) أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه .
فالقرآن الكريم لم يكن يلقي القول على علاَّته ، وإنما يأتي بالقضية مبرهنا عليها بالدليل
تلو الدليل ، فيرضي العقل ويطمئن النفس ويقود الضمير إلى الإيمان .
تهدف التربية الوجدانية إلى وقاية الضمير من عثرات الشك والحيرة والضلال والوساوس ، وتحرص على صحة الوجدان من الخلل والمرض القلبي ، ليصبح المرء سيد نفسه ويبدع في ميدان السلوك الأخلاقي ، ويتحرر من براثن العادات المتحجرة والتقاليد الزائفة والأعراف البالية ، ويكون مدركا لفعله نبيلا في هدفه ، فما الذي يدفع الإنسان إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل والمسارعة في المعالي إن لم يكن هناك قناعات نفسية مشبعة وحاجات وجدانية متطلعة ؟
إن الأخلاق الإسلامية تمتاز بمخاطبة العقل وإقناعه لتحمل ذوي العقول والمنطق السوي على التزام مبادئها والتمسك بها ، وهي كذلك تخاطب القلب والوجدان وتشبعهما لتكتمل الصورة الفريدة للأخلاق الإسلامية في جانبيها النظري العلمي والعملي التطبيقي.
اعتدال وشمول وتوسط فلا تركيز على العقل مع إهمال الوجدان ، ولا العكس ، وإنما مخاطبة شاملة في أعز ما يملك الإنسان ويتصف به العقل والقلب والفكر والوجدان .

خامساً :
المسئولية والإلزام :
قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }[الملك/2] ، وقال سبحانه {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }[النمل/40].
يتميز الإنسان بحرية الإرادة وحرية الاختيار وعلى أساسهما يكون التكليف والمسئولية . فالله سبحانه خلق الإنسان لعبادته وجعله مهيئاً وصالحاً لفعل الخير والشر على السواء , ووعده على الخير وتوعده على الشر , ولا يجبر الإنسان على فعل شي , وإلا بطل الحساب والتكليف وانتفت المسؤولية وقد ابتلى الله الإنسان وامتحنه في هذه الحياة بالخير والشر وإحسان العمل أو الإساءة والتقصير فيه , ومن ثم فالإنسان مسئول عن عمله وأسبابه ونتائجه , مسئول في الدنيا ومسئول في الآخرة ، قال تعالى{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات/24] ، وقال سبحانه{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }[الإسراء/36].
ما هي المسئولية ؟
والمسئولية تعني : تحمل الشخص نتيجة التزامه وقراراته واختياراته العملية من الناحية الايجابية والسلبية , أمام الله في الدرجة الأول , وأمام ضميره في الدرجة الثانية , وأمام المجتمع في الدرجة الثالثة .
والشخص الذي يتحمل مسئولية يجب أن يكون أهلاً لها وذلك بأن يكون أنسانا عاقلاً، واعيا لطبيعة ذاته ولسلوكه وأهدافه ونتائج تصرفاته , حر الإرادة فيما يختاره , قادراً على تنفيذ تصميماته واختياراته.
بهذه الشروط مجتمعه تتحد المسئولية قال تعالى{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر/92، 93] ، وقال – صلى الله عليه وسلم – ( رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يبرأ , وعن النائم حتى يستيقظ , وعن الصبي حتى يحتلم ).
ولا مسئوليه على مضطر أو مكره أو مجبور قال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة/173] وقال سبحانه{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل/106].
والمسئولية لا تعني تحمل الإنسان فوق طاقته والمشقة عليه , ولا ينبغي النظر إليها على أنها حمل ثقيل فالله رحيم بعباده {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة/286] ،{مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [الحج/6] { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة /185].
وقد تحمل الإنسان أمانة التكاليف الشرعية والقيام بالعبودية لله تعالى وعلى قدر التزامه وقيامه بهذه الأمانة يكون أجره وثوابه , لا يظلم مثقال ذرة , وما يأتي من خير يضاعفه الله, وما يأتي من شر فهو في مشيئة الله – ما دام مسلماً – إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
والمسئولية رغم كونها تكليف بما في الوسع والطاقة , فهي أيضاً تشريف للإنسان وتفضيل له على غيره مما خلق الله , لماذا ؟
لأن المسئولية عند الإنسان تعني الجدارة والأهلية للقيام بها , وتكريم الله له بهذه المسئولية ومن ثم وجب عليه المجاهدة والمثابرة والمصابرة والقيام بهذه المسئولية وأعبائها .
ثم إن تحمل المسئولية أمر ضروري للحياة الفردية الاجتماعية الإنسانية , وقد راعى الإسلام عند تحديده أن لا تكون فوق طاقة الإنسان , لكي لا يشقى بحملها.
الشعور بالمسئولية :
يجب على المسلم أن يوقن انه مسئول عن عمله في الدنيا والآخرة , فيدفعه ذلك إلى مزيد من محاسبة نفسه ومساءلتها وحملها على الإحسان والإتقان في عملها.
وإذا استشعر الوالد هذه المسئولية دفعه أن يربي أبناءه ومن تحت ولايته على استشعار المسئولية فتتقلص الأخطاء ، وتزيد الفرص الأفضل لحياة أفضل ، لأن بناء الخلق وترسيخه ورعايته جزء من مهام الآباء وهم أول من يجني ثماره الطيبة بِراً وتقديرا ،وكيف يكون الحال إذا تعود النشء على الخلق الحسن واستشعار المسئولية ؟ وما الفوائد العظيمة التي يجنيها الفرد والأسرة والمجتمع كله من هذا الأمر .
ومما سبق يمكن تقسيم المسئولية إلى قسمين
الأول : المسئولية الشخصية , والثاني : المسئولية الجماعية .
أ/ المسئولية الشخصية :
وتعني تحمل الفرد نتيجة أعماله الشخصية الاختيارية , ومسئوليته عنها أمام الله ثم أما نفسه ، ثم أما المجتمع , في الدنيا والآخرة .
ورغم ذلك فالمسئولية الشخصية لا تخلو من مسئولية عامة أو اجتماعية فإذا كان المسلم مسئولاً عن عقيدته وعباداته ومعاملاته وسلوكه الشخصي , فإنه أيضاً مسئول عن :
- والديه وبرهما أو عقوقهما .
- عن أبنائه وتربيتهم أو إهمالهم.
- عن مجتمعه وأمنه ونظامه ونهضته و غير ذلك .
كل ذلك يعني الترابط والتكامل بين شقي المسئولية .
لكن هناك ما هو مسئول عنه بمفرده , وما هو مسئول عنه مع غيره محاسب على نيته وقصده وإن لم يظهر في صورة عمل وسلوك حيث إن الله بكل شي عليم , يعلم الظاهر والباطن , كما أنه محاسب عما تكلم به أو عمله وظهر منه.
وقال تعالى { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم/38،39] ، أي كل نفس ظلمة نفسها بكفر أو شي من الذنوب , فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد , ولا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه .
فأعظم ما يسأل عنه المرء إنما هو نفسه , وأعظم ما يطلب له النجاة والفوز إنما هو نفسه , ومن حمل نفسه على المعالي وطلب الفردوس الأعلى , فإنما يقدم الثمن وهو النية والجهد والمجاهدة وحمل نفسه على الخيرات والمداومة على الطاعات.
قال صلى الله عليه وسلم- ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه , وعن شبابه فيما أبلاه , وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه , وعن علمه ماذا عمل فيه ) .
وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله سائل كل راع عما استرعاه ) .
فهذه المسئولية الشخصية باستشعارها تحمل الإنسان على الإتقان وطلب النجاة من عذ1ب الله والفرار منه سبحانه إليه تعالى .
والمسئولية تدفع إلى اغتنام العمر والشباب والمال والعلم وسائر ما منحه الله في طاعة الله , ولذلك من أيقن أنه ميت وانه محاسب ومسئول اجتنب المعاصي واكتسب المعالي .
وقد ضرب لنا سلفنا الصالح أروع الأمثلة في الإحساس بالمسئولية حتى ماتوا وما ماتوا ناهيك عما بذله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سبيل تبلغ الدعوة ونصح الأمة ونفع الإنسانية , وقد تربى على يديه خير جيل عرفته الدنيا واستشعروا المسئولية الشخصية الجماعية حتى قال عمر – رضي الله عنه – ( لو عثرت دابة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لما لم تمهد لها الطريق يا عمر ؟ ) وهو الذي قال : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا ....)
ومن استشعارهم المسئولية حمل أمانة الدعوة ونشرها في آفاق الدنيا المعمورة فضحوا بالراحة والوطن والأهل , ليعيش من بعدهم ومن معهم في غير بلدانهم في النور الذي عاشوا فيه وينعموا بفضل الله ودينه وها نحن ومن بعدنا يجري أجر إسلامنا إليهم .
فحرى بكل مسلم أن يستشعر مسئوليته , ويقوم بواجبه , ويؤدي رسالته , بدافع من إيمانه بالله ورسوله , ووازع من رقابته الذاتية أي رقابه أخرى ليسعد ويسعد غيره , ويأمن ويؤمن لغيره سبل الخير والصلاح وما التزم الأخلاق الحميدة إلا أثر عظيم من أثار استشعار تلك المسئولية.
ب / المسئولية الجماعية :
كما أن على الفرد مسئولية خاصة تجاه نفسه ومجتمعه ، فكذلك الجماعة عليها مسئولية منوطة بها لا بد من أدائها .
والمسئولية الجماعية تعني سيادة روح الجماعة في تحمل التزاماتها , ومسئولية كل مسلم تجاه غيره من أهله وجيرانه وأمته كل على حسب ولايته.
وجاءت نصوص قرآنية ونبوية متعددة تؤكد وجوب قيام الجماعة متضامنة بمسئوليتها مثل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم/6] .
وحتى الجماعة المجتمع من تسلل الفساد إليه تُلزم أن تقف في وجه الشر والانحراف ، وتُحذر من عاقبة التقاعس والتهاون عن منابع الفساد.
إن على الجماعة أن تقوم بما يجب عليها حتى لا يطالها العذاب العاجل والآجل{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }[الأنفال/25].
يقول الحافظ أبن كثير عند تفسيرها ما ملخصه :
" يحذر الله – تعالى – عباده المؤمنين فتنة أي اختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره , لا يخص بها أهل المعاصي ومن باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع .
وعن أبن عباس – رضي الله عنها – قال في تفسير هذه الآية أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب . والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم , وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح والأحاديث في ذلك كثيرة منها :
ما رواه الإمام عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : 0( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجب لكم "( )
ومن السنة ما روي عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها , كمثل قوم أستهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها , فكان الذين في أسفلهم أذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم تؤذ من فوقنا , فان تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جمعياً وأن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
وروى الشيخان عن أم المؤمنين زينب بن جحش – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل علينا منزعجاً يقول : ( لا إله إلا الله , ويل للعرب من شر قد أقترب , فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه , وحلق بين أصبعيه الإبهام والتي تليها , فقلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟
قال : نعم إذا كثر الخبث (( الفسوق والمنكر )).
وإن من وظيفة الأمة الإسلامية الاجتماعية والعقدية حراسة الرأي العام الذي يتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , على مجموع الأمة على اختلاف أصنافها وأنواعها , دون أن يكون بينها تفريق أو تميز , فرض الله ذلك على الحكام والعلماء وعلى الخاصة والعامة وعلى الرجال والنساء , والصغار والكبار , ولم يعف منها أي إنسان , كل حسب طاقته وحاله وإيمانه.
والأصل في هذا قوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران/110].
وقوله سبحانه :{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[التوبة/71].
فهذه النصوص الشريفة وغيرها كثير تؤكد المسئولية الجماعية ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأن ذلكـ من أهم خصائص وأسس قيام المجتمع المسلم , فيكون كل فرد – بعد الله – رقيباً على إخوانه ومن يحيي معه في المجتمع الصغير والكبير المحلي والعالمي , وهذه الرقابة رقابة توجيه وتواصي وتواصل وتعاون , وفي بعض الأحوال زجر وردع وهجر ومقاطعه ومحاسبه وتأنيب كل ذلك من أجل شيوع الصلاح والخير بالمجتمع , وإضعاف وإماتة الشر والفحش بالمجتمع , حتى لا يطغى الفساد ولا يجد من ينكره ويبتره فيعم الجميع عقاب الله تعالى .
ولا تعارض بين المسئولية الشخصية والمسئولية الجماعية حيث إن الإنسان – والمسلم على وجه الخصوص- اجتماعي بطبيعته مدني بفطرته لا يمكن أن يعيش وحده بل يحتاج إلى بني جنسه يحبهم ويكره منهم , ويعطي ويأخذ , والناس مختلفون في طباعهم وتفكيرهم وسلوكهم ، فيوجد من يخرج على نظام الجماعة وقوانينها , فيجب على الجماعة التي تريد السلامة والصلاح والتقدم أن تأخذ على يد العابثين والمخالفين لهذه الأنظمة , فالصالح لا يتم صلاحه إلا بدعوة الآخرين إلى الصلاح والكف عن الفساد،وحيث إن الفساد إذا عم منعه من صلاحه وعكر عليه صفو حياته , ولا يصح أن يكون أثر صلاحه موقوفاً عليه , وإلا لما تحرك الإسلام من مكة أو على الأكثر الجزيرة العربية , ولكن لما أيقن المسلمون الأيمان واستشعروا المسئولية تجاه إخوانهم في الإنسانية ورغبوا في أن ينعم الله عليهم
بالهداية في الدين العظيم مثلما أنعم عليهم حملوا المسئولية وأدوا الأمانة وبلغوا نور الرسالة إلى آفاق الدنيا الواسعة.
ويتبقى على كل مسلم أن يقوم بمسئوليته بالتواصي بالحق والصبر والمرحمة , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين كل مجتمع يعيش فيه وعلى كل قوم له عليهم ولاية بدءاً من زوجه وأولاده وأهله وعشيرته وجيرانه وأقاربه وبلده في حضره وسفره , حسب الحال والمقام ويحسن النية ويرفق في القول.
( لكن ينبغي أن نفرق هنا بين مسئولية الفرد عن عمل غيره ومسئولية صاحب العمل نفسه فصاحب العمل مسئول عن إضلال غيره بآرائه وتوجيهاته أو سلوكه الفاسد , والأخر مسئول عن إتباعه لآراء غيره وتقليد الفاسد , ثم لعدم مقاومته لهذه الظروف من هذ1 الفساد الصادرة من غيره . إذن فالمسئولية مزدوجة من حيث أنه أحدث عملاً فاسداً ثم أصبح الفاسد سببا بعمله الفاسد لعمل الآخرين مثل عمله ولهذ1 قال تعالى{ {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ }[النحل/25].
كما ينبغي أن نفرق بين مسئولية المسلم عن كفر الكافر وبين مسئوليته عن فساد المسلم وفعله المنكر أمامه . فالمسئولية إزاء الكافر قاصرة على الدعوة إلى الإيمان .
أما مسئوليته إزاء فساد المسلم والمجتمع الإسلامي فالأمر يختلف هنا ذلك أن المسئولية لا تقتصر على مجرد الدعوة والإرشاد , بل تشمل أيضاً مقاومة الفساد وتغير المنكر وإرجاع المنحرف عن انحرافه بكل سبيل.
فيجب أن يستخدم في سبيل ذلك كل ما يمكنه أن يستخدمه من قوة اليد أو اللسان وبمقاطعته وعدم التعامل معه مطلقاً , وهذ1 هو الإنكار بالقلب ).
فالمسئولية الجماعية شاملة لكل فئات المجتمع ولكن أيضاً محدودة لكل فئة بصفة خاصة فإذا كانت مرات التغيير للمنكر ثلاثة هي اليد أو اللسان أو القلب , فهي تصلح أحياناً لواحد فقط يتدرج فيها كأصحاب الولاية الشرعية من والد وحاكم ونائب عنهما ففي هذه الحالة يربي الوالد ولده بإنكاره عليه الشر بالقلب والهجر وعدم الرضى إذا أجدى فيها وإلا انتقل إلى اللسان نصحاً وتوجيهاً وتعليماً أو زجراً أو توبيخاً , وإلا تنتقل لليد وتكون اليد زاجرة رادعة لا قاصمة أو كاسرة وهكذ1 كل من له ولاية عامة , وأحياناً يتعين طريق واحد للتغيير على فئة بعينها لا يجوز لهم أن يتجاوزوها لما قد يترتب عليها من منكر أعظم , فمن آداب وفقه الاحتساب ألا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أشد منه .
يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( كلكم راع ومسئول عن رعيته , والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئوله عن رعيتها , والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ).
وأن مما ينبغي على الوالدين والمربين غرس معاني تحمل المسئولية لدى أبنائهم وتلامذتهم ففيها معاني عظيمه في نشأة الأبناء الذين هم أباء ورجال ونساء المستقبل وفي تقوية دواعي الرجولة والقوة والتحمل لديهم , فيتعلموا كيف يتصرفون في المواقف المختلفة , ويخرجون مما يعرض لهم من مشكلات وأزمات وتكون التربية بالمسئولية الكاملة الشاملة أمام الله سبحانه أولاً , ثم أمام ضميره ووجدانه , ثم أمام المجتمع , وأن غرس هذه المعاني في الصغر كما هو معلوم يرسخ ويتعمق أثره في نفس الناشئة . لا سيما مراقبة الله وخشيته في السر والعلانية واطلاعه على كافة شؤون المرء , وصدق الله إذ يقول حكاية عن لقمان مع ابنه {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }[لقمان /16].

سادساً :
التكامل في معاملة الظاهر والباطن .
تمتاز الأخلاق الإسلامية – شأن الإسلام كله – بالنظرة التكاملية بحكمها على الأشياء وإشباعها لغرائز الإنسان , فنرى أن الله يؤكد مطالبته وأوامره للإنسان بإصلاح نفسه ظاهراً وباطناً بكمال علم الله وشموله , ووقوع المحاسبة على الأعمال الظاهرة والسلوك الواضح , كما تقع أيضاً على النوايا والبواعث.
( فالقانون الأخلاقي الإسلامي لا يكتفي فقط بالحكم على أعمال الإنسان الظاهرة بالخير أو بالشر , بالفضيلة أو الرذيلة , ولكن يمتد إلى الحكم على النوايا والبواعث والمقاصد .
ولم تستطع أي نظرية أخلاقية أخرى أنت تفعل ذلك , فليوقن المسلم أنه يتعامل مع الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فعلم الظاهر والباطن يتساويان عند الله – تعالى – ومن دلالة ذلك مثوبته سبحانه لمن صلحت نيته , وصفة سريرته , وحسن قصده , حتى وإن قصر به جهده ، قال تعالى {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}[التوبة/92].
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : (إن بالمدينة أقواماً , ما قطعتم وادياَ ولا سرتم مسيراً إلا وهم معكم قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال نعم حبسهم العذر ).
فهؤلاء صادقوا النية طيبوا النفس والقصد , حزنوا كثيراً لمَّا لم يجدوا عند الرسول – صلى الله عليه وسلم – حملهم وعدة جهادهم في سبيل الله , حتى فاضت أعينهم من الدمع , والله إنما يبتلي بالأعمال ليظهر العامل من الخامل فلما تم جهدهم , وقصرت بهم الإمكانيات الخاصة والعامة أعظم الله لهم الأجر وأشركهم في ثواب الغزو ، فالهم والعزم على فعل الشيء الطيب يؤجر عليه صاحبه – ومن رحمة الله – أن الهم والعزم على الفعل القبيح لا يؤاخذ به صاحبه .
ومن تكامل الأخلاق الإسلامية أنها تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة بحسب تكوينه من جسد وروح , ولكل منهما متطلبات , فأخلاق الإسلام لا تجعل الجسد يطغى على الروح , ولا الروح تطغى على الجسد قال تعالى { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }[التوبة / 92] 0
يقول الحافظ أبن كثير في معناها : ( أي أستعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات, التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والأخره { وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : مما أباح الله فيها من المأكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح , فإن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً , ولزوجك عليك حقاً , فآتي كل ذي حق حقه وأحسن كما أحسن الله عليك ) أي : أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك { وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي : لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض , وتسيء به إلى خلق الله , { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } .
والأخلاق الإسلامية عملت على تلبية مطالب الجسد وتنميته بطيب المأكل والمشرب والمسكن والمنكح والملبس , وألزمت بأخلاق وسلوكيات يقوم بها ذلك الجسد السوي القوي , وبنفس الدرجة سعت الأخلاق الإسلامية إلى إشباع أشواق الروح وتعبيد طريقها في العروج إلى الله , بالتوحيد الخالص والذكر الدائم والفكر المستقيم والسلوك الطاهر مع الله ثم مع النفس ثم مع الآخرين . حدث ذلك في تواؤم وانسجام واعتدال .
وبضدها تتميز الأشياء حيث قرآنا ورأينا دولاً وأمماً غلبت جانباً على آخر فما استقامت مسيرتها , ولا طالت مدتها , بل سريعاً ما زالت وانهارت ليستوي في ذلك الفكر الوضعي والشرائع السماوية المحرفة حيث تطرقت اليهودية المحرفة إلى المادية , وانحرفت المسيحية المحرفة إلى الإغراق في الروحانية السلبية.

سابعاً :
الصلاحية العامة لكل زمان ومكان
الأخلاق الإسلامية صالحة لتطبيق الالتزام بها في كل زمان ومكان وعلى أي حال كان الإنسان ويرجع ذلك إلى :
سهولة التكليف الخلقي وكونه نتيجة طبيعية للعقيدة الصحية والشريعة السليمة , وإذا صحت المقدمات صحت النتائج , قال تعالى { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة/ 185] 0
كما ترجع تلك الصلاحية العامة إلى كمال الشريعة الإسلامية , وضمان الله حفظ مصدرها الأعظم وهي الوحي الإلهي الشريف قال سبحانه{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر/3]. وقال { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المائدة/3] .
( أما شريعة الإسلام التي جاء بها محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنها جاءت وافية بمطالب الحياة الإنسانية تسد عوزها , وتحقق أهداف العمران في شتى جوانب حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية , فالإسلام عقيدة وعبادة , وخلق وتشريع , وحكم وقضاء , ومسجد وسوق , وهو علم وعمل , ومصحف وسيف , وهذا هو ما نعنيه عندما نقول :
وقد اكتسب نصوص الشريعة الإسلامية من المرونة والعموم ما جعل قواعدها صالحة للناس كافة في كل عصر من العصور , تساير عوامل النمو والارتقاء , وتقود الحضارة الإنسانية إلى معالم الحق وسبيل الرشاد , ولهذا أكمل الله بها الدين وأتمم بها النعمة .
والشريعة الإسلامية شريعة أخلاقية , وليست الأخلاق في الإسلام أباً يجمل صاحبه , ولكنها التزامات من واجبات الدين , والأخلاق في الإسلام غاية تربوية للعبادات , والتزام أدبي في المعاملات , يجعل حياة الناس قائمة على المعروف والحسنى , وقد حث الإسلام على أمهات الفضائل الإنسانية , ودعا إلى المثل العليا , وأثنى على مكارم الأخلاق والدعوة إلى تهذيب النفس عاملاً مشتركاً بين سائر الرسالات السماوية.
ثامناً :
ترسيخ الرقابة الذاتية وربطها بمعاني الإيمان والتقوى .
إن معنى الرقابة الذاتية هو : أن يأخذ المسلم نفسه بمراقبة الله تعالى , ويلزمها إياها في كل لحظة من لحظات الحياة , حتى يتم له اليقين بأن الله مطلع عليه , عالم بأسرار نفسه , رقيب على أعمالها , وعلى كل نفس بما كسبت , وبذلك تصبح مستغرقة بملاحظة جلال الله وكماله , شاعرة بالأنس في ذكره , واجدة الراحة في طاعته , راغبة في جواره , مقبلة عليه , معرضة عما سواه .
وهذا معنى إسلام الوجه لله في قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }[النساء/125] . وهو عين ما دعا إليه الله تعالى في قوله { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ }[البقرة/235] . وقوله – صلى الله عليه وسلم – (( اعبد الله كأنك تراه , فإن لم تكن تراه فهو يراك )) .
وهو ما درج عليه السابقون الأولون من سلف هذه الأمة الصالح , إذ أخذوا أنفسهم به حتى تم لهم اليقين , وبلغوا درجة المقربين , وهاهي آثارهم تشهد عليهم .
والمراقبة ثمرة علم العبد بأن الله – سبحانه – رقيب عليه , ناظر إليه , سامع لقوله , وهو مطلع على عمله كل وقت وكل طرفة عين .
وقال ذو النون : علامة المراقبة إيثار ما أنزله الله , وتعظيم ما عظم الله , وتصغير ما صغر الله .
وقال إبراهيم الخَوَّاص : المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل , والمراقبة : هي التعبد لله بأسمائه ( الرقيب , الحفيظ , العليم , السميع , والبصير ) فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها : حصلت له المراقبة .
فالمسلم حينما يتعمق الإيمان بالله في قلبه , ويستقر في نفسه , يظهر أثره في سلوكه ومراقبته لله تعالى , ويخلص النية والقصد في عمله ومنه ابتغاء مرضاة الله وحده , ويفعل الخير والخلق الكريم لوجه الله , ويجتنب الشر والخلق الفاسد أيضاً لوجه الله – تعالى .
وبهذه التوجيهات السديدة والتربية الإيمانية الحقة ينبغي أن يأخذ المسلم نفسه ويربى الآباء أولادهم على ذلك , ويعلم المربون تلاميذهم عليه , فيعم الخير ويضمحل الشر ويسعد الخاصة والعامة , وتكفي الحكومات والمحكومين شر الأشقياء .
( والشريعة الإسلامية تربي الضمير الإنساني ليكون رقيباُ على المسلم في السر والعلن , ويخشى العقاب الأخروي أكثر من خشيته للعقاب الدنيوي . وبذلك يقيم الإسلام من داخل النفس البشرية رقابة على تعاليمه , بحيث يرعاها المسلم في جوف الليل , كما يرعاها في وضح النهار ).
وبهذا تمتاز الأخلاق الإسلامية عن النظم والنظريات الأخلاقية الوضعية التي لا تقيم أخلاقها إلا على المنفعة , وقوة الضغط الاجتماعي و مراعاة الظاهر فحسب .

وأخيراً :
الجزاء ثواباً وعقاباً في الدنيا والآخرة .
الجزاء هو : ما يجب أن يناله الإنسان بحكم عمله الحر الناتج عن إرادة واختيار إن خيراً فخير , وإن شراً فشر , وسواء أكان ذلك الجزاء مادياً أو معنوياً مباشراً أو غير مباشراً , عاجلاً أو آجلاً , في هذه الحياة الدنيا أو الآخرة .
وتأتي أهمية الجزاء من وجوه :
الوجه الأول : أن العدالة تقتضي الجزاء , لأنه يفرق بين الذي يبني بعمله والذي يهدم به, أو بين المصلح والمفسد والطيب والخبيث , قال تعالى { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } [المائدة/100] ،{ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }[آل عمران /179]، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار/14،13] .
الوجه الثاني : أن الجزاء عامل مشوق ودافع إلى التمسك بالقيم الأخلاقية , لأن الإنسان يجب أن يرى ثمرة عمله , وكفاحه , سواء كانت هذه الثمرة مادية أو معنوية . وكلما كان الجزاء دافعاً إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية , ورادعاً عن الانحراف عنها كان له قيمة أكبر .
الوجه الثالث : أن التمسك بالقيم الأخلاقية عمل مقدس , لأنه يمثل أوامر الله , وأن من يقدس الله ويحترم أوامره يلتزم بهذه القيم , والتزامه بها في ضوء هذه المشاعر يضفي على حياته قوة معنوية , وبهجة روحية , بطبيعة الاعتقاد وبطبيعة الشعور .
ولأهمية الجزاء نجد الإسلام نوع وعدد الجزاءات التي تحيط بالعمل الأخلاقي من كل جهة , وذلك على النحو التالي :
1- الجزاء الإلهي :
هو مجازاة الله للعبد على سلوكه وعمله , وينقسم إلى عدة أقسام بعدة اعتبارات أهما : الثواب في حالة الاستقامة , والعقاب في حالة الانحراف قال تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[النحل/97] .
وفي حق المنحرفين الأشرار يقول سبحانه {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً}[الكهف/29] .
2ـ الجزاء الوجداني :
وهو تلك الحركة الشعورية التي تحس بها في أعماق قلوبنا بالفرح أو التأنيب مباشرة بعد كل فعل نعتقد أنه فعل حسن أو قبيح .
والجزاء الوجداني أكثر تأثيراً من الجزاء المادي , لأنه يقيني الشعور , مستمر الأثر قال – صلى الله عليه وسلم – ( من ساء خلقه عذب نفسه , ومن كثر همه سقم بدنه ) وفي حق الأخيار يقول – صلى الله عليه وسلم – ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً , والإسلام دينا , وبمحمد نبيا ) .
3ـ الجزاء الاجتماعي :
وهو الذي يشعر به المستقيم أو المنحرف من تقدير المجتمع واحترامه له , أو من تأنيبه وهجره والنفور منه . وهو أنواع منه الجزاء المباشر , والجزاء الأدبي : فالجزاء غير المباشر ما يجده الإنسان من حب وتفاؤل ونزعة خيرة يظهر أثرها في المجتمع , أو حسد وحقد ونفاق وكذب , يبدو أثره في الحياة حتى تصبح جحيماً لا يطاق وتضيق نفس الأخيار بها , وأما الجزاء المباشر ففيما قرره الإسلام من عقوبات على مفاسد السلوك كرجم الزاني أو جلده , وقطع يد السارق , وجلد السكران وقتل القاتل ونحوها وأما الجزاء الأدبي فكاحترام الخيرين , وعدم الاعتداد بالفاسقين وحث الإسلام على مجالسة الصالحين , وهجران العاصين .

المحور الخامس: حماية الأخلاق
وبعد كل هذا فإن الإسلام الذي حرص على تأسيس الأخلاق وبنائها أخذ على عاتقه أن يقوم بحمايتها.
سعى الإسلام إلى حماية الأخلاق وحراسة الفضائل ، ووأد الرذائل ، وذلك بتشريعاته السامية ودعوته إلى التربية الشاملة ، وعلى أساس ذلك حمَّل الإنسان مسئولية نفسه ونتيجة سلوكه وتصرفاته ، ومن أبرز هذه التشريعات : العقوبات الشرعية والتعزيرات التأديبية ، ولكن مع ذلك وقبله حمل الإنسان المسئولية ونما فيه روح الفضيلة والخير ، ودعمَّ فيه الإيمان ، وأحيا فيه الضمير ، وأيقظ فيه مراقبة الله تعالى ، كما حمَّل المجتمع والبيئة والمحيط الاجتماعي مسئولية عظيمة في هذا الجانب ، فلا وجود للسلبية والأنانية في المجتمع الإسلامي .
ومن هنا يتبين حماية الإسلام للأخلاق من خلال ثلاث وسائل وهي :
1- التربية الإيمانية .
2- التربية الاجتماعية .
3- العقوبات الشرعية ، وتحتها أمران :
- الحدود .
- التعزيرات .
وبيان ذلك :
أولاً : التربية الإيمانية :
الإسلام دين إسلامي إنساني رباني واقعي ، جاء لإخراج الناس من ظلمة المادة إلى إشراقة الروح وبحبوة الضمير ، وقد بدأ  في تربية الإيمان وتنقية النفوس منذ بزغ فجر الرسالة ، وركز القرآن الكريم في أول دعوة على بناء الإنسان بناءً أصيلاً متكاملاً بادئاً بالعقيدة الصحيحة وغرسها في النفس ، مع أخذه في الاعتبار طبيعة الإنسان المخاطب بالدعوة .
ومن أهم الجوانب هذه الطبيعة ميلها إلى الخير ، وأنسها بالحق ، وطمأنينتها إلى الفضيلة ، وبالتالي نفورها من الشر والباطل والرذيلة .
" إن الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل ، والحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية ) .
والإسلام يقدر هذه الحقيقة ويحترمها ، وهو يبني صرح الأخلاق ، ولماذا يلجأ إلى القسر في تعريف الإنسان معنى الخير ، أو توجيه سلوكه إليه ، وهو يحسن الظن بالفطرة الإنسانية ، ويرى أن إزاحة العوائق من أمامها كافية لإيجاد جيل فاضل .
إن فطرة الإنسان خَيِّرة ، وليس معنى هذا أنه ملاك لا يحسن إلا الخير ، بل معنى هذا أن الخير يتواءم مع طبيعته الأصلية ، وأنه يُؤْثِر اعتناقه والعمل بت ، كما يؤثر الطير التحليق إذا تخلص من قيوده وأثقاله.
والإسلام لا يصدر حكما بعزل إنسان عن المجتمع إلا يوم يكون بقاؤه فيه مثار شر على الآخرين ، كالمريض مرضا معدياً يصان مَنْ حوله عن مخالطته حتى لا تصيبهم عدواه .
في حدود هذه الدائرة يحارب الإسلام الجرائم الخُلُقية فهو يفترض ابتداءً أن الإنسان يحب أن يعيش عيشة شريفة ، ويحيا على ثمرات كفاحه وجهده الخاص ، فإن عجز عن كفاية نفسه وجب على المجتمع والدولة كفايته ، فإذا مد يده بعد ذلك وعبث بالفضائل وهتك الحرمات مُحِصت حالتُه قبل إيقاع العقوبة ، فإذا تبين أنه خان الفطرة ، وأنه أصبح مصدر عدوان على المجتمع وقابل الإحسان بالإساءة أقيم عليه الحد ، فالحد الذي شرعه الإسلام هو وقاية للجماعة العادلة من ضراوة عضو فيها"
إن الدعوة الإسلامية حركة بناء لمجتمع يحقق الخلافة عن الله في هذه الأرض بواسطة جهود الإنسان المؤمن ، والمنهج الذي قدمته الدعوة الإسلامية في عهدها المكي للعمل مع الجماعة ، وهو المنهج الرائد الأصيل الذي تدين له جميع الدراسات الاجتماعية المعاصرة ، إنه المنهج الذي احترم عقل الإنسان وكرامة الجماعة ، وقدم خطواته مع الصدق والحق بعيدا عن الخداع والتضليل ، فهو المنهج الذي قدمته الدعوة نظرياً وطبقته عملياً وواقعياً ، فأنتج إنتاجاً دائما خالداً ، كان من أبرز قواعد هذا المنهج تربية القيادة التي تعمل مع صاحب الدعوة  .
إن التربية الإيمانية تعني تنمية وتفعيل أثر الإيمان بالله بأركانه الستة في نفس وسلوك المسلم ,
إن التوحيد المأمور به توحيد اعتقادي علمي ، وتوحيد عملي سلوكي ، أي توحيد في المعرفة والإثبات والاعتقاد ، وتوحيد في الطلب والقصد والإرادة .
ويتحقق التوحيد بإخلاص العبودية لله وحده ، وكذلك بالكفر بكل الطواغيت ، والبراءة ممن عبدها أو والاها من دون الله ، واتقاء الشرك بكل أنواعه ومراتبه ، وسد المنافذ إليه .
تأثير الإيمان
وللإيمان تأثير عظيم في نفوس أهله ، إذ يصوغهم صياغة جديدة ، ويربيهم تربية فذة فريدة ، ويأخذ بأيديهم إلى الحياة والنور والسرور من الموات والجهالة والظلام قال تعالى {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[الأنعام/122] .
إن الإيمان يحيي العقل والقلب ، ويوقظ الشعور والحس ، ويصحح الخلق والسلوك ، فالإيمان حياة ونور ، وسعادة ورضا ، وشجاعة وقوة ، وطاقة إلهية ، بها يسعد الفرد وتطيب نفسه ، وتنهض الأمة ويلتئم شملها .
وقد اهتم الإسلام بتكوين الفرد وتربيته كما اهتم ببناء الأمة ونهضتها على ركيزتي الإيمان والتقوى ، والاعتصام والأخوة الإسلامية ، واهتم كثيرا بتزكية النفس ، بل واعتبرها من أهم وظائف الرسول 
ما تأثير الإيمان على النفس والسلوك ؟
وللإيمان تأثير فعال في تغيير العادات القبيحة إلى سلوك حسن ، وكبح جماح الشهوات ، والاعتدال في إشباع الغرائز والدوافع النفسية ، كما أن الإيمان يجعل صاحبه يستعلي على أنانيته المفرطة من أجل نفع عام يصيب الجماعة ، كما يجعل للحياة هدفا ومثلا أعلى وغاية كبرى ، ويسعى المؤمن من أجل تحقيقها ويموت في سبيلها ، إنها مرضاة الله والفوز بنعيمه ، ولذة الطاعة في الدنيا والرضوان ورؤية وجه الله الكريم في الآخرة .
الإيمان وحياة الضمير
تلك القوة الكاشفة الهادية ، الآمرة الناهية ، المحذرة المحرضة ، الحاكمة المنفذة ، سماها علماء الأخلاق بالضمير أو الوجدان ، وسماها الإسلام القلب ، قال رسول الله  لمن جاءه يسأله عن البر والإثم ( البر ما سكنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ، ولم يطمئن إليه القلب ، وإن أفتاك المفتون )
إنه قوة تسبق العمل وتقارنه وتلحقه ، فتسبقه بالإشارة إلى عمل الواجب والتحذير من المعصية ، وتصاحبه بالتشجيع على إتمام العمل الصالح والكف عن العمل السيئ ، وتلحقه بالارتياح والسرور عن الطاعة ، والإحساس بالألم والوخز عند العصيان ، وهذا القلب أو الضمير هو عماد الأخلاق ، فالمجتمع أي مجتمع لا يرقى وينتظم ويسعد بسن القوانين وإصدار القرارات ويقظة رجال السلطة ، وإنما يرقى المجتمع ويسعد بوجود الحية وتوافر الضمائر اليقظة ، ومن الحكم المشهور " العدل ليس في نص القانون ، وإنما هو في ضمير القاضي " .
وعقيدة المؤمن أولاً وعقيدته في الحساب والجزاء ثانيا تجعل ضميره في حياة دائما وفي صحو أبداً .
إنه يعتقد أن الله معه حيث كان ، ولا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه سر ولا علانية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[المجادلة/7].
ولذلك يعتقد المسلم أنه محاسب يوم القيامة على عمله مجزي به إن خيرا أن شرا ، وأن الملائكة الحفظة الكاتبين يسجلون عليه كل ما عمل ، ويوم القيامة يأتيه كتاب أعماله منشورا يقرأه ويحاسب نفسه {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}[الإسراء/13 - 14] ، وتوزن الأعمال {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة/6-11].
بهذه العقيدة في الله وفي الجزاء في الآخرة يصبح المؤمن ويمسي مراقبا لربه محاسبا لنفسه ، متيقظا لأمره متدبرا في عاقبته .
تنبع حماية الأخلاق وصيانتها من داخل المسلم في نفسه وذاته وضميره ، وإيمانه بالله سبحانه ، ويقينه أن الله مطلع عليه ناظر إليه ، مشاهد له فيكل أحواله وأحيانه ، وحق على المحب أن يتجمل أمام حبيبه ، وحق على العبد المسلم أن يتزين لخالقه ، فلا يراه الله في صورة غير حسنة ، ولا يراه حيث نهاه عن اقتراف وهتك أستار الفضيلة ويتعدى حدود الله ، والتعدي على محارم الله ، ولا يفتقده حيث أمره بالخير والبر حيث أمره بالصلاة والصلة ، حيث أمره بالعمل والإنتاج والقيام بواجبات الاستخلاف ، فما أمره إلا بما يعود عليه بالنفع في العاجل والآجل ماديا ومعنويا .
فحب الله دلالة على إيمان المؤمن وعلى رضاه بالله وعنه ، ودلالة إتيانه الخلق الحميد واجتنابه الخلق الفاسد .
والتربية الإيمانية هي الكفيلة بتعميق معاني الخير في نفس المؤمن ، والأخذ به عن الشرور وأضرارها ، والحر تكفيه المقالة ، فلا يحتاج المسلم الذي يراقب ربه ويحبه إلى سلطة خارجية تلزمه وتأمره بحماية الأخلاق وصيانة المجتمع والنهضة به .
إن صاحب الإيمان الحي والفؤاد النقي هو صاحب حس مرهف وشعور متوقد ، ومن هنا كانت أهمية هذه التربية ودورها الأعظم في كفاية المجتمع شرور الأشرار وتمتعه بسلوك الأبرار ، فإذا ما انحرف البعض وضعف أمام موات ضميره وغلبة الشهوات وتدنس الفطرة فإنه يحتاج إلى سلطة أقوى ومذكر خارجي ، ومؤثر أشد فاعلية من تلك الرقابة الضعيفة والفطرة المنحرفة ، وهنا يأتي دور البيئة الاجتماعية ، وسلطان المجتمع في حماية هذا من نفسه وحماية المجتمع منه .
ثانياً : التربية الاجتماعية :
المراد بها : تنمية دور المجتمع في أداء مهامه ، وممارسة سلطانه ، وفي مدح المحسن ، وذم المسيء، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالمجتمع الإسلامي بصفة خاصة من خصائصه أنه إيجابي غير سلبي ، ومن أسس بنيانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكل مجتمع تأثير قوي في سلوك أفراده ، ويمارس كل فرد فيه حقه ودوره تجاه الآخر حيث التواصي بالحق والصبر والمرحمة ،حيث التعاون على البر والتقوى ، وليس التعاون على الإثم والعدوان ، حيث العقوبات النفسية الموجعة من العتاب والزجر والهجر ، والإنسان بطبعه اجتماعي بفطرته ، فلا يمكن أن يعيش منفردا ، إنه يعمل كمسلم ليرضي الله سبحانه ، ثم يقدم لأمته ومجتمعه الخير ويكفه عن الشر ، وقد حث الرسول على أن نشكر من أجرى الله الخير لنا على يديه وجعله من شكر الله ومن أنكر وجحد حق هذا المتسبب في الخير يكون جاحدا لفضل الله ، ومخالفا لأوامره فدائما ينبغي أن يقال للمحسن أحسنت ، وللمسيء أسأت .
إن للمجتمع سلطانا قويا ينبغي أن يفعله ويظهره ، ليحمي أفراده ويحمي دينه وخلقه وينهض بأبنائه على الفضيلة والنفور من الرذيلة .
" لم يكن العلاج بوضع العقوبات الشرعية الدنيوية ، هو أول ما هرع إليه الإسلام في سبيل وقاية المجتمع
من آثار التعارض في الرغبات والشهوات ، بل اتخذ قبل هذا العلاج نوعين من الوقاية الشديدة التي إذا ما نفذت وأحكم تنفيذها كان لها الأثر الحسن في راحة المجتمع ، وسلامته من الشرور والمفاسد .
أولها : العمل على تهيئة الإنسان ليكون عضو خير وإنتاج في سعادة الجماعة الإنسانية ، فكلف الإسلام الناس جميعا بالعمل ، وأرشدهم إلى التجارة والصناعة والزراعة ، ونفر من البطالة ، وإهمال النفس في هذه الحياة .
أما السبيل الثاني : فهو أنه ضمن للإنسان فوق حياته المادية بالعمل ، حياة أخرى نفسية سعيدة ، ترجع إلى كفالة حقوقه الشخصية والاجتماعية ، بتقرير العدل في أدق صوره ، وتقرير التواصي بالخير ، والتناهي عن الشر ، وتقرير معونة الفقراء الذين لا يجدون عملا ، أولا يستطيعون ، وبذلك تصل الحقوق إلى أربابها الذين يستحقونها بأعمالهم وكفالتها ، دون تحكيم لأي اعتبار آخر من حسب أو نسب ، أو التي يستحقونها بمقتضى التضامن الاجتماعي ، والتكافل الإنساني الذي وضع الإسلام مبدأه ، وقرر كأصل من أصول الاجتماع ، وعلى أنه يثاب المرء على فعله ن ويعاقب على تركه .
هذا هو الوضع الذي سلكته الشريعة في تربية النفوس وتهذيبها ، وتوجيهها إلى الخير ومنعها من التفكير في الإجرام والفساد .
ويتمثل دور التربية الاجتماعية في قيامها بعدة أمور أهمها ما يلي :
1- التواصي بالحق والصبر والمرحمة .
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3- العقاب المعنوي والمادي .
أولاً : التواصي بالحق والصبر والمرحمة :
يقول الله تعالى {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ3}[العصر].
ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن الناس لو تدبروا هذه السورة لوسعتهم ، وفيها يقسم الله بالزمان الذي تقع فيه أفعال بني آدم وحركاتهم من خير وشر أن الإنسان في خسارة وهلاك ، ثم استثنى الله من الخاسرين من أمنوا بالله بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ، وأوصى بعضهم بعضاً بالحق ، وهو أداء الطاعات وترك المحرمات ، وكذلك أوصى بعضهم بعضاً بالصبر ، وهو الصبر على المصائب والأقدار ، وأذية أهل الأذى الذين يؤذون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
وفي معنى قوله تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ }[البلد/17] يقول ابن كثير : أي كان من المؤمنين العاملين صالحا ، المتواصين بالصبر على أذى الناس ، وعلى الرحمة بهم ، والمتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين .(المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير ص 1350).
ميزة التواصي بالحق والصبر :
أما التواصي بالحق والصبر فتبرز من خلالها صورةُ الأمةِ والجماعة المسلمة ، ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة أو الوجهة الواحدة ، الجماعة التي تشعر بكيانها ، كما تشعر بواجبها ، والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح ، فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .
وماذا نفهم من لفظ ( التواصي ) ؟
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته الحقيقة تبرز صورة الأمة المتضامنة ، الأمة الخيرة الواعية القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير ، في مودة وتعاون وتآخ .
كثيرة تلك المعاني التي تنضح بها كلمة التواصي لأن التواصي بالحق ضرورة لقيام مجتمع آمن مترابط متماسك ، ولأن التواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية ، والأخوة في العبء والأمانة .
إن التواصي بالحق توجيه للجهود الفردية وتهذيب لها لتصنع المجتمع الفاضل بخلقه وسلوكه ومبادئه وقيمة ، وهذا هو التطبيق العملي لدين الله تعالى الذي لا بد له من جماعة متعاونة متآلفة متواصية .
ويجب أن نعلم أن الأيمان والعمل الصالح وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة ، وللقيام بهذه الأمور لابد من الصبر على جهاد النفس وجهاد الغير ، والصبر على الأذى والمشقة ، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل .
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف والوجهة وتساند الجميع ، وتزودهم بالصبر والعزم والإصرار .
فالمجتمع المسلم يقدم على التماسك والتعاون والتآزر الذي يحفظ كيانه ، ويساعده في تحقيق أهدافه ، ويحفظ أفراده ويحفظ أخلاقهم كذلك ، ذلك أن كل فرد يحرس الحق ويوصي أخاه بالصبر ، ويعينه على التكافل والتراحم والتواد ، فلا يبقى بائس أو جائع ، ولا يوجد عاطل أو محتاج ، وكذلك لا يوجد طائش أو فاسد أو عليل لأن الجماعة المسلمة ستقوم بواجبها لنصح الطائش وإرشاد الفاسد ومداواة العليل حتى لا يستشري الفساد إلى الآخرين ، وحتى ينعم الجميع بقوة اجتماعية يمثلها قول النبي  ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ، ويقول عليه الصلاة والسلام ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه).
ولا شك أن البيئة الاجتماعية لها دور فاعل في تدعيم دور الأخلاق وحمايتها للأخلاق بما يشيع فيها من خير وصلاح ، والإسلام يُحمل البيئة قسطا كبيرا من تبعة التوجيه إلى الخير والشر ، وإشاعة الفضائل أو الرذائل .
وقصة الرجل الذي قتل مائة نفس ثم تاب وقال له العالم : انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، والله جل شأنه يقول {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}[الأعراف/58]
من هنا يرى الإسلام أن ملاحظة البيئة وتقدير آثارها في تكوين الخلق عامل ينضم إلى ما سبق تقريره من حراسة الفطرة السليمة وتهذيب الأهواء الطائشة .
ثانيا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
من أبرز خصائص الأمة الإسلامية الأمر بالمعروف عندما يتفشى تركه ، والنهي عن المنكر إذا شاع فعله ، وكذلك من أسس بناء المجتمع الإسلامي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }[آل عمران /110] ، وقال سبحانه {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران/104] .
وجاء في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النبي  قال : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا _ اقترعوا _ على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ).
فهذه النصوص – وغيرها كثير – تؤكد على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ تمثل هذه الشعيرة الدينية العظيمة الحماية والوقاية للأمة الإسلامية والدين الإسلامي في نفوس وسلوك المسلمين ، وتؤكد تواصي الجماعة فيما بين أفرادها على طاعة الله والصبر على ذلك والدعوة إلى كل خلق ومعنى إسلامي رفيع .
إن وظيفة الأمة الإسلامية حراسة دينها وأخرقها وصيانة الرأي العام من أن تشيع فيه الفواحش والخلاعة والتفسخ الخلقي والنفسي بقيام كل فرد في محيطه الاجتماعي وولايته الشرعية بالحث على الخير والإشادة بفاعله والتنفير من الشر وذم فاعله .
إن المجتمع الإسلامي الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد  نبياً ورسولاً مجتمع إيجابي فعال ، يأخذ بأيدي الخيرين الراغبين ويساعدهم في تحقيق إيمانهم وتحقيق ذواتهم ، كما يأخذ أيضاً على أيدي المخربين والعابثين والمعتدين على حرمات الله وحقوق المجتمع
وإن إهمال هذه الشعيرة خطره عظيم وعاقبته وخيمة ، إذ يمثل انسلاخاً عن أبرز خصائصها وأسس مجتمعها مما يعرضها للهوان عند الله وعند الناس داخلياً وخارجياً .
عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي  دخل عليها فزعاً يقول : ( لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بين أصبعيه الإبهام والتي تليها ، فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ) أي الفسوق والمنكر .
وقبل ذلك يحذر ربنا بقوله{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال/25] إنْ ترك الناس الأمر والنهي يأتي العذاب فيعم الصالح والطالح
وعلى القائم بالاحتساب أن يتحلى بالآداب والضوابط الشرعية في عمله ، ومن أهمها :
1- الإخلاص لله في الأمر والنهي .
2- العلم .
3- الرفق .
4- الصبر .
5- النظر في المصالح والمفاسد المترتبة على الأمر والنهي .
6- الأمر والنهي حسب الاستطاعة .
ذلك أن كل مؤمن مأمور شرعاً أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على قدر طاقته ، قال تعالى{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن/16] .
وهنا يجب أن يعلم أن تغيير المنكر مراتب كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله  قال : ( من رأي منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) .
فمن علم معروفا قد أخفاه الناس وهو قادر على إظهاره افترض عليه أن يعمل على إظهاره ونشره وفعله حسب قدرته ، ومن رأى منكرا أو علم به ولم يكن في المكان غيره أو من هو أولى منه صار إنكاره فرضا عليه باليد أو باللسان أو بالقلب .
وكيف يكون التغيير حسب هذه المراتب ؟
ويكون التغيير باليد في حق من له ولاية كالحاكم ونائبه وكالوالد بالنسبة لولده ، أو الزوج بالنسبة لزوجه ، ونحو ذلك .
وأما التغيير باللسان فلمن لا يستطيع التغيير باليد لعدم سلطته على مرتكب المنكر ، أو لما يترتب عليه من المساوئ الراجحة ،فإنه ينتقل من التغيير باليد إلى التغيير باللسان بالوعظ والنصح والترغيب والترهيب ونحوه .
وأما التغيير بالقلب ، فهو كراهية المعصية وبغض فاعلها بقلبه ، يعلم الله ذلك منه إذا عجز عن تغييرها بيده ولسانه ، وهذا لا يسقط عن المؤمن بوجه من الوجوه ، ولا يجوز لعاجز عن تغيير المنكر المعلوم لديه بلسانه أو يده الذهاب إلى أماكن الظلم والفسق من غير ضرورة ، وهكذا في كل مكان يجهر فيه بمعصية الله ، لقول الله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام/68] ويترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكثير من الآثار العظيمة ، منها :
1- أن ذلك آية على صدق الإيمان ، وبشارة بحسن الخاتمة .
2- أنه تمكين للدين وترسيخ للإصلاح .
3- أنه حفظ للنعم واستقرار للملك ونصر للأمة على عدوها ، وآمان من الفتن .
4- وبه يحصل النعيم في الآخرة بتكفير الخطايا والزحزحة عن النار ، والفوز برضوان الله تعالى ، وهذا غاية كل المقاصد .
وبهذا يتضح دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التربية الاجتماعية وحراسة المجتمع لأخلاقياته ، وحمايته لأفراده ، وأخذه على يد العابثين المفسدين .
ثالثا : العقاب المادي والمعنوي :
لا يقتصر دور التربية الاجتماعية على التواصي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما له سلطان قوي، وعقوبة فاعلة شاملة للجانب المعنوي والمادي .
أ : العقاب المعنوي : يتمثل هذا النوع من العقاب في العتاب والزجر لمن اقترف منكراً أو أتى خلقا فاسداً ، يُلجأ إليه عندما لا يجد النصح والتذكير والتحفيز إلى نفسه سبيلا ، ويشمل أيضا تعزير الجماعة للمخالف الخارج على أخلاق الإسلام بأي لون من التعزير يراه محققا للهدف الذي هو عودة المخالف إلى جادة الصواب ، ويكون التعزير أيضاً في مقدرو الجماعة ، ومن أمثلته :
- الإعراض أو النظر إليه بطريقة غير عادية مألوفة ، يظهر له منها أن من حوله عاتب عليه ، ومن الأمثلة على الأعراض كعقوبة جماعية إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن الثلاثة الذين خُلفوا عن غزوة تبوك حتى تاب الله عليهم .
- العتاب اللفظي ، وقد يكون كافيا في محو الفكرة السيئة وطمسها من النفس ، ومن الأدلة عليه أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه قال لصحابي آخر : يا ابن السوداء ، فقال له النبي  : أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ، فماذا كان فعل أبي ذر رضي الله عنه ، هو من السابقين إلى الإسلام ؟
وضع رقبته على الأرض وقال لذاك الصحابي : والله لا أرفعها حتى تطأها بقدمك .
وكان يريد بذلك القضاء على نعرة الجاهلية وإلزام نفسه بأخلاق الإسلام التي ترفض هذا النوع من الإساءة اللفظية النفسية التي تبلغ مبلغا عظيما من الأذى يفوق الأذى البدني الجسدي .
- التوبيخ والتبكيت .
- التشهير إذا تمادى .
وغير ذلك مما يقع تحت سلطان المجتمع
ما هو التأثير الإيجابي لهذا النوع من العقاب ؟ وما ضوابطه ؟
ولا شك أن هذه الأشياء من شأنها التأثير على المخالف وجعله يفكر ويعود لحميد الأخلاق ، ليشعر أنه عضو في طبيعي فعال مقبول داخل مجتمعه ، وينبغي ألا يزيد العقاب عن المطلوب ، وأن يكون وسيلة وضرورة تقدر بقدرها إذ أن العقاب ليس مقصودا لذاته ، وقد تكفي وسيلة واحدة فلا يجوز الانتقال إلى ما بعدها إذا تحقق المقصود بالأولى وطبائع الناس مختلفة فربما نظرة غير عادية تكفي عن العتاب ، فيجب الاكتفاء بها حينئذ .
واجب الجماعة :
ويجب على الجماعة التساند والتعاون في الأخذ على يد الظالم سيء الخلق لينتصر على نفسه ، ويكفي المجتمع شروره ، فتكون الجماعة على قلب رجل واحد ، حتى يشعر بمخالفته وفساد خلقه ، وأنه مرفوض من المجتمع بهذه الحالة مطلوب منه أن يعود إلى ما خرج منه من أخلاق الإسلام ونظام المجتمع.
ب / العقاب المادي :
يتمثل العقاب المادي الذي يملكه المجتمع أو أحد أفراده في حدود ولايته فيما يلي :
1- الهجر . وقد تقدم في قصة الثلاثة الذين خلفوا أن المسلمين هجروهم حتى ما صار يكلمهم أحد حتى نزلت توبتهم .
2- والضرب غير المبرح إن كان فيه مصلحة ظاهرة ، وإلا فهو خلاف الأولى ، وما ضرب النبي  امرأة ولا خادما .
توضيح :
يأتي الهجر عندما تستنفذ كافة الطرق ولا يرتدع المخالف بوازع من دينه وضميره ورادع من التواصي والنصح والعقاب المعنوي من المجتمع إذا يقوم كافة أفراد المجتمع بترك المخالف ولابتعاد عن والنفور منه مما يشعر معه بأنه عضو فاسد ، أو يحمل جرثومة معدية يخشى الجميع أن تنتقل إليه ، والأمر على حقيقته فإن جرثومة الفساد والانحلال والتعدي على أخلاق الأمة وحرماتها أخطر من جرثومة العدوى البدنية ، فلا يأنس به أحد ولا يشفق عليه أحد طالما تلبس بذاك الجرم .
ويبقى التأكيد على أن الهجر وسيلة علاجية تقدر بقدرها ، فلا تزيد ولا تنقص فيكون في ذلك ضرر في الحالين .
أما الضرب فهو وسيلة في حق من له ولاية كالوالد مع ولده ، وفي حكمه المعلم ، أو الزوج مع زوجته حال النشوز والمعصية ، وقد تقدم ذكر شيء من هذا عند الحديث عن بناء الأخلاق ، فبعض هذه الأساليب هي أساليب بناء وفي الوقت نفسه أساليب حماية وصيانة ، كل ذلك في موضعه وبحسبه ، و لك أن تتذكر هنا آية {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} وحديث مروا أولادكم بالصلاة لسبع .... ، والشاهد منهما ذكر الضرب كرادع عن السلوك الخاطئ عند الحاجة إليه وبشروطه التي سبق بيانها .
ثالثا : العقوبات الشرعية :
تعريف العقوبة : جزاء ينزل بمن يرتكب محظورا شرعياً زجراً له عنه بحد أو تعزير .
وما الحكمة منها ؟
1- حفظ المصالح ، والمقصود بها الضرورات الخمس ( حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل ) .
2- رحمة المجتمع ، شرعت العقوبات كي ينعم المجتمع ويعيش مطمئن البال وحفاظا على النظام العام .
3- إقامة العدل حتى لا تعم الفوضى وينتشر الظلم ، ففي إيقاع العقوبة على المخالفين عدل وإنصاف للمجتمع ، واستقرار للحياة واستمرار لها .
4- إصلاح الجاني ، فليست العقوبة تعذيب للجاني فقط كما يبدو ظاهرا ، لكنه في الإسلام زواجر وجوابر وتكفير للذنب في الدنيا والآخرة ، كما أنها إصلاح للجاني ليعود إلى مجتمعه عضوا صالحا نافعا لنفسه ومجتمعه .
ولذا نجد أن الشارع قد أكد على عدم التشهير بالجاني قبل ثبوت جرمه ، خاصة فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل ، لأن حقوقه سبحانه مبينة على التسامح ، وحقوق العباد مبينة على الشح ، لذا رغب الإسلام في التوبة ، ونهى عن التجسس وندب إلى الستر ، وذم إعلان الجريمة وإشاعتها ، حيث اشترط مثلا أربعة شهود ذكورا لإثبات جريمة الزنا ووصفها وصفا دقيقا ، وهذا يصعب تحققه ، ولهذا جاء في القاعدة المعروفة ( تدرأ الحدود بالشبهات ).
فما شرعت العقوبات الشرعية للتنكيل بالناس أو تعذيبهم أو سفك دمائهم ، وإنما شرعت لحفظهم ورعايتهم وصيانة أموالهم ودمائهم وأعرضهم ، وقبل ذلك صيانة دينهم وعقيدتهم .
وهنا نذكر بعض الأدلة على سبيل المثال والتقريب لبيان الحكم الظاهرة من تشريع الحدود والعقوبات:
- قوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة/179] .
- قوله تعالى{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[المائدة/33].
- قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[المائدة/38].
نعم في القصاص من القاتل حياة ، لأنه يقطع الطريق على القتلة ، ويمنع من الثأر واستباحة الدماء والاستخفاف بها .
ومن خلال الآيتين الأخريين وما شابههما من آيات الأحكام يمكن أن تدرك بعض أسرار الشريعة من تشريع العقوبات .
هذه أهم الوسائل التي يمكن من خلالها حراسة الأخلاق الإسلامية وحمايتها وصيانتها،وذلك :
1- بالتربية الإيمانية ، وصياغة الفرد المسلم صياغة متكاملة .
2- التربية الاجتماعية بصياغة المجتمع للقيام بدوره في حراسة الفضيلة ووأد الرذيلة
3- بيان مسئولية الحاكم المسلم ودوره العظيم في توفير المناخ الطيب لإنماء الأخلاق الفاضلة .
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الإمام عثمان بن فودي مجدد الإسلام في الغرب الأفريقي نور الإسلام هدي الإسلام 1 02-04-2014 07:28 AM
لاعب كرة القدم، «الرجبي» الأسترالي بليك فيرجسون يعتنق الإسلام نور الإسلام لماذا أسلموا؟؟ 0 18-11-2013 05:43 PM
صورة الإسلام في الغرب.. خطأ في الفهم أم جهل متعمد؟ نور الإسلام المقالات 0 09-11-2013 08:55 AM
معجم افتراءات الغرب على الإسلام نور الإسلام كتب ومراجع إسلامية 6 02-08-2012 09:54 AM
مفكر إسلامي: الغرب يتلذذ بازدراء الإسلام مزون الطيب الإسلام والعالم 0 06-03-2012 09:33 PM


الساعة الآن 11:36 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22